رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل السابع والسبعون بقلم فاطمه عبد المنعم
من اعتاد على أن يأخذ دائما لن يعرف العطاء أبدا، سيظل آخذ طوال عمره، سيظل حتى يتوقف الآخرين عن العطاء. حينها فقط سيعلم ما هو.
لم يهتم أحد بما قال، وكان أولهم صديقه فلم يكن أمامه حل سوى الرد على نصران، والده هو الوحيد الذي سيمنعه عن ممارسة هذا النوع من السباق مجددا، لن يستغرق الأمر الكثير ليأتي نصران بالسيارة لذلك وبدون تردد هتف: ألو يا عمو.
عيسى مبيردش على تليفونه ليه يا بشير؟
كان هذا قول نصران الذي لم ينتظر ما سيقوله صديق ابنه، ولكنه سمع صديق ابنه يطلب بتوتر وعيناه لا تفارق سيارة عيسى: عمو لو سمحت هبعتلك location تعالى دلوقتي، الطريق مش هياخد كتير.
أغلق الهاتف وهو يتمتم بانفعال: يا بن المجانين.
قال هذا وهو يرى ما يفعله صديقه من تهور ملحوظ دفع منظم السباق للانتباه له، لم يكن توقيتا عاديا على يشير بل مر عليه وكأنه دهر، دهر لم ينته إلا بوصول سيارة نصران عقب مدة من انتهاء السباق خاصة لحظة إعلان ترتيب الفائزين وقد حصد ابنه المركز الأول، وقف نصران مصدوما جوار بشير وهو يسأل ببوادر غضب: ايه اللي بيحصل يا بشير؟
برر بشير ما يحدث بانفعال وقد تلفت أعصابه كليا: اللي أنت شايفه يا عمو، ده سباق، كنت بدخله أنا وابنك لكن أنا بطلت وعيسى متهور وصمم يدخل النهاردة وأنا اللي أعصابي باظت طول ما هو جوا الزفت العربية.
يعلم أن حديثه ربما قد يبدو غير مرتب بالنسبة لنصران، لكنه مدرك أنه يعرف ما لا يعرفه، يعرف عن النوبات التي تصيب عيسى وينكرها دائما مستهزئا بحديث خالته، يعلم أن خلالها يفقد صديقه تعقله، ويعلم تمام العلم أنه ينبغي عليه التوقف عن هذا السباق الذي إن دخله بنوبة انفجاره احتمال أن يخسر حياته شبه مؤكد.
ظن بشير أن نصران جاهل بكل هذا، ولكن شك في هذا حين حضر عيسى الذي قد غادرته نوبته وبدأ في لحظات الاسترخاء، واسترجاع ما فعله أثناء السباق وقد أفسد استرجاعه رؤيته لوالده الذي قال بتهكم: ومجبتش أبوك يتفرج ليه يا عيسى؟
طالع عيسى صديقه بنظرات نارية جعلت والده يدير وجهه عنوة له متابعا بضجر: ما ترد؟، كنت قولتلي اجي اتفرج عليك وأنت عمال تتنطط بالعربية، ولا هو حلال لكل اللي بيتفرجوا دول وحرام على أبوك.
قطع حديث نصران صوت باسم الذي انضم لهم وقد رأى اشتعال الأجواء فأزاد من هذا أكثر بقوله بابتسامة تعكس الحرب بداخله: Congratulations يا عيسى
بس بصراحة أنت كنت مبهر النهاردة، تستحق الأول فعلا، أنا نفسي كنت عايز انسحب واقعد اتفرج عليك.
أدرك عيسى أن باسم استنبط عدم رضا نصران فبدأ في ألاعيبه لذلك رد عليه بضحكة غامزا: متقدرش تنسحب، لعبك معايا شرف ليك يا باسم، ومش جديد عليك أنت علطول في التاني وأنا في الأول.
ابنك علطول متهور كده يا حاج، صحيح كل مغامر باللذة ينعم، لكن خاف عليه يغامر مرة فيجراله حاجة، قوله يهدى شوية.
كان هذا قول باسم الذي جعل نصران يخبره وهو يربت على كتفه: كتر خيرك يا بني، ابني أنا مش خايف عليه، أنا أخاف عليك منه.
كلمات لم يتوقعها عيسى من والده ولكنها جعلته يطالع باسم بظفر وقد فسد مخططه، انسحب باسم بغضب وهو يشعر باهتزاز هاتفه، توجه للرد، وهتف نصران بحزم: ورايا أنت وهو...
وأشار لعيسى مؤنبا: و كلامنا في البيت يا بن نصران.
ما إن تحرك نصران مبتعدا عنهما وركب السيارة جوار السائق حتى ركل عيسى صديقه في معدته معنفا: أنت اللي كلمته؟، الغباء ده ميعملهوش غيرك.
