رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الستون بقلم شمس بكري
"فكيف لـ مُـري أن يُطيب ؟!
و أنا من تركني الحبيب..."
__________________________
"أشعر و كأن روحي فارقت جسدي و فلت بعيدًا عني، سرتُ خاويًا مثل ورقةً ممزقة تملؤها الثقوب و أنا هنا عانيت من ويلاتي و على أمري مغلوب، فلا يسعني الكون و لا أنا بـ محبوب، و راح قلبي يتساءل هل أنا مليءٌ بالعيوب، أم أنَّ وجعي في لوحي مكتوب؟!
نزلت دون أن تعي عواقب ما هي مُقدمةً عليه، و لكن جرح كرامتها جعلها تود الهرب بعيدًا و هي تكاد تُجزم بأنه جرحها ذلك لن يداويه ألف طبيب، سارت دون وجهةً مُحددة و دموعها تنهمر على خديها كمثل الشلالات و هي تسير متسرعة الخُطى تأخذ الخطوة في اثنين حتى أنها لا ترى أمامها شيئًا.
فقط خيالات متحركة من كثرة تشوش رأسها من شدة دموعها التي غطت على رؤيتها المُجردة للأشياء، حتى توقفت عن السير و كأن قدماها لن تُكمل تلك المهمة و أعلنت التوقف، وقفت تلهث بقوةٍ و الحديث يتردد على مسامعها و كأنها تقوله لها من جديد، رفعت كفيها تُغلق أذنيها حتى تصمها عن تلك الكلمات المؤذية و حينما زاد ارتفاع الكلمات ارتمت على ركبتيها و هي تصرخ بوجعٍ و الدموع تمتزج بشهقاتها و نحيبها الذي أخذ يزداد.
و فجأة تحققت أكبر مخاوفها و مرت قطة سوداء بجوارها و هي تموء بصوتٍ عالٍ فركضت «هدير» مُسرعةً دون أن تقصد وجهة معينة، و في تلك اللحظة ودت لو هاتفته حتى تطمئن بسماع صوته، لكن حتى هاتفها فقد طاقته و نفذت بطاريته في ثوانٍ فتأكدت أن تلك الليلة لن تمر مرور الكرام عليها.
__________________________
وقف «ياسين» مشدوهًا من حديث رئيسه بعدما ترك الفراش ، فأكد عليه المتحدث قوله:
"ياريت الرد يوصلنا يا أستاذ ياسين، حضرتك ناوي تسافر تباشر إدارة المشروع ولا لأ؟؟ لو حضرتك موافق ياريت تجهز علشان الاتوبيس هيتحرك الفجر"
شد على فروة رأسه ثم حرك رأسه للجهة الأخرى ينظر لها فوجدها تحرك رأسها موافقةً بقلة حيلة و عبراتها تنساب على وجنتيها، حرك رأسه باستفسارٍ و كسا الاستنكار ملامح وجهه، فهزت رأسها موافقةً له مرةً أخرى، حينها تحدث هو بتيه يجاوب على حديث الأخر:
"تـم....تمام يا فندم، حاضر هجهز نفسي و اتحرك إن شاء الله"
رد عليه الأخر بارتياحٍ:
"تمام يا ياسين، و أنا هبعتلك حالًا تفاصيل المكان و رقم الباص اللي هتتحرك بيه"
أغلق المكالمة معه ثم اقترب منها يجلس بجوارها وهو يسألها بتوجسٍ و حذرٍ:
"خديجة !! أنتِ موافقة أني أسافر ؟! أنا كدا همشي النهاردة و أسيبك ؟! فاهمة أنتِ وافقتي على إيه؟؟"
رفعت كفها تمسح دموعها بعنفٍ ثم حركت رأسها موافقةً و تحدثت بصوتٍ مختنقٍ:
"حرام عليا أكون أنانية علشان نفسي و بس، روح يا ياسين و خلي بالك من نفسك، شوف شغلك و أهتم بمستقبلك، حرام تضيع كل حاجة من إيدك علشاني"
خطفها بين ذراعيه في عناقٍ قويٍ و هو يتشبث بها و يشدد مسكته لها، و كعادتها كلما تذكرت أنها ستحرم من هذا العناق بكت و هي تتمسك به.
__________________________
كان «خالد» واقفًا في المطبخ بجوار زوجته و «يونس» على كتفيه يهز قدميه بمرحٍ و هو يضرب والده في منكبيه، و الأخر يقوم بتقطيع الخضروات لعمل "السَلطة" و زوجته تقوم بطهي الطعام أمام البوتجاز، و فجأة ضرب «يونس» والده حتى يشاكسه، فتحدث «خالد» مُحذرًا له:
"هرميك من على كتفي يا حيوان !! لم نفسك يا يونس"
ضحك الأخر ثم أخفض نفسه يقبل خَد والده بمرحٍ ثم قام بعضه و هو يضحك بقوةٍ فتأوه «خالد» ثم تحدث بنبرةٍ جامدة:
"هو أنا مخلف كلب !! اقسم بالله هرميك على البوتجاز، أنا مجنون"
تحدثت «ريهام» بيأسٍ منهما:
"هو انتو ضراير !! فيه منك ليه ؟؟ بطلوا فضايح بقى"
تحدث «خالد» بسخريةٍ:
"الحيوان اللي قاعد فوق كتافي دا عمال يضرب كل شوية و أنا ساكتله، كفاية سايبه قاعد على كتافي و محسسني أني شمبانزي و ابنه في الجبلاية"
ضحكت «ريهام» بقوةٍ و هي تتخيل هيئتهما بتلك الطريقة، فسألها هو بغموضٍ غلف نبرته:
"بتضحكي علي إيه يا سكر ؟! شكلك هتطردي أنتِ و القرد اللي على كتافي دا"
ردت عليه هي بنبرةٍ جاهدت حتى تتفوه بها بسبب كثرة ضحكاتها:
"بتخيل شكلكم أنتم الاتنين و أنتم في المطبخ كدا مقفول عليكم زي القفص و أنا برميلكم موز و سوداني"
تحدث هو بغير تصديق و حنقٍ من حديثها و ضحكاتها:
"طب أرمي عليها يمين الطلاق دي و لا أعمل فيها إيه ؟! اضحكي ياختي، اضحكي، إن شاء الله هجيلك في القفص اللي جنبنا"
ضحكت مرةً أخرى ثم التفتت حتى تباشر طهي الطعام، بينما هو رفع ثمرة الخضار في يده و هو يقول بسخرية لابنه:
"كُل يا يونس، معلش بقى مفيش موز، الجنينة لسه محنتش علينا"
ضحكت هي بسخريةٍ و هو يطعم ابنه الخضروات و الأخر يأكلها بمرحٍ حتى صدح صوت هاتف «خالد»، فمسح يده في المناديل الورقية الموجودة أمامه ثم أخرج الهاتف من جيب بنطاله، و حينها وجد رقم «ياسين»، رد عليه بمرحٍ:
"يا مساء العسل يا غالي، خير"
تنهد «ياسين» بعمقٍ ثم تحدث بنبرةٍ مهتزة و كأنه مجبورًا على ذلك الحديث:
"خير.... المهم يا خالد أنا مسافر الفجر، عاوزكم معايا و أبويا و أمي جايين في السكة"
سأله «خالد» بذهولٍ و استنكارٍ:
"الفجر !! إزاي دا ياخويا ؟! مش قالولك رد علينا ؟! هو هبل؟!"
رد عليه بنفاذ صبرٍ:
"يا خالد هعمل إيه يعني؟! الاتوبيس هيتحرك الفجر و أنا لازم أكون مستني هناك، هتيجي معايا ؟!"
رد عليه بنبرةٍ أقرب للانفعال:
"هي محتاجة سؤال !! أكيد هنيجي مع أخونا طبعًا، هتنزل امتى ؟!"
رد عليه بصوتٍ مختنقٍ:
"لما أجهز أنا و خديجة هكلمك، كلم ياسر و عامر و عرفهم، و أنا هكلم ميمي"
أغلق معه الهاتف و العبرات تلمع في عينيه، ثم زفر بقوةٍ فاقتربت منه «ريهام» تسأله بحذرٍ:
"قلبت وشك كدا ليه؟! و رايح فين يا خالد ؟!"
رد عليها بنبرةٍ حزينة:
"ياسين مسافر يا ريهام، ماشي الفجر خلاص، اللي مزعلني إنه مش هستحمل يكون لوحده، ياسين هيتعب هناك من غيرنا"
ربتت على كتفه و هي تقول بهدوء:
"متقلقش، ربنا يسترها عليه إن شاء الله، متخافش كل حاجة هتتحل"
حرك رأسه موافقًا على مضضٍ ثم أنزل ابنه من على كتفه و هو يقول بصوتٍ مختنقٍ استشفته هي في كلماته:
"أنا هدخل أجهز هدومي، هاتي يونس معايا علشان ياسين يسلم عليه، تقلي عليه بس"
حركت رأسها موافقةً فتحرك هو من أمامها و ترك المطبخ حتى لا يفتضح أمره و تنزل دموعه بفراق أخيه، فمنذ حوالي ستةْ عشر عامًا و لم يأت اليوم الذي تفرق فيه أيًا منهما عن الأخر، فكيف يتركهما «ياسين» و ينقص المربع ضلعًا ؟!.
