رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل الثالث والثمانون بقلم فاطمه عبد المنعم
لن تكون الفائز دائما مهما حاولت...
رد عليه نصفه الأقوى رافضا:
بلا أنا الفائز دائما وليس لي هدف سواه.
ليقول نصفه الاخر ساخرا:
من قال أن الفوز هدف؟... الهدف الحقيقي أن تبقى آمنا، أن تأسرك برائتها في كل مرة وتعيدك لأنقى نقطة بك.
وأتى رد النصف المسيطر:
أحمق وستظل... مكسب برائتها كان أول خيوطه هو فوز قمت به، وكذلك الحفاظ عليه سيكون بفوز أقوم به.
رد عليه النصف الذي عرف النقاء معها:
ستبقى لأجلي، لا أريد الفوز، لا أريد أي شيء سوى أن تبقى... سوى عينيها التي لا تُنسى أبدا.
الوضع متأزم للغاية، هي على خطوات من الموت، كانت "سهام" تطالعه بغير تصديق وهو ثابت لا يتزحزح والسكين على عنقها، صفعتها أيقظت طاقة غضب جبارة داخله، هتفت مسرعة بخوف:
أنت ايه اللي بتعمله ده؟
رأى الذعر في مقلتيها فسألها:
بقى بتمدي ايدك عليا أنا؟
شعرت بالاختناق وهو يكمل بوجه مكفهر:
مفكراني أنا اللي قولتله وفضحتك فقولتي تشفي غليلك مش كده؟... احتدت نظراته وهو يخبرها:
ايدك قبل ما تتمد عليا تتقطع، أنا مش ابنك "طاهر"، ولا " فريد" اللي كل ما تتكلمي تقولي إنك ربتيه زي عيالك... أنا "عيسى" يا مرات أبويا.
تجمعت الدموع في مقلتيها وهي ترجوه:
طب ابعد السكينة يا "عيسى"، ابعدها بالله عليك.
أبعدها بالفعل ولكن بعد لحظات أتلف فيها المتبقي من أعصابها، أخبرها وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة وقد ظنت أن حياتها ستنتهي على يده:
مش أنا اللي قولت لابويا، طلع في غيري عارف الليلة،
شوفي بقى هتقوليله ايه.
قال جملته الأخيرة بتشفي جعلها تمسك ذراعه وهي تتوسل:
نصران عرف ايه؟... علشان خاطر اخواتك قولي.
أبعد يدها وأخبرها بتعابير مقتضبة:
ايدك دي لو عايزة تحافظي عليها متخلينيش أشوفها...
علشان أنا الإيد اللي بتتمد عليا بقطعها.
أنهى جملته وترك لها المطبخ، تسارعت أنفاسها وازداد شحوب وجهها، من يعرف بسرها غير شقيقها وابن زوجها... هل عرف " نصران" حقا أم يلاعبها "عيسى"؟
بقت على حالتها هذه ولا يسيطر عليها سوى شيء واحد سوى الخوف.
★***★***★***★***★***★***★***★
أراد النوم بشدة لكن النوم يجافيه ولا يهاجمه سوى ألامه الجسدية والنفسية، كان هذا حال " شاكر " في منزل والد زوجته، علم من زوجته أن والدته وشقيقته قد أتوا وسمع "علا" تعترض:
مكانش ليه لزمة يا "بيريهان"، كنا فضلنا في البيت عندنا.
ابتسمت لها " بيريهان" بوداعة وهي ترد عليها:
يا علا بابا أساسا طول الوقت في شغله وساعات بيغيب بالأيام، وأنا بصراحة حابة شاكر يفضل هنا لحد ما اتأكد إنه خف خالص، هنا هقدر اوفرله حاجات أكتر، أول ما يقوم بالسلامة إن شاء الله نرجع كلنا...
أكملت بترحيب:
و بعدين ده بيتكم أنتم كمان.
ابتسمت "كوثر" بامتنان وتأملت "علا" المكان من حولها، كل شيء هنا ينطق بالثراء، ثراء فاحش وعلى الرغم من اعتيادها على منزلهم الذي يعد منزل كبير البلدة وأفضل ما فيها ولكنها هنا رأت ما لم تشهده قط.
