رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الخمسون 50 بقلم شمس بكري


 رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الخمسون 

"مِن وَسط الجميع دَق القلب لها....و تحرك من موضعه لأجلها" _________________________ كنت أظن أن النيران بداخلي أنطفأت، و جروحي الغائرة التئمت، إلىٰ أن شاهدت حزن أحدهم و كان بمثابة جرحًا غائرًا أصاب جروحي بالعدوى، ففوجئتُ بنفسي اتألم من جديد، و كأن قلبي يخبرني بأني أنا المُخطيء الوحيد، أنا من حسبتُ نيراني انطفأت و جروحي التئمت، فوجدتها في نهاية المطاف التهبت بنيران العدوى حينما أصابتها. بعد حديث «ياسر» مع «ميمي» سألته هي بتعجبٍ من حديثه: "يعني هتعمل إيه ؟! أي حاجة هتوجعك بلاش منها يا حبيبي، بلاش يا بني وجع قلب" مسح وجهه بكفيه معًا ثم مرر أنامله على عينيه و بعدها قال بهدوء مُجاهدًا حتى يتحدث به: "عاوز أقفل صفحته من حياتي، عاوز أرتاح و أنسى كل حاجة شوفتها بسببه، هروبي منه مش هيحل حاجة، لو أنا مأمور بطاعته هو مأمور بحمايتي و الحفاظ عليا، كفتنا إحنا الاتنين متوازنة، أنا عاوز ارتاح بقى، خوفي طول حياتي كان من ظهوره هو، و هو ظهر خلاص، يبقى يمشي علشان أرتاح أنا" رمقته بقلة حيلة و نظرة حزن يكسوها الشفقة لأجله، فاعتدل هو واقفًا ثم مال بجزعه عليها يُقبل قمة رأسها ثم أخبرها بصوتٍ خافتٍ أقرب للهمس: "ادعيلي....ادعيلي ربنا يجبر بخاطري و يريح قلبي" حركت رأسها موافقةً ثم تحدثت أخيرًا بصوتٍ مختنقٍ: "بدعيلك....و الله طول عمري بدعيلك ترتاح و تفرح في حياتك، ربنا يعوض قلبك خير يا رب يا ياسر" حرك رأسه موافقًا ثم تحرك من أمامها و رحل من الشقة و هي خلفه تنظر في أثره بحزنٍ و أعين يكسوها الدمعِ، أما هو فخرج من عندها ثم وقف أسفل البناية و أخرج هاتفه يهاتف زوجته يُطمئنها عليه، ثم قال بصوتٍ حاول جعله ثابتًا: "إيمان أنا بحبك....و عاوزك تتأكدي إن مفيش حد في الدنيا دي كلها يملى عيني غيرك و لا حد عمره هياخد مكانك عندي" انتاب القلق قلبها فسألته بصوتٍ مهتزٍ: "فيه إيه يا ياسر ؟! أنتَ قلقتني عليك، ياسر أنتَ مش كويس صح؟! صوتك باين عليه و الله" تهدج و هي تحادثه حتى أوشك على البكاء، فزفر هو بقوةٍ ثم قال بهدوء: "أنا كويس الحمد لله، و عاوزك تنامي لحد ما أرجعلك، علشان أنتِ وحشتيني أوي، و النكد اللي فات دا مخليني مش عارف أركز معاكي" تعجبت من حديثه و نبرته التي تبدلت في غضون ثوانٍ، و قبل أن تهم بالحديث تفاجئت به يغلق الهاتف دون أن يتحدث هو أو يستمع لحديثها القادم، نظرت في الهاتف بعدما وجهته أمام بصرها ثم قالت بتعجبٍ تحدث نفسها: "الواد اتهبل !! و لا يكونش رايح يخوني مع البت أم الشقرا !!" شهقت بقوةٍ حينما أخذها تفكيرها لتلك النقطة ثم دفعت الهاتف من يدها و هي تُفكر إلى أي مكانٍ ذهب زوجها. _________________________ في بيت آلـ الرشيد ذهب كلًا منهم إلى شقته بعدما جلسوا في مرحٍ يمزحون مع بعضهم و خصوصًا «وليد» الذي استمر في مشاكسة الفتيات، حتى جلس أخيرًا في غرفته و على ذراعه «فارس» الصغير الذي