رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل السابع والسبعون 77 بقلم شمس بكري


رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل السابع والسبعون بقلم شمس بكري 

"مثل الشمس و القمر مُتلازمين معًا و لا يقترنا سويًا.

_________________________


كمن وقف أمام أحلامه يريد لمسها بكفيه لتأكده بأنها ملموسة لديه، ليتفاجيء بفرارها من أمامه كما يفر السراب في الضوء، و حينما حاول الركض لها تفاجأ بأطرافه مُكبلة بأصفادٍ من الحديد تحتى مسمى "الوقت"


يكفي للمرء أن يفخر بذاته و أن يضحي حتى بنفسه و أن لا يكون جبانًا، هكذا فكر «عمار» و هو يقف أمام رجال عائلة الرشيد بعدما أدلى بطلبه أمام الجميع بثباتٍ و شموخٍ، فيما أخفضت «خلود» رأسها و ضغطت على جفنيها تحاصر مُقلتيها أسفلهما باحكامٍ، أما «طـه» فسأله بنبرةٍ جامدة إلى حدٍ ما:


"طب و هو يابني اللي ييجي يطلب واحدة بييجي كدا ؟! فين أهلك و فين الـ....."


دلف «عامر» و معه والده في تلك اللحظة و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"احنا موجودين يا عم طه، احنا مش قلالاة الأصل علشان عمار ييجي من غيرنا، كنا بس بنجيب حاجة ندخل بيها علشان شكلنا ميبقاش زفت"


قالها بمرحٍ حتى يزيل التوتر من تلك الجلسة، فتحدث «محمود» مرحبًا بهم بعدما وقف أمامهم:


"طب اتفضلوا يا جماعة اقعدوا، نورتونا، الكلام ميبقاش على الواقف كدا"


جلسوا وسط الرجال و «عمار» عينيه في الأرض تاركًا الباقي لأخيه و والده الذي تحدث بنبرةٍ هادئة يقول:

"أولًا أنا أسف على حضورنا فجأة كدا من غير ميعاد، بس أنا اتفاجئت بعمار و اللي قالهولي، ثانيًا بقى ...أنا عاوز عمار هو اللي يتكلم مش أنا، أنا ربيته يكون راجل و يشيل مسئولية نفسه و أخواته كملوا و نجحوا في دا، عاوزك تسمع عمار يا أستاذ طه"


كانت ملامح «طـه» كما هي جامدة فتحدث «عمار» بثباتٍ:

"أنا مغلطتش و الله يا عم طه و ربنا يشهد عليا و على اللي في قلبي، و وليد و عامر موجودين و شاهدين على كل حاجة، أنا حسيت بمشاعر ناحية آنسة خلود روحت قولت لأخوها و قولت لأهلي، و خدت وعد على نفسي أني أشق طريقي علشان اقدر أجي أطلبها منكم و أنا قد المقام، اللي حصل مني أنا و عامر و وليد كان غلط من البداية، كان المفروض ندخل البيت من بابه، بس دي أنا اللي هتحملها مش هما، أنا بس كنت عاوز اتأكد إن هي قبلاني علشان مبقاش بعشم نفسي على الفاضي"


ظهر اللين على ملامح وجه «طـه» خصيصًا بعد حديثه ذاك، فأضاف «عمار» من جديد:

"أنا جيت علشان أثبت أني قد المسئولية و أني راجل مش عيل، و قدام الكل يشرفني إن الآنسة خلود تكون خطيبتي، و مش دلوقتي، أنا بتكلم على بعدين لما أنا أخلص تعليمي و هي كمان، أنا كل اللي عاوزه يكون في كلمة عهد ما بينا، و أنا قدام الرجالة دي كلها بقول أهو اللي حضرتك تحكم بيه سيف على رقبتي"


قبل أن يتحدث «طـه» نظر لـ «وليد» يطلب منه العون و يدله كيف يتصرف فتحدث «وليد» ببراءةٍ تتنافى مع شخصه:

"دي بنتك أنتَ يا عم طه و أنتَ أبوها يعني أنتَ اللي تقرر، و أظن يعني عمار مش غريب عننا، بس برضه الكلمة كلمتك"


رفع «طه» حاجبيه ساخرًا بعد حديثه فيما مال «وليد» على اذن والده «مرتضى» يقول هامسًا بخبثٍ:

"سمعنا كلمتين حلوين من بتوعك يا مرتضى، الحق طه قبل ما يعك الدنيا، يلا مش أنتَ الكبير ؟! هتسكت و لا إيه ؟!"


ظهر الشر في نظرات «مرتضى» فوقف بجوار أخيه و هو يسأله بثباتٍ و ثقةٍ و كأنه ينذره بالقادم إذا رفض:

"ها يا طـه ؟! إيه قولك ؟! موافق و لا لأ ؟! دي بنتك برضه"


تنفس «طـه» بعمقٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة بعدما نظر في وجه «عمار» و منه إلى ابنته التي تحتمي بـ «فارس» و هي تحتضنه:

"أنا اللي يهمني إن بنتي تكون مع راجل يصونها و يحميها، و في نفس الوقت يحافظ عليها و ميخليهاش تغلط و تعمل حاجة من ورا أهلها و أنا واثق إن عمار جدع و عارف تربيتي برضه و واثق في بنتي..... أنا موافق بس بشرط"


تفوه «وليد» هامسًا بسخريةٍ:

"يخربيت بهاراتك اللي لازم تتحط في الأخر دي"


بعد كلمته الأخيرة نظر له الجميع بتعجبٍ من تلك الكلمة و خاصةً «عمار»، فأضاف هو بشموخٍ:

"بنتي لسه صغيرة و أنتَ كمان، من هنا لحد ما ربنا يكرمك و تبقى جاهز من كله ملكش دعوة ببنتي، لا من قريب و لا من بعيد، اعتبر إنك لسه مشوفتهاش أصلًا، و لو اتقابلتوا صدفة أعمل نفسك متعرفهاش....أظن دا حقي"


رد عليه «عمار» بثباتٍ:

"و أنا موافق يا عم طـه، أنا لا يمكن أسمح لنفسي أعصي ربنا فيها، و طالما أنا راجل و رايد بالحلال يبقى وعد مني في رقبتي إن حتى نظرة العين مغلطش بيها، و وعد مني أني استنى و أصبر علشان تكون هي نتيجة صبري"


ابتسم له «طارق» و هو يسأله:

"أنتَ بتتكلم في سنين !! هتصبر و تتحمل كل دا ؟!"


طالعه بقلة حيلة و هو يقول:

"أنتَ استنيت كام سنة يا طارق ؟! مليت في يوم و لا زهقت ؟! أكيد كنت واثق في ربنا علشان أنتَ مبتغلطش، و أنا واثق أني مبغلطش و عاوز الرزق بالحلال، و أكيد ربنا مش هيبخل عليا بيه"


ابتسموا له بعد حديثه ذلك، فتحدث «فهمي» بفخرٍ:

"علشان كدا قولت هو اللي يتكلم، لأني واثق في ابني، طبعًا الكلام دا مش وقته بس عمار شقته مع شقق أخواته دافع المقدم ليها و بكمل في الأقساط و إن شاء الله خلال سنة هكون خلصت الأقساط و نبدأ نوضبها، و زي ما عملت شقة اخوه هعمله شقته، دا علشان تكونوا مطمنين، خلود زي بنتي و لا يمكن اقبل بحاجة تزعلها أو حتى تجرحها، كفاية أدبها و أخلاقها، و أنا طمعان في كرمكم عليا إنها تكون بنتي قبل ما تكون مرات ابني، و لو هي مزعلة حد هنا، قولولي و أخدها معايا و أنا مروح أنا بتلكك أصلًا"


أضاف المرح على حديثه يشاكسهم به حتى رد عليه «طه» بهدوء:

"بنتك طبعًا يا أستاذ فهمي، بس أنا عند كلمتي، مفيش أي حاجة تحصل قبل ما تخلص علامها، هي هنا محفوظة في بيتها و كلمة الرجالة اتقالت خلود لـ عمار"


زفر «عمار» براحةٍ ثم اقترب منه يقف مقابلًا له و هو يقول ممتنًا له:

"شكرًا لحضرتك، شكرًا إنك سمعتني أصلًا، و ليك عليا عهد في رقبتي اتحاسب عليه قدام ربنا، أني معملش حاجة من وراكم و لا أغضب ربنا فيها، أنا مش عاوز ألعب و لا أتسلى، أنا عاوزها ليا بالحلال"


ربت «طه» على كتفه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"شكرًا ليك أنتَ إنك عارف يعني أمانة يتحافظ عليها، شكرًا يابني على كل كلمة خرجت منك طمنتني على بنتي، و شكرًا لوالدك و أخواتك على تربيتك"


ابتسم له «عمار» حتى عانقه «طـه» و هو يربت على ظهره، فيما تحدث «عامر» بعد صمتٍ طال على عكس عادته:


"طب مفيش زغروطة حتى ؟! طب بلاش حطولنا جاتوه من اللي احنا جايبينه دا اعملوا أي منظر، دا إيه العيلة النكد دي ؟!"


