رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الثامن والستون
"يمكن الهوىٰ غلاب و لكن إيه العمل في غُلب فراق الأحباب ؟!"
_________________________
"ودت فقط لو أعود لنفسي، أود أن أجدني بعدما فقدت نفسي و ذاتي و قُدرتي على مواساتي، اخشى أن أتوه مني في الزحام، و تزول مني قدرتي على الكلام، فكيف لي بمفردي أن أعيش في كل تلك الآلام، و كيف للمرء أن لا يُعانق الأحلام ؟!.
أطمئن شباب العائلة و فتياتها على «عبلة» و استمر المزاح قائمًا بينهم و سخريةً على «وليد»، أما هي فكانت في عالمٍ أخر، حيث شردت في فيه هو تحديدًا، لم تتخيل أن يفعل ذلك لأجلها، كما أنه يجلس بجوارها و لا يفارقها، نزلت ببصرها نحو موضع كفها، فوجدته مُحاصرًا بين كفه و كأنه يُطمئنها بتلك الطريقة أنه سيبقى بجوارها، أو بطريقةٍ أخرى يعتذر لها عما حدث لها بمفردها دون أن يكون مجاورًا لها.
نزل الشباب خلف بعضهم تباعًا من الشقة، و ظلت «هدير» معهم بعدما تابعت رحيل «حسن» بملامح وجه مُقتضبة، حرك «وليد» عيناهُ بتساوٍ بينهما ثم تحدث أخيرًا بتهكمٍ:
"و بعدين هتفضلوا قالبين خلقتكم كدا في وش أهالينا ؟؟ فُكوا الخِلقة خلوها تتفك علينا"
رمقته كلتاهما بحدةٍ و أول من ردت عليه بعدما جذبت منه أطراف الحديث كانت «هدير»:
"نعم أنتَ عاوز إيه ؟! خير يا سيدي ؟!"
رد عليها ساخرًا منها:
"انعم الله عليكِ يا أستاذة هدير، مروحتيش مع حسن ليه ؟! مش ناوية تبطلي هيافة بقى"
شهقت شهقة قوية بعدما تأهبت في جلستها و هي تردد خلفه باستنكارٍ:
"أنا هايفة ؟! تصدق إنك رخم و بارد و تنح !!"
رد عليها مؤكدًا:
"آه أصدق و حطي عليهم متربيتش و سافل و قذر، حاجة مش جديدة يعني، بس أنتِ مروحتيش ليه ؟!"
كانت الفتيات يتابعن ذلك الموقف و هن يحاولن كتم الضحكات، و قد نجحت «خديجة» في ذلك و تحدثت بنبرةٍ هادئة:
"وليد معاه حق يا هدير، كنتي روحتي معاه أحسن، شكله أصلًا كان زعلان لما خرج من البلكونة، كان متعشم إنك تروحي معاه، شكلك كسرتي بخاطره"
ردت عليها مُسرعةً:
"أنا مكانش قصدي أعمل كدا و الله، أنا كنت بفهمه وضعي و أني مش هقدر أروح الشقة دلوقتي، هو أكيد فاهم حاجة زي دي"
ردت عليها «عبلة» بهدوء:
"لأ هو أكيد مش فاهم حاجة زي دي، حسن أكيد فاهم غلط و فاهم إنك كدا مش عاوزة ترجعيله، و بصراحة أي حد مكانه هيفكر كدا"
سألتها باهتمامٍ غلف نظراتها و سيطر على نبرتها بالكامل:
"هيفكر ازاي ؟! هو قالي إنه مش هيضغط عليا و أنه متقبل الوضع دا لحد ما أنا أرجعله"
نطقت «خديجة» تلك المرة بنبرةٍ منفعلة إلى حدٍ ما:
"و ليه من الأول ؟! ما تروحي يا بنتي شقتك مع جوزك و خلاص، لازمتها إيه البهدلة دي ليكم انتم الاتنين ؟!"
ردت عليها مُفسرةً بصوتٍ مختنقٍ:
"علشان أنا مش عاوزة أروح هناك و حاسة إني لو روحت هتخنق، حنان دي الوحيدة اللي خوفتني صح، خلصت مني القديم و الجديد، الوحيدة اللي مقدرتش أقف قصادها أكتر من كدا و علشان خاطر الحب، أنا عاوزة أروح بيتي و ارجعه زي ما كان بس غصب عني عقلي مش مستوعب غير شكلي و أنا نازلة معيطة و بجري في وشي"
اقتربت في تلك اللحظة منها «خلود» تقول بطريقتها المعتادة التي تختلط دومًا بالدَهاء:
"يا هبلة و كدا حنان تبقى كسبت و عملت اللي هي عاوزاه، فرقت بينكم و ممكن تستغل دا و تسخن حسن عليكي، دي مش بعيد تاخده تجوزه كمان"
حركت «هدير» رأسها نحوها بسرعةٍ كبرى و هي تقول بنبرةٍ جامدة:
"مستحيل !! دي لو عملت كدا أنا أشرب من دمها بجد، أنا ساكتة ليها بما فيه الكفاية"
ردت عليها مسرعةً بنفس الدهاء و الحِنكة التفكيرية:
"ليه مستحيل !! مش جوزها عمال يكلمه و بيحاول يتواصل معاه ؟! ممكن تكون هي اللي مسلطاه، لو منك أحلق على جوزي، مش بعيد هو نفسه يتقل عليكي و ميردش على مكلماتك، اسمعي مني، تاكلي الشهد، ارجعي بيتك و عيشي فيه براحتك، و متخليش فرصة لحد يقرب من حسن، حتى لو أخته الحرباية دي"
انتفضت «هدير» فورًا من مقعدها تنزل للأسفل دون أن تتفوه بكلمةٍ واحدة، فيما ابتسمت «خلود» بانتصارٍ و خبثٍ غلف نظرات عينيها، حينها تحدث «وليد» بفخرٍ:
"تربيتي بجد مش هزار !! ما شاء الله خليفتي في الملاعب"
غمزت له و هي تقول بثقةٍ:
"عيب عليك، يا رب هو بس يسمع كلامي و ميعكش الدنيا"
وزعت «خديجة» النظرات بينهما بتساوٍ ثم تحدثت بقلقٍ منهما:
"بقولكم إيه انتم الاتنين ؟! أنا بخاف منكم أصلًا، اوعوا تكونوا بتعملوا مصيبة ؟!"
نظر كليهما لبعضهما و ما لبثوا ثوانٍ من التقاء نظراتهما حتى انفلتت ضحكاتٍ خافتة منهما يحاولا كتمها حتى لا يفتضح أمرهما، بينما «خلود» شردت فيما حدث منذ قليل قبل رحيل «حسن» من البيت.
(قبل ذلك بلحظات)
خرج «حسن» من الشقة و «هدير» تتابعه بعينيها و هو يذهب دون حتى أن يحاول توديعها، فقط تجاهلها كما لو أنها قطعة من قطع الديكور الموضوعة بأحد الأركان دون أن يكترث أحدٌ بوجودها، خرج من الشقة فلحقته «خلود» نحو الخارج بعدما تابعت نظرات الأخرى، و قبل أن يخرج من باب البيت أوقفته مُسرعةً و هي تقول:
"استنى يا حسن !! عاوزاك معلش ضروري"
عقد ما بين حاجبيه ثم التفت لها يقول بتعجبٍ:
"خير يا خلود ؟! فيه حاجة و لا إيه ؟!"
قفزت آخر درجتين تفصلا بينهما ثم اقتربت منه تقول بصوتٍ منخفض:
"وطي صوتك بس، عاوزاك تسمع كلامي و تنفذه علشان ترتاح، أنا عاوزة أساعدك"
زادت المسافة بين حاجبيه حينما فرق بينهما و هو يسألها ببلاهةٍ:
"عاوزة تساعديني ازاي ؟! و ليه أصلًا ؟!"
ردت عليه بثباتٍ:
"مش عاوز هدير ترجعلك ؟! يبقى تسمع كلامي و تطمن و تشوف النتيجة بنفسك"
وضع كفيه داخل جيبي بنطاله و هو يسألها بلهجةٍ ثابتة:
"و دا كدا لله و للوطن ؟! و لا فيه حاجة وراكي ؟! معلش !! اصلي عارفك من ساعة ما اتولدتي"
ردت عليه هي بثباتٍ:
"أديك قولت اهو !! عارفني من ساعة ما اتولدت، يعني فيه بينا عِشرة، و أنا علشان خاطر العِشرة دي و علشان خاطر حسن أخويا الكبير هساعدك بس تسمع كلامي، ها شاري"
أخرج تنهيدة بقلة حيلة و كأنه مغلوبًا على أمره فرد عليها بايجازٍ:
"اشتريت..... ها ؟!"
لمعت عينيها ببريقٍ غريب و كأنها طالب مشاغب ينوي على كارثة فادحة يعود أثرها بالسلب على رؤوس الجميع، لكن في حالتها بالطبع سيعود بالايجاب.
اخبرته بما يجب عليه فعله بدايةً من اليوم حتى تأتِ له النتائج المرغوبة، استمع هو لحديثها، فتحدث بنبرةٍ جامدة يغلفها الاستنكار:
"نــعم ياختي ؟! عاوزاني مردش عليها لو اتصلت و اتقل عليها ؟! اومال لو عاوز اطفشها بقى ؟!"
ردت عليه بلامبالاةٍ:
"براحتك شكلك مش شاري، خليك بقى كدا أسبوعين و لا حاجة، طالما كلامي مش على هواك"
قبل أن تلتفت و تغادره أوقفها هو بقوله الحاد:
"استني هنا !! كلميني زي بكلمك، قولي اللي عندك كله و أنا أشوف"
زفرت هي بقوةٍ ثم قالت:
"أنا مش فاضية ليك يا حسن، هتسمع كلامي و لا لأ ؟!"