عاد «ياسين» لترتيب حقيبته و هي تعاونه في ذلك و تضع له كل ما قد يحتاجه، هربًا من سلطة البكاء عليها، و كان هو يضع أشيائه الخاصة، ثم أخرج هاتفه و تذكر أن هناك شخصًا يجب أن يكون موجودًا حتى يجاورها في معضلتها، و هو «وليد».
كان «وليد» فوق سطح البيت مع العائلة و هم يضحكون و يتسامرون سويًا، بينما هو أخذ «فارس» على ذراعه يحمله و هو يبتسم له و بين الحين و الأخر يداعبه و الآخر يبتسم بخفةٍ و كأنه يفهم مداعبة الأخر له، حتى صدح صوت هاتفه برقم «ياسين»، أخرج الهاتف و قام بالضغط على زر الايجاب، فرد عليه «ياسين» بنبرةٍ منهكة:
"وليد !! أنا مسافر الفجر و عاوزك تكون مع خديجة، كلموني و لازم اتحرك النهاردة"
رد عليها بتفاجؤٍ:
"أنتَ متأكد إنك ماشي النهاردة ؟؟ طب خديجة عرفت و لا لسه؟!"
حرك «ياسين» رأسه نحوها يطالعها بطرف عينه فوجدها تتحرك مثل التمثال بدون روح، حينها تنهد بقلة حيلة ثم تحدث يجاوبه بقوله:
"عرفت، و علشان كدا عاوزك تكون موجود، أنتَ أكتر واحد خديجة هتتقبل وجوده في عدم وجودي، معلش محتاجك ضروري"
رد عليه الأخر مُسرعًا:
"من غير ما تقول أنا في ضهرك يا ياسين، مش هتوصيني على أخواتي، هجيلك على الشقة"
اتفق معه ثم أغلق المكالمة و اقترب منها مرةً اخرى، فتحدثت هي بصوتٍ مختنقٍ متحشرجٍ:
"أنا كدا خلصت الشنطة و فيها حاجتك كلها، ناقص حاجة تاني؟"
حرك رأسه نفيًا بالسلب، فهزت هي رأسها بايماءةٍ موافقةٍ فتحدث هو بهدوء و حديثه خرج كأنه يتوسلها:
"لو ينفع بس تضحكيلي قبل ما أمشي يبقى كتر خيرك، و كدا تبقى كل حاجة تمام"
رفعت عينيها تطالعه بدموعٍ تحجرت و تعلقت بأهدابها، فتحدث هو يمازحها بمشاكسىةٍ:
"طب أقولك حاجة و متضحكيش؟!"
ضحكت هي رغمًا عنها من بين دموعها حينما قلد طريقتها و نبرة صوتها في الحديث، فاحتضنها و هو يضحك بغلبٍ و قلة حيلة و هو يقول بوجعٍ خرج من قلبه:
"آاااه....فراقك أصعب من خروج الروح من الجسم و الله، مش سهل على الإنسان إنه يسيب دنيته و يتغرب، بس غصب عني و الله مجبور على الفراق، عاوزك تعرفي إنك مش حد عادي و أني واثق فيكي، و عارف إن سايب ورايا رجالة زي ما بتقولي، مش عاوزك تزعلي و عاوزك علطول واثقة في نفسك قبل أي حد، و افتكري إني شهدت على نجاحك و تعافيكِ، و اعرفي إن ياسين الشيخ مشغلهوش غير عيونك أنتِ، و أنتِ عيونك قتالة...."
ابتسمت هي بين ذراعيه فربت على ظهرها و هو يتنهد براحةٍ، حتى استمعا كليهما لطرقاتٍ على باب الشقة، فابتعدت عنه و هي تقول بهدوء رغم تحشرج صوتها:
"دول أكيد طنط و عمو، أنا هروح افتحلهم و أنتَ شوف هتلبس إيه و أنتَ نازل"
حرك رأسه موافقًا ثم تابعها حتى اختفت من الغرفة، و حينها فتح حقيبتها يضع بها خطابًا كتبه بخط يده لكن حروفه خرجت من قلبه قبل يده، ثم تنهد بعمقٍ و العبرات وخذها يزداد في عيونه.
__________________________
بعد مرور ساعتين تحديدًا من نزول «هدير» من الشقة، كان «حسن» نائمًا على الفراش بعدما غاص في ثباتٍ عميقٍ، تقلب على الفراش أثناء نومه حتى وصل للطرف الآخر، لاحظ هو أثناء تقلبه خلو الفراش منها و هذه لم تكن عادتها، ففي كل ليلةٍ تندس بين ذراعيه و ترغمه على احتضانها بعدما تشاكسه بحديثها.
رفع رأسه يتفحص الفراش فوجده فارغًا منها، و كذلك الغرفة بأكملها، تثاءب هو بقوةٍ ثم سحب هاتفه من الطاولةِ المجاورة للفراش يتفحص الوقت فوجد الساعة تشير إلى
"الواحدة صباحًا"، عقد ما بين حاجبيه تعجبًا من عدم تواجدها ففي ذلك الوقت يكون كليهما نائمًا.
خرج من الغرفة يناديها بصوتٍ متحشرجٍ نتيجة استيقاظه و هو يقول بصوتٍ عالٍ بعض الشيء:
"هدير....هدير....هدير أنتِ فين ؟!"
تفحص المرحاض و المطبخ و الشرفة التي كانت أخر أمله حتى انتاب القلق قلبه و طرق غرفة أخته بقوةٍ و هو يناديها بجمودٍ و لهجةٍ حادة:
"حنان !! حنان افتحي الباب، اصــحـي يا حنان !!"
فتحت له شقيقته الباب بملامح وجه ناعسةً بعدما نامت نومةً هانئةً غافلةً عن كم الأذى الذي تسببت به لـ «هدير»، فسألته هي بتعجبٍ:
"فيه إيه يا حسن حد يصحي حد كدا ؟! خضتني، مالك على المِسا"
سألها بنفس الجمود:
"هدير فين يا حنان ؟! قلبت عليها الشقة كلها مش موجودة، ردي عليا هدير فين ؟!"
ردت عليه بثباتٍ:
"الحلوة كانت عاوزة تمد ايدها عليا، بترفع أيدها على واحدة مش من مقامها، هتلاقيها مشيت علشان تعمل شويتين دراما"
صعق من حديثها و نزل عليه كوقع السوط على جلده، و لكن ذلك السوط مزق روحه حتى شعر بنزيفها داخل جسده، فأضافت هي مُسرعةً:
"رفعت أيدها عليا و كانت هتضربني بالقلم، محدش طول عمره فكر يهني بالطريقة دي، هتيجي حتة بت زي دي، تعمل كدا فيا"
ركض من أمامها فورًا يسحب مفاتيحه و هو كما هو بملابسه البيتية و هي عبارة عن "تيشيرت" باللون الابيض خامته قطنية و بنطال رياضي باللون الرمادي، و قبل أن يفتح باب الشقة يخرج منها راكضًا أوقفته شقيقته تسأله بنبرةٍ محتدة:
"استنى أنتَ رايح فين ؟! هتنزل دلوقتي ؟؟ استنى بكرة الصبح و ابقى روح شوفها، و لا متروحش خالص أحسن، و يفهموا إن الموضوع دا لازم ينتهي"
رد عليها بلهجةٍ حادة و حازمة:
"رايح أجيب مراتي يا حنان، مراتي اللي أنا واثق إنك دوستي عليها، روحي يا شيخة الله يسامحك"
خرج من الشقة و أغلق الباب بعنفٍ حتى اهتز جسدها نتيجة الغلق، و وقفت ترمق أثره بغيظٍ نتيجة ركوضه خلفها بتلك الطريقة، و داخلها يشعر بالنيران.
ركض «حسن» من البيت و هاتفه في يده يحاول الاتصال بها و لكن كانت النتيجة هي أن الرقم مغلقًا و يجب عليه المحاولة في وقتٍ لاحق، زفر بقوةٍ و وقف يشد خصلات شعره و هو على مشارف البكاء، و وقف يشعر بالتيه و لا يدري إلى أين يذهب، فإذا لم تكن ذهبت لعائلتها و سبقها هو على هناك، من المؤكد سيحدث ما لم يُحمد عقباه.