رد عليه «أحمد» ساخرًا:

"طبعًا، بالنسبة ليك نكد، ما هو أنتَ متخصص البهجة في العيلة، تتعوض في الليلة الكبيرة بقى"


ابتسم «وليد» في تلك اللحظة براحةٍ ثم أخرج زفيرًا قويًا و هو يرى نتيجة ما خطط له تسير على ما يرام، ثم وجه نظره نحو «خلود» التي طالعته بوجهٍ مُبتسمٍ و هي تنظر له بامتنانٍ حتى غمز هو لها.

_________________________


في محافظة الأسكندرية و خاصةً على أحد الشواطيء العامة، كان يسيرا بجانب بعضهما و نسمات الهواء الباردة تداعب بشرة وجهيهما حتى ضحكت هي باستمتاعٍ حينما صدمتها دفعة قوية من الهواء، و هو بجوارها ضحك عليها بخفةٍ حينما زاد رنين ضحكاتها، لذا سألها هو باهتمامٍ:

"ها إيه رأيك ؟؟ مش العربية برضه كانت هتضيع علينا مُتعة الجو دا ؟! مش كدا أحسن ؟!"


حركت رأسها نحوه ثم هزتها موافقةً بإيماءةٍ بسيطة من وجهها المبتسم فتنهد هو بعمقٍ ثم سألها بمرحٍ:

"قوليلي عجبتك المفاجأة ؟! دي أهم حاجة، أنا كل اللي يهمني إنك تكوني مبسوطة"


ردت عليه هي بحماسٍ:

"مبسوطة بس ؟! أنا عاوزة أصرخ هنا من فرحتي، مش متخيل أنتَ أنا مبسوطة إزاي، حاسة أني عاوزة أجري من فرحتي و الله و أفضل أصرخ، المهم احنا هنمشي امتى من هنا ؟!"


أجابها بعدما تنفس بعمقٍ:

"بكرة إن شاء الله أخر الليل هنمشي، يعني هنكون في القاهرة على الفجر كدا إن شاء الله"


حركت رأسها موافقةً ثم تحدثت بسرعةٍ من فرط حماسها:

"مش مشكلة أنا موافقة، إن شاء الله حتى لو ساعة، المهم أني معاك هنا، بس اشمعنا إسكندرية ؟"


رد عليها بنبرةٍ ضاحكة:

"يمكن علشان أنتِ بتحبيها ؟! و يمكن علشان كان نفسك تعيشي جو رومانسي فيها ؟! و يمكن علشان دي أكتر محافظة كان نفسك تكوني منها ؟! ها أقول تاني ؟!"


حركت رأسها نفيًا فيما شدد هو عناق كفه على كفها ثم أشار لها برأسه للجهة الأخرى و هو يسألها:

"ها إيه رأيك ؟! يلا ؟!"


سارت معه للجهة الأخرى يعبرا الطريق سويًا نحو المحل الذي أشار لها عليه ثم وقفا سويًا فسألها هو بنبرةٍ هادئة:

"تاخدي طعم إيه ؟!"


حركت كتفيها و هي تتابع نكهات المثلجات أمامها ثم قالت بقلة حيلة:

"هات على ذوقك أنتَ بقى يا ياسين، أنا واثقة فيك"


حرك رأسه موافقًا ثم طلب ما يريده لهما سويًا و بعد غضون ثوانٍ أعطاها المثلجات في أيديها ثم أمسك القطعة الخاصة به حتى طلبت هي بحماسٍ:

"تعالى بقى نقف قصاد البحر علشان كدا تبقى كملت، ماشي ؟!"


وافق على اقتراحها و وقف بجوارها بعدما عبرا الطريق مرةً أخرى، حينها تنفست بعمقٍ ثم تناولت ما بيدها و هو يتابعها بفرحةٍ جعلت قلبه يرقص بين أضلعه حينما أبصر فرحتها البادية على ملامح وجهها و كأنها تمسك نجوم السماء بكفيها معًا.


حركت رأسها تنظر له و هي تقول بصوتٍ مختنقٍ إثر فرحتها الساكنة بين خلجات روحها:

"تعرف !! أنا كنت فاكرة إن الأحلام دي مش هتتحقق، أو مستحيل تتحقق، من ساعة ما عرفتك و أنا أي حاجة بقيت بحلم بيها بحس إننا هنحققها سوا، أو إنك هتسعى تحققهالي، بعد ما افتكرت أنها صعبة أنتَ سهلتها لدرجة هتخليني أطمع و بصراحة بقى خايفة أخد على كدا"


قالتها بمزاحٍ تشاكسه به فرد عليها هو بنبرةٍ هادئة:

"اطمعي يا خديجة، اعتبريني العوض اللي ربنا كرمك بيه، مش كتير عليكي إنك تفرحي بعد كل الزعل اللي شوفتيه، أنا مش عاوز غير فرحتك بس، قوليلي عاوزة إيه تاني و أنا أحققه ليكي"


ردت عليه هي بحماسٍ مفرطٍ بعد حديثه و بعدما سألها:

"أقولك ؟! حلمت بيك مرة عمال تستعجل فيا علشان ألبس ابننا، معرفش ليه و معرفش أي حاجة غير إنك كنت هتنزل بيه و مستنيني علشان ألبسه، حلمت الحلم دا و أنتَ مسافر بس مش عارفة بقى دا إيه ؟!"


ابتسم لها و هو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما تنفس بعمقٍ:

"دا معناه إنه خير إن شاء الله ربنا هيرزقنا بيه، بس مش فاكرة كان اسمه إيه ؟! أو أي حاجة ؟!"


حركت رأسها نفيًا بأسفٍ ثم أضافت بسرعةٍ:

"لأ بس فاكرة شكله لما دخلت ليكم، كان شبهك أوي و هادي، مش عارفة بس حسيته كدا"


رد عليها بقلة حيلة زائفة:

"كدا بقى مش قدامي حل غير أني أحقق الحلم دا، دا أهم حلم فيهم خدي بالك !!"


ابتسمت هي له و هي تحرك رأسها موافقةً فيما أمسك هو يدها ثم قال بمرحٍ:


"يلا بينا على كوبري استانلي"

_________________________


رحل «فهمي» مع ولديه بعد جلسته المرحة مع العائلة و تأكد من صدق العهود بينهما و رأى القبول لابنه في أعينهم جميعًا، و من بعدها رحلوا أفراد العائلة تِباعًا خلف بعضهما كلًا منهم نحو شقته.


جلس «وليد» على الفراش في غرفته ثم أرجع رأسه للخلف على ظهر الفراش و هو يفكر ولا وجوده كيف تسير الأمور ؟؟ هل يجب عليه التعامل بالمحايلة و الخدعة ؟! ابتلع غصة مريرة في حلقه ثم أغمض عيناهُ ثم نظر بجواره وجد الفراش خاليًا منها زفر بقوةٍ و قبل أن يهاتفها، فُتح الباب لتطل هي منه و هي تقول بأسفٍ:

"معلش بس كنت مع هدى بنغير لفارس، و بعدها كنت مع سلمى و خلود و جميلة، عاوز حاجة قبل ما أدخل ؟!"


حرك رأسه نفيًا فأغلقت هي الباب ثم دلفت تجلس بجواره و هي تبتسم له حتى سألها هو بتعجبٍ:

"مالك ؟! بتبصيلي كدا ليه ؟!"


ردت عليه هي بمرحٍ:

"علشان اللي حصل النهاردة دا، أكيد أنتَ السبب، قولي يلا حصل إيه ؟! احكيلي عملت كدا ليه ؟!"


تنفس هو بعمقٍ ثم فتح ذراعه لها حتى ارتمت هي عليه و هي تبتسم باتساعٍ فيما حاوطها بذراعيه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"كنت بصلح اللي الدنيا هتعكه و تخليه سبب في وجع قلوب، كان لازم أعمل كدا علشان يكون فيه خطوة واحدة واضحة للكل، لو ماكنتش عملت كدا مستحيل العلاقة دي ييجي عليها يوم و تكمل"


رفعت رأسها تسأله بتعجبٍ تُغطيه الحيرة:

"هو أنتَ عملت كدا ليه ؟! إيه اللي خلاك تاخد خطوة زي دي ؟!"


