رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الثالث والستون 63 بقلم شمس بكري


رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الثاني والستون بقلم شمس بكري 

"وجدت فيك نفسي و في وجودك الحياة، كنتُ أنا الغريق و أنتَ طوق النجاة"

__________________________


ذوقت طعم الراحة فكنت كمن اغتنم غنائم الحرب بأكملها لصالحه، و بُغتتةً سُلبت مني تلك الراحة، فغدوت كما طفلًا صغيرًا تركته أمه وسط قبيلةٍ في حالة صراعٍ قُرعت بها طبول الحرب فوق رأس الجميع، و ظللت أنا في المنتصف باكيًا أطلب أيديهم جميعًا لـ تنتشلني.


فرت عبراته من بين أهدابه دون أن يشعر هو بذلك، فقط سخونتها على وجنتيه هي من انذرته بذلك، لم يتخيل أن يسمع تلك الكلمات التي بمثابة خنجرًا يطعن في ثبات روحه حتى بات ممزقًا بالكامل، و هي أمامه تطالعه بجمود، حتى تحدث هو بنبرةٍ صوتٍ تشبه صوت الطفل الذي وقف يتوسل والدته باكيًا:


"أنتِ بتقولي إيه يا حنان ؟؟ أنتِ بتخيريني على وجودك في حياتي؟! بتحطي حياتي معاكي في كفة و وجود مراتي معايا و راحتي في الكفة التانية ؟!"

سألها مستنكرًا حديثها بذهولٍ امتزج ببكاءٍ مزق نياط قلبه هو نفسه، حتى ردت عليه هي بجمودٍ:

"أنتَ اللي حطيتنا في الموقف دا من الأول يا حسن، يا أنا يا هي، بس لو اختارتني يبقى هتسيب كل عيلة الرشيد، و ترمي اليمين على مراتك و أعيش أنا و أنتَ مع بعض و اعوضك عن كل حاجة بس و أنتَ في حضني، إنما كدا أنا كأني مليش لازمة"


اتسعتا حدقتيه بقوةٍ و حرك رأسه سلبًا بالنفي، غير مُصدقًا أنها امسكت الخنجر و طعنته في جرحه مباشرةً، فتدخل في تلك اللحظة «وليد» بعدما وقف في الخارج يراقبهما، و حينما رأى الأمور تزداد سوءًا بينهما، قرر التدخل بقوله الهاديء:

"استهدوا بالله يا جماعة، أهدي يا مدام حنان و ياريت متتسرعيش في طلبك، مهما كان دا أخوكي"


ابتسمت هي بتهكمٍ و هي تقول:

"تقدر تقولي الاستاذ دخل هنا ازاي؟! أكيد مش جاي معاك، طبعًا أنتَ مديله نسخة يدخل بيها هنا، مش بقولك أنتَ مبديهم على الكل حتى أختك ؟!"


يكفي عند هذا الحد فقد طفح الكيل منها و من حديثها اللاذع، فاقترب «وليد» يقف مقابلًا لها و بجوار الأخر و هو يقول بطريقته المعتادة:

"بالراحة على نفسك بس علشان متروحيش فيها، و ابلعي ريقك علشان...و لا بلاش لا تروحي فيها، دخولي اللي مزعلك دا و مخليكي مش طايقة نفسك، مرتين انقذ أخوكي من الموت، لما كان بيغيب عننا و نحس إنه اختفى زيادة عن الطبيعي، و المرتين كنا بنيجي نلحقه، وجودي اللي مزعلك أوي دا فعلشان أنا جاي ورا أخوكي علشان ميعملش فيكي أو في نفسه حاجة، إنما أنتِ فـ ربنا يخلص منك في اللي يخصك، و حق أختي اللي أنتِ خوضتي فيه دا مش مسامح فيه لا دنيا و لا آخرة، و هنتقابل قدام ربنا اخنا الاتنين و ساعتها أنا هقوله أني مش مسامح، دا غير أنه هيخلص منك في الدنيا، أصل كله سلف و دين حتى المشي على الرجلين"


تجاهلت حديثه ثم نظرت لأخيها و هي تقول بلهجة صوتٍ حادة:

"اختار يا حسن ؟! باقي عليا و لا هتختار عيلة الرشيد ؟؟ أنا و لا هي يا حسن ؟!"


أمعن النظر في وجهها و تعمق بنظره في عينيها لتلتحم نظراتهما سويًا في معركةٍ يكسوها الجمود و القسوة دون أن تشوبها شائبة لينٍ، و قبل أن تتحدث من جديد تطلب منه الإدلاء بقراره الأخير، صرخ هو بنبرةٍ صوتٍ جهورية:


"هــــي.....هختارها هي يا حنان، عارفة ليه ؟! علشان هي متستاهلش أني اوجعها كدا، أنا كنت مستني انها هي اللي تخيرني بينك و بينها، و قولت لو عملت كدا أنا مش هأمن على نفسي معاها، بس هي طلعت احن منك عليا، هدير اختارت أنها تسيبني علشان متحطنيش في مقارنة زي دي، هدير اللي دبحتيها بكلامك و اتهمتيها في شرفها و بسببك كانت هتضيع مني في الشارع، أنتِ بقى زيك زيها، بما انك خيرتيني يبقى هختارها هي، عارفة ليه ؟! علشان اللي بيحب حد مبيخيرهوش، مبيساومهوش بوجوده في حياته، لو هختار يبقى أختار اللي أنا ارتخت معاها، و أنا مرتحتش غير معاها يا حنان، أنا معرفتش يعني إيه أنا انسان ليا خاطر و مشاعر غير لما هي بقت معايا، على عيني أقولك كدا يا حنان، بس أنا هختار مراتي، و مش طالب غير وجودها هي معايا"


ربتت على كتفه و هي تقول بجمودٍ:

"عيشت يا أخويا، عيشت يا ابن أمي و أبويا"


رفع كفيه يمسح وجهه بعنفٍ ثم تحدث بنبرةٍ متحشرجة:

"أنا ماشي و سايبلك البيت لحد ما شقتك تخلص و الناس تروقها، مهما كان أنا مش هقدر اطردك من هنا، بس و أنتِ بتدعي لأبوكي و أمك الصبح دا لو بتفتكيرهم يعني، ابقي ادعي لأخوكي معاهم بالرحمة علشان حسن المهدي بالنسبة ليكي ميت"


تحرك من أمامها و هي تنظر في أثره بذهولٍ و نظرة عينيها غلفها القسوة و الثبات، حتى اقترب «وليد» منها يقف مقابلًا لها و هو يقول بنبرةٍ ثابتة:

"أنا لحد أخر لحظة مستني منك دمعة واحدة تحسسني إنك ندمانة أو إنك موجوعة على اخوكي، بس أنا شايف جحود و عيون مفيهاش زرة حنية أو شفقة حتى على وجعه، و حسن يخصني زيه زي هدير، اقسملك بربي ما هسيبك و لا هقدر حتى اخرجك من دماغي، هقهرك زي قهرة هدير بالظبط لما غلطتي في شرفها و زي ما نزلتي دموع حسن، هوريكي واحد مني يكرهك في عيشتك و هخسرك كل حاجة، قابلي اللي جاي مني بقى، علشان اللي جاي كتير"


تحرك من أمامها بخطواتٍ رتيبة واثقة و هي خلفه تطالع اثره بحقدٍ عليه، دون حتى ان يكون عندها ذرة شفقة و لو صغيرة نحو اخيها الذي تصدع قلبه حديثها.

_________________________


نزل «وليد» من الشقة فوجد «حسن» يقف بجوار السيارة و نظراته موجهة في الفراغ أمامه و عينيه تنطق بكل كلمات الوجع و الألم، اقترب منه يقف مقابلًا له يسأله بنبرةٍ خافتة:

"حسن؟! أنتَ كويس ؟!"


توجه له ببصره بعدما كان شاخصًا به في اللاشيء، و حينما التقت نظراتهما استطاع «وليد» استشفاف الوجع بهما على كونه لم يُفصح هو بذلك، فاخفض «حسن» رأسه يُطرقها للأسفل و فقط تحدث بكلماتٍ قليلة منكسرة يقول:

"وديني لـ هدير يا وليد، عاوز أروح عندها، ينفع ؟!"


حرك رأسه موافقًا دون أن يتحدث، و يكاد يجزم هو أن قلبه يصرخ من الوجع على رفيقه.


ربت على كتفه بحنوٍ ثم تحرك يركب سيارته و الأخر يتحرك بآلية شديدة مثل الجسد الآلي الخالي من الروح، ركب كليهما السيارة و حركها «وليد» بسرعةٍ كبرى يضرب الأرض أسفله بواسطة احتكاك الاطارات بها، حرك رأسه للجهةٍ الأخرى و قد حانت منه التفاتة نحو الجالس بجواره يضع رأسه على نافذة السيارة و عينيه كما هي تشخص في الفراغ، و الدموع متحجرة في عينيه، يود البكاء و الصراخ و لأول مرّةٍ بحياته يشعر بذلك الاحساس الذي حاش طوال حياته يهرب منه و هو احساس "اليُتم"، زفر «وليد» بقوةٍ ثم حرك رأسه ينظر أمامه و هو يفكر في حال رفيقه و الذي من المؤكد أنه يعاني من الويلات على الرغم أنه لم يشعر به، إلا أنه يتفهم وضعه و معاناته جيدًا.