ركب سيارته و قرر أن يبدأ هو بمهمة البحث عنها و مهاتفة الفتيات واحدةً تلو الأخرى، فأول من بدأ بها كانت «خلود»، وصله ردها و هي تسأله بتوجسٍ:
"ازيك يا حسن ؟! خير بتتصل دلوقتي ليه؟! فيه حاجة ؟!"
تنفس هو بحدة حتى يستطع التحدث معها، فتحدث بثباتٍ واهٍ و خرجت حروفه مهتزة:
"معلش يا خلود بس مش قدامي غيرك علشان أسأله، عاوزك بالراحة كدا تعرفيلي هدير فين، شوفيها كدا عندكم في البيت؟!"
سألته هي بتهكمٍ:
"هدير مراتك أنتَ و عاوزني اشوفهالك فين ؟! واخد بالك أنتَ بتقول إيه؟!"
رد عليها مسرعًا بصوتٍ مختنقٍ:
"واخد بالي يا خلود، ابوس رجلك بس بسرعة، أنا بلف بالعربية، شوفيها كدا عند عمتك مشيرة أو عند عمك محمود"
ردت عليه بحيرةٍ و تيهٍ:
"حاضر...حاضر يا حسن، هنزل دلوقتي اشوفهالك"
أغلقت معه الهاتف ثم وقفت تسأل نفسها بحيرةٍ:
"طب اروح أقولهم إيه؟! الساعة داخلة على اتنين"
شهقت بسرعةٍ كبرى حينما وصلتها الفكرة التي ستجعلها تنزل لديهم بحجةٍ قوية و كأنها لا تعلم بشيئًا حتى لا تثير القلق و الجدل بالعائلة دون جدوى.
بعد مرور دقائق من انتهاء مهمتها في شرفة شقتهم تنهدت بقوة ثم خرجت من الشقة و أول طابق توجهت إليه كان طابق عمها «محمود»، فضربت الجرس بهدوء حتى فتح لها الباب متعجبًا من تواجدها و هو يقول:
"خلود !! خير يا حبيبتي فيه حاجة ولا إيه ؟!"
ابتسمت له بتوترٍ و هي تقول:
"أنا متأسفة يا عمو كنت باخد البنطلون بتاعي من على الحبل، بس وقع مني عند حضرتك في البلكونة، ممكن ادخل أجيبه؟!"
رد عليها مُرحبًا:
"يا حبيبتي طبعًا البيت بيتك، ادخلي هاتيه و أنا هعملنا كوبايتين شاي حلوين كدا إيه رأيك؟!"
ردت عليه ترفض حديثه بلباقةٍ:
"شرف ليا طبعًا يا عمو محمود، بس أنا عندي درس الصبح و يدوبك هنام، أنا بس كنت بشيل الهدوم علشان تكون دافية"
حرك رأسه موافقًا ثم دعا الله أن يوفقها و يكرمها في اختباراتها، بينما هي تحركت من أمامه نحو الداخل تأخذ البنطال الذي سبق و أسقطته هي عمدًا داخل شرفته، و رأسها تتحرك بحثًا عن «هدير».
خرجت من الشرفة و كان هو جالسًا أمام التلفاز يتابع أحد الافلام الاجنبية، فسألته هي بتلقائيةٍ و كان الحديث في مجمله عاديًا:
"بتكلم فارس و لا لأ يا عمو؟؟ اوعى يكون خلاك تنسى هدى و هدير ؟! يغيروا منه كدا"
ابتسم لها و هو يقول:
"لأ طبعًا بكلمهم سوا، أنا لسه حتى سامع صوت عياطه من شوية في التليفون، و هدير صحيح كبيرة و عاقلة بس بتغير عليا منه، فبكلمها برضه معاه"
سألته بمرحٍ زائفٍ و كأنها تشاكسه:
"طب و أخر مرة كلمتها كانت امتى بقى ؟! هتلاقيها من امبارح مثلًا"
رد عليها بنبرةٍ ضاحكة:
"لأ ياختي كنت بكلمها على الواتس من شوية، حوالي الساعة ٩ كدا كانت عمالة تبعتلي في صور هبلة زيها و تقولي اختار عروسة، ربنا يهديها بقى"
ابتسمت له بتوترٍ حينما تيقنت من عدم وجودها ثم استاذنت منه و خرجت من شقته، و توجهت نحو وجهتها الثانية و قلبها يتمنى تواجدها بها، فطرقت باب شقة عمتها التي فتحت لها و هي تسأله بذهولٍ:
"خلود !! فيه حاجة و لا إيه؟؟"
حدثت نفسها بنبرةٍ هامسة:
"مش ممكن دا أنتم أخوات جدًا"
سألتها عمتها بتعجبٍ:
"بتقولي إيه يا خلود ؟! خير عاوزة حاجة ؟! إيه اللي منزلك دلوقتي ؟!"
ردت عليها بهدوء:
"اللبس بتاعي طار من الهوا و أنا باخده، البنطلون وقع عند عمو محمود و الطرحة وقعت عندك هنا، ممكن ادخل أجيبها؟!"
ردت عليها مرحبةٍ:
"آه يا حبيبتي ادخلي، و لا ادخل أجيبهالك أنا ؟!"
ردت عليها مسرعةً بنفيٍ:
"لأ...لأ، هدخل أنا علشان هي شبكت في الحديدة و أنا هفكها بدل ما تتقطع، دي بـ ١٢٠ جنيه"
ابتسمت لها «مشيرة» بيأسٍ ثم تحركت معها و قبل أن تلحقها نحو الشرفة، اوقفتها «خلود» بقولها:
"عمتو معلش ينفع تجيبيلي كوباية ماية ساقعة ؟! أصلي نزلت جري علشان الحق الطرحة و حاسة أني عطشانة"
حركت رأسها موافقةً ثم تحركت من أمامها، بينما «خلود» أخرجت الكرحة من جيب البنطال حينما سبق و وضعتها به، بعدما فشلت في إسقاطها داخل شرفة عمتها، و بعدها فتحت باب الشُرفة تمثل الحصول على مبتغاها ثم خرجت و هي تقول براحةٍ زائفةٍ:
"الحمد لله، لحقتها قبل ما تتقطع، معلش بقى قلقتك يا عمتو"
ردا عليها ببساطةٍ ترفع حرجها:
"لأ يا حبيبتي عادي و لا يهمك، أنا كدا كدا كنت صاحية علشان حسان هصحي حسان و نصلي سوا"
حركت رأسها موافقةً ثم تحدثت تسألها بمرحٍ:
"أظن جوزتي جميلة و اطمنتي عليها خلاص، قوليلي بتكلمك ولا لأ؟! علشان مش بتكلمني غير قليل"
ردت عليها بوجهٍ مُبتسمٍ:
"بتكلمني كل يوم الحمد لله و مبسوطة مع طارق، و أنا بكلم البنات كلهم، بس هدير و خديجة النهاردة مكلمتهمش، هكلمهم بكرة إن شاء الله، عقبال ما نكلمك في ييتك أنتِ كمان"
ردت عليها بتمني:
"ياريت و الله، و يا سلام لو قبل امتحان الاسبوع الجاي"
ردت عليها «مشيرة» بضيقٍ زائفٍ:
"اطلعي ذاكري يا بت، يلا بدل ما أسلط عليكي أحمد و أبوكي"
ابتسمت لها «خلود» ثم تحركت من أمامها نحو الشقة الخاصة بهم، و هي تشعر بالقلق بعدما وجدت البيت فارغًا من «هدير».
كان «حسن» يقود سيارته و هو يبحث عنها في الطرقات مثل المجنون و خاصةً أن المنطقة تتسم بالهدوء و الرقي، فمن الصعب أن تطمئن و هي بمفردها، ظل يجوب شوارع المدينة بأكملها آملًا في العثور عليها، لكن كمن قُسمت الأرض لنصفين و ابتلعتها بداخلها، و كان يحاول مرارًا التواصل معها عبر الهاتف لكن دون فائدة النتيجة كما هي و لم تتغير بعد !!
قامت «خلود» بمهاتفة «عبلة» حتى تستبين إن كانت «هدير» هناك أم لا، و ظلت تشاكسهم جميعًا و تداعب «فارس» عبر الهاتف ثم أغلقته معهم بعدما علمت أن «وليد» تركهم و ذهب دون أن يحدد وجهةٍ مُحددة.
بعدها اخرجت رقم «حسن» تهاتفه و هي تقول بتوترٍ و عدة مشاعر مختلطة يكسوها الحزن:
"للأسف يا حسن ملهاش أثر في البيت، و كلمت عبلة و هدى و هما قاعدين مع بعض و محدش يعرف حاجة، ريحني و قولي فيه إيه ؟! و أختي فين يا حسن ؟!"