رد عليها مُفسرًا بنبرةٍ هادئة:

"علشان عمي طه فاكر إن عمار بيلعب بـ خلود و مش بتاع جواز و مسئولية، و خلود من خوفها بسبب عمي هتشيل عمار من دماغها و مستحيل كانت توافق عليه لو جالها بعد كدا، و عم طه فاكر إني باخد منه عياله و إنه ملهوش حق فيهم، فكان طبيعي بعد كل السنين دي يرفض عمار، و عمار نفسه كان لازم ياخد خطوة زي دي تخليه يتأكد إنها هتكون ليه بموافقة العيلة كلها مش أنا و هي بس، و خلود لازم تتأكد إن عمار ممكن يعمل المستحيل علشانها حتى لو إنه ييجي يقف قصاد الكل هنا و يطلبها، كدا خلود عرفت إن عمار راجل بجد و أنه ميتسواش بحد"


حركت رأسها بتفهمٍ ثم اعتدلت فجأةً و هي تقول بحماسٍ:

"فهمت !! يعني ضربت عصفورين بحجر واحد، خليت عمو طه يثق في عمار و في رجولته، و خلود تتأكد إن عمار مش بيلعب بيها و إنه مستعد يستناها، في نفس الوقت اللي خليت عمو طه فيه يتأكد إن عياله مسئولين منه حتى لو كنت بتحبهم...صح ؟!"


سألته مُخمنةً بكملتها الأخيرة فحرك رأسه موافقًا حينها اعتدلت تجلس بجواره تسأله بنفس الحيرة:

"طب و أخر نقطة دي ليه ؟! و ليه شكلك زعلان كدا ؟!"


رد عليها بثباتٍ واهٍ يتنافى مع حزنه و ما يُجيش به صدره:

"لا أنا مش زعلان و لا حاجة، أنا زي الفل اهو يا عبلة"


طالعته بشكٍ حتى وجدته يحرك رأسه للجهة الأخرى حتى لا ترتبط نظراتهما سويًا و تكتشف كذبه فيما أصرت هي على قولها فحركت رأسه نحوها و سألته باصرارٍ:


"على سوبيا برضه ؟! نسيت إن قبل ما نكون متجوزين إننا صحاب ؟! و اتفقنا أننا منخبيش حاجة على بعض ؟! قولي إيه مزعلك كدا ؟!"


تنفس هو بعمقٍ ثم قرر البوح بما يعتل به صدره و يقف عن التفوه له لسانه لكنه فاض من عينيه، فقرر مشاركتها حزنه كما يشاركها فرحه و سألها بصوتٍ مهتز:


"عبلة !! هو أنا طول عمري هفضل بس ابن عم خديجة و خلود ؟! يعني مهما كانت مشاعرنا لبعض الناس كلها هتشوفنا ولاد عم برضه ؟!"


عقدت ما بين حاجبيها بتعجبٍ و غلفا التيه و الحيرة نظراتها له حتى أضاف هو مُفسرًا:

"أنا مخنوق يا عبلة و حاسس إني عاوز انفجر، عمك طه رمى الكلمة و حرق دمي و أنا رديتله عشرة و فورت دمه، علشان كدا مش مرتاح، بس هو اللي بدأ و عصبني، ازاي يقولي ابن عمها !! ازاي بعد كل حاجة في الأخر كل اللي بيننا يبقى مجرد دم و خلاص ؟!"


ربتت هي على كتفه و هي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول بها دفع الحزن بعيدًا عنه:

"هو من ضيقه قال كدا، غصب عنه كأب لما بنته تتحط في موقف زي دا و هو مش موجود إنه يزعل يا وليد، ماشي أنتَ أخوهم و أبوهم كمان بس مكانش ينفع اللي حصل دا من الأول، بس الحمد لله إن الدنيا اتلمت و عمار دا جه اتقدم قدام الكل، إنما عمو طه مشاعره زي مشاعر أي أب غيران على ولاده"


التمس الحكمة في حديثها لذا انتبه لها حينما حرك رأسه يطالعها بنظراتٍ ثاقبة، فأضافت هي من جديد:

"هو غصب عنه قارن علاقته بيهم قصاد علاقته بيك و اللي من وجهة نظره إن هو أب و أنتَ ابن عمهم، لكن مش في دماغه يقلل من دورك"


رد عليها هو بلهفةٍ و ندمٍ بسبب حديثه حتى تهدج صوته و لمعت العبرات في عينيه:


"و الله أنا مكانش قصدي أقلل منه و من دوره، و خصوصًا مع خلود لأنها طول عمرها صاحبته و هو قريب منها على عكس خديجة، بس أنا انفعلت غصب عني، هما كانوا كل حاجة ليا في عز ما كنت مملكش حاجة، خلود دي لما اتولدت و جت البيت أنا كنت بنام جنب سريرها على الأرض علشان لما تفتح عينيها تفتحها عليا أنا، أول مرة زحفت جتلي أنا، و أول مرة وقفت كانت ساندة على دراعي أنا، و أول اسم نطقته كان "ليد" من قبل حتى ما تقول اسم أي حد منهم، و أحمد دا من كتر ما كنا مع بعض الناس افتكرونا توأم ساعات، و خديجة كانت الحضن اللي برمي همي فيه و أحلم بحياتي حتى و أنا بحبك، هي الوحيدة اللي شاركت خيالي كل دا و كانت بتسمعني و أنا رافض اسمع نفسي حتى، محدش هيفهم علاقتي بيهم غيري، يمكن هما نفسهم مش فاهمين كدا، بس هما بيحبوني و دا كفاية عندي"


ابتسمت له و لمعت عينيها بوميضٍ أشبه بوميض نجوم السماء في ليلٍ مُعتمٍ ثم تحدثت بصوتٍ متأثرٍ:

"أكتر حاجة خلتني أسلم قلبي ليك هي حنيتك دي، بحب حنيتك على أخواتك و بفضل أفكر هما مش أخواته و بيعمل علشانهم كدا، أومال عياله هيتصرف معاهم ازاي ؟! مراته اللي هو بيحبها هيتصرف معاها ازاي ؟! و سلمتك قلبي و أنا راضية و عارفة إنه في الحفظ و الصون معاك"


ابتسم هو لها رغمًا عنه بسمة باهتة فيما أمسكت يده تسحبه من الفراش و هي تقول بصوتٍ مرح:

"قوم يلا !! هنفضل قاعدين نبكي على اللبن المسكوب ؟؟ قوم نجيب غيره يلا بسرعة"


سألها هو بتعجبٍ من طريقتها:

"استني بس يا سوبيا هنروح فين ؟! لبن إيه اللي هنقوم نجيبه الساعة ٩ بليل ؟!"


سحبته معه حتى وقف أخيرًا فقامت بسحب ثيابه من على ظهر المقعد تعطيها له و هي تقول بنبرةٍ هادئة:

"البس بس السويت شيرت علشان شكلك حلو في التي شيرت الابيض و أنا بغير لو سمحت"


سحب منها "السويت شيرت" على مضضٍ ثم ارتداه و أغلق السحاب حتى منتصفه فوقفت هي تُقيم هيئته و رغمًا عنها ابتسمت على تلك الهيئة حيث كان يرتدي بنطال رياضي باللون الاسود و فوقه سترة قطنية بيضاء اللون نصف "كوم" و ارتدى فوقها "السويت شيرت" الأسو، لاحظ هو تقييمها له فسألها بسخريةٍ:


"ها يا فندم ؟! المقاسات مظبوطة و لا تحبي نوسع الوسط شوية ؟! كله إلا اللبس الضيق، مراتي بتغير !!"


أقتربت منه و هي تضحك على طريقته ثم مالت على وجنته تقبلها بسرعةٍ حتى رمش هو ببلاهةٍ فغمزت هي له و هي تقول بمشاكسىةٍ:

"تعالى ورايا يا جوز السوبيا"


ضحك رغمًا عنه و زادت ضحكته أكثر حينما سارت أمامه تفرد ذراعيها بخيلاءٍ و كأنها أحد الشباب أقوياء البنية مما جعله يضرب كفًا بالأخر تزامنًا مع ارتفاع ضحكاته.