استمرت القيادة في صمتٍ من كليهما، حتى وصل «وليد» إلى وجهته المنشودة و هي بناية سكنه، نزلا من السيارة في تزامنٍ مع بعضهما، صعد «وليد» أولًا و «حسن» خلفه يقف على بعدٍ من باب الشقة، دلف «وليد» يقف على أعتاب الشقة و هو يذكر اسم زوجته التي خرجت له بتعجبٍ و ترقبٍ فأشار لها بالتوقف حينما وجدها دون غطاء لرأسها، توقفت هي ثم سحبت الغطاء تضعه عليها حينما أشار لها نحو الخارج، ففهمت أن «حسن» معه، سألها هو قبل أن تتفوه هي:

"هدير فين يا عبلة ؟! لو نايمة ادخلي صحيها"


ردت عليه هي بهدوء:

"بس هدير مش هنا يا وليد"


استمع «حسن» لتلك الجملة فتحدث بنبرةٍ ظهر بها قلقه بعدما تقدم خطوةً واحدة:

"اومال هي فين؟؟ اوعي تقولي نزلت تاني ؟!"


ردت عليه هي تطمئنه:

"هدير طلعت فوق السطح علشان كانت مخنوقة، فضلت تعيط و طلبت مني مرة واحدة انها تطلع فوق"


تذكر «حسن» أول لقاء فعلي يجمعهما سويًا حينما وقفت فوق غرفة المصعد تحاول القفز من فوقه، فتحرك مسرعًا نحو الأعلى بخوفٍ و قلقٍ أن تكون استسلمت لشيطانها و قررت انهاء حياتها، ركض «وليد» خلفه حتى وصلا معًا ليجدا منظرًا لم يتخيله أيًا منهما، وقفا يزفرا بقوةٍ تنهيدة ممتدة بعمقٍ تتخللها الراحة.


عاد «وليد» خطوةً للخلف، بينما «حسن» أنصاع لرغبة قدميه في التقرب منها، حيث كانت تجلس على السجادة اللتي سبق و وضعها «وليد» يوم قام بتجهيز و ترتيب السطح، جلست هي ترتدي اسدال من ملابس «عبلة» و معها المُصحف الشريف في يدها، و قد جلست تقرأ منه و هي تبكي، اقترب منها يجلس على ركبتيه مقابلًا لها، و على الرغم من وصول عطره لأنفها، إلا أنها لم ترفع رأسها بل أكملت قراءة و هي تبكي بصمتٍ، رفع هو كفه يمسح دموعها، حتى رفعت عينيها الباكيتين تُبصره ببكاءٍ و الدموع تعرف طريقها جيدًا نحو وجنتيها، أمسك هو المصحف ثم أغلقه و وضعه على المقعد المجاور فتحدثت هي بنبرةٍ خافتة و هي تصدق القول بعد قراءة الآيات، بينما هو ألقى بنفسه على فخذيها كعادته و فقط تحدث بجملةٍ واحدة قالها بوجعٍ مزق نياط قلبها حينما استشفت كلماته المُنكسرة:

"طبطبي عليا يا هدير...أنا مليش غيرك أنتِ"


بكت هي بعد جملته تلك و نزلت دموعها، تزامنًا مع رفعها لذراعيها تُربت عليه بحركاتٍ رتيبة هادئة، فاغمض عينيه و هو يشعر بوخز الدموع بها، و الغصة في حلقه كما هي تحاوطه كما الأسلاك الشائكة، فحتى ازدراد لُعابه يؤلمه.


مررت كفها فوق خصلات شعره الكثيفة و هي تبكي على حالته، ظنًا منها أن مواجهته مع شقيقته تسببت له بألمًا و لم يأتِ بمخيلتها أن الأمور وصلت لذلك الحد، تنهد «وليد» بعمقٍ ثم التفت ينزل لشقته و لكن قبل ذلك دلف يأخذ البطانية الموضوعة بالسطح، ثم اقترب منهما بجثو على ركبتيه و وضع الغطاء على «حسن» ثم ربت على كتفه بألم و الدموع تلمع في مقلتيه، و قبل أن تهم «هدير» بالتحدث، اوقفها هو بإشارةٍ منه ثم تحرك من أمامها، فقررت هي التغاضى عن الحديث لوقتٍ أخر و كل ما يهمها فقط أنه معها و بجوارها حتى و إن كان ممزق الروح، إلا أنها سترممه حتى يعود كما كان.

__________________________


وقف وسط العُمال يُملي عليهم تعليماته و أوامر ضبط العمل، و ما جعله يشعر بالراحة هو انصياع العمال له و لحديثه، فقرر هو أن يتعامل معهم باللين و الهدوء و إن تطلب الأمر سوف يلجأ للحزم و الشدة.


وقف معهم في موقع العمل وسط صخب الأدوات المستخدمة في البناء و صوت العمال إبان حركتهم، و حتى يهرب من ذلك الضجيج قرر مشاركتهم و العمل معهم بأيديه مما جعل العمال يشعروا ببعض الراحة لمعاونته لهم، بعدما ظنوا أنه سيتعامل معهم بتكبرٍ و تعالٍ كمن سبقوه بهذا العمل.


اقترب منه «يوسف» يضع يده على كتفه و هو يقول بهدوء مستفسرًا:

"الله ينور يا هندسة، شكل إيدك حلوة، قولتلي أنتَ خريج إيه؟"


أبتسم له بسخريةٍ تزامنًا مع قوله:

"دا على أساس إني بديك حُقنة؟! اطمن يا سيدي، خريج كلية تمريض"


أبتسم له «يوسف» ثم تحدث بجديةٍ:

"لأ بجد من غير هزار، تسلم ايديك، باين عليك بتاع شغل، مش بتاع قعدة و دلع"


رد عليه مفسرًا:

"الشغل مفيهوش دلع يا يوسف، دي أمانة هتحاسب عليها قدام ربنا، و بعدين عاوز أخلص بقى علشان أمشي، لحد ما أشوف أخرتها"


حرك رأسه موافقًا ثم سأله بثباتٍ:

"تحب تكلم حبايبك ؟! و لا خلاص غيرت رأيك؟!"


سأله متلهفًا بسرعةٍ كبرى بعد حديثه ذاك:

"طبعًا أحب، بس إزاي مش مفيش شبكة هنا؟! و لا فيه صرفة؟!"


أبتسم له بمراوغةٍ ثم قال:

"تعالى معايا يا هندسة، بس عرف العمال إنك هتتأخر"


عقد ما بين حاجبيه و غلف الاستنكار ملامح وجهه و قبل أن يتفوه مُستفسرًا تحدث الأخر بنبرةٍ جامدة:

"هاخدك افسحك قبل ما تتكلم، ها هتيجي معايا و لا إيه؟!"


حرك رأسه موافقًا على مضضٍ فرفع «يوسف» صوته يقول موجهًا حديثه لرئيس العمال:

"عم عبدالعزيز !! تعالى لو سمحت، معلش عاوزك"


اقترب منهما الرجل بعدما كان يقف مُشرفًا على أداء العمال و هو يقول:

"نعم يا بشمهندس يوسف خير؟!"


الرفض ضده هو مرادف للحلوى:

"هنزل السوق أنا و البشمهندس ياسين نجيب حاجات للمطبخ، شوف الشيف عندكم كدا محتاج حاجة؟! نجيبها بالمرة ؟!"


رد عليه مُسرعًا:

"نزلت أنا و هو من يومين قبل ما البشمهندس ياسين ييجي، روحوا انتم ربنا يستر طريقكم، بس متتأخروش علينا"


حرك رأسه موافقًا ثم التفت يغمز له و هو يقول بمشاكسىةٍ:

"يلا يا هندسة، ورايا"


حرك «ياسين» رأسه ثم خلع القبعة الهندسية ذات اللون الأصفر "الخوذة" ثم تبع الأخر في سيره، حتى وصلا عند مكان عملاق البناية يجاوره البحر، عقد ما بين حاجبيه و هو يسأله بتعجبٍ:

"بحر ؟! هو أنتَ مكانك جنب البحر ؟!"


رد عليه بتهكمٍ:

"اومال هطلعلك البترول منين؟! من محل عصير قصب ؟!"


رد عليه باشتياق:

"متفكرنيش بنقطة ضعفي الله يرضى عليك، بلاش تجيب سيرته، فيها حبة حلوين لحد ما اشربه"


ابتسم له «يوسف» بيأسٍ و كأنه يسخر منه و من تفكيره عن ذلك المكان، و بعد مرور دقائق اقتربت منهما سيارة صغيرة الحجم، مخصصة للسير في الصحراء بين الجبال، حرك «ياسين» رأسه يستفسر بصمتٍ و الاستنكار يكسو نظرته و ملامحه المتسائلة، فتحدث الأخر بنبرةٍ جامدة:

"اركب أنتَ هتصورني بعينك؟! يلا يا غالي و لا هناخدها مشي يعني؟!"


