رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل السادس والستون 66 بقلم شمس بكري


 رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل السادس والستون

"وقعتُ أسيرٌ في لمعة عينيك، شدتُ رحالي لأخطو إليكِ"
_________________________

مثل ورقةٌ بيضاء وقع عليها حِبرٌ فأصبحت مُلطخةً و غير قابلة للاستخدام قط، حتى أتى "هو" فكان مثل السِحر أمام الحِبر حتى أُزيل أثره تمامًا و عادت الصفحة بيضاء من جديد، ها قد عدنا و عادت صفحاتنا لنَخُط بها مرةً أخرىٰ و ندون بها حياتنا حلوةً أو مُرة.

"خليك....يا ياسين....متمشيش"
تفوه بها «يوسف» في نومه يهزي دون أن يشعر هو بذلك، لمعت العبرات في عينيه اللاتي ثبتهما عليه و الأخر يرتجف بشدةٍ و جسده يرتعش كمن مسه ماس كهربائي، رفع كفه يسمد على خصلات شعره مثل الأب الذي يجلس بجوار ابنه أثناء مرضه، في تلك اللحظة دلف الرجل "محسن" و هو يقول بلهفةٍ بعدما جلب ما طلبه منه «ياسين»:

"اتفضل يا بشمهندس ياسين، جيبتلك مياة بتلج و معاهم ازازة خل، اتفضل ربنا يجعله بالشفا"

أخذ منه «ياسين» الأشياء ثم وضعها على الطاولة الصغيرة المجاورة للفراش، فيما وقف الرجل يتابعه بقلقٍ بلغ أشده و ارتسم على ملامحه و هو يتضرع لله سبحانه و تعالى أن يُعيد لذلك الشاب عافيته، شرع «ياسين» في عمل الكمادات الطبية له بالماء المثلج الذي أخذ حرارته الباردة من مُكعبات الثلج المُضافة إليه.

تمم «ياسين» عمل الكمادات الطبية مُمررًا القماشة القطنية في مختلف انحاء جسده، ثم قام بسكب الخلِ على كفيه و قام بمسح جسده به و بعدها رفع الغطاء عليه يدثره به جيدًا و هو يربت عليه بأسى بحنانه المعتاد الذي يغدق به الجميع.

تنهد هو بعمقٍ بعدما لاحظ انخفاض الحرارةِ بدرجةٍ ملحوظة، جلس على المقعد مرةً أخرى فسأله "محسن" بنفس القلق البادي على قسمات وجهه:
"ها يا بشمهندس ياسين؟! الحرارة نزلت شوية؟! طمني؟"

حرك رأسه موافقًا حركةٍ خافتة بالكاد تُرى بالعين و تدل على تحرك رأسه، فخرج الرجل من الغرفة بصمتٍ و عاد مرةً أخرى تحت تعجب «ياسين» حينما قلب فمه للأسفل بحيرةٍ، حيث وجده يدلف له من جديد و في يده صندوق للاسعافات الأولية، قطب «ياسين» جبينه بتعجبٍ فتحدث الرجل و هو يلهث بقوةٍ من فرط حركته:
"تعالى يا بشمهندس علشان اداوي جرحك قبل ما يورم، تعالى يلا"

رد عليه «ياسين» برفضٍ قاطعٍ:
"لأ يا عم محسن متتعبش نفسك، أنا هغسل وشي و هشوف مرهم كدا و لا حاجة"

اقترب منه الرجل يجلس أمامه و هو يقول بنبرةٍ مُصرة على قراره:
"لأ مينفعش، جرحك كدا هيلتهب و كدا غلط، أنا هطهره ليك و هحطلك مرهم، تعالى بس"

حرك رأسه موافقًا مُستسلمًا لحديث الرجل و هو يعلم تمام العلم أنه محقًا تمامًا، أمسك الرجل وجهه براحةٍ ثم أمسك القطنة الصغيرة بعدما قام بوضع المُطهر عليها يقوم بتطهير جبينه ثم أعاد الكُرة من جديد و هو يطهر الجرح الذي وقع على جبينه يفصل بينه و بين عينه اليُسرى مسافة قليلة، شرد «ياسين» في وجه الرجل و هو يبتسم بحنينٍ جارف حينما تذكر موقفًا مشابهًا لذلك مع "رياض"، لمعت العبرات في عينيه و راح عقله يصور له ذلك المشهد كما لو أنه واقعًا ملموسًا يُجسد أمام ناظريه.

(منذ عدة سنوات)
كان «ياسين» حينها في منتصف المرحلة الثانوية و حينها دلف شقته بعد عودته من المدرسة و كان حينها والده ينتظره في الشقة دون والدته، دلف «ياسين» الشقة بخطواتٍ مُترددة بسبب الجرح الذي أصاب رقبته حينما تهجم عليه أحد الشباب و على أخوته و حينها اجتمعوا اربعتهم سويًا يضربونهم.

حاول الهروب من مواجهة والده و الدخول لغرفته مباشرةً، لكن صوت والده أوقفه و هو يقول بنبرةٍ جامدة:
"تعالى يا ياسين، رايح فين؟! أنا شوفتك يا حلو، تعالى"

ازدرد لُعابه بخوفٍ و هو يقترب منه بخطواتٍ متمهلة بسبب ملابسه الغير مُهندمة و الجرح الذي أصاب رقبته و الخدش الكبير الذي توسط ذراعه، وقف أمام والده و نكس رأسه للأسفل بخجلٍ منه، فتحدث والده يسأله بثباتٍ واهٍ يتنافى مع الخوف الذي يأكل قلبه خوفًا عليه :
"مالك ؟؟ إيه اللي عمل فيك كدا و بهدلك ؟! خلاص بقيت بتاع خناقات و رجلك خدت على الموضوع دا يا ياسين ؟!"

رد عليه مُسرعًا بكلماتٍ ظهرت بها لهفته و توسله في هدوء والده حتى يستمع له:
"لأ و الله يا بابا مش كدا، إحنا مكانش لينا علاقة أصلًا بالموضوع، بس فيه ولاد ضايقوا بنات و احنا اتدخلنا لحد ما الموضوع وصل لخناقة بينا بالايد"

أمعن والده النظر في وجهه يستشف صدق حديثه، فسأله بنبرةٍ جامدة و حروفٍ أكثر ثباتًا:
"احكيلي حصل إيه بالظبط؟! و من غير خوف أو كدب، طالما أنتَ معملتش حاجة غلط، احكي"

تنهد «ياسين» بعمقٍ ثم قال:
"خرجنا من المدرسة احنا الأربعة و عدينا في طريقنا على مدرسة البنات أنتَ عارفها علشان نجيب عمار من مدرسته، لقينا ولاد زمايلنا واقفين بكلاب علشان يضايقوا البنات، و فيه بنت كانت عمالة تعيط و هما بيضحكوا عليها، طلبنا منهم يمشوا، قلوا أدبهم علينا و فيهم واحد شتمنا، مسكنا فيهم لحد ما ضربناهم، بس والله معملناش حاجة غلط"

كانت نظرات والده حادة و هي موجهة نحوه، فتحرك والده من أمامه دون أن يتفوه بكلمةٍ واحدة، ثم خرج له من جديد و الأخر ينظر في اثره بتعجبٍ حتى ظهر والده مرةً أخرى أمامه و في يده الأدوات الطبية التي قد يستخدمها في تطهير الجرح، ثم اقترب منه دون أن ينبث ببنت شفة، فقط وقف أمامه يقوم بتطهير الجرح حتى سأله «ياسين» بنبرةٍ مهتزة:
"بابا هو حضرتك مش بتتكلم ليه ؟! على فكرة أنا مغلطتش في حاجة، و لا حد فينا غلط"

أبتسم له «رياض» و هو يقول:
"عارف إنك مش غلطان و عارف إن دمكم حامي و مبتتحملوش الغلط، بس عاوزك بعد كدا تكون حكيم أكتر، مش كل حاجة بالضرب و السلاح و رفع الصوت، لازم الأول تدي فرصة لعقلك أنه يفكر بحكمة، لأن لو الدنيا كلها ماشية بالدراع كان زمانها بقت غابة، فكر بالعقل و احسبها صح، و بعدين داخل خايف ليه ؟؟ طالما مغلطتش في حاجة لازم تخلي عينك قوية، صاحب الحق عينه جامدة، طول ما أنتَ صاحب حق متخافش من حاجة"

كان يحدثه و هو يُمرر القطنة على جرحه ثم أخذ اخرى و قام بتطهير جرح ذرعه، ابتسم «ياسين» رغمًا عنه بتأثرٍ حتى انهى والده ما يقوم بعمله ثم وضع اللاصق الطبي فوق جروحه، بعدها قبل رأسه ثم احتضنه و هو يقول بعاطفةٍ أبوية خالصة:

"ربنا يحفظك ليا و يخليك ليا يا سند أبوك في الدنيا و سبب دخولي الجنة إن شاء الله، ربنا يباركلي فيك يا سندي و عزي و عزوتي كلها"
بكى «ياسين» بين ذراعي والده و الأخر يربت عليه بحنانه المعتاد الذي جاهد حتى يتربى عليه وسط قسوة العالم الموحشة.