انفعل بشير ودفع صديقه قائلا: أنا اللي غبي، ولا أنت اللي ماشي فاتحلي صدرك ولا همك حد، أنت أصلك مكنتش شايف نفسك.
أزاحه عيسى من طريقه صائحا: بقولك ايه لو أنت قلبك خفيف ولا بقيت مستحمل لعب ولا فرجة متجيش تاني، لما عامل العمايل دي هنا وكل حاجة هنا رسمي، مكنتش بتعملها ليه أيام سباقات الشارع اللي مكنتش ليها لا ظابط ولا رابط.
قطع صديقه الطريق عليه ناطقا بانزعاج: لا يا راجل، وكانت أخرتها ايه سباقات الشارع دي؟
مش كنت هتروح في واحد منهم ولولا ستر ربنا كان زمانك ميت دلوقتي أنت والعيلة اللي كان باسم المتخلف هيخبطها.
رد على صديقه وهو يحرك وجهه بضيق وعرقه يتصبب: وأنا بطلت اللعب ده من زمان يا بشير وأنت عارف، ولما بدخل سباق بيبقى ليه منظم والدنيا أمان.
قاطعه بشير بأعصاب قد تلفت تماما: أمان ازاي بسواقتك الزفت دي؟، أنت مكنتش في وعيك النهاردة علشان كده قولتلك تنسحب.
رد عليه بنبرة عالية: بشير خلصنا خلاص، قولتلك مش عايز متجيش تاني.
أنا هروح اتكلم مع ابوك يشوف هو هنخلص من الليلة دي امتى.
قال بشير هذا وهو يتجه إلى سيارته وقد انتظر ركوب صديقه سيارته هو الاخر ولكنه لم يتوقع أن يضرب عيسى على السيارة ناطقا: غور يا بشير.
قال هذا واتجه لسيارته ليركبها، وأثار غيظ صديقه بأن تخطاه بها مما جعل بشير يلحق به ولا يسيطر عليه إلا الغضب.
لم يستغرق الأمر الكثير حتى وصلا إلى المنزل، وجدا نصران في انتظارهما في الحديقة، تقدم عيسى وجلس على المقعد المقابل لوالده وجلس بشير على مقعد مجاور وبدأ نصران الحديث: ها يا عيسى سألتك سؤال هناك ومردتش؟
جاهد حتى لا يبدي انزعاجه وبدأ الحديث بهدوء: بابا بشير هو اللي بيقلق زيادة، مفيش حاجة حصلت، أنا من زمان بدخل سباقات وقولتلك قبل كده على فكرة، و بشير نفسه كان بيدخل.
لا يا عمو أنا بطلت الموضوع ده من بدري، وقولتله كذا مرة إنه مينفعلوش الكلام ده وهو مبيمشيش غير على كيفه، فحضرتك تقوله بقى بدالي.
ابتسم نصران بهدوء وشملهما بنظراته وهو يخبرهما: لا أنا مش هتحايل على حد...
احتدت نظراته وهو يتابع: لو عرفت انك دخلت البتاع ده تاني، انسى اني اشاركوا في أي حاجة تخص شغلك، وأنت حر بقى كل واحد عارف مصلحته كويس.
كلمات قالها بهدوء شديد ولكنه يعلم تأثيرها الكبير على ابنه، هذا التهديد بالتراجع عن شراكته سيجبره عنوة على عدم الحوض في هذا السباق مجددا حتى ولو لفترة لحين يتيقن من أن والده اشترك معهم.
ابتسم بشير برضا وتابع نصران: وأنا عارف يا عيسى إنك راجل صوتك من دماغك، بس عارف برضو إن كلمة أبوك سيف على رقبتك، فعايزك تبقى متأكد لو وصلي خبر إنك دخلته تاني محدش هيخسر غيرك.
أنا مبحبش الأسلوب ده.
قال عيسى هذا بضيق جعل والده يرد: ده أنت أبو الأسلوب ده، ده ناهية كلامي في الموضوع ده ولو عندك كلمة تانية خليهالك، عايز تروح تسابق انت حر، وأنا كمان حر اعمل اللي عايزه أشارككم أو لا على كيفي.
أنهى حديثه وغادرهما فطالع بشير صديقه مرددا بتشفي: أحسن أقسم بالله، هو مش شغلي وشغلك بس أنا فرحان فيك.
طالعه عيسى بنظرات نارية تصنع بشير أنه لا يلاحظها وقطع حرب نظارتهما نداء تيسير: الحاج بيقولك يا أستاذ عيسى يلا علشان الفطار، علشان أنتم مأخرين البيت كله.
