رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل الخامس والثمانون 85 بقلم فاطمه عبد المنعم


  رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل الخامس والثمانون بقلم فاطمه عبد المنعم

ابقِ هنا حتى ولو قولت ارحلي
محال أقصدها وأنتِ تعلمي. 
ابقِ هنا حتى ولو صار الزمان معذبا
ابقِ هنا حتى ولو ضاق المكان بما رحب
ابقِ هنا ياروح تمنحني السلام 
بعد حروب مزقتني وأنتِ تعرفي.. 
هنا تعني قلبي... حتى ولو قولت ارحلي.. 
ألقي السلام على فؤاد به لن ترحلي.. 
مهما حييت لن ترحلي... ابقِ هنا.. 

توقع ذلك من البداية، توقع تدهور صحة والده والآن يرى صحة توقعه حيث أن الصرخة التي صدرت عن زوجة والده نبهته هو و "طاهر" فخرجا سريعا من غرفهم ليجدوا والدهم في حالة إغماء، كان العرق الغزير بادي على وجهه و "سهام" تصرخ خائفة وتحاول بكل جهدها إفاقته، لم ينتظر "طاهر" هرع إلى هاتفه وطلب من الطبيب أن يأتي مسرعا وطمأنه بأنه هنا في المشفى وسيكون عنده خلال دقائق ملقيا بتعليماته التي نصح "طاهر" بتنفيذها حتى يأتي...بالفعل صدق الطبيب وأتى سريعا، وانتظر الجميع حتى خرج وتحدث بانفعال:
ايه يا كابتن "طاهر" اللي بيحصل ده؟... اللي أنا شايفه قدامي ده بيقول إن الحاج مش منتظم بأي حاجة من اللي احنا قايلينها. 

أسرعت "سهام" تدافع بدموع:
لا والله أنا بعمله كل اللي حضرتك بتقول عليه، وبديله الدوا بانتظام، ومقللة خالص في كل الحاجات اللي قولت عليها... بس هو فعلا اليومين اللي فاتوا لغبط شوية. 

_ نوديه المستشفى طيب؟ 
قال "عيسى" هذا بقلق يقتله و"ملك" و"رفيدة" يقفا في الخلف تحاول الأولى تهدئة الأخيرة حيث تبكي بخوف على والدها. 
جاء رد الطبيب مطمئن حيث قال:
الحمد لله المرة دي عدت، يا جماعة برجوكم نلتزم، في حد هنا بيدخن؟ 

الاثنان لديهما هذه العادة السيئة فصرح "طاهر" باستغراب:
أيوه أنا وعيسى بنشرب سجاير... بس محدش فينا بيشرب جنب بابا 

نبه عليهما الطبيب بتحذير:
طب أرجوكم ده ميحصلش جنب الحاج خالص، حتى لو بالغلط، وبالنسبة للأكل هيبقى أكل صحي وده مدام سهام عارفاه ومتابعاه معايا من الأول مينفعش خالص المسبك وغيره... 
هزت "سهام" رأسها مسرعة وهي تقول بلهفة اتحدت مع دموعها:
حاضر... حاضر والله هعمل ده 

_ واخر حاجة بقى وأهم حاجة، الحاج لازم نبعد عنه أي ضغط نفسي، ابعدوا عنه المشاكل والتوتر بكل الطرق، لازم نفسيته تكون كويسة لأن الضغط بيأثر عليه بصورة سلبية... جنبوه كل الحاجات دي. 
رمق "عيسى" زوجة والده بانزعاج أثناء حديث الطبيب الذي ختم:
سيبوه دلوقتي يرتاح شوية وإن شاء الله خير، وأنا رقمي مع الكابتن طاهر لو في أي حاجة يكلمني. 

_ شكرا جدا يا دكتور 
استأذن الطبيب للانصراف وسار معه "طاهر" الذي شكره على استجابته السريعة... أخذت "ملك" رفيدة واتجهت بها إلى غرفتها تحاول تهدئتها ولم يبق سواهما هو وزوجة والده التي عنفها بغضب:
هو أنتِ عايزة تعملي فيه ايه؟  

أشارت على نفسها سائلة باستنكار:
أنا اللي عايزة اعمل فيه ايه؟... ولا أنت اللي روحت قولتله على منصور كمان. 

