رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الرابع والخمسون بقلم شمس بكري
"سكنت الراحة بين أضلعي..
و بِتُ قرير العين بأدمعي..."
_________________________
"الراحة"
تلك الكلمة التي تكونت من عدة أحرف بسيطة و بين ثناياها احتوت على كل المعاني التي يحارب المرء للحصول عليها، و للحق يظل المرء منا مُحاربًا حتى يحصل على الراحة في حياته قبل أن يصل إلى مماته، و إذا دُقق الوصف لتلك الكلمة سنجد أن الراحة قد تكمن في حصولك على ما تمنيته، أو في وصلك لمسلكٍ توهت في عتمته، أو في إنارة طريقٍ سرت في ظلمته، اختلفت المعاني و تعدد الوصف و في النهاية تكون الراحة في حصولك على ما رجوته و كأنك لن تستطع التحمل بدونه.
في شقة «ياسين» دلفها مع زوجته حتى تنهدت هي براحةٍ و قبل أن تتفوه بكلمةٍ واحدةٍ وجدته يتحدث من خلفها بنبرةٍ جامدة يُحذرها من القادم:
"عارفة لو نطقتي و قولتي جُملتك النحس دي هعمل فيكي إيه؟! هــبـلـعـك"
حركت رأسها موافقةً ثم رفعت كفيها تحاصر فمها حتى لا يفتضح أمرها و تضحك أمامه على طريقته تلك، فرمقها هو بحنقٍ ثم أغلق باب الشقة، انتظرت هي حتى دلف هو للداخل ثم أطلقت العنان لفمها و هي تقول:
"يـــاه أخيرًا وصلت شقتي؟!"
ضحك بيأسٍ منها بعدما استمع لجملتها ثم دلف للغرفة و هي خلفه و بعد مرور دقائق بدل كليهما ثيابه و قبل أن يتركها و يدخل الغرفة، تحدثت هي بصوتٍ عالٍ:
"خد يا بني هنا رايح فين !! تعالى شوف هناكل إيه أنا جعانة"
جلس بجانبها من جديد و هو يسألها بتعجبٍ:
"جعانة !! مش كلتي في القاعة و مرضيتيش تخرجي معايا علشان كنتي بتاكلي؟!"
ردت عليه هي بسرعةٍ:
"ما هو حضرتك قومتني و أنا لسه مكملتش أكلي"
زفر هو بقلة حيلة ثم تحدث على مضضٍ:
"نعم !! تاكلي إيه بقى ؟! و متخترعيش ليا، اطلبي حاجة نقدر نعملها وفق الموار المتاحة"
ردت عليه هي بسخريةٍ:
"إيه دا !! ناقص تقولي بم تفسر سقوط الدولة العثمانية، موارد متاحة مين؟! أكلني يا ياسين و خلص"
ضحك على طريقتها الساخرة ثم سألها من جديد:
"تاكلي إيه يا ست أنتِ انجزي !! عاوز أنام لسه بكرة هنروح عند ميمي و بعدها نبارك لوليد و طارق و ليلة كبيرة، و الجمعة ساعتها بتكون قليلة"
صفقت بكفيها معًا و هي تقول بحماسٍ:
"عرفت !! إحنا نحمر بطاطس و نجيب مخلل و بالذات الزيتون اللي أنتَ مخبيه مني ها !! هاته بقى علشان ناكله بسرعة قبل ما أنام و أنا جعانة و ذنبي يبقى في رقبتك"
أمسك رسغها يسحبها خلفه و هو يقول بعدما اعتدل واقفًا:
"معايا بقى يا حلوة علشان تعملي الأكل معايا، و قشري البطاطس أنتِ و أنا هظبط الباقي"
تحدثت هي مسرعةً:
"طب ما تخليك جدع و تعمل الأكل أنتَ و أنا هدعيلك ربنا يكرمك"
سحبها خلفه بقوةٍ و هو يغمغم بعدة كلمات غير مفهومة تكاد تكون مُبهمة، لكنها التقطت من بين تلك الحروف:
"صبرني يا رب على الله أنا فيه"
تحدثت هي بضجرٍ منه:
"يصبرك على إيه يا بني !! متجوز ابتلاء ؟! ما تحترم مشاعري و وجودي"
التفت لها يسألها بثباتٍ:
"عاوزاني احترم مشاعرك و وجودك !! طب حلو، أكلي نفسك بقى يا كتكوتة"
شهقت بقوةٍ ثم أمسكت يده و هي تقول بتوسلٍ:
"اقف بص متبقاش قفوش كدا، أكلني الأول و بعد كدا روح نام، متبقاش قماص بقى"
ضرب وجهه بكفيه معًا ثم سار خلفها للمطبخ و هي تسبقه بمرحٍ و بعد مرور ثوانٍ كان هو يقوم بتقطيع الخضروات و هي على الطاولة تقوم بتجهيز "البطاطس" فاقترب هو يجلس مقابلًا لها حتى وجدها تقول بحالمية:
"كان حلم من أحلام حياتي اتجوز واحد علشان نطبخ أنا و هو سوا بليل كدا، أحلام هطلة و الله بس بحبها"
ابتسم لها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"الفكرة إن الحاجات دي بقت قليلة و نادرًا لما نشوفها، يعني عادي واحد يساعد مراته و عادي إنه يشتغل معاها شغل البيت، اللي مش عادي بقى أني كراجل أشوف نفسي كبير على الحاجات دي و أنسبها للست، هو دا بقى الهطل"
ابتسمت له و هي تقول بتأثرٍ مصطنع:
"و الله العظيم محتاجين نعمل نسخ منك و نوزعها، روح ربنا يكرمك يا شيخ"
ابتسم لها أكثر من قبل ثم أضاف:
"و على فكرة أنا و عامر و خالد و ياسر كدا، مش أنا لوحدي يعني علشان مبقاش مثالي بالنسبة ليكي"
سألته هي بدهشةٍ:
"بجد !! يعني مش لوحدك اللي كدا ؟! و لا علشان أنتم شلة واحدة ؟!"
رد عليها مُفسرًا:
مش علشان شلة واحدة و لا حاجة، بس ظروفنا كانت كدا و خليتنا نضطر نتعامل كدا و مع الوقت اتعودنا، يعني أنا كبرت لقيت رياض بيساعد زُهرة، فاتعلمت أنا كمان اساعدهم، و ياسر لما أخواته اتجوزوا اضطر هو يساعد مامته و بقى بيعمل معاها كل حاجة، و عامر طول عمره بيساعد مامته، و خالد لما كانت اخته في ثانوية عامة كان هو اللي بيساعد مامته، و قبلها كنا بنتعلم علشان ميمي، أنتِ بقى بنت محظوظة علشان أطلع أنا من نصيبك"
وضعت كفها أسفل ذقنها و هي تقول بنبرة صوتٍ هائمة:
"و أحلى نصيب و الله"
رفع حاجبيه لها بغير تصديق فوجدها تتنهد بعمقٍ ثم عادت لما كانت تفعله و هي تبتسم بسخريةٍ و تعبيرات وجهها تتبدل و كأنها تتحدث مع نفسها، فسألها هو بتهكمٍ:
"مالك يا هطلة !! كشرتي ليه مع نفسك؟أنتِ ملبوسة يا خديجة؟"
ردت عليه هي مُردفةً بمرحٍ:
"مرة زمان كان نفسي اتخطب و خطيبي يزعلني علشان كان فيه أغاني حزينة نفسي أسمعها و أتأثر بيها، و اتخطبت و اتجوزت و مسمعتش الأغاني اللي كنت عاوزة أنكد على نفسي بيها"
ضرب كفيه ببعضهما و هو يقول منفعلًا بغير تصديق:
"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يا بنتي أنتِ ليه مصممة تخليني أطلع أسوأ ما فيا !! عاوزة يتنكد عليكي، عيني حاضر هعملك جدول نكد محترم، نبدأ من إمتى ؟!"
رمشت بأهدابها عدة مرات فوجدته يشير بعينيه نحو السكين ثم أشار بكفه على عنقها بعلامة الذبح، و هي تطالعه بدهشةٍ و غير تصديق
_________________________
في شقة «عامر» بعدما دلفها مع زوجته و بعدما بدل ثيابه، كانت هي تقوم بتحضير العشاء له، بينما هو في الخارج كان يشعر بالدوار و الآلم يشتد على رأسه و كأنها تنقسم لنصفين، حاول جاهدًا فتح عينيه، لكن الألم كان أكبر من ارادته في ذلك، و فجأة سرت قشعريرة في جسده يصحبها برودة شعر بها في معدته، شعر هو برغبته في التقيؤ؛ فصارع نفسه حتى يركض للمرحاض، إبان ذلك شعرت «سارة» بظله يتحرك مُسرعًا بطريقةٍ هوجاء.