كان يُحرك كفه الهواء ملوحًا به و أنامله تتحرك بخفةٍ على ذراع «وليد» الذي كان يتابعه بتمعنٍ و قبل أن يبدأ الصغير في صوت البكاء، توقف به «وليد» ثم عَدَل وضعه على يده و هو يبتسم له بتأثرٍ، حتى تحركت عيني الصغير عليه و التقت عينيهما سويًا، و كأنها سحرًا جذب الصغير إليه حتى ثبت نظره على عمه، فحرك «وليد» رأسه يقبل قمة رأسه ثم قال بهدوء: "رغم إنك زنان و بتعيط كتير بس بحبك، مش عارف ليه بس بحب أفضل معاك، حاسس كدا إننا زي بعض، أنتَ عمال تعيط و هما مش عارفين السبب و أنا كنت بتوجع و هما مش فاهمين دا، نفسي متتأذيش زيي من الدنيا يا فارس، عاوزك تبقى أنصح مني و تاخد حقك منها" زفر بقوةٍ بعد حديثه ثم قبله مرةً أخرى بعدها رفع الصغير يحضتنه و هو يقول براحةٍ كبرى: "آااااه....حضنك حلو يا فارس" ارتمى بعدها على الفراش و الصغير استكان بين ذراعيه حتى حرك رأسه يُلقيها على كتفه، فمسح «وليد» على ظهره و هو يقرأ له الموعوذتين و بعض الآيات من الذِكر الحكيم، و هو شاردٌ في تفاصيله الصغيرة، حتى طُرق باب غرفته، فسمح للطارق بالدخول و لا زال كما هو يطالع ذلك الصغير على يده، ظن هو أن الطارق «وئام» لكنه تفاجأ حينما وجد «مرتضى» أمامه يقف بحوار الفراش و هو يبتسم له، فاعتدل في جلسته احترامًا له و هو يقول: "تعالى يا بابا اقعد، خير فيه حاجة؟!" حرك رأسه نفيًا ثم جلس بجانبه على الفراش و هو يقول بمرحٍ: "اتاخر ياض شوية كدا خليني اقعد جنبك، اتاخر" تحرك «وليد» له و هو يضحك عليه و الصغير على ذراعه، حينها قام «مرتضى» بفرد ذراعه ثم احتضن «وليد» أسفله و هو يقول بهدوء: "عامل إيه يا وليد؟! وحشتني و جيت أتطمن عليك" حرك رأسه له بتشككٍ ظهر في ملامحه، فسأله بتعجبٍ: "إيه ؟! شاكك فيا و لا إيه ؟! متخافش مش جاي انصب عليك" ضحك عليه فتحدث والده يقول مفسرًا: "كل الحكاية أني عاوز أتطمن عليك مش أكتر، صحيح شكلك بقيت أحسن بس أنا عاوز أسمعها منك، بقيت أحسن؟!" تنفس بعمقٍ ثم ابتسم له و هو يقول بنبرةٍ هادئة حتى لا يُظهر تأثره: "كويس الحمد لله، أو بقيت كويس أكتر، مش عارف بس بصراحة يعني، أنا فرحان أوي" ابتسم له والده ثم قال: "أنا طول عمري سايبكم على راحتكم يا وليد، مقدرتش أغصب واحد فيكم على حاجة، بس أنتَ كنت حاجة تانية غير وئام، وئام عرف إزاي يكبر دماغه و عرف إزاي يحافظ على هدوئه، عكسك، كنت دايمًا داخل مع الدنيا عِند، هي تزعلك و أنتَ تظهر إنه مش فارقلك، هي توجعك و أنتَ تضحكلها و قصاد كل دا كنت بتموت من جواك، علشان كدا بسألك دلوقتي أنتَ كويس؟!" تنفس بعمقٍ ثم قال مُجيبًا والده: "أنا بقيت كويس لما فهمت كل حاجة صح، تعرف أني استاهل اللي حصلي ؟! متستغربش علشان أنا كنت غبي و أنا مش واخد بالي من حكمة ربنا عليا، أنا ضيعت حياتي و أنا مش فاهم كل دا بيحصل ليه، بس فهمت أني قصرت في ثقة ربنا و أني أنا اللي يأست، صدقني يا بابا أنا بقيت كويس أوي الحمد لله، و لقيت حواليا نِعم كتير حلوة تستاهل أفرح بيها من ضمنهم إنك أبويا" ابتسم له «مرتضى» ثم شدد مسكته له و حرك رأسه يقبل جبين «وليد» الذي ابتسم بفرحةٍ كبرى، و «فارس» بين ذراعيه، و ظل الوضع هكذا «مرتضى» يحتضن «وليد» أسفل ذراعه، و «وليد» يحتضن «فارس» حتى دلف «وئام» الغرفة و وقع بصره عليهم، فاقترب يقف بجوار الفراش و هو يقول بسخريةٍ ممتزجة بالحنق: "يا سلام ؟! طب إيه أروح بقى و لا إيه؟! خلاص اتركنت على الرف و جِه فارس ياخد مكاني؟!" فتح «مرتضى» ذراعه الأخر و هو يقول له: "تعالى يا واد أنتَ كمان في حُضني، عارفك عطشان حنان" اقترب يجلس بجانب والده الذي احتضنه فتحدث «وئام» يقول بطريقةٍ درامية: "محدش بقى بيسأل فيا، كله بيقول فارس عامل إيه و محدش بيقول أبو فارس عامل إيه" ضحكا عليه كليهما، فرمقهما هو بحنقٍ ثم قال: "يلا علشان ناكل، ماما و هدى بعتوني علشان أقولكم و ناكل يلا" سأله «وليد» مُسرعًا: "طب أحط فارس فين؟؟ هو نام على إيدي" رد عليه «مرتضى» متدخلًا: "حطه هنا و حط مخدات حواليه و لما ناكل نبقى ندخله أوضة وئام" أومأ له موافقًا بينما هما خرجا من الغرفة، فوضع هو الصغير على الفراش ثم وضع الوسائد حوله و قبل أن يخرج من الغرفة و يتركه، عاد له مرةً أخرى ثم حلمه على يده و هو يقول بسخريةٍ: "مش جايلي قلب أسيبك و أمشي، تعالى برة و اصحى و نكد عليهم" خرج من الغرفة و هو يحمل الصغير على يده حتى سألته «هدى» بتعجبٍ: "إيه دا ؟؟ جيبته ليه طيب؟! كدا مش هتعرف تاكل" رد عليها هو بهدوء: "عادي...شيليه أنتِ و أكل أنا" رمقته بغيظٍ و هو يعطيها الصغير، فتحدثت والدته بضيقٍ: "و هو خلاص حضراتكم هتمشوا سوا و تسيبوني لوحدي؟! محدش فيكم ناوي يفضل معايا؟!" رد عليها «مرتضى» بضجرٍ منها: "و بعدين بقى في قطاعة الأرزاق دي؟! عاوزة إيه يا ست أنتِ؟! ما تخليهم يمشوا، هيفضلوا كاتمين على مراوحي كدا كتير ؟!" سأله «وليد» بسخريةٍ ممتزجة بالخبث: "جرى إيه يا جدو مرتضى ؟! دا حفيدك معانا على الأكل، عيب كدا" رد عليه والده بثقةٍ: "عاوزكم تمشوا يمكن ربنا يكرم و أجيبله عم صغير كمان يلعب معاه" ضحك عليه الجالسون بأكملهم، بينما زوجته رمقته بغيظٍ و هي تقول: "ابعد عني يا مرتضى مش ناقصة هبلك هي، كفاية منكد عليا و مش عاوزني أسافر عند إسماعيل" رد عليها بضجرٍ: "مفيش سفر يا مروة لوحدك غير و رجلي على رجلك، طول ما ابن عمك دا هناك على جثتي تروحي هناك لوحدك، انسي" ابتسمت بيأسٍ و هي تقول: "يا مرتضى دا من و أنا في ثانوي الكلام دا، و بعدين أنتَ خدتني منه و اتجوزتني بالعافية، هو أنتَ سكت يعني؟!" حرك كتفيه ببساطة و هو يقول: "مليش فيه، مش هنسى برضه إنه كان عاوز يتجوزك، و أشمعنا فرح بنته دي بيعزمك عليه ؟؟ ما هو جوز البغل الكبير و معرفناش" تدخلت «هدى» تسأل بتعجبٍ ممتزج بالفضول هي تقول: "أنا مش فاهمة حاجة، مين دول و تروحي فين يا طنط؟!" ردت عليها بقلة حيلة: "ابن عمي فرح بنته أخر الأسبوع و هو قال لاسماعيل أخويا يعزمني، عمك مش عاوز يخليني أروح" سألته «هدى» بتعجبٍ: "ليه كدا يا عمو مرتضى ؟! خليها تروح و تشوف عمو اسماعيل هي بتحبه أوي، تغير جو حتى قبل فرح وليد" رد عليها مُعاندًا: "لأ، البيه دا كان عاوز يتجوزها