سألها مذهولا بغير تصديق:
هو أنتِ مكنتيش قولتيله!... أنتِ لسه فيكِ حيل تخبي تاني، يا شيخة ده ايه أم قرفك ده. 

بررت مسرعة فعلتها تهاجمه بنفس طريقته:
أنا خبيت عليه علشانه، علشان عارفة إن صحته مش هتستحمل، لكن أنت! 
احتدت نظراتها وانطلق لسانها بما تحمله في قلبها ناحيته:
أنت واحد مبيهمكش غير نفسك وبس، أول ما أبوك عرف فرحت فيا ومش بعيد تكون أنت السبب في إنه يعرف كمان لكن مخوفتش عليه وهتخاف عليه ازاي أصلا؟ 
تسابقت الدموع في مقلتيها وهي تقتله بكلماتها ونظراتها الحادتين:
اللي يخاف على "نصران" أنا وعياله... عياله اللي اتربوا في حضنه، عياله اللي كبروا معاه في البيت ده... إنما أنت عمرك ما هتخاف عليه ربع الخوف اللي احنا بنخافه. 
أكملت تصفعه بكلماتها بلا رحمة:
أنت لو فعلا بتخاف عليه كنت عرفت إنه ميستحملش يتقاله كل حاجة، ميستحملش يتقاله حاجة أصلا... أنت جيت هنا علشان تخرب وبس، أنا دلوقتي بس عرفت نعمة انك كنت طفشان وسايب البيت...امشي يا عيسى لو عايز تخدم أبوك وخايف عليه بجد امشي وسيبنا. 

صعد "طاهر" عند هذه الكلمات، رأي وجه "عيسى" المحتقن وتعابيره التي تنذر بإعصار أثاره ألمه، هرع "طاهر" ناحية والدته يسألها بانفعال:
ايه اللي بتقوليه ده؟... أنتِ بتقوليله يمشي ليه يا ماما، ومين فينا كلنا أصلا ليه إنه يقول إن حد يمشي وحد يقعد غير بابا... ده بيت "عيسى" زي ماهو بيتنا كلنا. 

_ أنت مش فاهم حاجة. 
كان هذا قول "سهام" الذي رد عليه "عيسى" بابتسامة قاسية:
تحبي نفهمه؟... أنا عن نفسي مستعد نفهمه، طالما أنتِ شايفاني جيت علشان أخرب وبس فأنا بقول نفهمه.

لمع الرجاء في عينيها، الرجاء والخوف من أن ينطق... شعرت أنها اللحظات الأخيرة وبدأ هو في قول:
الحاج يا طاهر كان فرج مدام "سهام" على الفيديو اللي صورناه لشاكر وهي اتعصبت أوي وشايفة إنه هيرجع ويبوظ حياتنا فأبوك تعب من المناهدة، وهي بقت شايفة إن أنا اللي بخرب حياتكوا علشان أكيد أنا اللي خليتكم تعملوا كده. 

طالع "طاهر" والدته بغير تصديق سائلا:
هو الكلام ده بجد؟... امال أنتِ كنتِ عايزة ايه يا ماما؟... هو مش ده حق فريد اللي ليل نهار بتطلبيه؟ 

تمالكت أعصابها بعد أن كانت على وشك فضح أمرها وجاهدت لتقول:
بس مش بالطريقة دي، هو كده هيرجع ويحاول ينتقم منكم.

_ اللي زي دول مينفعش معاهم غير الطريقة دي 
كان هذا قول "عيسى" الذي جعلها تنظر له، نظرات خائفة وهو يكمل:
مينفعش معاه غير إنه يفضل عايش طول عمره خايف، الخوف والكسرة والذل اللي بيشوفهم قادرين يموتوه بدل المره ألف. 
تعلم أن حديثه يحمل أكثر من معنى، تعلم أنه يقصد أنها تستحق أن تبقى خائفة للأبد، تتعذب كل يوم خوفا من حدوث ما ينهيها. 

تركها "عيسى" واتجه ناحية غرفة والده ليطمئن وبعد مغادرته نبه "طاهر" والدته بانزعاج:
الكلام اللي قولتيه لعيسى ده ميتكررش تاني يا ماما مهما كان غضبك، "عيسى" ليه حق في البيت ده أكتر ما ليا وليكِ، وحتى لو ملهوش خالص... 
رمق والدته بإصرار مكملا بجملة جمدتها:
حتى لو ملهوش خالص، أنا مسمحش لحد يطرد أخويا ويقوله اطلع، علشان لو طلع أنا هطلع وراه. 