خرجت من موضعها بقلقٍ تقف بجوار المرحاض فاستمعت لصوته يتألم من وجع رأسه، و لأول مرةٍ تعايش ذلك الموقف معه، فسألته بقلقٍ و بصوتٍ تهدج و أقترب للبكاء:
"عامر !! أنتَ بتصرخ كدا ليه؟! رد عليا طيب مالك !!"
حولت فتح الباب مرارًا و تكرارًا لكنه أحكم غلقه من الداخل فور دخوله حتى لا تراه بذلك الوضع، فضربت الباب بقبضتها و هي تناديه بملء صوتها الباكِ، و في الداخل بلغ التعب مبلغه منه فلم تعد تقوى قدميه على حمله حتى خارت قواه و ارتمى على حرف حوض الاستحمام "البانيو" و تلك الرعشة تسير بجسده و البرودة تجتاحه، فعلم وقتها أنه أصيب بنزلةٍ معوية نتيجةً لبرودة الجو.
كانت «سارة» تحاول الوصول للداخل بكافة الطرق و هي تناديه بخوفٍ، حينها حاول هو الوقوف ثم استند على الحوض حتى يصل لها و حينها شعر بالتقيؤ من جديد، فوقف يستسلم له و صوته يعبر لها من الداخل، فلم تستطع التحمل أكثر من ذلك، حينها أخرجت هاتفها و طلبت أول رقمٍ يقابلها و هو رقم «خديجة».
كانت «خديجة» تتناول الطعام مع «ياسين» و هي تشاكسه و هو يسخر منها بملامح وجهه و هو يقلد طريقتها حتى صدح صوت هاتفها برقم «سارة»،
قطبت «خديجة» جبينها بتعجبٍ و هي تُجيب على الهاتف و قبل أن تتفوه مُرحبةً بها، وصلها صوت الأخرى تصرخ لها و هي تقول:
"الحقيني يا خديجة عامر تعبان أوي، خلي ياسين يجي أو أي حد منهم علشان خاطري"
انتفضت «خديجة» من مجلسها و هي تحاول طمئنتها بالحديث، كل ذلك كان يتابعه «ياسين» بتعجبٍ و الحديث بالنسبةِ له مُبهمًا، حتى أغلقت الهاتف و حدثته بخوفٍ:
"ياسين !! عامر تعب أوي في البيت و سارة عمالة تعيط و مش عارفة تتصرف"
انتفض هو من موضعه ثم ركض يأخذ هاتفه و مفاتيح بيته و حدثها منفعلًا بخوفٍ:
"البسي اسدالك و تعالي معايا بسرعة علشان سارة لوحدها، يــلا يا خديجة"
حركت رأسها موافقةً ثم ركضت لغرفتها ترتدي الاسدال و هو في الخارج يحاول التواصل مع كلًا من «خالد» و «ياسر» حتى اقتربت منه بعدما ارتدت اسدالها، فأغلق هو الهاتف مع صديقيه ثم ركض من الشقة و هي معه و كليهما القلق ينتاب قلبه و يفتت أحشائه.
في شقة «عامر» وقفت «سارة» تنتظر خروجه من المرحاض، حتى فُتح الباب أخيرًا بواسطته و ملامحه وجهه شاحبةً و السواد يحتل أسفل عينيه و كأنه تبدل في غضون ثوانٍ و قبل أن تسأله عن حالته ارتمى هو على أعتاب المرحاض و استند بجسده على الحائط خلفه دون أن يشعر بما حوله، فقط صدى صوتها و هي تمسك وجهه بكفيها و هي ترجوه ببكاءٍ حتى يرد عليها، حينها أغمض عينيه يستسلم لدوامةٍ سوداء مجهولة المصدر و النتيجة معًا.
صرخت بإسمه و هي تحاول جاهدةً أن تحمله بمفردها لكن قوتها الجسدية مقارنةً بجسده لا توضع في خانةٍ واحدة، حتى باءت كل محاولاتها بالفشل من جديد، فبكت و هي تمسك كفه و لاح أمام ناظريها ذكرى سيئة، حينما سبق و شاهدت هذا الوضع يوم وفاة والدها، و كأن الزمن يتكرر أمام عينيها من جديد، حينها ارتمت عليه و هي تبكي بحرقة الفقدان بعدما عوضها الله به.
و إبان ذلك ارتفعت الطرقات على باب الشقة و الجرس معًا بواسطة أخوته، انتبهت هي لوضعه و لحالته فرضكت نحو الباب تفتحه بعدما سحبت الخمار الموضوع بقرب الباب دومًا، فتحت الباب بلهفةٍ لهم، فأول من تحدث بخوفٍ كان «ياسين» و هو يستفسر عن تواجده، تحدثت هي من بين بكاءها، فركض ثلاثتهم نحو موضعه، بينما هي ارتمت بين ذراعي «خديجة» و هي تبكي بخوفٍ.
حمله «ياسين» و الشباب و توجهوا به نحو غرفة الأطفال، ثم وضعوه على فراشٍ من الاثنين، حاولوا ايفاقته لكن دون جدوى، و قام «ياسر» بالكشف عليه فعلم أنه أصيب بنزلةٍ شديدة أصابت جسده بالكامل، و حينها أخرج الإبرة الطبية يعطيها له بعدما جلبها معه احتياطيًا.
سأله «خالد» بخوفٍ و قلقٍ بلغ مبلغه حتى وصل لصوته و نبرته:
"ها يا ياسر ماله !! ما كان كويس و طالع من تحت حلو و فضل يهزر"
تنهد «ياسر» بعمقٍ ثم قال:
"عنده نزلة معوية شديدة و دور برد في المعدة، علشان قلع الجاكيت و ركب الموتوسيكل في الزفة، قولتله يلم يهدا و خلاص كدا، بس ازاي ؟! لازم يجيب أخره"
كانت «سارة» واقفةً على أعتاب الغرفة بجوار «خديجة» التي أمسكت يدها تساندها، و في تلك اللحظات تعلقت عينيها به و هو يركد على الفراش في ثباتٍ عميقٍ لا يعي بما يدور حوله، فاقترب «ياسين» منهما يتحدث بنبرة صوتٍ منهكة:
"خديجة، خدي سارة و روحي الشقة خليها ترتاح شوية و خلي بالك منها"
حركت رأسها موافقةً فتحدثت «سارة» برفضٍ قاطعٍ ترفض مقترحه:
"لأ !! مش هقدر أسيبه و أنزل، روحوا انتم و أنا هفضل معاه، مش هقدر حتى أغفل عنه"
اقترب «ياسر» منهم، بينما «خالد» لم يستطع السيطرة على نفسه حتى انجرف وراء مشاعره فجلس بجوار «عامر» على الفراش ثم أمسك كفه و بيده الأخرى ربت على رأسه و وجهه و الدموع تلمع في مقلتيه و كأن أبًا يجلس بجوار صغيره المريض
تحدث «ياسر» بهدوء محاولًا اقناعها بفكرتهم:
"أنتِ شكلك تعبان و باين عليكي الخضة، و احنا محدش فينا هيقدر يسيبه و ينزل من هنا، و أظن أنتِ عارفة حاجة زي دي، روحي مع خديجة و ريحي أعصابك شوية، و إحنا معاه هنا، مش هينفع نفضل هنا و أنتِ موجودة، ريحينا معلش"
قبل أن تهم بالتحدث، قاطعها «ياسين» برزانته المعتادة:
"سارة !! أنتِ مش هتقدري تقفي لوحدك و هو محتاج حد يكون جنبه يسنده، روحي ارتاحي و أنا و الله هكلمكم أطمنكم كل شوية، بس علشان لما يصحى حتى يلاقينا موجودين"
حركت رأسها موافقةً على مضضٍ بقلة حيلة، فلم تعد تقوى على المناهدةٍ معهم و هي تعلم تمام العلم أن حديثهم صحيح، و لكن كيف تتركه في حالته تلك و في ذلك الوضع ؟! لم تتخيل يومًا أن تقلق عليه بتلك الطريقة لطالما كان دائمًا مرح الطباع و مشاغبٌ لمن حوله، بكت من جديد حينما طالعت سكونه، فأشار «ياسين» لزوجته بعينيه حتى تأخذها معها، فحركت رأسها موافقةً ثم أخذتها معها و هي تحدثها بعدة كلماتٍ تبثها الطمأنينةِ، و الأخرى في وادٍ آخر تفكر في حالته و كيف تمكن منه التعب بتلك الطريقة.
