رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل السابع والثمانون بقلم فاطمه عبد المنعم
هل كان من أجلي؟
أقسمت ألا أغفر ما فعلت بي
ولم يجبرني سواك أن أحنث بقسمي
لم أفعلها إلا من أجل ما فعلت من أجلي
أن يقف أحدهم أمام جميع من رماك بما لم تفعل ويقول أنك صادق هو العالم بأكمله.
أن يقف ويخبر كل من ظلمك أنه لا يصدق سواك قادر على سلب فؤادك حتى نهاية كل شيء... حتى تفنى.
هذا الجمع يشهد ما هو محفز للأعصاب، كان الجميع متحفز وهو يرى ما يحدث خاصة بعد اعتراف "خيري" الملقى على الأرضية بأن "جابر" هو من حرضه على نشر هذا الحديث، تبع هذا دخول "نصران" برفقة ابنه "حسن" ويتبعه "جابر" و"منصور" ....استدار الجميع ليرى خاصة حين نطق أحدهم:
الحاج نصران هناك اهو، وجابر كمان.
كان الحشد يغطي على "طاهر" فلم ير والده ومن برفقته ما يحدث واستغل "طاهر" الوضع حين نبهه أحدهم أن "جابر" هنا فأسرع يجذب "خيري" ويلقيه داخل محل "هادية" مغلقا الباب خلفه بعد أن تركه بمفرده.
عاد من جديد يتوسط الحشد، الذي بدأ في إفساح الطريق للقادم، وصل "نصران" و"حسن" وجوارهم "منصور" وابنه وهنا فقط أردف "منصور":
ادينا جينا أهو يا حاج " نصران" ... ايه اللمة دي كلها وايه اللي جرا.
كان هذا قول "منصور" الذي وصله اتصال من "حسن" يطلب منه الحضور إلى هنا برفقة ابنه، أخبره أنها دعوة من والده، لم يكن ليأتي إلا مع إلحاح ابنه، ابنه الذي لم يتوقع أنه سيجد هذا الحشد، توقع أنه سيأتي لمنزل "هادية" ويتحدثوا بهدوء عما يدور على ألسنة الجميع في القرية والنهاية متعارف عليها، سيطلبوا منه الزواج بها تجنبا للنهش في عرضها... سيحقق مراده ويجعل وجودها مع "طاهر" مستحيل بعد تشويه سمعتها، ويتدلل هو في قبول الزواج منها أمامه، بل ويرفض للحظات لقتل فؤاد غريمه.... هذا ما ظن أنه سيحدث ولكنه تفاجأ، وكذلك كان والده الذي لم يرد الحضور إلى هنا أبدا ولكن فضوله لمعرفة سبب الدعوة وإلحاح ابنه جعله يرضخ.
كان وجه "طاهر" مكسو بالغضب الشديد، عروقه البارزة وجهه المكفهر، طالعه "جابر" بتحدي غير أبها بأي شيء حتى قال "طاهر" بنبرة عالية:
طب كويس صاحب الشأن جالنا بنفسه أهو.
اتسعت عينا "منصور" بفضول شديد وحل الصمت عدا صوت "طاهر" الذي وجه سؤاله للسيدة التي تشاجرت مع "هادية" في الصباح:
ما تقوليله يا ست، قوليله اللي قولتيه للحاجة "هادية" الصبح.
بان التوتر على وجهها وخاصة بعد هذا السؤال، كان حديث متقطع صدر عنها بصعوبة:
أنا بس كنت بنبهها والله.
ابتسم "طاهر" بتهكم وقال هو بنبرة عالية بدلا عنها:
طالما الجبن مسكك دلوقتي ومش قادرة تقولي زي ما كنتِ بتقولي وتلعلعي من شوية فهتكلم أنا، أدار نظراته المتوعدة ناحية "منصور" وابنه متابعا:
البلد كلها يا "جابر" بتتكلم على "شهد"، بتقول إنها مرافقاك...
دفعه من فرط انفعاله صائحا:
قولهم يلا يا راجل إن ده مش صح.
ما يحدث هنا لم يكن ما درسه وخطط له أبدا، رفع رأسه فوقعت عيناه عليها كانت تطالعه بمقت شديد تحمله ذنب ما حدث ، كان والده في حالة من الذهول لما يحدث وسمع " نصران" الذي حث "جابر":
قول يا جابر كلمتك.
لم يأبه أمام كل هذا الحشد أن يطعن في عرضها ويزيد من الشكوك حولها وهو يقول لطاهر بتبجح:
بعيد عن الكلام ده كله أنا عايزها وهتجوزها ونلم الفضيحة دي.
أتى صوت "عيسى" من الخلف ساخرا:
دي فضيحتك يا حيلة أبوك.
أتت جملته بعد تخلصه من الضابط الذي سأم من الدخول وخاصة مع وقوف أهل البلدة معه فرحل وقال له "عيسى" أثناء ذلك الرحيل:
متقلقش يا باشا، نخلص بس ونمشي الناس ونصيبك من الدبيحة هيجيلك.
بعد مغادرة الضابط دخل من وسط الجمع حيث والده و من برفقته ليسمع "جابر" يقول هكذا فكان هذا رده عليه الذي استنكره "منصور" بغضب:
شوف ابنك يا حاج نصران.
وجذب ذراع "جابر" متابعا بانفعال:
وأنا كمان هشوف ابني اللي جاي عايز يلم فضيحة غيره ويعرني.
كان حديث "ميار" يرن في أذنه عن أخلاق "شهد" الغير منضبطة ودفعه هذا لسؤال ابنه:
عايز تتجوزها وهي فضيحتها على كل لسان؟... ومن قبلك كمان؟
لم تستطع منع نفسها فصاحت من الأعلى بنبرة وصلته:
مش عيب على سنك تخوض في عرض واحدة ما شوفتش عليها حاجة.
لم تخش أحد وهي تبصق عليه وتقول:
اتفو عليك راجل ناقص.
رفع "نصران" رأسه وطالع "هادية" يحثها على إصمات ابنتها حتى ينتهي هو من كل شيء، لم تكن معه شعرت بأنها أخر أنفاسها وستفنى بعدها، كانت "مريم" جوارها تحاول تهدئتها، و"ملك" من الجهة الأخرى تحاول مواساة شقيقتها وهي تراقب ما يحدث وانتبهن ثلاثتهن حين سأل "طاهر":
قولي يا حاج " منصور" شوفت عليها حاجة تخليك تقول إن فضيحتها على كل لسان ومن قبل ابنك كمان؟
لم تقل حدة نظراته أبدا وهو يرد على حديث "طاهر":
لا مشوفتش، بس سمعت ومن ناس تعرفها كو.....
قاطع " حسن" قوله ناطقا باستهزاء:
عيب عليك يا حاج "منصور"، ده حتى المثل بيقول يا عين مشوفتيش يا ودن متصدقيش.
_ طب أنا هجبلكم العين اللي شافت وعلشان أسمع المحروس ابني كمان.