تهدج صوتها و هي تسأله فبكى هو رغمًا عنه و رأسه تلعب به و بأفكاره فيما قد يكون أصابها، ثم أغلق الهاتف دون أن يرد عليها، و أوقف السيارة و هو يبكي مثل الطفل الصغير الذي فقد أمه لتوه و عاد غريبًا في الدنيا من جديد.
ضرب رأسه بالمقود و هو يقول بنبرةٍ باكيةٍ و صوتٍ مختنقٍ:
"ارجعي يا هدير.....علشان خاطري ارجعي، روحتي فين بس ؟؟ مشيتي ليه يا هدير؟!"
اجهش في بكاءٍ مريرٍ و هو لا يتخيل أنه فقدها حقًا، فحرك السيارة من جديد يستأنف سيره نحو وجهةٍ لا يعلمها لكنه يعلم أن الوقوف لن يفيده، فيجب عليه أن يبحث عنها حتى و إن فقد روحه أثناء تلك المهمة، بالطبع ذلك اهون عليه من فقدانها.
__________________________
تجهز «ياسين» و أسرته و «وليد» للنزول من الشقة، و الدموع متحجرةً في أعينهم جميعًا، حتى «وليد» و زاد وخز الدموع أكثر حينما وقعت عينيه عليها و رآى خوفها و قلقها باديًا عليها بتلك الطريقة.
نزلوا من الشقة فوجدوا الشباب في انتظارهم بالأسفل معًا بجانب سيارة «خالد»، و أول من ركض إليه كان «عامر» يرتمي بين ذراعيه، ربت «ياسين» على ظهره و هو يقول بصوتٍ مختنقٍ:
"بس يا عامر متخلنيش أعيط، بطل تتأثر كدا و تعيطنا كلنا"
رد عليه بنبرةٍ متحشرجة:
"غصب عني يا صاحبي، غصب عني إن واحد فينا يمشي و يسيبنا و أنا اقدر استحمل دا"
تنهد «ياسين» بقلة حيلة ثم تحدث يمازحهم جيمعًا:
"شوف يابني أنا أقدر استحمل غياب الكل، بس مصدر الضحك الوحيد في حياتي صعب و الله"
شقت بسمة هادئة وجوهم جميعًا، بينما «ياسين» ربت على ظهر «عامر» ثم ابتعد عنه يحتضن «ياسر» الذي تشبث به و هو يقول بصوتٍ مختنقٍ:
"أنا حاسس إن أبويا هو اللي مسافر و ماشي، لأول مرة من ١٦ سنة تغيب عني يا أخويا"
بكى «ياسين» رغمًا عنه فأضاف «ياسر» بصوتٍ متهدجٍ:
"من أول يوم اتعرفت عليك فيه و أنا عمري ما سيبتك يا ياسين، طول عمرك معايا و بتحميني زيك زي خالد، خلي بالك من نفسك علشان خاطر أخوك"
حرك رأسه موافقًا ثم قبل رأسه و هو يربت على ظهره، فاقترب منهما «خالد» بعدما اعطى «يونس» لـ «وليد» و قد ارتمى «ياسين» عليه و كأنه يحتمي به، فتحدث «خالد» بثباتٍ زائفٍ ظهر من خلال تهدج صوته:
"خلي بالك من نفسك و أثبت لهم إن ياسين رياض الشيخ مهندس مفيش منه اتنين، و عاوزك في ظرف أسبوع تكون خلصت شغلك علشان ترجعلنا"
ابتعد عنه «ياسين» يطالعه بسخريةٍ و هو يقول:
"اسبوع !! ليه باعتلهم ياسين علاء الدين ؟! مش خارج من فانوس سحري أنا"
ربت «خالد» على كتفه و هو يقول بفخرٍ:
"بس أنتَ قدها و قدود، أخوك الكبير عارف إنك مش هتقف و مش هتيأس، ربنا يجبر بخاطرك و يعلي مراتبك كمان و ترجع تبقى مدير زي عامر، عاوزك ترفع راسي"
حرك رأسه موافقًا ثم اقترب من «يونس» يحمله من على ذراع «وليد» ثم احتضنه بقوةٍ و كأنه يريد الاشباع منه، فتحدث بشوقٍ جارفٍ:
"هتوحشني يا قلب ياسين، هتوحشني يا أغلى و أعز صاحب ليا في الدنيا، ما تيجي معايا يا يونس"
رد عليه «خالد» بمزاحٍ:
"خد معاك شيكارة بطاطس و ابقى حمرها و هو هيسد معاك، بيفكرني بناس كدا"
تدخل «رياض» يقول ممازحًا له:
"مش هنقول إن اسمه عامر فهمي، متقلقش خلاص"
ابتسم «ياسين» رغمًا عنه ثم احتضن «يونس» الذي احتضنه و هو يقول ببراءة الاطفال:
"ياسين هيمشي باي ؟!"
حرك «ياسين» رأسه موافقًا فاحتضنه «يونس» تلك المرة و هو يربت على ظهره بكفيه الصغيرين ثم حرك فمه يقبل «ياسين» على وجنته.
نزلت دموع «ياسين» تأثرًا من موقف الصغير فزاد «يونس» تأثره حينما وضع يده في جيبه و أخرج له عملة معدنية "جنيه" ثم وضعه في جيب سترته و هو يقول بنفس البراءة:
"عـلــشـان تـروح بـاي"
احتضنه «ياسين» مرةً أخرى عناقٍ قويٍ و كأنه يريد تخبئة «يونس» بين ضلوعه، فتحدث «وليد» بهدوء:
"طب يلا يا جماعة علشان نتحرك بقى، يلا يا ياسين، و خد يونس معاك في العربية"
ركبوا جميعًا بعدها السيارات فقام «ياسين» بالجلوس في سيارته بجانب «خديجة» في الخلف و معه «يونس» ثم احتضن كليهما بذارعيه، و في الأمام قاد والده السيارة و «زهرة» بجواره تحاول جاهدةً امساك و ردع عبراتها المُنسابة.
و الشباب خلفهم في سيارة «خالد» و «وليد» خلفهم بسيارته و معه حقائب «ياسين».
__________________________
سارت هائمةً على وجهها كورقةٍ في مهب الريح دعستها الأقدام بعدما أسقطها الخريف من جذورها، لم تعلم إلى أين تتجه و لا حتى وجدت ما يعاونها، فحتى نقودها لم تكن معها، و هاتفها نفذت بطاريته ارتمت على رصيفٍ تجلس عليه بتعبٍ بلغ أشده، رفعت رأسها تنظر للسماء و هي تبكي و في تلك اللحظة تود فقط الارتماء بين ذراعيه حتى تشعر بالأمان.
و على الجهة الأخرى كان «حسن» يسير بالسيارةِ تارةٍ و تارةٍ أخرى يصفها و ينزل يبحث عنها مثل المجنون، أو أدق تفصيلًا مثل أبًا فقد ابنته وسط زحام مدينة متكدسة السكان أو مثل طفلًا صغيرًا تركته أمه وسط حالة حربٍ و فرت بعيدًا.
جلس على الرصيف بتعبٍ و هو يبكي بعدما يأس في العثور عليها، كما أن «خلود» كانت تتايع معه عبر الهاتف بين كل حينٍ و الأخر حينما جلست في شرفة الشقة و هي تراقب البيت.
رفع رأسه للسماء يبكي بحرقة و هو يقول بتوسلٍ للخالق:
"يــا رب، أنا مليش غيرك ، أنتَ أكتر واحد عالم بيا و بحالي....رجعهالي....رجعهالي علشان أنا مفيش مكان ليا في الدنيا غيرها هي، يا رب ماتوجعش فيها و لا بفراقها"
اخفض رأسه بانكسارٍ و هو يبكي بوجعٍ و ذكرياته معها تمر أمام ناظريه و كأنها واقعًا ملموسًا، ثم رفع كفيه يضعهما فوق رأسها بخيبة أملٍ من ايجادها و هو يقول من بين بكائه بصوتٍ مختنقٍ:
"يا رب، يا رب ألاقيها و قلبي يرتاح، يا رب ريح قلبي و اجمعني بيها"
__________________________
وصلت السيارات موقف الحافلات و نزلوا منها جميعًا، فتحرك «وليد» أولًا يستفسر عن موعد تحرك الحافلة و عن كافة التفاصيل، ثم اقترب منه مرةً أخرى و هو يقول بترددٍ:
"الأتوبيس هيتحرك بعد نص ساعة، علشان هيعدي ياخد عمال من الطريق، يدوبك ياسين يلحق يركب"
حركوا رأسهم بموافقةٍ، فاقتربت والدته تقف مقابلةً له و كفها على وجنته و هي تقول بصوتٍ باكٍ مختنقٍ:
"أنا مش هركز في موضوع إنك مسافر دا، أنا هتعامل إنك في بيتك عادي، صعب اتقبل فكرة إنك هتبعد عننا كدا، علشان خاطري يا حبيب ماما خلي بالك من نفسك، و حافظ على نفسك"
حرك رأسه موافقًا بتأثرٍ ثم احتضنها بين ذراعيه و هو يربت على ظهرها و ذراعها، فابتعدت عنه و هي تبكي، اقترب هو من والده، فتحدث والده بثباتٍ يمازحه:
"هتوحشني يا جحش، خلي بالك من نفسك لحد ما ترجعلي حمار كبير"
احتضن والده و هو يضحك بيأسٍ، فمسد والده على ظهره بحركاتٍ رتيبةٍ و هو يقول بحكمةٍ تتنافى مع مزاحه السابق:
"افتكر إنك في حفظ اللي خلقك و رعايته يا ياسين، افتكر إن ربنا سبحانه وتعالى بيرعاك و إنك تحت رحمته، مش عاوزك تزعل إنك لوحدك هناك، عاوزك تفتكر إن ربنا عليم و مطلع، ربنا اللي خرج سيدنا يونس من بطن الحوت، و حفظ سيدنا إبراهيم من النار، و حفظ سيدنا موسى من الغرق، افتكر إن كلنا بشر زي بعض، تحت حماية الذي لا يغفل و لا ينام، استودعتك الله الذي لا تضيع ودائعه"
بكى «ياسين» بعد حديث والده فتشبث بعناقه بقوةٍ مثل الطفل الصغير، بينما «رياض» ربت عليه ثم قبل رأسه و هو يبتسم له.
