رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل التاسع والسبعون بقلم فاطمه عبد المنعم
سهير ليالي و ياما لفيت وطفت
وف ليله راجع في الضلام قمت شفت
الخوف … كأنه كلب سد الطريق
وكنت عاوز أقتله .. بس خفت
عجبي !!
(صلاح جاهين)
موقف لا يُحسد عليه، وهي تكرر على أذنه ما دونه بيده على صورة حبيبته القديمة، كانت تقرأ عليه بمرارة تطالعه تارة وتطالع الصورة بيدها حتى خرج أخيرا عن صمته قائلا:
الصورة دي قديمة.
عذر أقبح من ذنب جملة تنطبق على رده الذي جعلها ترفع حاجبيها بدهشة سائلة:
بجد؟... ولما هي قديمة حاططها في درجك ليه؟
اقتربت منه تواجهه بعينيها المتهمتين وتحارب ألا تفلت شهقاتها وهي تكمل:
لما أنت نسيتها زي ما قولتلي على الجسر، ولما أنت حبتني زي ما قولتلي في المحل... شايل صورتها معاك ليه؟
كانت تعابيره جامدة، حتى تتابعت دموعها وهي تقول بنبرة عالية امتزجت بقهرها:
رد.
تناول كفها يحاول تهدئتها وهو يطلب منها:
ممكن تهدي ونتكلم.
حركت رأسها نافية وهي تمسح دموعها بعنف قائلة:
لا مش ههدى لا... لو عندك حاجة قولها... لكن أنت ساكت مبتتكلمش يعني معندكش حاجة
قاطعها يخبرها وعيناه تحاوطها يخبر نقاؤها عن صدق حديث صاحبه:
أنا فعلا كتبت كده وقت ما اتصورت الصورة دي معاها، اتصورتها بعد ما اتخطبنا بشوية، مش هكدب عليكِ وأقولك أنا مكنتش بحب ندى... أنا كنت ممكن أدخل أي علاقة علشان أوري نفسي إني قادر أحب بس أنا حبيت ندى... كنت صغير وقتها وهي كمان كانت صغيرة...
فلتت شهقة منها وحين صمت وحاول مراضتها اعترضت وطلبت:
كمل...
استجاب لرغبتها بالفعل وأكمل حديثه بألم:
أنا كنت مقرر إني هتجوز جوازة عادية من أي واحدة مناسبة، بس لما قابلت ندى حاجات كتير اتغيرت، هي اللي قالتلي في الأول عن مشاعرها وصارحتها إني ببادلها المشاعر دي... أنا لما حسيت اني بحبها اتنازلت علشانها ومش مره واحدة لا كتير... كنت غلطان علشان كنت عمال احرق في مشاعر واهتمام لواحدة شايفة ده حق مكتسب ومفكرتش مرة تعمل حاجة علشاني، وبقيت الظالم الوحش لما قولت لا وسيبتها...
تحول الموقف تماما صارت تطالعه بلهفة تتشوق لمعرفة البقية، لمعرفة حكايته معها وهو يتابع:
أنا مكنتش ظالم لما سيبتها، يمكن اتوجعت أكتر منها بالبعد ده، واتوجعت وانا شايفها بتجري تتجوز علشان توريني إن أنا الخسران... بس على قد ما اتوجعت على قد ما اتعلمت الدرس كويس أوي
هنا احتدت نظراته ترى بهما وجع لا تصفه كلماته هذه وهو يضيف:
كنت شايل صورها وسايب اسمها والكلام اللي كتبته عنها علشان كل ما اشوفهم افتكر إني في يوم ضيعت طاقة كبيرة مني في علاقة غلط، افتكر إن مفيش حد بيدي مشاعر وحب واهتمام ويستحمل إن التاني شايفهم حقه... سيبتهم علشان افتكر إني كنت صح لما قررت ما احبش، واني مكنتش ظالم لما سيبتها زي ما حد دلوقتي بيتقالي،
ابتلع غصة مريرة في حلقه وهو يقول:
مش ذنبي انها دمرت حياتها بإيديها...