حرك رأسه موافقًا على مضضٍ ثم قال مُعدلًا على حديثها:
"معلومة صغيرة ليكي بس، هدير مبتحاولش تكلمني أصلًا، غير مرة أو اتنين، غير كدا هي بتهرب"
ردت عليه بخبثٍ و ثقةٍ لا تبرح من محلها أو تتزعزع حتى:
"و هو دا دوري، نفذ كلامي و الله مش هتندم، هتشوف النتايج بنفسك، اسمع بس كلامي و نفذه، و مهما تحاول تكلمك أوعى ترد"
انتبه لها بكامل حواسه و هي تُملي عليه خطتها حتى تُعيد له زوجته البلهاء التي لم تعلم ماذا تُريد حتى الآن، اخضع سَمعهِ لها و لم يستطع انكار إنها حقًا تأتِ بافكارٍ مثمرة، بعد انتهاء حديثها ابتسمت باتساعٍ و هي تقول:
"ها !! إيه رأيك بقى ؟!"
_"نسخة منه، طبق الاصل هو بس على مؤنث، حاسس أني شايف وليد صغير قدامي"
تفوه هو بذلك ردًا على استفسارها، فيما حركت هي كتفيها و هي تقول:
"و فيها إيه ؟! هي دي حاجة وحشة ؟! ربنا يكرم بس إن شاء الله يعني، متبقاش تنسانا"
حرك رأسه موافقًا و هو يبتسم لها، فلوحت هي له ثم تحركت من أمامه راكضةً نحو الأعلى فحرك رأسه يتابع خطواتها ثم قال بسخريةٍ:
"البت دي بـ ١٠٠ راجل صحيح، بس الله يصبره اللي هيقع فيها"
(عودة لتلك اللحظة)
خرجت من شرودها حينما ركضت من أمامه و بالطبع لم تستمع لما قاله عنها، خرجت من شرودها على صوت «عبلة» تقول بقلقٍ:
"استر يا رب !! سرحتى في إيه"
ابتسمت لها و هي تقول بهدوء:
"و لا أي حاجة، متشغليش بالك"
حركت رأسها موافقةً، فوقف «وليد» و لا زال كفه يمسك بكفها بتشبثٍ و كأنها ستفر منه و تتركه، ثم قال:
"يلا بقى تعالي ريحي شوية علشان رجلك اللي ورمت و أنتِ منزلاها على الأرض و تعالي افكهالك و ريحي جوة"
ردت عليه هي بلهفةٍ:
"أنا نمت كتير مش هعرف أنام دلوقتي، خليني هنا طالما مش هنام يا وليد"
حملها على ذراعيه و هو يقول بإصرارٍ و رفضٍ لحديثها:
"قولت لأ، هتدخلي جوة ترتاحي و خلاص، كلمة كمان هقفل أنوار الشقة كلها و اسيبك تنامي لوحدك"
ظهر التبرم و الضيق على معالم وجهها، بينما هو سار بها حتى وضعها على الفراش برفقٍ ثم جلس مقابلًا لها و ذراعيه موضوعين على الفراش كما لو أنه يحاصرها، ثم اقترب منها يقول هامسًا:
"يعني ينفع أقولك قدامهم برة أني بحبك و أنك وحشتيني ؟! و أني حاسس بتعبك كأني متكتف ؟!"
رفعت عيناها له فمال عليها أكثر و هو يقول بنفس النبرة الهامسة:
"و بعدين مفيش شكرًا على الموبايل اللي دفعت فيه كل فلوسي ؟! إيه متجوز قطة بتاكل و تنكر ؟!"
انفلتت منها ضحكة خافتة فغمز لها ثم اقترب منها يلثم جبينها و قال بعدها بهدوء:
" ألف سلامة عليكِ يا عبلة، و حقك عليا و على قلبي علشان اللي حصلك، كان المفروض اركز معاكي شوية، متزعليش مني"
اقتربت منه هي تحتضنه و هي تقول بصوتٍ مختنقٍ:
"أنتَ ملكش دعوة باللي حصل، دي كانت حاجة مفاجأة يا وليد، و بعدين بطل تشيل نفسك ذنب كل حاجة كدا، الحمد لله أنا بخير"
حرك رأسه موافقًا و هو يبتسم لها فطلبت منه هي بيأسٍ:
"مش بخير أوي يعني، فلو تقدر تفك الرباط شوية هبوسك دلوقتي"
اقترب هو من رابط الضغط يقوم بفكه عن قدمها، فتأوهت هي بخفوتٍ و هي تتحامل على نفسها حتى لا تتوجع، بينما هو رفعها على فخذه و هو يدلكها لها برفقٍ ثم قام بوضع المرهم الطبي لها ثم حاول يحرك قدمها حتى تألمت هي بشدة، حينها زفر بقوةٍ ثم قال:
"متخافيش هي كلها كام كدا و هتفك إن شاء الله، ريحي أنتِ بس و متدوسيش عليها كتير، حملي على رجلك التانية"
قال حديثه ثم اعتدل واقفًا حتى يخرج من الغرفة حينها أوقفته هي بقولها:
"برضه هفضل قاعدة هنا ؟! كدا هزهق و الله يا وليد"
خرج هو دون أن يعيرها أي اهتمام و كأنها لا تتحدث من الأساس، حتى نظرت في أثره بدهشةٍ و هي تقول:
"لأ !! دا أكيد منفصم فعلًا"
_________________________
أوقف السيارة أسفل البناية التي قرر هو أن يهرب من تعبه و ألمه النفسي عندها، خرج منها ثم دلف البيت يطرق باب الشقة بهدوء حتى أتت له و هي تفتحه بعدما استندت على عكازها، و بمجرد فتحها الباب تشكلت الفرحة على وجهها و هي تقول:
"حسن !! وحشتني يا قلب أمك، كل دا غايب عني ؟!"
مال عليها يقبل قمة رأسها ثم قال بأسى و غُلبٍ:
"ابنك تعب أوي يا ماما، ماشي بأخر نفس فيا و خايف يفارقني هو كمان"
أمسكت يده تسحبه نحو الداخل و هي تقول بصوتٍ ليْن و هاديء:
"تعالى بس جوة و احكيلي كل حاجة، اقفل الباب وراك بس"
اغلق الباب ثم سار معها حتى وصل للشرفة يجلس بها معها فسألته هي بحنانها المعتاد:
"ها بقى ؟! مالك يا حسن ؟! و شكلك عامل كدا ليه ؟!"
تنفس بعمقٍ ثم قال بصوتٍ رخيم:
"هحكيلك علشان ارتاح و علشان أنا مش قادر أقف ثابت أكتر من كدا، حتى العياط مبقيتش عارف أعيطه"
تابعت هي قسمات وجهه المتألمة فوجدته يبدأ بسرد الحكاية منذ أن وطأت قدمي أخته نحو شقته، تلك هي البداية لما حدث و لألمه الذي لازال كما هو حتى الآن ينخر في قلبه كما تنخر الحشرات في أرضٍ ذراعية أكلت خيرها و زال خضارها، و كأن العجز أصابها، كان يقوم بسرد كافة التفاصيل و مع كل مرةٍ يخرج بها تلك الحروف الموجعة يشعر ببرودةٍ تجتاحه و كأنه يلقي دلوًا من الماء المثلج على تلك النيران، و كانت هي تنصت له بكامل حواسها و قلبها يتمزق عليه كما لو أنه ابنها حقًا، حتى أوقف هو الحديث و رفع عينيه الباكيتين اللاتي زاغتا في الفراغ و هو يقول بوجعٍ:
"وجعي منها كان صعب أوي، أختي اللي من لحمي و دمي و كنت بقول عليها أمي عملت فيا كدا، بقيت واقف مش عارف أعمل إيه، كل اللي خطر في بالي ساعتها هو إن أمي لو موجودة أنا كنت اشتكيت و عيطت و صرخت كمان، كانت أول مرة اتأكد انها ماتت بجد، ساعتها ملقيتش مكان غير هدير، حسيت إنها كل مكاني في الدنيا، روحت عيطت ليها و أنا خايف تكون مصممة تسيبني، بس اتفاجئت بيها بتحضني و أنا زي كل مرة حطيت راسي على حجرها و نمت من غُلبي، بعدها لقيتها مش عاوزة تيجي معايا، و دلوقتي الأمل راح مني، خايف تكون عاوزة تسيبني بس مكسوفة تقول، أنا مش هقدر اكمل و أنا متعلق كدا"
ردت عليه هي بلهفةٍ:
"هي لو عاوزة تسيبك مش هتخبي، هدير بتحبك بجد، لو مش بتحبك مش هتداري عليك كلام أختك علشان متوجعكش، هدير موجوعة من المكان اللي ارتاحت فيه، لو رجعت و نارها لسه قايدة مش هتعرف تحب المكان دا تاني، هي مش عاوزة تسيبك هي عاوزاك معاها و عاوزة وجودك، بس غصب عنها موجوعة من اللي حصل، دا شرف ست يا حسن، و مهما كان هي مراعية إنها أختك، واحدة غيرها كانت هدت الدنيا على دماغها، اعذرها و ريح قلبك"
نزلت دموعه و هو يقول بوجعٍ و ألمٍ:
"أنا قلبي بيوجعني أوي يا ميمي، حاسس إن تعب و وجع الدنيا كلها بقى في قلبي، و الله العظيم أنا معملتش حاجة وحشة في حد، و عمري ما كنت وحش، ليه بيحصلي كدا ؟! ليه كل شوية اتساب و كل شوية يجي خطر جديد يلعب بدماغي ؟! نفسي ارتاح، و لو راحتي في الموت يبقى ربنا يعجل بيه"
نهرته هي فورًا و هي تقول بلهجةٍ حادة و جامدة:
"متقولش كدا يا حسن، حرام عليك يا بني تيأس من رحمة اللي خلقك كدا، دا نصيبك و مكتوبلك، ارضى بيه يابني علشان تشوف الكرم، و احمد ربك انك مش لوحدك"
زادت دموعه و هو يقول:
"أنا مش بخير و مش عارف أقول كدا حتى، مش عارف أقول أن اختي هي اللي وجعتني و دبحتني بسكينة تِلمة، من غير حتى شفقة أو رحمة، وجعي منها مموتني"
سحبتها من يده حتى اقترب منها و وضع رأسه على حجرها، فحركت كفها فوق رأسه و هي تقول بنبرةٍ باكية بقلب أمٍ ملكومٍ على ابنها الذي عاد إليها باكيًا من غدر دُنياه:
"بسم الله على قلبك حتي يهدأ، بسم الله على نفسك حتى تطيب ، بسم الله على ابتسامتك حتى تعود ..بسم الله علي كل ما يُهْلِكَ نفسك حتى يَهْلكَ ، بسم الله على أيامك حتى تتجمل ، بسم على همومك حتى تزول ، بسم الله على أقدارك وأحوالك حتى تتغير لأفضلها ..