(عودة إلى الوقت الحالي)

نزلت العبرات الساخنة على وجنته فور تذكره ذلك اليوم و تلك اللحظة المؤثرة، كان الرجل يضع اللاصق الطبي و أنهى عمله، و قبل أن يتحدث لاحظ دموع «ياسين» التي خرجت من منبعها ثم توجهت تعرف طريقها نحو وجنتيه، أمعن الرجل النظر في وجهه فلاحظ شروده و تيه نظراته مما يدل على وجوده في عالمٍ أخر، و حينها تحدث يسأله بتعجبٍ من حالته و دمعته الهاربة:
"مالك يا بشمهندس ياسين؟! سرحت فين و إيه اللي مخلي دموعك تنزل ؟!"

انتبه له «ياسين» و خرج من قوقعة شروده ثم حرك رأسه حتى تتقابل نظراتهما، حينها تنهد بعمقٍ ثم قال بنبرةٍ خافتة:
"و لا حاجة يا عم محسن، سرحت شوية بس، متقلقش"

ربت الرجل على يده و هو يقول بنبرةٍ هادئة و وجهٍ تعلوه بسمةٌ هادئة:
"ربنا يسترها عليك يابني و يكرمك و يخلصك من اللي أنتَ فيه دا على خير يا رب"

حرك رأسه له بقلة حيلة مومئًا على حديثه، فتحرك الرجل من أمامه بعدما جمع حاجته، فيما تحرك «ياسين» يبحث عن مصحف في تلك الغرفة لكنه لم يجد، حينها خرج من الغرفة بعدما وضع يده على رأس «يوسف» يتحسس حرارته.

خرج من الغرفة حتى يتوجه نحو غرفته فوجد الرجل يرمقه بشررٍ يقدح من عينيه و كأنها سهامًا تخترق جسد العدو، رمقه «ياسين» بثباتٍ ثم أخرج السلاح من جيبه و قام بفتحه بنفس الطريقة و هو يقول بلهجة صوتٍ حادة:
"أنا داخل أوضتي و خارج تاني، عظيم بيمين لو فكرت تقف في سكتي لأكون جايب رقبتك، و لسه حق وشي و اللي فيه مخدتهوش، بس متقلقش هاخده تالت و متلت"

تحرك نحو غرفته و لازالت "المطوة" في يده مفتوحة و نصلها يلمع بشدة، دلف غرفته يأخذ المُصحف منها ثم توجه نحو غرفة «يوسف»، حينها اقترب أحد الرجال من رئيسه و هو يقول بتعجبٍ:
"ما نخلص عليه و نريح نفسنا، هو احنا هنخاف منه يعني ؟!"

رد عليه الرجل بغلٍ واضحٍ:
"الشيخ صالح قال محدش يأذيه، هو عاوز يأدبه علشان يعرفه ازاي يقل بينا، لو عليا هفرغ السلاح في نص راسه"

دلف «ياسين» الغرفة ثم جلس على المقعد بجوار الفراش بعدما أغلق الباب من الداخل و تأكد من ذلك، فتح المُصحف على سورة «يَـــسٓ» يقرأها بصوته العذب و خشوعٍ في تلاوته جعلت «يوسف» يفتح عينيه على مضضٍ بتشوشٍ و ضياعٍ كما رؤية الضباب، اخترق صوت «ياسين» سمعه و توصل لقلبه فورًا فاغمض عيناهُ في سلامٍ يتمتع بتلك التلاوة العِطرة

، و لكن قبل أن تُغمض عينيه شعر بلهيب الدموع في مقدمة مُقلتيه، قرر الهروب من تلك الدموع و قرر أن ينام قرير العين مُطمئن البال في رحاب تلك الآيات العذبة الذي طمئنت قلبه، فكر قبل أن يغرق في نومه فكر هل طبيعة البشر حنونة مثل «ياسين» أم أنه هو فقط الذي تربى في منابع القسوة؟؟ هل جميعهم يضحون بأنفسهم لأجل الغير أم أن «ياسين» من سلالةٍ نقية لم تشوبها شائبة؟!
_________________________

وصلت سيارة «وليد» أمام البناية الخاصة به، فتحدث بمرحٍ يرحب بهما قائلًا:
"وصلنا بيت الرشيد الصغير يا خوخة منك ليها، نستعد بقى لأيام الدلع"

صفقت «خلود» بكفيها معًا بحماسٍ، بينما الأخرى كانت في عالمٍ أخر و هي تفكر لماذا تركت غرفته و أشياءه و رائحته التي تعبق من غرفته، نظرا كليهما لبعضهما البعض بأسى عليها، فأمسك «وليد» يقول بنبرةٍ هادئة:
"إيه يا خديجة؟! مش فرحانة ولا إيه ؟! دا أنا قولت إنك هتطيري من الفرحة علشان جاية معايا، كدا تضربيني في مقتل ؟!"

ردت عليه هي بنبرةٍ خافتة:
"هو أنا جاية هنا ليه يا وليد ؟! رجعني تاني أحسن علشان خاطري، أنا مكنتش عاوزة أوضة ياسين أصلًا"

زفر هو بيأسٍ ثم تحدث بنفس الهدوء مراعيًا حالتها:
"أنا عارف، بس أنتِ وحشتيني اوي و بنات العيلة كلهم هنا و هدير راجعة بيتها خلاص، خليكي معانا علشان خاطري و وعد مني لو لقيتك زعلانة أو مخنوقة أنا بنفسي هرجعك تاني لحد أوضة ياسين"
حركت رأسها موافقةً على مضضٍ ثم نزلت من السيارة حينما نزل هو، و خلفهما «خلود»

وصلا معًا أمام شقة «وليد» أولًا ففتحت لهم «عبلة» و حينما وجدت «خديجة» ابتسمت بفرحةٍ كبرى ثم ارتمت عليها تعانقها و هي تقول:
"ديجا !! إيه النور دا ؟؟ مفاجأة حلوة أوي إنك جيتي"

احتضنتها «خديجة» و هي تقول بنبرةٍ هادئة يشوبها مرحٍ طفيفٍ:
"وحشتيني اوي يا عبلة، اخبارك اي طمنيني"

ابتعدت عنها الاخرى و هي تقول:
"فرحانة علشان شوفتك و علشان هتقعدي معانا هنا، البيت نور بيكي"

ابتسمت لها «خديجة» بحبٍ فيما مال «وليد» على أذن «خلود» يقول بنبرةٍ هامسة:
"شوفتي بترحب بخديجة إزاي ؟! إلا ما تفت في وشك حتى !! لو منك ماسكتش و أخد حقي"

رفعت حاجبها بشرٍ و قبل أن تنوي القيام بأي رد فعل بعد حديثه، وجدت «عبلة» تقترب منها تحتضنها و هي تقول مرحبةً بها:
"وحشتيني اوي يا خلود، اخبارك إيه طمنيني، عملتي إيه في امتحاناتك؟!"

ردت عليها بحديثٍ غامضٍ:
"لحقتي نفسك يا عبلة، بس أنا كويسة الحمد لله، كفاية أني شوفتك"

ابتسمت لها و هي تقول بحماسٍ:
"طب يلا ادخلوا، علشان بعدها نبدأ ليلتنا، يلا بسرعة"

دلفت «خديجة» و خلفها «خلود» بينما «وليد» كان واقفًا على اعتاب الشقة، طالعته «عبلة» بتعجبٍ فوجدته يقول بصراحةٍ تعهدها منه دائمًا:
"أيوا يعني أنا متحضنتش ليه ؟؟ هما أحسن مني يا سوبيا؟!"