كانت تنتظر المزيد وأرضى هو انتظارها بقوله:
وعلى فكرة من بعد ما كتبنا كتابنا بفترة بسيطة أنا شيلت كل اللي يخصها ما عدا الصورة دي علشان اللي كتبته عليها كان صح فعلا... علاقتي بيها ميوصفهاش كلام، يوصفها عمري... قلم من أقلام كتير أوي خدتها وطلعت في الاخر أنا الشرير....وحاجة علشان تبقي عارفاها عني
أنصتت تماما لتسمع:
أنا مش من عادتي إني احتفظ بصور حد، الصور دي هي اللي جبتهالي مع حاجتي لما سيبنا بعض، وكمان اسمها كان طلبها في عيد ميلادها اني اعمله على كتفي... أظن أنا كده حكيت كل حاجة
قال هذه الجملة وهو يجذب الصورة من يدها ويمزقها أمام عينيها بلا تردد، تلاحقت عبراتها وهي تسأل بحزن:
أنت قولت انك سيبت الصورة علشان تفكرك بالدرس، علشان تفتكر متحبش تاني... ده معناه ايه؟
_ معناه تتعلمي تبطلي تقارني نفسك بحد أنا حبي ليكِ مختلف، مختلف حتى عني حبي ليها
وكأنه يمارس السحر فيسلب نظراتها، يسلب قلبها الذي دخل في سباق عنيف وتسارعت دقاته وهو يقول بنبرة آسرة:
حبي ليكِ هو الحب اللي قولت عمري ما هوصل للدرجة دي مع واحدة في يوم، ولو وصلتلها هحط الواحدة دي في محمية طبيعية، مع ندى أنا كنت عارف أنا بعمل إيه في كل خطوة،
لكن معاكِ عرفت يعني ايه الإنسان قلبه مش في ايده
لم يكنا بمفردهما، كانتا عينا سهام تتابعهما من خلف الحائط المجاور لباب الغرفة الذي لم يغلقه "عيسى" عند دخوله... تتابع ما يحدث وابن زوجها يكمل وهو يقرب "ملك" من ذراعها لتصبح أمامه تماما وهو يخبرها:
يعني ايه إنك قوية لدرجة تدي للي واقف قدامك ده حاجة عجز أي حد إنه يديهاله...اليوم اللي أنا اتأكدت إني بحبك فيه عرفت إني كنت موهوم لما فكرت إن اللي قبل كده كان حب...
أغمضت عينيها بتأثر، وحينها مال عليها يضع قبلته على ثغرها ففتحت عينيها على وسعيهما وابتعدت سريعا عدة خطوات للخلف وقد لمحت "سهام" الواقفة لمتابعتهما فقالت بنبرة عالية ذات مغزى:
عيسى طنط سهام عايزاك.
استدار لتظهر "سهام" أمامه وقد كشفت "ملك" تلصصها.. كانت مرتبكة ولكنها سريعا ما وجدت الحل وهي تقول:
أصل تيسير مشيت فأنا حبيت أقولك يعني لو احتاجت حاجة قولي وهجيبهالك... أنا كنت جبتلكم العشا.
_ هبقى اجيبها لنفسي.
كان رده مختصرا وداخله يود لو قتلها على ظهورها المباغت، تنحنحت بحرج جعل "ملك" تقول بابتسامة وهي تتخطى "عيسى" لتصبح أمامها:
شكرا يا طنط على العشا بس برد
احتدت نظرات "سهام" و الواقفة أمامها تتابع:
كنت بتكلم أنا وعيسى.... حضرتك ممكن تروحي ترتاحي وأنا اعمله غيره...
استدارت لزوجها الواقف في الخلف يطالع ما يحدث بدهشة جاهلا الحرب الدائرة بين الطرفين، تناولت كفه وهي تقول بجرأة لم يعتاد عليها منها:
لو مش هعمل لجوزي هعمل لمين يعني؟
_ جوزك؟
لم تحتمل "سهام" عند هذه الكلمة فكررتها خلفها ساخرة ثم بادرت بسؤال:
طب طالما عارفة إنه جوزك... مش الست العاقلة بقى تخليها في بيتها ومتقعدش تتنطط عند امها كل شوية، شقة ايه دي اللي مش عجباكي وعايزة تغي.....
قاطعها محذرا بنظرات حادة وأقوال مغزاها واضح :
تصبحي على خير يا مرات أبويا... وابقي فكريني الصبح أقول للحاج يفكركم على الفطار إن اللي بيتدخل في اللي ملوش فيه بنسمعه اللي يزعله.