اللهم أخرجه من حوله وقوته لحولك وقوتك فلا حول ولا قوة لي إلا بك باسمك اللهم أستودعك ابني وأقداري وأحوالي وما أرجوه اللهم لا خذلان ولا خيبات ، حصنته باسمك العزيز ،اللهم لا تجعل أمره عسيرًا ولا أيامه ثقيلةً"
هدأ هو بعد حديثها و توقفت عبراته عن الحركة، فربتت هي بكفها المُجعد فوق رأسه مُتابعًا نحو ظهره تمسده بحنوٍ بالغٍ، و في تلك اللحظة شعر هو و كأنها أمه حقًا، تلك العاطفة التي تغدقه بها، جعتله ينام قرير العين بعدما رفع كفه يحتضن كفها الحُر و كأنه يطلب منها أن تبقىٰ بجواره، ابتسمت هي بحبٍ و العبرات تنساب على وجنتيها و لازال كفها كما هو يمسد على ظهره حتى تأكدت أنه غفىٰ في سِنةً أخذته من نفسه خِلسةً، حينها فردت شالها الصوفي على ظهره، و هي تراه كما لو أنه ابنها و خرج من رَحمها، لكن رابط القلب بينهما أقوى و أعتىٰ من روابط الدماء الواهية و إن كانت هناك رابطة من الأساس.
_________________________
جلسا كليهما وسط العُمال و رجال البدو و النيران في المنتصف يلتفون حولها جميعًا يأخذون منها الدفء في ذلك الليل البارد و يلتمسون منها الضوء في الدرب المعتم، مال «يوسف» على أذن «ياسين» يحدثه هامسًا بنبرةٍ ضاحكة:
"علشانك عملوا لينا كبسة باللحمة و كوفتة، بقالي هنا سنتين محدش جابلي ورك فرخة حتى"
غمز له «ياسين» بثقةٍ و هو يقول:
"دي حلاوة إن يبقى معاك ياسين رياض الشيخ، اتقل أنتَ بس و هخليهم يغدوك مشوي كل يوم"
رد عليه بنفس الهمس:
"لو حد يتكرم و يعملي محشي ورق عنب كدا تبقى قُضيت يا عمنا"
ابتسم له «ياسين» بيأسٍ و هو يحرك رأسه نفيًا و كأنه يقول لا فائدةً منك، بينما الأخر طالع الوجبة أمامه بشوقٍ و هو يشتاق حقًا لمذاق الطعام في البيت.
شرد «ياسين» فيها و أن اليوم أوشك على الانقضاء دون أن ترد حتى على مكالماته، على الرغم أنه أخبرها أن الهاتف الأخر سيبقى معه، زفر هو بقوةٍ ثم ملأ الملعقة بالطعام ثم ادخلها فمه، و حينها تحدث «صالح» بنبرةٍ ضاحكة إلىٰ حدٍ ما:
"بس ما شاء الله عليك يا بشمهندس ياسين، من ساعة ما جيت و الفرح زار الصحرا، وجودك مُبهج أوي تبارك الله"
رد عليه هو بضحكةٍ خافتة:
"الله يعزك يا شيخ صالح، أنا بصراحة مبحبش الكئابة، بحب اللمة و بحبها تكون لمة حلوة"
تدخل «عبد العزيز» يقول بنبرةٍ ضاحكة:
"و الله حضرتك اروق بشمهندس نشتغل معاه، و بشمهندس يوسف برضه، أول مرة نعرف إنه بيضحك و بيهزر زينا كدا، برضه ابن أصول"
ضحكوا عليه جميعًا فرد عليه «يوسف» بنبرةٍ ضاحكة:
"و الله يا عم عبدالعزيز أنا حبيتك، ربنا يكرم أصلك"
رد عليه «عبدالعزيز» بمرحٍ:
"و أنا و الله يا بني، تعالى بقى أجوزك شهد بنتي"
ضحك «ياسين» بقوةٍ بينما «يوسف» اختفت بسمته و رد عليه بوجهٍ متهجم:
"كرهتك يا عم عبدالعزيز، قَفل على السيرة دي"
أوقف «ياسين» الضحكات رغمًا عنه حتى نظر له «يوسف» و حينها ضحكا سويًا على ذلك الاسم الذي لم تتضح قصته بعد.
تناولوا الطعام و قاموا بعمل الشاي للجميع، حتى قام أحد العمال بتشغيل ابتهال من الابتهالات القديمة، فأضحت الأجواء يسودها الشجن، و كلًا منهم شاردًا في حاله، فتحدث أحد العمال يقول موجهًا حديثه لـ «ياسين»:
"بس غريبة يا أستاذ ياسين يعني أنك ما شاء الله مهندس ليك مكانة و مع ذلك بتقعد مع العمال و تغني وسطهم، ما شاء الله روحك حلوة أوي"
ابتسم له و هو يقول:
"كدا و روحي حلوة يا "جليل"؟؟ طب دا أنا عندي أخ لو جه هنا مش بعيد يرقص الجبال و ينطق رمل الصحرا، أنا يدوبك نقطة في بحر روحه الحلوة"
ردوا عليه الرجال جميعًا يطلبون منه أن يديم الله وجودهم مع بعضهم، بينما "عزوز" اقترب منه وسط الرجال حتى طالعه «يوسف» بريبةٍ و «ياسين» أيضًا خوفًا من القادم، لكنه ضرب بخوفهم ذاك عرض الحائط حينما مال على «ياسين» يُقبل قمة رأسه و قال معتذرًا منه:
"حقك عليا يا بشمهندس، بس اللي حصل كله من البداية كان غلط، متزعلش مني"
وقف «ياسين» أمامه تقديرًا لفارق السن بينهما و هو يقول:
"أنا مش زعلان يا عم عزوز، بس أنا عاوزك تطول بالك شوية بعد كدا، افهم الدنيا ماشية ازاي علشان متقعش فوق دماغنا، و أديك شايف أهو أنا مش غلطان في حاجة"
رد عليه الرجل بضيقٍ:
"هو أنا طبعي كدا ناشف و دماغي مقفلة، أبويا صعيدي و متربي طول عمري وسط البدو و العرب، اعمل اي يعني"
تدخل «يوسف» يقول ساخرًا:
_"أدينا عيارين في نفوخنا علشان يعجبك و ترتاح، يلا"
رد عليه الرجل بضجرٍ:
"اهوه أنا مش باخد منك غير تريقة و خلاص، بعدين أنتَ مالك الموضوع ميخصكش"
رفع «يوسف» حاجبه له و هو يقول بحنقٍ منه:
"تحب أوريك الموضوع يخصني و لا لأ ؟! و بعدين مش مكفيك اللي خدته مني الصبح ؟!"
كان «يوسف» لازال جالسًا على الأرض و «ياسين» و «عزوز» يقفان، حتى التفت له «ياسين» يقول بنبرةٍ هادئة:
"خلاص بقى يا يوسف المسامح كريم، و بعدين احنا وسط جبل يعني لو حد فينا جراله حاجة محدش هيلحقه غير الرجالة هنا"
زفر بقلة حيلة ثم قال على مضضٍ يخرج حديثه عنوةً:
"تمام يا عم، بس يطول باله، علشان أنا لساني زفر و خلقي ضيق"
ابتسما كليهما فرد عليه «عزوز» بيأسٍ منه:
"يا عم حاضر، المرة الجاية واحد فينا يخلص على التاني أحسن"
تحدث «صالح» يقول برزانةٍ:
"من شيم الرجال و الرجولة أن الراجل يعتذر عن غلطه و يجاري المركب علشان تمشي للكل، مهما كان احنا هنا وسط الجبال و الصحرا، يعني لازم نكون حتى أمان لبعض"
تنهد «ياسين» ثم أخرج الهاتف من جيبه حينما فقد الأمل في أن تهاتفه هي عليه، ثم مد يده لـ «عزوز» به و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"أنا أسف أني خدته غصب عنك، بس أنا كنت مضطر على كدا، شكرًا"
أخذ الرجل منه الهاتف و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"عادي مفيهاش حاجة، تحت أمرك في أي وقت"
حرك رأسه موافقًا له و في تلك اللحظة صدح صوت الهاتف، تابع الرجل الرقم بعينيه و لم يتعرف عليه، فقال بنبرةٍ هادئة يستفسر منه:
"الرقم دا تبعك ؟!"
خطف «ياسين» الهاتف بلهفةٍ و هو يقول مسرعًا:
"آه، تبعي، ممكن أرد ؟!"
حرك رأسه موافقًا فسار «ياسين» مبتعدًا عنهم حتى يستطع التحدث معها، و قد سبق و ضغط على زر الايجاب حتى لا يختلط عليها الأمر، رد عليها بلهفةٍ و هو يقول:
"خديجة !! عاملة إيه ؟! أنتِ كويسة ؟!"