أنهى حديثه وتبع "عيسى" ناحية غرفة والده وضربت هي على الحائط بغضب وقد انكمش وجهها وهي تبكي بحرقة ولم يقطع نوبة البكاء هذه سوى صوت "تيسير" التي أتت للتو:
متخافيش يا ست "سهام" والله الحاج إن شاء الله هيبقى كويس، والدكتور أنا سألته وهو ماشي وقالي إنه بخير. 

أسرعت "سهام" تقول باهتمام وهي تمسح عبراتها:
انزلي السوق هاتي اللي هقولك عليه يا تيسير علشان أنا اللي هعمل لنصران الأكل، وبعد كده مهما حصل محدش يطلعله لا شاي ولا قهوة ونبهي على البنت الجديدة كمان. 

هزت "تيسير" رأسها موافقة وبدأت "سهام" تملي عليها طلباتها حتى تعد لزوجها الطعام، زوجها الذي قبل أن تحدث له هذه الاغماءة دخلت عليه الغرفة فصدمها بقوله:
ايه؟... افتكرتي انك نسيتي تقوليلي على حكاية منصور فجاية تقولي؟ 
علاقة "منصور" بشقيقها التي أخفتها خوفا عليه، تنهدت بتعب قبل أن تخبره:
اه كنت هقولك يا نصران.. بس مش كله مره واحدة، 
أنا خوفت عليك. 

_ خوفتي على نفسك مش عليا، ولسه بتداري وتخبي، 
قاطعته مسرعة تدافع عن نفسها:
لا عليك يا "نصران"، أنت كده كده عرفت فمكانتش هتفرق معايا نص الحقيقة ولا الحقيقة كلها.... بكت وهي تسأله بحرقة:
أنا ليه اتحاسب بذنب أخويا؟... طول عمرك عادل متظلمنيش. 

نظر لها وقد بدأ يتصبب عرقا ويشعر بأن أنفاسه تغادره ولكنه استطاع أن يقول:
مش هظلمك، إلا إذا كنتِ شايفة إن الطلاق ظلم. 

جحظت عيناها وأسرعت ناحيته ترجوه بخوف:
لا يا نصران، اوعى تعملها فيا، بحق كل الحلو اللي شوفته مني متعملش فيا كده، متطلعنيش من البيت ده مذلولة بعد ما عشت فيه طول كريمة. 

انقطعت الأنفاس كليا وزاد صراعه شعر بالألم الشديد قبل أن يفقد الوعي وتصرخ هي حتى يغيثها أحد، فاقت من شرودها وهي تدعو الله ألا ينفذ ما تحدث عنه، ألا تكون هذه نهايتها معه... تلك النهاية التي لا تتمنى حدوثها أبدا. 

★***★***★***★***★***★***★***★

كان " بشير" يجلس في مكتبه بالمعرض، يتابع الأعمال حتى اقترب منه حيوانه الأليف فضحك قائلا بغيظ:
لا بقولك ايه أنا عايز أشوف اللي ورايا، أنا جيبتك معايا النهاردة بس علشان الواد اللي كان بياخدك لحد ما ارجع سافر، فخليك مؤدب كده. 

تمسح الكلب فيه ثم اندفع نحوه وسط ضحكات "بشير" التي لم يقطعها سوى دقات على الباب تبعها قول أحد الموظفين:
أستاذ "بشير" في واحدة تحت بتقول إنها عايزة أستاذ "عيسى"... أنا لسه مقولتلهاش حاجة، تحب أقولها إنه مش هنا ولا اطلعها ليك؟ 

انكمش حاجبي " بشير" وهو يستفسر:
واحدة مين دي؟ 
ترك مقعده وذهب ناحية الشرفة الزجاجية يرى من خلالها من في الأسفل، وقعت عيناه عليها، من قابلها سابقا تحديدا شقيقة "شاكر"، كانت ترتدي فستان من اللون الوردي وضمت خصلاتها بمشبك لكن بقت بعضها مبعثرة وكانت ترجعها للخلف بضيق وهو يتابعها من شرفة المكتب... استدار عائدا إلى مكتبه وهو يقول للموظف:
طلعها. 