استقام بشير ولحق بتيسير قائلا بنبرة مسترخية: اه والله صحيح أنا فطرت مرة برا، بس حرقة الدم هضمت اللقمة، لما اقوم افطر مع الحاج حبيبي قبل ما ارجع القاهرة اشوف اللي ورانا وأغور من وشك.
مردوده يا بشير، خليك فاكر إن أنت اللي جبته لنفسك.
قال هذا عيسى وقد اشتعل غيظه من صديقه، كان سيتجه للأعلى لمناداة زوجته ولكنه وجدها بالفعل في الأسفل وقد أحضرتها تيسير، اتسعت ضحكته وذهب للجلوس جوارها قائلا: صباح الخير.
ردت عليه وهي تطالعه معاتبة: قصدك مساء الخير، الضهر أذن من امتى؟..
هو ده اللي هتيجي علطول وهتروحني يا عيسى؟
وضعت تيسير أخر الأطباق على الطاولة وسأل يزيد والده الجالس جواره بحزن طفولي: يعني خلاص هترجع الشغل بكرا؟
غمز له طاهر وهو يوعده بابتسامة: هفسحك النهاردة.
أصرت رفيدة وهي تخبرهما: مش هيحصل غير ورجلي على رجلكم.
كان نفسي والله اجي معاكم، بس أنا لازم أنام بدري علشان بكرا الصبح عندي كلية.
علق على قول حسن والدته التي قالت: وده من امتى بتروح من أول السنة كده؟
أشار حسن لوالده سائلا بتصنع البراءة: عاجبك يا حاج؟، رايح اجتهد اهو ومش عاجب مراتك.
كانت عينا نصران على ملك التي أدرك من نظراتها المعاتبة أن هناك شيء ما ولكن سريعا ما تبدلت هذه النظرة لابتسامة ولم يكن يعلم أن ابنه يرد على قولها بحديثه المازح: متأخرتش على فكرة، بطلي ظلم شوية هتروحي من ربنا فين؟
نظرات نصران لفتت انتباه الجميع لهما فشعرت بالارتباك الذي أخرجها هو منه بقوله للجميع: مش ممكن على النظرات، والله ما هينفع كده، تعالي يا رفيدة اقعدي جنبي علشان كده مش سامعة كويس يا حبيبتي.
ضحكت شقيقته، بينما في اللحظة ذاتها وضعت سهام طبق الجبن قليلة الملح أمام عيسى معلقة: اتعلمي بقى يا ملك، علشان بعد كده تبقي عارفة جوزك يا حبيبتي بيحب ايه.
شعرت ملك بالحرج الشديد، ونظر طاهر لوالدته بضجر معاتبا، فأخبرها عيسى بابتسامة واسعة: مش مهم تعرف ده، هي عارفة حاجات كتير تانية، قوليلهم بقى أنتِ إيه أكتر حاجة أنا بحبها.
غمز بشير لطاهر وحسن وهو يخبرهم هامسا: أخوكوا بيسبل.
رفعت ملك كتفيها بابتسامة مرتبكة دلت على عدم معرفتها فاستنكر عيسى ضاحكا: الله ازاي؟
طب قولها أنت يا حاج
نبهتها رفيدة قبل أن ينطق والدها فنظرت لها ملك لتقول رفيدة بنبرة سمعها الجميع: بيحبك، بيحبك.
ضرب عيسى كفه بكف شقيقته وقد أثنى عليها بابتسامة: يا فهماني.
أنهى طعامه واستأذنهم قائلا: أنا طالع لميرت.
أعطى حسن نظرة عرف حسن مغزاها جيدا وهو أن يسعى جاهدا ألا تضايق والدته ملك بأي شيء.
وصل عيسى إلى غرفة خالته دق الباب مرة وسمحت له بالدخول في الثانية مما جعله يدخل قائلا بعتاب: يعني صاحية مش نايمة، منزلتيش تفطري ليه؟
رمقته بنظرات حزينة مبررة عدم نزولها بقولها: مليش نفس.
يعلم حزنها لذلك اقترب وجلس جوارها محيطا كتفيها بذراعه وهو يسألها: ليه؟
نزلت دموعها التي جعلته يميل على رأسها مقبلا وهو يسألها متأثرا بها: أنتِ عارفة إني ممكن استحمل أي حاجة إلا كده صح؟
أنا زعلانة منك أوي، من ساعة ما جيت اتكلم معاك بخصوص ملك وصدتني، ومن ساعة ما جيت اعرف منك ايه اللي حصل بالظبط بينك وبين كارم وصدتني.
نزلت دموعها أكثر عند جملتها الأخيرة فاحتضنها ورفع كفها يقبل باطنه معتذرا: أنا عملت كل ده؟، لا أنا استاهل الضرب علشان خليت عيونك تدمع كده.