ردت عليه و هي تجاهد للتحدث و قد داهتمها قوة البكاء:
"أنا كويسة الحمد لله، أنتَ إيه أخبارك ؟! طمني عليك"
_"الحمد لله بقيت كويس علشان اطمنت عليكي، حاولت اوصلك طول اليوم بس تليفونك مقفول و استنيت إنك تكلميني بس محصلش، و بعدها حاولت من شوية مردتيش عليا، هو أنتِ زعلانة مني ؟!"
سألها بترقبٍ و كأنه يخشىٰ القادم من كلماتها، فردت عليه هي ببكاءٍ:
"أنا زعلانة علشان أنتَ مش موجود، زعلانة علشان حاسة أني غريبة حتى عن نفسي، و حتى مش عارفة أكلمك غير بوقت محدد"
مسح وجهه بكفه الحر ثم قال بنبرةٍ يجاهد حتى يتحدث بها:
"الحمد لله أني بعرف أكلمك و الحمد لله على كل حال، بس طلب مني بلاش تسيبي نفسك للزعل، اخرجي و افرحي أنا هنا الحمد لله مبسوط"
مسحت دموعها و هي تسأله بغير تصديق و إنكارٍ لصدق حديثه:
"بجد !! مبسوط عندك ؟! قول و الله مبسوط"
ابتسم بخفةٍ و هو يقول:
"مبسوط و فرحان و الله، و فرحان علشان سمعت صوتك دلوقتي، أنتِ أكتر واحدة أنا ممكن أزعل لو هي مش كويسة"
مسحت دموعها و هي تقول خاضعةً له:
"حاضر و الله، أنا بس كنت عاوزة أقولك حقك عليا أني مرديتش عليك علشان عبلة تعبت شوية و كنت معاها، بصراحة سيبت الموبايل و مركزتش معاه، بس لما سمعت صوتك و أنتَ بتغنيلي زعلت أكتر ، خلي بالك من نفسك"
تنفس هو بعمقٍ ثم قال:
"حاضر يا خديجة، و أنتِ كمان، عاوز أرجع الاقيكي كويسة، و اطمني عليا أنا هنا مبسوط الحمد لله و كل حاجة بقت كويسة"
قررت هي أن تمازحه فقالت بصوتٍ باكٍ:
"حاضر بس خلي بالك أنتَ تنساني و أنتَ مبسوط، هزعل منك والله"
تشكلت السخرية على وجهه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"مَن يَسكن القَلب كَيفَ للرَوحِ أنّ! تَنساهُ، وَ كَيف أذكرهُ إن كُنتَ لا أنساه؟!"
ارتفعت ضربات قلبها فورًا، فأضاف هو مُفسرًا:
"حتى و أنتِ غايبة عن عيني أنا مش شايف غيرك يا خديجة"
ردت عليه هي بنبرةٍ باكية:
"لو سمحت متقولش ليا كلام حلو، علشان كدا أنا عاوزة أبوسك و أنتَ مش قصادي"
ابتسم هو بيأسٍ فوصله صوت أحد العمال ينادي عليه، حينها تنهد هن بعمقٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"خلي بالك من نفسك، و ادعيلي يا خديجة، و اطمني أنتِ أغلى رزق ربنا كرمني بيه"
أغلقت معه الهاتف بعدما ردت عليه هي الأخرى ثم التفتت خلفها فوجدت «وليد» يقول بسخريةٍ:
"يلا يا عسل علشان تحضري الغدا أنا مش عارف أتصرف من غيرك، يلا علشان عبلة"
حركت رأسها موافقةً ثم ذهبت نحو المطبخ، بينما هو دلف غرفة نومه و دون أن يتحدث حمل «عبلة» على ذراعيه حتى شهقت بقوةٍ و طالعته بريبةٍ و دهشة، فدلف بها غرفة الأطفال يضعها على أحد الفراشين الموضوعين بالغرفة، ثم تركها و خرج بنفس الصمت و الغموض الذي جعلها تنظر في أثره ببلاهةٍ، و بعد مرور تقريبًا دقيقتين، فُتح باب الغرف ليطل منه ثلاثتهم
(خديجة، وليد، خلود) اتسعتا حدقتيها بقوةٍ و هي تراهم يدلفون لها بالطعام على طاولةٍ متوسطة الحجم، ابتسمت هي رغمًا عنها فوجدتهم يقتربون منها بالطاولة، فيما تحرك «وليد» نحو الشاشة يقوم بتشغيلها على أحد المسلسلات التي تتابعها زوجته، ثم جلس بجوارها و هو يبتسم لها، فتحدثت هي تستفسر بصوتٍ باكٍ:
"هو...هو أنتم عاملين كدا علشاني ؟!"
رد عليها هو ساخرًا:
"أومال علشان مين يا سوبيا ؟؟ يلا هندلعك أهوه وليد الرشيد و أخواته بيضحوا"
ظهرت السعادة على ملامح وجهها فور سماعها لحديثه، فوجدت «خلود» تقترب منها بالطاولة و هي تقول:
"يلا يا سوبيا علشان تاكلي، خديجة عاملة ليكي أكل حلو أوي"
جلست في تلك اللحظة «خديجة» بجوراها و هي تبدأ في أعطائها الطعام داخل فمها، و بعد مرور دقائق من تناولها الطعام و رفع الطاولة خارج الغرفة
حينها قام «وليد» بالاعتدال بجوارها حتى ضمها بين ذراعيه و هو يغمز لها بمشاكسىةٍ، و على الفراش الأخر جلست «خلود» و بجوارها «خديجة» و معها طبق كبير الحجم به بعض التسالي و بجوار «وليد» أيضًا نفس الطبق، بينما «عبلة» وضعت رأسها على صدره و هي تبتسم بنفس السعادة حتى شعرت بذراعيه يلتفان حولها يحيطها بأمان إذا وزع على العالم أجمع لكان كفاه و فاض منه بقية، شعرت به يميل نحو أذنها مستغلًا انشغال الأخرتين في التلفاز و هو يقول بنبرةٍ هامسة حنونة:
"مرتاحة يا حبيبتي ؟!"
رفعت رأسها نحوها بسرعة كبرى غير مصدقة لما نعته به، هل قال للتو "حبيبتي" ؟! حركت رأسها موافقةً بتيهٍ فوجدته يميل عليها يقبل قمة رأسها ثم ربت بكفه على ذراعها و هو يتنهد بعمقٍ و هي الأخرى تجلس في كنفه بأمانٍ بعد لحظاتٍ عصيبة عايشتها في الصباح دونه.
_________________________
نزلت «هدير» الغرفة الصغيرة بشقة أختها حتى تهاتف زوجها و لكن الهاتف كان مغلقًا، حينها شعرت هي بالخوف و التوتر و داهمتها أفكارٌ كثيرة عنه و عن ما قد يكون حدث له، لمعت العبرات في مقلتاها فورًا و خطر على بالها أنه قرر الهروب منهم جميعًا حتى منها هي، أخرجت الهاتف تهاتف زوجة حارس العقار و أناملها ترتعش بخوفٍ عليه، حتى وصلها الرد، فتحدثت بلهفةٍ مُسرعة:
"أم أمل !! معلش هو حسن مجاش البيت ؟؟ بكلمه موبايله مقفول"
ردت عليها السيدة:
"لأ يا ست هدير مجاش العربية مش في الجراج، فيه حاجة ؟!"
زاد الخوف في قلبها و هي تقول بنبرةٍ مهتزة:
"لأ يا أم أمل...بس...بس معلش لما ييجي كلميني، علشان هو تعبان شوية و أنا مش معاه"
وافقت السيدة على طلبها و اغلقت معها الهاتف، بينما هي شردت فورًا في مكانه و كلما جال بخاطرها مكانٌ ما انصرفت الفكرة عنها فورًا حتى وصلت بمخيلتها أن شقيقته تواصلت معه، خشيت هي تلك الفكرة فقامت من مكانها على الفور تحضر ثيابها التي أتت بها حتى ترحل إلى بيتها، فحتى و إن كانت موجوعة من ذلك المكان لكنها ستتحامل على نفسها حتى لا يضيع من بين بيديها كما لو كان سرابًا، فحتى و إن كانت هي وطنه و الأوطان لا تُسلب فهو روحها و الروح لا تذهب سوى بموت الجسد.
و لكن قبل أن ترتدي ثيابها جلست على الفراش بإحباطٍ و هي تفكر في خطأها السابق هل تكرره من جديد ؟! هل تنزل في الليل بمفردها نتيجة تسرعها ؟! مهلًا على كل حال الليل قد ذهب، و سيحل محله الصباح، و مع شروق الشمس ستذهب نحو بيتها و في تلك اللحظة حمدت الله أنه قد أعطاها مفتاحها و حاجتها الخاصة بعدما رحلت أخته و ذهب هو الشقة.
على الجهة الأخرى رفع رأسها من على حجرها و على عكس المعتاد لم يكن الألم له محلًا بجسده و كأنه أخذ سِنته تلك على أحد الأرائك الناعمة كما لو أنه صنع من ريش النعام، كانت هي تقرأ له القرآن و كفها يتحرك فوق رأسه و الكف الأخر يعانق كفه، كما لو أنه طفلًا صغيرًا يتشبث بوالدته يخشى أن تتركه في أول أيامه الدراسية، ابتسم لها حينما وجدها تطالعه بحبٍ و سألها بصوتٍ متحشرجٍ نتيجة استيقاظه:
"هو أنا نمت كدا ازاي ؟!"