و طردني مرة من السويس علشانها" ردت عليه زوجته بتهكمٍ: "قال يعني أنتَ سكت ؟! ما أنتَ جيت قدام السويس كلها و خطبتني، فيه واحد يخطب واحدة في السوق يا جاحد؟!" راقص لها حاجبيه وهو يقول: "آه أنا، اومال كنتي عاوزة المعفن دا ياخدك مني؟!" تدخل «وئام» يقول بسخريةٍ: "قيس و ليلى قاعدين معانا ؟! قصة الحب دي أخرها إيه؟!" رد عليه «وليد» بسخريةٍ مرحة: "أخرها فارس اللي منور على دراع أمه دا، القصة اللي السويس كلها بتحلف بيها هي قصة أبوك و أمك يا موكوس" تدخلت «هدى» تسأل بحماسٍ: "أنا عاوزة أعرف، احكولي" تنهدت «مروة» ثم قالت و كأنها ترى الماضي أمام عينيها: "أنا كنت عيلة صغيرة لسه يعني كنت لسه مخلصة الدبلوم، و ابن عمي كان مصمم يتجوزني بالعافية، كان مفهم الدنيا كلها أني خطيبته، و أنا طول عمري مكنتش بقبله، لحد ما مرتضى أبوه بعته لأخويا و أبويا علشان شغل بينهم، مرتضى قعد في السويس تقريبًا شهر، كنت بسمع عنه و عمري ما شوفته، بس هو كان مراقبني و كان متابعني، لحد ما في يوم جه ابن عمي يطلبني رسمي، مرتضى ساعتها قاله إنه قاري الفاتحة مع إسماعيل، علشان اسماعيل أخويا مكانش بيحبه، أبويا اتضايق و قال إني لسه صغيرة على الجواز و لا دا و لا دا، لحد ما مرتضى خلاني في السوق أنا و مرات أخويا ساعتها طلع دبلة و لبسهالي قدام الناس كلها في السوق، و على العصر جه الحج فايز و قال إن كلمته متنزلش الأرض و حكم إن يوم الجمعة أكون في بيتي مع جوزي، و أخر الاسبوع كان فرحي أنا و سهير" تحدثت «هدى» بفخرٍ: "جامد يا عمو و الله العظيم تستاهل جايزة، أنا فخورة بيك" رد عليها هو بمرحٍ: "أومال هسيب حقي و لا إيه؟! أنا لو مكنتش شوفت القبول في عينها كنت مشيت عادي، بس دي عينها نطقت و قالت إنها موافقة عليا، البلطية اللي دوخت السويس كلها، جِه الصياد اللي خدها" ردت عليه زوجته بحنقٍ: "على فكرة مكنتش موافقة عليك، بس علشان أبويا الله يرحمه قالي إن أبوك صاحبه، و بعدين أنتَ عامل مصايب في السويس توديك السجن، مكسر قهوة، و ضارب تاجر، كان لازم اشوف حل و أنقذ الدنيا منك" تحدث هو بتهكمٍ: "مش هما اللي كانوا بيبصولك ؟! عاوزاني أعرف إن فيه حد عاكسك و لا واحد تاني ضايقك و أسكت ؟! و بعدين ياختي لما أنتِ مش موافقة من الأول كملتي ليه ؟! كان ممكن تمشي، دا أنا سنة و كان معايا وئام" تدخل «وليد» يسأل الجميع بسخريةٍ: "و مستغربين عمايلي ؟! شوفوا أنا ابن مين، اتاري الچينات كلها داخلة في بعض" أقترب «مرتضى» من زوجته يقبل رأسها ثم وكزها في كتفها و هو يقول بمرحٍ حينما لاحظ حنقها: "خلاص بقى يا مرمر، الله !! مالك يا ستي؟! كل دا علشان تروحي الفرح؟! خليكي معايا هنا و أنا أعملك فرح حلو زيك كدا، عاوزة تسيبي مرتضى؟! اخس عليكي" ابتسمت رغمًا عنها من طريقته، فتحدث هو بمرحٍ و هو يفتح ذراعيه: "حضن بقى علشان مرتضى" قبل أن يحضتنها ضحك عليه الجالسون حتى تحدث «وئام» يقول بصوتٍ عالٍ يوقف اقترابه: "يا حج مرتضى بيقولك حفيدك قاعد معانا، الله !! فيه إيه ؟!" مال على أذن «مروة» و هو يقول هامسًا بحنقٍ: "فكريني أطرد العيال دي الصبح من هنا، أنا معرفتش أربي أصلًا" طالعوه بخبثٍ ثم انفجروا في الضحك جميعًا على نظرته الحانقة التي رمقهم جميعًا بها بعدما افسدوا احتضانه لزوجته. _________________________ وصل «ياسر» أمام منزل «سمير» و رغمًا عنه أغمض جفنيه بشدة ثم فتحهما بتروٍ يحاول ردع العبرات التي تُهدد بالافصاح عن نفسها، ثم دلف البيت يجلس في ردهته و هو يحاول جاهدًا التحكم في نفسه و ضبط ثباته، حتى نزلت له «جيسي» بعدما علمت بتواجده و هي تقول بلهفةٍ: "أنا كنت متأكدة إنك هتسامحه و كنت متأكدة إنك هتيجي، البيت نور بيك" أخفض بصره أرضًا و هو يقول: "أنا مش جاي علشان كدا خالص، أنا عاوزه هو، لو سمحتي هو فين؟!" قبل أن ترد عليه هي قاطعها أخيها بنزوله و هو يقول بنبرةٍ جامدة: "اطلعي أوضتك يا جيسي، و قبلها عدي على با...قصدي على سمير و صحيه علشان أطلعه أنا و الدكتور ياسر" ابتسم «ياسر» بسخريةٍ حينما بدل «فادي» كلمته، بينما هي انسحبت من أمامهما تركض للأعلىٰ حيث غرفة «سمير»، فاقترب منه «فادي» يقول بهدوء: "نورت يا دكتور ياسر، اتفضل اقعد واقف ليه ؟!" رد عليه «ياسر» بنبرةٍ جامدة: "أنا مش فاهم الحنية اللي ظهرت عليك دي من إمتى، مش كنت حرامي و نصاب و جاي ألعب عليكم ؟!" زفر «فادي» بقوةٍ ثم قال: "أنا مش عدوك يا دكتور ياسر، أنا راجل عملي و كل حاجة عندي بالمنطق، أنا عارف أني غلطت و أني قولت كلام مينفعش يتقال، بس أنا مكنتش فاهم حاجة، بس لما كل حاجة وضحت أنا عذرتك، أنا عارف اننا وجعناك من ساعة ظهورنا، بس صدقني مفيش حد فيكم قاصد الآذى ليك" ابتسم له و هو يقول: "هو لسه فيه أذى غير دا ؟؟ كدا مفيش غير أني أخرج قلبي و أسلمه ليكم و تعملوا فيه اللي أنتم عاوزينه، أنا سمعت صوت التكسير في قلبي في يوم واحد ٣ مرات، مرة و أنا شايفه قصادي مبسوط، و مرة لما شوفتكم بتقدموه بما إنه صاحب الحفلة و المرة التالتة و أنا سامعك بتشكره على تضحيته العظيمة علشانك، مظنش فيه وجع و أذى أكبر من دول، بقولك إيه هو فين؟!" تنحنح يُجلي حنجرته ثم أشار له حتى يذهب معه، ففعل «ياسر» ما أراد و ذهب معه نحو غرفة «سمير»، كان هو بداخلها على الفراش و بلغ منه التعب مبلغه و ظهر بقوةٍ من خلال شحوب وجهه و السواد الذي احتل أسفل جفنيه، و عينيه تتعلق بباب الغرفة بعدما أخبرته «جيسي» بقدوم «ياسر»، حتى فُتح باب الغُرفة و طل منه «فادي» أولًا ثم «ياسر» خلفه و هو يمد قدم و يوقف الأخرى في صراعٍ منه مع ذاته و كأنه يود الهروب من تلك المواجهة، حتى حثه «فادي» على الدخول بقوله: "اتفضل يا دكتور ياسر، ادخل" دلف أخيرًا بعدما انصاع لصوت قلبه تاركًا صوت عقله الذي يعنفه بسبب قدومه، ابتهج وجه «سمير» و هو يطالعه، فاقترب هو يقف بجوار الفراش و هو يقول بهدوء محاولًا التحكم في نفسه للتحدث به: "أنا جيت علشان أنفذ الكلام اللي ربنا أمرني بيه، و علشان رجولتي و شهامتي متخلنيش اقسي قلبي على الضعيف" رد عليه بصوتٍ ظهر به التعب و هو على وشك البكاء: "بس جيت.....