ابتسمت بلطف واعتدلت له تمسح دموعها وهي تسمعه يقول برفق: قولتلك متخافيش على ملك، أنا ماشي معاها بشويش لحد ما تاخد على الجو براحتها خالص، بالنسبة لكارم بقى...
عند هذه النقطة احتدت نظراته وتابع يسبه مضيفا: لولا إنك باقية عليه، كان زماني راميه في الحتة اللي يستاهلها...
قبل أن تنطق رفع كفه طالبا برجاء: بلاش كلام من نوعية كارم طيب، أظن أنتِ شوفتي الطيب اخر مرة عمل فيا ايه؟
لديه كل الحق فيما قال لذا بهتت وعادت تنظر للأرضية فرفع وجهها موضحا: أنا لو سايبه فده علشانك، أنا لو قولتيلي عيش بقية حياتك تحت رجلي دلوقتي هعمل ده...
كلامه المؤثر جعلها تبتسم بحنان وهو يكمل بحزن لمع في عينيه: شوفي بقى أنا كام مرة طلبت منك تفضلي معايا ورجعتيله.
مقارنة كانت هي الطرف الأقل فيها، اعتصر الألم قلبها على ما يشعر به وقبل هو رأسها مرة ثانية قائلا: هزعل لو رجعت وقالولي انك لسه مفطرتيش.
غير الحديث في لحظة وأكمل وهو يتجه ناحية الباب: بدل ما تقعي مني، أنا اللف على المستشفيات ورم رجلي.
ضحكت على قوله وردت عليه مسرعة: بعد الشر.
استدار لها بابتسامة واسعة قبل أن يخرج تماما وألقى بها قبلة في الهواء جعلت وجهها يشرق إثر ضحكتها الواسعة بعدها، خرج هو برضا من غرفتها ولمح زوجة والده في غرفتها، كانت بمفردها، لم يقترب من هناك ولكنه سمعها تناديه طالبة بأدب: ممكن يا عيسى نتكلم شوية؟
نجحت في إفساد حالته المزاجية، نجحت في جعله يدخل الغرفة وهو يرفع سبابته محذرا بغضب: الفرك اللي بتعمليه مع ملك ده ميتعملش تاني، وخلي عندك شوية دم بقى...
كلماته أصابتها بشدة وتابع هو دون اكتراث: واحدة غيرك بعد اللي قولتيهولي المفروض متورنيش وشها تاني، لو في ايدي ارجع الزمن علشان اعمل حاجة واحدة بس، هرجعه علشان مدخلكيش عيلة نصران أبدا...
رفعت رأسها بكبرياء هدمه لها في جملته الأخيرة: هرجعه علشان اخواتي متبقيش أنتِ أمهم.
أنهى حديثه وتركها تقف مكانها وخرج كالبركان صافعا الباب خلفه بينما وقفت هي مكانها تتأمل رحيله وتضربها كلماته دون رحمة أبدا.
كانت تجلس بضياع أمام غرفة من لم تحتفل معه بزواجها، دموعها لا تتوقف وتحاول ندى و ميار التخفيف عنها وزاد من ضغطها النفسي والدة زوجها التي لا تتوقف عن الصراخ والشكوى من الحالة التي وصل إليها ابنها، و علا التي تبكي بصمت في إحدى الزوايا، لم يقطع هذا كله إلا رؤيتهم الممرضة تهرول من غرفة شاكر و تذهب مسرعة لاستدعاء الطبيب، خوف كان هو أول ما سيطر على بيريهان ولكنه سريعا ما تم وأده وهي تسمع صوت الممرضة تقول: المريض فاق يا دكتور.
هنا فقط عادت الأنفاس لها من جديد.
وقفت سهام في مكتب نصران ترتبه له كعادتها دائما، لم تكن في حالة تسمح لها أن تفعل هذا بمزاج معتدل، ولم تدر أن مزاجها سيتلف حقا وهي ترى ملف أمامها يبدو أن زوجها نسى أن يضعه في خزنته، جحظت عيناها وهي ترى الأوراق المتواجدة به واستدارت بصدمة وهي تسمع الباب يُفتح، لمحت من أرادت أن تسأله ما هذا، طالع نصران الملف في يدها ورفعته هي أمام عينيه سائلة بهجوم: ايه ده يا نصران؟
تجاهل نبرتها الهجومية وهو يسأل بهدوء: ايه يا سهام؟
طالعته بضيق وهي تقول: ايه الورق ده؟
وضح لها غير آبه بردة فعلها: ده الحق، حق عيسى، ده مال أمه
أردفت بغلظة لم يعهدها منها إلا في لحظات غضبها الشديدة: يعني ايه مال أمه؟، هو مش مال أمه ده المفروض انه يبقى ليه ولفريد وليك، و فريد الله يرحمه يبقى ورثه لاخواته، وأنت يا نصران؟
حدجها بنظرة نارية تبعها بضربه على مكتبه سائلا: عايزة ايه يا سهام؟
صرخت بغضب شديد: عايزة أعرف ايه ده يا نصران، ايه ده؟، من امتى وأنت مش حقاني؟، أنت كاتب لعيسى ده ليه؟، هتفرق بين عيالك؟
أكملت بقهر: ده أنا أخوك لما مات مخدتش شبر من الأرض بتاعته وسكتت وحطيت في بوقي الجزمة مع انه حقي، كتبت أنت بقى حقي ده لابني طاهر؟
سهام.