لم تعلم كيف سارت مع «خديجة» و كيف ارتدت ذلك الاسدال و كيف أصبحت معها هنا في شقتها !! و لكنها بالطبع لم تهتم لكل ذلك فباتت حبيسة الماضى و لمحاته الحزينة و الخوف يأكلها خوفًا على ملاذها الآمن و هو «عامر»، ارتمت على الأريكة و هي تبكي بقوةٍ و «خديجة» بجوارها تحتضنها و هي تحاول السيطرة على دموعها هي الأخرى
_________________________
في شقة «عامر» ظل كما هو غافيًا على الفراش و «خالد» بجانبه يمسد على رأسه بحنوٍ بالغٍ و كأنه يعامل «يونس»، و «ياسين» بجواره على مقعد صغير وضعه بقرب الفراش ثم جلس يقرأ ما تيسر له من القرآن الكريم، و «ياسر» بين الحين و الآخر يتابع حرارته التي أخذت ترتفع مؤخرًا فتحدث الأخير بخوفٍ:
"مش هينفع كدا، لازم كمادات، حرارته عمالة تزيد و كدا غلط"
أغلق «ياسين» المصحف ثم هب منتفضًا و هو يسأل بخوفٍ:
"طب و بعدين !! بقاله ساعة و الحرارة عمالة تزيد، الحقنة معملتش حاجة ؟!"
حرك رأسه نفيًا بيأسٍ، فتدخل «خالد» يقول بصوتٍ متحشرج:
"حد فيكم يجيب خل و تلج و يحطهم في حاجة واسعة، ريهام بتعمل كدا ليونس، بسرعة منك ليه"
صرخ فيهما فتحركا معًا خارج الغرفة، بينما «خالد» أطلق العنان لدموعه أخيرًا و هو يحدثه بصوتٍ باكٍ و كأنه يستمع له:
"قوم بقى يا عامر....أنا مش هقدر أشوفك كدا كتير، قوم و رخم عليا براحتك و أنا راضي و الله"
نزلت دموعه رغمًا عنه على وجه «عامر» فأخفض جسده يقبل رأسه ثم تنهد بعمقٍ و هو لا يصدق أن مصدر السعادة بحياتهم جميعًا يحدث له كل ذلك، فلو كانت الضحكة يومًا ما شخصًا يعرف الطريق إليهم فبـالطبع هو السبب في ذلك.
دلف «ياسين» و «ياسر» معًا الغرفة، فجلس الأول بجوار «عامر» بعدما تحرك «خالد» تاركًا لهم المساحة حتى يستطيعا التعامل معه، فكشف «ياسر» جسده و شرع «ياسين» في تمرير القماشة المُبللة على جسده و «ياسر» يمرر الأخرى على وجهه، و «عامر» في وادٍ غير واديهم، لم يشعر بما حوله و لا حتى بخوفهم عليه، هو فقط غمغم بعدة كلمات غير مفهومة في نومه ثم سكت مرةً أخرى.
انتهيا كليهما من عمل الكمادات له ثم اقترب منه «ياسين» يجلس بجواره و رغمًا عنه انساق خلف رغبته و احتواه بين ذراعيه يحميه في كنفه، و على الفراش المجاور له في غرفة الأطفال جلس كلًا من «ياسر» و «خالد» معًا، و كليهما نظره مثبتًا على «عامر» بين ذراعي «ياسين» الذي مرر كفه على رأسه و هو يقوم برقيته بالرقية الشرعية كما اعتاد من والده عند تعبه.
استمر «ياسين» في ذلك حتى نهاية الرقية الشرعية ثم مرر كفه على جسد صديقه يتفحص حرارته و أخيرًا تنهد بعمقٍ حينما وجد حرارته طبيعية إلى حدٍ ما، و على الفراش الأخر نام «ياسر» بين ذراعي «خالد» دون أن يشعر و هو يراقب أخيه بتمعنٍ.
حرك «ياسين» رأسه للجهة الأخرى فوجد أخيه نائمًا بين ذراعي الآخر، فتحدث بهمسٍ بالكاد وصل لمسامع الأخر:
"خالد !! هو ياسر نام جنبك ؟!"
حرك رأسه موافقًا ثم أضاف بنفس الطريقة الهامسة:
"نام آه، كان مطبق بقاله يومين في المستشفى علشان فيه حملة تطعيمات و هو مسئول عن قسم الأطفال كله، مع الفرح بقى و الخضة دلوقتي جاب أخره"
حرك رأسه موافقًا ثم حرك على خصلات «عامر» ثم اقترب منه يقبل قمة رأسها و يمسح بكفه على وجهه بحنانه المعتاد دومًا، فابتسم له «خالد» بقلة حيلة ثم أضاف:
"خضني عليه أوي، أنا قلبي رُهيف قدام تعب واحد فيكم، مش حمل قلبي يوجعني على حد منكم كل شوية"
ابتسم «ياسين» بغلبٍ ثم تحدث يقول بلهجة صوتٍ متعبة:
"مش عارف يا خالد هو حصله إيه، بس شكلي هصدق كلام ميمي إن عامر ابن نظرة بجد"
عقد «خالد» ما بين حاجبيه بحيرةٍ من حديث الآخر، فأضاف «ياسين» مُفسرًا:
"عامر طول عمره بعد أي حاجة بيعملها بيتعب و يصدع، و النهاردة كان مبدع أوي، الواد دا خد عين محترمة"
حرك «خالد» كتفيه ثم أردف مؤيدًا هو الآخر بقوله:
"يمكن، الحسد مذكور في القرآن يا ياسين، و ربنا سبحانه و تعالى أمرنا بتحصين نفسنا، بس هو علطول بيقرأ الأذكار بعد الفجر، دي أكيد عين جمل رشقت فيه"
ابتسم «ياسين» بيأسٍ ثم حرك رأسه للأسفل يطالع «عامر» بين ذراعيه فابتسم أكثر حينما وجد البراءة على وجهه يشبه الطفل الصغير في نومه، رغمًا عنه فرت دموعه، فتحدث بصوتٍ مختنقٍ:
"الدنيا ملهاش حِس من غيره يا خالد، عامر طول عمره هو أساس الفرحة في حياتنا، صعبان عليا أشوفه كدا، أنا عاوزه يفوق دلوقتي"
تنهد «خالد» بقلة حيلة ثم حرك رأسه للجهة الأخرى يطالع ذلك الذي يرتجف بجواره بعدما أمسك ذراعه، فأغمض عينيه بألمٍ ثم حرك كفه يمسد عليه و الدموع تلمع في مقلتيه، حينها تحدث «ياسين» يسأله بذهولٍ:
"هو ياسر لسه بيترعش و هو نايم !! معقول لسه بيشوف الكابوس دا ؟!"
شخص «خالد» ببصره نحوه ثم حرك رأسه موافقًا و هو يضيف:
"لسه....كل مرة و هو نايم ساعات بيشوف نفسه هيقع جوة حُفرة و ساعات بينط من على جبل، و ساعات بيغرق، لما بيتنفض كدا يبقى شاف نفسه بيقع في حاجة منها، بس بطل يقوم من النوم بقى بيكمل عادي، الأول كان بيصحى يصرخ و ينهج، دلوقتي بقى أحسن"
زفر «ياسين» بقلة حيلة ثم تحدث بضجرٍ:
"منه لله سمير، راجل أناني و حقير و معندهوش ريحة الرجولة"
احتضن «خالد» أخيه ثم حرك كفه يمسد على ظهره و على رأسه و هو يقرأ له بعض آيات الذكر الحكيم حتى يهدأ من تلك الرجفة التي سارت في جسده حتى أرقت مضجعه و هزت ثباته، ابتسم «ياسين» بسخريةٍ و هو يقول:
"احنا عاملين زي المرافقين في المستشفيات، الليلة كانت زي الفل و الواحد حاسس إنه راجع من فرحه، إيه اللي إحنا فيه دا"
ابتسم «خالد» بسخريةٍ و هو يقول:
"يا سيدي مرافقين مرافقين مش مشكلة، بس يقوموا كويسين، لو هفضل طول العمر أحميهم كدا معنديش مانع، بس يفضلوا كويسين و أنتَ معاهم، عارفك بتبقى متضايق و تعبان و عمرك ما اشتكيت"
حرك رأسه له و هو يقول بسخريةٍ:
"دا أنتَ كاشفني بقى !! محلل شخصيتي و عارف عني كل حاجة؟!"