ابتسمت بيأسٍ منه فوجدته يقترب منها يقبل وجنتها ثم نظر في عينيها و هو يقول بنبرةٍ هائمة:
"وحشتيني"

اتسعت بسمتها و هي تقول:
"و أنتَ كمان وحشتني أوي، بس ادخل بقى يلا، هتفضل واقف كدا؟"

حرك رأسه نفيًا ثم قال بخبثٍ:
"طب و الحضن ؟!"

سحبته نحو الداخل و هي تقول بقلة حيلة و يأسٍ منه:
"ادخل بس يا سيدي كلهم مستنينك ترجع، يلا و هحضنك حاضر"

دلف معها نحو الانتريه الذي جلست عليه كلتاهما، فقال هو مُرحبًا بهما:
"نورتوا بيت أخوكم يا حبايب أخوكم، و الله خايف النجفة تغير من طلتكم دي، و تحس إن فيه حد غطى عليها"

ابتسمت كلتاهما، فاقتربت «عبلة» تسألهما بحماسٍ:
"سيبكم من كلامه مبيأكلش عيش، تاكلوا إيه و لا تشربوا إيه؟؟ عندنا كل حاجة سخن و ساقع، اؤمروا"

ردت عليها «خديجة» بوجهٍ مُبتسمٍ و بنبرةٍ هادئة:
"متتعبيش نفسك يا عبلة، تعالي بس اقعدي معانا و كل حاجة هتبقى تمام"

تحدث «وليد» بجديةٍ زائدة عن الحد و بنبرةٍ منفعلة:
"يعني إيه ؟؟ أومال أنا متجوزها ليه ؟! مش علشان تخدمنا ؟! خشي يا بت هاتي حاجة لأخواتي بسرعة، كل حاجة هنا تحضر قصادهم"

اتسعتا حدقتي كلًا من «خديجة» و «خلود»، فيما رفعت «عبلة» حاجبيها تطالعه بتهكمٍ، فتنحنح هو يُجلي حنجرته ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"طب عندي أنا الطالعة دي، هدخل أنا أوجب معاكم، حد فيكم عاوز حاجة معينة؟!"

لم يصله ردٌ من أيًا منهن، فتحرك هو بمرحٍ و هو يقول بنغمةٍ هادئة:
"يوم تلات تلات بنات ندهولي.... على البساط بساط يا ناس عجبوني....قعدة و انبساط غدا و عزموني...."

اختفى صوته مع اختفاء اثره في الداخل و هن يضحكن عليه بقوةٍ، فتحدثت «خديجة» تسألها بنبرةٍ هادئة:
"مزعلك أو حاجة ؟؟ عرفيني و أنا أكلمه ليكي"

ابتسمت لها «عبلة» ثم قالت تُطمئنها بملامح هادئة:
"لأ خالص و الله، الحمد لله هدي عن الأول، حساه بطل شقاوة كتير عن الأول"

_"ســـوبــيـا...الكوبايات الكبيرة فين ؟؟ بسرعة يا ست"

تفوه هو بها بنبرةٍ عالية يستفسر منها عن مكان الاكواب، فتحدث هي بيأسٍ بعدما تلاشت بسمتها:
"مش أوي، لسه فيه حتة سلك لامسة في التانية"

ضحكت عليها «خديجة» بقوةٍ و «خلود» تضرب كفًا بالأخر حينما تحركت «عبلة» له بالداخل.

بعد مرور ثوانٍ شارفت على دقيقة كاملة، خرجا كليهما و هي تحمل العصير بيدها و هو خلفها يبتسم بهدوء ثم جلسا كليهما أمامهما، فتحدث «وليد» مشاكسًا زوجته:
"حطي العصير قدام الخوختين بتوعي، يلا يا سوبيا"

حركت رأسها نفيًا بيأسٍ ثم أمسكت الكوبين تعطي كلًا منهما على حِدة، و هو يبتسم بهدوء، حتى جلست هي بقربه ثم مدت يدها له بالكوب الخاص به، أخذه منها و هو يبتسم لها ثم قال:
"بسرعة بقى علشان نطلع السطح، أنا محضر المفاجأة من امبارح، ها بسرعة يلا"

سألته «خلود» بنبرةٍ حماسية:
"إيه بسرعة قول ؟؟ عامل مفاجأة علشاني صح ؟!"

حرك رأسه موافقًا ثم قال مُبتسمًا:
"لما نطلع هتعرفي كل حاجة، غيروا هدومكم بس علشان نطلع، يلا"

ارتشفت كلتاهما العصير و أخذت قطعة حلويات من الطبق الموضوع أمامها ثم أخذتهما «عبلة» للغرفة الخاصة بالأطفال حتى يبدلا ثيابهما، و قد عادت له من جديد تجلس بجواره، فمال عليها هو يقول بنبرةٍ هامسة:
"هو أنا قولتلك قبل كدا إنك بنت أصول و إن أنا بحبك؟!"

رفعت عينيها بدهشةٍ ممتزجة بفرحةٍ تضج من عينيها، فحرك رأسه موافقًا ثم أضاف:
"كل مرة بتثبتي فيها إنك الاختيار الصح و الأصح"

ابتسمت بخجلٍ و هي تقول:
"طب بس عيب بقى علشان الخوختين بتوعك جوة، عيب"

غمز لها و هو يقول بعبثٍ:
"و إيه يعني ؟؟ لو هما خوختين، أنتِ السوبيا بتاعتي و حقي في الدنيا"
حركت رأسها تطالعه حتى اتصلت نظراتهما ببعضهما و كلًا منهما يطالع عمق عيني الأخر بحبٍ بالغٍ حتى انقطعت تلك اللحظة بخروج «خلود» من الغرفة أولًا و خلفها شقيقتها.
_________________________

في شقة «رياض» جلست زهرة في الشرفة تبكي بمفردها بحزنٍ زاد بعد رحيل «خديجة»، اقترب «رياض» يجلس على المقعد المقابل لها و هو يقول بغلبٍ و قلة حيلة:
"ممكن اعرف بتعيطي ليه طيب ؟؟ هو حد جه جنبك و لا زعلك يا زهرة؟؟"

ردت عليه بنبرةٍ منفعلة:
"آه ، أنتَ مزعلني، خليتها تمشي و أنتَ عارف أني بحبها، لما هي مشيت أنا زعلت و حسيت إن ياسين سابني بجد، صعبان عليا أوي انها تكون مش معايا"

تنهد هو بقلة حيلة ثم قال بهدوء محاولًا التخفيف عنها:
"أنا عارف إنك زعلانة و عارف كمان إنك مخنوقة علشان هي مشيت و اللي مزعلك أكتر أنها كانت عاوزة تفضل هنا و متمشيش، بس احسبيها صح يا زهرة، خديجة يعتبر ملهاش مؤخرًا غيره هو، كله بيشوفهم سوا يقول عليهم أب بيعامل بنته، أو بنت ماسكة في ايد أبوها، مش سهل في يوم و ليلة كدا يختفي من حياتها حتى صوته متسمعهوش، لو فضلت هنا حابسة نفسها مع حاجاته و أوضته كدا المشكلة هتكبر، يرضيكي لما يرجع يلاقيها زعلانة بالمنظر دا يا زهرة ؟! أنا مرضهاش ليها أنها تضيع في الزعل كدا"

حركت رأسها موافقةً باستسلامٍ، فاقترب هو منها يقبل قمة رأسها ثم قال بهدوء:
"ادعيلهم هما الاتنين، ربنا يهون عليها و يستر طريق ابنك هناك"

بكت هي بقوةٍ و هي تقول:
"وحشني أوي، من ساعة آخر مرة سمعت صوته فيها و أنا معرفش حاجة عنه، أكيد فيه حاجة غلط، ياسين طالما عرف طريق الشبكة هناك أكيد كان هيكلمنا، ليه طول كدا ؟!"