كان هذا قول " منصور" الذي أخرج هاتفه واتصل على زوجة ابنه، استغربت "ندى" المكالمة ولكنها ردت فبادر هو:
ألو يا ندى... بنت عمك روحت؟
قصد "ميار" التي كانت تجمع أشيائها للمغادرة إلى منزلها قبل أن يأتي إلى هنا وحمد الله حين ردت "ندى":
لا يا عمو لسه أنا هوصلها أهو.
_ متوصليهاش، هاتيها وتعالي على عند الحاج نصران وواحد من اللي واقفين على المدخل هيجيبكم.
قول غريب للغاية ولم تستطع معرفة السبب أبدا، أصبحت تأخذ الحذر من والد زوجها كثيرا وخاصة حين كانت تحاول سرقة ما كتبه والدها على نفسه من خزنة " منصور" وسمعت صوت سيارته في الخارج، لا تعلم كيف استطاعت اغلاقها بسرعة والهرولة نحو الخارج، كانت حركاتها مرتبكة وهي تعيد غلق باب الغرفة بالمفتاح وتسمع في نفس اللحظة اقتراب خطوات والد زوجها، وما إن انتهت حتى هرولت إلى المطبخ المجاور لغرفة المكتب تحتمي بأركانه في اللحظة ذاتها التي دخل فيها إلى المنزل والد زوجها... وقفت تلتقط أنفاسها بصعوبة، هي تعلم أن "منصور" يراقب أقل حركاتها خاصة بعد وضعها للحبوب في قهوة ابنه حتى تظهره بمظهر المختل أمام أهلها، فاقت من شرودها وتوجهت إلى غرفة ابنة عمها حتى تحثها على الذهاب معها إلى حيث طلب منها.
في نفس التوقيت لم يفهم "جابر" سبب اتصال والده بزوجته وطلبه منها إحضار ابنة عمها لذلك قال بضجر:
يا حاج نصران الله يكرمك لم الليلة دي وأنا هتصرف مع أبويا، وأنا قولتلك عايزها وهتجوزها.
ردعه "منصور" بقوله الغاضب:
وأنت مين علشان تقول أصلا، طول ما أنا عايش أنا اللي أقول.... وجوازك من البت دي على جثتي.
استوقف "عيسى" نقاشهم الدائر بسؤاله:
بقولك... لو طلعت مظلومة وبرائتها ثبتت قدام الكل هنا، نعمل ايه في اللي قال عليها الكلام ده؟
_ تنزل وتاخد حقها بالطريقة اللي يعجبها.
هذا القول جعل "طاهر" يبتسم وهو يطالعهما باستهتار، لم يستغرق الأمر كثيرا، عشرون دقيقة أو أكثر بقليل حتى حضرت "ندى" برفقة ابنة عمها...أفسح الجميع الطريق حتى يدخلا ولم يرد "منصور" أن يدور الحوار أمام زوجة ابنه فقال:
روحي يا ندى استني في العربية.
انكمش حاجبيها ودارت بعينيها حولها باستغراب سائلة:
ايه اللي بيحصل يا عمو؟
قول صارم صدر عن "منصور" جعلها تتراجع:
على العربية يا ندى.
تنهدت بانفعال وعادت تتحرك بالفعل ناحية السيارة بعد أن تم إفساح الطريق لها، حينها فقط استطاع "منصور" أن يتحدث موجها الحديث إلى "ميار" التي كانت تنظر حولها بخوف امتزج باستغرابها وخاصة حين رأت "طاهر" وسمعت "منصور" يقول:
"شهد" بنت الست هادية زميلتك في الكلية ولا لا يا "ميار"؟
تسابقت الأنفاس وهي ترد بتوتر:
اه زميلتي.
شجعها " منصور" بقوله:
اتكلمي يا حبيبتي متخافيش، اتكلمي وقوليلهم عن أخلاقها.
_ هي ميار هي اللي قالتلك إن أخلاق "شهد" مش ولا بد؟
كان هذا سؤال "طاهر" الساخر والذي تبعه سؤاله الذي حمل التحذير بين طياته:
تحبي تحكي أنتِ يا "ميار" ولا احكي أنا؟
طالعت "طاهر" بخوف ثم "منصور" وهربت من كل هذا بجملة:
أنا مقولتش حاجة عن حد.
بهت وجه "منصور" ثم صاح منفعلا:
ازاي مقولتيش، اتكلمي و متخافيش أنا معاكِ.
تحدث "طاهر" بنبرة متشفية:
لا ما هي معندهاش حاجة تقولهالك
كان نظراته تحمل الكثير من التهديد بأن يفضح أمر ما حدث في الجامعة، حين نشرت الشائعات حول "شهد" وذهب هو معها ولم يغادر إلا حين علمت العميدة بالأمر ووعدته بأن يعتذر كل من تخطى حده.
هذا جعل "ميار" تكرر مسرعة للمرة الثانية:
أنا مش عارفة حضرتك بتتكلم عن ايه يا عمو... شهد زميلتي وأخلاقها كويسة.
كان "منصور" في حالة من الصدمة وابتسم "نصران" برضا وأتبع ابتسامته بقوله الرزين:
روحي يا بنتي لبنت عمك في العربية.
وكأن هذا القول هو النجاة ففرت مسرعة وحينها سأل "نصران":
عندك حاجة يا جابر عايز تقولها؟
تحدث بكبر:
اللي عندي قولته أنا مستعد نخلص الليلة دي واكتب عليها، غير كده معنديش وهمشي.
_ بس أنا بقى عندي.
كان هذا قول " طاهر" نظراته في هذه اللحظة أشبه بإعصار، وهو يفتح باب محل "هادية" ويقوم بإخراج "خيري" من الداخل، ما إن وقعت عينا "جابر" عليه حتى فرت الدماء من وجهه وانعدمت تماما وهو يستمع لطاهر يحث "خيري":
قول يا خيري للحاج منصور اللي عندك.
كان ألمه من ضرب "طاهر" مازال طازجا وإمساك "طاهر" به حثه على قول:
الأستاذ جابر اتصل بيا وقالي انشر الكلام اللي بيتقال على لسان الناس عن الست "شهد" وهيراضيني.
_ كداب.
هكذا صاح "جابر" وهو يقول بتوتر:
كداب طبعا، أنا هكلم الأشكال دي ليه.
أخرج خيري "هاتفه" من جيبه حتى يعفي نفسه من هذه التهمة ورفعه أمام وجه "منصور" قائلا:
والله كان بيكلمني يا حاج، حتى رقمه أهو.
جذب "منصور" الهاتف مسرعا، كذب عينيه وأخرج هاتفه حتى يتيقن زيادة على تيقنه من أنه رقم ابنه، بالفعل كان رقمه فطالع "جابر" بغير تصديق وشردت نظرات "جابر" هاربة من كل شيء هنا.
تبع هذا نداء "طاهر" للواقف في الصف الأمامي:
تعالى يا مؤيد.
حين تقدم طلب منه "طاهر":
قول اللي عندك.
بدأ من استدعاه في الحديث بلا خوف:
أنا بشتغل في كافيه كانت الأنسة " شهد" بتقعد فيه، وأكتر من مرة كان "جابر" ابن الحاج منصور يتعرضلها وكانت تصده و تتخانق معاه قدامنا هناك.