حرك رأسه موافقًا ثم تابع حديثه:
"عارف و حافظ كل حاجة فيك، و مش أنتَ لوحدك، كلكم، أصلها مش عشرة يوم و لا اتنين، دي عِشرة ١٦ سنة خلاص قربنا نتمهم مع بعض، تفتكر مش هحفظكم!!"
حرك رأسه نفيًا و هو يجاوب استفساره الساخر، فتحدث «خالد» بعدما تنهد بعمقٍ:
"ربنا يحفظكم ليا و يباركلي فيكم، أنا مليش غيركم يا ياسين، عيالي و أخواتي و أصحابي و أهلي، أنتم نور عيني"
لمعت العبرات في مقلتي «ياسين» تأثرًا من حديث صديقه، ثم رفع رأسه للأعلى و هو يتذكر أيامهم سويًا و حياتهم معًا و كلًا منهم يحتضن الآخر و هو يفكر كيف تكون الحياة بدون أصدقاء مثلهم ؟! لم يشاء الله أن يمن عليه بوجود أخوة يربط بينهم رابطة الدم، و برحمته و كرمه أعطاه ما هم أقرب له من رابطة الدم، حيث نشأت بينهم رابطة القلب، رابطةٌ جمعت أربعة قلوب سويًا، كلًا منهم ينبض بحب الآخر.
_________________________
في شقة «حسن» جلس على الفراش و «هدير» بين ذراعيه و هو يربت على خصلات شعرها كما المعتاد و باله مُنشغلًا بالقادم، فحتى الآن هاتفه كما هو يرتفع رنينه برقم شقيقته، لم يحتاج وقتًا لمعرفة ماهية تلك المكالمات، بالطبع و كما المعتاد تريد تزويجه من أحدى الفتيات التي دومًا تجلبهن له حتى يتعرف عليهن، ففي ذلك الوقت من كل عامٍ تهاتفه حتى تستغل أجازة ولدها في محاولة منها لتزويج أخيها.
زفر هو بقوةٍ و هو يشعر بالحيرة و التخبط في أمره، فكيف يخبرها أن من عاش طوال عمره يهرب منه و يرفضه، وقع به كما وقوع الأسير في يد العدو؟! كيف يخبرها أن ذلك الانطباع الذي أخذه عن فكرة الارتباط و الزواج، تلاشى بوجودها معه ؟!
كيف يخبرها أنه تزوج و أحب و عشق أخر من توقع أن يأتي يومٌ و يذكر اسمها على لسانه، أغمض جفنيه بشدة ثم تنهد بعمقٍ خوفًا من القادم، فاذا علمت «هدير» بأمر شقيقته و محاولة زواجها من أخرى غيرها بالطبع ستثور ثائرتها و إن احتد الأمر ستتركه و تغادره، و عند وصوله لتلك النقطة شدد مسكته لها خوفًا من تحقيق ما جال بخاطره.
ثم حرك رأسه للأسفل يراقبها بين ذراعيه فوجدها تنام هادئةً مُطمئنةً بين ذراعيه، ابتسم بهدوء و هو يفكر بها «هدير» تلك القطة الشرسة التي كان يخشى الاصطدام معها حتى لا تحدثه بفظاظتها القديمة، الآن هي زوجته و حبيبته و هي من أراد الله أن يزيل عناء حياته؛ بتواجدها هي معه.
أرجع رأسه للخلف ثم أخرج زفيرًا قويًا لعله يهديء من حيرته و تخبطه من القادم و قلبه يردد داعيًا المولى عز وجل أن يخرج من تلك الفترة بأقل الخسائر النفسية حتى و أن خسر بها سلامه، و لكن تبقى فقط هي بجواره.
_________________________
انقضى الليل بعتمته و ظلمته على الجميع، في ليلةً ظنها الجميع ليلة السرور و السعادة، غافلين عن من قضى ليله شاردًا و عن من قضى ليله لرفيقه حارسًا، و عن من قضت ليلتها خوفًا باكية، حتى تسللت خيوط الشمس الصباحية تعلن عن بداية يومٍ جديد، يحمل معه الكثير آملين أن يمر بسلامٍ متوكلين على المولى حق التوكل و الاعتماد، فمن لنا سواه نرجوه أن يحفظنا و يحمينا من شرور أنفسنا ؟!
فتح «عامر» عينيه على مضضٍ بعدما داعبت أشعة الشمس الصباحية جفنيه، في حالة تمرد منها، فك حصار جفنيه لمقلتيه أخيرًا ليطالع السقف بتشوشٍ و كأنه يرى الغرفة من خلال ظلال النيران، رفع حينها كفه يمسح وجهه ثم حرك رأسه للأسفل حينما شعر بأنه محاصرًا بين ذراعين قويين، فوجد «ياسين» يحتضنه بقوةٍ و هو بين ذراعيه، عقد ما بين حاجبيه، ثم حرك رأسه مرورًا بانحاء الغرفة بأكملها حتى وقع بصره على صديقيه في الفراش المجاور له، تنهد بعمقٍ حينما تذكر ما حدث بالأمس و لم يحتاج لوقتًا طويلًا حتى يستنتج ما حدث، بالطبع زوجته هي من أخبرته، و عند وصوله لها بتفكيره، سحب هاتفه حينما وجده بجواره على المنضدة الصغيرة بجوار الفراش، ثم ضغط على رقمها حتى يهاتفها، و قبل أن يُكمل اتصاله كاد يغلق المكالمة ظنًا منه أنها غافيةً في ذلك الوقت حينما وجد الساعة الثامنة صباحًا.
لكنه لم يتوقع أن تُجيب على مكالمته بتلك السرعة حيث وجدها تحدثه بلهفةٍ باكية:
"عامر !! طمني عليك عامل إيه ؟! أنتَ كويس دلوقتي ؟!"
تنهد بعمقٍ ثم تحدث بنبرة صوتٍ متحشرجة:
"الحمد لله يا سارة، بس أنتِ فين ؟! أكيد مش في الشقة"
ردت عليه هي بنبرةٍ باكية:
"أنا عند خديجة يا عامر، جت خدتني امبارح علشان الشباب يعرفوا يكونوا معاك، أنا مكنتش عاوزة أسيبك و الله، بس هما أصروا عليا و أنـ....."
بكت بقوةٍ و امتزج بكائها بشهقاتٍ قوية جعلته يتحدث مُسرعًا حتى يطمئنها:
"أنا كويس متخافيش و الله، هصحيهم علشان هما نايمين و هكلمك علشان تيجي، و أهدي بدل ما أجي أخدك أنا"
ردت عليه هي مُسرعةً:
"خلاص خلاص...هستناك تكلمني، بس بجد أنتَ كويس ؟! و لا بتقول كدا علشان تسكتني؟!"
ابتسم هو براحةٍ ثم تحدث يجاوبها:
"كويس....الحمد لله و الله و بصراحة بقيت كويس علشان خوفك عليا، خليني بقى أشوف العيال دي...سلام"
أغلق الهاتف دون أن ينتظر ردها عليه، ثم وضع الهاتف مكانه السابق، شعر حينها «ياسين» بحركته بين ذراعيه فانتفض يسأله بخوفٍ:
"عامر !! رايح فين ؟! أنتَ كويس يا حبيبي ؟!"