قالها بغضب شديد وهو يستقيم واقفا وقد ترك مقعده وتوجه ناحيتها ملقيا بالملف الذي بيدها على الأرضية بحركة انفعالية وهو يقول: فلوس ايه اللي بتتكلمي عليها، و عيالي ايه اللي افرق بينهم؟، جاية تحاسبيني بتاع ايه؟، لو عايزة نتحاسب يا سهام هقولك إن أبويا الله يرحمه اداكي حقك من مال اخويا على داير المليم، واللي مخدتيهوش أرض خدتيه فلوس، وأنتِ عارفة كويس قوانينه كانت إيه، الأرض مبتخرجش برانا، والأرض دي مين اللي ممشي الشغل فيها دلوقتي مش طاهر؟، هتبقى لمين بعدي مش لطاهر ولاخواته؟، حقك في اخويا خدتيه يا سهام وأنتِ عارفة، ومال المرحومة محدش ليه دعوة هيروح فين وهيجي منين، أنا الوحيد اللي اتكلم فيها، والفلوس اللي كان المفروض عيالك يورثوها من فريد زي ما بتقولي حاطط لكل واحد منهم قدها في البنك مرتين وتقدري تكلمي المحامي وتشوفي فلوس عيالك، كده محدش ليه حاجة في فلوس أم عيسى، الوحيد اللي ليه هو عيسى علشان ده مال أمه، مال أمه اللي مطلبش منه تعريفة وجاية أنتِ دلوقتي تحاسبيني ازاي سايبهوله كده.
ما إن قال جملته الأخيرة حتى ردت عليه بعينين دامعتين رفضا إنزال عبراتهما: تقوم تكتب لعيسى الأرض، مخدش فلوس زي اخواته ليه؟، أنت كاتبله الأرض علشان الحقيقة اللي عمال تنكرها يا نصران، علشان أنت عايزه الكبير من بعدك، كنت تقدر تاخد أرض امه وتديه بدالها فلوس، زي ما أبوك الله يرحمه اعتبر إن أخوك عمل جريمة يوم ما كتبلي أرض وخدها واداني فلوس.
حذرها للمرة الأخيرة بنبرة حازمة: قولتهالك مرة يا سهام وهقولها تاني، عيالي هما اللي من بعدي، أنا مبحطش حد على راس حد، لو عايز اخلي عيسى هو الكبير لوحده من بعدي مكانش بقى كل شغل الأرض ومالي اللي ممشيه طاهر، مين اللي مدور كل حاجة؟
لجأت للصمت الذي يدل على أنها الطرف الخاسر فعنفها قائلا: ما تردي، عايزة تعملي فرق جاية تقوليلي ابني وابنك، لا عندك كلهم عيالي واللي يقول غير كده اقطع لسانه، و عيالي دول أكتر واحد اتظلم فيهم ومعاشش ولا اتهنى في حضن أبوه هو عيسى.
غزت الحمرة وجهها، لحظات تهددها بأنها معرضة في أي دقيقة لأن يُفتش سرها، بينما أكمل نصران بنفس الحدة: وطالما زعلانة أوي كده...
جذب الأوراق وقطعها بغضب: ادي الأرض يا سهام، محدش هياخد فيها حاجة غير بعد موتي، وعيسى هياخد فلوس زيه زي أخواته وده مش علشانك لا، ده علشان تعرفي بس إني لو عايز اخلي عيسى الكبير من بعدي مش هعمل ده بإني اكتبله الأرض، اعرف اعمل ده بطرق تانية كتير، ومتحاسبنيش دلوقتي على حاجات رضيتي بيها زمان، أنا مقولتلكيش زمان سيبي أرض جوزك وخدي بدالها فلوس، اللي قالك كان كبيرنا كلها وقتها وأنتِ رضيتي.