ردت عليه هي تمازحه:
"دي سر الأمومة يا أبو علي"
ابتسم هو باتساعٍ لها فوجدها تحرك كفها تربت على يده و هي تقول:
"روح يا بني ربنا يكرمك و يجبر بخاطرك إن شاء الله، و يحققلك مرادك، ثق في ربك يا حسن"
ابتسم لها برضا و هو يقول بخضوعٍ و راحةً:
"واثق و راضي و الله، و بحمده على كل حال و بشكره على كل مرة افتكرتها الأخيرة و طلعت بكرمه فرصة تانية، بشكره على ستره ليا و على نعمة وجود اللي بحبهم و على نعمة وجود هدير معايا حتى لو كانت تعبانة في مخها شوية"
ابتسمت «ميمي» و هو أيضًا رغمًا، فقال هو بقلة حيلة و وجهٍ مبتسمٍ:
"لأ بجد، الحمد لله على كل حاجة و الحمد لله إنه عوضني بيها عن كل حاجة وحشة قلبي عاشها في يوم، و الأهم بقى هو أنتِ يا ماما"
لمعت عبراتها على الفور و هي تقول بشوقٍ بالغٍ لتلك الكلمة:
"الله !! ماما ؟! بحب الكلمة دي أوي، منهم لله كرهوني فيها"
مال على كفها يقبله و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"و أنا عيني ليكي يا ماما، لو هما مش مقدرين النعمة اللي كانت عندهم، غيرهم بس كان يتمنى نظرة عين منها، لو هما مش عارفين يعني إيه أم، فأنا قلبي ياما بات محروق من وجعه علشان محروم من النعمة دي"
ابتسمت هي له فاقترب منها يقبل قمة رأسها ثم اعتدل واقفًا وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
"عاوزة حاجة مني ؟! يدوبك أروح ارتاح، كدا كدا بكرة الجمعة، مع إن بصراحة مفيش مكان ممكن أنام فيه براحة زي هنا"
ردت عليه هي بهدوء:
"ربنا يريح قلبك و يكرمك يا حبيبي، يلا اتكل على الله و خلي بالك من نفسك"
حرك رأسه موافقًا ثم نزل بعدما ودعها و قبل رحيله اطمئن عليها و أعطاها الدواء، كل ذلك كانت هي تتابعه بعاطفة أمومة جياشة و أمرأةٍ بقلبٍ ملكومٍ بعدما تركها ابنائها و رحلوا دون أن يفكر أيًا منهم إن كانت على قيد الحياة أم أن جسدها احتضنه التراب، لكن عطف الله و كرمه أغدق روحها، حينما مَن عليها بهؤلاء الشباب و الذي أخذ كلًا منهم قطعة من روحها و قلبها.
_________________________
في صباح اليوم التالي بعد انتهاء تلك الليلة على الجميع، نزل الشباب في الصباح و كعادتهم يرتدون العباءة البيضاء و معم «يونس» أيضًا، و لكن على عكس المعتاد لم يقترب منهم المرح بل حل الحزن ملامح وجههم خاصةً حينما وقف «عامر» أمام بناية «ياسين» ينتظر خروجه حتى أقترب منه «خالد» يقول بنبرةٍ هادئة:
"ياسين مش هنا يا عامر، صباح الفل، يلا علشان نلاقي مكان"
حرك «عامر» رأسه موافقًا على مضضٍ ثم اخفض رأسه ينظر لـ «يونس» الذي أمسك كف والده و في يده الأخرى حقيبة صغيرة، اخفض «عامر» نفسه حتى جلس على ركبتيه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"إيه اللي معاك دي يا يونس؟! بتاعة مين الشنطة الحلوة دي؟!"
رفع «يونس» الحقيبة و هو يخبره باسمها، قطب «عامر» ما بين حاجبيه فقال «خالد» مُفسرًا:
"بيقولك دي شنطة المصلية، بس هو الحروف عنده لسه تحت النمو، مين اللي جابلك دي يا يونس ؟!"
وجه سؤاله لابنه حتى قال «يونس» مجاوبًا على استفساره:
"ياسين"
اقترب منه «عامر» يقبله ثم اعتدل واقفًا و هو يقول:
"طب يلا نروح لياسر علشان نلحق الصلاة"
أوقفه «خالد» يسأله بتعجبٍ:
"استنى يا عامر !! مالك فيه إيه ؟! مش عوايدك يعني الهدوء دا، أنتَ فيك إيه ؟!"
رد عليه «عامر» بضجرٍ:
"مخنوق يا خالد، دماغي وكلاني علشان ياسين، تفتكر ممكن يكون مش كويس و بيقول كدا علشان يهدينا ؟! تفتكر فيه حاجة حصلتله ؟!"
وضع ذراعه على كتفه و هو يقول بحكمةٍ و هدوء:
"لو فيه ياسين كان عرفنا، بس أنا واثق إنه بقى كويس، و بعدين هو أخر حاجة مكلم كل واحد فينا كانت امبارح و سمعت بنفسك صوت الناس حواليه، متخافش على أخوك"
أبتسم له «عامر» فاقترب منهما «ياسر» و هو يقول:
"اتأخرتوا عليا ليه ؟! يلا علشان الصلاة"
حركوا رأسهم بموافقةٍ فرفع «يونس» ذراعه بالحقيبة و هو يقول بنبرةٍ مرحة:
"ياسر....بص يا ياسر...بص"
حمله «ياسر» على يده و هو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
"نعم يا روح قلب ياسر، وريني كدا معاك إيه؟!"
رفع يده و هو يحاول إخراج ما يوجد بالحقيبة، فتدخل «خالد» يعاونه في ذلك، حينها قال هو بحماسٍ:
"علشان نصلي أكبر زي خالد"
ضحك له «ياسر»، فاقترب منه «عامر» يقول مقترحًا بهدوء:
"أنا بقول نقفل عليك في تلاجة حلويات علشان كدا كتير، أو هاتوه لسارة تتوحم عليه علشان يطلع ابني زيه"
أبتسما له كليهما، بينما «يونس» مال على هاتف «عامر» يريد منهم التقاط صورةً لهما، حينها تحدث «ياسر» بيأسٍ:
"صوره، الاستاذ اتعود يتصور كل جمعة، ما شاء الله لقط من كل واحد فينا حاجة"
أخرج «عامر» هاتفه بينما «ياسر» حمل الصغير على كتفيه و «خالد» بجانبه و الأخر في المقدمة ثم رفع ذراعه و كأنه يحتضن به شخصًا أخر، ابتسم الثلاثة له على الرغم من التعجب البادي على وجهيهما، أما هو انهى التقاط الصورة ثم التفت لهما، فسأله «خالد» بتعجبٍ:
"أنتَ رافع دراعك التاني ليه ؟!"
رد عليه «عامر» ببساطةٍ مُفسرًا حديثه:
"علشان أحط ياسين معانا، لحد ما يرجع إن شاء الله و يطمننا عليه"
حركا رأسيهما بموافقةٍ ثم تحركوا نحو المسجد و كل تفكيرهم موجه في حال أخيهم و الذي على الرغم من حديثه المُطمئن لهم، إلا أن القلق لازال مكانه و لن يهدأ بالهم إلا برؤيته فقط.
_________________________
توقفت سيارة «وليد» صباحًا أمام مقر الجمعية الخيرية و معه «خديجة» في السيارة تجلس بجواره و الحيرة باديةً على وجهها، ابتسم هو لها و هو يقول بثباتٍ:
"يلا يا ست البنات كلهم، انزلي"
التفتت له تسأله بتعجبٍ:
"هو فيه إيه ؟! أنتَ ساحب معزة وراك ؟! جايبني هنا ليه يا وليد ؟! و بعدين قولتلي رايحين مشوار مهم ؟! أنا مش فاهمة حاجة"
ابتسم لها و هو يقول مفسرًا حديثه بنبرةٍ هادئة:
"أنا جايبك هنا علشان تخرجي كل الطاقة السلبية اللي عندك، إيه رأيك ؟! أنا قولت مينفعش اسيبك لزعلك كدا"
ظهر اللين على ملامحها و بدأ الانصات يأخذ محله على وجهها فقال هو مُضيفًا:
"مش دا أكتر مكان فرحتي و خرجتي طاقتك فيه ؟! تعالي معايا يلا"
ردت عليه هي بنبرةٍ تائهة:
"بس هو كان معايا لما جيت هنا، كان ملازمني زي ضلي اليوم دا"
ابتسم لها و هو يقول:
"و أنا مش هسيبك و أرجع، أنا هفضل معاكي هنا لحد ما تخلصي، حاجة تانية؟!"
حركت رأسها نفيًا و هي تبتسم له فنزل هو من السيارة و هي خلفه، دلفا سويًا للداخل و هي تطالع المكان حولها بشوقٍ و فرحةٍ حتى رأتها تلك الفتاة التي تُدعى "نوف" حينها ركضت إليها بلهفةٍ و هي تقول:
"خديجة ؟! عاملة إيه وحشتيني اوي، يا رب تكوني فكراني"
ردت عليها «خديجة» بنبرةٍ هادئة:
"نوف صح ؟! أنا فاكرة لما اتقابلنا مرة هنا، ازيك؟!"
ردت عليها الفتاة بحماسٍ:
"كويسة أوي الحمد لله، أنتِ إيه اخبارك، طمنيني عليكي، قوليلي جاهزة تجربي اليوم معانا بتحديات جديدة؟!"
حركت رأسها موافقةً فأمسكت الفتاة يدها ثم أشارت لـ لأحد الشباب الموجودين بالمكان اقترب منهم و هو يبتسم فقالت هي بنبرةٍ هادئة يغلفها الحماس:
"اقدم ليكم غسان خطيبي، و مسئول معانا هنا، اتفضل بقى خد أستاذ وليد عند الشباب، و أنا هاخد مدام خديجة أخته"
حرك رأسه موافقًا و هو يبتسم لهم، ثم قال بوقارٍ و رزانةٍ:
"تحت امركم، اتفضلي أنتِ يا نوف، و أنا هاخد الاستاذ وليد"
تحركت من أمامه بعدما سحبت «خديجة» معها، بينما هو وقف أمام «وليد» الذي كان يتابع «خديجة» بعينيه كما لو أنها ابنته فسأله مبتسمًا:
"قولي بقى يا وليد تحب تروح نشاط إيه ؟! بتحب تعمل إيه؟!"
