رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الثاني والستون 62 بقلم شمس بكري


رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الثاني والستون بقلم شمس بكري


"و كأنني موعودٌ بفراق الأحباب، فكلما أحببتُ شيئًا، ذوقت منه الغياب"

__________________________


"ألا لَيْتَ بذنب الحُبِ ما بُليتَ، فبعدما استأنستُ بوجودك، غدوت في رحيلك عائلًا و كأنني بدونِ بيتَ، فراح القلب يَصرُخ باكيًا، كيف حالك في بعادي يا من ظننتُ أنني بِكَ تعافيتَ، كيف أتقبل غيابك بعد الرحيل، و أنا من وجدت بِكَ الحياةِ يوم أتيتَ ؟"


( في شمال سيناء) 


كان كليهما ينظر للسماء رافعًا رأسه بوجلٍ، متنهدًا بقلة حيلة، لا يملك أيًا منهما سوى النظر لها و الطمع في التيسير، حتى تحدث «يوسف» بسخريةٍ:

"بس قلبهم ميت أوي أنهم يجيبوك بعد اسبوع من مشيان رأفت، إيه مستبيعين أوي كدا ؟"


حرك «ياسين» رأسه نحوه و قد عقد ما بين حاجبيه بتعجبٍ من حديث الأخر، فتحدث مُضيفًا:

"جابوك بدري، أنا قولت فيها شهر لحد ما تيجي، عملت إيه أنتَ علشان يرموك هنا؟!"


حرك «ياسين» كتفيه ببساطةٍ و هو يقول بهدوء:

"معملتش حاجة، أنا كنت قاعد في مكتبي زي كل يوم، بعتولي أروح أقابل المدير، روحت أقابله قالي إن رأفت مراته ولدت باين أو حاجة زي كدا، و أنا زيه في نفس الكفاءة و هكمل الشغل مكانه، جيت"


حرك رأسه له يسأله بتعجبٍ و استنكارٍ معًا:

"مراته بتولد ؟! ليه متجوز أرنبة ؟؟ ما هي ولدت من شهرين، اشتغلوك يا عسل ؟!"


ردد خلفه باستنكارٍ:

"اشتغلوني ؟! اشتغلوني ازاي يعني؟! دا شغل و أكيد الشركة مش هتلعب معايا يعني"


أومأ له موافقًا ثم تحدث منهيًا ذلك الحوار:

"أكيد طبعًا، بس أنتَ شكلك ابن بلد و مجدع، رغم إني شاكك فيك و هتطلع رخم، بس أنا بعرف أتعامل مع الرخمين"


أبتسم «ياسين» بيأسٍ من طريقته ثم رفع رأسه للسماء مرةً أخرى و وضع كفيه داخل جيبي معطفه، و سرعان ما ابتسم حينما وجد نجمةً في السماء تضوي و كأنها تقصده هو تحديدًا، حرك الأخر رأسه نحوه يسأله بتهكمٍ:

"إيه حكايتك ؟! أنتَ عاشق و لا إيه؟؟"


سأله «ياسين» مُبتسمًا:

"أين تقول ذلك؟؟


أردف مُفسرًا:

"لتشرق النجوم للنجمة، ولتشرق النجوم لها غير العاشق، أو لها فهي عزيزة"


تحدث «ياسين» بهدوء:

"بلاش ماتلي حد عزيز دي، خلينا في الأولى و مشيها عاشق"


سأله بثباتٍ:

"اللي بتعشقها دي بقى، حبيبتك و لا خطيبتك و لا هي متعرفش أصلًا إنك موجود ؟!"


رد عليه مُبتسمًا بعدما رفع كفه يشير نحو الدبلة التي تتوسط اصبعه:

"مراتي....اللي بحبها دي مراتي"


أبتسم له بسخريةٍ و هو يقول:

"لأ، جديدة دي، جديدة و حلوة بصراحة"


وضع «ياسين» كفه في جيب معطفه و هو يقول بثباتٍ:

"براحتك، كدا كدا مش مضطر اثبتلك حاجة، بس أنا بحب مراتي بجد"


رد عليه «يوسف» متفهمًا:

"يا عم ربنا يكرمك و يخليكم لبعض، بس كل اللي قابلتهم هنا جايين طفشانين أساسًا، أنتَ الوحيد اللي شكلك زعلان"


حرك رأسه موافقًا ثم تحدث بهدوء:

"مبكرهش في حياتي قد الغُربة، الغربة مرة زي ما بيقولوا كدا، و بالذات لواحد زيي كان متحاوط بالونس، سيبت أخواتي و مراتي و أبويا و أمي، يمكن دي حاجة جديدة عليا، بس أهو هتعود"


رد عليه الأخر بنبرةٍ يشوبها ألمٍ طفيفٍ:

"أهو أنا طول عُمري معرفش يعني إيه ونس، يمكن بفضل هنا بالشهور علشان اهرب مني أني مليش حد، مكدبش عليك بكون مرتاح هنا، و بصراحة ؟! العيون البدوية اللي هنا متتسابش"


اتسعتا حدقتي «ياسين»، فابتسم له الأخر ببرودٍ و هو يقول:

"آه نسيت أقولك، أنا راجل نقطة ضعفي حاجتين، محشي ورق العنب و العيون السود"


أبتسم «ياسين» بسخريةٍ و هو يقول:

"أنتَ ضربت الاتنين في الخلاط مع بعض ؟؟ سبحان الله، مكتوبين عليا النُسخ اللي زيكم"


سأله باهتام:

"مين دول ؟؟"


_"أخواتي، وليد و عامر"

تفوه «ياسين» ببساطةٍ و هدوء، فأومأ الأخر مُتفهمًا، فتحدث «ياسين» مُستفسرًا بهدوء:

"هو ليه مفيش شبكة هنا ؟! اللي عاوز يكلم ناسه يكلمهم إزاي ؟"


رد عليه بنبرةٍ هادئة:

"هنا مفيش أبراج للشبكة، محتاج تمشي حوالي تلاتة أربعة كيلو كدا، عند السوق و المدينة من برة"


رد عليه «ياسين» مُسرعًا باستنكارٍ:

"تلاتة أربعة كيلو !! علشان اتكلم في التليفون ؟! إيه الهم دا بس؟"


أبتسم له ببرود ثم حرك رأسه ينظر للسماء مرةً أخرى، بينما «ياسين» أخرج هاتفه يطالعه بيأسٍ بعدما تأكد من فشله في محاولة الوصول لهم.


و خلفهم و بعدما وقف يراقبهما و يراقب جلوسهما الهاديء، حينها أخرج هاتفه يهاتف شخصًا ما، و هو يتحدث باللهجة البدوية:

"أيوا يا اخو...عسعست مِتل ما بدك، يورالي إنه المهندس الجديد، بتريدني أتدخل ؟! و لا؟"


رد عليه الأخر مُسرعًا يرفض تدخله و طلب منه التريث لحين التأكد من هويته و إن كان مُحقًا قادمًا للعمل في هذا المشروع، حينها سيتم التدخل في ذلك الشأن.

__________________________


عاد «وليد» من وجهته ثم توجه نحو شقته، ينادي على زوجته حتى تقوم «هدير» بوضع غطاء رأسها، و بعدها دلف الشقة بانهاكٍ ثم جلس على المقعد المقابل للأريكة و هما يجلسا سويًا في غرفة التلفاز، فسألته «عبلة» بقلقٍ:

"ها عملت إيه يا وليد ؟! أوعى تكون اتهورت و عكيت الدنيا؟! احنا عاوزينك تحل مش تعقد"


زفر هو بقوةٍ ثم قال:

"لأول مرة ازعل أني راجل و اتمنى أكون ست، كان نفسي اجيبها من شعرها، بس ملحوقة"


ابتسمت «هدير» بسخريةٍ ثم تحدثت بنبرةٍ جامدة:

"روحت ليه يا وليد ؟؟ قولتلك متروحش و الدنيا تتحل بالهدوء و هو يخلصني و يطلق، روحت ليها ليه؟! علشان توجعك بالكلام؟!"


رد عليها هو بثباتٍ:

"حسنًا، هناك شيء واحد فقط يمنحك حياة طيبة وحياة طيبة. أنا شاهد آخر على أعمالك. لماذا تفقد خيراتك؟! ؟!"


ردت عليه هي ببكاءٍ:

"علشان هو بيحبها، خايفة نتحط أنا و هي في كفة واحدة و يختارها، خايفة أتوجع على ايديه و هو واقف محتار بينا، حسن بيقدرها و ممكن ميصدقنيش إن أخته قالت عليا كدا، و ساعتها لو دا حصل منه أنا هتوجع و مش هنسهاله، أنا عاوزة اسيبه علشان بحبه، و علشان مش هقبل بحاجة تانية غير أني احبه"


ضرب كفيه ببعضهما و هو يقول:

"لا حول ولا قوة إلا بالله ؟! يعني إيه يا بنتي؟! يعني تفضلي أنتِ و هو متعذبين كدا ؟! بسبب واحدة حرباية زي دي كل اللي هاممها الفلوس و بس ؟؟ عندك ثقة في حسن و لا لأ؟!"