تعالت الهمهمات والدماء التي فرت من وجه "جابر" دبت في وجه "شهد" وعادت الحياة له، هي ووالدتها التي أخيرا استطاعت التقاط أنفاسها، لم يكن "منصور" بحاجة لتكذيب ابنه هو يعلم أن حديث الشاب حقيقي فحين كلف أحدهم بمراقبة ابنه أخبره أنه يتعرض لها وتصده.
كل هذا دفع السيدة التي أتت لهادية في الصباح أن تقول:
اخس عليك يا "خيري"، اخس على الرجولة...
دافعت عن نفسها مبررة فعلتها:
والله العظيم يا حاج " خيري" هو اللي جه وقالي روحي نبهي أمها لبنتها، وأنت عارف ميعجبنيش الحال المايل... بس مكنتش أعرف إنه ملعوب.
احتدت نظرات "نصران" وهو يسألها بغضب جعلها تخشى:
مبتحبيش الحال المايل ولا بوقك اللي مبيحبش السكات ومبيهداش غير بسيرة فلانة وحكاية علانة؟
انتهى كل شيء، أصبح الجميع الآن يتجه بنظرات الاستنكار والغضب نحو جابر بدلا من الاتهام إلى "شهد" وهنا صاح "طاهر" بنبرة عالية:
سمعتوا.
أكمل بغضب:
أظن دلوقتي كل واحد جاب سيرتها المفروض يتقطع لسانه، وبالذات شلة القهوة اللي سايبة مصالحنا وفاضية للكلام.
اقترب "عيسى" من منصور قائلا بشماتة:
أنت اللي حكمت ومحدش غيرك قال لو طلع اللي بيتقال غلط تنزل وتاخد حقها بالطريقة اللي تعجبها.
وهنا ارتفع صوت "نصران" الذي وجه نظراته ناحيتها قائلا:
انزلي يا "شهد".
لم يكن مجرد طلب بل كان رد لروحها المسلوبة، نزلت بالفعل وأصبحت تقف أمام " منصور" الذي لم يعرف ماذا يقول أو يبرر، قتلته بنظراتها وهي تخبره:
لولا إنك راجل كبير أنا كنت قلعت اللي في رجلي وخليتك فرجة للخلق.
طالعها بغضب لم تهتم به بل استدارت للسيدة التي تشاجرت مع والدتها في الصباح وأكملت:
و أنتِ زيه بالظبط.
توجهت بعد ذلك ناحية "جابر" وقبل أن تفعل أي شيء أبعدها "طاهر" فبصقت في وجه "جابر" وأسرع والده يقف أمامه سائلا نصران بغضب:
ايه يا حاج نصران هتخلي واحدة تمد ايدها على راجل وسط الخلق.
ردت عليه "شهد" بانفعال:
راجل!... ده محسوب عليهم بالغلط
طلب منها "طاهر" الصمت وتحرك "نصران" ليصبح في مقابل "منصور" وهو يسأله:
مش ده حكمك؟
احتدت "نظرات" نصران وهو يقول ما عنده:
لو مش هي اللي هتضربه، يبقى هتضربه أنت وسط الخلق كلهم، غير كده هتبقى قصاد البلد كلها راجل ملوش كلمة وأنت عارف الراجل بيتربط من كلمته.
تسارعت أنفاس "منصور" وهو يطالع ابنه بغضب على ما وضعه فيه، وكرر "نصران":
تضربه أنت ولا تضربه ه.....
لم يكد يكمل جملته حتى رفع " منصور" عصاه ونزل بها على ساق ابنه فوقع على الأرضية متأوها بألم وهو يطالع والده بغير تصديق، اعتاد منه أن يفعلها ولكنه لم يتوقع أن تكون أمام الجميع، ضربة تلتها الأخرى والجميع يشاهد بانتباه وخاصة هي، نالت العصا هذه المرة من كتف "جابر" فتأوه عاليا وحينها أبعدها "منصور" عنه وسأل "طاهر" الواقفة جواره بنبرة مسموعة للكل :
راضية يا "شهد".
قالت بعينين كساهما الحقد على من فعل فيها هذا:
لا مش راضية.
ربت " طاهر" على كتف "منصور" قائلا:
يبقى كمل ضرب يا حاج منصور.
طالعها "منصور" بمقت شديد ولم يضرب إبنه إلا ضربة واحدة ثم قال بعدها:
حقك وخدتيه والبلد كلها عرفت انك مش كده، وهو والخلق كلهم اتفرجوا عليه، معنديش أكتر من كده أعملهولك.
_ لا عندك.
هكذا ردت عليه ثم أخبرته وهي تطالع الملقى على الأرضية باشمئزاز:
ابقى ربيه.
هكذا قالت له ثم صعدت إلى أعلى حيث والدتها وهتف "نصران":
لو سمعت تاني إن حاجة زي دي حصلت اللي عملها مش هيطلع عليه صبح في البلد هنا، عرض الستات وشرفهم مش للكلام يا رجالة.
كانت جملته موبخة وتبعها نظرته نحو " خيري" قائلا:
أما انت تجيلي على البيت، علشان حسابي معاك كبير.
كان "منصور" يطالع ابنه بأسى فسأله "عيسى" ضاحكا بسخرية:
أشيلهولك يا حاج؟
نظرة جانبية لو كانت تقتل لقتلته، مد "منصور" يده لابنه ليساعده على القيام، وسنده بعد ذلك ليسير به ناحية السيارة أمام نظرات الجميع الذين شهدوا على ما حدث منذ لحظات، دخل بغرور والآن يخرج مستند على والده ومنكس الرأس وهو يسمع صوت "طاهر" يقول من الخلف:
لو ضربتك دلوقتي هيقولوا اني استنيتك انا ابوك عجزك علشان أضربك، تتعوض وأنت بصحتك يا "جابر".
أجبر " منصور" ابنه على الصمت وهو يرحل معه.... انتهى كل شيء وذهب "عيسى" ناحية والده يهمس له بما حدث مع الضابط فقال "نصران" لابنه:
خلي "حسن" يروح يكلم الجزار وياخد "عز" وبعد الدبح يوزعوا اللحمة على أهل البلد، وأنا هوصل لبتوع المركز نصيبهم.
في الأعلى كانت "هادية" مازالت في حالة من الصدمة، جلست على الأريكة وهرولت ابنتها تجلس أمام قدميها سائلة بعينين دامعتين:
أنتِ كنتِ مصدقة عليا حاجة من اللي اتقالت تحت؟
لم ترد "هادية" وبقت "ملك" تتابع هي و"مريم" في صمت حتى سمعن شقيقتهن تقول من وسط نحيبها:
والله العظيم أولع في نفسي لو مصدقة.
طالعتها "هادية" تخبرها بهدوء:
مش مصدقة يا شهد، بس اللي أنا عارفاه ومصدقاه كويس إن اللي حصل ده مكانش المفروض يحصل كله من الأول ولا سيرتنا تبقى على كل لسان و....