بعدها تحرك «ياسين» يحتضن أخوته كلًا على حدة و هو يستمع لنصائحهم و توصياتهم بالحفاظ على نفسه و حياته، وقف هو بعدها يقول بهدوء:
"ربنا يخليكم ليا يا رب و يحفظكم، عاوزكم بس تخلوا بالكم من نفسكم، لحد ما أخلص شغلي و ارجعلكم، بابا !! خديجة أمانة في رقبتك لحد ما أرجع، أنا بسلمك قلبي قبل ما أمشي و عاوزك تحافظ عليه"
حرك رأسه له موافقًا فبكت و هي تستمع لحديثه، بينما هو التفت لـ «وليد» يحدثه بنبرةٍ هادئة:
"خلي بالك بقى أنتَ من اللي ليا عندك، أنا حاليًا كدا فقير و رزقي كله فيها هي، يوم ما أنتَ سلمتها ليا قولتلي أنا مسلمك عمري كله بين ايديك، دلوقتي بقى أنا بديك روحي أمانة و مش عاوز الأمانة دي تزعل، هتحافظ عليها ؟؟"
سأله بحذرٍ و ريبةٍ فحرك «وليد» رأسه لجهتها و طالعها بعينيه فوجدها تبكي و كأنها بذلك ترجوه أن لا يرحل عنها، فحرك رأسه جهته و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"وعد مني إنها لا تزعل و لا تضايق زي ما طول عمرها في حمايتي لحد ما أنتَ جيت، المرة دي برضه أنا معاها لحد ما تيجي تاني يا ياسين"
اقترب منه يحتضنه و هو يقول بامتنانٍ له:
"ربنا يطمن قلبك زي ما أنتَ مطمني كدا، عاوزها تنسى غيابي"
ابتسم له بمشاكسىةٍ و هو يقول بعبثٍ كعادته:
"متقلقش دول شهرين، هسمعها جوابات الاسطى حراجي و هو بيقول
(شهرين يا بخيل ؟! ٦٠ شمس و ٦٠ ليل ؟! )
أبتسم «ياسين» رغمًا عنه فاحتضنه «وليد» تلك المرة بقوةٍ و راح يقول بصوتٍ مختنقٍ:
"هتصدقني لو قولتلك أني محتاجك زيها و أكتر ؟! طب و الله العظيم أنا عرفت يعني إيه انسان يتطمن في وجودك، و أنا قلبي اتطمن في وجودك يا صاحبي"
احتضنه «ياسين» و هو يقول بعاطفةٍ أخوية:
"ربنا يعلم أنا بحس بإيه ناحيتك، أنتَ أخويا الصغير و صاحبي و حاسس علطول إنك ملزوم مني يا وليد، حافظ على نفسك و ريحها علشان خاطري، بطل تتعب نفسك و افرح بشهر عسلك، اديك شايف أخوك رايح فين؟"
حرك رأسه موافقًا ثم قبل كتفه، بينما هو ابتعد عنه ثم وقف أمامها مباشرةً و لأول مرّة تتواجه نظراتهما في ملحمةٍ مختلطة المشاعر حيث الشوق و اللهفة من جهته و العتاب و الحزن من جهتها، التحمت عينيهما في ملحمةٍ ضارية كساها الدمع مُصطحبًا النظرات الحزينة، فرد هو ذراعيه و هو يبتسم لها بحزنٍ، فارتمت هي بينهما و هي تشهق بقوةٍ و تنتحب بشدةٍ، فتحدث هو بنبرةٍ متحشرجة:
"أنتِ متكلمتيش كلمة واحدة بس من ساعة ما حضرت نفسي علشان اتحرك، سمعيني صوتك قبل ما أمشي يا خديجة"
حركت رأسها موافقةً ثم رفعت رأسها له و هي تقول بصوتٍ باكٍ:
"خلي بالك من نفسك يا ياسين، ارجعلي تاني و متطولش في الغياب، أوعى علشان خاطري تنساني أو تحس إن راحتك بعيد عني، عارفة أني ممكن أكون باجي عليك و بخليك تبذل أكتر من طاقتك معايا، بس لو بايدي مش هبقى كدا، أنتَ فهمتني في الوقت اللي أنا مش عارفة فيه افهم نفسي، عمر كامل ضاع مني مشوفتش في ربعه أيام حلوة، و شهور معاك قضيتها كل يوم فيها بينا أحلى من التاني، مش سهل حد يلاقي الأمان و يسيبه يروح منه، احساس صعب، و أنتَ بالنسبة ليا أأمن محطة في العمر"
نزلت دموعه و هو يستمع لحديثها، ففتحت هي حقيبتها ثم أخرجت منها أشياءًا تقدمها له و هي تقول بنبرةٍ أهدأ:
"المحصف و السبحة و الورقتين دول فيهم الأذكار كلها اللي بنقولها طول اليوم، عاوزاك كل يوم تدعيلي معاك و تقرأ في المحصف زي ما أنتَ متعود، ربنا يرجعك ليا بالسلامة يا رب"
خطفها بين ذراعيه مجددًا و هو يقول بصوتٍ مختنقٍ:
"ربنا يحفظك ليا و يسعد قلبك يا رب، اطمني، لا أنا هقدر أنساكي و لا هقدر حتى اعيش من غيرك، أنتِ أطيب حاجة عرفها العُمر"
حركت رأسها موافقةً، فابتعد هو عنها ثم قبل قمة رأسها و هو يوميء لها بأهدابه، ثم اعتدل في وقفته حتى يصعد للحافلة، و قبل أن يلتفت و يوليهم ظهره اقترب منها «وليد» يحتضنها، فتحدث «يونس» مودعًا له:
"بــاي يــا يــاسين...بـــاي"
التفت «ياسين» له و هو يقول ببكاءٍ هو الأخر حينما وجد العبرات منهم جميعًا:
"باي يا قلب ياسين، خلي بالك منه يا خالد، اوعى تزعله، صدقني ممكن ازعلك و ازعل بلدك كلها علشانه"
حرك «خالد» رأسه موافقًا فركض «ياسين» نحو الحافلة هاربًا منهم حتى لا يضعف مرةً أخرى، فارتمت «زهرة» بين ذراعي زوجها و هي تبكي بقوةٍ و كذلك «خديجة» عينيها لم تفارق الحافلة و هي بين ذراعي «وليد»
حتى تحركت الحافلة فجأةً دون سابق إنذار و هو بداخلها و رأسه للخلف يفارق اغلى و أعز ما ملكه يومًا بحياته.
بعدها ركبوا السيارات جميعًا ثم رحلوا من موقف الحافلات و كلًا منهم قاصدًا وجهته، أما «خديجة» فأوصى «ياسين» والديه عليها حتى أنها وافقت أن تبقى معهما بعدما توسلتها «زهرة» و طلبت منها البقاء في بيتهما، و أمام اصرارهما وافق «وليد» خاصةً أنه يعلم مدى حبهما لها.
__________________________
حركت رأسها تتفحص المكان حولها فوجدته فارغًا باستثناء اضاءة قوية تأتي من مقدمة الطريق الذي تجهله هي، وقفت «هدير» ثم ركضت نحو ذلك الضوء بأملٍ ولد بداخلها أن تجد ما يعاونها بعدما سارت كل تلك المسافة بمفردها ليلًا.