ردت عليه هي مُقررةً:

"عندي ثقة فيه لأبعد الحدود، و عندي ثقة في حبه كمان، بس معنديش ثقة في أخته و كلامها، دي بتتلون زي الحية يا وليد، أنا لو خايفة على وجعي ضعف، فخايفة على وجعه أضعاف، حسن هيتكسر لو عرف أخته عملت إيه"


تدخلت «عبلة» تقول معنفةً لها و ترفض طريقة تفكيرها:

"غلط يا متخلفة أنتِ، حتى لو اتوجع من أخته مينفعش يتوجع منك أنتِ، لازم تكوني معاه، صحيح هي غلطتها متتسامحش، بس متتخليش عن جوزك علشانها، حرام عليكي كل شوية يتصل و كلامه صعب أوي"


بكت «هدير» و هي تستمع إليها و هي تعلم كم المعاناة التي يمر بها و تدخل بين ثناياه، تحدث «وليد» بنبرةٍ هادئة:

"هدير هي كلمة واحدة بس !! عاوزة إيه بالظبط ؟!"


ردت عليه هي بنبرةٍ باكية:

"عاوزة أعيش مع حسن من غير مشاكل، مش عاوزاه يبقى معايا و يكون خايف من حاجة، حسن ضعيف قدام أخته أوي، صعب نكون أنا و هي في حياته"


رد عليها هو بثباتٍ:

"يبقى خلاص، سيبي الجاي عليا و ملكيش دعوة بحد و لا تقلقي، و حنان دي أنا هجيب حقك منها، بس مش بغشامة دي عاوزة ثبات و تفكير"


حركت رأسها موافقةً على مضضٍ، فتحدث هو موجهًا حديثه لزوجته:

"عبلة ؟! حضري العَشا لينا علشان هدير لو سمحتي، و علشان أريح شوية، يلا لحد ما أكلم خديجة"


حركت رأسها موافقةً ثم تحركت من موضعها، بينما هو توجه نحو الشرفة يهاتف «خديجة».


كانت هي جالسةً وسط الفتيات و هي تداعب «يونس» و تقوم باطعامه الحلويات الموضوعة أمامهم و هو يمر عليهمن يقبل كلًا منهن على حِدة، حتى صدح صوت هاتفها برقم أخيها، استأذنت هي منهن ثم توجهت نحو الشُرفة حتى تستطع مكالمته، فتحدثت هي بهدوء:

"ازيك يا وليد عامل إيه؟! كنت فين طول اليوم مكلمتنيش ليه؟"


تنهد هو بقلة حيلة ثم تحدث بنبرةٍ مُنهكة:

"حقك عليا علشان مكلمتكيش النهاردة، بس كنت مشغول و تعبان شوية، المهم أنتِ إيه اخبارك؟!"


ردت عليه هي بهدوء:

"الحمد لله وبنات هناء ويونس كمان مطقلقش"


رد عليه بنبرة صوتٍ ظهرت بها الراحة:

"الحمد لله إنك كويسة، لو احتاجتي حاجة عرفيني، و خلي بالك من نفسك، مش هوصيكي، مش عاوز أبو طويلة ييجي زعلان مني"


ابتسمت هي بسمةً هادئة، فسألها هو بترقبٍ:

"ياسين كلمك صح ؟! أو حد فيكم اتطمن عليه حتى ؟!"


ردت عليه هي بقلقٍ:

"لأ للأسف، أخر مرة كانت الصبح و هو عند النفق و قالي إن الشبكة هتفصل، بس الحمد لله كلم طنط و عمو قابلها، و خالد قال إنه كلمهم كلهم سوا، من ساعتها برضه معرفش حاجة عنه"


رد عليها يُطمئنها بحديثه:

"متقلقيش عليه خير إن شاء الله، المهم أنتِ بس بلاش تظهري خوفك أو زعلك علشان مامته حتى، ربنا يرجعهولك بالسلامة و يجمعكم بالخير يا رب"


تنهد هي بعمقٍ ثم تحدثت بنبرةٍ هادئة لكن بين ثناياها ظهر الحزن:

"أنا عمري ما كنت أتخيل أني ممكن اسيبه أو ممكن ييجي يوم يكون مش معايا فيه، أنا اتعودت عليه أوي، بحس من غيره إني تايهة و مفيش مكان ليا في الدنيا، أنا لقيت معاه الحاجة اللي كنت بدور عليها، لقيت معاه خديجة، خايفة تضيع مني علشان هو مش موجود"


تحدث هو مُسرعًا يلحق بحديثها:

"يا الشن خاطري وخاطري انت الفيل وسائر الدنيا والعالم كله صحيح هتزعلي الشن هو مش معاكي ولكني صادق معك وانت الفيل" ، الهريسة أوزك تزودي حملي وخلصيني قلقان عليكي أنتِ كمان"


عقدت حاجبيها تسأله مستنكرةً حديثه و تحدثه بصيغة الجمع:

"أنا كمان ؟! هو فيه إيه مخليك قلقان تاني؟!"


زفر هو بقلة حيلة ثم قرر مصارحتها بالحديث و مشاركتها قلقه و استشاراتها فيما يحدث، كانت هي تنصت له بتمعنٍ بين الصدمة و التيه، حتى أنهى حديثه و هو يقول بحيرةٍ:

"مش عارف أعمل إيه، هدير لازم تحس إن فيه حد وراها بيدافع عنها و حسن أخويا و لوحده و مفيش حد معاه، و حنان دي مش قادر عليها"


ردت عليه هي مُسرعةً:

"كدا مينفعش، حسن لازم يعرف اخته عملت إيه في مراته، لازم يعرف إنها مش ملاك و لا إنها أخت كبيرة ليه، اتصرف يا وليد"


مرر كفه في خصلات شعره بمللٍ ثم تحدث بنبرةٍ جامدة:

"يبقى محدش ليه دعوة باللي هعمله، حسن لازم يفوق و حنان تتربى و هدير تمسك في جوزها، و شكلي كدا هقل أدبي يا خديجة"


ردت عليه بسخريةٍ:

"و أنتَ طبعًا ما بتصدق تقل أدبك، جت في ملعبك دي، بس ياريت تراعي مشاعر الاتنين و تفكر أنتَ حالتك كانت إيه لما عبلة طلبت تسيبك"


تنهد بعمقٍ ثم تحدث أخيرًا:

"حاضر يا خديجة، بس حق هدير و شرفها اللي غلطت فيه مش هقدر اسكت عنه، و دي حاجة مفيهاش كلام، حتى لو حسن هيرفض حاجة زي دي"


أغلقت معه الهاتف بعدما حدثها هو ثم خرج من الشرفة و اثناء مروره بجوار «هدير» وجدها تطالع الهاتف بعينين باكيتين فعلم انها تبكي لأجله و هي تشاهد صورها معه.

تنهد هو بثقلٍ ثم دلف للداخل و هي لم تنتبه له من الأساس، بل ظلت كما هي أسيرة تلك الصور و اللحظات التي جمعتهما سويًا.

__________________________


شعر بالتعب يبلغ منه مبلغه و أن حتى طاقته على تحمل نفسه لم تعد كافية، و في تلك اللحظة شعر بجفاف حلقه فتوجه نحو المقهى القديمة التي يجلس بها كعادته مع «وئام».


جلس على أول مقعد قابله ثم أرجع رأسه للخلف و قرر آخر قرار و كأنه يخرج روحه من جسده، ظن نفسه لا يهون لكنه هان، ظن بها النجاة فوجد بها الهلاك، عاملها كما لو أنها انتصاره الوحيد، فتفاجأ بها تقرنه بهزيمةٍ ساحقة، فكيف للمرء أن يتقبل الهزيمة من الشيء الذي يعد نصره الوحيد !؟


اقترب منه العامل يرحب به و خاصةً انه على علمٍ سابقٍ بماهيته لانه مداوم التواجد هناك حينما كان يلتقط لهم صورًا في تلك المقهى القديمة، وسط الأجواء التي يحبها هو، و بعد رحيل العامل وضع رأسه على الطاولةِ بانهاكٍ واضحٍ حتى شعر بكف أحدهم يُربت على كتفه، رفع رأسه مُسرعًا، فتفاجأ به يسأله بهدوء:


"مدوخني وراك كل دا ؟؟ مشيلني همك كأنك ابني، عامل كدا ليه يا حسن ؟!"


أبتسم له بوجعٍ، فتدخل الأخر يقول بنبرةٍ هادئة:

"و جاي القهوة من غيرنا يا ندل ؟! مكانش العشم يا ابن المهدي، بس هقول إيه؟!"