هز رأسه وتركه ونزل ثم اصطحبها إلى المكتب، دخلت وأخذت تبحث بعينيها عن " عيسى" ولكنها لم تجد سوى "بشير" ذلك الذي قابلته من قبل، بهت وجهها وهي تهمس بخيبة أمل:
أنت تاني. 

انصرف الموظف ولم يبق سواهما، لم يعرض عليها الجلوس بل قال بابتسامة صفراء:
خير يا أنسة... جاية ليه؟ 

أخذ الكلب ينبح وهو يطالعها فأردفت بملامح منكمشة:
ابعد البتاع ده عني، وبعدين ايه الطريقة اللي بتتكلم بيها دي أنا مش جاية اشحت منك. 

ضحك وقال وهو يشير على الباب:
والله دي طريقتي، لو مش عاجباكِ الباب اهو. 

مسح على رأس كلبه مضيفا:
وما اسمهوش بتاع اسمه "فلاڤي". 

شعرت بالإهانة ولكن جاهدت لتتغاضى وهي تسأله:
هو " عيسى" مش هنا؟ 

هز رأسه نافيا فسألته بحدة:
امال خليته يقولي اطلعي ليه؟ 

سند ذراعه على المكتب ثم وضع كفه على وجنته مردفا ببرود:
علشان أشوف عرفتي المكان هنا منين، وعايزة عيسى ليه؟... مش رقمه معاكِ؟

_ اللي يسأل مايتوهش، واه معايا رقمه بس مردش غير مره واحدة وقالي إنه هيقابلني واستنيته ومجاش ولا بقى يرد بعدها، وأنا حاليا في القاهرة شوية فقولت يمكن هنا علشان كده معرفش يقابلني. 
بالفعل لم يقابلها، كان ينوي مقابلتها ولكن حين ذهب سمع المحادثة الدائرة بين والدتها ووالده فرحل مع أبيه ولم يلاقيها، وبعدها أتت هي لمنزل زوجة شقيقها برفقة والدتها واستطاعت معرفة مكان المعرض من "بيريهان".

مط " بشير" شفتيه وهو يقول متصنعا قلة الحيلة:
للأسف طخيتي المشوار على الفاضي، عيسى مش هنا... عيسى في اسكندرية. 

تنهدت بانزعاج ثم طلبت بعدها:
طب ممكن تكلمه أنت ولما يرد تديهولي؟ 

هز "بشير" رأسه نافيا وهو يبتسم فأثار غيظها لتقول بانفعال:
أنت بني آدم مستفز على فكرة. 

_ مع ناس وناس 
هكذا رد عليها ثم أكمل:
مش كل الناس تستاهل إن احنا نعاملها كويس، وسواء أنتِ بقى أو أي حد من اللي تبعك فمتستاهلوش غير الح.... 
بتر عبارته وهو يطالعها ونطق بتراجع:
ولا بلاش، خليني أنا المحترم. 

ردت عليه بعدوانية وقد أشعلتها كلماته:
لا ما هو أنت كده مش محترم، ولو في حد يستاهل الحرق فهو أنت. 
سقط مشبك شعرها من فرط انفعالها فأشار عليه قائلا بسخرية:
اهدي على نفسك كده، المشبك بتاعك وقع شيليه في ايدك وأنتِ خارجة، علشان أنا وعيسى مبنحبش يبقى في زبالة في المكتب. 

قررت فعلها ولن تندم فلقد أهانها بكل الطرق لذا وبدون تردد قذفته بالمشبك في وجهه قائلة:
الزبالة للزبالة. 

كانت متجهة ناحية الخارج ولكنه لحق بها قبل أن تفتح الباب، وقف أمامها ورأى عينيها الغاضبتين فزاد من ذلك بقوله:
دي إهانة ليكِ قبل ما تكون ليا، هو مش كان في شعرك المشبك ده؟... فبما إنك بتقولي الزبالة للزبالة... تخطاها ليصبح خلفها وفتح المشبك وعلقه سريعا في خصلاتها قبل أن تستدير متابعا بضحكة:
فالزبالة رجعتلك يا زبال.. تصنع التراجع قائلا:
قصدي يا أنسة. 