حرك رأسه موافقًا و قرر الاستسلام للاخر ثم قفز في صندوق السيارة الذي يتم به وضع البضائع، قفز «يوسف» هو الأخر ثم جلس على حافة السيارة تزامنًا مع رفعه لذراعه يضرب سقف السيارة و هو يقول بنبرة صوتٍ عالية:

"يلا يا ريس، اتحرك خلينا نلحق قبل الزحمة"


تحركت السيارة فورًا، فتحدث «ياسين» مُستفسرًا:

"هو احنا رايحين فين ؟! كفاية غموض علشان أنا كدا هقلق منك، و أنتَ غامض من غير أي حاجة أساسًا"


أبتسم له بمراوغةٍ و هو يقول:

"هخليك تكلم النجوم، مش برضه الهندسة عاشق ؟!"


أبتسم «ياسين» بيأسٍ و هو يحرك رأسه فتحدث الأخر بعدما حمحم بخشونةٍ:

"هنروح شمال سينا نفسها، مش الحدود اللي احنا فيها دي"


سأله بتوجسٍ:

"هو احنا كدا مش في شمال سينا ؟! اومال فين كدا ؟!"


رد عليه مُفسرًا:

"لأ، احنا مش في شمال سينا، احنا على الحدود و قريبين من شمال سينا، شمال سينا دي مدينة عادية، لكن احنا وسط العرب"


عقد «ياسين» ما بين حاجبيه و هو يسأله بتلقائيةٍ:

"يعني احنا كدا هنروح وسط الخيم و الناس و الجمال ؟!"


ردد خلفه باستنكارٍ و بنبرةٍ عالية:

"إيـــه ؟! هنروح فين ؟!"


رد عليه ببلاهةٍ:

"وسط الخيم و الجمال و الناس اللي لابسة جلاليب و الستات اللي لابسين يشمك"


_"يشمك إيه يخربيت أهلك ؟؟ دا اتلغى من ثورة ١٩، اسكت يا ياسين، اسكت احسن"

رد عليه بوقاحةٍ و عفويةٍ و كأنهما صديقين منذ عدة أعوام، رفع «ياسين» حاجبه و هو يقول بنبرةٍ جامدة:

"بقولك إيه لم لسانك احسنلك، مش عاوز وقاحة، و بعدين هو أنا كنت جيت هنا قبل كدا ؟!"


رمقه الأخر بلامبالاةٍ ثم أخرج سيجارًا يشعله و بعدما سحب منها، أخرج الهواء من رئتيه في وجه «ياسين» قاصدًا إثارة استفزازه، و الأخر يرمقه بشررٍ حتى تبدلت معالم الطريق بُغتتةً و ظهرت المدينة من حوله كمثل المدن الطبيعية و ظن هو بأجوائها تلك أنه داخل المحافظات الساحلية المعروفة، ابتسم و هو يرى المحلات التجارية حوله و البضائع و السكان و وسطهم السائحون يبتاعون من المنتجات المعروضة، اتسعت بسمته تلقائيًا ، فتحدث «يوسف» بنبرةٍ هادئة و ابتسامة هادئة تشق وجهه:

"نورت شمال سينا يا ياسين"


توقفت السيارة عند مدخل أحد الاسواق التجارية الشهيرة فقفز «يوسف» أولًا و «ياسين» خلفه و عينيه تجول بالمكان يتفحصه، فلم يظن أن تلك المدينة قريبة من مكان عمله، و سرعان ما اهتز الهاتف في جيب بنطاله حينما اتصلت به التغطية، اخرج هاتفه فوجد مئات الرسائل من عائلته و أحبته بالكامل.


اقترب منه «يوسف» يضع يده على كتفه و هو يقول بهدوء:

"دلوقتي بقى هنروح نقعد على كافيه هنا تخلص مكالماتك و تشربلك حاجة تروق اعصابك لحد ما السواق و الشيف يخلصوا اللي هما عاوزينه"


حرك «ياسين» رأسه يطالعه و هو يسأله بتيهٍ و تشوشٍ على الرغم من الراحة الساكنة بوجهه:

"و لما هو فيه مكان زي دا هنا، احنا وسط الجبل بنعمل إيه ؟! و بعدين هي شمال سينا قالبة على شرم الشيخ كدا ليه؟"


رد عليه بسخريةٍ و هو يقول:

"ياسين، هل تعتقد أن شمال سيناء موجود في فيلم أسلحة؟! أجمل باقي المتصوفين هناك ؟! العيون "السوداء"


ضحك «ياسين» بيأسٍ ثم سأله من جديد:

"طب و لما هي حلوة كدا و زي اسكندرية و شرم الشيخ، ليه إحنا مرميين في الجبل و الطَل؟ ما يجيبونا هنا وسط اللمة الحلوة دي"


رد عليه ساخرًا منه:

"حاضر المرة الجاية هنطلعلك بترول من تحت سلم العمارة هنا، و أنتَ بقى تعالى تمم على عمر العماير هنا، دا أنتَ دماغك عالية"


تحركا سويًا وسط السوق التجاري المنظم الذي أشبه بالمولات التجارية المفتوحة حتى وصلا لإحدى المقاهي الحديثة و جلس بها كليهما، حينها أشار «يوسف» بعينيه و هو يقول بهدوء:

"كلمة السر بتاعة الراوتر متعلقة على الحيطة، شغل النت و عيش مع نفسك لحد ما السواق يكلمني"


رد عليه بتلقائيةٍ:

"معايا باقة مش محتاج نت"


_"مش وقت نزاهة يا غالي، افتح نت و أخلص متتعبناش بقى"


تفوه بها بضجرٍ ثم أخرج هاتفه يتفصحه، بينما «ياسين» أمسك هاتفه و قام بعمل مكالمة جماعية بينع و بين والديه، وصله الرد من كليهما بفرحةٍ كبرى، و صوت والدته تقول بلهفةٍ باكية:

"ياسين !! طمني عليك يا حبيبي، اخبارك إيه و تليفونك مقفول ليه؟! أنتَ كويس طيب؟!"


تدخل «رياض» يقول بضجرٍ:

"اديله فرصة يرد يا ست أنتِ، هتكلم امتى ؟! اسكتي"


قبل أن تهم بالرد عليه قد سبقها «ياسين» و هو يقول بنبرةٍ ضاحكة يحاول بها اخفاء تأثره:

"عندي أنا دي يا زوزو، سامحيه، المهم طمنوني عليكم، كويسين؟!"


ردت عليه والدته بنبرةٍ باكية:

"كويسين علشان سمعنا صوتك يا حبيبي ، إحنا ملناش غيرك علشان نرتاح بوجوده، أنتَ كويس صح ؟!"


سألته بتوسلٍ من عاطفة الأمومة التي تكنها و تملكها له أن يطمئن قلبها و يثلج نيران قلقها، فرد عليها هو مؤكدًا حديثها أنه على ما يرام و أنه مُطمئن البال في رعاية الله و حفظه، فتحدث والده يقول بثباتٍ زائفٍ:

"جدع ياض هي دي تربيتي، عاوزك تخلي بالك من نفسك و تراعي ربنا في شغلك يا ياسين، و تخلص و ترجعلي بألف سلامة"


رد عليه بتأثرٍ و بصوتٍ مختنقٍ:

"حاضر يا بابا، ربنا يخليك ليا و يطولي في عمرك، طمني على الأمانة، كويسة ؟!"


رد عليه والده بهدوء:

"متقلقش عليها، الأمانة بتاعتك زي الفل و بـ ١٠٠ راجل، بعدين دي عايشة مع رياض الشيخ، عاوزها تبقى مش كويسة ازاي ؟!"


شاكسه بكلماته فتدخلت «زهرة» تقول بسخريةٍ:

"آه أوي، حتى مقولكش بيهون علينا إزاي و قد إيه بينشر البهجة في المكان، منه لله منكد علينا بأغانية"


ضحك «ياسين» عليهما، فتحدث والده بتهكمٍ:

"نعم ياختي ؟؟ دي غلطتي يعني أني بهون عليكم بعدما صعبتوا عليا ؟! طب وريني هترجعي إزاي بقى من شغلك و مين هياخدك في طريقه"


شهقت هي بقوةٍ فتحدث «ياسين» يسأل بتعجبٍ:

"احنا بقينا العصر يا ماما و أنتِ لسه مروحتيش ؟! ليه كدا؟!"


ردت عليه هي بسخريةٍ:

"عندي تصحيح يا حبيب أمك، الامتحانات بتاعة نص السنة شغالة"


رد عليها بتذكر:

"آه صح افتكرت، حقك عليا، المهم أنا هقفل علشان أكلم خديجة، هي لوحدها كدا صح؟"


رد عليه والده يشاكسه:

"آه يا صايع لوحدها، اتطمن يا اخويا، بس ممكن أفضل معاك في المكالمة يمكن تحتاجني في استشارة غنائية و لا حاجة"


أبتسم «ياسين» بيأسٍ فتحدثت والدته بتفهمٍ:

"اقفل يا حبيبي، و كلم مراتك هي قلقانة عليك برضه، يلا يا واد"


تنهد هو بعمقٍ ثم أغلق الهاتف بعدما ودعهما و هو يبتسم و قبل أن يودعهما أوصاهما على بعضهما و على زوجته، قبل أن يبدأ بمهاتفة زوجته بحماسٍ صدح صوت هاتفه بمكالمةٍ جماعية من أخوته يقوم بها «عامر»، ابتسم باتساعٍ ثم ضغط على زر الإيجاب، فوصله صوت «عامر» يقول بعدة مشاعر يطغو عليها الفرحة و الحماس بقوله:

"ياسين؟! الحمد لله تليفونك اتفتح، طمني عليك أنتَ كويس يا حبيبي؟!"