ألقت عليهم نظرات غاضبة ورحلت من الغرفة وقد أحدثت خطواتها جلبة عالية، تبع خروجه رده على "بشير"، كانت " ملك" تراقب انفعالاته حتى سمعته يقول بضيق:
"بشير" ميصعبش عليك غالي يا حبيبي، البت دي ملاوعة زيها زي أخوها وأمها...وعموما أنا مش هستنى لما تكلمني أنا هعرف هي عايزة ايه.
أنهى المكالمة مع صديقه ليجدها قد احتلت فراشه، وتدثرت بغطاء خفيف، وقد حرصت على أن تدير وجهها حتى تتجنب أي نقاش معه بعد موقفها مع "سهام" ... رفع حاجبه سائلا:
بتهربي ها؟
_ اطفي النور يا "عيسى" علشان عايزة أنام، يإما روحني أنام في بيتنا.
قبل أن يرد عليها سمع دقات على باب غرفته تبعها صوت "يزيد" يسأل:
هو أنت لسه صاحي؟
بدا الحزن في صوت الصغير فعلم أنه هناك شيء ما لذا أسرع يفتح الباب واعتدلت هي جالسة على الفراش لتسمع "يزيد" يخاطب "عيسى" ببراءة:
ممكن تيجي تنام معايا علشان حسن في المرسم تحت ورفيدة وتيتا بيقولولي تعالى نام معانا لكن أنا ببقى عايز أنام في أوضتي.
ما إن وقعت عيناه على "ملك" حتى لوح لها هاتفا بحماس:
ملك أنتِ هنا من امتى... هتنامي عندنا؟
ضحك "عيسى" على سؤاله وتركت هي الفراش قائلة بابتسامة:
اه يا حبيبي هنام عندكم تحب أنام أنا في أوضتك؟
أدار نظراته بحيرة بينها وبين "عيسى" حتى حسم الأمر أخيرا وهو يقول:
نامي أنتِ معايا النهاردة علشان مش بشوفك كتير... لكن عيسى حبيبي موجود علطول.
مسح "عيسى" على خصلاته هاتفا بمزاح:
دبلوماسي يا واد زي أبوك.
تناولت "ملك" كف الصغير بحماس قائلة:
طب يلا.
_ فلتي أنتِ بس ملحوقة.
سمعت "عيسى" يهمس بهذه الكلمات فابتسمت وأسرعت بخطواتها مع "يزيد" وقد أتى هذا الصغير كمنقذ لها لتهرب من غرفته وتتجنب أسئلة لا تملك الجواب لها.
★***★***★***★***★***★***★***★
صباح جديد ولكنه مختلفا على "مريم" في مرحلتها التعليمية الجديدة وخاصة في كليتها، لم تكون أي صداقات بعض، كان لديها شغف كبير بالرسم ولكن اصطدمت بالواقع ألا وهو مهام كثيرة من أساتذتها في بداية الفصل الدراسي وهي لم تتعلم شيء بعد... خرجت من المحاضرة بتذمر مقررة العودة إلى المنزل لتفكر في طريقة لإنجاز المطلوب منها ولكنها سمعت صوته من الخلف يقول:
مريم.
كان يلهث وكأنه خرج من سباق رياضي للتو، طالعت "حسن" بنظرات مستغربة وهي تسأله:
أنت بتنهج كده ليه؟... أنت كنت بتجري؟
_ اه
كان رده مختصرا فاستفسرت طالبة منه توضيح:
بتجري ورا مين؟
أجابها بضحكة واسعة:
وراكي.
حذرته رافعة سبابتها:
اسمع بقى أنا مبحبش شغل التنطيط ده، ولو حكمت وعايز تنده تقول يا أنسة "مريم" مش يا "مريم"
قلدته في النداء فتحدث بغيظ:
ايه يا حبيبتي في ايه... ما تاخديني قلمين بالمرة.
أجابته بابتسامة صفراء:
هيحصل لو اتخطيت حدودك.
ضحك عاليا على طريقتها الدفاعية حتى قالت هي:
بص كده ... هو التسليمات دي لو معجبتش الدكتور ايه بيحصل؟
أخبرها بهدوء:
مفيش مشكلة بيخليكي تعيديها عادي.