لن تسمح له بأن يصدر لها أنها المخطأة، قلبت الحديث تماما وهي تصيح بانهيار: ليه عندك إصرار غريب تطلعني غلطانة وبكره عيسى، ليه يا نصران، من يوم ما بقيت على ذمتك ومن يوم ما خلتهم في أمانتي وأنا عملت اللي ميتعملش علشان ميحسوش لحظة ان امهم مش موجودة، ليه بتحملني ذنب إن عيسى كان نافر ورافض وجودي كأم بدل أمه؟
لم يجب على سؤال واحد مما طرحتهم بل تابع انهيارها وهي تكمل بدموع لا تتوقف: أنا كل اللي قولته بلاش الظلم علشان متولدش الكره بين عيالك، عيالك اللي لو عرفوا ان كلهم واخدين فلوس ما عدا اخوهم هو الوحيد اللي خد في حياتك أرض لازم هيسألوا ليه، ليه هما لا وهو اه؟
بقولك ساوي بينهم واحنا عايشين علشان لما نموت ميقولوش اننا كنا ظلمة، طلعتني فجأة عايزة مصلحتي وبس، حرام عليك يا نصران.
ألقت نفسها داخل أحضانه وهي تكرر: والله العظيم حرام عليك.
أمام حالتها هذه ابتعد عن أي جدال دائر، أخذها لتجلس على الأريكة ومسح على خصلاتها وهو يخبرها بهدوء: كنت فاكر انك عارفة اني مبظلمش، واني يوم ما يجرالي حاجة كلهم هياخدوا زي بعض، اللي بديه لعيسى في حياتي ده حقه ومش هيعوضه عن اللي خسره، مش هيعوضه عن عيشته بعيد عن حضني، وطالما ده خلاني ظالم في عينك يبقى زي ما قولت يا سهام محدش هياخد شبر من الأرض غير بعد موتي، وحق عيسى في أمه أنا هعرف ازاي اديهوله.
كلماته صفعتها فرفعت عينيها تطالعه بحزن معترضة: بتتكلم عن موتك وكأنه حاجة سهلة، أنا
أكملت بصدق من وسط شهقاتها: أنا الحاجة اللي ترضيني اني مفضلش عايشة لليوم اللي تسيبني فيه يا نصران، الحاجة اللي عايزاها انه يوم ما يجي ابقى ميتة.
مشاعرها الصادقة جعلته يحتضنها، أما هي فتخشى القادم دائما، تخشى أن يتركها وحيدة، صحيح أنها تحتمي بأبنائها، ولكنها وللأسف حتى هذا اليوم تخشى النظرة في عين عيسى، تخشى صغير شهدت تمرده، وكبير عرفت أنه محا السماح من قاموسه.
من جديد هنا أمام منزل والدتها، تحديدا أمام المحل الخاص بهم، كانت ابتسامتها واسعة ولكن على الرغم من ذلك كان بداخلها حزن كبير لتركه، قوة خفية تجذبها له، استدارت تطالعه في السيارة قبل أن تنزل وتسأله: هتمشي؟
اه همشي عملتك اللي أنتِ عايزاه ورجعتك هنا أهو.
نبرة معاتبة أدركتها جيدا فمطت شفتيها بحزن وهي تذكره: مش احنا اتفقنا انه وضع مؤقت...
قاطعها قائلا بسخرية: اه وضع مؤقت لحد ما اغيرلك الشقة، لكن مش دي الحقيقة هو وضع مؤقت علشان أنتِ مش مستعدة...
دي الحقيقة وأنا مش زعلان منها.
رفضت هذا وهي تؤكد له: لا أنت زعلان يا عيسى، أنا أسفه اني مخلياك زعلان كده، لو عايزني أرجع معاك دلوقتي هرجع.
لم يستطع أمام حديثها هذا إلا الابتسام بحنان تختاره دائما حتى على حساب راحتها، لذلك أخبرها بلطف: أنا مش عايزك تعملي حاجة غصب عنك يا ملك...
أنا أعرف ازاي اخليكي تعمليها بمزاجك على فكرة بس عايزك تيجي برجلك.
قال جملته الأخيرة غامزا فردت عليه بابتسامة: مغرور على فكرة.
ضحك على قولها وهز رأسه عليه موافقا ثم أخبرها: هاجي اخدك بالليل شوية، علشان رايح القاهرة كمان كام يوم ومش هعرف اشوفك.
وافقت بحماس وضحكة واسعة تعويضا له عن الخذلان التي تشعر أنها عرضته له، قطع شرودها قوله: اخر حاجة بقى.
أنصتت له ففتح ذراعيه قائلا بابتسامة: حضن تعويضا عن عمايلك السودة، واني واحد صبور ومستحملك.
ضحكت على توبيخه، وهزت رأسها رافضة وهي تفر من السيارة هاربة وترفع حاجبيها حتى تثير غيظه فتوعدها وهو يضحك قبل أن يرحل: ماشي يا ملك، لما اشوفك بالليل.
ما إن رحل حتى هرولت هي إلى المنزل، وقد كان المحل مغلق، استغربت هذا وقررت السؤال عن السبب، دقت على باب منزلها وسمعت صوت مريم تقول من الداخل: حاضر ياللي على الباب.