رد عليه بنفس التأثر السابق و هو يحاول جاهدًا التحلي بالثبات:

"أنا كويس يا عامر الحمد لله، أنتَ إيه أخبارك طمني، وحشتوني و الله"


تدخل «خالد» يقول بمرحٍ:

"يا عم كلنا بخير بس ناقصنا وجودك بس، أنا بقول ترجع علشان يونس هيخطف منك مراتك و شكلك هترجع تضربه"


رد عليه «ياسين» بمرحٍ يعانده:

"ملكش دعوة أنتَ يا حلو، أطلع منها يا خالد، هتوقع بيني و بين صاحبي؟! دا بعينك"


تدخل «ياسر» يقول بضجرٍ زائفٍ من الصغير:

"ارجع بس ياض و احنا نمسك يونس و أبو يونس و نموتهم، بس الوضع بقى خطر و يونس طلب يبات عند رياض، الحق ارجع بقى و شوفلك صرفة"


رد عليه «ياسين» يتوعد له بطريقةٍ زائفة:

"لأ أنا بقول أرجع قبل ما يونس يستغل عدم وجودي، لم ابنك يا خالد بدل ما أجي ألمهولك أنا"


تحدث «عامر» يشاكسه بقوله:

"و حياة أهلك ؟! دلوقتي بقى هتيجي تربيه؟! ما كان حبيبك من شوية؟! يا عم دا لو هيخليك تيجي، أحب اقولك انه اتقدم ليها امبارح و طلب ايدها من رياض"


ضحكوا جميعهم في آنٍ واحد، فتحدث «ياسين» باشتياقٍ:

"الحمد لله أنكم بخير، وحشتوني اوي من أول يومين، ربنا يهون عليا الباقي من غيركم"


تدخل «ياسر» يقول بنبرةٍ هادئة:

"و أنتَ وحشتنا أوي برضه، بس متتأخرش بقى و أنجز يا عم، المهم بس إنك تتقل علشان البرد"


رد عليه بعاطفةٍ أخوية:

"حاضر، متقلقش يا حبيبي أنا بخير، المهم ميمي و عمار اخبارهم إيه ؟! طمنوني عليهم كلهم"


رد عليه «عامر» برزانةٍ:

"كلهم بخير و كويسين، الحمد لله إنك طمنتنا عليك دي أهم حاجة، ميمي دلوقتي نايمة، بس أنا هكلمها لما تصحى و هبلغ سلامك لعمار حاضر"


اكمل المكالمة و هو يوصيهم على بعضهم و هم بدورهم يقومون بتوصيته أن يهتم بنفسه حتى يجمع الله بهم من جديد، اغلق معهم المكالمة، ثم قام بمهاتفتها و هو يشعر بارتفاع ضربات قلبه و كأنه مراهقًا يطلب رقم حبيبته خِلسةٍ من خلف والديه، ازدرد لُعابه بخوفٍ فلم يصله منها ردًا، شعر بالاحباط خوفًا أن تكون نائمة و تضيع عليه تلك الفرصة الذهبية في أن يستمع لصوتها، حاول للمرة الثانية حتى أوشكت المكالمة على الانتهاء، زفر هو باحباطٍ حتى وصله صوتها المتلهف الباكي:

"ياسين ؟؟ عامل إيه يا حبيبي ؟! وحشتني أوي أوي، معلش كنت بصلي العصر علشان ميفوتنيش"


أبتسم هو بتأثرٍ و هو يقول بنبرة صوتٍ رخيمة تخالف تلك التي هاتف بها أخوته و والديه:

"حبيبك ؟! أول مرة اسمعها منك يا خديجة"


سألته هي بترقبٍ:

"طب....طب إيه رأيك فيها؟!"


رد عليها بحبٍ:

"كل حاجة منك حلوة يا خديجة، حتى لو فيه حاجة وحشة، معاكي تبقى أحلى من كل حاجة"


نزلت دموعها و هي تقول بصوتٍ مختنقٍ:

"أنتَ وحشتني أوي، أوي يا ياسين، وحشني كلامك و صوتك، و حتى حنيتك عليا، هتيجي امتى ؟"


أبتسم بسخريةٍ و هو يقول:

"دول لسه يومين يا خديجة، يومين من أصل ٦٠ يوم، بس ربنا يهون و يجمعنا بخير"


ردت عليه بنفس الصوت الباكي:

"متفكرنيش بقى يا ياسين، احنا نعمل نفسنا مش واخدين بالنا و نتعامل أنهم اسبوع كدا و لا حاجة، ينفع ؟!"


ابتسم هو بغلبٍ و هو يقول:

"أنتِ طيبة أوي يا خديجة، ياريت كل حاجة تمشي بالبساطة دي، بس علشانك إحنا نخليهم اسبوع بس، المهم أنتِ وحشتيني اوي"


ابتسمت هي بهدوء و الدموع تسيل على وجنتيها، فاضاف هو بهدوء:

"وحشتيني و وحشني كلامك و طيبتك، حاسس أني أب سايب بنته، مش راجل سايب مراته، وحشني أوي اسمع منك مهلبية"


أبتسمت هي من بين دموعها ثم قالت بصوتٍ مختنقٍ متحشرجٍ:

"تعالى بس يا ياسين، و أنا مش هبطل أقولك يا مهلبية، خلي بالك من نفسك، و متغيبش علينا في الاتصالات، طمني حتى لو بمكالمة زي دي، متسيبنيش لخوفي عليك، مش عاوزة خوفي يرجعلي فيك أنتَ"


لمعت العبرات في عينيه اللاتي دارتا في المكان حتى لا تنزل دموعه، فلم يتوقع أن مكالمتها و توسلها له يكون بتلك الصعوبة، فتحدث هو بصوتٍ رخيمٍ يشوبه مرحٍ طفيفٍ:

"الدنيا دي غريبة أوي و محدش عمره هيفهم أو يتوقع منها حاجة، فاكرة أول مرة خدت فيها رقم تليفونك علشان أكلمك؟ ساعتها كنتي خايفة تكلميني و صوتك كان متوتر، و جيت أنا قولتلك جملة خليتك سكتي و معرفتيش تتكلمي، فكراها؟!"


ابتسمت حينما لاح أمام ناظريها تلك الذكرى عند أول مكالمة هاتفية تجمعهما سويًا، فتحدثت هي بحالة شجن:


"قَلّبيِّ يَسألُكَ مَتىٰ يَحِيِّنَ مَوعِدَّ اللُقا يَا مَن بِرُؤياكَ يَغدو وَجهي نَيْرًا مُشرقًا؟!"


أبتسم هو باتساعٍ و ظهر اثر تلك البسمة في صوته و هو يقول:

"و قلبي بيقولك قريب إن شاء الله، بس مش عاوزك تزعلي مني علشان عيد ميلادك يا خديجة، كنت فاكر نفسي هعرف أحضره معاكي بس طلع صعب أوي، ممكن متزعليش مني و تفرحي اليوم دا؟؟ ينفع؟"


مسحت دموعها ثم تحدثت تتصنع الثبات في كلماتها:

"تعالى بس علشان نحتفل بيه سوا و مش هسيبك على فكرة، لما تيجي هخليك تعوضني، و عاوزاك تعترض بقى"


رد عليها هو بعدما تنفس بعمقٍ ثم عادت البسمة له من جديد:

"من غير ما تقولي يا ست الكل، هجيلك و هعوضك، و يبقى عيد ميلاد لينا إحنا الاتنين، روحي يلا شوفي وراكي إيه، و أنا هشوف لو هجيب حاجة من هنا، و هفتح نت شوية قبل ما أرجع و الشبكة تقطع"


ردت عليه هي بهدوء:

"حاضر، هروح اقرأ الأذكار و أشوف لو ورايا حاجة اعملها قبل ما....."


توقفت عن الحديث حينما تذكرت ذلك الأمر، فتحدثت بلهفةٍ:

ياسين أوي لماذا ذكرت عمك وإخوتك؟!


لمعت العبرات في عينيه و هو يقول بصوتٍ مختنقٍ:

"عرفتي بقى إن أنتِ مفيش منك اتنين؟! متقلقيش كلمتهم قبلك علشان أعرف أكلمك براحتي، و عامر أول ما وصلته رسالة أني فتحت تليفوني قام بالواجب و عمل مكالمة جماعية"


تنهدت هي براحةٍ و هي تقول بمزاحٍ:

"طب الحمد لله، شاطر يا مهلبية، تاخد عشرة من عشرة و بوسة"


سألها بخبثٍ:

"دا إحنا بقينا في حتة تانية بجد، فين أيام النجوم و الاستيكر على الراس و جو حصص الألعاب؟!"