قاطعتها ابنتها تسأل بانفعال:
وأنا اعمل ايه لو هو ابن ستين
بترت والدتها عبارتها وهي تشير لها بكفها محذرة:
بس خلاص أنا مش عايزة اسمع كلمة تاني في الموضوع ده، حقك ورجعلك قدام الناس كلها ملهوش لزمة الكلام فيه.
تحدثت "مريم" هذه المرة بحذر:
ماما عمو نصران قالي أبلغك إنه جاي بالليل وعايز يتكلم معاكِ.
هزت والدتها رأسها وقبل أن تقوم مسكت "شهد" بها وهي تقول بعينين دامعتين:
طب احضنيني طيب.
ضحكت "ملك" و"مريم" على أفعال شقيقتهما وبالفعل احتضنت "هادية" ابنتها وأثناء ذلك اهتز هاتف "ملك" في يدها، قرأت شيء ما ثم قالت:
ماما أنا نازلة أشوف "عيسى" وطالعة تاني.
لم تنتظر أكثر سحبت وشاحها وهرولت إلى الأسفل، بقى في القاهرة يومين لم تلمحه فيهما، نزلت لتجده يقف أمام بوابتهم، اتسعت ضحكته وهو يسألها:
لا ده أنا وحشتك لدرجة إنك نازلة تتكعبلي على السلم كده.
رمقته بغيظ ثم سألته بانزعاج:
عايز ايه باعتلي أنزل ليه؟
_ علشان وحشتيني.
جملته هذه جعلتها تبتسم وترد عليه وعيناها تتجول على وجهه وكأنها تحفظه:
أنت كمان وحشتني يا "عيسى".
فتح ذراعيه قائلا بابتسامة:
يبقى حضن كبير بقى.
نبهته بغيظ:
احنا في الشارع وبالنهار على فكرة.
_ ما شاء الله، لسه بتتعاملي معايا أنتِ والست والدتك على إني ماشي معاكِ مش جوزك.
انكمش حاجبيها بضجر فقال ضاحكا:
طب خلاص متكشريش، أنا راجع القاهرة تاني علشان ورايا حاجات كتير هناك، جيت النهاردة بس علشان أبويا طلبني.
ظهر الحزن على وجهها وهي تسأله:
يعني هتروح تاني؟
مسح على وجنتها قائلا بابتسامة:
أنا هروح النهاردة بالليل وهرجع بكرا على اخر اليوم... تيجي معايا؟
توترت للغاية وهي تقول:
لا مش عايزة.
رفع حاجبيه بدهشة فأسرعت تصحح:
قصدي يعني الدنيا مش أحسن حاجة فوق ومش هينفع اسيب ماما واخواتي.
وجه لها سؤاله يكشف ما تخفيه:
ماما واخواتك!، ولا أنتِ بتتهربي؟.... خوفك اللي بيبقى قبل كل خطوة تحسي فيها إننا ممكن نكون لوحدنا بيضايقني على فكرة.
هربت بعينيها وهي تسأله:
ليه بتقول كده؟... أنا فعلا علشان ماما وشهد ك..
قاطعها وهو يسألها بانفعال:
هو أنتِ مصدقة نفسك؟... أنتِ مش بصالي أصلا وأنتِ بتتكلمي يا " ملك"
طالعته سريعا فاسترسل هو:
أنا وعدتك مش هقرب منك طول ما أنتِ مش مستعدة لده، خوفك الدايم ده كأنك بتقوليلي فيه إني مش قد كلمتي، كأنك بتقوليلي إنك مش مصدقاني.
تلألأت الدموع في عينيها وهي تقول بألم:
أنا أسفة إني خليتك تحس بده.
كان رده على أسفها حتى لا تنفلت أعصابه أكثر:
اطلعي يا "ملك".
استغلت هي جملته واتجهت نحو الداخل وأثناء صعودها الدرج سمعت إحداهن تناديه فتوقفت مكانها في مدخل المنزل.
كانت " ندى" في الخارج، انتظرت في سيارتها حتى رحل الجميع، كانت ستنزل لتحدثه ولكن نزلت "ملك" قبلها والآن أصبح بمفرده، كان وجهه يبدو عليه الغضب وكأن أحدهم ارتكب جناية في حقه، سألها بهدوء:
نعم؟
_ هو أنا ممكن أفهم اللي كان بيحصل هنا؟
هز رأسه مؤكدا وهو يخبرها:
اه ممكن، روحي اسألي جوزك وهو هيفهمك.
تجمعت الدموع في عينيها وهي تقول:
أنت قولتلي مرة إني لو احتاجت منك مساعدة وأنت تقدر هتقدمهالي صح؟
حالتها هذه أجبرته على الهدوء، تنهد بانزعاج ثم مسح على وجهه قبل أن يسألها:
اقدر اساعدك ازاي يا "ملك"؟
انفرجت شفتيها وهي تراه ينطق اسم زوجته بدلا منها وتخطى هو ذلك بقوله:
معلش اتلغبطت... قوليلي أساعدك ازاي؟
زاد نحيبها وهي تطلب بضياع:
أنا عايزاك تطلقني من " جابر".
عند هذا لم تحتمل "ملك" هل تطلب ممن ما زالت تحبه أن يقوم بتطليقها من زوجها، خرجت من المدخل ووقفت عند الباب أمامهما فصمتت "ندى" واستدارت تمسح دموعها وطالعت "ملك" عيسى بانزعاج وهي تخبره:
أنا جاية معاك بالليل.
لم يعلق إلا حين قالت بغيظ وهي تلقي نظراتها على "ندى":
ماما عايزاك في كلمتين فوق، ودلوقتي.
رفعت " ندى" حاجبها باستنكار وهي تطالع "ملك" بنظرة تخبرها فيها كم تحتقرها، نظرة دفعت "ملك" لجذب "عيسى" من ذراعه وهي تدخله نحو الدرج وتقول بضحكة صفراء:
معلش يا حبيبتي ابقى اتكلمي معاه وقت تاني.
تبعت قولها هذا بإغلاقها جانبي بوابة المدخل بانفعال في وجهها.
أظلم المدخل وقد منعت عنه الضوء الخارجي تماما، وقفت أمام "عيسى" تطالعه بتعابير غاضبة فوجدته يجتهد بصعوبة حتى لا يضحك وسألت هي:
اشتغلت مأذون امتى بقى؟
حاول أن يتصنع الجدية وهو يسألها:
هو أنتِ مش قولتي مش عايزة تيجي وطلعتي؟
_ نزلت تاني علشان أشوف حلال المشاكل، أتفرج على أستاذ أسامة منير تخصص مشكلات عاطفية.
لم يتحدث حيث سمع نداء والدتها من أعلى الدرج:
يا ملك قوليله يطلع بدل ما تقفوا تحت.
جذبها يحتضنها وهو يسمع خطوات والدتها المتوجهة لهما، شهقت "ملك" بصدمة فرد هو على ذلك بقوله:
مش أنا تخصص مشكلات عاطفية، خلي أمك تنزل تحللي مشكلتي معاكِ بقى.