أتى خلفه كلبه فأسرعت تفتح الباب لتخرج وهي تقول بانزعاج:
خليك مع اللي شبهك. 

رد عليها بنبرة عالية سمعتها:
اللي شبهي ده أخوكِ وعيلتك كلها معرفوش يبقوا شبهوا. 

عاد إلى مكتبه ولكنه لم يجد هاتفه، هو على يقين أنه كان على الطاولة، لحق بها مسرعا ليجدها تقف به أعلى الدرج تحاول فتحه لتقوم هي بالاتصال بعيسى.... فقال باستهزاء:
طب أنا هعدي حتة انك سرقتيه، لكن مش هقدر اعدي فكرة انك غبية وعقلك صورلك إنه من غير password. 

استدارت له تخبره بضجر وجميع الموظفين في الأسفل يتابعونهم في وقفتهما هكذا:
أنت تستاهل علشان لو أنت محترم أنا مكنتش هتصرف معاك كده بس أنت يا أستاذ بشر شخص مش محترم... ولو عايز تثبت إنك محترم افتح التليفون خليني أكلمه وأنا هنسى أي حاجة حصلت جوا وهعتذرلك. 

رده على كل هذا الحديث كلمة واحدة فقط، وقالها بابتسامة قضت على المتبقي من صبرها:
"بشير" اسمي "بشير" مش "بشر".

أدركت أن طريقتها لن تجني بثمارها معه فاقتربت منه وقالت بنبرة منخفضة لا يسمعها إلا هما:
أنت لو مفتحتش التليفون ده دلوقتي هقول للموظفين دول كلهم إن المحترم اللي مشغلهم اتحرش بيا في مكتبه وهفضحك. 

_ وأنا ميخلصنيش تقولي لوحدك، فنجيب رجال الشرطة الأفاضل بقى ونفرغ الكاميرات واخدك بعدها على القسم اعملك محضر حلو يبيتك في القسم كام ليلة عنب تتربي فيهم جوا بفستان باربي ده.
تراجعت عما نوت فعله وفي النهاية لم تجد معه حل سوى أن أعطته الهاتف قائلة بنبرة مؤنبة:
شكرا. 

رد عليها وهو يهز رأسه:
العفو. 

تركته ونزلت وهي تجر أذيال الخيبة، كان مشبكها على الأرضية أمامه، سقط مرة ثانية لذلك نادى من أعلى الدرج:
يا أنسة. 

ابتسمت بأمل وقد ظنت أنه سينفذ طلبها كانت قد انتهت من الدرج ولكنها استدارت له وقبل أن تصعد قذف لها المشبك فالتقطته مسرعة وهو يقول:
حاجتك. 

غمز لها منبها:
محدفتهوش في وشك زي ما عملتيها جوا علشان أنا متربي وابن ناس. 

أخذته وغادرت المكان بأكمله بانفعال واضح ووقف هو يضحك على الضوضاء التي أحدثتها أثناء خروجها من فرط غضبها، ثم عاد إلى المكتب متمتما:
اما نشوف اخرتها معاكِ ايه يا اخت " شاكر" . 
كان قد نوى أن يهاتف صديقه ويطلب منه أن يرد عليها حتى يعرفا ما تريده هكذا بإلحاح لا يُوصف.

★***★***★***★***★***★***★***★

قررت "ندى" أن لا منقذ لها سواها، كان التوقيت متأخر والد زوجها لم يعد بعد، أما عن زوجها فيغرق في ثبات عميق، "ميار" أيضا في الخارج والخدم لا يقتربوا من غرفة المكتب... استطاعت أخذ المفتاح من جيب زوجها الذي أضافت له  في الطعام ما يجعله ينام بعمق، فتحت الباب ودخلت المكتب تحفظ الأرقام السرية للخزنة التي أبلغتها بها "ميار" عن ظهر قلب... هنا يكمن خلاصها... خفق قلبها بشدة وهي تبدأ في التجريب وتدلى فكها بصدمة ما إن انتهت حين وجدت أن الخزنة قد فُتِحت... ضحكت بغير تصديق ولكن قبل أن تخطو خطوة اخرى سمعت صوت سيارة والد زوجها في الخارج تنذر بأنها إن لم تعد كل شيء كما كان في ثوان ستكون في مأزق لا يُنسى.