ابتسمت بخجلٍ و هي تقول بنبرةٍ خافتة:

"البركة فيك، ما أنتَ الخير و البركة يا ياسين برضه"


أبتسم بيأسٍ عند قولها تلك الجملة، فتنهدت هي بعمقٍ ثم تحدثت بهدوء:

"خلي بالك من نفسك علشان خاطري، و ارجع بسرعة بلاش تطول في الغيبة، على رأي عمو رياض فراج الحبايب مُر يوجعني"


قالتها بسخريةٍ فاتسعتا حدقيته و هو يقول بدهشةٍ:

"أبويا بيقولك و أنا مش موجود فراق الحبايب مر يوجعني؟! يا واقعة سودا ؟!"


ردت عليه هي بنفس السخرية:

"هي دي حاجة يا راجل ؟! اومال لو سمعت التانية بقى ؟؟"


سألها بتوجسٍ من القادم:

"و هي إيه التانية بقى إن شاء الله ؟! اشجيني يا كتكوتة"


ردت عليه بثباتٍ واهٍ و هي تحاول كتم ضحكتها:

"أنا لو حبيبك مكنتش في يوم تسيبني، أنا لو نصيبك مكنتش في يوم تبيعني، كان بيهون علينا"


رد عليها هو بضجرٍ زائفٍ مصحوبًا بالدهشة المُتعجبة:

"أبويا بيقولكم في غيابي غياب الحبايب مُر يوجعني، و أنا لو حبيبك مكنتش يوم تسيبني؟! ليه بيجلدكم كدا؟؟ على كدا في رجوعي هلاقيكم قاطعين شرايينكم؟؟ هي دي الأمانة؟"


ضحكت هي على رد فعله، فتنهد هو بقلة حيلة ثم تحدث متعجلًا لها:

"اقفلي يا بنتي، اقفلي الله يرضى عنك و روحي صلي ركعتين شكر لله أنكم لسه منتحرتوش، ادعيلي معاكي"


أغلقت معه الهاتف بعدما ردت عليه و طمأنته، فتنهد هو براحةٍ ثم أغلق المكالمة و وضع الهاتف على الطاولة المستديرة أمامه ثم شرد البال فيها و في طريقة حديثها و اثراء الآخرين على نفسها حتى مكالمة الهاتف لوالديه لم تنساها، وصله صوت الأخر يخرجه من شروده و هو يقول بخبثٍ:


"دا أنتَ طلعت عاشق بجد بقى، كنت فاكرك بتشتغلني، أنا لو منك و بحب حد كدا مكنتش جيت أصلًا"


أبتسم له «ياسين» بحزنٍ و هو يقول بقلة حيلة:

"إيه اللي رماك على المُر؟؟ مرة واحدة مستقبلي اتهدد و حياتي كلها، يا أجي هنا و أشوف الشغل، يا برة الشركة و شوفلك مكان تاني يقبلك، لو عليا مغيبش يوم عن اللي مني يا يوسف"


أبتسم له بتهكمٍ و هو يقول:

"سبحان الله، أنا بقى لو عليا مش عاوز أشوف اللي مني، عاوز أفضل هنا علطول علشان أهرب"


نظر له «ياسين» بامعانٍ، فتحدث هو مُغيرًا مجرى الحديث:

"تعالى بقى معايا علشان افسحك قبل ما السواق يخلص و يكلمني، أنا طلبت قهوة و شربتها، تطلب حاجة ؟!"


حرك رأسه نفيًا ثم وقف حتى يخرج من المكان، بينما الأخر سبقه و هو يمشي وسط المحال التجارية و كلما رآى فتاةٍ ابتسم باتساعٍ، و كأن المحافظة بأكملها تتسم بجمال فتياتها، وصل حتى توقف أمام محل عصير القصب فوقف «ياسين» خلفه و هو يقول بذهولٍ:

"عصير قصب ؟؟ الله عليك يا جدع، تصدق دلوقتي بس أنا حبيتك؟!"


ابتسم له «يوسف» ثم التفت له و هو يقول بسخريةٍ:

"على تفكيرك و طريقتك عن المحافظة دي، دا بالنسبة ليك محل بترول، صحيح مفيش عيون حلوة كدا شغلتك؟!"


رد عليه بتقريرٍ ممتزجٍ بالهيام:

"ريح نفسك يا نجم، هي عيون واحدة اللي شغلتني و مفيش غيرها، عملت في قلبي مصايب"


أبتسم له بثقةٍ ثم طلب كوبين عصير من الرجل، وقفا يرتشفا العصير سويًا، فشعر «ياسين» بالتلذذ من المذاق، و حينها تحدث مقترحًا:

"هو أنا لو عاوز أعيش هنا في المكان دا أعمل إيه؟؟"


رد عليه الأخر بسخريةٍ:

"و تسيب القصر الملكي اللي هناك لمين بس؟! حد يسيب كرافان في حضن الجبل و يجي هنا؟!"


تشدق «ياسين» بنذقٍ:

"أنتَ ليه محسسني أنه أوضة على البحر بمنافعها؟! و بعدين المحافظة طلعت حلوة و زي الفل أهيه"


رد عليه «يوسف» مفسرًا:

"إحنا المجانين اللي بنعمر الصحرا يا ياسين، و الناس اللي هنا كلهم عارفين إن الحتة اللي عند الجبل دي للبترول و العمال، و العرب بتوع البدو، و كلهم غلابة متهجرين من أراضيهم، و خلي بالك علشان عاداتهم و تقاليدهم صعبة أوي"


حرك كتفيه ببساطةٍ و هو يقول بلامبالاةٍ:

"و هو أنا مالي و مالهم؟؟ هشوفهم فين يعني؟! مش هما بعيد عن شغلنا ؟!"


حرك رأسه موافقًا فرد عليه «ياسين» ببساطةٍ:

"طب هتوترنا ليه بقى؟! المهم لو أنا عاوز أعيش هنا أعمل إيه ؟!"


زفر بقوةٍ ثم قال:

"إنك تأجر شقة هنا و تقعد فيها، بس ليه التعب يعني؟! هتضيع فلوسك في ايجار و مواصلات ؟؟ ملهاش لازمة اسمع مني، خليك عند شغلك أحسن"


حرك رأسه موافقًا على مضضٍ فقام «يوسف» بوضع الأكواب ثم دفع المال للرجل، سأله «ياسين» بنبرةٍ هادئة:

"هو أنتَ طالما عارف الدنيا هنا و الحياة عاملة إزاي ليه مقولتليش من الأول؟؟ و ليه خلتني أخاف من هنا"


رد عليه بايجازٍ:

"أنا مخوفتكش، أنتَ اللي جاي خايف أصلًا، بس على العموم متقلقش، الدنيا زي ما أنتَ شايف كدا، عاملة زي اسكندرية"


حرك رأسه موافقًا ثم باغته بسؤاله:

"هو أنتَ ليه مكلمتش حد من أهلك أنتَ كمان؟! دا الواحد ما صدق يلاقي شبكة"


رد عليه بلامبالاةٍ:

"العادي يعني الاختلاف، يجب أن أكون على شبكتهم"


استشف «ياسين» من طريقته و حواره أنه لا يريد التطرق للتفاصيل الخاصة بحياته، فغير مجرى الحديث بقوله:

"بس حلوة شمال سينا يا يوسف"


غمز له بمراوغةٍ تزامنًا مع قوله:

"شمال سينا و عيون شمال سينا كمان"


أبتسم «ياسين» بيأسٍ و هو يحرك رأسه نفيًا بالسلب، فوضع «يوسف» ذراعه على كتفه و هو يقول بلهجة صوتٍ ثابتة:

"تعالى بقى أعرفك المحلات هنا علشان لو اتزنقت تعرف تتعامل من غيري، يلا يا هندسة"


سار معه و هو يبتسم و داخله يشعر بالطمأنينة تجاه هذا الشخص الغامض كما يلقبه هو، فلوهلةٍ شعر أنه مثل الصديق الذي جمعه الله به حتى يستأنس به في تلك الغُربة، و لم يكن مجرد غريبًا وطأت قدماه وسط أرضٍ لم ينتمي لها يومًا ما.

__________________________


استيقظ «حسن» من نومه في شقته بعدما وجد الغرفة فارغة من دونها، فخرج يبحث عنها من الغرفة حتى تفاجأ بها تركض في مكانٍ يشبه الصحراء في فراغها و هو يركض خلفها و يذكر اسمها بلوعةٍ و حينما التفتت حتى تركض نحوه و هي تبكي تفاجأت بيد أحدهم تسحبه من امامها و هي تريده أن يمد لها يده، و حينما ركض هو نحوها مرةً أخرى تفاجأ بها هي تلك المرة تترك يده و تفر بعيدًا، ظل يذكر اسمها بخوفٍ و العرق يتصبب على جبينه و هو يلهث بقوةٍ راكضًا خلفها و ضربات قلبه تتصارع حتى أوشكت على الخروج من موضعها، امتزج صوتها المتلهف عليه مع صوت ركضه و هو يذكر اسمها باكيًا حتى استيقظ مرةً واحدة و هو فقط يقول بصوتٍ عالٍ:

"هـــــديــر ؟!"