_ طب ممكن إيدي؟
قالتها بنبرة ناعمة استغربها وما إن أفلتت يدها حتى ثنتها وفي غفلة منه كان ستضربه في جانب وجهه ولكنه تفاداها وابتعد، وهنا نزلت والدتها لتجدهما يقفا أمام بعضهما بلا حديث فقالت:
ما تطلع يا بني.
كانت "ملك" تطالعه بتحدي جعله يقول لوالدتها ما لم تتوقع أن يقوله أبدا:
يرضيكي مدخلاني هنا وقافلة الباب بتاع المدخل، وعمال أقولها مينفعش يا "ملك" ميصحش يا "ملك"، وهي مصرة تحضني!
اتسعتا عيناها بصدمة وضحك هو وهمس غامزا:
ماهو أصل الضرب مش كله بالإيد، فيه بالكلام.
كعادته يصدمها دائما، بردوده، بأفعاله، بكل صغيرة، وكبيرة تصدر منه، دائما مبهر، وقادر على تقديم كل جديد... دائما أبدا ملك كل ما هو غير متوقع، ملك المفاجأة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا تصنع المعروف إلا في أهله
وليس كل من رأيت للمعروف أهل
و ارفض سكوتك في لحظات ضعفك
حتى ولو كان السكوت كعادته سهل
وامسح دموعك وانتفض مواجها
فلكل صعبٍ قائد وأنت وحدك جيش.
أشعل غضبها ثم قال أمام والدتها ما جعلها تود لو أن تبتلعها الأرض، هكذا يتحدث بسلاسة لوالدتها عن ابنتها التي تريد احتضانه، قالها ورحل ولم يرض الطلوع مبررا ذلك بأنه يجب أن يذهب لوالده على الفور، كانت "ملك" في الردهة مع والدتها تبرر موقفها بحرج:
ماما على فكرة "عيسى" كان بيهزر، هو كان معايا في المدخل علشان كان طالع عندنا، بس عمو نصران اتصل بيه فقالي هيرجع، لكن م....
قطعت والدتها حديثها وهي تتجه لغرفة "شهد":
خلاص يا " ملك" حتى لو حصل يعني، أنتِ مراته.
أغمضت عينيها بغيظ واضح وهي تتمتم:
يا ماما أقسم بالله ما حضنته.
ضحكت "هادية" ودخلت إلى الغرفة تتبعها "ملك" فتوقفا الاثنان وهما يسمعا "مريم" تقول لشهد الجالسة على الفراش:
أنا مش عايزة اكتئاب في البيت ده، بصي أنا شارية ايه علشان أجرب فيكم،
رفعت أمام عين شقيقتها ما ابتاعت وهتفت بحماس:
قررت أسيب التعليم و أشتغل حنانة... أنا جايبة القلم اهو والرسومات اللي هنعملها وفي حروف كمان.
جذبتها والدتها من ملابسها من الخلف وهي تكرر باستنكار:
يعني أنتِ شايفة اللي احنا فيه ده كله، وبدل ما تيجي تهديني، ولا تعدلي أوضتك اللي تضرب تقلب بتفكري في الحنة.
حاولت "مريم" التملص منها وهي تقول بتصنع البراءة:
يا ماما استني بس، ده في بنت معانا في الكلية بترسم حلو أوي فقولتلها علميني راحت قايلالي على الورق المتفرغ ده وأنا جبت القلم وهرسم بقى.
كانت والدتها تطالعها بضجر فتابعت بضحكة:
يا هادية استني بس ده حنة سودا بيبقى اللون الأسود شيك أوي... هاتي ايدك بس.
جذبت يد والدتها عنوة فضحكت "شهد" وهي تمسح دموعها التي رافقتها منذ أن صعدت من الأسفل بعد ما تعرضت له، جاورتها "ملك" على الفراش ووكزتها بخفة ضاحكة لتنتبه لوالدتها و"مريم" حيث حاولت "هادية" شد يدها باعتراض قائلة:
سيبي ايدي يا بت أنتِ.
إصرار ابنتها على الأمر يجعل أي أحد يستجيب وخاصة وهي تقول بإلحاح:
استني بقى الله يكرمك، اختاري رسمة يلا، بصي الوردة دي.
أشارت على وردة صغيرة رقيقة متابعة:
تعالي هعملهالك وهي كده كده صغيرة مش هتبان... هعملهالك على جنب ايدك.
رفضت "هادية" مسرعة:
لا بلاش، اعمليها من فوق علشان متبقاش متشافة، وعلشان لو باظت
وضعت الرسمة المفرغة على منتصف ذراع والدتها بعد أن شمرت أكمامها واتسعت ابتسامتها بحماس وهي تلقي تعليماتها:
أنا مش عايزة حركة خالص، علشان تطلع بالظبط ومتخرجش برا الرسمة.
_ عارفة لو باظت أنا هعك وشك بقلم الحنة اللي في إيدك ده.
كان هذا تهديد والدتها الذي أضحك "ملك" و"شهد" وهما يتابعا بتشوق ما تفعله شقيقتهما الجالسة وأمامها والدتها والأولى تحاول ألا تخرج عن حدود الرسمة المفرغة حتى تكون النهاية مرضية.
لم يستغرق الأمر الكثير بسبب أن الرسمة صغيرة وما إن انتهت حتى هتفت بفخر:
بصوا بقى... شايفين الجمال، فنانة أنا فنانة والله... سيبيها بقى يا ماما لحد ما تنشف خالص، و عايزاكي تمشي تقولي في البيت بنتي الفنانة راحت، بنتي الفنانة جت.
ردت عليها "هادية" بغيظ:
فنانة ايه يا بت أنتِ، هو علشان حتة الوردة دي بقيتي فنانة، ده أنتِ حاطة الورقة ويادوب بتمشي عل...
قاطعتها "مريم" صائحة بانزعاج:
أنتِ بتنكري مجهودي، طب أنا هبوظها بقى...
قبل أن تفعل أي شيء ضحكت والدتها وهي تخبرها أثناء تطلعها للرسمة:
لا خلاص متبوظيهاش حلوة.
قالت هذا واتجهت للخارج تحديدا ناحية الردهة فلم يبق إلا ثلاثتهن فتوجهت "مريم" ناحية "شهد" هاتفة:
يلا قوميلي علشان ترسمي.
قبل أن تعترض جذبتها من ذراعها متحدثة بتصنع الحزم:
أنا قولت محدش يعترض هنا... كله هيتجرب فيه، بطلوا الكآبة اللي بتجري في دمكوا دي.
ضحكت "شهد" وهي تشير على رسمة لعصفور صغير:
طب أنا عايزة دي.
وافقت "مريم" وهي تشير لملك أن تستعد فسمعت اعتراضها:
بقولك ايه... أنا مش هرسم حنات.
حذرتها "مريم" رافعة سبابتها:
أنا هنا اللي بقول.
فردت "شهد" يدها بابتسامة واسعة وهي تقول:
بصي ارسمي منه تلاتة بالطول مثلا كأنهم طايرين ناحية صباعي الأخير كده.
وضعت "مريم" الرسمة وبدأت في الرسم وحين اهتزت "شهد" حذرتها شقيقتها بغضب:
هتاخدي على وشك...متتهزيش.