رد عليه «عامر» يطمئنه:
"متخافش كدا...اهدا، أنا كويس الحمد كنت بحط التليفون مكانه"
اعتدل «ياسين» في جلسته ثم قام بضبط الوسادة خلف ظهر صديقه ثم وضع كفه يتحسس حرارته، و حينها تنهد براحةٍ ثم قال:
"الحمد لله...حرارتك نزلت كتير عن بليل، لسه جسمك بيوجعك؟"
حرك رأسه نفيًا و هو يبتسم له بحبٍ بالغٍ لم يقوى على إخفاءه من نظرته و تأثره البادي على وجهه، فسأله «ياسين» بتعجبٍ:
"مالك !! بتبصلنا كدا ليه طيب؟"
سأله حينما وجده يمرر بصره بينهم بتساوٍ و كأنه يجبر نفسه على التأكد من تواجدهم، فتنهد براحةٍ ثم قال:
"مستغرب وجودكم و فرحان علشان مقضيتش الليلة دي لوحدي، صحيح تعبتكم معايا بس مليش غيركم يلحقني و يكون معايا في تعبي قبل راحتي"
اقترب «ياسين» منه يقبل قمة رأسه ثم طالع عمق عينيه و هو يقول بتأثرٍ اقتبسه من تأثر الأخر:
"ياض احنا ملناش غير بعض، دا الواحد فينا كنز للتاني يا عامر، لو واحد فينا تعب قبل حتى ما يفكر في اللي من لحمه و دمه هيفكر في بقوا اقربله من روحه، قوم بس علشان محدش فينا عارف يستحمل وجودك كدا"
حرك رأسه موافقًا فوجد «خالد» يرفع رأسه من على الوسادة و هو ينظر لموضعهما سويًا، حينها ترك الفراش ثم ركض نحوهما و هو يسأله بلهفةٍ:
"عامر أنتَ فوقت !! طمني حاسس بإيه لسه تعبان زي ما أنتَ؟!"
طالعه «عامر» بغير تصديق ثم حرك رأسه لـ «ياسين» يستفسر منه، فحرك الأخر كتفيه محاولًا كتم ضحكته، فتحدث «خالد» بقلقٍ:
"رُد عليا !! أنتَ كويس و لا لسه تعبان ؟! انطق يا زفت بقى !!"
تنهد «عامر» بعمقٍ ثم تحدث أخيرًا:
"كويس يا خالد متخافش الحمد لله جت سليمة، هتلاقيهم شوية برد بس"
اقترب «ياسر» منهم بعدما استيقظ و هو يقول بنبرةٍ صوتٍ جامدة:
"لأ دي نزلة معوية شديدة، علشان تبقى تقلع الجاكيت كويس و تركب الموتوسيكل، حرام عليك نفسك يا عامر"
رد عليه مُسرعًا:
"بس أنا طلعت كويس الحمد لله، يدوبك خدت دُش و غيرت هدومي و سارة كانت بتعمل الأكل، مرة واحدة جسمي اترعش و حسيت بتلج في معدتي و بعدها دماغي كأن حد بيكسر فيها، أخر حاجة فاكرها و أنا في الحمام و بصرخ من دماغي لما رجعت"
اقترب منه «خالد» ثم سحبه بين ذراعيه و هو يربت على ظهره ثم قال بتأثرٍ:
"سلامتك و سلامة قلبك من كل شر يا رب، ربنا يحفظك و يخليك لينا يا رب، قوم بقى يلا"
رفع ذراعيه يحتضنه هو الأخر ثم قال بتأثرٍ:
"أنا مكنتش عاوز أخض حد فيكم عليا و الله، بس مش عارف حصل إيه علشان اتعب كدا"
ابتعد عنه «خالد» يقول بسخريةٍ:
"حسدوك يا ضنايا، لقوك عامل زي النحلة عمال تلف و تفرح في الكل، نشوك عين جابت أجلك"
طالعه «عامر» بوجهٍ ممتعضٍ و هو يقول:
"دا هما برضه ؟! دا عينك أنتَ يا بومة يا كئيب يا عدو الفرحة"
رفع «خالد» حاجبه له و في غضون ثوانٍ كان يدغدغه في قدمه و «عامر» يضحك بقوةٍ فها هي نقطة ضعفه الوحيدة، فانضم إليهما الآخريْن و هم يضحكون أربعتهم حتى صرخ «عامر» من بين ضحكاته يتوسلهم بالتوقف.
امتثلوا لتوسله و توقفوا عن ما كانوا يقومون به، حتى تنهد هو بعمقٍ ثم تحدث ممتنًا لهم:
"ربنا يخليكم ليا يا رب و تفضلوا معايا علطول، و الله مش عارف اقولكم إيه، خصوصًا أني خسرت حاجات كتير امبارح"
قطب الثلاثة جبينهم بحيرةٍ و تعجبٍ، فتحدث «عامر» مُفسرًا:
"سارة كانت محمرالي فراخ بانيه و بطاطس محمرة امبارح، العين رشقت فيهم أكيد"
طالعه ثلاثتهم بنظرةٍ ثاقبة و ما لبثوا ثوانٍ حتى انفجر الأربعة في الضحك سويًا و هو معهم، حتى تحدث «ياسر» مفسرًا:
"طبعًا مفيش الكلام دا يا جماعة و كلامي هيتسمع، ممنوع الأكل المقلي و ممنوع الأكل بتاع الشارع و الأكل يكون ملحه قليل و مسلوق بس، و على الله أسمع كلمة زيادة"
تحدث «عامر» بسخريةٍ:
"فيه إيه يا ياسر ؟! أنتَ هتعيش عليا الدور ؟! دا أنتَ دكتور أطفال يالا، فوق يا ياسر !!"
ضحك كلًا من «خالد» و «ياسين» بينما «ياسر» هجم عليه يمسكه من تلابيبه و هو يصيح في وجهه:
"لم نفسك يالا بدل ما أرزعك دماغ تكمل عليك لحد أخر الأسبوع، تسمع الكلام و تفوق معايا كدا علشان ممدش أيدي عليك"
حرك «عامر» رأسه موافقًا بسرعةٍ كبرى فتحدث «ياسين» بهدوء:
"يلا علشان نفطره قبل الصلاة علشان نشوف ورانا إيه و هو يرتاح"
رد عليه «عامر» مسرعًا بلهفةٍ قاطعة:
"هو مين دا اللي يرتاح ؟! أنا مبعرفش ارتاح و أنتَ عارف كدا كويس يا ياسين، هنزل معاكم"
تدخل «خالد» يتحدث بنبرةٍ جامدة:
"تنزل معانا فين ؟! أنتَ هترتاح هنا و تصلي في البيت طالما تعبان و أنا و هما هنروح لميمي و بعدها نروح لوليد و طارق قبل ما يسافروا، خليك بس أنتَ هنا و ارتاح"
رد عليه بعنادٍ:
"خلاص، هنزل وراكم و هروح برضه لوحدي، مش هغلب يعني، و لو على المواصلات هكلم أوبر ييجي يوديني، أحسنلكم تخدوني معاكم"
نظر لبعضهم البعض بقلة حيلة، فتحدث هو مُقررًا باصرارٍ:
"من غير ما تبصوا لبعض، هاجي معاكم عند وليد و طارق و ميمي روحوا أنتم ليها حلو كدا ؟!"
بعد مرور دقائق تناول «عامر» الفطار الذي أعده له «ياسين» و لأول مرّةٍ يرفض تناول الطعام في حياته، بسبب ألم معدته مما جعلهم يسخرون منه، و حينما اتى موعد الدواء حرك رأسه نفيًا و هو يقول بخوفٍ:
"لأ !! بلاش علشان خاطري مبحبش دوا الشرب"
تحدث «ياسر» بحزمٍ و تقريرٍ:
"ولا ؟! مش عاوز هبل منك، خد الدوا خلينا نشوف ورانا إيه؟! متتعبناش بقى"
حرك رأسه نفيًا فوجد «خالد» يمسك وجهه بكفيه يفتح فمه عنوةً عنه، و حينها قام «ياسر» بادخال الدواء في فمه حتى ابتلعه هو أخيرًا و هم يضحكون عليه حتى فتح هو ذراعيه لهم ثم ارتموا بداخلهم.
_________________________
في شقة «ياسين» طرق هو باب الشقة بعدما نزل من عند صديقه، فوجد «خديجة» و «سارة» معها بعدما فتحت له زوجته الباب، فسألته الثانية بقلقٍ ممتزج بالبكاء:
"ياسين طمني عامر كويس ؟! لسه تعبان زي امبارح ؟!"