سألته هي بصوتٍ مختنقٍ:

"نعم يا حسن، نعم؟؟ أنا معاك اهوه و جنبك، فيك إيه بس؟؟"


تنهد هو بعمقٍ و لازال صدره يعلو و يهبط من فرط المجهود اللذي قام به في كابوسه، و حينما تأكد من وجودها أمامه خطفها في عناقٍ قويٍ حيث أطبق بجسده على جسدها و تشبث بها فبكت بوجعٍ و هي تسأله بحزنٍ لأجله:


"مالك يا حسن ؟؟ أنا معاك أهوه و الله و أنتَ كنت نايم و راسك على حجري، مالك بس واجع قلبي عليك ليه ؟؟"


ابتعد عنها يسمح دموعها ثم تحدث بنبرةٍ متحشرجة:

"أنا تعبت....تعبت و جيبت أخري و خلاص يا هدير، بقيت يتيم بجد، أخر حاجة كنت حاطط أملي فيها سابتني، هدير بلاش أنتِ تسيبيني، حتى لو زعلانة مني بس بلاش تغيبي أنتِ كمان عني، هدير علشان خاطري متمشيش، أنا مليش غيرك"


بكت و هي ترد عليه:

"مش همشي و الله العظيم مش همشي و هفضل معاك، بس أنتَ ليه عمال تعيط و توجع نفسك و توجعني كد؟! أنا مش عاوزة أشوفك كدا يا حسن"


رفع عينيه الباكيتين و هو يقول بنبرةٍ حزينة منكسرة:

"و أنا مش عاوز أشوفني كدا يا هدير، لو بأيدي همسح كل حاجة في حياتي و أمحيني أنا نفسي من الوجع اللي عيشته، مبقاش عندي أمل في أي حاجة في الدنيا، خلاص تعبت و فاض بيا"


اقتربت منه تحاوط وجهه بكفيها و هي تقول باكيةً:

"حتى لو تعبت أنا معاك أهو مش هسيبك، اتعب و ارمي حملك عليا و نقسم الحِمل سوا احنا الاتنين، بس بلاش تشيله لوحدك"


سألها هو بنفس الانكسار البادي على صوته و نبرته و نظرته:

"هدير أنتِ مش هتطلقي صح؟! أنا مش هقدر أعمل كدا و الله، لو زعلانة خليكي معايا و أنا هصالحك و الله، بس بلاش أنتِ كمان تكسريني مع الدنيا، دي أخر مرة هقولك فيها أني عاوزك"


مسحت دموعها ثم ردت عليه بثباتٍ:

"أنا مش عاوزة أكسرك، أنا بس بحافظ عليك من الوجع، لو عاوزة أوجعك كنت عملت كدا من بدري، بس أنا بحبك يا حسن و خايفة عليك من الكسرة، مش عاوزاك تخسر حد علشاني، و خايفة ييجي يوم تلاقي نفسك فيه ندمان إنك ضيعت عُمرك معايا"


حرك رأسه نفيًا ثم تحدث بنبرةٍ متحشرجة مختنقة:

"مستحيل يا هدير، دا أنتِ المكسب الوحيد ليا في الدنيا دي، أنتِ الحاجة الوحيدة اللي بتمنى أنها تفضل و مش عاوز غيرها، أنتِ لو سيبتيني كدا هبقى اتكسرت بجد"


ابتسمت له بخفةٍ و هي تقول:

"بعد الشر عليك من الكَسرة، بس أنا مش هسيبك خلاص، معاك و رزقي على الله يا حسن"


ابتسم لها و العبرات تلمع في عينيه ثم رفع كفه يربت على رأسها، فتحدثت هي بنبرةٍ هادئة:

"هو أنا قعدتي معاك معلمتكش أي حاجة؟! لازم تتعبني؟!"


عقد ما بين حاجبيه فتحدثت هي بضجرٍ:

"ما تحضني يا حسن متبقاش رخم، إيه دا يا ربي ؟!"


ابتسم هو باتساعٍ ثم خطفها بين ذراعيه وهو يقول بفرحةٍ كبرى:

"و أحلى حضن في الدنيا كلها هو حضنك يا هدير، حضنك اللي كان بيلحقني من الدنيا، حضنك اللي الدنيا احلوتلي بيه، يا رب تفضلي معايا علطول و متسيبيش حضني يا رب"


ابتسمت هي بفرحةٍ ثم رفعت ذراعيها تحتضنه هي الأخرى و هي تقول بنبرةٍ هادئة:

"و تفضل معايا أنتَ كمان و متسبنيش و تزهق مني، أول مرة حد يتمسك بيا كدا في الدنيا"


حرك كفه يمسد على ظهرها و هو يقول بعشقٍ خالص:


"و أنتِ ليا كل الدنيا"


ابتعدت عنه تقول بمزاحٍ حتى تشاكسه:

"أنا بقول كل اسبوع نتخانق خناقة زي دي و نبعد عن بعض كدا علشان النتايج حلوة أوي زي ما أنا شايفة كدا"


ضربها على وجهها بخفةٍ و هو يقول بضجرٍ زائفٍ:

"اخرسي يا بومة، عاوزاني أعيش اللي أنا عيشته دا تاني؟! حرام عليكي دا أنا عرفت يعني إيه ميت و هو على وش الدنيا"


أغمضت جفنيها و هي تسأله بنبرةٍ غامضة:

"لما الدنيا تديك ضهرها تعمل إيه يا حسن؟!"


غمز لها و هو يقول بثباتٍ:

"ادي ضهرك للدنيا"


ابتسمت له و هي تقول:

"القاعدة التانية إيه بقى ؟؟"


بنفس الطريقة قال:

"ودع الأحزات يا ذوق"


تحدثت تسأله بنبرةٍ ضاحكة على هيئته و هو يحدثها بتلك الطريقة:

"القاعدة التالتة يا حسن؟!"


رد عليها هو مُردفًا:

"لما الدنيا تكشرلك عارف تعمل إيه؟! عوم و اتمختر....عوم و اتمختر"


قبلته على وجنته و هي تقول بفخرٍ و كأنه صغيرها:

"شاطر يا أبو علي، برافو عليك، نجحت يابني في الامتحان"


حرك رأسه نفيًا ثم تحدث بنبرةٍ هادئة:

"لسه فيه أهم جملة مقولتهاش يا هدير، دي عندي بكل جُمل الفيلم"


عقدت ما بين حاجبيها فتحدث هو مُفسرًا بصوتٍ رخيمٍ:

"استني... متمشيش، أنا لما ببصلك بحس بأمان، بحس أني مطمن، أرجوكي مش عاوز الشعور دا يضيع مني، متمشيش"


ابتسمت له ثم ارتمت بين ذراعيه وهي تقول بفرحةٍ كبرى:

"طب و الله ما همشي و مبروك عليك لزقت فيك يا حسن، وريني هتخرجني من حياتك ازاي؟!"


شدد عناقه لها و هو يبتسم براحةٍ تخللت قسمات وجهه بعدما تأكد من حسن اختياره و أن وجودها هو الصواب.


في الأسفل انهى «وليد» مكالمته الهاتفية بعدما عاد من الأسفل، اقتربت منه «عبلة» تجلس بجواره و هي تسأله بتعجبٍ:

"أنتَ نزلت روحت فين و جيت تاني؟! هو أنا متجوزة أبو الفُطيط؟! ما تقعد في حتة يابني أنتَ"


سحبها هو من يدها حتى التصقت به فتحدث هو بخبثٍ:

"ما تقعدي جنبي كدا و تحلقي عليا أحسن ما أطير منك؟! أنا اللي زيي ملوش أمان"


أبتسمت له باستفزازٍ و هي تقول:

"دا بعينك يا سكر، ممكن أكتفك و أخليك ليك أمان كويس أوي، تحب تشوف؟؟"


ابتسم لها بمراوغةٍ و هو يقول:

"لأ، أحب اتحضن، احضنيني كدا و احتويني يا سوبيا، سايباني زي العيل اللي تايه في المولد"


ابتسمت هي بيأسٍ و هي تأخذه بين ذراعيها و تقول بنبرةٍ يائسة:

"تعالى يا حبيبي، تعالى متجوزة عيل صغير أنا، اتنيل"


رفع حاجبيه أثناء نومه على فخذها، و فجأة طرق باب شقتهم، تحدث هو بتهكمٍ:

"الخبطة الرخمة دي بتاعة ابوكي، أنا عارفها، جاي علشان ينكد عليا"


ضربته على ظهره و هي تقول بضجرٍ منه:

"اتلم يا حيوان أنتَ، إيه قلة الأدب دي و السفالة؟! قوم افتح الباب و أنا هحضر الغدا علشان هدير و حسن"


تحركا كليهما من على الأريكة فتوجهت نحو الداخل و هو اقترب من الباب يفتحه، فوجد «هدى» و «جميلة» مع بعضهما و على ذراع الأولى«يونس» ابتسم باصفرارٍ و هو يقول:

"يا هلا يا هلا، الأختين الحلوين هناء و شيرين ؟! خير يا وش الخير منك ليها؟! جايين في وقت مش مناسب ليه ؟!"