رد عليها بقلة حيلة يحاول بثها بعض الطمأنينة على رغم من القلق الذي يتأكله:
"أكيد بيتعب طول النهار و بيروح ينام اخر الليل، ممكن يكون مشوار الشبكة دا بعيد عنه، ادعيله و ادعي ربنا يطمنك عليه، و افتكري إن هو في حفظ ربنا"

بكت و هي ترفع رأسها للأعلى و تقول بحرقة قلبٍ و خوفٍ:
"يـــا رب ردهولي بالسلامة يا رب ، طمن قلبي عليه و ريحني و ريح قلب مراته يا رب"

صعدت «خديجة» السطح خلف اخوتها و كانت آخر من دلف من الباب، و قد تفاجأ الجميع بوجودها معهم، ابتسم الشباب براحةٍ فيما ركضت الفيتات لها بصراخٍ حماسي نحوها و كلًا منهن تريد معانقتها، 

 ابتسمت هي بفرحةٍ كبرى و بدأت تبادلهن التحية بمثيلتها تمامًا ثم ألقت التحية على الشباب دون أن تمد يدها، حتى تحرك «وئام» لها ثم احتواها بين ذراعيه و هو يربت على كتفها و قال بنبرةٍ هادئة يمازحها بوجهٍ مُبتسمٍ:
"البيت نور بيكي يا قطة، وحشتيني اوي يا خديجة، طمنيني أخبارك إيه؟!"

ردت عليه هي بنبرةٍ هادئة بعدما واجهته بنظرها:
"الحمد لله يا وئام، أنتَ إيه اخبارك طمني، كويس ؟!"

حرك رأسه موافقًا فاقتربت منها «هدى» تمد يدها لها بـ «فارس» و هي تبتسم باتساعٍ و تقول بمزاحٍ:
"اتفضلي يا عمتو، ابن اخوكي معاكي اهوه، مش بديهولك علشان دراعي وجعني لا سمح الله و لا علشان اريح شوية، إطلاقًا، دا علشان واجبك كـ عمة و خالة إنك تريحيني و تريحي ابني، و لا إيه يا جماعة ؟!"

ضحكوا عليها جميعًا، فتحدثت «هدير» بتهكمٍ و ضجرٍ منها:
"أنتِ أم مفترية و ظالمة، من ساعة ما جيت عندك هنا و أنتِ مشيلاني الواد، إيه دا يا ست أنتِ ؟!"

ردت عليها «هدى» بحنقٍ:
"أنتِ مالك يا هدير ؟؟ هو مش ابن أختك ؟؟ الله...ريحي نفسك خديجة هنا و هتشيله و لا إيه يا خديجة، متكسفينيش ؟!"

ردت عليها «خديجة» بنبرةٍ هادئة خاضعة لها:
"أنا عيوني ليكي و لفارس يا هدى، دا الغالي ابن الغاليين"

رفعت «هدى» كفيها للسماء تقول بنبرةٍ عالية:
"روحي ربنا ينصرك و يكرمك و يفرحك و يرجعلك ياسين يا رب"

ردت عليها بلهفةٍ دون أن تعي لذلك أو تقصده حتى:
"يا رب يا هدى، يا رب"

طالعها الجميع بشفقةٍ و تأثرٍ و حزن لأجلها خاصةً مع ملامحها الباهتة و وجهها الشاحب و كأنها خرجت لـ توها من دورة مرضٍ أصابت ملامحها، و بين كل تلك العيون كانت عيون «وليد» تطالع قسمات وجهها و نظرة عينيها التي هربت منهم جيمعًا بحزنٍ حتى زفر بقوةٍ و هو يفكر كيف تعود كما كانت ؟!
_________________________

خرج من غرفة «يوسف» بعدما تأكد من هبوط حرارته و غوصه في ثباتٍ عميقٍ ثم جلس على الصخرة التي يجلس عليها دومًا منذ قدومه هنا ثم أخرج الهاتف الذي أخذه من الرجل يطلب منه رقم «خالد»، كان حينها يجلس مع ابنه في شقة «ميمي» معه أخوته وحينما وجد الرقم قطب جبينه بتعجبٍ ثم قال مُجيبًا على الهاتف:
"ألو مين معايا ؟!"

تنهد «ياسين» و هو يقول:
"أنا ياسين يا خالد"

انتفض «خالد» من موضعه و هو يقول بلهفةٍ:
"ياسين ؟؟ طمني عليك يا حبيبي أنتَ كويس ؟! فينك و سايبنا هنموت من القلق عليك، طمني عليك"
شهقت «ميمي» و تقدمت بجسدها للأمام و «ياسر» الذي تأهب في جلسته، بينما 
اقترب «عامر» في تلك اللحظة يحاول سحب الهاتف منه و هو يقول:
"اديني التليفون يا عم بقى، هات"

زفر «ياسين» بقوةٍ ثم قال:
"اخلصوا و افتحوا الصوت و اكلمكم كلكم، يلا أنتَ و هو"

ضغط «خالد» على زر الصوت، فتحدث هو بنبرةٍ أهدأ:
"عاملين إيه كلكم و ميمي عاملة و يونس ؟؟ انتم كويسين؟!"

ردت عليه هي بنبرةٍ باكية:
"احنا كلنا بخير ناقصنا وجودك أنتَ بس يا ياسين، طمني عليك و قولي إنك كويس ؟! قلبي وجعني عليك أوي"

تنهد هو بقلة حيلة ثم ابتلع غصة مريرة في حلقه و هو يقول:
"أنا كويس متخافيش عليا، و بعدين ادعيلي يا ميمي، عاوز ارجع بقى علشان أشوفكم، دا أنا معاكم في نفس البلد و مش طايق نفسي، الله يكون في عون اللي متغربين بجد"

رد عليه «عامر» بقلقٍ:
"الدنيا عندك عاملة إيه طيب ؟! و ليه مش بتتصل من تليفونك ؟! رقم مين دا ؟!" 

رد عليه بثباتٍ:
"مفيش شبكة هنا خالص يا عامر، دا واحد من العمال اللي معانا جايب الموبايل دا علشان يتطمن على عياله، عرض عليا أكلمكم قولت فرصة، المهم كل حاجة تمام ؟!"

رد عليه «ياسر» تلك المرة:
"حتى لو كل حاجة تمام هتفضل ناقصة من غيرك يا ياسين، بس متخافش اخواتك جامدين و في ضهرك، أرجع بس أنتَ"

تحدث هو بنبرةٍ متعبة:
"يا رب يا ياسر، ادعيلي بس ربنا يكرمني علشان الوضع صعب أوي هنا"

سأله «خالد» بنبرةٍ جامدة:
"وضع إيه ؟! و إيه اللي بيحصل عندك مخليك تعبان كدا ؟! ياسين نجيلك ؟!"

تشدق «ياسين» بنذقٍ بعد جملة الأخر و هو يقول بيأسٍ تمكن منه:
"تجولي فين بس يا خالد ؟! أنا في الصحرا و في مكان ملوش معالم، خليكم عندكم بس و خلوا بالكم من اللي ليا عندكم، و خلي بالك من يونس"

رد عليه «خالد» بنبرةٍ أهدأ:
"اهو معاك أهو هخليه يكلمك، ثواني"

مد الهاتف لابنه و هو يبتسم له و يقول بنبرةٍ مرحة و كأنه يداعبه:
"كلم ياسين يا يونس، خد كلمه"

خطف الهاتف من والده فورًا و هو يقول بلهفةٍ لم تختلف عن لهفة الكبار:
"ياسين، عامل إيه ؟"

على الرغم أن حديثه لم يكن مفهومًا نوعًا ما إلا أنه فهمه و فسره أيضًا فقال بتأثرٍ و صوتٍ مختنقٍ:
"أنا كويس يا يونس، أنتَ عامل إيه يا قلب يا ياسين، وحشتني أوي أوي أوي، وحشني حضنك"

رد عليه هو الاخر بعدما حرك عينيه لهم جميعًا:
"وحشتني...."