طالعتها "شهد" بنفاذ صبر وأكملت "مريم" عملها حتى انتهت تماما حينها ابتسمت برضا وأبدت "ملك" إعجابها قائلة:
لا حلوين أوي دول.
تأملتهم "شهد" بحب وعلقت:
أيوه شكلهم رقيق أوي.
وقعت عين "شهد" على شيء ما في الورقة الخاصة بالحروف فمالت على أذن "مريم" وهمست بشيء ما وهي تبتسم بمكر جعل "مريم" تبادلها الابتسامة وتتبعها بقولها:
يلا يا "ملك".
_ أنتوا بتضحكوا الضحكة الشريرة دي ليه؟... أنتوا هتعملوا إيه؟
جذبتها " مريم" قائلة:
والله هعملك حاجة حلوة أوي... تعالي بس.
طلبت منها "ملك" التمهل وهي تقول:
طب اصبري هختار الرسمة.
هزت "مريم" رأسها نافية وهي تردف بابتسامة:
لا أنتِ هعملك على ذوقي.
رفضت رفض قاطع مسرعة:
لا يا مريم، أنا أصلا مش عايزة أعمل.
مطت "مريم" شفتيها متصنعة الحزن وهي تعاتبها:
يعني تقصدي إن أنا ذوقي وحش.
حين انتقلت نظرات "ملك" إلى "شهد" رمقتها "شهد" بتأنيب فرضخت بقلة حيلة:
خلاص يا "مريم" ماشي علشان متزعليش.
أبعدت "مريم" حجاب أختها وثبتت رأسها على زاوية معينة قائلة:
بس اثبتي كده ومتتحركيش خالص.
_ إيه ده في إيه؟
هكذا هتفت "ملك" باستغراب فردت "شهد" على تساؤلها بضحكة:
هترسملك على جنب رقبتك... دوري دماغك بقى ناحية اليمين ومتتحركيش خالص.
هتفت بضجر:
طب قولولي هترسموا إيه طيب؟
جاوبتها "مريم" بحماس:
مفاجأة... مفاجأة.
قلقت بشدة ولكنها استجابت وما زاد من قلقها هو ضحكتهما البلهاء، انتهت "مريم" ولكن سريعا ما حذرتها:
خليكِ زي ما أنتِ لحد ما تنشف خالص
_ طب أشوفها طيب.
طلبت "ملك" برجاء وكان رد "شهد" هو أنه عليها الانتظار... بقا معها يشغلاها حتى تأكدا من أنها جفت تماما فقالت "شهد" بحماس وهي تعطيها المرآة:
بصي.
كانت "ملك" تضحك بحذر وسريعا ما اختفت الضحكة وجحظت عيناها وهي ترى على جانب عنقها حرفين من حروف اللغة الأجنبية باللون الأسود اللامع، إنها الحروف البارزة في اسمه، الأول (E) وجواره(S) وأسفلهما قلب صغير
احتدت نظراتها فصاحت "شهد":
اجري يا " مريم" وبسرعة.
وهرولا من أمامها وانكمش حاجبيها بغضب وهي تنادي على والدتها بنبرة باكية:
يا ماما.
كانت بالنسبة لها كارثة وليست كأي كارثة بل كارثة كبرى.
★***★***★***★***★***★***★***★
لأول مرة منذ ما حدث له ينفرد بوالد زوجته، الذي أتى له الغرفة خصيصا وطلب أن يبقا بمفردهما، أحضرت الخادمة لثروت كوب من القهوة ولشاكر واحدا من العصير بناء على تعليمات "بيريهان" وانصرفت.... قطع صمتهما صوت "ثروت" الذي سأل:
عامل ايه يا "شاكر"؟
_ الحمد لله بقيت أحسن كتير... حتى لسه كنت بقول لبيري إني هحجز علشان نسافر يومين نغير جو.
كان الرد على هذا السؤال لا علاقة له تماما بما قيل حيث سأله " ثروت":
بتحبها يا "شاكر"؟
ضحكة فلتت من " شاكر" وهو يسأله:
لو أنت عارف إني مبحبهاش مكنتش جوزتهالي... ولا أنت جوزتهالي مصلحة؟
سأل "شاكر" غامزا فرد عليه "ثروت":
جوزتهالك علشان هي بتحبك، وعلشان شايفاك الراجل المثالي، وعلشان أخيرا وافقت ترتبط بحد و...
أكمل " شاكر" بدلا عنه:
وعلشان أنا قدمت فروض الولاء والطاعة وعملت كل اللي اتطلب مني، كتبتلها اللي ورايا واللي قدامي زي ما أنت طلبت، أنا لو مش بحب بيري مكنتش وافقت إني أعمل ده ولأجل الحق برضو أنا عارف كويس أنا بناسب مين.
ضحك "ثروت" وهو يقول له:
عارف يا "شاكر" أنا عجباني دماغك... لو كنت خلفت ولد أكيد كنت عايز دماغه تبقى زيك... مبتضيعش وقت..
أشار له ثروت ينبهه أنه يستطيع فهمه بعض الشيء:
عايز تكسب من كل حتة.
تحدث "شاكر" بصراحة مطلقة وهو يطالع والد زوجته:
طب ما احنا فيها، طالما مخلفتش ولد أهو جالك الولد.
قالها "ثروت" وهو يشير على نفسه وتبعها بقول:
وأنت فاهم صح على فكرة، أنا فعلا عايز أكسب من كل حتة، أنا عايز أبقى كبير بس مش كبير في البلد زي أبويا لا، أنا بلعب على أكبر من كده.
_ تبقى زيي مثلا؟
كان هذا سؤال "ثروت" له فرد عليه "شاكر":
لا لا أنا مش عايز أبقى وزير، أنا عايز أبقى قوي، ومش هبقى قوي غير بتلاتة، فلوس كتير علاقات مع ناس كبيرة، ونفوذ... التلاتة دول أهم حاجة عندي.
تناول " شاكر" كوب العصير وارتشف منه قائلا:
بالنسبة للفلوس أنا عندي بس عايز أشغلها وأكبرها، بس مش في أي حاجة أنا عايز أشغلها في الحتة اللي تحققلي الاتنين التانين... العلاقات والنفوذ.
_ مش بقولك عايز تكسب من كل حتة؟
كان هذا رد "ثروت" الذي أجاب عليه "شاكر" ضاحكا:
وأنا قولتلك إن دي حقيقة... وقولتلك كمان اعتبرني ابنك، قولي أعمل ايه..
طالعه "ثروت" بنظرة مطولة أتى عقبها قوله:
اللي أنت عايزه ده بيبقاله طريقين، واحد طويل وواحد تاني...
قاطعه قائلا:
طويل، قصير مش هتفرق، اللي هيفرق معايا حاجة واحدة... هتقف في ضهري لحد ما أوصل؟
دقيقة فكر فيها "ثروت" هو يعلم أن زوج ابنته يمقت من دمره يوم زفافه، ذلك الذي قابله مرة ورأى كم هو متبجح، زوج ابنته يريد أن يصل ليصبح أقوى من كل شيء أقوى من "عيسى" ومن الخلافات والصراعات القديمة... لذلك قال:
هفكر يا "شاكر" بس لازم تثبتلي الأول إنك تستاهل تكون ابنى.