حرك «وليد» كتفيه و هو يقول:
"معرفش، انتم عندكم إيه ؟!"
انفلتت ضحكة خافتة من بين شفتي الآخر و هو يقول:
"عندنا كل اللي نفسك فيه يا وليد، فيه اطعام و فيه كساء و دي ملابس بنفرزها، و فيه مسنين و فيه تعبئة شنط غذائية، تحب إيه في دول ؟!"
ابتسم له «وليد» و هو يقول:
"شوف اكتر حاجة بتحتاج مجهود و خليني أعملها، استغل الطاقة بقى اللي عندي"
وضع يده على كتفه و هو يقول:
"طب تعالى بقى شوف و اختار بنفسك يا وليد، إن شاء الله تفرح معانا و اليوم يعجبك، ربنا يتقبل منك و يديم استخدامك في الخير"
في الداخل دلفت «خديجة» مع الفتاة دون أن تدري أي شيءٍ مما حولها، حتى وقفت في وسط غرفة ممتئلة بالأطفال، حينها التفتت لها «نوف» و هي تقول بنفس الحماس و الطاقة المرحة:
"بصي يا ستي، أنا اخترت ليكي نشاط براعم، حسيت إنك عندك طاقة حلوة مع الأطفال، هنلعب معاهم و نعلمهم و نشرح ليهم كمان، و نصلي سوا، إيه رأيك ؟!"
شعرت «خديجة» بطاقةٍ غريبة من الحماس تحتل خلجات روحها و تسكن بين جنبات صدرها، و خاصة مع مظهر الأطفال حولها، فاقتربت منها «نوف» تقول بنبرةٍ هادئة:
"أنا هسيبك معاهم تتعرفي عليهم و تشوفي مجموعة منهم تكوني مسئولة عنهم لحد ما باقي البنات توصل، لو احتاجتي حاجة عرفيني يا خديجة، تمام ؟!"
حركت رأسها موافقةً و هي تبتسم لها، فتحركت من أمامها الفتاة، بينما «خديجة» حركت رأسها تجول بنظرها في الغرفة فوجدت مجموعة فتيات وسط بعضهن يتراوح عمرهن من بين السادسة و التاسعة، و على بعدٍ منهن فتاةٍ كانت تجلس بملامح حزينة، اقتربت منها «خديجة» تجلس بجوارها و هي تقول بنبرةٍ هادئة:
"مالك ؟! ليه شكلك زعلان كدا ؟؟"
رفعت الفتاة عيناها لها ثم اخفضتها مرةً أخرى، شعرت «خديجة» بالاحباط لكنها لم تيأس بل أمسكت كفي الفتاة و هي تقول بنبرةٍ مرحة:
"طب عبريني أنا زيك محدش هنا معبرني، اسمك إيه طيب ؟!"
ردت عليها الفتاة بايجازٍ:
"ريماس...و أنتِ ؟!"
ابتسمت لها و هي تقول:
"خديجة، اسمي خديجة، عندك كام سنة طيب ؟!"
ردت عليها بنفس الاختصار:
"٦ سنين و أنتِ ؟!"
ابتسمت لها و هي تقول:
"٢٥ سنة إلا كام يوم كدا، بس مشيها يا ستي، المهم متضحكيش عليا أنتِ زعلانة ليه؟"
ردت عليها بحزن:
"علشان مش عارفة هقعد مع مين، كلهم مع بعض، مش لاقية مكان ليا وسطهم"
لمعت العبرات فورًا في عيني «خديجة» تأثرًا من حديث الفتاة فرآت نفسها القديمة تتجسد بها، لكنها مسحت دموعها ثم مالت على الفتاة تقبلها و هي تقول:
"حتى لو ملكيش مكان وسطهم بس أنتِ ليكي مكان في قلبي و أنا بحبك، ينفع تكوني معايا ؟!"
حركت الفتاة رأسها موافقةً بحماسٍ، فأمسكتها «خديجة» من يدها ثم قالت بنبرةٍ خافتة:
"قوليلي بقى، بتحبي مين من هنا و عاوزة تقعدي معاهم ؟!"
أشارت لها على الطاولة التي تقع على مقربةً منها و هي تقول:
"عاوزة اقعد معاهم بس هما مفيش معاهم مكان، علشان كدا قعدت لوحدي"
غمزت لها و هي تقول بمشاكسىةٍ:
"عيب عليكي و أنا موجودة، تعالي معايا و أنا هخليهم كلهم يقعدوا معاكي"
اقتربت من الفتيات و هي تقول بنبرةٍ هادئة:
"صباح الخير ممكن لو مفيهاش إساءة أدب اقعد معاكم أنا و ريماس ؟!"
نظرت الفتيات لبعضها بحيرةٍ و هي تتابع الموقف باهتمامٍ حتى حركت احداهن رأسها موافقةً، حينها جلست «خديجة» على ركبتيها ثم وضعت «ريماس» أمامها و هي تقول بنبرةٍ هادئة و عملية إلى حدٍ ما و كأنها تتحدث مع أناسٍ كِبار:
"بصوا كدا مبدأيًا، أنا جاية و مسلمة أمري لله، معنديش صحاب خالص و كل اللي اعرفهم مش معايا، يعني لو عيطت هنا هبهدلكم، و ريماس طلعت طيبة أوي لما لقيتني بعيط كانت هتعيط معايا، و أنا حبيتها و قررت انها تبقى أول واحدة اصاحبها هنا، حد فيكم تاني عاوز يصاحبني، و لا أفضل أنا و ريماس مع بعض و نعيط سوا ؟!"
ردت عليها الفتيات بحماسٍ و سرعةٍ كبرى يرفضن حديثها، فقالت هي مقترحةً:
"طب بما انكم وافقتوا تكونوا صحابي، لازم تصاحبوا ريماس لأن هي أول واحدة كانت هتعيط معايا، و احنا شكلنا كدا هنعمل فريق عيوط أوي، يبقى نجمع كل عياطنا على بعض، ها موافقين؟!"
وافقت الفتيات بسرعةٍ فقامت هي بمهمة التعريف بينهن، ثم جلست معهن بحماسٍ تمازحهن، وقفت «نوف» تتابعها من على بعدٍ حتى تنهدت بعمقٍ ثم أخرجت هاتفها تراسل «هناء» و هي ترسل لها:
"الحمد لله يا دكتور، بقت كويسة وسطهم، و لسه لما تكمل اليوم وسطهم"
دلف «وليد» غرفة كبيرة يوجد بها أكياس كبيرة الحجم، و بعض العبوات الكبرى "الشِوال" يوجد بداخلها البقول و الحبوب الخاصة، كما يوجد بها بعض السلع الغذائية، اقترب منه «غسان» و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"دي أوضة تعبئة الغذاء و الشنط اللي بتتوزع على الأهالي يا وليد، شكلك ما شاء الله رياضي، فـ ممكن تساعد الشباب إنك تقرب منهم الشكاير و تساعدهم في الميزان ؟!"
حرك رأسه موافقًا و هو يقول:
"متقلقش يا أستاذ غسان، أنا هساعدهم في كل حاجة"
ابتسم له و هو يقول:
"غسان بس يا وليد، أنا تقريبًا من سنك، أنا ٢٥ سنة"
رد عليه «وليد» بهدوء:
"العمر الطويل ليك يا رب، أنا ٢٦ سنة يا سيدي، طلعت اكبر منك"
بعد مرور دقائق دلف الشباب للغرفة حتى يقوموا بتعبئة الشنط الغذائية، حينها شمر «وليد» أكمام ثيابه ثم رفع أول "شِوال" يقربه منهم ثم جلس على ركبتيه بحماسٍ و بدأ في معاونتهم حيث يقوم بوضع الاكياس على الميزان ثم يقوم بربطه و مناولته للشاب المجاور له، و بداخله سعادة كبيرة في استغلال طاقته و مجهوده في عمل الخير.
_________________________
عاد «حسن» من صلاة الجمعة و دلف شقته بهدوء، ثم تثاءب و هو يحرك رأسه للخلف يفرد كلا ذراعيه ثم ارتمى على الأريكة بانهاكٍ واضحٍ على جسده، ثم أرجع رأسه للخلف و أغمض عينيه، و فجأة تسلل إلى فمه عبيرها الخاص بها و رائحتها، عقد ما بين حاجبيه و فجأة شعر باناملها تنغرس بين خصلات شعره الكثيفة تدلكها له، فتح عينيه هو على وسعهما و هو يقول بغير تصديق:
"بسم الله الرحمن الرحيم ؟! هي روحها ساكنة الشقة دي و لا إيه، هدير أنتِ هنا بجد ؟!"
مالت على أذنه تهمس بهدوء و هي تحاول جاهدةً كتم ضحكتها:
"دي روح مشمشة يا أبو علي"
التفت لها فورًا فوجدها تغمز له بطرف عينها اليُسرى، ظهر الحماس و الاستنكار على وجهه فوجدها تلفت له تجلس بجواره و هي تبتسم ببراءةٍ، فسألها هو بدهشةٍ:
"هدير !! دي مش تهيؤات صح ؟! أنتِ موجودة معايا هنا بجد؟!"
حركت رأسها نفيًا ثم أشارت نحو موضع قلبه و هي تقول:
"أنا موجودة هنا يا حسن، حتى لو غايبة عن بيتك، بس مفيش غيري في قلبك، مش كدا ؟!"
طالعها هو بغير تصديق، فوجدها تمسك كفه بين كفيها و هي تقول بندمٍ:
"اللي فات خلاص أنا مش هفكر فيه، كل حاجة مشيت و راحت لحالها يا حسن، و بيتي أهو نور تاني بوجودي معاك فيه، وبيك معايا، مسامحني يا حسن؟!"