_ طب لو معرفتش أعمل حاجات منهم يعني؟
سؤال اخر جعله يدرك الصعوبة التي تواجهها فابتسم وهو يمسح على خصلاته قائلا:
لا هو للأسف لازم تعملي المطلوب وتسلميه علشان متشيليش المادة وتبلطي معايا هنا، ولو هتسأليني عن رأيي
أكمل بضحكة شقية:
هقولك بلطي على قلبي زي العسل.
هتفت بحدة:
تصدق أنا غلطانة.
كانت ستغادر ولكنه هتف من بين ضحكاته يحاول مراضاتها:
استني بس متزعليش... بصي هقولك بابا جاي للست هادية بالليل علشان موضوع كده، هبقى اجي معاه وهفهمك الدنيا وتعملي الشغل ازاي.
أعطاها أمل أنها ستنجز ما أرادت فابتسمت تشكره ولكن رد على شكرها بقوله:
تعالي أوصلك بقى.
ألقت عليه نظراتها المنزعجة وتركته وغادرت بينما وقف هو في الخلف يتابع أثرها بابتسامة واسعة.
★***★***★***★***★***★***★
يمقت المشافي ويكره دخولها ولكن الأمر هذه مرة ضروري، هكذا قال "نصران" لنفسه أثناء توجهه لغرفة "شاكر" بعد أن استعلم عنها، أدى صلاة العشاء وقرر قضاء ما عطله أيام، وصل إلى الغرفة ليجد والدة "شاكر" جالسة في الخارج بمفردها وما إن رأته حتى رحبت متهكمة:
يا مرحب باللي يقتلوا القتيل ويمشوا في جنازته.
وقفت لتصبح أمامه وهي تقول بحقد وقد ترك بكاء وإجهاد الأيام الماضية أثره في وجهها:
ولا قتيل ايه بقى، دول قتيلين الواد وأبوه.
ابتسم وهو يرد عليها:
أبوه أنا معرفش عنه حاجة، الواد بقى قتل ومن قتل يُقتل... ده الحق يا ست.
صاحت بغضب شديد:
محدش غيركم غدر بمهدي، ومحدش غيركم غدر بشاكر... جاي تاني ليه؟... مستكفيتوش صح؟... حق ابنك موت ابني مش كده يا حاج "نصران".
امتنع عن الرد مما جعلها تتابع:
كفاية اللي عملتوه فيه... خدتوا حق اللي مات مرتين مش مرة، كفاية بقى وابري ابني من دم " فريد".
رد على كل هذا بقوله:
أنا جاي اعمل الواجب، جاي ابص على ابنك في رقدته.
لم تتحمل أكثر فاستخدمت اخر كروتها وهي تقول:
عندي حاجة مستعدة اقولهالك لو كفيت ابني شرك وشر عيالك.
_ خليهالك.
قالها بابتسامة كان ماهرا في التلاعب بأعصابها، ولكن كانت هي الأمهر حيث استطاعت وأد ضحكته بقولها:
مراتك الأولانية راحت غدر.
انكمش حاجبيه فأكملت "كوثر" بابتسامة سلبتها منه:
شوف شوف وشك اتقلب ازاي... افهمك أكتر؟
مراتك اتقتلت
قالتها بنظرات منتصرة وهي ترى على وجهه تأثير ما تقول، شعر بأنه ليس على ما يرام وكذبها:
أنتِ الظاهر عقلك فوت والخرف جالك بدري.
ردت عليه بثقة:
أقسم بالله العظيم تلاتة ما بكدب.
هنا فقط رأت في عينيه شوقه للمعرفة، حتى لو كذبها ولكنها زرعت الشكوك داخله حينها فقط ساومت أمام نظراته المذهولة:
تقول قصاد أهل بلدك كلهم إن الدم بيننا وقف وخلاص حق ابنك رجع... أقولك على اللي عيشت سنين معمي عنه
قالت جملتها الأخيرة بظفر:
أقولك المرحومة اتغدر بيها ازاي يا حاج "نصران".
للمرة الأولى يدرك أنه يمكن لقول تعجيزك، أن يجعلك مذهولا لا تقوى على شيء، يخبرك ببساطة أن الحقائق التي عايشتها طوال سنوات ما هي إلا سراب... يمكن لقول أن يجعلك لا تنساه أبدا.