وصلت لمصدر ذلك الضوء بأنفاسٍ مقطوعة و هي تتنفس بصعوبةٍ، حتى وجدت "كشك" صغير الحجم و بداخله رجلًا كبير السن يقرأ في المصحف الشريف، فسألته هي بلهفةٍ:
"لو سمحت حضرتك هو احنا فين هنا ؟! أنا معرفش حاجة هنا و المكان غريب عليا"
طالعها الرجل بتعجبٍ و هو يقول:
"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أنتِ منين يا بنتي"
ردت عليه هي تبلغه بعنوانها، فتحدث هو بشفقةٍ عليها:
"مشيتي كل دا ؟! احنا على الطريق و شوية كدا قدام هتكوني في مدينة تانية أصلًا"
نزلت دموعها حزنًا على حالها و لما آلت إليه نفسها، فسألها هو بهدوء:
"طب أهلك فين ؟! و لا فين أي حد من اللي كنتي عندهم؟! أنتِ عارفة الساعة كام ؟"
حركت رأسها موافقةً ثم سألته بحماسٍ:
"طب معلش حضرتك معاك تليفون أكلمهم منه؟! أنا تليفوني فصل شحن"
حرك رأسه موافقًا ثم أخرج هاتفه لها و هو يقول مرحبًا:
"طبعًا فيه تحت أمرك، اتفضلي يا بنتي، ربنا يسترها عليكي يا رب"
أخذت منه الهاتف بلهفةٍ و بأملٍ أخذ يزداد و سرعان ما فُقد ذلك الأمل و أخذت الخيبة محله و هي تقول:
"التليفون فاصل و أنا مش حافظة أرقام، كل الأرقام ضايعة من دماغي"
طالعها بشفقةٍ مرةٍ أخرى، لكنها تحدثت بحماسٍ و هي تقول:
"افتكرت !! رقم أختي، ينفع اكلمها ؟!"
حرك رأسه موافقًا ثم مد يده لها بالهاتف، فأخذته و هي تضغط على الرقم بأنامل مرتعشة و داخلها يتمنى أن يكون الرقم صحيحًا و ليس من وحي خيالها.
وصل «وليد» شقته بعدما ترك الجميع و اطمئن على أخته مع «رياض» و زوجته، و كذلك قام بتوديع الشباب ثم رحل نحو بيته، دلف الشقة بانهاكٍ واضحٍ فوجد «عبلة» بها تنتظره، اقترب منها يجلس بجوارها و هو يقول بتعبٍ:
"منمتيش ليه يا سوبيا ؟! الوقت اتأخر و أنتِ لسه صاحية؟!"
ردت عليه بهدوء:
"هنام من غير ما اتطمن على جوزي ؟! دا أنا معملتهاش في الخطوبة، هعملها و أنا معاك في بيتك ؟!"
أبتسم هو لها فتحدثت تسأله:
"خديجة فين طيب مش لما كلمتني كانت معاك ؟! كنت جيبتها معاك يا وليد، و تفضل وسطنا هنا أحسن"
رد عليها هو بصوتٍ خافتٍ:
"مع حماها و حماتها، مصممين تفضل وسطهم، و أنا بصراحة مرضيتش أني اخدها علشان شكلنا ميبقاش وحش، كام يوم كدا و أجيبها تغير جو عندنا"
حركت رأسها موافقةً بتفهمٍ، فتحدث هو بعدما تثاءب:
"تعالي بقى علشان ننام أنا مش قادر، و طارق و وئام هيصحوا بدري و يقرفوا اللي جابوني، يلا"
حركت رأسها موافقةً و قبل أن تتحرك من على الأريكة صدح صوت هاتفها، عقدت ما بين حاجبيها بتعجبٍ، فسألها هو بثباتٍ:
"مين بيكلمك دلوقتي؟! فيه حد يكلم حد الفجر كدا ؟!"
ردت عليه هي بحيرةٍ:
"مش عارفة، بس دا رقم غريب و أنا مش برد على أرقام غريبة أصلًا، هتلاقي حد فاضي"
حرك رأسه موافقًا فانتهت المكالمة، حينها زفرت «هدير» بضجرٍ و هي تقول ببكاءٍ:
"ردي يا عبلة أبوس رجلك بقى، ردي علشان خاطري"
حاولت مرةٍ أخرى و هي ترجو الله أن تجاوب «عبلة» على المكالمة فهذا هو أملها الأخير.
أقترب «وليد» يسحب الهاتف من زوجته و هو يقول بنفاذ صبرٍ:
"هاتي بقى علشان أأدب أمه، يا ويله لو طلع حد بيعاكس"
ضحكت عليه هي فغمز لها ثم فتح السماعة الخارجية و قبل أن يهم بالحديث، وصله صوتها و هي تقول بلهفةٍ باكية:
"عبلة !! الحقيني يا عبلة...الحقيني علشان خاطري"
اتسعتا حدقتي كليهما، فتحدث «وليد» يسألها بخوفٍ:
"مالك يا هدير ؟! و رقم مين دا ؟! فيه إيه"
ردت عليه ببكاءٍ:
"أنا في الشارع و مش عارفة أنا فين، الحق أختك و تعالالي، أبوس إيدك أنا لوحدي و خايفة"
تدخلت «عبلة» تقول بنبرةٍ باكيةٍ:
"متخافيش يا حبيبتي، هنجيلك سوا، أنتِ فين بس طيب ؟!"
حركت رأسها للرجل فأشار لها أن تعطيه الهاتف، أعطته له بترددٍ، فتحدث هو مع «وليد» يوصف له الطريق، و يشرح له الطرقات.
تحدث «وليد» مسرعًا بامتنانٍ له:
"متشكر لحضرتك جدًا يا حج، ربنا يكرمك، معلش خلي بالك منها لحد ما أوصلك، مسافة السكة مش هتأخر، اعتبرها بنتك"
رد عليه الرجل مطمئنًا له:
"متقلقش يا حبيبي، ربنا يسترها علينا جميعًا، متتأخرش بس عليها، هي شكلها تعبان أوي"
أغلق معه الهاتف بعدما طلب منه «وليد» طلبًا و توسله أن يقوم به، فتحرك الرجل بعد المكالمة ثم اقترب من الثلاجة الخاصة بالمشروبات و أخرج منها علبة عصير و معها عبوة بسكويت، ثم عاد لها مرةً و هو يقدمهم لها و هو يقول بهدوء:
"اتفضلي يا بنتي، خدي دول"
ردت عليه هي بتوترٍ:
"شكـ...شكرًا...مش عاوزة حاجة، متشكرة لحضرتك جدًا"
رد عليها هو بنبرةٍ ضاحكة:
"متخافيش مش حاطط فيهم حاجة، لو مش مطمنة ليا، روحي نقي اللي أنتِ عاوزاه"
ردت عليه هي بخجلٍ:
"لأ مطمنة ليك، بس أنا مش معايا فلوس خالص، و مش هقدر أخد حاجة منك، معلش"
رد عليها هو بهدوء:
"أخوكي هو اللي طلب مني و حلفني بالله، يرضيكي أشيل ذنب؟! خديهم يلا"
حركت رأسها نفيًا فصدح صوت هاتف الرجل برقم «وليد» و بعد الإجابة على المكالمة طلب منه أن يفتح السماعة، فتحدث بعدها:
"هدير !! خدي الحاجة من الحج و اشربي العصير لحد ما اجيلك، اسمعي الكلام و أنا مش هتأخر عليكي، بالله عليكي يا شيخة تشربي العصير و تاكلي حاجة"
بكت هي من فرط حنانه عليها و تأثرت، فتحدث هو بصوتٍ متهدجٍ:
"متعيطيش يا هدير، أنا مش هتأخر عليكي، هجيلك علطول، أنا على الطريق أهو و الله"
ردت عليه بايجازٍ، بينما هو أغلق الهاتف ثم رفع سرعة السيارة و «عبلة» بجواره تبكي خوفًا عليها.
__________________________
وصلت «خديجة» مع حماها شقته، و نظرًا للحزن المخيم عليه بفراقه لم يتحدث أيًا منهما، بل فقط أخذتها والدته نحو غرفته "في السابق" ثم ادخلتها بها، بعدها قبلت قمة رأسها ثم خرجت من الغرفة.
ارتمت «خديجة» على طرف الفراش و مع خلو الغرفة منه بكت بقوةٍ و هي تشعر بأن انفاسه معها في كل ركنٍ بالغرفة، فتحت الحقيبة حتى تخرج الهاتف و تطالع صورته، فسقط الظرف البني الذي سبق و وضعه هو بداخل حقيبتها.
عقدت ما بين حاجبيها بتيهٍ، ثم قامت بفتح المظروف، فوجدت في ظهره جملةٍ:
"إلى من عشقت العين مُحياها...