قالها ثروت واتجه للمغادرة ولكنه سمع من الخلف:
متقلقش أنا شاطر أوي في الإثبات... أنا نعمة على الأرض يا ثروت باشا.
ابتسم "ثروت" فأكمل "شاكر":
اندهلي " بيري" بقى علشان وحشتني الشوية دول.
قالها "شاكر" وجذب هاتفه متصنعا العبث به بينما نظراته تتابع والد زوجته بترقب شديد.
★***★***★***★***★***★***★***★
حل المساء أخيرا، غادر الاسترخاء "طاهر" فترة طويلة منذ ما حدث لها يتذكر حين علم من "عز" ما يقال، يتذكر محاولاته في الاتصال بها قبل أن يأتي بحقها...لم تنجح هذه المحاولات إلا بصعوبة، ردت عليه بنبرة أبت أن تكون منكسرة حيث قالت:
متصل ليه يا "طاهر"؟... متصل تقول إيه؟
لو متصل تقولي إني غلطانة وإن ده نتيجة و...
قاطعها وهو يرد بما نبع من قلبه حقا:
أنا متصل علشان أقولك إني معاكِ و هجبلك حقك...
وإني اتعلمت الدرس، ولو الدنيا كلها صدقت إنك كده أنا مش هصدق وهحاربها كلها علشانك يا " شهد".
استطاع سماع شهقاتها المتتالية، وصله المرارة التي تقتلها لذلك وعدها:
أوعدك إني مش هرتاح غير لما أخرس كل واحد قال كلمة في حقك.
_ وأنا مصدقاك.
كان هذا ردها عليه، الرد الممتزج بعبراتها، ولقد صدق وعده، لقد رد لها نفسها التي سُلبت منها بعد ما سمعته يقال في حقها.
فاق من شروده على صوت ابنه الذي أتى بدفاتره وهو يقول بحماس:
بص يا بابا خطي حلو ازاي؟
انتبه له واتسعت ابتسامته وهو يقول بإعجاب:
اه حلو أوي يا "يزيد"... قولي صحيح أنت مبقتش تروح عند طنط " هادية" ليه؟
مط الصغير شفتيه بحزن وهو يرد على والده:
علشان أنا زعلان منك ومن "شهد" علشان متخاصمين ومش عايزين تتصالحوا.
_طب بص، أنا عايز أصالحها بصراحة... قولي أنت بقى نصالحها ازاي؟
بدا الحماس الشديد على وجه ابنه وهو يقول بضحكة واسعة:
أنا لما "ريم" صاحبتي زعلت علشان قلمها ضاع اشترتلها واحد جديد لونه بينك علشان هي بتحب اللون ده.
رفع "طاهر" حاجبه وهو يجذب ابنه من ملابسه سائلا باستنكار:
ريم مين دي اللي بيتصرف عليها فلوسي، وبيتجابلها أقلام بينك.
رد عليه ابنه ببراءة شديدة:
صاحبتي في الفصل.
_ تصدق أنت وشهد تستاهلوا قلمين فعلا بس على وشكم.
رد عليه الصغير بانزعاج:
أنا مش هكلمك ولا اساعدك تاني يا بابا.
جذبه "طاهر" يحاوطه بذراعيه وهو يقول بضحك:
طب تعالى متزعلش.
أخذ يلاعبه وتعالت ضحكات ابنه بينما في الأسفل كان "نصران" يستعد للخروج فدخلت "سهام" الغرفة ووقفت خلفه تسأله بنبرة حزينة:
وايه أخرتها يا "نصران".
استدار لها يرد عليها قائلا بابتسامة:
لولا عيالي كان بقى ليها أخر تاني خالص يا "سهام"... بس أنا هختار الأخر اللي هيجيب أقل الخساير
تعالت دقات قلبها، واتسعت عيناها وهو تنتظر أن تسمع ما ينوي فعله ولم تنتظر كثيرا حيث قال ما دمرها:
أنتِ خذلتيني، لو استنيت الضربة دي من الخلق كلها مكنتش هستناها منك، لا ورجعتي خبيتي تاني لما مقولتليش على حكاية " منصور" .
أسرعت تقول بدموع:
خوفت عليك والله خوفت، منصور ضحك عليه فهمه أنه لو مشي ورا....
قاطعها بإشارة من يده قائلا بحسم:
ملهوش لزمة الكلام... أنتِ مستنية بقالك كام يوم تعرفي إيه اللي هيتم وأنا هريحك وأعرفهولك.
واجه عينيها وهو يخبرها بقراره:
أنتِ هتفضلي هنا يا "سهام"...
ابتسمت وقد ظنت أنه السماح ولكنه أكمل بما قضى على روحها:
بس زيك زي أي حد غريب عني هنا، أنتِ هنا علشان
" طاهر" و"حسن" و"رفيدة" علشان اللي سعيت لأخر لحظة وأخوهم قبل مني إنهم ميعرفوش حاجة علشان البيت ده يفضل قايم، وطول ما أنا عايش بإذن واحد أحد هيفضل قايم وعمره ما هيتفرق، أنا مش هحرق قلبهم بأبوهم اللي طلق أمهم، علشان عارف ده هيعمل فيهم إيه، مش هقولك الكلمة دي يا "سهام"، مش دي الكلمة اللي حلفتيني ما أقولهاش.
تسارعت دموعها ومسكت كفه وهي تصارحه بوجع:
نصران أنت لو طلقتني أنا هموت، أنا روحي هنا جنبك... أنا بحبك أكتر من عيالي اللي المفروض يبقوا أغلى ما عندي.
سحب كفه بهدوء وهو يخبرها:
وعلشان عيالك أغلى ما عندك، كل حاجة قدامهم هتبقى زي ما هي، مفيش حاجة هتتغير، لكن اللي بيننا بقى واللي من وراهم.... إنك معدتيش تلزميني.
شهقت بغير تصديق، على الرغم من تأثير مقلتيها في فؤاده ولكنه كان أقوى وهو يقول:
تلزمي ولادك وبس، وعلشان ولادك هتفضلي على ذمتي شكلا بس... غير كده تخليكِ عارفة إنك بالنسبالي انتهيتي خلاص، والأساس ده هو اللي هتتعاملي عليه بعيد عن عيالك يا " سهام".
_ نصران بس....
حاولت قول أي شيء ولكنه أوقفها بقوله:
مفيش كلام تاني... الكلام خلص و مفيهوش رجعة.
تركها وخرج من الغرفة فهوت على الأرضية تبكي بحرقة وهي تنظر في أثره وتحاول تكذيب كل ما دار هنا الآن.
في نفس التوقيت
أحضرت "هالة" كوب العصير الذي طلبته "رفيدة" لها في غرفتها فشكرتها "رفيدة" بامتنان:
شكرا يا هالة، تسلمي.