كان "شاكر" في غرفته، الأضواء مغلقة ويتصنع هو النوم، لكن العيون شاخصة، رفع كفه يتحسس جرح وجهه فأغمض عينيه بألم شديد حين شعر بذلك الوجع في جانب معدته، في مكان جرحه، ولكن هذا الألم لا يُقارن بألم المشهد الذي لا يفارقه، حين فُتِحت السيارة وشاهدها معه، حين أخبره بتبجح أنه كان يقبلها، لا يُقارن بألم نزولها من السيارة خشية أن يصيب "عيسى" مكروه... ابتسم بحقد امتزج بالدموع التي سالت من عينيه... تسللت "علا" إلى الغرفة بدون علم "بيريهان" التي طلبت منهم ألا يزعجاه لأنه نام بصعوبة بعد آلامه التي تدافعت عليه اليوم، ولكنها لم تستطع... همست:
"شاكر" صاحي؟
اقتربت منه لتعلم أنه مستيقظ فسألته بقلق:
مالك يا "شاكر" مراتك بتقول إنك تعبت زيادة، أنا مكنتش مع إنك تطلع من المستشفى أصلا، أول ما بيريهان بعتت العربية تاخدني أنا وماما جينا علطول علشان نتطمن... تابعت تسأله بلوم:
طلعت من المستشفى علشان تروح لنصران يا شاكر، البلد كلها بتتكلم النهاردة عن اللي حصل في الساحة هناك... ليه يا شاكر كده بس؟
لمحت دموعه التي تأبى النزول فانكمشت تقاسيمها بلهفة وهي تقول:
حبيبي أنت تعبان أطلبلك المستشفى؟
هز رأسه نافيا فتنهدت بتعب وهي تقول:
علشان "ملك" صح؟
طالعها وأفصح عما في قلبه لها وحدها:
شوفتها معاه، شوفت اللهفة في عينيها عليه لما نزلت تجري من العربية علشانه، قدرت تحبه زي ما قدرت تحب أخوه، اتربت طول عمرها على إنها ليا،
تمكن غضبه منه وهو يضيف:
ويوم ما حبت قلبها مدقش ليا أنا.
أردفت "علا" بصبر قد نفذ من تصرفات شقيقها المرضية:
يا "شاكر" حرام عليك... والله العظيم حرام عليك،
ملك إيه دي اللي تفكر فيها تاني بعد اللي أنت خدتها،
خدت واحدة أحسن منها كفاية بس اسم عيلتها، بتتمنالك الرضا ترضى، واللي خلقني كانت هتموت نفسها عليك يوم ما لقيناك سايح في دمك... الحب مش بإيدينا يا "شاكر"
هذا ما أدركته حقا بعد تجربتها مع "محسن" وأكملت:
أيوه عارفة إنك من زمان عايز "ملك"، وإنك اتربيت على إن كل حاجة بتاعتك وليك وبس... لكن ده كان غلط.
ضحك باستهزاء وهو يرد عليها:
غلط؟... طب ما أنتِ اتربيتي على إن بنت كوثر لازم دايما تبقى أحسن من بنت هادية اللي راسها براسها... أنتِ نسيتِ ولا إيه؟، أمك كانت دايما عايزة تخليكِ أحسن من شهد اللي اتولدت في نفس السنة معاكِ، نسيتي لما كبرتي على كره " شهد"، ولا لما خلينا أبوها قعدها من المدرسة علشان هو كان خلاص بيكح تراب، وأبوكِ اللي بيديله، ساعتها أمك زنت على أبوكِ علشان الست علا هانم كل يوم تعيط بسبب إن ازاي شهد تبقى أشطر منها، وأبوكِ قاله كفاية تعليم لملك بس، شهد تخليها في البيت أحسن
بدأ في ترديد حديث والده الذي تحفظه عن ظهر قلب:
أنا عايز مصلحة الكل، هنطلعها من المدرسة السنة دي بس كده على ما الظروف تتحسن معانا يا اخويا، وعلى السنة الجاية ابقى اقدملها في مدرسة احسن منها مية مره.