★***★***★***★***★***★***★

لم تعلم بتعبه إلا من "تيسير"، أرادت " هادية" بشدة الذهاب لزيارته ولكنها في النهاية  تراجعت، واكتفت بالاتصال بابنتها لمعرفة الأوضاع...مر يوم وقررت هي زيارته في مساء اليوم التالي بصحبة ابنتيها، كانت تسير وتحمل الأكياس في يدها فقابلها "عز" في الطريق وأسرع يحمل عنها قائلا بأدب:
عنك يا ست هادية. 

_ سيبهم يا عز، أنا راحة عند الحاج "نصران" قريب مش بعيد. 
ابتسم وهو يقول لها:
أنا كمان رايح يبقى تسيبيني أشيلهم عنك بقى. 
ابتسمت بمعنى ألا فائدة وسبقها هو بالأكياس، تردد كثيرا في أن يسأل ولكن حسم أمره حيث قال:
هو أنتِ يا حاجة عندك بنت اسمها "شهد" صح؟ 

طالعته "شهد" باستغراب سائلة:
هو في حاجة ولا ايه؟ 

هز رأسه نافيا بحرج، ماذا يقول وهل ما سمعه اليوم وتشاجر مع من قالوه يمكن أن يخبرهم به، هو ذاهب خصيصا للاطمئنان على "نصران" ولإخباره بما يحدث. 

وصلوا إلى المنزل واستضافتهم "تيسير" مهللة بترحيب:
أهلا أهلا يا ست هادية... اتفضلوا. 

_ يزيد فضلك يا "تيسير".
أتت " سهام" بعد قول "هادية" وكان ترحيبها جاف استأذنتهم أن تخبر "نصران" وغادرتهم... اتجهت "هادية" و"مريم" إلى الردهة في انتظارها وكانت "شهد" تتبعهم ولكن توقفت حين سمعت "تيسير" تحذر "هالة" الواقفة في المطبخ:
بت يا هالة اوعي لسانك يقع بحاجة كده ولا كده قدامهم عن اللي سمعناه النهاردة في السوق. 

ردت عليها هالة سائلة باستفسار:
ليه هي البت اللي سمعنا الكلام عنها النهاردة واحدة من البنتين دول؟... اللي بيقولوا انها مرافقة جابر اسمها "شهد" مين بقى "شهد" فيهم علشان أول مره أشوفهم. 

حذرتها "تيسير" بغضب:
أنتِ اتجننتي، الكلام ده لا تفتحيه ولا تجيبي سيرته، أكيد حد ابن حرام هو اللي نشره، شهد دي كانت مخطوبة لأستاذ طاهر وأخلاقها من أخلاق اخواتها. 

أتت "سهام" واستغربت أنها تقف هنا بمفردها جوار المطبخ دون والدتها وشقيقتها فسألتها: 
هو في حاجة؟ 

لم تكن تسمع شيء، وكأن أحدهم يسلب أنفاسك قهرا، شعرت ببرودة شديدة في جسدها وأنها على وشك السقوط فاستندت على "سهام" وعينيها تدور في أنحاء المكان، خشت سهام من سقوطها فسندتها وهي تسأل بقلق:
مالك في ايه؟
أخذتها متجهة إلى الردهة وهي تقول:
تعالي اقعدي طيب. 
_ كوباية ماية يا تيسير. 
هكذا طلبت "سهام" وهي تسحبها من مرفقها للخارج وما إن رأت والدتها وشقيقتها حالتها حتى هرعا إليها وهادية تسأل بلهفة:
مالك يا "شهد"؟ 

جلست على الأريكة وقالت وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة:
أنا دوخت فجأة. 