أحضرت حجابها وما إن فتحت ورأت ملك حتى صرخت باسمها وهي تقفز بفرح: ملك.
هرولت شهد من الداخل وقد عادت الدماء لوجهها من جديد، فلقد ظنت أن غيابها سيطول أكثر، وخاصة حين أخبرتهن أنها ستعود للمكوث معهم حتى ينتهي عيسى من بعض التجهيزات في المنزل ولم تعد، تتصل والدتها وتسأل ويخبرها عيسى بكل برود أنه سيعيدها غدا، كانتا ليلتان طوال وهي بعيدة عنهم في نفس المكان ولكن منزل اخر لذلك نزلت دموع شهد التي رددت: بت أنتِ متروحيش هناك تاني، أنا بقالي يومين مبنامش في الأوضة، وبروح أنام مع ماما ومريم والنومة هناك مش مريحة.
ضربتها هادية على كتفها وهي تبعدها لتحتضن ابنتها هاتفة باشتياق: والله العظيم ما في نفس اعمل أي حاجة طول ما أنتِ بعيد وأنا حاسة انك زعلانة ومش قادرة لده.
ابتسمت ملك وهمست لوالدتها: عيسى كويس متخافيش، وزي ما قولتلك في التليفون هو فاهم ومقدر، وسايبني اخد وقتي فمتزعليش بقى وتخافي عليا.
طمأنت قلب والدتها بحديثها وأسرعت تنضم لشقيقتيها على الأريكة هاتفة بمزاح: علشان تعرفوا قيمتي بس، قولولي كده وحشتكم قد ايه؟
ردت مريم بغيظ: لا هو أنتِ عندك حق فعلا، أنتِ واحشانا لدرجة ان أمك مكدرانا و مبتعملش أكل بقالها يومين، ومبتفتحش المحل وحاجة اخر هم.
جذبتها هادية من وجنتها مردفة بضجر: اكل يا مفجوعة، ده أنتِ مبتعمليش حاجة غير يا النوم يا الأكل يا التليفون.
ضحكت ملك و شهد التي هتفت مسرعة بحماس: عرفتي اللي حصل لشاكر؟
انكمش حاجبي ملك باستغراب، وفسد مزاجها تماما لمجرد سماع اسمه ولكن والدتها شقيقتها أكملت بتشفي فيه: بيقولوا يوم فرحه ملقهوش في الفرح فجأة وفضلوا يدوروا عليه طول الليل لحد ما لقيوه مرمي في الساحة هناك بس كان غرقان في دمه ومبينطقش، الكل بيتكلم إنه كان خلصان لدرجة انهم فكروه ميت.
تسارعت دقات قلب ملك، و مريم تقول عقب قول شهد: اهو في المستشفى اهو يا اختي، اياك ربنا ياخده ويريحنا منه، بس ازاي يا ملك ماتعرفيش حاجة؟
ردت عليها بصدق: والله ما اعرف حاجة فعلا.
ما هو كده ميبقاش عيسى اللي عملها، زي ما انا ومريم خمننا.
قول شهد جعلها تشعر بالخوف الشديد؛ لذلك طالعت هادية ابنتها بغضب شديد وهي تردد: بلاش كلام فاضي...
ربتت على كتف ملك قائلة برفق: قومي نامي شوية لحد ما الأكل يستوي، كان قلبي حاسس انه هيصدق النهاردة ويجيبك، فعملتلك بامية.
ابتسمت لوالدتها ولكن داخلها حرب لا تتوقف، اتجهت لغرفتها وما إن دخلتها حتى خلعت هادية ما ترتديه بقدمها فهرولت شهد وتبعتها مريم بصياح خوفا من بطش والدتهما وقد شعرا أنهما أفسدا شيء ما، لذلك قالت مريم أثناء هرولتها: احنا شكلنا عكينا.
أصابها حذاء والدتها فهتفت بانزعاج: طب والله شهد اللي قالت الأول.
كده؟
قالتها شهد بتوعد ودخلت الغرفة بمفردها وأغلقت الباب من الداخل وتركت شقيقتها في مواجهة أمها في الخارج وهي تقول من الداخل بضحكة متشفية: خليكِ عندك بقى.
ولم ترد على نداء شقيقتها إلا بالضحكات الشامتة حتى أشفقت عليها وفتحت الباب فتلقت فردة حذاء والدتها الاخرى في كتفها فانكمشت تقاسيمها ولم تبخل مريم عليها بالضحك بدلا منها هذه المرة وهي تقول: أحسن.