بعد مرور ثوانٍ وقفا سويًا أمام شقة «طـه» فطالعها هو بتعجبٍ حتى قالت هي بصوتٍ خافتٍ:

"هنصلح كل حاجة باظت و إحنا سوا و مع بعض، اتطمن و خليك معايا"


قبل أن يرد عليها ضربت هي جرس الباب حتى فتح لهما «أحمد» و ما إن ابصرهما حتى ابتهج وجهه و هو يقول مُرحبًا بهما:


"أهلًا و سهلًا إيه النور دا ؟! تعالوا يا حبايب قلبي نورتونا"


سألته هي مسرعةً:

"عمو طه هنا يا أحمد ؟!"


حرك رأسه موافقًا لها فدلفت و هي تسحب «وليد» خلفها و تبتسم بمرحٍ حتى نظر «أحمد» بتعجبٍ لـ «وليد» الذي حرك كتفيه بجهلٍ من الأمر و حينها كان «طه» يجلس على الأريكة فالتفتت «عبلة» لزوجها تهمس له:

"اهوه موجود، صالحه بقى و فهمه وجهة نظرك و هو كمان يفهمك، يلا علشان متفضلش زعلان كدا"


التفتت لـ عمها و هي تقول بحماسٍ:

"وليد عاوز يقولك حاجة يا عمو طه، ضروري معلش"


رمقها «وليد» بغيظٍ فوقفت هي بجواره تمسك يده تدعمه و هي تضغط على كفه، فيما تنفس هو بعمقٍ ثم قال بهدوء:


"أنا آسف يا عمي أني زعلتك مني و قولتلك اللي قولته فوق السطح، أكيد مكانش قصدي أني أقلل من علاقتك بيهم، مهما حصل هتفضل أنتَ أبوهم برضه، و أنا ابن عمهم، متزعلش مني أني اندفعت فيك كدا....بــس أنـتَ اللي استفزتني بكلامك"


قال جملته الأخيرة بحنقٍ و قد رفع صوته فيها قليلًا حتى ظهر اليأس على وجه كلًا من «عبلة» و «أحمد» معًا، فيما ضرب «طـه» كفيه ببعضهما تزامنًا مع قوله حانقًا:


"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ؟! هو البعيد ميعرفش يكمل كلامه عدل ؟! أبوك متعبش نفسه شوية بس !!"


زفر «وليد» بقوةٍ ثم أطاح له برأسه فيما تنفس «طـه» بعمقٍ ثم قال بهدوء:

"أنا مش زعلان منك علشان كلامك كان صح، بس معلومة صغيرة ليك هما ولادي من بعدك أنتَ، أنا شيلتك قبل ما أشيل أي حد منهم هما التلاتة، و اتربيت معانا هنا و كنت في غلاوتهم بالظبط، و مقارنةً بدورك معاهم دوري ميتقارنش، أنا مش زعلان منك، كفاية إنك كنت بتحمي بـنـتك من الغلط اللي كان ممكن تقع فيه بسبب سنها"


ابتسم «وليد» رغمًا عنه و لمعت العبرات تأثرًا في مقلتيه ففتح «طـه» ذراعه و هو يبتسم بخفةٍ حتى اقترب منه «وليد» يحتضنه و هو يقبل كتفه، حينها تحدث «طه» بنبرةٍ هادئة:

"حقك عليا علشان قولت إنك ابن عمها، كان المفروض اعرف إن قلوبكم شايلة معزة أكبر من دي لبعض"


رد عليه مسرعًا بعدما ابتعد عنه يواجهه بنظراته:

"مش زعلان منك، و إنك وافقت على عمار دي حاجة كبيرة أوي ليا و ليها، أنا كنت حاسس إنك هترفضه، بس متخيلتش إنك تعمل كدا"


رد عليه «طـه» بحكمةٍ:

"علشان هو داخل بالأصول، جاب أهله و جه يطلبها قدام الرجالة و شايف عنده إصرار أنه يحارب علشانها، واحد بيقولي مش هغضب ربنا فيها !! اخسره إزاي ؟! عيون بنتي لمعت لما جه يا وليد و شوفت في عينها الفرحة و أنا اللي ضاع مني كتير من غيرهم، عاوز بس أضمن أنهم يكونوا ليا و معايا، أنا واثق في عمار أوي زي ما واثق فيك كدا"


حرك «وليد» رأسه موافقًا ثم سأله بنبرةٍ هادئة:

"طب و أنتَ اللي خلاك توافق بس أنه جه طلبها !! يعني لو مكانش جه ماكنتش هتوافق بعد كدا ؟!"


رد عليه بثباتٍ:

"أنا أب و كنت عاوز حاجة تثبتلي إنه راجل يستحق بنتي، بس أنا حسبتها حسبة تانية، طالما هو رايد بنتي و هي عاوزاه ليه أنا أقف في طريقهم ؟! واضح أنه بيحبها و واضح إنه ابن حلال، يبقى اقف ليهم أنا بقى و أخليه يكلمها من ورايا ؟! ما ممكن الشيطان يلعب بدماغهم، انما كدا هو ارتاح و هي كمان يبقى الباقي للنصيب مش لينا إحنا و أنا عن نفسي بعد موقفه النهاردة اتمنى من كل قلبي إنه يكون لـ خلود"


فهم «وليد» حديثه و اقتنع به لذا ربت على كتفه و هو يقول بثقةٍ و إصرارٍ لا ينفكا من محلهما:

"و أنا أضمنه برقبتي كمان ليك، و واثق إن عمار هيحارب علشان خلود تكون ليه، و ييجي الدكتور عمار فهمي يطلب أيد الآنسة خلود، موقفك دا يخلي الواحد فرحان و ياريت كل الأهل تفهم إن عيالهم عندهم مشاعر زي الكبار و غصب عنهم مش بيتحكموا فيها، أظن يعني لو كانوا عملوا حاجة من ورانا كان زماننا دلوقتي ندمانين، إنما هما الاتنين تربيتهم و أخلاقهم اتغلبت عليهم"


حرك «طـه» رأسه موافقًا عدة مرات حتى تنفس «وليد» بعمقٍ، حينها وضع «طـه» يده خلف رقبته و هو يسأله بعدما صك أسنانه ببعضهما:

"قولتلي بقى أنا اللي استفزيتك بكلامي يا ابن مرتضى ؟؟"


قال جملته ثم ضغط على رقبته حتى دفعه «وليد» و ركض يقف خلف زوجته و هو يقول بمرحٍ:


"أنا بتحامى في عبلة"


قبل أن يقترب منهما «طه» امسكها «وليد» ثم ركض بها من الشقة و هي تضحك بملء شدقيها حتى ضحك «طه» رغمًا عنه و «أحمد» أيضًا الذي أغلق الباب خلفهما ثم اقترب يجلس بجوار والده و هو يقول بنبرةٍ هادئة:


"شكرًا إنك فهمت مشاعر خلود و عمار و إنك مقفلتش الباب في وشهم، صدقني عمار دا أحق واحد بيها و أنا أشهدلك بدا، عمار يوم مشكلتي عينه مفارقتهاش و اليوم دا خلى عامر يكلمني علشان يتأكد هي كويسة و لا لأ، دا مش حب مراهقة و لا نزوة هو حاسس بيها، عمار دا شايف في خلود حاجة إحنا مش شايفينها، و الوقت مش في صالحهم، زيي مع سلمى كدا، الوقت مش في صالحي أكون معاها، بس أنا مستني الوقت يجيلي علشان أقدر أكون معاها"


حرك «طـه» رأسه موافقًا ثم احتضن «أحمد» و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"أنا مش عاوز غير فرحتكم بس، مفيش أب هيكره الخير لعياله يا أحمد، جايز عرفت كدا متأخر بس أهو أنا بحاول، وعد مني اساعدكم توصلوا للي عاوزينه طول ما هو مش حرام و غلط"


ابتسم «أحمد» بفرحةٍ و هو بين ذراعي والده الذي ضغط عليه و هو يتنفس الصعداء مُفكرًا إن عناق ابنائه له بمثابة حياةٍ.

_________________________


في الداخل جلست «خلود» مع والدتها و كلتاهما تضحك مع الأخرى و «زينب» تقوم بتمشيط شعر صغيرتها و هي تقول بعتابٍ زائفٍ:

"يعني كل حاجة أنا عرفاها عنك و جيتي عند دي و خبيتي ؟! هي دي الصحوبية اللي بيننا ؟!"


ردت عليها بنبرةٍ ضاحكة:

"خلاص يا زوزو بقى هتكبري الموضوع ليه ؟! و بعدين يعني محصلش حاجة لكل دا، هو قالي لو جيت بعد كام سنة و أنا جاهز تقبليني وافقت، عاوزاني أجي أقولك إيه بقى ؟!"