أبتسم «ياسين» و على الجهة الأخرى أخوته و «ميمي»، فتحدث «يونس» مُغمغمًا بعدة كلماتٍ كعادته غير مفهومة، حينها تدخل «خالد» يقول مفسرًا حديث ابنه:
"بيقولك أنه راح عند جدو رياض و قعد مع تيتة و جدو و خديجة، هتيجي امتى ؟"

اتسعت بسمته أكثر و هو يقول باشتياقٍ لهم جميعًا:
"هانت يا خالد، ربنا يكرم إن شاء الله، الحمد لله أني اطمنت عليكم، عن اذنكم بقى علشان أكلم أبويا و أمي"

أغلق معهم المكالمة ثم قام بإرسال رسالة لصديقه فحواها:
"خليك متابعني على الرقم دا، لو بعتلك تاني أن كل حاجة كويسة، يبقى خلاص، لو لأ، يبقى خليك متابع و أنا هفهمك كل حاجة، ادعيلي يا خالد"

انتاب القلق قلب «خالد» بعد تلك الرسالة و ظهر على قسمات وجهه و تأكد أن أخيه حقًا في مأزقٍ، لو كان يعلم أين هو تحديدًا وأين تقع وجهته لكان ذهب إليه و بقى بجواره، لكنه لا يدري حتى اين تحديدًا تقع تلك المنطقة على الخريطة.

زفر «ياسين» بقوةٍ و هو يعلم أن خياره لـ «خالد» كان الأصوب بينهم جميعًا و ذلك لأنه أكثرهم ثباتًا و تحكمًا في مشاعره، على عكس «ياسر» الذي يظهر تأثره و ينفعل و يثور فورًا من القلق و فرط الخوف، و على عكس «عامر» الذي يفقد السيطرة على مشاعره و يصبح طفلًا صغيرًا يبكي من الخوف على احبته، لكن «خالد» يستطع التحلي بالثبات مثل الأب أمام ابنائه حتى لا يزداد خوفهم.

أخرج رقم والده يهاتفه، فرد عليه والده باستغرابٍ من ذلك الرقم:
"السلام عليكم مين معايا؟!"

رد عليه بنبرةٍ يشوبها مرحٍ طفيفٍ حتى لا يلفت نظرهم و يثير خوفهم:
"مش عارف صوت نفسي ؟! هي دي الأبوة اللي بينا ؟! أومال لو مش عشرة ٢٩ سنة يا رياض ؟! نسيت اللي بينا كله ؟!"

رد عليه والده مسرعًا بلهفةٍ:
"ياسين، حبيب أبوك و سنده و سكنه، عامل إيه يا حبيبي؟!"

رد عليه بصوتٍ مختنقٍ من تأثره:
"أنا كويس الحمد لله أوي، متخافش عليا، مخلف أسد وسط الصحرا، المهم ماما عاملة إيه و خديجة ؟! كويسين ؟!"

رد عليه والده بنبرةٍ ضاحكة يحاول طمأنته عليهما:
"كويسين ياض، دول مع رياض، أمك عمالة تعيط قدامي أهيه، و قالبة الدنيا مناحة و نكد، خد طمنها إنك كويس"

خطفت الهاتف و هي تقول بنبرةٍ باكية نتيجة لعاطفة امومتها:
"ياسين، طمني عليك يا حبيب ماما، أنتَ كويس صح ؟! كل متكلمناش؟! وحشني صوتك و كلك وحشتني اوي"

أبتسم هو بحنينٍ و هو يقول:
"و أنتِ يا نور عين ياسين و روحه، وحشتيني يا زوزو، أخبارك إيه"

ردت عليه هي ببكاءٍ أكثر:
"كويسة علشان اطمنت عليك و قلبي ارتاح كدا، أنتَ كويس صح؟"

رد عليها مؤكدًا: 
"كويس الحمد لله، طول ما أنتِ بتدعيلي أنا كويس يا ماما، المهم البت خديجة عاملة إيه؟!"

سألها بمرحٍ فحركت عيناها نحو زوجها و كأنها تستفسر منه، فسحب الهاتف من يدها و هو يقول مشاكسًا له:
"قلقان عليها ليه؟! هو أنا زعيم عصابة ياض ؟! اتطمن عليها، خايف من إيه؟!"

رد على والده بجديةٍ لا تتناسب مع كلماته الهزلية التي يتحدث بها:
"خايف ارجع ألاقيكم زي سعدية و خال خِضر، خايف أرجع ألاقيكم عاملين فرقة يا حج والله"

ضحك والده بقوةٍ و هو يتخيل المنظر، فسأله «ياسين» بهدوء:
"طمني عليها هي عاملة إيه؟؟ زعلانة صح ؟!"

رد عليه والده بتريثٍ و كلماتٍ هادئة يحاول تهدئته و طمأنته:
"خديجة مش هنا يا ياسين، خديجة مشيت راحت عند وليد"

تحدث «ياسين» بتعجبٍ و بنبرةٍ جامدة إلى حدٍ ما:
"ليه يا بابا ؟! مشيت ليه بس؟؟ أنا كنت متطمن علشان هي معاكم، و كنت عارف انكم هتخلوا بالكم منها، إيه دا بس هو أنا ناقص يا ربي ؟!"

رد عليه والده بهدوء:
"أفهم يا ياسين، خديجة هنا تعبت و لوحدها من غيرك، مبتخرجش من أوضتك و لا بتسيب حاجتك، عاوزني اسيبها كدا ؟! أنا سلمتها لوليد زي ما أنتَ قولتلي"

تنهد هو بقلة حيلة ثم تحدث على مضضٍ و هو يقول:
"ربنا يبارك فيك يا حبيبي، أنا عارف إنك هتعمل اللي تشوفه صح، سلملي على ماما و أنا هكلمها أطمنها"

أغلق الهاتف مع والده ثم أخرج رقمها و قبل أن يطلبه قال بغلبٍ و يأسٍ تمكن منه و كان حديث والده بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير، فقال:
"هو أنا كنت ناقص أخاف عليكي أنتِ كمان ؟! ليه بس يا خديجة؟"

فوق سطح بيت الشباب كانت «خديجة» تجلس وسطهم و «حسن» و «وليد» يقوما بشواء الطعام على النيران، و «طارق» يقوم بعمل السلطة و «وئام» يقوم بترتيب الطاولةِ و الفتيات يقمن بمساعدتهم.

رفع «وليد» صوته و هو يقول بنبرةٍ جامدة منفعلًا في وجه «حسن»:
"إيه يا حسن ؟! أنتَ بتشويها في نار جهنم ؟! الفراخ قربت تتحرق،  طلعها من على الشواية و ارفعها بقى يا عم"

رفع «حسن» ماسك الطعام الساخن في وجهه و هو يقول متوعدًا له:
"ولا ؟؟ متخنليش أطلع روحك أنتَ و ارفعها للي خلقها، داهية تاخدك، عديم الرباية"

رفع «وليد» حاجبه و هو يقول بتهكمٍ و يهدده:
"ما بلاش، كلنا عارفين مين عديم الرباية و ساكتين يا أبو علي، و بعدين قاعد في بيتنا و لابس ترنج أخويا و هتاكل من الفراخ اللي بشويها ؟!"

رفع «حسن» أحد حاجبيه و هو يسأله بثباتٍ:
"و مين اللي جايب الفراخ دي يا عين أمك ؟؟ و مين اللي اشترى الشواية الكبيرة ؟! و أنتَ رايح تجيب لينا فازة ؟!"

رد عليه «وليد» بنبرةٍ جامدة:
"أنتَ، بس مش مبرر على فكرة، و بعدين أنتَ مبرطع في البيت براحتك أوي"

أبتسم له «حسن» باستفزازٍ و هو يقول بنبرةٍ أثارت حنقه:
"لما يبقى بيت أمك لوحدك ابقى اتكلم، دا بيت أخواتي يا حبيبي"

رفع «طارق» صوته بضجرٍ:
"بس بقى يا جاموسة أنتَ و هو ؟! خلصوا أنا جعان، مكانتش وجبة شوي دي هتقرفونا بيها، شورة مين الهباب دي ؟!"