تنهد هو بثقلٍ فجلس الاثنين معه، فتحدث «وئام» بنبرةٍ هادئة:

"قافل تليفونك ليه؟! هي ناقصة يعني تقلقني عليك يا حسن ؟"


رد عليه بقلة حيلة:

"تعبت يا وئام، حسيت أني عاوز أهرب من دنيتي كلها، بس مش عارف أهرب مني، هو...هو انتم عرفتوا مكاني منين؟!"


رد عليه «طارق» مُفسرًا:

"عدينا عند محل الورد اللي أنتَ راكن عربيتك عنده، قولنا أكيد أقرب مكان هتكون موجود فيه هنا، و كدا كدا كنت هتيجي هنا"


حرك رأسه موافقًا ثم زفر بقوةٍ ثم تحدث بنبرةٍ هادئة:

"ممكن محدش فيكم يتكلم في حاجة؟؟ أنا مش هستحمل كلمة من حد، ينفع؟!"


حركا رأسيهما، فأضاف «طارق» حاسمًا:

"احنا جايين علشانك أنتَ، قبل ما تكون جوز اختنا، أنتَ أخونا و اللي بينا مش قليل، بس عاوز أقولك فكر كويس علشان متخسرش كل حاجة"


رمقه بثباتٍ ثم ارجع رأسه للخلف، حينها رفع «وئام» ذراعه يضعه على كتفه مرةً أخرى و كأنه يؤازره في محنته، بينما هو سأله بنبرةٍ مختنقة:

"هو أنتوا جيتوا ليه ؟! جايين شفقة عليا و لا جايين علشان تطلبوا أطلقها ؟!"


سأله «وئام» بنبرةٍ جامدة:

"الرحمة!! من أمة حب الإخوان الرحمة؟!


أطبق جفنيه فوق بعضهما بثقلٍ، فسأله «طارق» بلهجة صوتٍ ثابتة:

"أنتَ عامل في نفسك كدا ليه؟! مالك يا حسن ؟! شكلك بقى ضعف سنك، من امتى و أنتَ بتتعب كدا؟!"


رد عليه بوجعٍ:

"علشان مش قادر استحمل خلاص، جيبت أخري يا طارق، نمت و صحيت حياتي مقلوبة على دماغي، أختي و مراتي مسكوا في بعض، و أنا مش فاهم حاجة، و هدير مصممة على الطلاق، طب ليه؟! ذنبي أنا إيه؟"


رد عليه «وئام» مراعيًا حالته:

"الذنب من الأول عندك أنتَ، إن أختك معرفتش بحاجة زي دي، أنتَ عارفها و عارف طبعها، و عارف إن هدير مبتتحملش، أختك من أول ما جت كان لازم تقف عند حدها"


رد عليه بقلة حيلة:

"شرحت موقفي و شرحت ليها إني اتجوزتها علشان أنا اللي عاوز دا، و هي فهمت الدنيا، هدير كان ممكن تكبر دماغها و تشيل خاطري حتى، بس هي كمان داست عليا"


نظر كليهما لبعضهما و كلًا منهما يفهم نظرات الأخر بأن «حسن» لم يفعل ذلك من الأساس، زفر هو بقوةٍ ثم تحدث بنبرةٍ شبه باكية:

"اللي مزعلني أني عمري ما زعلت حد، و عمري ما اتمنيت حاجة في حياتي، كانت هي الحاجة الوحيدة اللي اتمنيت من ربنا إنه يديم وجودها ليا، حسيت إن اللي زيي ميستاهلش حتى إنه يتمنى، هو أنا حرام عليا اتمنى حاجة و أخدها؟"


رد عليه «وئام» بثباتٍ:

"حرام عليك إنك تقف ساكت و تشوف كل حاجة و هي بتضيع منك، فوق لنفسك و لحياتك و رجع مراتك و شوف حل مع أختك، و أفهم حصل إيه قبل ما تحكم على حد، علشان مترجعش تعيط على اللي راح يا حسن"


اقترب منهم العامل يضع طلبات «حسن» ثم أخذ طلبهما و رحل من أمامهم، فتحدث «طارق» بنبرةٍ هادئة:

"اشرب الشاي و روق كدا علشان بكرة هتيجي الشغل، يا كدا يا هخصملك، تحب اخصملك؟"


سأله بطريقةٍ درامية جعلته يبتسم رغمًا عنه، فاحضتنه «وئام» بين ذراعيه و هو يربت على ظهره و يتابع الأخر بنظراته اليائسة، و خصيصًا بعدما طلب منهما «وليد» عدم التحدث في شيءٍ مما صار.

__________________________


وصل «حسن» شقته بعدما ترك صديقيه، و عند دخوله الشقة شعر حتى بكرهه لذلك المكان مرةً أخرى، فكيف يحبه بعدما رحل السبب الذي جعله يحبه؟! كيف يطيق المكوث في مكانٍ تسبب في وجعه و جرحه بدل المرةِ، عِدة مرات؟! 


جلس على الأريكة و هو يشعر بالتعب عليها، فحتى تلك الأريكة شاركته بها، فعند عودته في تعبه كان يُلقي بنفسه على فخذيها و هي بدورها تقوم بتدليك رأسه و هي تشاكسه بكلماتها، فهل من المعقول بعد كل تلك الذكريات و المشاركات بينهما أن يعودا كما الغريبين عن بعضهما ؟! هل من المعقول أن تُسلب منه كما تُسلب الأوطان فيرجع من جديد شريدًا بين أرجاء المدينة؟!"


اقتربت منه شقيقته تجلس بجواره و هي تسأله بنبرةٍ جامدة:

"أنتَ كنت فين ؟! و قافل تليفونك ليه إن شاء الله ؟!"


رد عليها بنبرةٍ واهية بالكاد وصلت لسمعها:

"كنت في ستين داهية يا حنان خير؟؟ عاوزة حاجة تاني؟!"


ردت عليه مُسرعةً بطريقةٍ زائفة:

"قريب مراتك كان هنا و دخل يزعقلي و غلط فيا يا حسن، بدل ما يعلم أخته الأدب و يقولها عيب تمد أيدها على الأكبر منها، جاي يغلط فيا !! هما دول النسب اللي أنتَ اختارته و بتحارب علشانه؟!"


انتبه لها بكامل حدثه فسألها بتيهٍ غلف كلماته على الرغم من هيئته التي تنم عن تركيزه معها:

"قصدك مين ؟؟! أنتِ بتقولي إيه يا حنان؟!" 


ردت عليه بانكسارٍ زائفٍ:

"هيكون مين يعني ؟؟ وليد الرشيد، جاي لحد هنا علشان يغلط فيا و يهددني بكلام خايب، بس الحق مش عليه، الحق على اخويا اللي معليهم عليا و مخليهم شايفين نفسهم صحاب حق فيك"


انتفض هو من جلسته و هو يسألها بغير تصديق:

"أنتِ بتقولي إيه يا حنان؟! وليد هيجي يشتمك و يغلط فيكي ليه يعني؟! وليد ميعملش كدا أصلًا، أكيد كان جاي علشان يحل"


ردت عليه هي مُسرعةً:

"لأ يا حسن، جه علشان يغلط فيا و يهددني أنه هياخد حق أخته مني، و أنا أصلًا معملتش حاجة ليها، علشان خاطري ريح أختك و طلقها و خلصنا من الهم دا، طلقها علشان هيدوسوا علينا يا حسن"


شعر هو بالنيران تضرب جسده و تحرق أحشائه المُفتتة من الأساس و تحدث بنبرةٍ منفعلة:

"هو إيه ذل و خلاص ؟! هيذلونا و يهينوكي؟! دا أنتِ أختي و عمري ما غلطت فيكي و شايل خاطرك طول عمري، لو فاكرين أنهم كدا ماسكين ايدي اللي بتوجعني يبقى أنا هقطعها و أخلص خلاص"


وقفت هي أمامه تهديء روعه و هي تقول متوسلةً له:

"ريح نفسك و اهدا يا حسن، دول ميستاهلوش إنك تعمل في نفسك كدا، علشان خاطري، متأذيش نفسك و لا تعاتبهم حتى، سيبك منهم و تعالى معايا"


رد عليه بعدما هدأ قليلًا:

"حاضر يا حنان، بس كدا الأمور زادت عن حدها و أنا بكرة هروح شغلي و أشوف حل معاهم، لو هي مصممة على الطلاق زي ما هي، هريحها و أطلق و خلاص، بس لو حد فيهم غلط فيكي أنا لا يمكن اسكت على حاجة زي دي"


ربتت على كتفه بهدوء و هي تقول بنبرةٍ هادئة:

"ربنا يخليك ليا يا حبيبي، و يبعدهم عنك، الناس دي متستاهلش وجودك في حياتهم، أنتَ خسارة فيهم"


احتواها بين ذراعيه و هو يربت على ظهرها بهدوء، و بكفه الأخر يربت فوق رأسها، و هي بين ذراعيه تتصنع الحزن، و هو شارد الذهن في حياته التي هُدمت فوق رأسه و بعثرت ثباته.