اقترب منها فورًا يقبل رأسها ثم قال بصدقٍ نبع من قلبه:
"أنا معرفتش ازعل منك علشان أقولك أني مسامحك، بس أنتِ وحشتيني أوي، وحشني كل حاجة كانت بينا في يوم"
ابتسمت هي له فوضع يده على رأسها و هو يقول بندمٍ:
"خلي السنين تمشي و تفوت بس اعرفي إن حسن المهدي من غيرك ملوش غير الموت"
ابتسمت و الدموع تلمع في مُقلتيها فمال عليها هو يقبل وجنتها، ثم غمز لها و هو يقول:
"لأ دا أنتِ فراقك صعب أوي"
حاولت جاهدةً كتم ضحكتها و هي تقول بجديةٍ لا تتناسب مع حديثها:
"ممكن أعرف مجيبتش فطار ليه ؟! طب فقدتني ماشي، فقدت الأمل في رجوعي تمام، إنما فقدت شهيتك كمان ؟!"
رد عليها هو بثباتٍ:
"نفسي كانت مسدودة، بس بوجودك نفسي اتفتحت، اقولك ؟! أنا هقوم أحضر فطار لينا احتفالًا برجوعك"
قال حديثه بحماسٍ و قبل أن يقوم من موضعه، اوقفته و هي تقول بنبرةٍ عالية:
"اقعد هنا يا حسن !! أنتَ مبتتعلمش ؟! محضنتنيش ليه ؟! هو أنا موحشتكش ؟!"
فرغ فاهه بشدة و اتسعتا حدقتيه فحركت هي رأسها تستفسر منه، فوجدته يسألها بتعجبٍ:
"ما شاء الله دا العبط وراثة عندكم بقى ؟! أنتِ عبيطة؟"
ردت عليه هي بضجرٍ:
"ايوا برضه أنا متحضنتش ليه ؟! مش قد المقام يعني ؟!"
سحبها نحوه و على حين غُرة حملها على ذراعيه، فقالت هي بنبرةٍ ضاحكة:
"نزلني أنا قولت احضني بس، متشتغلنيش يا حسن، رايح فين ؟!"
رد عليها هو بثباتٍ:
"هشوف حل لعبطك يا بنت الرشيد، و بعدين كان فيه مشروع "علي" جت حنان هدته فوق دماغنا، خلينا نرجع حاجة من اللي وقعت فوق دماغنا دي"
ابتسمت له فوجدته يقول بنبرةٍ هادئة متأثرة:
"هدير أنتِ وحشتيني بجد، و حاسس أني متغرب و أنتِ بعيد عني"
أقتربت بوجهها منه تقبله على وجنته ثم قامت بتحويط رقبته و هي تقول:
"بس خلاص أنا مش هسيبك و الله، و لا هسيب بيتي، احضني أنتَ بس و ملكش دعوة"
حرك رأسه نفيًا بيأسٍ و هو يسير بها نحو الداخل و في تلك اللحظة شعر أنه مسك العالم بين كفيه، و خاصةً و هو يرى نفسه في عينيها التي طالعته بحب العالم أجمع.
_________________________
على حدود "شمال سيناء" و خاصةً في مقر عمل «ياسين» تابع منذ شروق الشمس العمل وسط الرجال و تابعهم بكامل اهتمامه و طاقته حتى أوقف العمل للحصول على بعض الراحة و الذهاب لصلاة الجمعة و بعد العودة أمر العمال بتناول الطعام، بينما هو جلس في غرفته على مقعده، ثم قام بفتح الهاتف على صورتها و هي تبتسم له، ابتسم هو تلقائيًا و تردد على مسامعه حديثها و هي تحذره أن ينساها، حينها بدأ الغناء بقوله و كأنه يرد على حديثها بقوله:
"معقول أنساك معقول....تنساني أنا علطول.....معقول ما نعود أحباب....نِمرُء مِتل الأغراب....و لا نبقىٰ سوا....ياما قالوا الهوا غلاب....و لا مرة حَسبنا حِساب....نِبعُد يا هوا يا هوا.."
انهى الغناء ثم قبل الهاتف و قام بغلقه و وضعه في جيبه، دلف «يوسف» الغرفة فجأةً و هو يقول:
"أنا صدعت !! مش عارف أشرب سيجارة، خليني معاك هنا"
رمقه «ياسين» بغيظٍ و هو يقول:
"يعني العمال برة جابوه أخرهم، و جاي هنا تخنقني في أوضتي يا يوسف ؟! معداش عليك أدب ؟!"
حرك رأسه نفيًا و هو يقول:
"لأ محدش كان فاضي يربيني"
قال حديثه ثم ارتمى على طرف الفراش و أشعل سيجارته، بينما «ياسين» حرك رأسه بيأسٍ منه و في كل مرةٍ يتأكد أن ذلك الغامض يخلو من الأدب و التهذيب.
_________________________
خرجت «خديجة» وسط اليوم نحو الحديقة في الخارج فوجدت «وليد» يقف وسط الأطفال الصغار يقوم باللعب و اللهو معهم حيث يقوم بركل كرة القدم لهم و هم يركلونها له، وقفت تتابعه بشغفٍ و هي تراه مثل الطفل الصغير وسطهم و فجأة ضحكت بقوةٍ حينما وجدته يحمل أحد الصبية يركض به ثم ركل به الكرة و حصل على هدفٍ.
حرك رأسه للجهة الأخرى فوجدها تتابعه بعينيها، حينها ابتسم لها ثم غمز لها بطرف عينه، حتى تحركت هي نحو الداخل و هي تبتسم بيأسٍ.
بعد مرور بعض الوقت كان «وليد» جالسًا في سيارته ينتظر قدومها حتى وجدها تركض له من الداخل، حتى جلست بجانبه بحماسٍ و هي تقول:
"أنا فرحانة أوي بجد، شكرًا يا أحلى ليدو في الدنيا كلها"
ابتسم لها فوجدها تقترب منه تقبل وجنته و هي تقول بحماسٍ يشبه حماس الفتاة الصغيرة بأول يوم دراسة:
"أنا عملت أكتر حاجة بحبها النهاردة و شرحت للأطفال يا وليد، و كلهم حبوني أوي، هنيجي هنا تاني امتى ؟!"
ابتسم لها و هو يقول:
"لما يبلغوني أنا بنفسي هجيبك هنا، يا رب بس ميكونش فيه يوم عيد ميلادك، علشان اليوم دا أنا عاوزك فيه من أوله"
حركت رأسها موافقةً و قد عاد الحزن لملامحها حينما تذكرت أن هذا اليوم سيأتِ بدونه معها بعدما رسمت أحلامًا كثيرة معه تبغى تحقيقها في ذلك اليوم.
_________________________
استمرت الأيام على نفس المنوال تقريبًا لمدة اسبوعين حيث كان «ياسين» في عمله طوال اليوم و في آخره يرتمي على الفراش من كثرة التعب، و كذلك «يوسف» أيضًا، و في القاهرة لم يختلف الحال كثيرًا طوال الأيام السابقة، و لكن القلق كان ينتاب قلوبهم عليه خاصةً أنه حدثهم مرتين فقط في تلك الأيام.
جلس هو ليلًا على تلك الصخرة التي رافقها هو منذ أن وطأت قدماه تلك الأرض، و لكن تلك الليلة تحديدًا كان الحزن يأكله ففي اليوم التالي هو ذكرى مولدها، و حتى مكالمة الهاتف لم يتسطع فعلها، تنفس هو بعمقٍ ثم أخرج صورتها يقول بصوتٍ مختنقٍ:
"حقك عليا و الله يا خديجة، بس أنا مش بايدي حاجة اعملها، حتى مكالمة التليفون مش قادر عليها، دي أول مرة أوعد حد بحاجة و متحصلش، بس دا مش طبعي و الله، لو بأيدي كنت جيتلك بس غصب عني، مقدرتش افرحك اليوم دا زي ما قولتلك، و شكلي كدا هكون سبب زعلك فيه زيي زي اللي كانوا قبلي"
فرت دمعة حارة و هو يتذكر حديثها عن ذلك اليوم و كرهها له، ففي كل مرةٍ كانت تعاني فيه بشكلٍ أو بآخرٍ، حتى أنه قطع على نفسه وعدًا أمامها أن يكون هذا اليوم هو يوم تحقيق أحلامها، لكن في وضعه حتى الحديث معها لم يكن بيده، و ها قد أوشكت الساعة على الثانية عشر، فجأة شعر بكف «يوسف» يوضع على كتفه، مسح دموعه فورًا ثم التفت له، فغمز له الأخر بثباتٍ و هو يقول:
"كنت بتعيط صح ؟! متكدبش"
رد عليه بغلبٍ:
"تعبت يا يوسف، مش قادر انسى أني مش هقدر أسعدها اليوم دا، متخيل شكلها وسطهم و أنا مش معاها، هتبقى زي العيلة الصغيرة اللي عاوزة حد يمسك ايدها، لو اعرف أن الحكاية مكنتش وعدت من الأول، حتى الشركة مردوش عليا في حوار المهندس اللي المفروض يرجع مكانه"
حرك رأسه موافقًا ثم قال بقلة حيلة هو الأخر:
"مفيش حل تاني في ايدك، قوم بس صور الفيديو اللي قالولك عليه علشان عيد الميلاد، على الأقل أي حاجة تثبت إنك مش ناسي"
حرك رأسه موافقًا ثم قال:
"هصوره بكرة الصبح قبل ما أروح شمال سينا افتح نت و ابعته ليهم، المشكلة في دلوقتي عاوز بس أكلمها، حتى لو فيه عربية توديني شمال سينا اكلمها و ارجع تاني"
حرك «يوسف» كتفيه و هو يقول:
"أديك شايف مفيش أي وسيلة مواصلات، العربية بتيجي هنا بميعاد و تمشي برضه بميعاد"
حرك رأسه موافقًا ثم فتح الهاتف على صورتها فانسحب «يوسف» حتى يترك له حريته و مساحته الشخصية، و بعد مرور دقائق جلس بجواره و هو يمد يده لها بهاتف خلوي، حرك «ياسين» رأسه ينظر له بغير تصديق فوجده يدخن السيجارة و هو يقول بثباتٍ:
"طلبته من رجالة البدو، روح كلم مراتك و اخلص علشان الراجل مش مأمنلي أصلًا، قولتله إنها بتولد و أنتَ عاوز تطمن عليها"
كرر «ياسين» خلفه باستنكارٍ:
"بتولد !! يخربيتك ؟!"