ردت عليه «جميلة» بنبرةٍ ضاحكة:
"شورة خلود، أحمد و ماما قالوا انها كانت عاوزة تشوي فوق سطح الرشيد بس وليد قال يعملها هنا لما نتجمع سوا، بصراحة اختيار موفق، أنا بحب الحاجات المشوية أوي"

غمز لها «طارق» و هو يقول بمشاكسىةٍ لها أمام الجميع:
"بتحبي الشوي ؟؟ دا أنا علشانك اشويلك خروف مخصوص، أقولك اشويني أنا شخصيًا"

ضحك الجميع عليه، بينما «وئام» تحدث بدهشةٍ من تغير رفيقه:
"إيه دا يا جدعان ؟! طارق فين ؟! دا إحنا كلنا كنا هنموت و نعرف صوته تخين و لا رفيع، الواد اتبدل خالص، دا كان كاريزما"

ردت عليه «هدير» بنبرةٍ ضاحكة:
"فاكرين لما كان مكشر في وشنا كلنا، و في الأخر يتخانق معانا و يسيبنا و يمشي ؟! سبحان الله جميلة جت بمعجزة معاها"

رد عليها «وليد» بسخريةٍ:
"و لا لما كان يقعد يبصلنا بقرف و هو قاعد لوحده، كان إتم أوي"

أضافت «خلود» بضيقٍ:
"و لا لما كنا نفضل نضحك و نهزر و هو يقعد يقولنا...بتضحكوا ؟؟ فيه واحدة غايبة عننا و انتم كمان بتضحكوا ؟!"

قلدت طريقته و نبرة صوته إلى حدٍ ما فارتفعت ضحكات الجميع مرةً أخرى عليه، و خاصةً «خديجة»، فقال هو بضجرٍ:
"جرى إيه يا جدعان ؟! محدش هينصفني في القعدة دي ؟! كلكم شايفني واطي كدا ؟!"

ردت عليه «خديجة» بنبرةٍ هادئة تحاول اخفاء ضحكاتها:
"بصراحة يا طارق يعني، لا أنا و لا أنتَ كنا نتطاق، الحمد لله على كل حال إنهم دلوقتي قابلينا"

ردت «هدير» مسرعةً:
"و معاكم حسن كمان، علشان ماكنتش بطيقه قبل الجواز"

رفع حاجبه و هو يقول مستنكرًا:
"يا شيخة ؟! شكلك هتروحي بيت أبوكي يا هدير المرة دي بجد بقى"

ردت عليه هي مُسرعةً:
"خلاص خلاص، علشان أفلام الكرتون اللي بينا بس"

تحدث «طارق» بخيبة أملٍ يقول:
"حتى أنتِ يا خديجة ؟؟ دا أنا اتعشمت فيكي الخير تنصفيني"

ردت عليه هي بوجهٍ مُبتسمٍ و خجلٍ من حديثها السابق:
"حقك عليا يا طارق بقى، بس دي حقيقة، إحنا قفلنا على نفسنا أوي و ضيعنا حاجات كتير، الحمد لله على اللي وصلنا له"

في تلك اللحظة صدح صوت هاتفها برقمٍ غريب، رفضت هي المكالمة أول مرةٍ و في المرة الثانية وافقت باستسلامٍ على استقبال المكالمة و هي تقول بتوترٍ:
"ألو ؟! مين معايا ؟!"

_"أنا الغريب اللي ملوش وطن غير عيونك أنتِ يا ست الكل"
تفوه هو بها بنبرةٍ هادئة و هو يرد على استفسارها عن هويته، و حينها ردت هي عليه بلهفةٍ أظهرت شوقها له:
"ياسين ؟؟ عامل إيه، وحشتني أوي، أنتَ كويس ؟!"

رد عليها هو بصوتٍ هادئًا:
"أنا كويس الحمد لله طول ما أنتِ كويسة، طمنيني عليكي، بابا قالي إنك مش كويسة"

ردت عليه هي بنبرةٍ شبه باكية و هي تحاول التمسك بثباتٍ واهٍ:
"علشان مكنتش أعرف حاجة عنك، كنت خايفة عليك و أنا معرفش حاجة عنك و مبسمعش صوتك، طمني عليك"

_"أنا تمام و دلوقتي بقيت أحسن بكتير علشان ريحتي قلبي، بس عاوز أقولك خلي بالك من نفسك، مش عاوز أرجع قلقان عليكي و زعلان يا خديجة، عاوز أرجع ألاقيكي زي ما سيبتك و أحسن كمان، متزوديش خوفي بخوف عليكي أنتِ كمان"

_"طب و هو أنتَ إيه مخوفك؟! ياسين أنتَ مش كويس صح ؟! قلبي بيقولي إنك مش بخير و إنك تعبان، كدبني و كدب قلبي"

أغمض جفنيه بشدة ثم زفر بقوةٍ و هو يقول بنبرةٍ هادئة محاولّا الثبات أمامها:
"أنا كويس يا حبيبتي، متقلقيش أنتِ، يمكن بس علشان مش واخد على أني اغيب كدا، و متخيلتش إن يجي اليوم اللي ابعد فيه عن كل حاجة بحبها، و خصوصًا عنك أنتِ، سجون العالم كلها لو معاكي تبقى براح يا خديجة"

ابتسمت هي بعد حديثه على الرغم من صدق احساسها به و أنه لم يكن على ما يرام، لكنها قررت التمسك بأملٍ زائفٍ، حينها اقترب «وليد» منها يقول بصوتٍ عالٍ:
"جوز أختي حبيبي و عم عيالي و أبو نسب الغالي، عامل إيه يا عم ؟! قاعدين كلنا و ناقصنا وجودك"

رد عليه «ياسين» بضحكةٍ يائسة:
"كويس يا خال العيال، أنتَ إيه اخبارك ؟! و اخبار الأمانة ؟! خلي بالك منها يا وليد بقى، أنا كدا خوفي زاد بعد كلام أبويا"

سحب منها الهاتف و هو يقول مُطمئنًا له بهدوء:
"متخافش عليها، أنتَ عارف إنها معايا في أمان و أني مستحيل اسيبها تزعل، اتطمن و حط في بطنك بطيخة صيفي، بس خلي بالك من نفسك أنتَ"

رد عليه بهدوء:
"حاضر يا حبيبي، افتح بقى الصوت خليني اسلم على اللي عندك كلهم"

فتح «وليد» السماعة حتى يصل الصوت لهم جميعًا فتحدث هو بمرحٍ:
"مساء الخير يا عيلة مجانين، ازيكم يا ولاد الرشيد ؟!"

ضحكوا جميعهم عليه فتدخل «حسن» يسأله بنبرةٍ ضاحكة:
"طب و أنا من ضمن عيلة المجانين برضه ؟! هتاخدني في الرجلين ؟!"

رد عليه بقلة حيلة:
"حظنا بقى يا عم حسن، لبسنا في عيلة كلها مجانين، كفاية وليد و طارق الملبوس دا"

رفع «طارق» صوته يقول بضجرٍ زائفٍ:
"حتى أنتَ كمان ؟! هي كانت نقصاك يا عم يعني ؟! كملت بيك يا حبيبي"

_"لامؤاخذة يا طاروق، بس دي حقيقة، بحسك ملبوس و وليد منفصم الشخصية و وئام متربي مرتين و أحمد في كوكب زمردة باين"
تفوه بذلك الحديث «ياسين» يمازحهم جميعًا، فقال «وليد» مفسرًا:
"حظك حلو أحمد بيجيب سلمى من المراجعة و جاي على هنا، بالنسبة لموضوع منفصم بقى، الامانة بتاعتك هرميها في الشارع"

رد عليه «ياسين» بثقةٍ:
"كداب يا سكر، دا لو البحر نشف قصاد عيوني مستحيل اصدق إن أنتَ تعمل كدا، حافظ عليها بس"

رد عليه بهدوء و هو يطالعها:
"في عيوني يا ياسين من غير ما تقول، متخافش عليها مع أبوها"

استمرت المكالمة بين العائلة بأكملها و خاصةً عند قدوم «أحمد» و معه «سلمى» فدلف بمرحٍ و هو يقول:
"أبو نسب اللي إن شاء الله هيخليني خال، تعالى بقى يا عم"

رد عليه «ياسين» بنبرةٍ ضاحكة:
"يا عم أجي و أنا هحقق حلمكم كلكم حاضر، المهم أنتَ إيه أخبارك ؟! طمني"

رد عليه بهدوء و هو يطالع أخته:
"أنا بخير يا حبيبي، و خديجة كويسة متخافش عليها، جايب ليها لِب و شيبسي و مظبطها لحد ما أخليها تنسى غيابك"

ضحكوا جميعهم عليه فاقتربت «خلود» من شقيقها تأخذ منه الأكياس الكبيرة الذي دلف بها و هي تضحك بخبثٍ، و قد لاحظها الجميع و هم يرمقونها بغيظٍ 
_________________________

انتهت المكالمة مع العائلة فتنهد هو براحةٍ كبرى بعد اطمئنانه عليهم جميعًا و خصيصًا بعدما تأكد أن والده اصاب الخيار حينما أرسلها للعائلة، فالبداية مبشرة منذ الوهلة الأولى.