يمكن أموت دلوقتي بس هكون ارتحت علشان شوفتك" ابتسم له بسخريةٍ، فتحدث «فادي» موجهًا حديثه لشقيقته التي تعلقت عينيها به: "جيسي !! يلا و نسيبهم مع بعض شوية" حركت رأسها موافقةً بتيهٍ ثم تحركت من أمامهما تسبق أخيها للخارج، بينما «ياسر» انتظر خروجهما ثم زفر بقوةٍ و هو يقول: "أنا جيت علشان زيارة المريض واجبة و علشان دي فيها رحمة من العباد للعباد، الرحمة اللي مبقتش موجودة، عارفها ؟!" سحب نفسًا عميقًا ثم قال: "قول كل حاجة عندك و كل حاجة لسه في قلبك، قول يا ياسر" رد عليه بهدوء زائف محاولًا تجاهل آلامه: "هقولك إيه ؟! هقولك أني تعبت ؟! مش هتفرق في حاجة علشان هي دنيا اتخلقت للتعب، هقولك أني اتعذبت في غيابك ؟! عادي غيرهم كتير أهاليهم ماتوا و شافوا أكتر مني، بس هقولك حاجة مش واخد بالك منها، أنتَ دلوقتي مسافر علشان تتعالج برة و اللي معاك هما الغُرب اللي اديتهم عمرك، هقولك إنك خسرت أحن قلب في الدنيا كان ممكن يسندك في المحنة دي، هقولك إنك اخترت الخسارة لنفسك لما سيبت واحد زيي كان هيبقى أحن عليك من نفسك، أقولك على حاجة كمان، شكرًا.....شكرًا علشان أنا لولا غيابك مكنتش هبقى كدا، و مكنتش هعرف يعني إيه أب، أنا لحد ظهورك كنت خايف أبقى أب، غصب عني خوفت أحس بحاجة زي دي و أنا واحد كلمة بابا تعباه نفسيًا، بس بعد ظهورك أنا نفسي أب، علشان أجيب ياسر جديد، ياسر يبقى كتفه في كتفي مش هبقى سمير اللي سابه في الدنيا، و الحاجة الوحيدة اللي ممكن تبعدني عنه بعد إرادة ربنا هي الموت، غير كدا أنا هعرف ازاي أكون أب" أغمض «سمير» جفنيه حتى لا تظهر دموعه، بينما «ياسر» زفر بقوةٍ ثم قال: "أنا مش جاي علشان أشمت فيك و لا أوجعك علشان أنا أحن من كدا، أنا جاي بس أقولك إننا بنجني على نفسنا و مينفعش نرمي الوجع على حد غيرنا و نعيش دور الضحية، ولو أنا مفروض عليا طاعة الأب فأنتَ مفروض عليك دورك كأب، بس غصب عني مش هقدر أقابل ربنا و أنا شايل ذنب بسببك" التفت حتى يغادر و قبل أن يفتح الباب و دون أن يلتفت له و ينظر له قال بهدوء: "ربنا يتمم شفاك على خير.... ابقى اقرأ قُرآن و ادعي ربنا يخفف عنك، احنا كلنا ملناش غيره" خرج من الغرفة بعد حديثه تاركًا خلفه والده يبكي بقوةٍ ثم ألقى برأسه للخلف على الوسادة و دموع الندم تأكله بعدما أدرك قيمة ما تركه خلفه بسبب ركضه خلف السراب. في الغرفة المجاورة له، اقترب «فادي» من شقيقته يجلس بجوارها و هو يقول بهدوء: "مالك يا جيسي ؟؟ أنا عاوز أفهم حصل إيه شقلب حالك كدا ؟!" ردت عليه هي بصوتٍ مختنقٍ: "أنا مش فاهمة يا فادي، أنا مش مستوعبة إيه اللي بيحصل، متوقعتش إن الدنيا تبقى بايظة كدا، كنت فاكرة إنها هتعدي سهل شوية، و مش عارفة ليه حاسة بحاجة غريبة ناحية ياسر، أنا مش وحشة و الله و مش عاوزة أخرب حياته بس حسيت بحاجة غريبة ناحيته، حسيت أني محتجاه معانا، و معرفش ليه فكرت كدا" تنهد «فادي» بقلة حيلة ثم قال بهدوء: "بصي يا جيسي ياسر بالنسبة ليكي حالة غريبة، يعني شخص زيه واجه كل دا و بقى زي ما هو كدا، دا يخلي مشاعرك تتحرك ناحيته و تحسي باعجاب، بس متنسيش إن فيه ناس حياتها باظت بسبب