هاجم عينيها بخاصته سائلا بضحكة مستهزأة:
نسيتِ ولا ايه؟... ده أنا وأنتِ كنا واقفين نسمع من ورا الباب سوا... ولا نسيتِ لما كانت أمك تقعد تستفز في أبوها وتشتكي منها وتقول فيها اللي مش فيها لحد ما أبوها يشيط ويقوم ياكلها العلقة التمام، وعمك بقى الله يرحمه في اخر أيامه بعد الخسارة اللي خسرها بقى دلدول أوي.
_ بس... اسكت.
هكذا ردعته وقد انكمش حاجبيها لا تصدق أنه يتفوه بحديث كهذا ببساطة ليكمل هو ضاربا بقولها عرض الحائط:
لو معتبرة إن تربيتي غلط، يبقى أنتِ كمان يا "علا" متربية غلط، بس أنا بقى مش شايف إنها غلط، هو ايه الغلط لما أربي ابني على إنه يعرف قيمته؟.... أنا عارف قيمة نفسي كويس، صحيح زي ما بتقولي اتربيت على إن كل حاجة بتاعتي بس ده علشان أنا استاهل إن كل حاجة تبقى بتاعتي، حتى هي كانت عارفة من زمان إنها بتاعتي...
قاطعته وقد حرصت على أن تكون نبرتها منخفضة وهي تنطق باعتراض:
هي مش لعبة يا شاكر، هي انسانة وأنا حسيت احساسها لما كنت عايز تغصب عليا الجواز من محسن... يمكن أنا ضحيت وكنت هتجوز غصب عني وهي معملتش ده معاك، بس هي مش مطلوب منها تضحي بحياة كاملة مع واحد مبتحبهوش.
كلماتها كالسوط مما جعل نظراته تشتعل وقبل أن يطردها طلبت منه برفق:
اقفل على الموضوع ده بقى ... خليك مع مراتك، خليك مع "بيريهان"، أنت ربنا اداك فرصة تبتدي، اداك واحدة بتحبك ومفكراك بتحبها، أنا سكتت على كل حاجة وقولت خلاص هتبدأ معاها، ارمي الماضي بقى، ارمي ملك وسيرتها يا " شاكر".
كالصنم لا يتأثر، وكأنها لا تقول شيء وقطع حديثها دخول "بيريهان" التي تفاجأت بوجودها فعلقت بغيظ امتزج بابتسامتها:
برضو عملتي اللي في دماغك ودخلتيله.
بادلتها "علا" الابتسامة وهي تترك الفراش وبررت وجودها بقول:
كنت بتطمن عليه.
استأذنت بأدب هاتفة:
هسيبكم بقى، تصبحوا على خير.
غادرت "علا" الغرفة وهي تطالع شقيقها برجاء أن ينفذ ما طلبته، ما إن غادرت حتى جلست "بيريهان" على الفراش أمامه سائلة وهي تمسح على الندبة في وجهه بحنان:
أنت لسه تعبان يا حبيبي... ارتاحت شوية عن الأول؟
هز رأسه بابتسامة فسألته للمرة التي سأمت من عدها:
طب ممكن تقولي اللي حصل يوم فرحنا؟... أرجوك تقولي حصلك إيه؟
_ هو احنا مش اتكلمنا مرة وقولنا قفلي على السيرة دي بقى يا "بيري"؟
كان هذا رده الذي جعلها تطالعه بعتاب فأعطاها ابتسامة قائلا بتدارك للموقف:
متزعليش... بس علشاني بلاش كلام دلوقتي.
وافقته بوداعة، وتمددت جواره فتناول كفها يحتويه بكفه وهو يقول بمشاكسة:
علا بتقولي انك مكنتيش قلقانة عليا أوي.
ردت عليه مسرعة بمشاعرها الصادقة:
أنا متأكدة إنها مقالتش كده... أنا كان هيجرالي حاجة يا " شاكر" .
قبل ظهر كفها بعد جملتها هذه ونظر لعينيها وهو يقول بما لم يحسه قط:
أنا بحبك أوي، أنتِ أول واحدة تخليني أقول الجملة دي.