انتبهت "رفيدة" إلى أنها ترتدي مما أعطتها إياه من ملابس مسبقا فأخبرتها بابتسامة:
وعلى فكرة الفستان شكله حلو أوي عليكِ.
ردت عليها "هالة" بابتسامة:
شكرا يا أنسة "رفيدة" ربنا يكرمك.
_ ما قولنا بلاش ألقاب بقى هو "رفيدة" علطول.
هزت "هالة" رأسها بامتنان ثم طلبت منها "رفيدة":
بقولك ايه شوفيلي تحت أي مسكن للصداع أحسن دماغي هتنفجر.
وافقتها " هالة" على الفور واتجهت سريعا لتغادر غرفتها، لمحتها أثناء الخروج وهي تشرب مما أحضرته، هي شبه تعلم سبب الدوار الذي تشتكي منه "رفيدة"، ربما بسبب جرعة المخدر الأولى التي وضعتها لها، والآن وضعت لها الثانية فيما تشربه... بعد جرعة أول أمس غابت عن العالم، استرخت تماما وكأنها في دنيا ثانية، ولم تفق إلا في، الصباح ومنذ ذلك الوقت وهي تشكو من الدوار، بالتأكيد شعرت بالانتشاء بعد أول جرعة لها ولكن الأكيد أكثر أن هناك بوادر شعور بالذنب بدأت تصيبها ناحيتها، تصيبها ناحية " رفيدة" وخاصة وهي تراها الآن تتناول ما وضعت به الجرعة الثانية لها.
★***★***★***★***★***★***★***★
هي معه في السيارة الآن، منذ فعلة شقيقتيها وهي تشعر وكأن أفعى تسير على عنقها، كل دقيقة تتأكد من وضعية حجابها وتثبته أكثر من ذي قبل مما جعله يسألها باستغراب:
هو في حاجة يا "ملك"؟
هزت رأسها سريعا نافية بابتسامة متوترة ثم سألته:
احنا هنقعد في القاهرة يوم واحد بس صح؟
هز رأسه بالإيجاب فسألت مرة ثانية وهي تثبت حجابها:
هنقعده فين؟
كان رده هو أن نظر لها وسألها بغيظ:
أنا عايز أعرف أنتِ عمالة تفركي في الطرحة ليه؟... أنتِ في نملة بتقرصك في قفاكي طيب؟
لم تستطع إلا أن تبتسم وقررت إجبار نفسها على التوقف حتى لا يلاحظ شيء، كانا قد وصلا إلى القاهرة وتحديدا أمام إحدى المقاهي الشبابية الراقية، أوقف سيارته وقبل أن يخبرها أنهما سيجلسا به وجدها تشد حجابها للمرة الألف فقال بنظرات متيقنة:
أنتِ حاطة مخدرات تحت الطرحة دي صح؟...
عايزة تلبسيني مصيبة وتبيتيني في الحجز علشان قولت لأمك إنك عايزة تحضنيني.
نفذ صبرها فردت عليه بغيظ:
اسكت علشان أنت مش فاهم أي حاجة.
_ طب فهميني
هكذا طلب وقبل أن تجاوب أتاه اتصال من خالته، قررت هي الهرب واستغلت رده لتقول له:
أنا هستناك جوا.
قصدت المقهى فأشار لها بعينيه بالموافقة، ونزلت هي مهرولة نحوه، تأملت المكان بانبهار، فتصميمه رائع وخاصة الجدران التي تميز كل جدار فيها بصورة تزيد من تألقه وحده، وتلك الخزانة التي امتلأت بالورود المتناثرة وأبرزها اللوح الزجاجي الموضوع عليها... اختارت طاولة جوار حائط الزهور هذا ولكن قبلها طلبت من النادل بأدب:
لو سمحت هو الحمام فين؟
_ أنا أسف يا فندم جدا هو مغلق بس للصيانة.
هزت رأسها وجلست تنتظره ولم يمر الكثير حتى وجدت النادل يعود من جديد وهو يقول:
اتفضلي يا فندم لو عايزة الحمام.
سألت باستغراب:
مش قولت مقفول.
_ أنا لسه جاي دلوقتي حالا، وعرفت إنه اتفتح فجيت أبلغك.
أرشدها لمكانه باحترام فذهبت إليه، لا تعلم لما شعرت بالبرودة الشديدة، تجاهلت الأمر وتتوجهت لتقف أمام المرآة، عدلت حجابها بعد أن خلعته، وتأكدت من أنه على ما يرام ثم دخلت للمرحاض وأغلقت الباب، وضعت كفها من جديد تتحسس حروف اسمه بحرج شديد ثم قررت الخروج حتى لا تتأخر وما إن فتحت الباب حتى وجدت "شاكر" في وجهها، شهقت بغير تصديق، وارتسم الذعر على تقاسيمها وكردة فعل سريعة حاولت الدخول وإغلاق الباب مجددا، ولكن نظراته كانت متحدية وهو يحيل حدوث ذلك بالعصا التي تساعده على السير بسبب جرح ساقه الذي في طريقه للشفاء.
وكأن أحدهم يسرق أنفاسك ويخبرك أنها من حقه هو، كذلك كان هو حين أمال رأسه ليرى وجهها من الجزء الصغير الذي تمنع العصا إغلاقه، نطق بضحكة:
وحشتيني يا لوكا.
وقبل أي ردة فعل وضع سبابته أمام فمه محذرا:
أي قلق هتزعليني وتزعلي نفسك وأنتِ مجربة.
تموت نعم هي تموت، كما تموت دائما في حضرته، أدركت أن مقتها له يزداد ويزداد وهو يقول:
مفيش حد في باقي الحمامات، كلها فاضية...
كيف دخل إلى هنا، كانت على أمل أن يأتي أي أحد لدخول المرحاض، تخشى الصراخ تخشى تهوره، حتى صوتها لا يساعدها فسأل بابتسامة جانبية:
هتفضلي ورا الباب كتير، أخرج سلاحه ولوح به لتراه من هذه الفتحة الصغيرة وهو يضيف:
كده هبتدي أزهق.
تعالت شهقاتها وقال هو من الخارج:
لو عقلك بيقولك تصوتي صوتي، علشان أنتِ وحشتيني أوي يا ملك،
بدا الاشمئزاز جليا على وجهها وتابع هو:
ووحشني صريخك، فاكرة اللي كان على المرحوم الأولاني، مفيهاش حاجة لو نكرره تاني.
كان يتحدث وعلى حين غرة دفع الباب بذراعه السليم بعنف جعلها تكاد تسقط وقبل أن تصرخ كمم فمها بيده واستند على الحائط، تحركت عيناه على تفاصيل وجهها بانتشاء شديد وهمس بعينين لمع بهما التحدي قابلا عينين مذعورتين:
ده أنتِ طلعتي وحشتيني أوي.
إنه الرفض، إنه حقك في أن تقول لا، في أن تفر هاربا، إنه شعورها الآن، بلا شعورها الآن هو شعور يساوي في صعوبته قتل روحك للمرة التي لا تعلم عددها وأنت على قيد الحياة .... وأنت ما زالت تتنفس ولكن بماذا تفيد الأنفاس وأنت مقيد.