اقترب منه في تلك اللحظة "محسن" يقدم له كوبًا من الشاي و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"خد اشرب كوباية الشاي دي تدفيك، و روق أعصابك"

اخذها منه و هو يبتسم بودٍ و امتنانٍ له، فسأله الرجل:
"بشمهندس يوسف بقى كويس ؟! و لا لسه الحرارة منزلتش ؟!"

رد عليه يُطمئنه بهدوء:
"الحمد لله نزلت حرارته بس مش أكيد، لازم دوا أو حاجة قوية، شوية كدا و هشوف و يكون هو صحي، بس إيه حكاية مهندس دي، هو مش عامل هنا؟"

سأله مستنكرًا كلمته و نعته بالمهندس، فتحدث "محسن" مفسرًا:
"لأ هو مهندس بترول، و شاطر جدًا كمان، أنا بقالي معاه هنا فترة طويلة أوي، كان قرب يمسك فرع كامل من فروع الشركة، بس ناس نخربت وراه، و رجع من مدير لمهندس بينزل مشاريع بنفسه، ساعتها هو كره الشغلانة و حياته كلها، و ماشي يقول إنه رئيس عُمال، كان عامل بحث لو حد اهتم بيه كان زمانه متكرم من أكبر دول في العالم، بس للأسف الواسطة و المحسوبية قادرين يضيعوا أكفأ الناس، و اللي منهم بشمهندس يوسف، تعرف رغم عصبيته و خلقه الضيق و لسانه دا، بس قلبه طيب أوي، لما عرف إن فيه عامل مراته بتولد و معهاش فلوس، راح حولها فلوس من هنا بنفسه و بزيادة علشان جوزها مكانش قبض، و مرضاش ياخد منه الفلوس أبدًا و قاله إنها نُقطة المولود و ساعتها سماه يوسف"

أبتسم «ياسين» بتأثرٍ و هو يقول بغلبٍ و قلة حيلة:
"اللي يشوف بلاوي الناس تهون عليه بلوته يا عم محسن، شكله تعب أوي في حياته"

رد عليه الرجل بأسى:
"للأسف هو شاف كتير، اللي جابه هنا أصلًا أنه ضرب المدير، و من هنا لهنا عاقبوه لما جابوه هنا، بس هو محدش بيمشي كلمته عليه، و قرر يفضل هنا و ميرجعش حتى لو بمزاجهم هما"

حرك «ياسين» رأسه بقلة حيلة فتحدث الرجل يستأذنه بهدوء:
"عن اذنك بقى يا بشمهندس ياسين، هروح أنام علشان اصحى أفطر العمال بكرة بدري، تؤمرني بحاجة ؟!"

رد عليه بهدوء:
"الأمر لله وحده يا عم محسن، تصبح الخير، ربنا يبارك في عمرك و صحتك يا رب"

تحرك الرجل من أمامه بينما «ياسين» انهى ارتشاف الشاي ثم تنهد بعمقٍ، بعدها توجه نحو الرجل الذي سبق و تشابك معه، ثم وقف أمامه ثابتًا يمد يده له بالهاتف و هو يقول:
"أنا خلصت التليفون خلاص، كان المفروض استأذن بس بصراحة أنتَ مش وش أخلاق أصلًا"

رفع الرجل حاجبه له و هو يسأله بنبرةٍ جامدة اقرب للانفعال:
"عاوز إيه تاني ؟؟ مش خلصت اللي أنتَ عاوزه خلاص ؟!" 

حرك رأسه نفيًا وهو يقول بنفس الجمود و الثبات:
"لأ لسه، مخلصتش، عاوزك زي الشاطر كدا تاخد الموبايل و تكلم الراجل اللي مشغلكم"

رد عليه الرجل برفضٍ قاطعٍ:
"مينفعش، إحنا مبناخدش اوامر من حد غيره، امشي من هنا"

حرك «ياسين» رأسه موافقًا ثم التفت حتى يغادر من أمام الرجل و فجأة التفت له مُسرعًا و هو يرفع السلاح "المطوة" يضعها على رقبته و حينها اقترب باقي الرجل يحاصرونه، فرفع هو صوته يقول:
"اللي هيقرب مني هطير رقبته، أرجع مكانك أنتَ و هو، ارجــعـوا"

عادوا للخلف متقهقرين بعد حديثه، فشدد هو وضع السكين على رقبته و هو يقول بطريقةٍ سوقية:
"اسمع بقى يا حيلتها علشان أنا فاض بيا و أخري جاب أخره مني و من أشكالكم، تكلم اللي مشغلك دلوقتي و تطلبلي رقمه، و متخافش أوي كدا، أنا اللي هتكلم مش أنتَ، أطـــلــب"

صرخ فيه بنبرةٍ جهورية جعلت الأخر يضغط على رقم رئيسه فورًا دون تفكير، و حينما وصله الرد حدثه باللغة البدوية، فضغط «ياسين» على عنقه و هو يقول:
"كلمه زي ما بتكلمني علشان افهم، متتحاوطش بروح أمك عليا"

حرك رأسه موافقًا ثم قال بخوفٍ و صوتٍ مختنقٍ إثر السكين الموضوع على عنقه:
"يا شيخ صالح.....البشمهندس متعصب و حاطط السكين على رقبتي، كلمه يا شيخ صالح"

سحب «ياسين» الهاتف يضعه على أذنه و هو يقول بنبرةٍ جامدة:
"زي ما سمعت كدا يا عمنا، السكينة محطوطة على رقبة الراجل بتاعك، لو هو لازمك أوي و أنتَ خايف عليه، تعالى ليا الصبح و قبل ما الضهر يأذن أشوفك قدامي، غير كدا أنا نفسي طويل و هعرفك شغل الجنان على حق، مجرد ما صبح ربنا يظهر أشوفك قصادي، و فيه واحد من رجالتك عورني و ديه ليها حق لوحده و مش هسيبه، بس أنا ابن أصول و هاخد الحق قدام عينيك....سلام يا شيخ الشباب"

أغلق معه الهاتف ثم أرسل رسالة لـ «خالد» كتب بها:
"كل حاجة تمام، بس برضه خليك متابعني"

أغلق الهاتف ثم وضعه في جيب بنطاله، فحدثه الرجل بنبرةٍ جامدة:
"مش خلصت ؟! هات المحمول لو سامحت، هاته كدا أنتَ بتغلط و نهاية غلطك هتيجي على دماغك، الشيخ صالح مش هيتفاهم و اخرتها هتكون بموتك"

أمسك «ياسين» وجه الرجل بيده و هو يقول بغيظٍ و انفعالٍ منه:
"هو أنتَ بروح أمك متعلمتش إنك تسكت و تلم لسانك ؟! اسكت يا ريس بدل ما أسكتك أنا و أخلي المطوة ترقص في وشك، تحب أخد حق وشي اللي اتعور دا منك دلوقتي ؟!"