__________________________


جلست «خديجة» وسطهم جميعًا بعدما عاد الشباب مع «رياض» حتى يأخذ كلًا منهم زوجته، و إبان تلك الجلسة تحدث «رياض» بنبرةٍ هادئة:

"ياسر وأنت مفتاح جزيرة العرب.


تدخل «عامر» يقول بحنقٍ:

"نعم !! إيه قلة الاصل دي؟! ليه مش ليا أنا يعني ؟! ماشي"


رد عليه «رياض» بتهكمٍ:

"أنتَ بجح يالا ؟! بتروح مع خالد في عربيته و عينك طالعة على عربية ابني؟! هو قالي اسيبها لياسر"


رد عليه «عامر» بتهكمٍ:

"آه ماهو أنا لو عيني زرقا ؟! بس يلا عالم عنصرية"


تدخل «خالد» يقول بضجرٍ منه:

"يابني بطل هطل بقى، ماهو احنا بنتنيل مع بعض في سِكة واحدة، ياسر طريقه غيرنا، بطل كلاحة بقى"


تدخل «ياسر» يقول بطريقته المهذبة المعتادة:

"معلش يا عمي بس أنا مش هقدر أخد العربية من غيره، خليها مع حضرتك و اتحرك بيها، و أنا هروح مواصلات"


رد عليه رافضًا بنبرةٍ قاطعة:

"ولا !! اسمع كلامي مش عاوز صداع، أنا السواقة بتخنقني، و شغلي فيه عربية بتاخدني لحد هناك، و زهرة شغلها مش محتاج مواصلات، خدها و اسمع كلام ابوك و أخوك من قبله"


حرك رأسه موافقًا مستسلمًا له، فتدخلت «إيمان» تقول بمرحٍ:

"طب حيث كدا بقى ياسر يعلمني السواقة في عربية ياسين، لحد ما نجيب عربية"


ردت عليها «ريهام» بتهكمٍ:

"مش عاوزين نقهر الراجل لما يرجع، ابوس راسك شيلي الفكرة من دماغك"


تجاهلت حديثها ثم سألت زوجها بأملٍ و بنبرةٍ متوسلة:

"ياسوري ؟! هتعلمني السواقة لحد ما ربنا يكرمك و تجيب عربية؟!"


رد عليها بثباتٍ:

"مينفعش يا حبيبتي، أنتِ كدا كدا بتسوقي"


سألته بحماسٍ:

"بجد ؟! بسوق إيه ؟"


_"الهبل على الشيطنة"

تفوه بها بجديةٍ زائدة جعلتهم يضحكون عليها، بينما هي سألته بنبرةٍ جامدة:

"قولت إيه يا ياسر؟! سمعني كدا"


ابتسم لها بسمةٍ باردة أثارت استفزازها، بينما هي توعدت له بنظراتها، كل ذلك كانت تتابعه «خديجة» و هي تبتسم لهم و «يونس» يجلس على فخذها و في يده لُعبة صغيرة يلوح بها، حتى صدمتها في رأسها دون أن يقصد هو ذلك، تحدثت هي بألمٍ حينما ضربتها اللُعبة في عينها:


"ليه كدا يا يونس ؟؟ زعلتك في إيه طيب يا مهلبية أنتَ؟!"


ضحكوا جميعهم على تلك الكلمة بينما هو رفع نفسه يقبل رأسها ثم تحدث ببراءةٍ كعادته:

"أنا أسف"


احتضنته هي بقوةٍ تقول بتأثرٍ:

"متتأسفش، أنا مش زعلانة والله، خلاص هات بوسة"


تحدث «عامر» بفخرٍ:

"شوفتوا تربيتي و هي بتتأسف"


ردت عليه «سارة» بتشككٍ:

"يا سلام ؟! قال يعني دا تربيتك؟! يونس حبيبي هو اللي سكر زيادة عن اللزوم"


رد عليها «خالد» بثباتٍ:

"على فكرة عامر يندم على بيته، يندم على عمله فقط، لكن قبل أن يشرب يونس ماسك كوب ماء ويبصق في فمه، لا يمكن أن تندم، لكن عامر يندم عليه وياسين". وياسر ساعة أعمال النفوس عملت لك ومن الساعات


ردت عليه «زهرة» بحبٍ:

"ربنا يحفظه و يباركلك فيه يا خالد، يونس دا حبيب الكل و غلاوته عندنا كلنا، و ربنا يقوم سارة بالسلامة بقى علشان نشوف ابن عامر، نفسي أشوف النسخة الصغيرة منه و من ياسر و ياسين، بس دلوقتي عاوزة اشوف ياسين الكبير"


قالتها بتأثرٍ و صوتٍ مختنقٍ، فرد عليها «رياض» يشاكسها:

"سيبي ياسين الكبير في حاله، ربنا يكرمه إن شاء الله و يخلص شغله و يرجع بالسلامة"


حركت رأسها موافقةً، بينما «خديجة» هربت من أثر ذِكر اسمه عليها حينما اخفضت رأسها تنصب بكامل تركيزها مع «يونس».


على الجهة الأخرى و بعد تحرك «يوسف» من جواره بهدوء آثار تعجبه و ريبته من كم الغموض المحاوط له و لطريقته، تحرك هو الأخر نحو "الكرافان" المخصص له و أثناء سيره رفع رأسه ينظر حوله، و لم ينكر أن تلك الطبيعة الخلابة أثارت فضول نظره، فتابع بنظره ذلك المنظر و عينيه تجول بالمكان في ليله، حيث اتسمت السماء بكثرة نجومها الساطعة، و لونها القاتم الذي أثر بالايجاب على سطوع النجوم.


لم يستطع التحكم في رغبته بأن يجلس مرةً أخرى ليتابع تلك الطبيعة الجبلية حوله بالسماء الممتلئة بالنجوم الساطعة و طبيعتها اللامعة و فورًا تذكر ما قدمته له قبل رحيله، فأخرجه من جيبه فورًا و هو يبتسم، و سرعان ما اتسعت بسمته أكثر حينما خطت بيدها على ورقةً بيضاء مرافقة لما اعطته له:


"ألا بذكر الله تطمئن القلوب"


تنهد هو بعمقٍ ثم أخرج المسبحة الالكترونية بلونها الأخضر ثم وضعه باصبعه و ظل يردد بعض الأذكار و الأدعية و هو يطالع المكان حوله و هو يفكر بأنه من المؤكد في هذا الوقت أن العائلة بأكملها معها الآن و من المؤكد أنها تداعب «يونس» إن كان معها الآن، تنهد هو بعمقٍ ثم رفع رأسه للأعلى و قلبه يتمنى انتهاء تلك الفترة بخير عليه و أن يعود لحياته فمن الصعب عليه التأقلم بهذا الوضع الذي وضع به للمرة الأولى بحياته.


تنهد بثقلٍ ثم تحرك نحو الغرفة حتى يتضرع إلى الله بقلبه بركعتي في جوف الليل لعله يضيف الطمأنينة إلى قلبه، توضأ أولًا ثم فرد سجادة الصلاة على الأرض و أولًا قام بضبط قِبلة الصلاة عن طريق التطبيق بهاتفه، تنهد هو بأريحية ثم شرع في الصلاة بكامل خشوعه، و هو يتأكد أن لولا وقوفه بتلك الطريقة بين يدي الله سبحانه و تعالى، لكانت طُمست هويته النقية و تلوث نقائها.