ردت عليه «جميلة» بضجرٍ منه:

"أنتَ مالك يا بارد، جايين علشان هدير و نطمن عليها و نقعد مع عبلة"


أبتسم بخبثٍ و هو يقول بوقاحته المعتادة:

"هدير في حضن حسن فوق السطح، بس عيني علشان خاطر الحضن اللي بوظتوه عليا دا، أنا هطلع أكسر السطح على دماغ حسن و هدير سوا"


اتسعتا حدقتي «هدى» بدهشةٍ إثر حديثه، بينما «جميلة» تشدقت بنذقٍ:

"ما شاء الله على لسانك و أخلاقك، مثال في الشرف و التربية"


تحدث هو بفخرٍ:

"طبعًا حد ينكر، دا أنا أخلاقي دي هي اللي محببة الناس فيا و محدش يقدر ينكرها"


 لوت «هدى» فمها بتهكمٍ فأخذ هو منها «فارس» و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"المهم ادخلوا اقعدوا مع عبلة و أنا هاخد فارس و أطلع انزلكم هدير علشان عاوز حسن في كلمتين"


اومأت له كلتاهما فتحرك هو بالصغير على ذراعه نحو الأعلى، حتى وقف على أعتاب السطح، حينها ابتسم و قد وجدهما بين ذراعي بعضهما و كلًا منهما آمنًا في حضرة الأخر، حمحم بخشونةٍ حتى ابتعدا عن بعضهما، فدلف و هو يتحدث بتهكمٍ:

"أنا مش من طبعي هدم اللذات لا سمح الله، بس أنا معايا فارس و دا عيل صغير و عيب نخدش حيائه و هو طفل بريء"


وقفت «هدير» بخجلٍ ثم اخفضت رأسها حتى لا تتواجه مع نظراته، و قبل أن تهم بالتحرك أوقفها قائلًا بسخريةٍ:

"استني يا شيخة هدير، خدي المُصحف معاكي و أنتِ نازلة"


عادت تمسك المصحف و وجنتيها حمراوتين من كثرة خجلها، بينما «حسن» ظل معلقًا بصره بها و هي تتحرك أمامه حتى اختفى أثرها تمامًا.


اقترب منه «وليد» يقف نصب عينيه و هو يقول بهدوء:

"اقعد يا حسن علشان عاوزك في كلمتين، اقعد بس"


جلس «حسن» على المقعد تلك المرة و «وليد» مقابلًا له حتى أخرج من ثيابه أوراقًا و هو يقول:

"خد بصة كدا على الأوراق دي"


مد يده الحرة بالأوراق له و باليد الأخرى يحمل «يونس» على ذراعه، أخذ «حسن» منه الاوراق دون أن يظهر أي ردة فعلٍ حتى اتسعتا حدقتيه فورًا حينما وقع بصره على ما هو مكتوب، و إبان ذلك كان «وليد» يداعب الصغير متجاهلًا الأخر الذي يجلس بجواره، فتحدث «حسن» بذهولٍ:

"إيه دا يا وليد ؟! إيه اللي أنا بشوفه دا ؟!"


رد عليه ببساطةٍ و لازالت رأسه كما هي موجهة نحو الصغير:

"دا حق اختي و جريها في الشارع بليل و حق شرفها اللي أختك غلطت فيه، متفتكرش إن هدير هترجعلك بعد اهانتها دي يا حسن، أمضي بايدك الحلوة دي و أنا هخلي هدير تمضي"

ازدرد لُعابه بألمٍ ثم أخفض رأسه يقرأ الكلمة التي تتوسط الورقة أمامه و الأخر يراقبه بامعانٍ.

__________________________


في بيت آلـ «الرشيد» اجتمعت العائلة بأكملها مجتمعة فوق سطح البيت في جلسةً هادئة حيث قام «أحمد» باشعال النيران و التفوا حولها جميعًا يأخذون منها دفئها، تحدثت حينها «خلود» بمرحٍ:

"بس حلو حوار النار دي، عقبال ما تعملوها لينا يوم حفلة الشوي، اعملوا حسابكم أخر يوم امتحاناتي هنشوي فوق السطح قبل ما أروح عند وليد"


ردت عليها والدتها بضجرٍ:

"يا بت بطلي رخامة بقى، تروحي عند وليد فين؟! دا عريس جديد و عاوز يشم نفسه شوية"


ردت عليها بمعاندةٍ:

"هو قالي خلصي امتحاناتك و تعالي قضي الأجازة عندي و بصراحة أنا ما صدقت، و هروح"


تدخل «أحمد» يقول بضجرٍ:

"روحي يا بت مش عاوزين قرف، خلينا نرتاح منك شوية بقى"


إخرجت له لسانها و هي تسخر منه، فتحدث «محمد» بيأسٍ منهما:

"ما بس بقى منك ليها، دا انتم عيال رخمة، روحوا انتو الاتنين عند وليد خلوا الرخمين كلهم في مكان واحد، يا ستار يا رب منكم"


ضحك عليه الجالسون بينما «مرتضى» تدخل يقول بخبثٍ:

"طبعًا أحمد هيحط لسانه في بوقه و مش هنسمع منه كلمة واحدة، هيسجدك يا محمد"


ضحكوا عليه مرةً أخرى فتحدث «أحمد» بقلة حيلة:

"هعمل إيه يعني؟! اديني مستني لحد ما ربنا يكرمني و يفرجها عليا و أقدر أوصل للي أنا عاوزه، دعواتكم يا جماعة، ليها و لكل دفعة الثانوية العامة"


رفعوا أيديهم يدعون لها، فصدح حينها صوت هاتف «مشيرة»، وقفت و هي تقول بتوترٍ:

"طب عن اذنكم بقى، هنزل علشان عاوزة اشتري حاجات مهمة، حد عاوز مني حاجة؟!"


سألها «طه» باهتمامٍ:

"حسان فين؟! هيروح معاكي يا مشيرة؟!"


ردت عليه هي بنبرةٍ هادئة:

"لأ يا طه، حسان في المحل علشان فيه بضاعة جاية عنده، أنا مش هتأخر و هرجع علطول، عاوزين حاجة؟!"


ردوا عليها جميعًا بالنفي لعرضها، فتحركت هي من أمامهم جميعًا نحو الأسفل و قد سبق و أردت ثيابها و جلست تنتظر تلك المكالمة، و بعد مرور ثوانٍ وصلت لمقدمة الشارع فوجدت السيارة تنتظرها، ركبت بجواره و هي تبتسم له، فسألها هو بثباتٍ:


"ها ؟! جاهزة و لا اطلعك تاني؟! شكلك مش قد المهمة دي، متكسيفنيش؟!"


ضربته في صدره و هي تقول بضجرٍ:

"بس يا واد اتلم، متخلنيش اوريك أنا قدها و لا لأ؟! المهم اتحرك يلا علشان متأخرش، خليني أروح اشفي غليلي منها"


غمز لها و هو يقول بمراوغةٍ:

"جامدة، جامدة يا عمتو، إن شاء الله ترفعي راسي أنا و تخليني أفرح بجد"


قاد «وليد» السيارة و هو يتحدث معها و هي تناقشه حتى أوقف السيارة أسفل البناية اللتي تقع بها شقة «حسن»، وصلا معًا عند الشقة فطرقت هي الباب و هو خلفها يقف بثباتٍ كعادته، فتحت لهما «حنان» الباب دون أن تتعرف على ماهية الطارق، فتحدثت «مشيرة» أولًا بنبرةٍ جامدة:

"معاكي مشيرة، مشيرة الرشيد، ممكن أدخل اتكلم معاكي كلمتين بهدوء؟!"


قبل أن تنطق بالرفض أو القبول ظهر «وليد» من خلف عمته و هو يقول بخبثٍ:

"ارفضي بقى علشان اخليها تتعصب، هنتكلم كلمتين بالادب، و نمشي من وشك، أو أنتِ اللي تمشي"


دلفا كليهما بعدما افسحت لهما الطريق عن باب الشقة ثم أغلقت الباب خلف دخولهم بعنفٍ، ثم جلست على الأريكة مقابلةً لهما و هي تقول بجفاءٍ:

"خير ؟! ياترى بقى حضراتكم نورتوا بيت أخويا المتواضع ليه؟؟"


ابتسم «وليد» بسخريةٍ بينما «مشيرة» تحدثت بذهولٍ:

"لأ دا أنتِ صعب أوي، الحمد لله أني قابلتك علشان ابطل أكره نفسي، أنتِ ليك عين تتكلمي؟"


ردت عليه بصوتٍ عالٍ:

"احترمي نفسك احسنلك، هو أنتوا كلكم كدا عالم قليلة الأدب ؟! هو دا النسب اللي الأستاذ ساب أخته علشانهم، صحيح نسب يشرف"


اندفعت «مشيرة» نحوها تمسكها من ذراعها و هي تقول بنبرةٍ جامدة:

"أقسملك بالله لو ما احترمتي نفسك و لميتي لسانك لأكون لماكي أنا، ليكي عين تتكلمي بعد عملتك السودا ؟! تتسببي في خراب بيت بنتي و بسببك تنزل الشارع نص الليل و الله أعلم باللي كان هيحصل ليها، و كمان بتوقعي بينها و بين جوزها؟! و عاوزاني اسكتلك؟! دا أنا اقطعك بسناني يوم ما تفكري تيجي على اللي مني، هوريكي القطة و هي بتحبي على عيالها بتكون عاملة ازاي، هخربش وشك لحد ما أبوظه"


قبل أن تتحدث «حنان» و ترمي بحديثها الوقح، تحدثت «مشيرة» بنبرةٍ جامدة:

"اسمعي يا ست أنتِ، اقسملك بالله لو ما لميتي نفسك و خرجتي من حياة هدير و حسن لأكون قاطمة رقبتك، اللي ماسكني عنك هو خاطر أمك اللي كانت جارتنا و خاطر حسن اللي متربي مع عيالنا و بقى زيه زيهم، احترمي نفسك و غوري في داهية من هنا"


تحدثت الأخرى بمعاندةٍ:

"مش بمزاجك، دي شقة أخويا و أنا قاعدة فيها براحتي، أنتِ اللي تغوري في داهية من هنا أنتِ و الصايع اللي معاكي دا، غوروا بدل ما الم عليكم الجيران و أقول اتهجموا عليا و ساعتها حسن هيطلق بنتكم بجد"


تدخل «وليد» يقول بثباتٍ:

"بحب فيكي ثقتك في نفسك يا طنط و الله، بس أنا عاملك مفاجأة من حظك و نصيبك، الله أعلم بعدها هتعيشي ازاي؟! بس أنا واثق إنك هتعيشي"


استطاع باسلوبه و حديثه جذب انتباهها فتحدثت «مشيرة» بثباتٍ:

"حق نزول بنتي في الشارع و خوضك في شرفها غالي أوي و احنا الشرف عندنا غالي، يعني لو قتلتك دلوقتي هيبقى حقي، و اللي يسألني هقوله كنت باخد حق بنتي، بنتي اللي بسببك اتقهرت، بس ملحوقة، هقهرك أنا دلوقتي"


اقترب «وليد» منهما و في يده الأوراق ثم اخفض جزعه عليها ز هو يمد يده لها بالاوراق، فسألته هي بضجرٍ:

"إيه الورق دا ؟! بتاع إيه؟!"


أبتسم لها و هو يقول بثقته المعتادة و لباقته المعهودة:

"دي مفاجأة يا طنط، شوفي بنفسك علشان أنا مبحرقش مفاجأت"


اخذت الأوراق من يده بسرعةٍ كبرى تُبصر ما يوجد بها، و سرعان ما اتسعتا حدقتيها بقوةٍ و أصيبت بالشلل المؤقت من هول الصدمة عليها، فتحدث هو بنبرةٍ هادئة و كلماتٍ متريثة:


"حسن خسر كل حاجة، و هدير بقت تملك كل حاجة، بيت الساحل و العربية و فلوسه في البنك و شقته دي، حتى الملاحات اللي في المطبخ كمان، عدم المؤاخذة حتى بقاعدة الحمام اللي جوة، كل حاجة بقت بتاعتها هي، يعني حاليًا كدا أنتِ قاعدة في بيت اختي و ملكها، بس عارفة حسن دا رجولة، علشان بقوله هدير هتمتلك كل حاجة عندك رد حق من اللي أختك عملته فيها، قالي إن هدير ليها حق فيه هو شخصيًا و إن النفس اللي بيتنفسه بقى بيخرج علشانها، بصراحة ؟! إجابة نموذجية ياخد عليها أوسكار درجة تانية، طبعًا الدرجة الأولى دي تخصني أنا، بذمتك يا شيخة ؟! إيه رأيك في دماغي و أنا بقهرك صح ؟!"


صرخت في وجهه بهياجٍ فأوقفها هو بقوله الجامد:

"اسمعي يا ست أنتِ، تغوري من هنا مطرح ما كنتي و تنسي هدير و حسن أحسنلك و يا ريت تروحي تعالجي عُقد النقص اللي عندك، أصل محدش مجبر يستحملك بصراحة"


رفعت عينيها تطالعه بجمودٍ فأضاف هو بثباتٍ:

"ركزي في كلامي كويس يمكن تتعلمي حاجة، أنا و لا غيري محدش فينا مضطر يستحمل نقصك و عقد جنانك على أساس إنك هتتعدلي احنا مش العباسية علشان نعالجك، سكتك خضرا"

__________________________


عاد «ياسين» من السوق مع «يوسف» و عاد لمباشرة عمله حتى حلول الليل و لكن عمله كان أكثر هِمة و نشاطًا بعد استماعه لصوت أحبائه و خصيصًا بعد مكالمته لها، بعد ذلك تناول وجبة العشاء وسط العمال ثم تحركوا هم و تركوه بمفرده، يجلس على الأرض الغير مستوية يتابع السماء، و خاصة بالسكون حوله بعد نوم العمال و خصيصًا أن يوم عملهم كان شاقًا للغاية، اقترب الأخر منه يجلس بجواره و هو يستند على كتفه بكفه، فابتسم «ياسين» بيأسٍ ثم تنهد بعمقٍ، بينما الأخر اشعل السيجارة ثم نفث هواءها خارج رئتيه، ثم حرك رأسه ينظر لذلك الذي يجلس بجواره و حينما امعن النظر في وجهه سأله بسخريةٍ:

"وشك نور يعني من ساعة ما رجعت، اومال كنت مبوز في وشنا ليه؟!"


رد عليه «ياسين» بهدوء:

"جسدك قلق عليّ وعقلك مهتم أكثر بالتفكير، ولكن عندما تكون قلقًا ومسالمًا، فإنه يسترخي.


حرك رأسه موافقًا ثم تحدث بايجازٍ:


"ربنا يخليهملك"


رد عليه يؤمن دعاءه ثم شرد كليهما أمامه، فتحدث «ياسين» بنبرةٍ هادئة:

"لو الظروف غير الظروف كنت عرفت اتفسح و أعيش هنا، بس للأسف حتى دي مبعرفش أعملها و افرح من غير حبايبي، لو عليا اجيبهم كلهم هنا"


أبتسم «يوسف» بسخريةٍ ثم القى السيجارة على بعد ذراعه ثم وقف و هو يقول بنبرةٍ هادئة:


"تصبح على خير يا ياسين"


تحرك مُسرعًا قبل أن يرد عليه الأخر التحية، فحرك كتفيه بتعجبٍ ثم رفع رأسه ينظر للسماء يشرد في جمالها و ابداع الخالق التي تجلت في تلك الطبيعة الساحرة و على حين غرة اندلع صوت طلقات النيران حوله بشدة و كأنها حالة حرب تزامنًا مع اقتراب سيارات تحمل رجالًا ترجع أصولهم لعرب القبائل و ظهر ذلك من خلال ثيابهم، التفت «ياسين» ينظر خلفه بخوفٍ و كأن حركته شُلت بالكامل، فتوقفت حينها السيارات و نزل منها الرجال تزامنًا مع خروج العمال من اماكنهم يركضون نحو «ياسين» الذي وقف يسأل بنبرةٍ جامدة و لهجةٍ حادة:

"فيه إيه يا جدع أنتَ و هو ؟! انتم مجانين؟؟ فاكرين نفسكم داخلين تحييوا ليلة؟! إيه شغل الجنان دا؟!"


أقترب منه أحد الرجال يقف أمامه و في يده السلاح و هو يقول بصوتٍ جهوريًا و حاد اللهجة:

"احترم نفسك يا جدع أنتَ، احنا صحاب حق و جايين ناخده، و لسه حسابك معانا تقيل"


عقد «ياسين» ما بين حاجبيه بحيرةٍ و تحدث بتشوشٍ:

"أكيد فيه حاجة غلط يا حج، أنا معرفكوش أصلًا و مش من هنا، انتم مين؟! و حق إيه دا؟!"


حرك الرجل رأسه ينظر لـ «عبدالعزيز» و هو يقول بتهكمٍ:

"قولوا حق إيه؟؟ عرفوا إن إحنا اصحاب حق، مش دا برضه البشمهندس؟!"


تحدث «ياسين» بنبرةٍ جامدة:

"فيه إيه يا عم عبدالعزيز ؟؟ و حق إيه دا أنا مش فاهم حاجة"


رد عليه الرجل بغلٍ واضحٍ:

"حقنا !! الحق اللي أنتَ و اللي مشغلينك واكلينه، بس طالما كدا بقى، يبقى يلا يا رجالة هدولي شغل المهندس"


وقف «ياسين» أمامه بالمرصاد و عز منفعلًا:

"عندك يا جدع أنتَ و هو، على جثتي حد فيكم ييجي جنب شغلي، اقسم بالله أطير رقبته فيها"


أشهر الرجل السلاح في وجهه و هو يقول بثباتٍ:

"يبقى رقبتك أنتَ أولى يا بشمهندس، قدامك حاجتين يا الحق يا الروح ؟! اختار بينهم !!"


اتسعتا حدقتي «ياسين» بذهولٍ و هو يتمنى أن يكون ما به كابوسًا و أن يفيق منه حالًا، لكن حينما وجد العمال بجواره و كلًا منهم ينظر للأخر بخوفٍ و ترقبٍ من القادم، و خاصةً و الرجل يشهر بسلاحه في وجه «ياسين» و عينيه تتربص له و زاد الخوف أكثر حينما تحرك اصبعه فوق زناد السلاح ينوي إطلاق النار على هدفه الذي يقف أمامه بثباتٍ دون أن يرمش له جفنًا و فقط يردد الشهادة و هو يقف مثل الوتد في الأرض ثابتًا حتى انطلق صوت الطلقة النارية حينما خرجت من مصدرها لتتجه نحو وجهتها المصوبة نحوها.

الفصل الرابع والستون من هنا


تعليقات



×