_ واخر واحدة إن شاء الله
قاطعته بهذا فضحك قبل أن يكمل:
واخر واحدة يا ستي...
نامت على صدره بخفة فمسح على خصلاتها قائلا:
بعد ما افوق شوية، اختاري أي مكان نسافر نقضي فيه يومين.
هتفت مسرعة باعتراض وقد اعتدلت له:
يومين بس؟
ابتسم وهو يطالعها قائلا:
أسبوع، شهر، سنة بحالها علشانك يا ...
توقف عن المتابعة واختفت ابتسامته تماما، كان سينطق باسم "ملك"، طالعته باستغراب لتوققه عن الحديث وكان هو سريع التصرف حيث طرح سؤال جعل الأمر يبدو طبيعيا:
أنتِ بتحبي " بيري" أكتر ولا "بيريهان"؟
أعطته ابتسامة واسعة وهي تجاوب على سؤاله:
أنا بحب الاتنين، وأنت بقى مسموحلك تقول أي اسم.
مال عليها يقبل رأسها وعلا وجهه ابتسامة ظافرة... سرعان ما تحولت لمتهكمة وداخله يتحدث:
أنا لو قولت الاسم اللي عايز أقوله هتاخدي مقلب عمرك يا بنت الوزير.
تلاقت الأعين فعلا وجهه ابتسامة أسرتها ولكنه بمكره أخفى خلفها الكثير والكثير.
★***★***★***★***★***★***★***★
حمدت ربها أن ليلة أمس مرت ولم يطلب حضورها، بقى وقت طويل مع " طاهر" حتى غفا في غرفته، الجميع في غرفته إلا هي تجلس في الردهة متأهبة لحدوث أي شيء، الاستيقاظ مبكرا للغاية هكذا ليس من عادته فالساعة مازالت الثامنة صباحا، ولكنها لمحت "نصران" ينزل على الدرج، تبادلا النظرات، وسألته بنبرة خرجت بصعوبة:
صاحي بدري كده ليه؟
_ مكنتش عارف أنام.
كلماته موحية ولكنها تجاهلتها وسألت بارتباك:
تحب أعملك فنجان القهوة بتاع الصبح؟
هو رأسه نافيا ونظراته تحاوطها، فابتلعت ريقها بتوتر زاد بقوله:
تعالي ورايا يا "سهام" عايزك.
رأته يذهب ناحية غرفة مكتبه فلحقت به بخطوات لم تكن متزنة أبدا، وصلت إلى الغرفة وجلست على المقعد المقابل له ولم تستطع حتى السؤال عن السبب، بدا وجهها شاحب للغاية وهي تتابعه يخرج من درج مكتبه هاتف محمول ويفتح شيء ما ثم يضعه بين يديها قائلا:
اتفرجي كده.
التقطت أنفاسها بصعوبة وبدأت في مشاهدة ما طلبه، جحظت عيناها مما تراه، لا تصدق أبدا، ترى "عيسى" وصديقه، وابنيها معا يلقنون "شاكر" درسا قويا، اختفى الشحوب من وجهها وحل محله التحفز، وهي تشاهد من قتل ابنها يتلوى وجعا، بدا الأمر دموي بالنسبة لها في هذه اللقطة تحديدا فأغمضت عينيها وانكمشت تقاسيمها باشمئزاز، فتحت عينيها من جديد لتتابع المشاهدة، رفعت الصوت تسمع تأوهاته، تلاحقت عبراتها وهي تتذكر فقيدها ثم ابتسمت بتشفي وهي ترى ما يحدث لمن غدر به، الآن فقط عرفت من وراء ما حدث يوم زفاف "شاكر" الذي تحدث عنه الجميع، كانت تشك أنه "عيسى" ولكنها الآن تيقنت... لم يكن وحده كانوا عصبة، استطاعوا أن يطيبوا قليل من جراح قلبها على ابنها الراحل.
ما إن انتهى الفيديو حتى طالعت "نصران" بابتسامة من بين دموعها فسألها:
بتعيطي ليه يا "سهام"؟
قالت بأسى:
افتكرت ابني، وفرحت واتشفيت من اللي عمل فيه كده.