ضحكت «زينب» رغمًا عنها ثم سألتها بنبرةٍ هادئة:

"خلود ؟! هو أنتِ بتحبي عمار بجد ؟! و لا دي مشاعر و هتروح لحالها ؟! خايفة تكون مجرد مشاعر و هتروح لحالها و تبقوا علقتوا بعض بالغلط، متأكدة من مشاعرك ؟! أنا ماما يا خلود قوليلي!!"


التفتت لها مُسرعةً و هي تقول بلهفةٍ:

"لأ مش كدب و مشاعر حقيقية...بصي... عمار دا غريب أوي.... جامع كل حاجة و عكسها، يعني شكله و لبسه يخليكي تفتكري أنه خارب الدنيا و مقضيها بس هو محترم و متربي، تحسي أن دماغه فاضية و مع ذلك طموح و دكتور و شاطر كمان، هادي و مرح و راجل بجد، متدين و عارف ربنا بدليل أن عينه عمرها ما بصتلي بصة مش كويسة و علشان مبقاش ببالغ مش بيبصلي أصلًا، أنا عمري ما غيرت من حد و عمري ما غيرت على حد، إلا هو يا ماما... أول واحد أجرب احساس الغيرة عليه و كنت هعيط لمجرد أنه يكون مع واحدة تانية، أنا مستنياه و طالما هو دخل البيت من بابه يبقى البيت مرحب بيه كمان"


احتضنتها «زينب» ثم تنفست بعمقٍ و هي تربت على ظهرها بحنانٍ فيما ابتسمت «خلود» براحةٍ و هي تتذكر حديثه معها قبل رحيله مع والده، عندما تحركت هي خلف «وليد».


(قبل رحيل عمار)


وقفت معه بالأسفل بعدما خرج والده و أخيه، فتحدث هو بأسفٍ:

"أنا أسف أني جيت فجأة و أسف على أي موقف اتحطيتي فيه بسببي، بس و الله العظيم أنا ماكنتش عاوز أي أذى ليكي، متخيلتش أني ممكن اتسبب في إن والدك يبصلك بطريقة مش كويسة أو إنك بتعملي حاجة غلط، و برضه أسف على طلبي قصادهم كلهم، بس دي حقيقة و مش ههرب منها، بس عاوز اسمعها منك....فعلًا هتستني ؟!"


حركت رأسها تنظر لـ «وليد» الذي وقف في الخلف ثم نظرت له و حينها حركت رأسها موافقةً و أضافت بهدوء:

"هستناك..... أعمل بس اللي عليك و لو ربنا رايدنا لبعض لا أنا و لا غيري هيقف في وشك، دا نصيب"


رد عليها هو مُسرعًا:

"بس الراجل بيحارب علشان نصيبه بالحلال، لو النصيب قدامي و أنا محاربتش و سعيت علشان أوصله ابقى مستاهلوش و ميحقش ليا أزعل أنه ضاع مني، و أنا و الله أضعف من إن قلبي يستحمل ضياع نصيبه من أيديه"


ابتسمت هي بعد حديثه فتنفس هو بعمقٍ ثم قال:

"أشوفك على خير و اتأكدي إن قلبي توكل على الله و حفظك ليا في معيته و حفظه، ربنا اللي كرم قلبي و نور بصيرته بشوفتك مش هيبخل عليا بيكي، استودعتك الله الذي لا تضيع ودائعه"


خفق قلبها بشدة بعد حديثه و لمعت العبرات في عينيها تأثرًا بحديثه الغريب و جديد عليها كليًا، حتى تحرك هو من أمامها بعدما نظر ممتنًا لـ «وليد» و حينها ركضت هي نحو «وليد» تحتضنه و هي تقول بصوتٍ باكٍ:


"أنا خايفة أطلع مستاهلش الحب دا كله منه يا وليد، خايفة أكون أقل منه، عمار دا زي الملايكة"


ربت هو على رأسها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"حاربي علشان تستاهليه أنتِ كمان، لو هو بيعمل كل دا علشانك من دلوقتي، يبقى خليه يوصل لنتيجة تريحه و ترضي تعبه علشانك"


خرجت من شرودها على صوت والدها حينما دلف الغرفة و هو يقول بسخريةٍ:

"هي العروسة مش هتأكلنا و لا إيه ؟! خلاص علشان اتقدملك عريس يبقى هنام جعانين ؟! قومي يا بت اكلينا !!"


ضحكت «زينب» عليهما وخاصةً حينما تنحنحت «خلود» تجلي حنجرتها، فتحدث «طه» بتهكمٍ:

"سرحانة من دلوقتي ؟! طب شوفي بقى !! أنا مرضيتش أعمل زي محمد و اشترط عليكي كلية زي ما هو اشترط على سلمى، بس و الله لو ما جيبتي مجموع و قصرتي في حق مذاكرتك، ساعتها مفيش عمار و هاخده اخطبله أنا بنفسي"


شهقت هي بقوةٍ ثم جلست على ركبتيها على الفراش و هي تقول:


"يا وقعة سودا ؟! دا أنا قولت ربنا يكرمه و ييجي قبل تالتة ثانوي يخطبني، أنتَ وقعت سقف الطموحات على دماغي كدا ؟!"


سألها هو بنفاذ صبرٍ:

"أنتِ مين اللي علمك قلة الأدب دي ؟؟ جايبة البجاحة دي منين يا خلود ؟! الله يمسيها بالخير مكسوفة تقولنا إن ياسين حضنها لحد دلوقتي"


ردت عليه هي بتلقائيةٍ:

"وليد !! هو اللي مربيني و هو اللي علمني كل القيم و الأخلـ....لا مؤاخذة هو اللي علمني انعدام القيم و قلة الأخلاق"


عدلت حديثها حتى زفر بقوةٍ فاقتربت هي منه تقول بنبرةٍ هادئة:

"بابا !! أنا بحبك على فكرة و وعد مني مغلطش و لا أخليك تندم في يوم على ثقتك فيا، أنا عارفة خوفك و فاهمة أنتَ حاسس بأيه، بس اتطمن كل اللي حصل دا كأنه محصلش أصلًا و ليك عليا أركز في مذاكرتي و مستقبلي و ادخل الكلية اللي أنا مش عارفاها لحد دلوقتي"


ابتسم لها و رفع كفه يمسح على خصلات شعرها و هو يقول بنبرةٍ هادئة معتزًا بها:

"أيوا كدا عاوزك ترفعي راسي"


ردت عليه هي بوقاحةٍ:

"لأ دا مش علشاننا، دا علشان هو دكتور، يعني لو دخلت كلية أي كلام هيشوفوا نفسهم علينا، و أنا مش عاوزاهم ياكلوا من المهر"


تلاشت بسمته تلقائيًا و حل الوجوم محلها فغمزت له و هي تتحرك من الغرفة حتى ضرب كفيه ببعضهما و زوجته تضحك بملء شدقيها حينها قال هو بغير تصديق:

"دي تربيته بجد !! تصدقي بالله يا زينب !! أنا خايف على عمار منها تربية وليد دي"


ردت عليه هي بنبرةٍ ضاحكة:

"طب و الله عسل و دمها خفيف، هتعرف تسد دي اسمع مني يا طه، ربنا يكرمها بس"


حرك رأسه موافقًا ثم اقترب منها يجلس بجوارها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:

"العيال دي رزق يا زينب، لو بايدي أعيد عمري اللي فات كله و مخليش عين واحد منهم تدمع، بس أهو الحمد لله على كل حال"


ربتت على كتفه و هي تقول بنفس الهدوء:

"ريح نفسك علشان هما قلبهم طيب و الواحد فيهم قصاد ضحكة منك ليهم قلبه بيصفى، مهما كان زعل الولاد من أهلهم ألا إن فطرتهم السليمة بتتغلب عليهم و يحنوا، يمكن لو كل أب فكر في أنه يحضنهم و أنه يكون صاحبهم و أنه يراعي زعلهم مكانش الحال وصل لـ كدا"


حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة ثم وضع رأسه على فخذيها و هو يتنهد بعمقٍ و حينها ابتسمت هي بغلبٍ ثم ربتت على كتفه.

_________________________


صعدا معًا فوق السطح يجلسا سويًا حتى تنفس بعمقٍ و هي بجواره ثم سألته بنبرةٍ هادئة:

"بقيت أحسن صح ؟!"