و وقعت أسيرًا لعيناها"
نزلت دموعها فمسحتها فورًا، ثم قامت بفتح الخطاب لتجد بداخله ورقةً كبرى مطبقة على هيئة قلب، قامت بفتحها فوجدت بداخلها الآتي:
"صباح الخير يا كتكوتة، طبعًا زمانك بتبكي على الأطلال في أوضتي دلوقتي، و قاعدة على سريري، يلا مسامحك لحد ما أجيلك، المهم قبل بس ما أنسى و محسوبك ملوش في الكتابة أوي، أنا بحبك يا خديجة، و مش حب عادي و خلاص، لأ...حبك أحلى حاجة جت في العمر علشان تثبت إن مش كله مُـر، أنا كتبت الورقة دي امبارح الصبح في شغلي لما أكدولي إن مفيش قدامي حل تاني غير دا.
أنا عمري ما زهقت من عشوائيتك زي ما أنتِ فاكرة، بالعكس أنا بحبها أوي و بحب كل حاجة فيكي، روحك و كلامك و ضحكك و خفة دمك و هزارك، و كلامك اللي بتقولي عليه أهبل دا أنا يومي كله بيكون بايظ، لحد ما اسمعه، طب أقولك حاجة و متضحكيش ؟!"
ضحكت هي رغمًا عنها، ثم نزلت للسطر التالي، فكتب هو:
"بالظبط كدا، أنا لما بسمعها بضحك و بفرح، جملة غريبة وراها بلاوي، و سبحان الله، أنا عبد بسيط بيفرح بالبلاوي دي، عاوزك في غيابي تتعلمي إنك قوية و إنك شاطرة و أني طول عمري هفضل شايفك انتصار ليا و لقلبي، حتى لو انقطع الوصال و البعد بينا طال، هتفضلي أنتِ زي ما أنتِ على البال و نسيانك أمر مُحال"
بكت هي مرةً أخرى و هي تحتضن الخطاب قبل أن تكمله حتى نهايته، زاد نحيبها و هي تحتضن الورقة و كأنها تحتضنه هو، نظرت في الورقة مرةً أخرى فسبق و كتب هو:
"أنا مش ناسي إن عيد ميلادك قرب و مش ناسي إن دا أول عيد ميلاد ليكي و إحنا سوا، بس و الله لو قصرت يبقى غصب عني و مش بإيدي، و لو قدرت فأنا مش هبخل عليكي أني اشاركك يوم زي دا، بس من دلوقتي أنا بعرفك إني هحاول، لو فشلت و مجيتش اليوم دا، عاوزك متزعليش مني لحد ما أجيلك"
نزلت دموعها من جديد فوقع بصرها على أخر ما أضافه هو في الورقة بخطٍ مزخرف بعض الشيء من قبله و هو:
"حَتىٰ و إنْ اِنّقَطَعتْ بَيْنَنا كُلِّ سُبلِ الوصالِ، و حَتى إنْ غِبتُ عَنكِ و البُعدِ بَيْننا طَال...سَتَظَلّي أنتِ كما أنتِ رَاحَتي لِلبالِ و نِسيانكِ أمرٌ مُحال"
ازدردت لُعابها بقوةٍ فأضاف هو أخر جملة، و كانت جملته المعتادة لها:
"خلاص يا ست الكل طالما سكتي يبقى كدا اتثبتي"
أغمضت جفنيها بقوةٍ ثم ارتمت على الفراش و الخطاب بين كفيها و الدموع على وجنتيها.
لم يختلف وضع البقية عنها حيث عاد كلًا منهم باكيًا من الفراق و خاصةً إن كانوا مجبورين عليه و إن كانت تلك هي المرةِ الأولى.
__________________________
وصل «وليد» إلى المكان الذي قام الرجل بوصفه له، فأوقف السيارة ثم نزل منها راكضًا و خلفه «عبلة» التي ارتمت على «هدير» تحتضنها بقوةٍ، بكت كلتاهما بين ذراعي الأخرى، فاقترب «وليد» من الرجل يشكره و هو يقول ممتنًا له:
"ألف شكر يا حج، ربنا يكرمك و يرزقك من وسع، جميلك دا دين في رقبتي"
رد عليه الرجل بتفهمٍ و ترحيب ٍ:
"يا بني متقولش كدا كلنا عباده و في خدمة أرضه، حمدًا لله على سلامتكم"
ابتسم له ثم أخرج أوراقًا مالية يقدمها له و هو يبتسم بتوترٍ و قبل أن يبدي الرجل اعتراضه، تحدث «وليد» مسرعًا:
"أنا مش بديهم ليك مقابل، لأن جميلك مفيش حاجة تكفيه أبدًا، بس دي حاجة بسيطة من ابن لابوه، اعتبرني ابنك و بصبح عليك"
ابتسم له الرجل و هو يقول مشاكسًا له و يمازحه:
"هو أنا ابني بيصبح عليا برضه، بس بياخد مبيديش، ثانوية عامة يا سيدي"
ابتسم له و هو يقول بهدوء:
"ربنا يباركك ويجبرك على التذكر، أعدك أن يوم النتيجة سيأتي عليك صباحا ومساء.
رد عليه الرجل مرحبًا و هو يدعو الله أن يوفقه و يرزق الجميع براحة البال، بينما «وليد» تحرك من أمامه ثم اقترب منهما و هو يقول بهدوء:
"ها يا عبلة ؟! هدير عاملة إيه؟! أنتِ كويسة يا هدير ؟!"
حركت رأسها موافقةً بانكسارٍ فلاحظ هو ارتجافة جسدها و رعشة كفيها و خاصةً أن ما ترتديه خفيقًا وفقًا لذلك الطقس البارد، فخلع هو معطفه الشتوي ثم مد يده لزوجته و هو يشير لها برأسه أن تلبسها إياه، فامتثلت «عبلة» لمطلبه ثم البستها المعطف الأسود المنتفخ و الأخرى في عالمٍ أخر و هي تفكر في الكلمات التي تلقتها مثل الصفعات على وجهها دون رحمة أو شفقة من الأخرين.
حينها فتح «وليد» سيارته ثم أدخلهما بها و بعدها ركب هو ثم تحرك هو نحو وجهته تاركًا بداية الحكاية لحين إشعار آخر، فما يهمه فقط هي و أنها معه بخير.
__________________________
عاد «حسن» إلى بيته بخيبة أمل بعدما جال الطرقات سيرًا و ركبًا بحثًا عنها حتى حل الصباح، و من كثرة البكاء لم يعد يقوى على الحراك أو القيادة أكثر من ذلك، فذهب إلى مسكنه و ارتمى على أول مقعد يقابله، ثم أرجع رأسه للخلف و هو يبكي، فلم يتخيل حتى و لو بأسوأ كوابيسه أن يفترقا بتلك الطريقة.
لقد شعر قلبه بذلك من السابق لكنه تجاهل هذا الشعور، ممنيًا نفسه ببقائها بجواره أمدٍ كاملٍ، و لكن هل لعاشقٍ مثله قلبه دليله أن يتجاهل صوت القلب مُرجحًا أكثر العقل ؟!"
خرجت «حنان» من الداخل و حينما رأته ركضت نحوه بلهفةٍ و هي تقول:
"حسن !! عامل إيه يا حبيبي؟! كنت فين كل دا؟!"
حرك رأسه يطالعها و هو يقول ببكاءٍ و نبرة صوتٍ متألمة:
"هدير ضاعت مني يا حنان، ضاعت و مش لاقيها، بلف عليها زي المجنون في الشوارع و مش عارف ألاقيها، مروحتش البيت و مراحتش لأختها، قلبي واجعني و حاسس إن بنتي هي اللي ضاعت"
ردت عليه هي بنبرةٍ جامدة:
" هتلاقيها راحت عند أهلها و هما مخبيين عليك، لازم يتدحلبوا علشان يغلطوك طبعًا"
انتفض هو مثل الأسد يصرخ في وجهها بقوله:
"أنتِ ليه مبتحسيش بيا !! ليه مش قادرة تراعي ظروفي ؟! بقولك مراتي مش لاقيها من بليل بلف عليها و أنا موجوع، و أنتِ كل اللي همك تغلطي فيها و في عيلتها !! عاوزة جنازة تشبعي فيها لطم ؟!"
قبل أن تتحدث هي انتبه هو لما حدث بالكامل، فاقترب منها يسألها بلهجةٍ:
"حنان !! حصل إيه بينك و بين هدير يخليها تنزل بليل كدا ؟! عملتي فيها إيه يخليها تسيب المكان الوحيد اللي بتطمن فيه في الدنيا دي ؟! انطقي يا حنان !!"