_ ابنك ولا ابن ضرتك؟
ثبتت نظراتها أمام سؤاله واستدارت له تسأل باستنكار:
بجد أنت بتسأل السؤال ده؟... ما هو لو أنا بعتبره كده أكيد أنت كمان بتعتبر " طاهر" ابن أخوك.
رد عليها رد قوي أسكتها:
طاهر أنا عمه، يعني راح ولا جه هفضل برضو محل أبوه، غصب عنه هفضل أبوه، إنما أنتِ بقى بالنسبة لفريد مرات أبوه، مفيش حاجة هتجبرك تبقي أمه.
لمع بريق حزين في مقلتيها وهي تصحح له:
لا يا "نصران" أنا أمه زي ما أنا أم اخواته، لو كنت مرات أبوه بس مكانش زماني لسه لحد دلوقتي محروقة إنه اتاخد مني، أنا اللي ربيته وكبرته، أنا اللي العمر اللي عاشه قالها يا ماما.
علق بابتسامة:
علشان أمه ميتة.
دبت القشعريرة في جسدها ودافعت مسرعة عن حقها الذي يسلبه عنوة:
يمكن علشان أمه ميتة، بس أنت أكتر واحد عارف إني حبيته أكتر من عيالي، الوقت اللي طاهر كان بينام فيه في أوضته، فريد كان بينام في حضني، أسراره كلها كانت معايا أنا، تسابقت دموعها وهي تخبره:
كان علطول يقولي أنا لو دفعت عمري كله يا ماما علشان أرد اللي بتعمليه هيبقى قليل أوي...
واجهت زوجها بنظراتها وهي تؤكد:
كان بيحبني يا "نصران"، وأنت عارف إني عمري ما كنت بالنسباله مرات أب.... أنا عملت معاه اللي لو أمه عاشت عمرها كله تحاول تعمله مش هتعرف، عارف لو كنت أعرف إن عمره قصير كده؟
راقب مقلتيها و تلألأ الدموع فيهما وهي تتابع:
مكنتش حبيته، كنت عيشت معاه على إنه ابن جوزي وبس، علشان الوجع اللي في قلبي والنار اللي دايرة تكوي جوايا من بعد ما راح حتى أنت مش هتحس بيها.
طالع صورة ابنه الموضوعة على المكتب بحزن ثم طالعها وهو يسأل:
كنتِ عايزة تعوضيه عن أمه مش كده؟
سالت دموعها أكثر وطالعته تقسم له أنها لم تكن سبب:
أقسم بالله العظيم ما كنت موافقة على اللي عمله.
صدمة اخرى سقطت على رأسه فسألها بذهول:
يعني كنتِ عارفة؟
شخص بصرها هل كان يجهل بمعرفتها، إذا ما الذي عرفه بالضبط
ارتفع صوته يواجهها:
كنتِ عارفة إن أخوكي قتلها.
ارتعدت بخوف، وصاحت ببكاء:
اه كنت عارفة، مكنتش عارفة إنه هيعمل كده، أقسم بالله ما عرفت غير بعد ما عملها وطردته.
كرر خلفها بحاجبين قد رفعهما باستنكار:
طردتيه!
حرك رأسه بغير تصديق وهو يوجه سؤاله:
يعني أخوكي قتل مراتي، وكل اللي ربنا قدرك عليه إنك طردتيه؟
تركت مقعدها وهرولت لتجلس أمام قدميه، تبكي بشدة وهي تصرح لما لم تذكره من قبل مطلقا:
طول عمرك عارف إن حاله مايل، شافته بيسرق حاجة من مكتبك، وأنت عارف ساعتها إن أيام المرحوم الكبير كان دخول المكتب ده فيها قطع رجل، ما بالك اللي يحاول يسرق منه؟، مش فاكر لما واحد من الشغالين حاول أبوك عمل ايه؟.... قطع ايده وطرده من هنا يا نصران
التقطت كفه وطلبت منه برجاء أن يطالعها وهي تكمل:
والله العظيم ما ببررله، هو خاف تفضحه عندكم، والحاج الكبير مش، زيك يا "نصران"، أنت بتحل بحكمتك، هو كانت قسوته سايقاه، أخويا استغل فرصة انها تعبت...