أخفض جزعه يركع لله سبحانه و تعالى، ثم رفع رأسه ثم اخفض جسده بالكامل حتى يسجد لله، و حينما لمس جبينه الأرض زادت طمأنته و شعر بالسكينة تغمره، رفع جسده و قرأ ما تيسر من القرآن في الركعة الثانية و طمأنينته تزداد، أنهى صلاته و أمسك السبحة و جلس يقوم بالذكر بعد نهاية الصلاة، و بعد جلوسه لعدة دقائق يذكر الله، توقف حتى يقوم بالخلود للنوم و قبل ذلك تذكر أن يبدل ثيابه و يرتدي أخرى اكثر راحةً، خلع ثيابه ثم أخرج أخرى بيتية يرتديها عبارة عن "ترنج" باللون الأسود، وضع كفيه في جيب المعطف "السويت شيرت" فتفاجأ بورقة بداخله، عقد حاجبيه و أخرج الورقة يقرأ ما بها، فوجد الآتي:


"مش عارفة هتلبسه امتى بس حاسة إنك هتلبسه أول حاجة علشان أنتَ بتحب السويت شيرت دا، المهم من الممكن الوضع يكون مخوفك أو قلقك أو غير ما أنتَ متوقع، و ممكن تخاف كمان أو تحس لوهلة كدا إنك ضايع، أنا طول عمري كنت خايفة و بخاف حتى من نفسي، بس هقولك على حاجة تريح قلبك و تطمنه و تخليك مرتاح


التفت النبي صل الله عليه وسلم إلى ابن عباس وهو طفل صغير فقال له: "يا غلامُ، احفَظِ اللَّهَ يحفَظكَ، احفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أمامَكَ، تَعرَّف إلى اللَّهِ في الرَّخاءِ يَعرِفْكَ في الشِّدَّةِ، قد جفَّ القلَمُ بما هوَ كائنٌ، فلَو أنَّ الخلقَ كُلَّهُم جميعًا أَرادوا أن ينفَعوكَ بشَيءٍ لم يقضِهِ اللَّهُ لَكَ لَم يَقدِروا عليهِ، أو أرادوا أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يقضِهِ اللَّهُ علَيكَ لَم يقدِروا علَيهِ، واعلَم أنَّ ما أصابَكَ لم يكُن ليُخطِئَك وما أخطأكَ لم يكُن ليُصيبَكَ، واعلَم أنَّ النَّصرَ معَ الصَّبرِ، وأنَّ الفرجَ معَ الكربِ، وأنَّ معَ العُسرِ يُسرًا"!

_"صدق رسول الله صلَّ الله عليه وسلم"

خلي بالك من وعودك مع ربنا و أوعى الشيطان يغلبك يا ياسين، من يوم ما اتجوزتك و عمرنا ما فوتنا فرض و عمرنا ما قصرنا في حق ربنا، بلاش الغيبة تخليك تقصر في حق اللي خلقك، و كل ما تحس بخوف، اقرأ الحديث دا مرة و اتنين و تلاتة، و خلي الورقة دي معاك، و أنا هنا هدعيلك، و أسفة على الخط بقى علشان كتباه و أنا بحضر الشنطة"


أبتسم هو باتساعٍ ثم تنهد براحةٍ كبرى و هو يفكر أن حتى في غيابه معه بقلبها، و كأنها تشعر بما شعر به مُسبقًا، ابتسم هو بتأثرٍ و هو يُفكر إن هذا السبب تحديدًا هو الذي جعله يبحث عن أساس الزواج، فلو كان تسرع و قام بالموافقة على أول عروس قابلته منذ البداية، من المؤكد أنه لن يعثر على ذلك الونس قط.

__________________________


في صباح اليوم التالي بعد انتهاء تلك الليلة، و خصيصًا في شركة الشباب تحدث «وليد» موجهًا حديثه لشقيقه:

"وئام، هروح أوضة حسن أخليه يظبطلي الحاجات دي، و هكلم أحمد في المطبعة علشان يتابع معايا من هناك، شوفهم كدا"


حرك رأسه موافقًا ثم أمسك قلمه و هو يخط على الورق بعدة دوائر تتابع خلف بعضها فوق احد الأنماط و هو يقول بهدوء:

"اللوجو دا خاليا فتح من حيث ألواح اللوح العميق الروح، والتاني خاليا بعد السودا والكلمة البيضاء"


حرك رأسه موافقًا ثم أخذ الورق و تحرك نحو غرفة «حسن»، دلفها بثباتٍ واهٍ على الرغم من تعجبه من وجود «حسن» منذ صبيحة اليوم بالعمل، إلا أنه قرر الهروب منهم جميعًا داخل غرفته بعدما القى عليهم التحية بوجهٍ مُقتضبٍ.


دلف «وليد» الغرفة و هو يقول بجفاءٍ و بنبرةٍ جامدة:

"حسن خد صمملي دول و ابتعهم ليا علشان أحمد مستني في المطبعة و عاوز يستلم التصميمات"


مد يده له حتى يأخذ منه الورق دون أن يرفع رأسه و يطالعه، فسأله «وليد» بتهكمٍ:

"فيه إيه يا حسن ؟! هو أنا ابن مرات أبوك ؟! جاي الصبح و داخل في وشك كأنك داخل على يهود، و دلوقتي موطي وشك و مش عاوز تبصلي؟! هو أنا مقرفك؟!"


زفر «حسن» بضجرٍ ثم شبك كفيه ببعضهما و هو يقول بنفس الجفاء:

"عاوز إيه يا وليد؟! أنتَ عارفني مبعرفش اتعامل مع حد و أنا شايل منه، و من الأخر كدا أنا شايل منك"


غلف الاستنكار نظرته و ملامح وجهه، فتحرك «حسن» يقف مقابلًا له و هو يقول بنبرةٍ جامدة:

"روحت لحنان أختي ليه يا وليد؟! روحت تهزقها ليه يا ابن الأصول؟؟ هي دي العِشرة اللي ما بينا؟!"


ابتسم له بتهكمٍ و رافق تلك البسمة قوله الساخر:

" ما شاء الله هي قالتلك ؟؟ لأ قلبها جامد ما شاء الله، أنا قولت إن أختك هتداري عليك من كسوفها و اللي عملته"


اقترب منه «حسن» يمسكه من تلابيبه و هو يقول بنبرةٍ جامدة:

"احترم نفسك يا وليد و متجيبش سيرة أختي على لسانك" 


تحدث «وليد» بتهكمٍ:

"و هي سيرة أختي حلوة لما تيجي على لسان أختك ؟! يا أخي دي دمعتها منشفتش من الكلام و غلط أختك في شرفها، بس أنا هطلقها و أرد حقها كويس، طالما أختك مش هاممها"


شدد «حسن» على ثيابه و هو يقول بذهولٍ من هول الحديث:

"أنتَ بتقول إيه ؟! أنتَ مجنون و لا اتهبلت في مخك؟! أنا مش هسيبك بعد كلامك دا"


رفع «وليد» ذراعيه و قبض على ثيابه هو الأخر فاصبح الوضع صعبًا للغاية و قد

أمسكا في تلابيب بعضهما و كلًا منهما يطالع الأخر بشررٍ يقدح من عينيه مثل السهم، حتى تحدث «وليد» بنبرةٍ جامدة:


"نزل إيدك يا حسن !! نزل إيدك يا هنسى كل اللي بينا في يوم و هقل منك"


زادت مسكة «حسن» على ثيابه و هو يقول منفعلًا في وجهه:

"مش هسيبك !! أنا مش لعبة في ايدك علشان تعمل فيا كدا ؟! أنتَ معندكش دم و لا ضمير، عاوز تتحكم في الكل حتى لو حساب مشاعرهم"


حينها رفع «وليد» يده و باغته بلكمةٍ قوية بعدما حرر كفه، حينها ترنح «حسن» حتى سقط على الأريكة فهجم عليه «وليد» يمسك تلابيبه و هو يقول بلهجةٍ حادة وسط صدمة الأخر الذي طالعه بغير تصديق:

"لحد أخر لحظة أنا كنت شايل خاطرك و خاطر العِشرة اللي ما بينا، بس و اللي خلق الخلق كلهم يا حسن، لأخد حق أختي من عين التخين، و هطلقها منك و أخليك تعرف يعني إيه أنا أناني بجد"


دفعه من يده ثم ترك الغرفة بأكملها و هو يلهث بقوةٍ تاركًا الأخر خلفه يزدرد لُعابه بخوفٍ و قلقٍ من القادم، و هو يشعر و كأنه عروس الماريونت في أيديهم جيمعًا.


زادت النيران به و أشتعل لهيبها أكثر و لكن ما أثار حفيظته هو حديث «وليد» عن شرف زوجته و أن ذلك الحديث خرج من شقيقته !!، اتسعتا حدقتيه فورًا و ركض من الغرفة يلحق بالأخر نحو الغرفة المجاورة التي تجمع بها الثلاثة شباب و «وليد» الذي وقف يلهث بقوةٍ من فرط انفعاله حتى فُتح الباب مرةً واحدة من قِبل «حسن» الذي ركض إليه يمسك مرفقه و هو يقول بنبرةٍ جامدة:

"معناه إيه كلامك دا ؟؟ يعني إيه حنان غلطت في شرفها ؟! رد عليا و مترميش ليا كلام و تهرب"


تحدث «طارق» يسأل بتعجبٍ:

"فيه إيه منك ليه؟! و إيه اللي مبهدلك كدا يا حسن؟!"