رد عليه بسخريةٍ:
"يعني عاوزني اصحي عامل من نومه و اخد تليفونه و اقلق منامه و اقوله عيد ميلاد ؟! دا كان فرتك دماغي بعيارين، انجز يا هندسة، يتربى في عزك"
خطف «ياسين» الهاتف منه و هو يقول بحبٍ و فخرٍ:
"روح يا رب تلاقي عيون سودا تجيب أجلك زيي كدا"
ضحك «يوسف» بسخريةٍ بينما «ياسين» طلب رقمها و ضربات قلبه تتصارع خلف بعضها حتى وصله الرد منها فقال هو مسرعًا:
"كل سنة و أنتِ طيبة يا خديجة، كل سنة و أنتِ أطيب حاجة في الدنيا كلها"
ردت عليه هي بنبرةٍ باكية:
"و أنتَ طيب يا رب، الحمد لله إنك كلمتني و لحقتني قبل ما اكتئب"
رد عليها هو بهدوء:
"هو مكانش بايدي، بس ربك أراد أني أقدر أكلمك، ربنا يفرح قلبك دايمًا و يخليكي ليا يا رب"
ردت عليه هي ببكاءٍ:
"و يرجعك ليا بالسلامة يا رب، هي دي أحلى حاجة ممكن تحصلي و تفرحني، ياسين أنا بحبك أوي"
ابتسم هو بسعادةٍ بالغة و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"و أنا و الله بحبك و محبيتش غيرك، اوعديني تفرحي بعيد ميلادك و تتبسطي وسطهم، اوعديني"
_"أوعدك يا ياسين"
استمرت المكالمة لعدة دقائق أخرى ثم أغلق معها حينما أشار له «يوسف» حينها أغلق معها المكالمة على الرغم إنها لم ترغب في ذلك.
_________________________
في اليوم التالي و في أحد الكافيهات العامة المُجهزة و مخصصة لحفلات أعياد الميلاد، قام كلًا من «عامر» و «وليد» بتجهيز المكان لها، بوصايةً من «ياسين»، فان كان هو غير موجودًا فيكفيه أن يساهم لو بجزءًا بسيطًا في اسعادها.
وقفت العائلة بأكملها في انتظارها حتى ظهر «وليد» على الدرجات العالية و هي أمامه بعدما وضع راحتيه على عيناها و هي أمامه ترتدي نفس الفستان "الزيتي" الذي سبق و ارتدته يوم أن تقدم «ياسين» لخطبتها و أول يوم جمعهما سويًا في اعترافه بحبه، و نفس لون الحجاب "البيج".
تحدثت هي بحماسٍ:
"ها يا وليد ؟!! شيل إيدك بقى، هنروح فين تاني، أوعى تكون خاطفني"
رد عليها هو بسخريةٍ:
"آه خاطفك، على إيه ياختي هو أنتِ حيلتك حاجة ؟! انزلي بس علشان متقعيش، فيه ٧ درجات سلم"
نزلا سويًا و كفيه لازالا بموضعهما، حتى وقفت مقابلةً لهم جميعًا حينها انتشر التصفيق الحار و الترحيب بها من قبل الجميع و كل الأحباب، فلم ينقص أيًا منهم أحدٌ، بكامل الشباب و الفتيات و حماويها، و عائلتها بالكامل، نزلت الدموع من عينيها في الحال، فاقتربت منها «زينب» تحتضنها و «زهرة» أيضًا، و بعدها الفتيات كلًا منهن على حدة تقدم لها هديتها و تهنئها، اقترب منها «وليد» يقول هامسًا:
"فيه مفاجأة كمان أنا محضرها ليكي، بصي على الشاشة كدا"
قلت الاضواء حولهم و فُتحت الشاشة على فيديو قصير لـ «ياسين» و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"السلام عليكم كلكم، وحشتوني اوي كلكم و بجد الأيام من غيركم صعبة حتى لو كنت بحليها بمزاجي، نيجي بقى للمهم، خديجة !! كل سنة و أنتِ طيبة و كل سنة و أنتِ معايا يا رب، حقك عليا أني مجيتش و كنت معاكي في يوم زي دا، بس أنا موصيهم عليكي، اللي يزعلك فيهم عرفيني بس و أنا هاجي أخد حقك، أنا كنت واعدك أني اخليه يوم مميز و يوم جديد في حياتك بس غصب عني الظروف أقوى مني، عاوزك تعرفي أني بحبك، و إنك اغلى و أعز حاجة في كل سنين العمر اللي فاتت و اللي جاية، لو معرفتش اتصرف أو اوصلك تاني، يبقى الشغل اقوى مني، أو غصب عني نسيت"
كانت الدموع تنزل على وجهها بتأثرٍ و شوقٍ للقائه، ودت لو طارت إليه كما الطير حتى تعانقه، بينما هم جميعًا وقفوا يتابعونها بتأثرٍ و خاصةً بعد الحزن الذي ارتسم على وجهها، فسألها «طه» بصوتٍ حزين:
"مالك بس يا حبيبة بابا !! بتعيطي ليه ؟! هو كلمك و بعتلك فيديو اهو"
ردت عليه هي بصوتٍ باكٍ:
"علشان بحبه و وحشني أوي، كنت فكراه ممكن ينساني، بس هو علطول يقول إني متنسيش، بس دلوقتي قال إنه لو معرفش يوصلي يبقى نساني، ممكن ينساني فعلًا ؟!"
في تلك اللحظة زادت الإضاءة و صوته الهاديء الرخيم يقول بثباتٍ و هو يقترب منها:
"أخّبِريّني كَـيْفَ لي أنّ أنَّسَـاكِ بَعدما وَقعَ قلبي صريعًا في هواكِ؟؟ كَيفَ لي ألا أتيْم بكِ و أهواكِ و أنا مَن تَغرب حائرًا حتىٰ غدا وطني هو عيناكِ، كيف أنساكِ و أنا من تَهفو رَوحيِّ وَ تَشتاقُ عَينيِّ لِـرؤية مُحياكِ، كَيْفَ لي أن أنساكِ و أنا من سُحر قَلبيِّ بِـكحل جفناكِ، كيف أنساكِ بعدما ابتعد قلبي عن الجميع إلا أنتَ من بين العالم استثناكِ، أخبريني كيف أتوب عن حُبكِ بعدما اغلق قلبي أبوابه و لم تُفتح قَط إلا لعيناكِ، كيف لا أهيْمُ بكِ عشقًا و قَلبيِّ لَم يَذُق الحُب مَع سِواكِ، أخبريني كَيْفَ أنساكِ بَعدما وَقعَ قَلبي صَريعًا في هواكِ، الآن عُدت لكِ من جَديد، فَهل لِي مِن عناقٍ بين ذراعاكِ ؟؟"
وقف مقابلًا لها بعد نهاية حديثه، فغمز لها و هو يقول بثباتٍ:
"خلاص يا ست الكل طالما سكتِي يبقى كدا اتثبتي"
رأرأت بعينيها في وجهه فتحدث هو بسخريةٍ:
"أنساك دا كلام ؟! عيب عليكي يا ست الكل، دا أنا ياسين حبيبك !!"
سألته هي بصوتٍ متقطعٍ:
"هو.... هو دا حلم و لا حقيقة ؟!"
ابتسم لها و هو يقول:
"أنتِ عاوزاه إيه يا خديجة ؟!"
ردت عليه هي بنبرةٍ باكية:
"عاوزاه حقيقة، مش عاوزاه يكون حلم علشان معيطش، عاوزاك موجود بجد، بس ازاي؟"
فتح ذراعيه على وسعهما و هو يقول ببمسةٍ هادئة:
"يبقى تعالي اتأكدي بنفسك"
ارتمت بين ذراعيه و هي تشهق بقوةٍ من كثرة البكاء، بينما هو زفر براحةٍ و هو يقول بشوقٍ بالغٍ:
"آااااه.... وحشتيني يا كل حاجة ليا في الدنيا، وحشتي قلبي قبل عيني يا خديجة"
شدت عناقها له تتشبث به و هي تقول بصوتٍ باكٍ:
"و أنتَ يا ياسين، وحشتني و تعبت قلبي في غيابك"
ضغطت على مسكتها و كأنه يخشى تركها، و في تلك اللحظة كان عناقًا يشبه عناق التائه بعودته إلى أرضه و فوز المحارب في معركته، عناقٌ مثل عناق المطر للزهور اليافعة، أشبه في فرحته بفرحة الأسير الذي حُرر من أسره لتوه، عناق مثل عناق الأم لطفلها عند عودته من دربٍ مجهولٍ، أوشك من خلاله على الضياع.
صفق الجميع لهم و الحماس يأخذ مكانه في تلك الجلسة و كلًا منهم يود معانقته، و لكن أمام عناق ذلك العاشقين، لم يجرؤ أيًا منهم على التدخل خاصةً و هي تبكي بين ذراعيه و هو يرفعها بين ذراعيه و يشدد مسكته عليها يخشى الفراق من جديد، و هذا بالطبع هو المستحيل.