أبعد نصران يدها وهو يعلق بمقلتين لمع فيهما صدمته فيها:
وقال هي كده كده تعبانة و بتخلص، فاديها حقنة تخلص عليها خالص، قبل ما تلحق تقول حاجة.
شعرت بالأنفاس تُسرق منها وهي ترى ما عاشت عمرا تعمره يحل عليه الخراب أمام عينيها، ابتلعت غصة مريرة في حلقها وردت:
أنا مش هو، أنا مش مسؤولة عن اللي عمله...
صرخ يسدد لها تهمها:
أنتِ داريتي عليه، أنا كنت عامله مرتب شهري، أنا لحد النهاردة بصرف على مرات وعيال اللي قتل مراتي، أنتِ الوحيدة اللي كنت بثق فيها...
فعل الماضي جعلها تسأله بخوف:
كنت يا نصران؟... كنت؟
هزت رأسها بغير تصديق وهي ترفض قوله:
لا يا نصران لا... أنا صحيح خبيت بس علشان خوفت، خبيت علشان هو أخويا، علشان مكنتش هقدر والله ما كنت هقدر، كنت هاجي أقولك ايه؟... أخويا قتلها؟
مسكت كفه من جديد وهي تقسم بألم:
المرتب ده أنا خليتك عملتهوله علشان أقطع رجله من هنا بعد عملته، علشان ميجيش تاني، أنا لما كان بيطلب يشوفني كنت بقابله في أي حتة برا، من بعد عملته مدخلتوش بيتك....
نظر لها بدموع صدمته فيها فصاحت بأسى:
أنا عوضت ابنها، عيشت معاك صايناك، ربيت "فريد" تربية مربتهاش لولادي، عيشت عمري كله أكفر عن الذنب ده....
أدركت أنه لا يعرف أي شيء عن أمر اتفاق شقيقها مع "منصور"، وخشت أن تقول حتى لا تُقام الحروب بين العائلتين، الصراعات القديمة تطاردها، أكبر مخاوفها أن تتجدد، المناوشات بينهما عنيفة فكيف ستكون المواجهة؟
دفنت وجهها في صدره صارخة بانهيار:
افتكرلي أي حاجة حلوة سامحني عليها، وغلاوة
" فريد" عندك تسامحني، وحياة أي حاجة حلوة عملتها يا نصران، متضيعش السنين اللي بيننا، متهدش البيت ده... متهدش اللي قعدت سنين ابنيه.
هتف وهو يبعد وجهها عن صدره ليطالع عينيها:
اللي اتبنى، اتبنى على دمها... أنا مش قادر أصدق يا "سهام"، مش قادر أصدق إني عيشت طول عمري أكرمه وأنتِ مخبية عليا إنه قاتل مراتي
_ خبيت علشان نكمل، علشان حبيتك والله العظيم... حبيتك لدرجة افديك بروحي، لو طلبتها دلوقتي يا نصران هديهالك.
لم يكن في حالته الطبيعية، حتى الاسئلة توقف عقله فلم يعد يستطيع توجيهها، سألها بنبرة قتلتها:
يوم ما اتضرب في ضهري يبقى منك يا " سهام" ؟
هزت رأسها نافية تبكي بحرقة، وتبرر مدافعة:
والله يوم ما قالي إنه حاول يسرق طردته، ولما أنت دخلته البيت تاني وعملها وجه قالي مكنتش مصدقة، مكنتش عارفة أتصرف ازاي... أنا كل يوم بنام دموعي على خدي بذنبها، بتوجع كل يوم يا نصران.
صرخ بألم:
وأنا دلوقتي بتوجع أكتر على حق مراتي اللي عيشت طول عمري أكرم التعبان اللي قرصها
صرخت بنفس نبرته وقد طفح كيلها، صرحت بوجع عليه ووجع على هذا الحدث:
حقها مراحش... ابنك قتله يا نصران .