رد عليه «حسن» منفعلًا:

"إيه اللي مبهدلني ؟؟ أسأل الاستاذ وليد، قوله بيقول إيه على أختي و بيغلط فيها علشان خاطر أخته ؟! الاستاذ اللي مد ايده عليا"


تحدث «وئام» بصوتٍ من قوته أوقف كليهما:

"نــعــم !! مد إيده عليك ؟؟ أنتَ اتجننت يا وليد ؟؟ اتهبلت ولا إيه"


رد عليه بصراخٍ في وجهه:

"لأ مش مجنون !! بس لما واحدة يتغلط في شرفها و تنزل في نصاص الليالي من غير تعريفة واحدة و توصل لمحافظة تانية مشي من كتر العياط، يبقى لازم اتكلم، البيه جاي يلومني علشان روحت لأخته، أخته اللي اتهمتنا بالسرقة و الاستغلال علشان فلوسه، حنان اللي شايفة الحياة كلها فلوس و بس معندهاش مشاعر و لا ناس بتحس، زعلان أوي علشان بقول قلبها جامد ؟! شوف مراتك اتقال عليها إيه يا حسن و لو أنتَ قبلت أنا مش هقبل و هاخد حقها من عين التخين حتى لو كان قليل الاصل زي اختك كدا"


صرخ «حسن» في وجهه و هو يهزه بعنفٍ:

"أنتَ بتقول إيه ؟! حنان هتقول كدا إزاي ؟! قسمًا بربي لو طلع كلام خايب منك علشان تطلقها مني أنا هعلمك الأدب"


رد عليه بتهكمٍ:

"الأدب اللي أنتَ و عيلتك متعرفهوش يا حسن، أختك اتهمت هدير في شرفها، أختك عايرت أختي إنك اتجوزتها بطلب مني علشان تلحق سُمعة العيلة"


اتسعتا حدقتي «حسن» و ارتخى كفه من على ذراع «وليد» فتحدث «طارق» منفعلًا:

"فيه إيه أنتَ و هو ؟؟ من امتى و الأمور وصلت بينا لكدا ؟؟ فوقوا لنفسكم"


رد عليه «حسن» بوجعٍ:

"أفوق لنفسي ازاي يا طارق ؟! أفوق لنفسي ازاي باللي أنا بسمعه دا ؟! وليد ماسك سكينة و عمال يدبح فيا من غير رحمة، أكيد اللي بسمعه و اللي أنا فيه دا محصلش"


رد عليه «وليد» بنبرةٍ جامدة:

"أنا لما جوزتك هدير كنت عارف أني بساعدك قبل ما أساعدها، كنت بقربك من الحاجة اللي أنت بعدت نفسك عنها، بس لو هيجي حد يدوس عليا و يحسسني إنه صاحب فضل و يحط صباعي تحت ضرسه، أنا هدوس عليه و اقطع دراعي كله يا حسن، و لو على هدير فأنا عارف ازاي هاخد حقها حتى لو أنتَ بنفسك مش مقتنع بالحق دا، و لو مش مصدقني روح اسأل هدير الأول و بعدها روح اسأل أختك عن اللي حصل، و اللي ترضاه يا ابن الحلال أعمله.....عن اذنكم أنا هروح علشان زهقت"


تحدث «وليد» بجملته الأخيرة بنبرةٍ جامدة ثم تحرك من الغرفة و فورًا لحقه «حسن» نحو الخارج حتى خرجا من مدخل البيت و قبل أن يركب «وليد» سيارته أوقفه «حسن» مُسرعًا و هو يقول:

"استنى !! أنا هاجي معاك، هدير عندك و أنا لازم أعرف من مراتي، هتاخدني معاك؟!"


سأله بصوتٍ منكسر، فحرك «وليد» رأسه موافقًا ثم تحدث بايجازٍ:

"اركب يا حسن"

ركب «حسن» السيارة و «وليد» أيضًا حتى يتوجها نحو شقة «وليد» و طوال فترة القيادة كان «وليد» ينظر أمامه و بين الحين و الآخر يرمق «حسن» بطرف عينيه يراقب حالته و الأخر في وادٍ غير الوادي و تبدل حاله في خلال دقائق و ظل شاردًا في حديث الأخر و الدموع المتحجرة في عينيه و الغصة المريرة تخيم على حلقه، شعر «وليد» بمعاناته و به لكن لم يكن هناك حلًا أخر، إن لم تتضح الأمور بهذا الشكل، فلن يتم حلها من الأساس.


توقفت السيارة أسفل البناية، ثم نزلا كليهما من السيارة، دلف «وليد» أولًا و «حسن» خلفه، حتى وقفا أمام باب الشقة و قبل أن يدخل أيًا منهما رفع «وليد» صوته و هو يقول:

"عـبـلة !! غطوا راسكم انتم الاتنين، و تعالوا"


خرجت «عبلة» أولًا و «هدير» خلفها بتعجبٍ دون أن يأتِ في مُخيلتها أنه حضر مع «وليد» حيث ظنته «وئام» في بادئ الأمر، خرجت بهدوء و رفعت رأسها بغتتةً حتى وقع بصرها عليه، و التحمت عينيهما معًا في عتابٍ صامت من كليهما على ما فعله بالأخر و على تخليه عنه، لم تستطع الهروب من نظراته أو حتى اخفاء عينيها عنه، بل ظلت كما هي و هو يطالعها بشوقٍ بالغٍ، حتى تحدثت «عبلة» بهدوء:


"نورت البيت يا حسن، اتفضل يلا ، أدخل يا وليد و اقفل الباب"


دلفا كليهما و قبل أن تلتفت «هدير» و تنجو من ضعفها أمامه نحو الداخل، اوقفها «وليد» بقوله:

"استني يا هدير !! الهروب مش هيحل حاجة، اسمعي جوزك عاوز يقول إيه و بعد كدا ادخلي"


توقفت عن الحِراك و سكنت حركتها، فاقترب منها «حسن» يقف مقابلًا لها و هو يقول بنبرةٍ مهتزة و بصوتٍ مختنقٍ:

"أنا جاي علشان أعرف منك أنتِ حصل إيه يومها، قوليلي و عرفيني حصل إيه علشان اصحى ملاقيش وجودك جنبي و الاقي الحاجة الوحيدة اللي برتاح معاها طالبة تسيبني، حصل إيه يا هدير و لو ليا غلاوة عندك احكيلي"


نزلت دموعها و هي تقول بصوتٍ منكسر:

"و أنا مش عاوزة احكي يا حسن، مش عاوزة افتكر كسرة خاطري تاني، أبوس إيدك انساني و سيبني و أنا راضية بكل حاجة"


رد عليها هو بنبرةٍ جامدة:

"الكلام دا مش نافعني تاني، وليد قالي إن أختي غلطت فيكي و اتهمتك في شرفك، حنان اتهمتك بحاجة زي دي؟! ردي عليا؟!"


شخصت ببصرها نحو موضع وقوف «وليد» الذي التقط نظرتها فتحدث بثباتٍ:

"ردي عليه يا هدير، عرفيه علشان السكوت مش نافع، و قبل ما حسن يعرف خبيتي عليه ليه، هدير لحد أخر لحظة شايلة خاطرك و منظر أختك قدامك، أسمع من مراتك و أنا هدخل اغير هدومي...يلا يا عبلة"


امسك كف زوجته ثم توجه بها نحو الداخل، بينما «حسن» امسك يدها و هو يقول متوسلًا لها:

"انطقي يا هدير و قوليلي حنان قالتلك إيه، انطقي علشان خاطري و ريحي قلبي"


حركت رأسها موافقةً و قبل أن تتحدث اجهشت في البكاء و هي تتذكر وقع الكلمات عليها في ذلك اليوم، بينما هو خطفها بين ذراعيه و هو يربت فوق ظهرها و رأسها، فتحدثت هي من بين شهقاتها:

"أنا اتوجعت منها أوي يا حسن.....محدش كسرني كدا في حياتي.... أنا كرهتها و كرهت نفسي... و دا غصب عني و الله، و مش عاوزة أكرهك أنتَ كمان"


ارخى ذراعيه فوقها و أخفض رأسه يسألها مستنكرًا بنبرةٍ متحشرجة:

"تكرهيني ؟! أنا عملتلك إيه يا هدير علشان تكرهيني؟؟ أنا اذيتك في إيه ؟!"


ردت عليه هي ببكاءٍ:

"حنان قالتلي إنك عرفتها سبب جوازنا و إنك اضطريت توافق علشان منظر العيلة و علشان تلحق سمعتهم، شوفت كسرة أكبر من دي؟! شوفت وجع لبنت زي دا يا حسن؟!"


وقف مصعوقًا من هيئتها و صوتها و نبرتها المنكسرة حتى عينيها اللاتي اخفضتهما بوجعٍ و انكسارٍ منه، بينما هو زاد نحيبها من كثرة الشوق و الضعف أمامه فهي الآن تود فقط مجاورته حتى و إن كان مُخطئًا في حقها، بينما هو شدد عناقه له و بكى معها هو الأخر و كليهما يتشبث بالأخر و هو يرى بيه طوق النجاة، كل ذلك تابعه «وليد» من خلف باب الغرفة حتى نزلت دموعه شفقةً عليهما، فأتت «عبلة» من خلفه تضع يدها على كتفه، التفت هو لها بعينيه الدامعة، فسألته هي بتأثرٍ:

"بتعيط ليه يا وليد ؟؟ مش دا اللي كنت عاوزه من الأول ؟!"