حرك رأسه نفيًا ثم تحدث يطمئنها بصوتٍ هاديءٍ:
"و الله كويس متخافيش، روحي دلوقتي اتطمني عليه قبل ما ننزل نصلي، علشان هو مصمم ينزل و اتطمني خد الدوا و بقى زي الفل"
حركت رأسها موافقةً ثم شكرتهما، فتحدث «ياسين» يرفع عنها الحرج و يحدثها بعتابٍ:
"مفيش أخت بتشكر اخواتها و إحنا أخواتك كلنا، ربنا يخليكم لبعض و لو فيه حاجة كلمينا من غير إحراج"
حركت رأسها موافقةً ثم طالعتهما بنظرة امتنانٍ قبل أن ترحل من المكان حتى تذهب لزوجها، بينما «ياسين» أغلق الباب بعدما دلفت هي المصعد ثم تنهد بعمقٍ، فسألته «خديجة» بقلقٍ:
"هو عامل إيه يا ياسين ؟! لسه تعبان زي ما كان امبارح ؟!"
حرك رأسه نفيًا ثم اضاف:
"لأ يا خديجة الحمد لله، هو كويس بس ياسر قال ممكن بليل يسخن شوية، و يارب يفضل كويس كدا و ميتعبش تاني"
حركت رأسها موافقةً فتحدث هو مُسرعًا:
"فطريني بقى لحد ما أصلي الصبح يلا، علشان نشوف هنروح فين بعد كدا"
حركت رأسها موافقةً و هي تبتسم له ثم تحركت من أمامه.
وصلت «سارة» لشقتها بسرعةٍ كبرى بعدما سارت بخطواتٍ غير متمهلة أشبه بالركض، حتى توقفت على باب الشقة تطرقه بقوةٍ بعدما فشلت في فتح الباب بالمفتاح، حتى فتح هو لها و هو يبتسم بهدوء، حتى وجدها ترتمي بين ذراعيه و هي تسأله بخوفٍ:
"عامل إيه يا عامر ؟! طمني عليك، أنتَ كويس ؟!"
أغلق الباب أولًا ثم رفع ذراعيه يحتضنها و هو يقول مُطمئنًا لها:
"الحمد لله يا سارة و الله كويس و زي الفل، و بصراحة فرحان و أنتم مخضوضين عليا كدا"
وكزته في كتفه و هي تقول بضجرٍ منه:
"أنتَ مهزق يا عامر ؟! فرحان و احنا كلنا كنا بنموت من الخوف علشانك ؟!"
رد عليها هو مُسرعًا يشاكسها بسخريةٍ:
"بإمارة إنك سيبتيني و نزلتي علشان متشيلش همي و خلتيني معاهم"
شهقت بقوةٍ حينما أخبرها بتفكيره فيها، و نزلت دموعها رغمًا عنها، فوجدته يضحك و هو يمسح دموعها تزامنًا مع قوله معتذرًا لها:
"أنا آسف و الله بهزر، مش قصدي اخليكي تعيطي كدا، ربنا ياخدني يا شيخة و الله بهزر"
ردت عليه هي بصوتٍ مختنقٍ:
"أنا مكنتش هسيبك على فكرة و مكنتش عارفة اتصرف، بس هما صمموا أني أنزل علشان مينفعش افضل معاهم هنا، أنا مش قليلة الأصل علشان أسيبك و أنتَ تعبان"
اقترب منها يضمها إليه و هو يقول معتذرًا بندمٍ:
"بهزر و الله و عارف كويس إخواتي اتصرفوا ازاي، لو كنتي فضلتي أكيد كنت هتضايق، بس هما أخواتي و يخافوا على لحمي زيي بالظبط، و أكيد محدش فيهم كان هيفضل هنا و أنتِ موجودة، متزعليش مني"
حركت رأسها موافقةً فابتسم هو لها ثم قال ممازحًا لها:
"ادخلي بقى حمريلي البانيه و البطاطس بتوع امبارح، يلا يا ستي خليني افوق بقى، مع إن الواد ياسر دا دكتور شاطر و الدوا بتاعه جاب نتيجة"
قبل أن ترد عليه وصلتها رسالةً صوتية عبر هاتفها من رقم «إيمان» و مفداها:
"صباح الخير يا سارة، ألف سلامة على عامر، ياسر بيقولك متسمعيش كلام عامر و أكله يبقى كله مسلوق و من غير ملح و بلاش أي أكل مقلي أو أكل من الشارع علشان معدته واخدة برد، و بيقولك البانيه و البطاطس بعتهم ليونس ياكلهم علشان عامر يلم نفسه"
رفعت حاجبها له و هو يرمقها بوجهٍ متشنجٍ و نظرة عين مغتاظة حتى تحدث بحنقٍ:
"أفشل دكتور في مصر كلها، ياسر دا، دكتور حمار أصلًا، ماشي يا دكتور البهايم أنتَ"
ضحكت هي بقوةٍ عليه حتى تحدث هو بغير تصديق و بلاهةٍ:
"يا سوادي ؟! دا أنا البهايم"
_________________________
بعد مرور سويعات قليلة و بعد عودة الشباب من عند «ميمي» شرعوا جيمعًا في التجهز وسط النهار حتى يذهبوا لتقديم المباركات للعريسين.
في بيت الشباب انتشرت الزغاريد من قبل نساء العائلة حينما ذهبوا لتقديم المباركات للعريسين، و في البداية دلفوا جيمعًا لدى شقة «طارق»، جلست معظم العائلة بكبارها يباركون لهما، حتى خرجت «جميلة» من الداخل تقدم لهم واجب الضيافة و هي تبتسم بخجلٍ،
اقتربت منها «مشيرة» تحتضنها بقوةٍ و هي على مشارف البكاء، فبادلتها «جميلة» العناق بنفس الشوق، و هي تبتسم بعمقٍ، ثم أقتربت منهم جميعًا تلقي عليهم التحية و ترحب بهم، حتى اقترب منها «أحمد» يجلس بجوارها ثم قدم لها هديته و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"دي هديتي ليكي، و متأكد إنها هتعجبك إن شاء الله، بصراحة مفيش أغلى من دي هدية علشان أجبهالك"
أخذت منه الحقيبة الكبيرة و هي تطالعه بتعجبٍ من حجمها فلم تتوقع ما يوجد بداخلها بسبب كبر حجمها، حينما قامت بفتحها ابتسمت باتساعٍ حينما وجدت بها "المصحف الشريف" بحجمٍ كبيرٍ و معه الحامل الخاص به، رفعت عينيها تطالعه بتأثرٍ، فجلس على ركبتيه أمامها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"علشان لما تصلي قيام الليل تقرأي فيه بدل ما تمسكي المُصحف في إيدك، و عاوزك تدعيلي معاكي يا جميلة"
ردت عليه مسرعةً بنبرة صوتٍ باكية:
"بدعيلك و الله، علطول بدعيلك معايا و بدعي للكل معايا، بس أنتَ ليك عندي غلاوة كبيرة أوي، من ساعة ما جيت هنا و عرفت إنك أخويا و أنا كان نفسي نكون صحاب و دعيت بكدا من كل قلبي و ربنا كرمني بيك أحسن أخ في الدنيا كلها"
اقترب منها يقبل رأسها ثم ربت بيده على رأسها و بعدها حرك رأسه ينظر لـ «طارق» و هو يقول مُحذرًا له:
"بقولك إيه، أنتَ أخويا ماشي و مديري في الشركة على عيني و راسي، بس دلوقتي بقيت جوز أختي، لو زعلتها يا طارق أنا هزعلك معلش بقى"
رفع «طارق» حاجبه له و هو يقول بلامبالاةٍ:
"براحتك يا حبيبي، مخصوم منك شهر مبدأيًا دا أول حاجة، تانى حاجة، فيه موضوع كدا كلها شهور و تفتحه معايا، أحب أقولك طلبك مرفوض"
علموا جميعًا بمرمى حديث «طارق» الذي رمى به على شقيقته الغائبة حتى اقترب منه «أحمد» يقول بخبثٍ:
"مش بمزاجك دي، بمزاجي و مزاج كبيرنا و أنا هخلي كبير العيلة هو اللي يطلبها ليا، ريح نفسك، و لو على الخصم، فأنا باخد منك تِلت و من وئام تِلت و من حسن تِلت، يعني برضه ريح نفسك"
ضحكوا جميعًا عليه فتحدث «طارق» بغير تصديق:
"يخربيتك !! دا أنتَ طلعت زيه بالظبط، طول عمري كنت بقول إنك هتكون نسخة منه"
أومأ له موافقًا ثم أضاف مؤكدًا:
"بالظبط هو هو أنا، فبلاش نخليها حرب ما بيننا خلينا أخوات و الدنيا حلوة بينا و حافظ على اللي ليا عندك"
ابتسم له «طارق» ثم حرك رأسه لوالده و هو يقول بسخريةٍ:
"مكتوبلك تناسب وليد مرتين، أحمد النسخة التانية منه أهوه"
ضحكوا عليه الموجودين، فتحدث «محمد» بحنقٍ:
"دا أنا داخل على مرار طافح شكلي كدا، مبدأيًا أنا مش موافق"
تدخل «مرتضى» يقول بخبثٍ:
"متوافقش يا حبيبي، من امتى و العيال بناخد كلمتهم، أنتَ و طه ملكمش دعوة أصلًا، حودة هو اللي هيجوزهم، مش كدا يا محمود ؟!"