الظن الذي عاش عمرا يكذبه، ابنه الذي كان يشك دائما أن سبب بعده هو كارثة دمرت جزء منه، سبب نفوره من سهام بالتأكيد أمر ليس هين وتأكد ظنه وزاد تعب قلبه وهي تقول:
عيسى قتل أخويا، عيسى خد حقها.
لم يكن تصريحا عاديا، بل كان قول من الأقوال التي لا تُنسى أبدا.
★***★***★***★***★***★***★***★
لم ينم "عيسى" أبدا، بقى مستيقظ، أحداث الليلة الماضية لا يمكن معها النوم، بداية من سماعه لتلك السيدة تفصح بالسر لوالده، ثم شجار "طاهر" مع "جابر"، ثم حديثه مع " سهام" وصفعتها له... كان متعبا حقا، ولكنه اتجه إلى خزانته أخرج منها ملابسه ثم اتجه إلى المرحاض، أعطت المياه لجسده بعض النشاط؛ فارتدى ملابسه مسرعا، قميصه الأبيض الذي علاه جاكيت خريفي كحلي اللون وسروال أسود، مشط خصلاته وخرج من المنزل بأكمله باكرا قبل حتى أن يستيقظ والده ولكنه لا يعلم بالمواجهة الساخنة التي تحدث في المنزل الآن... وصل إلى مكان يستطيع أن يسكن فيه، ذلك الجسر المطل على البحر، كان جالسا بمفرده يتأمل المياه، اعتاد أن تأتي معه إلى هنا، يحتاجها بشدة الآن، يحتاج وجودها... تردد كثيرا ولكن حسم أمره أخيرا فأخرج هاتفه وقام بالاتصال، مرة، الثانية ولم ترد قرر أن يفعلها للمرة الثالثة ويتوقف... وبالفعل قام بالاتصال فردت في هذه المرة، كان صوتها ناعسا وهي ترد فاعتذر:
أنا أسف لو صحيتك.
بقت صامتة تنتظر سبب اتصاله فنطق اسمها مما جعلها ترد:
نعم.
_ متزعليش مني... أن....
قاطعته هاتفة بانزعاج:
لا زعلانة، وأنت أحرجتني جدا، وحتى لو مش قدام أي حد، ايه غوري دي؟
_ براحتك يا "ملك" طالما مش عايزة تسمعي حاجة.
كان هذا رده بعد مقاطعتها له، كاد أن يغلق ولكنها سألت:
يعني أنت متصل علشان تقولي كده؟... عيسى أنت كلمتني بطريقة وحشة...
كان رده صادق حقا وهو يقاطعها:
أنا أسف.
شعرت باحتياجه لها في نبرته فسألته بقلق:
أنت كويس طيب؟
جاوبها بالنفي:
لا مش كويس... ولا هكون كويس الأيام الجاية.
_ هو أنت فين طيب؟
توقعت أنه بالمنزل ولكن رده جاء مخالفا:
على الجسر.
أخبرته برفق:
طب بص هما كلهم نايمين، أنا هلبس واجي اقعد معاك شوية.
_ لو مكنتيش قولتي كده كنت هقول إنك معندكيش دم.
حتى في أشد حالات تعبه تعليقاته هذه لا تفارقه، ضحكت على قوله ثم ردتها له:
ولو مكنتش قولتلي غوري امبارح كنت هقول إن ربنا شفاك وبطلت قلة ذوق.
ضحك على جملتها وقال:
حبيبة قلب بابا... بتلقطي بسرعة واتعلمتي الرد اهو.
ضحكت وهي تهتف بغيظ:
اقفل يا "عيسى" علشان البس واجيلك.
اغلقت معه بعدها بالفعل واتجهت للمرحاض من أجل الاستعداد للخروج، لم تأخذ الكثير من الوقت حتى وصلت له، ابتسمت براحة وهي تقول من خلفه:
اخر مرة جيت هنا لقيتك مضروب رصاصة.
استدار لها ما إن سمع صوتها، ترك مكانه واستقام واقفا وبدون أي كلمة احتضنها كصغير لم يجد مأواه إلا بها، تشبثت به هي الآخرى، كرر قوله هذه المرة وهو يحتضنها:
متزعليش... أنا اللي اغور في ستين داهية يا ستي.