رد عليها بصوتٍ مختنقٍ:

"صعبانين عليا يا عبلة، ميستاهلوش الوجع بالطريقة دي و حسن قلبه مكسور و يا رب هدير تفهم أنه محتاجها أكتر من أي وقت، و يا رب ميتغابوش هما الاتنين"


حركت رأسها موافقةً ثم تحدثت بنفس الصوت المختنق:

"متخافش.....هدير بتحب حسن بجد و طالما هو عرف الحقيقة يبقى متقلقش"


سحبها «وليد» بين ذراعيه و هو يشدد عناقه عليها و كأن الفقد عدوى و خشى هو أن تصيبه فرأى أن أسلم حل هو أن تتشبث به و تبقى بجواره.

__________________________


خرجت من الامتحان و هي تزفر بضيقٍ بعد يومٍ عصيبٍ في برودة الجو و صعوبة الاختبار و يجب عليها التوجه نحو المركز التعليمي للحصول على مذكرات الامتحان القادم.


توجهت نحو المركز و منه نحو مكتب الاستقبال تسأل بايجازٍ:

"عاوزة ملازم علم النفس تانية ثانوي و ملازم الجغرافيا"


ردت عليها الفتاة بأسفٍ:

"للأسف خلصوا و المشرفين خدوا الباقي، ممكن تكلميهم و تشوفيهم في أنهي سنتر دلوقتي و هما هيعرفوكي و تروحي تاخديهم"


سألتها بنبرةٍ جامدة:

"أنا مش فاهمة إيه الأسلوب دا ؟! الامتحان بعد بكرة يعني بدل ما استغل الوقت و اذاكر هروح ادور على الملازم ؟! هو دا تقدير الطلاب؟!"


ردت عليها الفتاة بطريقةٍ أثارت استفزازها:

"أنتِ بتتكلمي كدا ليه يا آنسة، قولتلك كلمي المشرفين و هما يعرفوكي المكان و روحي ليهم، هما احرار ميسيبوش الملازم، بس الحقي قبل ما يخلصوا"


زفرت «خلود» في وجهها ثم التفتت تغادر المكان و نزلت من المركز التعليمي و قبل أن تحدد وجهة معينة أخرجت هاتفها تطلب رقم المشرف حتى تتوجه له، و قبل أن تكمل المكالمة وجدته يأتي لها من على بعدٍ، حينها التفتت توليه ظهرها بقلقٍ و توترٍ خصيصًا و هي ترتدي الزي المدرسي و كان عبارة عن بنطال رياضي باللون الرمادي الغامق و فوقه تيشيرت باللون "الموڤ القاتم" و فوقه معطف شتوي باللونين مع بعض و حجاب باللون الرمادي و حقيبة تقارب الزي في لونه و حذاء رياض باللون الابيض، على الرغم من أن الزي لم يكن سيئًا لكنها تكرهه و تكره أن يراها به شخصٌ ما.


وقف خلفها يحمحم بخشونةٍ،فضغطت على جفنيها و هي تقول بنبرةٍ هامسة:

"يلهوي دا عرفني !! يا رب الأرض تتشق و تبلعني"


تحدث هو من خلفها بثباتٍ:

"لو زعلانة مني أو وشي مضايقك أوي كدا أنا ممكن امشي عادي"


التفتت له بحرجٍ من موقفها، فلم يستطع الثبات أمام توترها فسألها بهدوء:

"حد مزعلك ؟! واقفة بضهرك ليه كدا ؟!"


ردت عليه هي بعدما استعادت ثباتها:

"كل الحكاية بس أني... أني، آه، كنت بشوف الموبايل علشان الشمس ضاربة فيه، المهم حضرتك عاوز حاجة معينة؟!"


حرك رأسه نفيًا و هو يبتسم لها ثم فتح حقيبة ظهره يخرج منها شيئًا و أغلقها من جديد، عقدت ما بين حاجبيها فمد يده لها بالمذكرات و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"الملازم أهيه، للأسف هما خلصوا بدري المرة دي علشان مكانش فيه مراجعة، بس متقلقيش أنا كنت موصي عليهم"


ردت عليه هي بجمودٍ:

"بس أنا متأسفة مش هقدر اخدهم، المرة اللي فاتت أحمد كان عارف و هو اللي كلمك، المرة دي مش هقدر، اعذرني"


لم ينكر إعجابه بموقفها، لكنه وأد نظرته تلك و هو يقول بثباتٍ:

"حقك و مش هقدر أقولك حاجة، بس كلمي أحمد كدا و شوفي رأيه، و على فكرة أنا مبتصرفش من دماغي، كلمي أحمد"


أخرجت هاتفها تطلب رقم أخيها، و فور وصولها صوته، تحدثت هي بتوترٍ:

"أحمد !! أستاذ عمار دلوقتي جايب ملازم ليا عند السنتر، أخدهم ؟! و لا تيجي بليل معايا و نشوفهم في سنتر تاني؟!"


رد عليها بثباتٍ:

"خديهم يا خلود من عمار، هو أصلًا كلمني و طلب مني يجيبهم ليكي علشان الامتحان بتاعك متأخر عن ميعاد المشرفين، خديهم علشان تروحي ترتاحي و تذاكري مفيش وقت تضيعيه لحد بليل"


ردت عليه هي بتفهمٍ:

"تمام يا أحمد، أنا بس قولت اتأكد منك، تمام عاوز حاجة مني"


_"آه عدي الطليفون لمار علشان أكلمة وأشخرة، كتار خيرة تعبان معانة وعقد معطلنة"

رد عليها هو بذلك، فاعطت هي الهاتف لـ «عمار» و هي تقول بصوتٍ خافتٍ:

"أحمد عاوز يكلمك يا أستاذ عمار، اتفضل لو سمحت"


حرك رأسه موافقًا ثم أخذ منها الهاتف، و هاتف شقيقها الذي حدثه ممتنًا له:

"شكرًا يا عمار، ربنا يكرمك يا رب و معلش على تعبك معانا، ربنا يوقفلك ولاد الحلال و ورقك يقع في ايد مصحح ابن حلال"


أبتسم «عمار» و هو يرد عليه بودٍ:

"متقولش كدا يا أحمد، أنا عيوني ليكم، ربنا يوفقها و ينجحها إن شاء الله، تؤمرني بأي حاجة ؟!"


_"تسلم يا حبيبي، عاوز أشوفك بس و أشوف عبدالرحمن، سلملي عليه و أنا قريب هشوفكم"


_"يوصل يا حبيبي إن شاء الله، عن اذنك بقى علشان يدوبك هروح ارتاح و اصحى اذاكر شوية، سلام عليكم"


أغلق معه الهاتف ثم مد يده لها به، فأخذته منه و هي تبتسم بتوترٍ ثم أخذت المذكرات بعدما مد يده لها مرةً أخرى، و قبل أن يغادر من أمامها أوقفته و هي تمد يدها بالاوراق المالية و تقول:


"فلوس الملازم يا أستاذ عمار، مش هتاخدهم برضه المرة دي كمان؟!"


أبتسم لها و هو يقول بثباتٍ:

"هاتي بيهم شاورما"


رحل بعد جملته و هو يبتسم بخفةٍ و هي في أثره تنظر بدهشةٍ و سرعان ما ابتسمت بخجلٍ و تنهدت بعمقٍ و هي تفكر أنه الوحيد الذي تشعر بعدة مشاعر غريبة عليها حتى و إن كانت أكبر من سنها الطبيعي إلا أنها تشعر بلذاذتها.

__________________________


خرج «ياسين» منذ شروق الشمس وسط العُمال ليتعرف على ماهية العمل الذي توقف قبل مجيئه لعدة أيامٍ، وقف وسطهم يلقي عليهم التعليمات و طريقة عمله و هم ينصتون له بكامل تركيزهم، فانهى هو حديثه ثم اشار لهم أن يتحركوا من أمامه، و في تلك الأثناء وقف نفس الرجل يراقبه ثم أخرج هاتفه الذي يعمل في الصحراء و الظروف العصيبة مثل ظروف ذلك العمل:

"المهندس بدأ في الشغل و العمال موجودين معاه، أتدخل؟!"


وصله الرفض من الجهة الأخرى فتحرك هو بعدما رمق «ياسين» وسط التجمع بشررٍ و تحرك من المكان و الآخر غافلًا عن تلك النظرات و المراقبات و لم يأت في مخيلته بعد أن يحدث له ذلك.

__________________________


جلس كليهما على الأريكة، هي تقص عليه ما حدث ذلك اليوم و كيف تعاملت معه شقيقتها و كيف نزلت دون أن تحدد وجهةً مُعينة، و قامت بسرد كامل التفاصيل حتى تلك اللحظة و هي تجلس بجواره و تقص عليه معاناتها، أنهت سرد التفاصيل ثم رفعت رأسها تطالعه بعينيها و هي تقول بصوتٍ منكسر باكيًا:


"اللهم احصل على كل شيء وسأكون في حرف واحد، والله حيثما تسألني، فإنك تخاف من اللحظة التي يكون فيها لقاءنا شر وأنت أمين.