غلط زي دا لما ماما حبت سمير و هي عارفة إنه بيخرب حياته بإيده، بس هي كملت في الغلط دا و ناس كتير دفعوا النتيجة، ياريت الغلط دا ميتكررش منك و تحاولي تعملي حاجة غلط، ياسر عنده حياته و شكله كان مبسوط فيها، كفاية لحد كدا و خلينا نسافر نكون مع بابا نلحقه زي ما هو سابلنا حياته، و ياريت تقفلي موضوع ياسر دا خالص و تعتبريه مجاش على بالك، ياسر شخص محترم و مش من النوع اللي أنا فهمت إنه منه" حركت رأسها موافقةً و الدموع تلمع في مقلتيها فوجدته يحتضنها ثم ربت على ظهرها فقالت بعدما أجهشت في البكاء: "أنا تعبت يا فادي.....تعبت و مش فاهمة حاجة و متلغبطة، يارب مكونش حبيته" ربت على ظهرها بأسى، فطرقت الخادمة باب الغرفة و هي تقول من الخارج: "مستر فادي، الأستاذ اللي كان هنا مشي و مستر سمير لوحده في الأوضة" رد عليها هو بهدوء يشكرها ثم نظر لشقيقته و هو يقول: "يلا علشان الطيارة المفروض تتحرك الفجر، خلينا نتمم على كل حاجة يا جيسي" حركت رأسها موافقةً فوقف هو حتى يخرج من الغرفة و قبل أن يفتح الباب أوقفته هي بقولها: "فادي !! على فكرة أنتَ طيب أوي مش زي ما مبين لكل اللي حواليك، ربنا يخليك ليا" ابتسم لها ثم حرك رأسه موافقًا و هو يقول بنبرةٍ هادئة: "و يخليكي ليا علشان أنا مليش غيرك، و خصوصًا هنا في مصر" ابتسمت له و هي تراه يتركها و يخرج من الغرفة، فزفرت هي بقوةٍ ثم مسحت دموعها و هي تلحقه للخارج. _________________________ بعد خروج «ياسر» من بيت والده و بعدما أسكت ضميره بتلك الطريقة و ثأر لجرحه كما ظن هو، فنفسه البشرية الضعيفة لم تقوى على المسامحة في ذلك الحق، و لا حتى تركه جانبًا بل بكت بحرقةٍ ثأرًا له، وقف هو على الطريق ليلًا ينظر لباب البيت الكبير الذي يخفي والده بداخله، ثم مد يده يخرج ورقةً من جيب بنطاله، قام بفتح الورقة القديمة التي سبق و رسم بها نفسه بجوار والده و من قوة تعبيره في صغيره جعل الصغير يمد يده لوالده، بينما الآخر وقف ثابتًا رافعًا رأسه بشموخٍ نحو السماء دون أن ينتبه لذلك الصغير الذي مد كفه له، ابتسم هو بوجعٍ ثم قام بتمزيق الورقة و بعدها أوقف سيارة الأجرة ثم ركبها بعدما أملى وجهته للسائق، و بعد مرور بعض الوقت توقفت السيارة أسفل بنايته توقف هو بعدما خرج من سيارة الأجرة و قبل أن يدخل البناية توقف يبتسم بهدوء ثم تحرك و غير وجهته قبل الصعود، و بعد مرور دقائق عاد مرةً أخرى ثم توجه نحو شقته، كانت زوجته في الداخل تنتظره، دلف هو بهدوء ثم توجه نحو الغرفة التي تجلس بها دومًا و خاصةً على الأرجوحة التي جلبها هو لها، و قبل أن تسأله أو تنبت ببنت شفة، اقترب يجلس بجوارها و هو يقول مُشاكسًا لها بمرحٍ: "اتاخري يا بت شوية، متبقيش رخمة كدا، أنا اللي جايبها برضه" تحركت هي للجهة الأخرى قليلًا و هي ترمقه بتعجبٍ، فزفر هو براحةٍ ثم قال بنبرةٍ ضاحكة: "مالك زعلانة علشان قعدت جنبك ؟! تحبي أقوم أنام أحسن؟" ردت عليه بلهفةٍ تقطع حديثه: "لأ...