تبع قولها هرولتهم خلف بعضهما كالصغار دون توقف حتى وصلا إلى مبتغاهما واقتحما غرفة ملك وانضما لها في الفراش يضحكا بنبرة عالية جعلتها تشاركهم الضحك، و كعادتهم يستطيعا إخراج ضحكاتها في أشد لحظات خوفها، خوفها الذي لن يزول إلا بمعرفة كل ما حدث.
وعد ابنه بالخروج معه قبل أن يذهب إلى عمله، كان يستعد بالفعل وقد ارتدى قميص باللون الرصاصي وسروال من الجينز ومشط خصلاته وبدأ في نثر عطره استعدادا للخروج مع ابنه ولكن قطع تحضيراته اهتزاز هاتفه وما إن رد وسمع أحد الواقفين على البوابة يخبره: أستاذ طاهر، شهد بنت الست هادية على الباب وعايزة تخرج.
متخرجهاش أنا جايلك.
كانت جملته حاسمة واتجه ناحية الخارج، نزل ليجد ابنه في السيارة فطلب برفق: انزل بس يا يزيد عشر دقايق وهرجعلك.
رفض ابنه النزول فاضطر اجباريا لأخذه معه وتوجه بسيارته إلى مدخل القرية، كان الليل قد بدأ وتكاثرت معه النسمات الباردة، وعلى مسافة من المدخل استطاع سماع الضجة التي تسببت فيها، أوقف سيارته وطلب من ابنه البقاء داخلها، وأغلق الباب، توجه ناحيتها وهو يسمعها تصيح في الواقفين: يعني ايه مينفعش أخرج، هو احنا محبوسين هنا ولا ايه؟
أبعد طاهر حارس المدخل ووجه سؤاله لها بهدوء شديد: خارجة رايحة فين يا شهد؟
ما إن رأته حتى أدركت أنه السبب فهتفت بنبرة عالية: اه قول كده بقى، أنت اللي قايلهم ميخرجونيش مش كده؟
امشي ارجعي على بيتكم، الست هادية اللي بتقلق وتقفل عليكم والساعة لسه مجاتش تسعة، عارفة انك خارجة برا البلد وهي داخلة على 11؟
أوقعها في الشرك بالفعل والدتها لا تعرف، طالعته بغضب شديد جعله يبتسم مثيرا استفزازها: يلا يا ماما على البيت، روحي نامي يا شهد.
هتفت بإصرار: ملكش دعوة يا طاهر، أنت ملكش كلمة عليا تقولي اعمل ايه وما اعملش ايه.
أخرج هاتفه قائلا: يبقى نتصل باللي ليه كلمة يشوف هو تعملي ايه.
قصد والدتها فأنزلت يده قبل أن يهاتفها وتوجهت عائدة وهي تلقيه بنظرات نارية، كانت ستحمل الحجارة من الأرضية وتضرب زجاج سيارته لكنه منعها: الواد جوا يا بنت المجانين.
تيقنت من أن يزيد في الداخل حين نظرت وأشار لها الصغير قائلا بحماس: شهد تعالي معانا؟، بابا هياخدنا ونخرج.
معلش يا حبيبي عايزة أنام بدري.
اعتذرت منه وأعطته ابتسامة رقيقة ثم استدارت لوالده بنظرات متوعدة جعلته يقول بابتسامة صفراء: خليكِ بتتصرفي تصرفات مش موزونة كده لحد ما تودي نفسك في ستين داهية.
ردت عليه بنفس الابتسامة: عقبالك.
لم تنتظر أكثر من ذلك بل بدأت طريق عودتها إلى المنزل مجددا ووقف هو يتابعها متنهدا بانزعاج، فهو عائد للعمل من غد ولا يعلم أي منهما يحمل همه هل هي أم ابنه فلقد شغلته بتصرفاتها هي الاخرى.
الوقت قادر على كل شيء، ربما ما رفضناه في البداية نقبله في النهاية، قبول المضطر، هذا ما توصلت له ملك، هذا ما أجبرها عليه ما حدث في الساعات الماضية، فها هي من جديد في منزل نصران تحديدا في غرفة عيسى، ما حدث في الساعات الماضية لم يكن هين عليها أبدا ولكنه جعلها تدرك حقيقة واحدة أن قرار والد زوجها كان صحيح من البداية، كان.
عيسى داخل المرحاض فبقت تنظر للباب بتوتر ولكوب الشاي الذي أحضرته تيسير من أجله بتوتر أيضا، حسمت الأمر وأخرجت علبة الحبوب، وضعت واحدة فقط في الكوب الخاص به وبدأت في التقليب بيد لا تكف عن الارتعاش.
بتعملي ايه يا ملك؟
كانت الجملة كافية لتوقف قلبها، كان صوته وحده كافيا وهي تستدير تطالعه بذعر ولا تعلم أي جواب تقول، لا تعلم أي شيء سوى أنه دائما يفاجئها، دائما ملك المفاجأة.