سأل شقيقه الكبير بمرحٍ جعلهم يضحكون جميعًا حتى تحدث «محمود» بمرحٍ و هو يقول:
"أنا عيني ليهم، سلمى تخلص بس و أحمد يشد حيله شوية، و عاوز حد منهم بقى يتكلم"
تدخل «طه» يقول بمرحٍ:
"أنا مالي يا أخويا، اعتبره ابنك و شيل جوازته كلها على بعضها"
راقص «مرتضى» حاجبيه لـ «محمد» و هو يقول بسخريةٍ:
"مش سامع صوتك يا محمد ؟! خدنا منك عيالك التلاتة، خليك بقى كدا"
نفخ وجنتيه و هو يقول:
"يا ستار يا رب منك يا رخم، اكبر بقى يا مرتضى و بطل هبل"
أخذ كوب العصير و هو يدندن بمرحٍ أثار استفزازه حتى وقف «محمد» و هو يقول بقلة حيلة:
"أنا هطلع اتطمن على عبلة قبل ما أطق من جنابي"
تحدث «مرتضى» بمرحٍ:
"اقفل الباب وراك يا حمادة"
انتشرت الضحكات مرةً أخرى عليهما و خاصةً حينما أغلق «محمد» خلفه بقوةٍ و النساء تضحك عليه بيأسٍ.
صعد «محمد» لدى الطابق الخاص بابنته ثم طرق باب الشقة، ففتحت له «عبلة» و هي تبتسم بفرحةٍ ثم ارتمت بين ذراعيه فوجدته يتشبث بها ثم مرر كفه على ظهرها و هو يقول بتأثرٍ:
"حبيبة بابا و روح قلبي، عاملة إيه يا عبلة، طمنيني"
حركت رأسها موافقةً ثم أضافت بصوتٍ مختنقٍ:
"أنا كويسة أوي الحمد لله يا بابا، تعالى يلا ادخل هتفضل واقف كدا؟! تعالى وليد جوة بيصلي"
حرك رأسه موافقًا ثم دلف معها للداخل، يجلس في انتظار «وليد»، بينما هي جلست بجوار والدها و هي تبتسم باتساعٍ و فرحةٍ قرأها هو من على صفحة وجهها، فاقترب هو يقبل رأسها ثم تحدث بنبرةٍ هادئة:
"ربنا يخليكم لبعض يا عبلة و يهادي سركم و يرزقكم بذرية صالحة إن شاء الله تعوضكم خير"
حركت رأسها موافقةً ثم اقتربت منه تقبل وجنته بعدها تحدثت بصوتٍ باكٍ:
"و يخليك ليا علشان أنا بحبك أوي، طول عمرك صاحبي و حبيبي و أخويا، و مليت عندي كل حاجة تخليني كل يوم احمد ربنا على وجودك، أنا اللي بيخليني اصبر على أني سيبتك هو أني متجوزة وليد، و وليد عامل زيك، بيحارب علشاني، و أنا بصراحة محظوظة بيكم أوي"
ابتسم لها ثم احتضنها أسفل ذراعه و هو يتنهد براحة كبرى، حتى وجد «وليد» يخرج من الداخل و هو يقول مُرحبًا به:
"عمي محمد !! و الله توقعت إنك أول واحد هيطلعلي هنا، نورت يا عمي"
وقف عمه يرد تحيتته ثم احتضنه و هو يقول بعاطفةٍ أبوية غلبت عليه:
"ألف مبروك يا وليد، ربنا يسعدكم يا حبيبي و يكرمكم إن شاء الله بالخير"
حرك رأسه موافقًا و هو يبتسم له و عمه يحاول اخفاء تأثره و فرحته بهما، حتى تحدث «وليد» لزوجته:
"أنتِ قعدة ليه؟! روحي هاتي لعمي العصير و اتوصي بيه قبل ما يطلعوا كلهم"
حركت رأسها موافقةً و هي تضحك بفرحةٍ ثم قبلت والدها بمرحٍ و رحلت من أمامهما، ضحك عليها «وليد» رغمًا عنه فتحدث والدها بيأسٍ منها:
"هبلة.... بس بتحبك أوي"
حرك رأسه موافقًا ثم أضاف:
"و أنا بحبها و الله و راضي بهبلها دا، يا رب بس تيجي على قد الهبل"
حرك عمه رأسه نفيًا و هو يقول بقلقٍ:
"ماظنش..أكيد فيه كوارث تانية"
_________________________
بعد مرور دقائق اجتمعت العائلة في شقة «وليد» بعدما تركوا شقة «طارق»، جلسوا جميعًا يباركون له و يتحدثون في أجواء الفرح المبهجة، و في مشاكسة الأخوين «محمد» و «مرتضى»، و قام «أحمد» بتقديم المصحف لهما و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"علشان ربنا يكرمنا كلنا إن شاء الله، عاوزكم تدعولي معاكم"
أمسك «وليد» المصحف في يده ثم فتح أول صفحاته و هو يبتسم بخفةٍ، و كأنه لأول مرّةٍ تقع عينيه على تلك الآية الكريمة
قال تعالى:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
_صدق الله العظيم
كانت تلك الآية تحديدًا موضوعة في ورقة صغيرة وضعها «أحمد» مع المصحف الشريف ثم كتب أسفلها عدة كلماتٍ مباركةً للعروسين، حينها رفع «وليد» رأسه يمرر نظره عليها و على الآية مرةً أخرى، و هو يتذكر هوجاء روحه السابقة كأنه مثل الموج الثائر في تلاطمه مع الصخور، أما الآن و منذ وقوفه بين يدي الله سبحانه و تعالى و هي خلفه و هو يشعر براحةٍ غريبة تتغلل روحه المُتعطشة، و مع وقوع بصره على تلك الآية فهم المعجزة الآلهية في خلق روح من الأخرى و جعلها سكنًا لها، لمعت العبرات في عينيه تأثرًا من هيبة الآية الكريمة و عظمة الخالق التي اتضحت في تلك العلاقة، تنهد بعمقٍ ثم تحدث بنبرةٍ صوتٍ متحشرجة:
"دي أحلى و أعز و أغلى هدية جاتلي في حياتي كلها يا أحمد، مفيش أغلى من كلام ربنا سبحانه وتعالى علشان تهديني بيه، كل يوم هصلي و أدعيلك معايا"
ابتسم له «أحمد» ثم حرك أهدابه موافقًا و هو يبتسم له، حتى تحدثت «عبلة» تسألهم بلمحة حزنٍ يشوبها التعجب:
"فين سلمى و خلود ؟! مجوش معاكم ليه ؟!"
ردت عليها «سهير» مفسرةً:
"راحوا الدروس اللي فاتتهم من يوم الحنة دي، علشان يلحقوا يعوضوا اللي فاتهم و خصوصًا سلمى بتاعة الثانوية العامة دي"
حركت رأسها موافقةً فتحدث «وليد» يوجه حديثه لهم جميعًا:
"بقولكم إيه ؟! أنا مش موجود في البيت بس لو حد زعلهم أنا هجيله، سلمى و خلود أمانة في رقبتكم، أحمد !! خلي بالك منهم و خصوصًا خلود، متسيبهاش لوحدها كتير علشان هي بتضايق"
حرك رأسه موافقًا له ثم طمأنه بحديثه أنه سيحافظ عليهما سويًا تحت إشراف العائلة بأكملها.
و بعد مرور دقائق رحلت العائلة من البيت بعد مباركتهم للعروسين و تقديم الهدايا لهم، و بعدما أغلق «وليد» الباب خلفهم عاد يجلس بجوار «عبلة» و هو يبتسم لها حتى باغتته بسؤالها:
"تنحت كدا ليه لما شوفت هدية أحمد ؟! أنا على ما أظن إنك عيطت كمان ؟!"