حرك رأسه ينظر لها و أمعن التحديق في وجهها و على حين غُرة اقترب منها يقبل وجنتها حتى ابتسمت هي، فأضاف هو مفسرًا:

"ارتاحت بسببك أنتِ، لولا اللي عملتيه كان زماني بأنب نفسي، بس كلامه ريحني أوي، شكرًا علشان كل مرة برتاح بسببك أنتِ"


أخفضت رأسها بخجلٍ تحاول كتم تلك البسمة التي تفضح أمر فرحتها بحديثه، فيما أشار على السماء و هو يقول بنبرةٍ مرحة:


"عبلة !! أنتِ أهوه بصي بسرعة"


رفعت رأسها نحو موضع إشارته فوجدت نجمةً كبيرة تضوي في السماء الكاحلة، حينها قال هو مُسرعًا:

"زيك بالظبط بتلمع"


حركت رأسها نحوه فتحدث هو و عينيه لا تفارق النجمة:

"النجوم حلوة أوي، زمان قبل أي تطوير و أي حاجة كانوا بيعرفوا طريقهم بالنجوم، في عز الصحرا كانوا بيسترشدوا بيها هي، أنا التايه دا و طريقي بعرفه بيكي أنتِ، النهاردة بس عرفت يعني إيه حد تاني يشاركك حياة و يصلح معاك غلطك، النهاردة بس اقدر أقولك أني غلطت و صلحت غلطي بوجودك"


زاد حديثه من لهيب حماسها لذا جلست أمامه و هي تقول بنبرةٍ هادئة:

"علشان هو دا الجواز و هي دي الحياة اللي بجد، بنكمل بعض إحنا الاتنين، لو كنت سيبتك زعلان كدا كنت هتضايق و في نفس الوقت عمو طه كلامك زعله، و الزعل هيكبر بينكم، بس دلوقتي الموقف اتحل و هو فهم دورك و أنتَ فهمت قصده، سمعت طارق و جميلة بيتكلموا و هو قالها إن هما هيمشوا الطريق سوا، و قعدتهم سوا كانت جميلة فكرتني لما بصلي وراك، وليد هو أنتَ تعرف تفسر القرآن ؟!"


عقد ما بين حاجبيه بعد سؤالها، فأضافت هي بتوترٍ:

"مش قصدي يعني....بس لو سألتك مثلًا في القرآن هتعرف تفسره ليا ؟! و تقولي معناه ؟!"


حرك رأسه موافقًا فسألته هي بحماسٍ بعدما أدلى بموافقته:

"طب إيه رأيك تفسرلي سورة الفاتحة ؟! بما إننا بنقرأها علطول ؟! هتعرف ؟!"


اختارت هي سورة مُيسرة عليه حتى لا تحرجه و تضعه في موقفٍ لا يحسد عليه و كانت تتوقع رفضه أو استعانته بأحد المصادر الأخرى لكنها تفاجئت به يعتدل في جلسته ثم أجلسها أمامه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:


"بصي يا ستي،

سورة الفاتحة سُميت بهذا الاسم لأنها يُفتتح بها القُرآن الكريم، و تُسمى المثاني لأنها تُقرأ في كل ركعة في الصلاة، نبدأ بيها باسم بالله نستعين به، و أول آياته تبدأ بالثناء على رب العالمين، بمعنى اننا بنحمده في أول آياته"


حركت رأسها موافقةً باهتمامٍ له حتى أضاف هو مُفسرًا بنفس اللباقة:

"ربنا سبحانه وتعالى اختص فيها اسمين من اسمائه هما:


 ۞ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ۞

الرحمن الرحيم ذو الرحمة و التي لا يُسمى بها غيره سبحانه و تعالى ذو الرحمة التي وسعت كل شيءٍ، "الرحيم" بالمؤمنين و هما اسمان من اسمائه تبارك و تعالى و فيهم اثبات الرحمة لله تعالىٰ"


"نيجي بقى لمقاصد سورة الفاتحة، سورة الفاتحة فيها خمس مقاصد إجمالًا و تفصيلًا بمعنى انها اجملت ما اشتمل عليه القرآن الكريم في التوحيد و العبادة و طلب الهداية و الثبات على الإيمان و فيها معارج السعداء و منازل الاشقياء، دا غير إنها سورة تشمل حقوق الخالق على خلقه و حاجة الخلق لخالقهم و دي هي جملة مقاصد القرآن الكريم في كل الكتب السماوية"


كانت تنصت له بكامل تركيزها لا تصدق أن هذا الحديث يخرج منه هو حتى أضاف هو مُكملًا بداية حديثه:

"نيجي مثلًا لآية:

۞ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۞

معناها إن ربنا سبحانه و تعالى المالك لهذا الكون و المتصرف فيه، و أن هذا اليوم لا يملك معه أحدٌ حكمًا مثل ملكهم في الدنيا، مالك جميع العالمين و سيدهم و الناظر لهم في الدنيا و الآخرة"


أنهى حديثه ثم أضاف مُكملًا:

نيجي مثلًا لآية:

۞ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۞

الآية دي انفرد الله سبحانه و تعالى بالعبادة فيها هي فلا نعبد إلا هو و لا يُطلب الاستعانة بسواه في العبادة جل و علا و هنا فيه توحيد لله و الاستعانة و التوكل عليه في كل شيءٍ"


أنهى تلك الجزئية و هي تنصت له كما المسحورة حتى أضاف هو من جديد:

الآيات مثلًا اللي بعدها:

۞ اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۞ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ"


قاريء الفاتحة في الآيات دي يطلب الاستقامة و الهداية و السير على طريق مستقيم يؤدي بصاحبه إلى الجنة، يطلب من الله ذلك بقلبٍ خاشعٍ احنا بقى ربنا أمرنا بالفروض اللي عددهم ١٧ ركعة، تخيلي إحنا بنطلب من ربنا في الفروض بس ١٧ مرة الهداية للصراط المستقيم دا غير النوافل و السُنة، اللي عددهم كبير جدًا، لذا مطلوب مننا الخشوع في الصلاة و اعطاء الصلاة وقتها و حقها، نيجي بقى لتكملة الآيات اللي ربنا وضح فيها أهل النعيم لما ربنا هداهم للصراط المستقيم و منهم من اختصه الله بالنبوة و منهم الصالحين و الصديقين، المغضوب عليهم الذين اشركوا مع الله تعالى إلهًا أخر و اشتروا الدنيا بدلًا عن الأخرة، و الضالين هما اللي بيرتكبوا الذنوب و المعاصي في ضلالة عما يأثمون به و بصيرتهم أغلقت عن طريق الحق و الهدى"


أنهى حديثه ثم زفر بقوةٍ و هو يبتسم لها ثم سألها بهدوء:

"ها ؟! فهمتي حاجة مني ؟! لو كنتي فتحتي النت كان نفعك كتير عني، بس أنتِ طلبتي مني"


ردت عليه بلهفةٍ و تأثرٍ:

"مش كدا....بس أنا حبيت نتشارك اللحظات دي سوا يا وليد، احساسي و أنا قصادك و أنتَ بتفسرلي أنا قلبي طاير زي الفراشة، أنتَ فسرت من غير حتى حاجة تساعدك، أنا فرحانة أوي و نفسي نكون سوا بنشد بعض و نصلي سوا و نعمل حاجات كتير تخلينا ندخل الجنة سوا، الدنيا دي ملهاش لازمة بس الجنة هي اللي تستاهل نحارب علشانها"


حرك رأسه موافقًا ثم اقترب منها يقبل رأسها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"حاضر....وعد مني نحارب سوا و نشد بعض علشان ربنا يكرمنا بجنته، متنسيش إن رمضان قرب خلاص يعني لازم نحارب علشان نخرج منه بقلوب غير اللي دخلنا بيها"


حركت رأسها موافقةً فاحتضنها هو ثم أخرج زفيرًا قويًا ثم قال بنبرةٍ هادئة:


"و قَد جَمَعَنِّي اللّٰه بِمَنْ اِسّتَقَامَ القَلّبُ بِحُبِهَا و اهَتَدتْ الخُطَىٰ فِي الـسَيْرِ نَحَوْ دَربِهَا"


رفعت رأسها تطالعه بتأثرٍ فقبل جبينها ثم ابتسم لها حتى ألقت برأسها على كتفه و العبرات تلمع في مقلتيها.