ابتسمت وطمأنته بقولها اللين:
خلاص مش زعلانة.
ما إن ابتعد حتى طلبت منه:
ممكن تقولي إيه اللي احنا سمعناه امبارح ده... قولي أي حاجة.
تنهيدة حارة صدرت منه تبعها بقوله:
مش هقدر أقول أي حاجة، على الأقل دلوقتي... أنا بس عايزك معايا.
قطع حديثهما رسالة من والده يطلب منه فيها المجيء، علم أن هناك كارثة ولكنه قرر مواجهتها، أخذ "ملك" معه وتوقف بسيارته أمام محل والدتها، جملته ترن في أذنها، يحتاجها، ولكنها نزلت مترددة بين هذا وذاك، أما هو فعلى الرغم من احتياجه الشديد لها رأى أنه من الأفضل لها أن تبقى هنا، ألا تشهد ما سيحدث في منزل والده خلال الأيام القادمة، لأول مرة يرفض تواجدها ببيت والده ولكنه في الدقيقة ذاتها يحتاجها وبشدة.
تابعت سيارته وهو يرحل، وما إن رحل حتى صعدت سريعا إلى والدتها، لن يفيدها غيرها... بعد أن قام بتوصيلها لم يعد لوالده...استغرق هو وقت كثير في التجول بسيارته قبل العودة، ما سيقال ثقيل جدا على قلبه، كان "نصران" في المنزل ينتظره بتأهب، وظن أنه جاء حين سمع حركة في الخارج ولكنها لم تكن سوى "ملك"، " ملك" ؟، وفي هذا التوقيت المبكر، استفسر منها سريعا بقلق:
في حاجة يا بنتي.
في الخارج وصل هو، قابل "يزيد" الذي استيقظ للتو، ويجلس على الأرجوحة فقال بضحك:
على الصبح كده يا يزيد.
أنزل الصغير بناءا على طلبه ثم سمعه يقول بتحدي:
جدو مستنيك جوا، يلا نجري ونشوف مين هيسبق.
ضحك ورفع حاجبيه حين بدأ الصغير في الهرولة، فهرول هو الآخر خلفه... كانت "ملك" في الداخل تقف في الردهة أمام "نصران" ووقفت الخادمة الجديدة بجوار حائط المطبخ ترى من هذه ولماذا أتت، خرجت "سهام" من غرفة المكتب وهي تمسح بقايا دموعها وثبتت عند رؤية "ملك"، هل ظن عيسى أنها نهاية تواجدها هنا، فأتى بزوجته لتحل محلها كما خطط دائما... صدق ظنها حين سأل " نصران":
في حاجة يا بنتي، حد مش بخير؟
هزت ملك رأسها نافية وجاوبته وهي تتجول بعينيها باحثة عنه:
أنا جاية علشان "عيسى".
_ أنا وصلت.
قالها " يزيد" وقد وصل هو وعيسى بأنفاس لاهثة، أصابت الصدمة "عيسى" من تواجدها وأكملت هي قبل أن تلتفت للصغير:
هو فين "عيسى"؟...
التفتت لتسلم على الصغير فلمحته يقف خلفه، قالت له بابتسامة هادئة:
أنا جاية علشانك... بس مكنتش لاقياك.
وعلى الرغم من رغبته ألا تشهد ما سيحدث إلا أنه فرح كثيرا، فرح لدرجة جعلت ضحكته تزين وجهه
و" سهام" تطالعهما بنظرات قاتلة من الخلف، وعلى الرغم من حالة نصران الناتجة عن الصدمات المتلاحقة إلا أنه شعر ولأول مرة أن زوجة ابنه تدخل هنا بإرادتها، تدخل من أجل ابنه وليست مجبرة أبدا.
ابنه الذي تختاره من جديد، تخبره دائما أن فيها ما ليس في غيرها، تعطيه ما فقده وحُرِم منه ببراءة أفعالها وتجعله في كل مرة يردد:
دائما وأبدا تأسرني براءتك، ودائما وأبدا أنا قادم.