حرك رأسه موافقًا ثم تنهد بعمقٍ و هو يقول:
"الآية لما شوفتها حسيت أني اتكهربت، يمكن كل مرة كنت بقرآها و ساعات أفسرها و أفهمها بس دي أول مرة أحس الاحساس دا و أنا بقرأها، و افتكرت و أنا بصلي امبارح و أنتِ ورايا، لو اعرف إني هطمن كدا لما اتجوز كنت اتجوزتك من بدري و الله"
حدثها بمرحٍ حتى ابتسمت هي ثم اقتربت منه تمسك يده و هي تقول:
"طب بما إنك اتطمنت الحمد لله و بما إن دي أول مرة تقولهالي، تعالى بقى علشان نحضر الشنط، احنا هنمشي بليل"
حرك رأسه موافقًا ثم وقف مقابلًا لها وهو يبتسم لها بسمته الصافية.
بعد مرور دقائق قليلة طُرق الباب و وصل الشباب بزوجاتهم و معهم «حسن» بزوجته، اجتمعوا في شقة «طارق» أولًا ثم قدموا له المباركات و التهنئات، و بعدها توجهوا نحو شقة «وليد» يباركون له، جلسوا جميعًا يمرحون و يسخرون من أنفسهم بالأمس و كما أكد عليهم «عامر» انصاعوا له حينما طلب منهم عدم التحدث في شأن مرضه حتى لا يفسد فرحتهم.
بعدها رحلوا من موقع الشباب ثم وقفوا أسفل البيت، حينها قام «حسن» بتوديعهم هو و زوجته ثم رحل معها، بينما «ياسين» تحدث مُقترحًا:
"بقولكم إيه ؟! تيجوا نخرج أو نروح نقعد في أي حتة سوا؟؟"
أيده «عامر» بقوله:
"ياريت و الله، أنا حاسس أني مخنوق، بس هنروح فين؟!"
تدخل «خالد » يقول بسخريةٍ:
"هنروح فين يعني ؟! أكيد هنروح النادي بتاع الشغل"
تدخلت «سارة» تسألهم بتعجبٍ:
"هو أنتم ليكم نادي تبع الشغل ؟! و لا هو إيه علشان أنا مش فاهمة؟"
رد عليها «عامر» مفسرًا بسخريةٍ:
"آه لينا نادي تبع الشغل بس احنا مش وش نوادي، احنا بتوع مراكز الشباب، و ملاعب بتتأجر بالساعة"
تدخلت «إيمان» تقول بحنقٍ:
"ثانية واحدة بقى ؟! يعني فيه نادي و فيه مكان تخرجونا فيه و سايبنا كدا ؟!"
تحدث «ياسر» موجهًا حديثه لأخيها بتهكمٍ:
"رد يا عم خالد !! اشرح و فسر بقى مبنروحش نوادي ليه، علشان تبقى تتكلم كويس"
رد عليها «خالد» مفسرًا:
"علشان يا إيمان المكان كله عيال صغيرة و بنات ماسخة كدا و احنا رجالة محترمة، لو روحتوا أصلًا هتتخنقوا"
تدخلت «ريهام» تقول بقلة حيلة:
"يا سيدي احنا بنحب الخنقة، بنموت فيها، دا إيه الهم دا"
رد عليها «ياسين» بضجرٍ:
"على فكرة بقى مش حلو، و الله مكان رخم، يونس نفسه هيتخنق منه"
تدخلت «خديجة» تقول بتريثٍ:
"لأ !! احنا اللي نحدد بقى مش انتم لو سمحتوا، يمكن يعجبنا"
طالعها «ياسين» بغير تصديق فأيدتها «إيمان» بقولها:
"معاكي حق يا خديجة، و يا ويلهم لو المكان عجبني"
ركبوا بعدها السيارتين، و لكن «يونس» قرر ترك والديه و ركب مع «ياسين» و «عامر» في سيارة الأول بعدما قرر الذهاب معهم فوافق والده على الفور حتى يستطع التركيز في القيادة
و في سيارة «ياسين» كان «عامر» يداعب الصغير بمرحٍ و هو يغني معه و يقبله بين الحين و الآخر، و الآخر يحتضنه و هو يضحك خاصة حينما سعل «عامر» بقوةٍ، وجده يقبله على وجنته ثم أخذ منديلًا ورقيًا يعطيه له، ابتسم «عامر» له ثم احتضنه بين ذراعيه حتى تحدث «ياسين» بنبرةٍ ضاحكة:
"الواد دا حط علينا كلنا في الحنية، عنده الحنية مفرطة، اللهم بارك ما شاء الله"
تدخلت «خديجة» تقول مسرعةً من خلفه:
"متربي معاك و مع الشباب و مع ميمي و بيروح ساعات مع عمو رياض و عمو فهمي و عمار بياخده يفسحه و يجيبله حاجات حلوة، كل دا لازم يخليه حنين يا ياسين، دا متحاوط بجيش حنية"
ضحكوا على حديثها و هي أيضًا حينما غمزت للصغير، فوجدته يحاول تقليدها و هو يغمز لها، فشهقت هي بفرحةٍ ثم كررت فعلتها مرةً أخرى، فكرر هو ما فعلته و هو يغمز لها و لكن رغمًا عنه كان يغلق عينيه الاثنتين معًا.
_________________________
تجهز كلًا من «وليد» و «طارق» بزوجاتهما حتى يرحلوا من البيت و يتوجهون لبيت الإسكندرية، و يقضون به أسبوعًا تم تخصيصه لـ "شهر العسل" ركبوا هم الأربعة سيارة «طارق» بعدما ترك «وليد» سيارته لشقيقه بتحرك بها طوال فترة غيابهم.
تحدث «طارق» بمرحٍ بعدما تأكد من ركوبهم:
"ها حد فيكم نسي حاجة ؟! افتكروا قبل ما أحرك العربية و نمشي من هنا"
ردت عليه «عبلة» بضجرٍ:
"ما خلاص يا طارق بقى متوترناش، قولنا كل حاجة تمام، سوق بقى يلا"
حرك رأسه موافقًا و قبل أن يبدأ بتشغيل السيارة تحدثت «جميلة» مسرعةً:
"قولوا ورايا دعاء الركوب، علشان نوصل بالسلامة و خصوصًا إننا مسافرين بليل و المخاطر كتيرة"
رد عليها «وليد» بسخريةٍ:
"اتفضلي يا شيخة جميلة، فولي في وشنا كمان خلينا نتقلب على الطريق، ناقص تجيب صبار و تدفنا بيه"
ردت عليه بضجرٍ:
"بطل تريقة يا خفيف، و قول ورايا و خلي بالكم أنا مش عاوزة استهتار هناك، نحترم نفسنا نهدا ها نهدا !!"
التفت لها «وليد» يقول بسخريةٍ:
"ايوا صح و خلوا بالكم من بعض و لما تيجي موجة امسكوا ايد بعض كويس، احنا رايحين اربعة و عاوزين نرجع أربعة"
ضحكوا عليه جميعًا حتى هي فأضاف هو بضجرٍ:
"فيه إيه ياختي ؟؟ فاكرة نفسك مديرة شئون الطلبة و طالعة رحلة لمكتبة اسكندرية ؟! احنا رايحين شهر عسل، يعني أساسًا رايحين نتشاقى و نقل أدبنا"
وضعت «عبلة» كفها على فمها و حاول «طارق» كتم ضحكته، بينما «جميلة» تحدثت بحنقٍ:
"أنتَ سافل و الله، بص قدامك و قول ورايا الدعاء، ربنا يسترها و نوصل بخير".
في عيادة الطبيبة النفسية جلست تنتظر أخر مريضة لديها حتى ترحل هي الأخرى من عملها و حينما تأخرت تلك المريضة تأففت بضيقٍ و همت بمغادرة العيادة على الرغم من أنه الموعد المحدد و لم تتخطاه بوقتٍ كثيرٍ إلا أنها رجحت عدم مجيئها و قبل أن تهم بمغادرة المكان، تفاجئت الباب يفتح و تطل منه تلك المريضة و هي تسألها بخجلٍ:
"أنا آسفة لو اتأخرت عليكي؟! عدى وقت كتير ؟!"
حركت رأسها نفيًا و هي تبتسم لها ثم قالت باستحسانٍ:
"لأ خالص، دا الميعاد المظبوط يا مشيرة !!"