_________________________


جلس «عمار» وسط أسرته يتناول الطعام بشهيةٍ واسعة و والدته بجواره تطعمه و تدلله و «عامر» يراقبهما بتهكمٍ حتى أقترب منه «فهمي» يطعمه و هو يقول بسخريةٍ:


"تعالى ياض آكلك هو أحسن منك يعني ؟! دلوعة ماما دا"


ردت عليه زوجته بحنقٍ و هو يطعم ابنه:

"مش عريس ؟! الله ؟! الواد فرحان و مفرحني، خَد الموافقة من العيلة و من صاحبة الشأن، طب دا لولا الملامة كان زماني طلبتها رسمي، بس هانت كلها أيام و تيجي"


رد عليها «عامر» بسخريةٍ:

"أيام ؟؟ دا في الأحلام يا سيدة، قصدك كلها سبع سنين، أنا عارف إيه القصة المعقدة دي ؟! الواد دا بدأ الطريق بدري أوي، ربنا يعينك"


رد عليه «عمار» بمعاندةٍ:

"هيعيني و يقدرني كمان، عارف ليه ؟! علشان القصد خير و النية مش وحشة، أنا واحد معملتش حاجة غلط، طلبت واحدة من أهلها علشان حبيتها و طالب منه يوصلني بيها، و بصلي و بدعي ربنا يجمعني بيها، الفرق بيني و بين اللي زيي أنه عاوز الطريق السهل علشان يوصلها، ممكن يكون حبها بجد و ممكن تكون هي دي شريكته بس الشيطان سهله طريق تاني خلاه يكلمها منه و يروح من ورا الأهل يكلمها، و الحجة إنه صغير لسه، مش شرط إنك صغير الشرط إنك تتوكل على الله و تمشي في الطريق الصح و تسعى، إنما اللي بيحصل باسم الحب دا غلط، أنا واحد وقفت قدام رجالة العيلة كلها و خدت الموافقة أروح وقت ما أروح أنا متوكل على الخالق يحفظهالي، كدا أركز في طريقي و أنا متأكد أني قفلت كل الأبواب في وش الشيطان"


أبتسموا له جميعًا بفخرٍ فتحدث «فهمي» معتزًا به:

"دلوقتي بس أقول عليك إنك زينة الشباب كلهم، لو عندي بنت و أنتَ جاي تتقدم ليها و الله ما أبخل عليك بيها، ربنا يحفظك و يحقق مرادك و يجمعك بيها"


ردت عليه «سارة» مسرعةً:

"يا رب يا بابا، كلنا بقينا نتمنى الأيام تجمعهم سوا، حاليًا عاملين زي الشمس و القمر مُتلازمين بس مجتمعوش سوا، بس هييجي يوم و تكونوا سوا فيه، ربنا مش هيكسر بخاطرك يا عمار"


حرك رأسه موافقًا و هو يبتسم لها فمال «عمار» على أذنها يقول بنبرةٍ هامسة:

"ملناش دعوة بيهم هما، خليني أنا مع شمسي و قمري و ونسي"


وكزته في كتفه و هي تحاول كتم بسمتها حتى غمز هو لها ثم أخذ الطعام من أمامه و هو يُطعمها حتى يُخفي خجلها منهم جميعًا و بفعلته تلك زاد خجلها أكثر فيما تجاهلهم هو جميعًا ثم ركز معها و هو يُطعمها.

_________________________


جلست على المقعد تطالع المنظر حولها من خلال زجاج النافذة و قلبها كما هو ينبض بفرحةٍ كبرى، حتى وضع كفه على كتفها فالتفتت هي له و عينيها تلمع بوميضٍ محبب لقلبه منذ أن وطأت قدماهما إلى تلك الأرض المكرمة، فقال «حسن» بهدوء:


"مالك ؟! بتعيطي ليه ؟!"

ردت عليه هي بصوتٍ مختنقٍ:

"ندمانة....من كل قلبي ندمانة و زعلانة على عمر كامل ضاع و أنا بعيد عن ربنا و بعيد عن طاعاته، اللي ضاع كان كتير أوي مني و العمر اللي باقي مش عارفة فيه إيه علشان ألحق أعوض، فرحتي أني جيت هنا مخلياني اتمنى الموت هنا يا حسن، الخوف أني أرجع دا تعبني أوي، عاوزة أفضل هنا"


رد عليها هو بنبرةٍ هادئة:

"دورنا بعد ما نمشي من هنا إننا نلحق نفسنا قبل ما الشيطان يوسوس لينا، دورنا إننا نمسك في النفس الجديدة اللي اتولدت جوانا سوا، عارفة سيدنا يونس لما كان في بطن الحوت عمل إيه ؟!"


حركت رأسها نفيًا بأسفٍ و خجلٍ فقال هو مسرعًا بثباتٍ:

"توكل بكل ذرة في كيانه على الخالق، ساعتها أول حاجة خطرت بباله كان الذِكر يا هدير، ساعتها قال

 [لا إله إلا أنتَ سبحانك اني كنت من الظالمين] أحنا كبشر لو اتحطينا في أزمة غصب عننا هنلهو عن الذكر، بس اللي علق قلبه بيه هو دا اللي هيقدر يلتزم بالذكر و يعود لسانه ينطقه، بصي !! هنبدأ سوا قبل ما نرجع تاني، ليكي مني أخر اليوم أفكرك بذكر معين ننطقه و نكرره سوا، يعني مثلًا استغفار أو حمد و شكر لله، أو صلاة على الحبيب، و نكررهم سوا، إيه رأيك ؟! و هنا نتذكر قوله تعالى:

"ألا بذكر الله تطمئن القلوب"


حركت رأسها موافقةً و هي تبكي أما هو فقبل قمة رأسها ثم قال:

"أنا فرحان بيكي أوي و فخور بيكي، ربنا يعينك على طاعته و يزيدك قرب منه و يثبت قلبك على محبته"


خفق قلبها فرحًا بعد حديثه و خاصةً عندما يتضرع لله بالقرب منه و هي معه كما أنها عزمت النية على العديد من الخطوات بعد عودتها من هنا، و كلًا منهم في سبيل طاعة الله.

_________________________


كانت تسير معه في أرجاء المدينة على ذلك الكوبري الشهير في تلك المحافظة و هو

"كوبري استانلي" و بداخلها طاقة حماس و استمتاعٍ كبرى و هي تبصر جمال تلك المحافظة للمرة الأولى و خاصةً في فصلها المحبب مع نسمات الهواء الباردة.


بعدها دلف بها أحد الأسواق الشهيرة يبتعان منها أشياءًا لهما و للأقارب حتى وقف أمام محل زهور قديمة صمم على النمط اليوناني و يعد صاحب شهرة واسعة في تلك المحافظة، دلف هو لذلك المحل و تركها في الخارج و بعد مرور دقائق خرج لها بباقة صغيرة الحجم بها تقريبًا ١٠ وردات باللون الأزرق السماوي تحتويهم ورقةً سوداء اللون تشبه ورق الجرائد القديمة لكن خامتها من الأوراق الحديثه و كأنها خليط من الزمنين معًا.


قدم لها الزهور فشهقت هي بفرحةٍ و لمعت العبرات في عينيها تأثرًا بفعلته تلك حتى قال هو معتذرًا:

"بصي !! كان نفسي أجيب حاجة كبيرة بس بصراحة من غير كدب يعني الأسعار جوة عاوزة قرض، يعني يدوبك نفول العربية و نمشي"


ضحكت هي بصوتٍ عالٍ حتى قال هو بقلة حيلة:

"متتريقيش عليا علشان مفلس !! بكرة هاخد القبض بتوع الشهر و نص و مكافأة كمان، و نجيب حاجة رمضان بقى، الحمد لله يا رب"


رفع كفيه يحمد الله حتى سألته هي بتعجبٍ:

"فرحان إنك مفلس ؟؟"


رد عليها مصححًا حديثها:

"لأ !! فرحان أني هجيب حاجة رمضان مع مراتي"


حركت رأسها موافقةً بتفهمٍ فقال هو بنبرةٍ هادئة:

"يلا نكمل بقى مشوارنا خلينا نروح و لا نقضي اليوم هنا في شوارع اسكندرية ؟!"


حركت رأسها موافقةً و هي تقول بسرعةٍ كبرى:

"أنا بقول نقضي اليوم هنا في شوارع اسكندرية"


رد عليها بحماسٍ:

"و أنا بقول كدا برضه و نروح ننام علشان كدا صيعنا كتير"


نظرت له بعينين مُتسعتين حتى أمسك هو كفها نحو السوق و هي تضحك عليه فوقف هو أمام أحد المحلات الخاصة بألعاب الأطفال، عقدت ما بين حاجبيها فقال هو بنبرةٍ هادئة:


"مش هقدر أنسى يونس معلش، تعالي معايا بقى ننقيله حاجة و نجيب لفارس كمان، بس أي حاجة فيها سبايدر مان هاتيها"


حركت رأسها موافقةً دلفت معه، أما هو فوقع بصره على حقيبة قماشية باللون الأزرق و يلتصق بها دمية قماشية أيضًا بارزة عليها لشخصية كرتونية شهيرة و هو"سبايدر مان" اقترب من الحقيبة يمسكها بيده و هو يتخيل فرحة صديقه الصغير بها، أما هي فوقفت بحيرةٍ حتى وقع بصرها على طقمًا رياضيًا خاص بالأطفال لنفس الشخصية، أخذت هي منها واحدة ثم اقتربت منه تستفر منه بنظراتها حتى أشار لها بيده و هو يبتسم لها، ففرحت هي بذلك الطقم فهي تعلم أن «يونس» كل ما يفضله في حياته هو ذلك الفيلم بشخصيته المفضلة و لذلك حرص «ياسين» على انتقاء ما يريده.