في نفس التوقيت كانت شقيقتها في الأعلى، أنهت جلستها مع " رفيدة" بعد أن علمت أن "عيسى" أتى للمنزل قبل قليل، دخلت الغرفة لتجده جالسا على الفراش واضعا وجهه بين كفيه فسألته:
مالك يا "عيسى"؟ 
وأتبعت ذلك بقولها:
أنا دورت عليك امبارح بعد اللي حصل لعمو بس ملقيتكش، تيسير قالتلي انك خرجت، ومحسيتش انك رجعت والنهاردة برضو طول اليوم بدور عليك، أنت برا من امبارح؟ 

رفع رأسه من بين كفيه لترى هي عينيه وقد اصطبغا بحمرة تدل على أنه ليس على ما يرام أبدا... لذا سألته وهي تمسح على وجهه برفق:
مالك؟ 

_ روحي. 
لم يقل سوى هذا، هذا الذي كذبته روحه صارخة:
ابقِ هنا حتى ولو قولت ارحلي 
انكمش حاجبيها باستغراب وهي تسأله:
ايه؟ 
كرر وهو يبتلع غصة مريرة في حلقه:
بقولك روحي.
وهنا ردعه فؤاده الذي أخبرها بما لم تسمعه:
محال أقصدها وأنتِ تعلمي 

أكمل وهو يقف ويعطيها ظهره وبعينيه بوادر الدموع:
لما شقتك تخلص هبقى اجي اخدك.
وكأن كله يعترض طالبا باستغاثة:
ابقِ هنا حتى ولو صار الزمان معذبا 
ابقِ هنا حتى ولو ضاق المكان بما رحب

لاحظت ارتعاشة كفه، تعابيره الممتعضة إثر شعوره بالغثيان والتي داراها بوقوفه وعدم النظر إليها... استقامت واقفة وأصرت على أن تقف أمام وجهه لتخبره أنها ترى كل شيء، لن تكون كخالته تسايره في أوقات نوبته، هذا لم يفلح معه، يجب أن يعرف أنه يضر نفسه أولا. 
وقفت أمامه وسألته بعينين بان التحدي فيهما:
عايزني أروح ليه؟... أنا عايزة أكون معاك على فكرة محدش غاصبني. 

احتدت نظراته وهنا فقط علمت أن نوبته بدأت وهو يخبرها بانفعال:
وأنا قولت تروحي... وكلامي يتسمع. 

_ هتطردني يعني؟
سألت هذا فضرب بكفه على الطاولة بغضب وداخله يعترض ويجيب قبله:
ابقِ هنا ياروح أعطتني السلام، بعد حروب دمرتني وأنتِ تعرفي
بينما فمه يكرر محاولا بكل جهده ألا يفلت كل مالديه من صبر :
اسمعي الكلام يا "ملك" وامشي. 

هزت رأسها نافية وهي تخبره بكبرياء:
عمو نصران قالي إن البيت ده بيتي، وطالما وجودي هنا مقلل راحتك...أنا راحة عند رفيدة.
كانت تتحرك ناحية الباب ولكن جذبها، قال بعينين صادقتين:
متمشيش... أشار على فؤادها مكملا بدموع:
أنا راحتي هنا يا "ملك".
وكأن جملته هذه انتصار قلبه وروحه بعد صراع طويل انتصار جعلهما يقولا نيابة عنه:
مهما حييت لن ترحلي..ابقِ هنا. 