دفع وجه الرجل ثم ذهب لغرفة «يوسف » مرةً أخرى حتى يطمئن عليه، دلف الغرفة فوجده نائمًا حينها زفر بقوةٍ ثم جلس على المقعد مرةً أخرى و أمسك المصحف الشريف يقرأ به من جديد و هو يضع يده على رأس «يوسف» طالبًا من الله عز و جل أن يُشفيه شفاءًا لا يغادر سقمًا، ابتسم «يوسف» بأريحية في نومه و قرر أن يستسلم لتلك الراحة المتغللة بأعماقه بصوت ياسين العذب و الآيات التي تثلج نيران روحه.
_________________________

كانت السهرة في بيت الشباب مختلفة تمامًا خاصة بعد تناول وجبة العشاء، ثم التفوا حول بعضهم على الأرض و قد قام «وليد» بجلب الشاشة الكبيرة و قام بوضعها فوق السطح و قام بتشغيل أحدث الأفلام الأجنبية، ثم قام بتشغيل أفلامًا كرتونية بناءًا على رغبة فتيات العائلة بأكملهن، لكنه أوقف الحديث و قال بصوتٍ عالٍ:
"بس يا جاموسة منك ليها بدل ما اقفل عليكم باب الزريبة، اللي خديجة تقول عليه هجيبه، أجيب إيه يا خديجة، كرتون و لا فيلم أجنبي ؟!"

ابتسمت له ثم حركت رأسها تطالع نظرة الفتيات المتحمسة لقرارها، ثم حركت رأسها نحو الشباب فوجدت البرود يكسو ملامح وجوههم، حينها اتسعت بسمتها و هي تقول:
"كرتون، هات كرتون علشان كلنا بنحبه كبنات، حد معترض؟!"

رد «حسن» مسرعًا بمرحٍ:
"محدش يقدر يعترض أصلًا، أنا عاوز اعترف اعتراف أني راجل بحب الكرتون أوي"

ضحكوا عليه جميعًا فـ غمز هو لزوجته و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"و لا إيه يا هدير ؟؟ ودع الأحزان يا ذوق"
ابتسمت هي بيأسٍ منه بينما «وليد» قام بتشغيل الفيلم الكرتوني الشهير
 "The lion king"
صفق الجميع بحماسٍ ثم انتبهوا بكامل تركيزهم نحو الشاشة و كلًا منهم يشعر أنه مثل الطفل الصغير بجوار أخوته في ليلة العيد و كأنها أمسية رائعة عليهم جميعًا يملؤها الحماس حتى يعقبها صباح العيد محملًا بالبهجة و الخيرات.
_________________________

قبيل أذان الفجر بـ لحويظاتٍ قليلة، فاق «يوسف» من نومه و اعتدل على فراشه ثم رفع كفيه يمسح على وجهه حتى تتضح الرؤية أمامه، ليقع بصره على منظر «ياسين» ينام على المقعد و قد فرد قدميه على الطاولة بجوار الفراش و لازال المصحف بين ذراعيه، فيبدو أنه نام أثناء قراءة الآيات لـ «يوسف» ابتسم «يوسف» بتأثرٍ ثم اقترب منه يحاول ايقاظه بنبرةٍ متحشرجة:
"ياسين !! اصحى يا ياسين، يا ياسين ؟! اصحى" 

هزه بقوةٍ حتى استيقظ «ياسين» و طالعه بملامح وجه ناعسة و حينها لاحظ «يوسف» اللاصق الطبي فوق رأسه، فاتسعتا حدقيته فورًا و هو يسأله بلهجةٍ حادة:
"مين اللي عورك كدا ؟! حد فيهم من برة صح ؟!"

تحدث «ياسين» بهدوء يحاول طمئنته و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"اهدا بس يا يوسف، أنا زي الفل متخافش، اهدا، طمني عليك أنتَ إيه اخبارك ؟!"

رد عليه مبتسمًا بقلة حيلة:
"زي الفل، مكانش ينفع تعمل كل دا علشاني و أنا مبقاش كويس، كفاية صوتك بس و أنتَ بتقرأ القُرآن يشرح القلب و يريحه"

أبتسم له «ياسين» و قبل أن يتحدث ارتفعت الطرقات فوق باب الغرفة، فوقف «ياسين» مسرعًا و اقترب من الباب يفتحه، فوجد نفس الرجل أمامه و هو يقول بنبرةٍ جامدة:
"الشيخ صالح وصل و عاوزك، يلا ورايا"

خرج «يوسف» من الفراش منتفضًا يوقف «ياسين» بقوله:
"ييجي وراك فين ؟! قول للشيخ بتاعك دا يوسف بيقولك اللي عاوزنا، يجيلنا احنا مبنروحش لحد"

تحرك الرجل من أمامه، فتحدث «ياسين» بحنقٍ:
"مفيش فايدة فيك ؟! بتجادل حتى و أنتَ تعبان؟! خلينا نروح و نخلص بقى"

رد عليه بثباتٍ:
"اتقل أنتَ بس، هما هنا بيحبوا الراجل الثابت اللي مبيخافش، و لازم هو اللي يجي لحد عندنا طالما هو اللي عاوزنا"

قبل أن يرد عليه «ياسين» وصل «صالح» مع رجاله خلفه، فقال هو بضجرٍ:
"اديني جيت لحد عندك علشان تعرف إن نيتي مش شر، خير يا بشمهندس ؟!"

أشار له «ياسين» نحو الداخل و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"الكلام مش هينفع هنا، اتفضل جوة علشان نتكلم بالهداوة"

دلف الرجل للغرفة فتحدث «يوسف» بسخريةٍ و تهكمٍ أمرًا الرجل الآخر الذي داوم على الاشتباك معهما:
"و أنتَ يا أبو فياض ؟؟ تعالى يا بقرة الصحراء، ليك حساب"

زمجر الرجل بحدةٍ فرفع «يوسف» حاجبه و هو يقول ببراءةٍ زائفة:
"مزعلك إنك بقرة ؟! طب يا جدع دي كلها خيرات، ياريتك تعمل ربع اللي هي بتعمله"

ضحك «ياسين» بيأسٍ بينما الرجل دلف و جلس بجوار «صالح»، فتحدث الأول يقول:
"ها ؟! جيت لك اهو يا بشمهندس، اخرتها إيه؟!"

رد عليه «ياسين» مسرعًا:
"اخرتها عندك أنتَ مش عندي أنا، قولي الحكاية دي أصلها إيه و أخرها إيه؟!"

رد عليه الرجل يجاوبه بعدما زفر بقوةٍ و يأسٍ:
"الحكاية اننا اتفقنا مع الشركة على الشغل و على كل حاجة و على السعر، و كمان عطلت رجالتي و جيبتهم من كل الشغل اللي كان معاهم، و في الأخر لقيت الشركة جايبة عمال تانية من برة و بيقولولي إن المهندس رافض شغلهم، طب و الحاجة اللي خسرتها و شغلنا و سُمعتنا، محدش مهتم من الأساس، يبقى الحل إيه؟!"

رد عليه «ياسين» منفعلًا:
"الحل انكم تخلصوا مني ؟! أنا ذنبي إيه طيب ؟! حالي واقف و شغلي و الرجالة اللي في رقبتي أنا أعمل إيه في كل دا؟!"

رد عليه الرجل بقلة حيلة:
"و أنا مين يعوضني عن الخسارة اللي شوفتها ؟؟ مين اللي يعوض رجالتي عن اللي شافوه ؟؟ يابني إحنا مش بلطجية و لا هجامين زي ما انتم فاكرين و زي ما سُمعة البدو و العرب واصلة ليكم، احنا ناس زيكم و صحاب حق، بس لينا عادات و تقاليد ماسكين فيها، من ضمن عادتنا إن اللي يقل بينا و ييجي على حقنا، منسكتش و منسميش عليه، احنا انشف من الجبل اللي برة دا، و بعدين الرسالة وصلت إن أنتَ السبب"

نظر كلًا من «يوسف» و «ياسين» لبعضهما بتيهٍ، فتحدث «ياسين» يسأله بنبرةٍ جامدة:
"رسالة ؟! رسالة إيه دي ؟! و من مين ؟! و ليه أنا بالذات ؟!"

رد عليه الرجل بهدوء:
"الرسالة وصلتني من واحد اسمه هشام السيد، بعتلي و قالي إن المهندس المسئول عن اللي احنا فيه و أنه رفض شغلنا موجود في المشروع، لو عاوزين حقنا، يبقى نتصرف معاه هو"

اتسعتا حدقتي كليهما، و خاصةً «ياسين» و هو يفكر هل مجيئه هنا فخٌ نُصبَ له و وقع به هو بارداته ؟! أم الموضوع مرتب من السابق للايقاع به ؟! على كلًا إن كان فخًا أو غير ذلك، سيستطيع هو سحب الكرة في ملعبه مرةً أخرى.

تعليقات



×