ردت عليه بلامبالاةٍ:
"بقولك كانت عاوزة تضربني !! بتقولي دا بيتي و بيت جوزي !! و مش مراعية أني أختك الكبيرة، زعلت علشان بمسك ايدها و هي بتضربني بالقلم"
سألها هو منفعلًا:
"على أساس أني متجوز واحدة مجنونة ؟! هتمشي تمد ايدها على الناس من غير سبب؟! بس ماشي، ألاقيها بس و قلبي يرتاح و أنا قسمًا بربي لأهد الدنيا كلها"
تركها و غادر الشقة مرةً أخرى بعدما صفع الباب بقوةٍ خلفه و هي كما هي كل ما يهمها فقط خروج تلك العائلة من حياته.
__________________________
أوقف «وليد» السيارة أسفل بيته ثم حرك رأسه للخلف و هو يقول بهدوء لهما:
"يلا يا عبلة أنتِ و هدير وصلنا، انزلوا بالراحة بس علشان محدش يقلق، هدى دلوقتي صاحية بفارس"
حركت كلتاهما رأسها ثم نزلا من السيارة، و هو أيضًا، و بعد مرور ثوانٍ دلفوا شقة «وليد» فأغلقها هو ثم تحدث بهدوء:
"عبلة !! خدي هدير و خليها تغير هدومها و خليها تريح، و بلاش كلام خليها ترتاح بس"
حركت رأسها موافقةً فتحدثت «هدير» بنبرةٍ واهنة من شدة التعب:
"شكراً لك أيها الوالد ربنا إني أحبك وآسف على محبتك"
رد عليها هو بحنقٍ زائفٍ:
"أنتِ هبلة يا هدير ؟! دا بيتك و بيت أخواتك كلهم، ريحي أنتِ بس و خلي بالك من نفسك"
حركت رأسها موافقةً ثم جلست على الأريكة و هي تجزم بأن عظامها انفصلت عن بعضها حتى أصبحت غير محددة في أي مكانٍ تشعر بالألم بعدما بات الألم يأكل في جسدها، و لكن ألم قلبها و جرحه أكبر من ذلك بكثيرٍ، أين هو و أين حبه ؟! كيف حدث كل ذلك و تطورت الأمور أن تصل إلى منطقةٍ نائيةٍ على أطراف مدينة متحضرة راقية ؟! كيف لامرأة مثل «حنان» أن تفعل بها ذلك ؟! كيف تطعن في شرفها و تذم في اخلاقها بتلك الطريقة ؟! كيف تتهمها بفعل مثل تلك الجريمة دون حتى أن تتأكد من أخلاقها ؟؟ هل حقًا أخبرها «حسن» عن زواجهما ؟! هل أخبرها أن «وليد» هو من طلب منه التدخل ؟! اذا حدث ذلك حقًا، ستكون هذه هي القشة التي قسمت ظهر البعير.
__________________________
لم يغمض له جفنًا، بل ظل مستيقظًا يقرأ في المصحف الذي سبق و اعطته هي له، حتى الصباح و هو في الحافلة و بين الفنية و الأخرى يخرج صورتها يبتسم لها ثم يغلقها من جديد.
راقبه السواق باهتمامٍ فسأله بهدوء:
"مش هتنام يا بشمهندس ؟! لسه الطريق طويل، يدوبك إحنا عدينا نصه بس"
رد عليه «ياسين» بثباتٍ:
"لأ يا ريس تسلم، مبعرفش أنام على الطريق، مبأمنش بصراحة"
رد عليه الرجل بثقةٍ كبرى:
"عيب عليك يا هندسة، أنتَ معاك البريمو، دا أنا أسطورة الصحرا"
ابتسم «ياسين» بسخريةٍ و هو يقول:
"أنا بقلق من الثقة الزايدة دي، بص قدامك يا ريس ربنا يسترها علينا"
ابتسم له السائق ثم تحدث بغموضٍ غلف كلماته:
"بس عدم المؤاخذة يا باشا يعني، شكلك ابن ناس و مش بتاع مشاكل، إيه اللي يوديك أرض زي دي ؟؟"
عقد «ياسين» ما بين حاجبيه و هو يسأله بتشوشٍ:
"أرض زي دي ؟؟ مالها يعني ؟!"
رد عليه الرجل مُردفًا:
"كلها مشاكل و صداع، بشتغل سواق تبع الشركة، و كل يوم أسمع حوار شكل عنها، حوارات زي دي عاوزة ناس من الأخر لبط، إنما أنتَ شكلك محترم بزيادة، ربنا يسترها عليك و يوفقك يا باشا"
انتاب القلق قلبه بعد حديث السائق و شرد في بداية العمل و أن تلك المشاريع التي يشوبها بعض الخطورة أو السمعة التي قد تمس العمل، يقومون باخفائها عن الجميع، حينها زفر بقوةٍ ثم حرك رأسه يراقب العمال فوجدهم يغوصون في ثباتٍ عميقٍ، تنهد هو بقلة حيلة ثم رفع المصحف يقرأ به و تذكر كلمات والده أنه تركه في حفظ الله و رعايته، فلن يخيفه شيئًا إذًا.
__________________________
أوقف «حسن» سيارته أسفل بيت الشباب بعدما فكر فيهم حتى يعاونوه في العثور عليها، و لحسن حظه أن نسخة البوابة لا زالت معه حينما كان يأتي أثناء تجهيز البيت، فتح البوابة الرئيسية ثم توجه نحو طابق «وليد» يطلب منه الوقوف بجواره و البحث عنها.
طرق الباب بقلقٍ حتى فُتح له بواسطة «وليد» الذي اتسعتا حدقتيه بقوةٍ بعدما ظن أن من طرق هو «طارق»، فتحدث «حسن» بلهفةٍ و نبرةٍ أقرب للبكاء:
"وليد !! ابوس رجلك تعالى معايا ندور على هدير أنا مش لاقيها و خلود قالتلي إنها لسه مراحتش البيت هناك"
وقف «وليد» مصعوقًا حتى سحبه «حسن» من يده و هو يقول بنبرةٍ جامدة:
"يلا يا وليد اتحرك معايا، تعالى بس خلينا نتصرف و نشوف هي فين، أنا مش قادر اتحمل أكتر من كدا"
أمسك «وليد» يده و هو يقول بهدوء:
"ادخل يا حسن تعالى، اهدا علشان نعرف نفكر، تعالى بس"
سحبه نحو الداخل و الأخير يسير معه بتيهٍ و بكاءٍ و تشوشٍ حتى جلس على الأريكة، فجلس «وليد» أمامه و هو يقول:
"وحد الله كدا و خد نفسك، حصل إيه ؟!"
رد عليه بقلة حيلة و خجلٍ منه:
"أنا دخلت أنام و يارتني ما دخلت، شدت هي و حنان أختي و صحيت ملقتهاش، من الساعة ١ بليل بلف عليها زي المجنون مش لاقيها و تليفونها مقفول، لما الدنيا قفلت في وشي مفكرتش غير فيكم تلحقوني، أنا عاوز هدير"
ربت «وليد» على كفه ثم تحرك من أمامه و تركه بمفرده يبكي رغمًا عنه و رأسه ترسم أمامه ألاف السيناريوهات و كلًا منهم أكثر بشاعةً من الأخر و قبل أن يندمج أكثر خرج «وليد» من الداخل و هي خلفه، رفع «حسن» رأسه ظنًا أنها «عبلة» لكنه تفاجأ بها أمامه تطالعه بحزنٍ و عتابٍ لم تفصح به لكن نظرتها قالته صراحةً، ركض إليها يأخذها بين ذراعيه و هو يتنفس أخيرًا و كأنه حُرر من أسره لتوه، بكى و هي بين ذراعيه فابتعد عنها يتفحصها و هو يقول بقلقٍ و خوفٍ:
"أنتِ كويسة ؟؟ فيكي حاجة يا هدير ؟؟ طمنيني عليكي طيب، أنتِ كويسة صح؟؟"
حركت رأسها موافقةً و هي تبكي فاحتضنها هو من جديد و هو يقول براحةٍ كبرى:
"الحمد لله يا رب، الحمد لله أني ماتوجعتش فيكي، الحمد لله"
ابتعد عنها يطالعها بشوقٍ و هو يبتسم من بين دموعه حتى صدمته هي بقولها الذي وقع عليه كوقع الصاعقة الرعدية بثباتٍ رغم دموعها:
"طلقني يا حسن.....طلقني علشان نرتاح احنا الاتنين"
اتسعتا حدقتيه بعد جملتها و هو يجبر عقله على التصديق و أنها بالطبع لم تتفوه بذلك إنما من وحي خياله، فكيف بعد ما عايشه من خوفٍ و قلقٍ عليها حتى أصبح مثل من فقد روحه أن تكمل هي عليه و تطعنه بسكين بارد دون أن ترأف به أو بروحه التي فارقته و عادته له برؤياها؟! أين العدل و أين الرحمة و هو الميت الذي شبع من تمزق الروح ؟!