تشبثت به بكل قوتها، تخبره أنها لن ترحل، احتضنته وربتت على ظهره ولكن حين رفعت وجهها لتنظر لعينيه وجدته وللمرة الأولى لا يطالعها، يشعر بوخزات في ساقيه وذراعيه وظهره... جعلته يجلس على الأرضية رغما عنه فأسرعت تجاوره سائلة بخوف:
مالك يا "عيسى" 
كان الرد هو تحول الوخزات إلى نفضات لا إرادية شعر بأنها تسري في كامل جسده، وهي شهقت بصدمة وعرف البكاء طريقها وهي ترى حالته هكذا، وكأن أحدهم يصعقه بالكهرباء فينتفض هكذا... لا يوجد أنفاس إنها تسرق منه وهو يتشنج هكذا وترتفع رأسه عن الأرضية وتعود لها مجددا، هي وكامل جسده... تجلس على ركبتيها جواره ونحيبها لا ينقطع، تعالت شهقاتها فالصدمة شلتها، حتى الصراخ ذهب صوتها فلم تقدر عليه... ويبدو وككل مره أنه الفائز... أنها دائما ستشهد معه ما لن تنساه أبدا. 
هي قرأت عن اضطرابه، عرفت من قبل أن هذا يمكن حدوثه نتيجة إهماله، حدوث حالة صرع... رأت إسعافاتها من قبل وحاولت جاهدة إبعاد صدمتها فأسرعت تحضر مجموعة من ملابسه القطنية من خزانته طبقتها معا ووضعتها تحت رأسه، هكذا فعلت الخطوة الأولى بأن وضعت قطعة ناعمة تحت رأسه ثم اتجهت للخطوة الثانية وحركته بلطف ليصبح على جانبه اليمين، كانت حريصة للغاية معه وأبعدت كل شيء حاد من حوله، لم يأخذ الأمر أكثر من دقيقتين حتى سكن تماما، واستغرق ثلاث دقائق لا يشعر بشيء حوله حتى استطاع أخيرا أن يحس بروحه تُرد له، أتاه الاسترخاء ويشعر بأنفاسه من جديد...أما هي فتمسح دموعها بعنف وتحدثه بكل هدوء:
اهدى... اهدى مفيش حاجة حصلت. 
هكذا طمأنته فلقد عرفت أيضا أنه يجب التعامل معه بكل هدوء حين يسكن، مسحت على وجهه بلطف، وأعطته ابتسامة وهي تمسح على خصلاته برفق تطمأنه وهي تحتاج لمن يطمأنها... فرد ذراعه لها على الأرضية فوضعت رأسها عليه وضمها هو فسندت وجهها على صدره وبدأت في البكاء بصمت ولكن شهقاتها كشفتها فسألها مبتسما بإرهاق:
بتعيطي ها؟ 

حاولت القيام حين سمعت دقات الباب ولكنه تشبث بها طالبا:
خليكِ... في واحد حمار من شوية قالك روحي 
رمقته بعينيها الدامعتين فأكمل بابتسامة أسرتها:
متسمعيش كلامه تاني. 

خافت عليه بشدة، اللحظات التي تشعر فيها بأنها ستفقده تمر عليها وكأنها موتها، حين تفكر فيها تغفل عن كل شيء، حتى أنها لم تسمع سوى دقات فؤادها واقتربت منه وقبلت عنقه، للمرة الأولى تصدر منها لم يتوقع هذا أبدا.... وتبع هذا زوجة والده تفتح الباب، شهقت "سهام" بصدمة وتراجعت للخلف، وتجمدت "ملك" وشعرت بالدماء في كل إنش في وجهها أبعدت وجهها عن عنقه وحاولت جذب قوتها لتعتدل من هذه النومة على ذراعه ولكنها سمعته يقول هامسا وهو يضحك:
المرة دي مش أنا اهو... علشان مترجعيش تقوليلي بتكسفني وبتاع. 
أغمضت عينيها بقوة ووضعت كفها على فمها لا تستطيع الاستدارة لمواجهة "سهام" وهو يكمل بنفس نبرته المنخفضة ضاحكا على هيئتها:
فتحي عينك كده. 

فتحتهما تطالعه بحرج شديد زاده هو بقوله:
عينيكِ دي هتوديني في داهية.
ضحكت وهي تضع كفها على فمها بنفس حالتها 
فغمز لها قائلا:
بتضحكي ها 
استدار ينظر ناحية الباب بغضب من وقاحة زوجة والده التي فتحت الباب بهذه الطريقة دون أي اعتبار... كانت قد أخذت جانبا، وعادت من جديد لتلتقي بنظراته، حاولت الثبات وهي تخبره:
مراتك امها واخواتها تحت، وأنت الحاج عايزك. 

أخيرا تجرأت "ملك" و استدارت فلمحت في عينيها لها نظرة ساخرة قتلها "عيسى" بقوله وهو مازال نائما على حالته:
المفروض إن دي أوضتي، والمفروض إن مراتي معايا فيها... والمفروض إن كلك نظر. 
وبما إن مفيش نظر فالأوضة دي محدش يدخلها تاني غير لما أقوله يدخلها. 

أنهى حديثه وساعدته "ملك" حين رأت أنه يريد الاعتدال، ما إن اعتدل جالسا حتى احتضنها أمام نظرات زوجة والده... عيناه وعين "سهام" كتل من اللهيب.. وخاصة هو، هو القاتل بردوده والصادم بأفعاله، زين جانب ثغره ابتسامة رأتها "سهام" 
ابتسامة تؤكد على أنه ملك كل شيء، وخاصة المفاجأة. 

تعليقات



×