امسك كفيها و هو يقول مُسرعًا:

"مين اللي ميصدقكيش أنا ؟! دا أنا الوحيد اللي شوفت فيكي الخير يا هدير في الوقت اللي كنتي شايفة في نفسك الشر، أنا اللي هسألك سؤال واحد !! أنتِ صدقتي أني ممكن أقول لحنان حاجة زي دي؟! تصدقي عني أني أكسرك كدا أو أكون سبب في كسرتك حتى ؟!"


ردت عليه بنبرةٍ باكية:

"حط نفسك مكاني يا حسن، واحدة بتقولي على سبب جوازنا اللي محدش يعرف عنه غيرنا، و كمان تفاصيل لو حد سمعها هيعرف أنه مستحيل الكلام دا يكون تخمين، قولي أختك عرفت منين طيب ؟!"


اخفض رأسه بانكسارٍ فلم يقوى على قول ذلك و أنه من المؤكد أن شقيقته تنصصت عليهما في غرفتهما، بينما هي سألته بوجعٍ من طريقته:


"رد عليا يا حسن !! أختك عرفت منين؟؟ عندك علم أنا شوفت ليلة عاملة إزاي ؟؟ عارف أنا كنت بعيط ازاي من خوفي؟! تعرف لما عبلة ردت عليا أنا حسيت بإيه؟؟ أنا اتمنيت الموت في اللحظة دي من خوفي يا حسن، بس أنتَ متعملش كدا صح؟!"


سألته بصوت ظهر به التوسل بألا يخيب ظنها، حتى اقترب منها هو يقبل رأسها ثم نظر لها بعينين دامعتين و هو يقول:


"حقك عليا يا هدير.....حقك عليا من كل الدنيا حتى من قبل ظهوري في حياتك، بس حقك أنا هجيبه بطريقتي و من نفسي قبل الكل، حقك عليا"


بكت و هي تستمع لكلماته بينما هو وقف ثم التفت حتى يغادر الشقة، فزاد بكائها و هي تذكر اسمه، فركض «وليد» من الداخل إثر صوت صرخاتها، فتحدثت هي بخوفٍ من بين دموعها:

"شوفوا راح فين يا وليد علشان خاطري، أنا مكانتش عاوزاه يعرف أصلًا، روح وراه علشان خاطري"


ركض «وليد» من الشقة فورًا و نزل للأسفل فوجده يركب سيارة أجرة ثم توجه نحو شقته، فركب سيارته يلحقه نحو وجهته و التي من المؤكد أنها ستكون نحو بيته حتى يتواجه مع شقيقته.


وصل «حسن» أولًا و دلف شقته و هو يضرب الأرض أسفل قدميه فكلما اقترب منها بالخطى شعر بالنيران تزداد أكثر، وصل لغرفتها ففتح الباب عليها و هي تتابع التلفاز و حينما رأته سألته باهتمامٍ:

"حسن ؟! خير يا حبيبي مش في شغلك ليه ؟! و لا البهوات طردوك منه علشان أختهم؟!"


اقترب منها يغلق التلفاز ثم وقف مقابلًا لها و هو يقول بنبرةٍ جامدة:

"حنان ؟! هو أنتِ غلطتي في شرف مراتي و اتهمتيها إنها غلطت مع راشد ؟؟ أنتِ وقعتي بيني و بين مراتي و فهمتيها أني كسرت عينها قصادك؟"


هبت منتفضة و هي تقول بصوتٍ عالٍ:

"أنتَ مجنون ؟؟ بتكلمني كدا ليه ؟؟ هما عرفوا يقلبوك عليا يا حسن؟! هتصدقهم و تسمع كلامهم ؟؟ فوق لنفسك يا حسن"


اقترب منها يمسك مرفقها و هو يقول بنبرةٍ جامدة:

"قسمًا بالله يا حنان لو ما قولتي حصل إيه لاوريكي وش تاني يزعلك مني العمر كله، انطقي عملتي إيه في مراتي ؟! بتصنتي عليا أنا و مراتي ؟؟ بتقهري واحدة يتيمة زي دي بدل ما تكوني أم ليها؟! ردي عليا ؟! مين اداكي الحق إنك تعملي كدا؟!"


وصل «وليد» و حاول يطرق باب الشقة و حينما لم يجد ردًا قرر أن يستخدم المفتاح الذي أعطاه له «حسن»، و في الداخل سألها هو منفعلًا:

"ردي عليا مين اللي اداكي الحق إنك تخوضي في شرفها كدا، مين قالك تكسري عين مراتي كدا و تقهريني قصادها ؟! أنا مصعيبتش عليكي طيب؟!"


ردت عليه هي بنبرةٍ جامدة:

"علشان دي الحقيقة، عرفوا ازاي يستغلوك يا حسن، و ازاي يخلوك تحاسب على المشاريب، بيضحكوا عليك بشوية الاهتمام لحد ما فلوسك تروح ليهم و تخلص و في الأخر أنا مليش حق حتى فيك أنتَ، فـــوق لـنـفسك"


هزها في يده بعنفٍ و هو يقول بوجعٍ باكيًا بنبرةٍ متالمة:

"و أنتِ كنتي فين يا حنان ؟! كنتي فين و أنا بنتحر بدل المرة اتنين؟؟ كنتي فين و أنا يتيم مليش حد في الدنيا و طول عمري لوحدي بين اربع حيطان، كنتي فين في أول يوم رمضان و أنا لوحدي و الكل وسط عيلتهم و أهلهم و أنا لولا عم مرتضى و أنه يصمم أفطر وسطهم كان زماني ميت من القهرة، كنتي فين و أنا أول يوم العيد نايم علشان أهرب من وجعي و أنا لوحدي، كنتي فين و أنا بتعب و بنام لوحدي هنا و مفيش حد معايا يطبطب عليا، كنتي فين وأنا برجع من الشغل تعبان و كل اللي عاوزه حضن اترمي فيه علشان يهون تعبي، كنتي فين و أنا مرمي في الحبس وسط ناس مش شبهي علشان حماتي اتبلت عليا ؟!"


وقف يبكي بوجعٍ فأضاف بنفس الآلم:

"يا شيخة دا أنتِ بنفسك مجيتيش اليوم دا علشان جوزك مسافر، اليوم دا عم مرتضى و وليد كانوا بيلفوا على رجليهم علشان مقضيش الليلة في الحجز، و طارق و وئام ناموا في العربية قدام القسم و محدش فيهم مشي خطوة غير و أنا معاهم، كنتي فين و أنا كل يوم بكره حياتي و وحدتي؟!"


"كنتي فين و أنا بمسك فيها زي الغريق اللي لقى قشاية، أنا من غير هدير مليش حياة يا حنان، يا شيخة حرام عليكي على قهرتي عمر كامل، الـضـرب فـي المــيـت حــرام يــا حــنـان، و أنا ميت و الله، و الله العظيم ميت و مش عاوز غيرها هي"


وقف «وليد» في الخارج يستمع للحديث الدائر بينهما بوجعٍ على صديقه، حتى صدمه القول الآتي الذي خرج منها بنبرةٍ جامدة:

"و أنتَ فضلتهم هما عليا، هما اللي عيلتك و أنا لأ، كان ممكن تضحي علشاني و تيجي معايا اسكندرية، بس أنتَ سمعت كلامهم، قولتلك تعالى هات فلوسك و أشتغل مع جوزي بس أنتَ رفضت و روحت اشتغلت معاهم هما، كل حاجة تختار وجودهم، عاوزني أشيل همك كمان و أنتَ مسلم حياتك ليهم؟"


طالعها «حسن» بعينين باكيتين فزادت هي من لهيب جرحه و هي تقول:

"جرى إيه يا حسن ؟؟ جرى إيه يا وصية أبويا و أمي ؟؟ حتة بت زي دي هتنسيك الأصول و تنسيك أختك ؟! بس معلش ملحوقة، قدامك فرصة تختار يا حسن، يا أنا يا هي، أختار ما بينا، بس خليك فاكر إن الاختيار ليك أنتَ و بس و بناءً عليه كل حاجة هتتحدد"


وقف «وليد» بتيهٍ لا يصدق أن ما يراه حقيقيًا، بالطبع هذا جنون نتج من عبث تفكيرها، بينما «حسن» و كأنه ضرب على رأسه من هول المفاجأة و الصدمة، فكيف أن تصبح أخته بكل ذلك الجمود و كيف لها أن تخيره بينها و بين أخرى حتى و إن كانت له حرية الاختيار ؟!

الفصل الثالث والستون من هنا


تعليقات



×