_________________________


في نفس التوقيت في محافظة القاهرة جلس «يونس» متذمرًا بعدما عاد والده دون لعبته المفضلة فعاد خائب الأمل يجلس على الأريكة و منذ ذلك الحين و هو عابس الوجه لا تنبسط ملامحه حتى حينما أعطاه والده المثلجات، اقترب منه «خالد» يجلس بجواره و هو يقول بنبرةٍ هادئة:


"مالك ياض ؟! زعلان بقالك نص يوم كامل ؟! كل دا علشان عنكبوت ؟! أومال لو كان حاجة عليها القيمة بقى ؟! يونس ؟!"


نظر له نظرةٍ جامدة فسأله «خالد» بنبرةٍ جامدة:

"أنتَ بتزغرلي يا يونس ؟؟ هتاكلني بعينك ؟! و بعدين مش عاوز تصلي معايا ليه ؟! هو أنا شيطان ؟!"


لم يفهم «يونس» كلمة من والده سوى أنه عاد دون أن يأتي له بما يريد، حينها حمله «خالد» على ذراعه ثم أجلسه على فخذه و هو يقول بنبرةٍ هادئة كما لو أنه يهاتف صديقه:


"مش احنا قولنا مفيش دلوقتي ؟؟ بكرة لو لقيت هجيبلك ؟؟ زعلان ليه ؟! مش قولتلي هات ايس كريم و أنا جيبتلك ؟! عاوز إيه تاني ؟!"


رد عليه بحزن:

"سبايدر مان"


قبل وجنته و هو يقول بنبرةٍ هادئة ممتزجة بمرحٍ:

"حاضر لو لقيت هجيب، لو ملقيتش مش هجيب، تمام ؟!"


حرك رأسه موافقًا فقال «خالد» له:

"يلا علشان نصلي سوا، لو مصلتيش مش هجيب حاجة !!"


وقف هو أولًا ثم لحقه «يونس» يقوم بفرد سجادة الصلاة الصغيرة الخاصة به فيما وقف «خالد» بجواره يرفع كفيه مُكبرًا بصوتٍ عالٍ:

"الله أكبر"


قام «يونس» بفعل مثلما فعل والده و قام بأداء الصلاة خلف والده فكان يُبصر ما يقوم والده بفعله ثم يقوم بعمله حتى انهى والده صلاة الشفع و الوتر و قبل أن يترك موضع الصلاة رفع كفيه يدعو الله ففعل «يونس» المثل و رفع كفيه و هو ينظر لوالده بطرف عينه و حينها رفع «خالد» صوته يقول:

"يا رب.... أحفظ يونس و باركلي فيه و أهديه"


كان «يونس» يردد خلف أبيه دون أن يعي بماذا يتحدث حتى قال «خالد» من جديد:

"يا رب....اكرمني بكرمك و قدرني على تربيته و اجعله ذرية صالحة ليا، يا رب احفظه بحفظك"


كان يتضرع لله بقلبه حتى وقف «يونس» ثم اقترب منه يحتضنه و قبل وجنته حتى احتضنه «خالد» ثم ربت على ظهره، كل ذلك كانت تتابعه «ريهام» على بعدٍ منهما حتى صدح صوت هاتف زوجها، فاقتربت من الهاتف و حينما وجدت رقم «ياسر» اخبرته هي فوقف حتى اقترب منها يرد على الهاتف فوصله صوته يقول:

"هات يونس و تعالى بسرعة"


أغلق دون أن ينتظر إجابةً منه ثم نزل بعدما أخذ «يونس» معه فوجد كلًا من «ياسر» و «عامر» معًا يقفا بالأسفل، اقترب منهما بتعجبٍ و حينها اقترب «عامر» يأخذ «يونس» يضعه على مقدمة سيارة «خالد» و حينها أخرج «ياسر» الدمية يقدمها له و هو يقول بمرحٍ:


"سبايدر مان أهو ياض، بيتكلم و ينور و بيعمل حركة كمان مش هعرف اوصفها علشان هيبتي"


ضحكا عليه الاثنين، فاقترب «عامر» منه يخرج كتاب الألوان من الحقيبة و هو يقول بنفس المرح:

"أمسك لون و شخبط براحتك في سبايدر مان زي ما أنتَ عاوز بدل ما تشخبط على الحيطة و خالد يدخل فيك السجن"


قفز «يونس» بفرحةٍ كبرى و هو يقول لوالده و يضع الأشياء نصب عينيه:

"بص يا خالد !! بص"


رد عليه «خالد» بسخريةٍ:

"بصيت يا حبيب خالد، استنى بقى لما نشوف إيه دا ؟!"


وجه بصره نحوهما و هو يسألهما بنبرةٍ جامدة:

"إيه دا أنتَ و هو ؟! انتوا جايبين إيه ؟! و ليه تتعبوا نفسكم ؟!"


رد عليه «ياسر» بسرعةٍ كبرى:

"جرى إيه ؟! هو يونس ابنك بس و لا إيه ؟! كنا بنجيب الفيتامينات لإيمان و سارة و في طريقنا عدينا على محل كله سبايدر مان، افتكرنا يونس"


ابتسم هو له فتحدث «عامر» بسخريةٍ:

"لو أنتَ أب قاسي و ناشف زي الفولية فالعبد لله طري زي المهلبية، كله علشان خاطر يونسي"


ضحك «خالد» رغمًا عنه ثم تحدث موجهًا حديثه لابنه:

"قول شكرًا و بوسهم يلا، خليك ذوق يا عديم الذوق"


اقترب «يونس» منهما يقبل كلًا منهما على حِدة و هو يشكرهما حتى رحلا سويًا فحمل «خالد» ابنه و الأشياء و هو ينظر في أثرهما بتاثرٍ أخفاه عنهما و هو يرى حنان أخوته على صغيره الوحيد الذي رفع صوته يودعهما بقوله:

"باي يا ياسر....باي يا عامر"

ضحك «خالد» رغمًا عنه ثم توجه به للبناية و قلبه ينبض بقوةٍ تأثرًا من ذلك الموقف.

________________________


جلس «وليد» في غرفته و «عبلة» تنام بين ذراعيه هادئة مُطمئنة و هو يربت على ظهرها و كتفها حتى غاصت في ثباتٍ عميقٍ، و في تلك اللحظة صدح صوت هاتفه برقمٍ تفاجيء هو به فرد عليه مسرعًا حتى لا تستيقظ زوجته و حينها وصله صوته يقول بثباتٍ:


"سفري اتأجل يومين و بصراحة عاوز أرد اعتباري قبل ما أمشي قدام الكل، مش مكيفني اللي حصل"


رد عليه «وليد» بسخريةٍ:

"يوسف ؟! لو عاوز تسجننا عرفني، أسهل يعني"


رد عليه بنبرةٍ ضاحكة:

"يا عم لأ أستغفر الله، قولي بس ابن الشيخ راجع امتى ؟!"


رد عليه بنبرةٍ تحمل الخبث بين طياتها:

"راجع الفجر يوم الحد إن شاء الله، خير ناوي على إيه ؟! هترمل أختي ؟!"


رد عليه بهدوء:

"لأ ناوي ارد اعتباري و أعتبار ياسين، مش مكيفني أنه واخد راحته كدا كأن محصلوش حاجة"


فهم «وليد» أن الحديث يخص ذلك المدعو «هشام» و حينها سأله «يوسف» بثباتٍ:

"المهم !! عاوز استغلك، معايا و لا لأ ؟!"


رد عليه «وليد» بنفس الخبث:

"عيب عليك معاك طبعًا، و يلا نكسر القافلة على دماغ أمه"

شعر «يوسف» بلذة الانتصار خاصةً بـ تحالفه مع «وليد» و إذا كان هو موافقًا على استغلاله، فسوف يستغله حق الاستغلال.

الفصل الثامن والسبعون من هنا


 

تعليقات



×