خليك يا سيدي تروح فين بس؟! دا أنا ما صدقت ترجع ياسوري كدا، بس قولي بقى مالك؟! و كنت فين كدا؟!" حرك رأسه ينظر لها وهو يقول: "كنت عند سمير يا إيمان، روحتله قبل ما يسافر علشان أعرف أعيش" تبدلت معالم وجهها لمشاعر مختلطة يكسوها التعجب منه، فأضاف هو مُفسرًا: "لو مكنتش روحت و هو مشي أنا عمري ما كنت هعرف اتخطى حاجة زي دي، للأسف هو أبويا غصب عني، بس خلاص هي كدا خلصت، ربنا يتمم شفاه على خير" حركت رأسها موافقةً بقلة حيلة ثم سألته بحذرٍ: "طب و أنتَ ؟! طمني عليك و قولي حاسس بإيه ؟!" تنفس بعمقٍ ثم قال براحةٍ تخللت قسمات وجهه: "حاسس أني فرحان.....آه و الله فرحان أوي، فرحان علشان أنا دكتور ياسر و فرحان علشان أنا عندي أختين زي ندى و نيرمين و فرحان إن خالد و عامر و ياسين معايا في الدنيا، و فرحان إن أمي ست زي ميرفت حافظت على نفسها و بدت ولادها على نفسها، و الأهم هو أنتِ يا هبلة، ربنا كرمني بيكي بعد كل المرمطة اللي شوفتها، كل الحاجات دي لو نسيتها هبقى جاحد و مش وش نِعمة، كفاية إن ربنا كرمني بكل اللي كنت محتاجه، أنا فرحان و الله و مش زعلان و مش هزعل علشان سمير دا" ابتسمت هي بفرحةٍ كبرى و خاصةً بعد حديثه عنها ثم سألته و هي تشير برأسها نحو الحقيبة التي يحملها في يده: "طب و إيه اللي في إيدك دا؟! كيس لحمة ولا إيه ؟!" ابتسم لها و هو يحرك رأسه نفيًا ثم أعطاها الحقيبة و هو يقول: "دا يا ستي لِب بأنواعه، نقطة ضعفك في الحياة و معاه الحاجات اللي بتحبيها اللي بتفضلي تطلبيها مني و معاها العصير اللي بتحبيه، حاجة تاني؟!" سألها بنبرةٍ ضاحكة فرفعت رأسها بعدما تفحصت الحقيبة ثم قالت بحماسٍ: "ولا أنا بحبك أوي، بجد و الله، عارف ليه علشان مش مطول في نكدك عليا، بس ليه الحاجات دي كلها يعني ؟" تنفس بعمقٍ ثم قال بعدما ابتسم لها: "عاوز اقعد معاكي قعدة حلوة زيك كدا علشان انسى الهم اللي هجم عليا دا، و عاوزك بقى تشغلينا حاجة حلوة لينا بقى نشوفها" احتل الحماس ملامح وجهها و هي تقول مقترحةً عليه: "طب إيه رأيك ارقصلك ؟! علشان تفك بقى و تفرفش" امتعض وجهه و هو يقول: "ترقصيلي !! الفجر قرب يا إيمان لمي نفسك أحسنلك، و بعدين هو أنا معلم طالعلك من القهوة ؟! بطلي سفالة" حركت كتفيها بلامبالاةٍ وهي تقول: "خليك يا كئيب يا عدو الفرحة كنت عاوزة افرفشك، انا هروح ارقص عند خالد أخويا أهو أعلم مراته و أكسب فيها ثواب" تحدث هو بغير تصديق: "تعلميها الرقص و تاخدي ثواب !! يا نهارك مش فايت، أنتِ بتنشري الفساد ؟!" حركت رأسها بفخرٍ و هي تقول: "لأ مسمحلكش !! أنا بأمن مستقبل أخويا و دي تفرق كتير أوي" ابتسم لها رغمًا عنه بسبب طريقتها المتعالية، فأمسكت هي جهاز التحكم ثم قالت بحماسٍ: "هجبلك بقى حاجة تنسيك سمير و اليوم اللي خلفك فيه سمير" سألها بحيرةٍ ممتزجة بالسخرية: "هتجبيلي إيه ؟! زهايمر ؟!" حركت رأسها نفيًا ثم توقفت عن البحث أخيرًا و هي تقول: "دي قناة جديدة بتجيب حاجات حلوة، اقعد بقى لحد ما نشوف هتجيب إيه و بعدين نحط الحاجات دي، اصبر بس" حرك رأسه موافقًا ثم نظر نحو الشاشة الموضوعة بالغرفة حتى بدأ المسلسل المصري القديم، حركت هي رأسها نحوه بخجلٍ منه و هي تقضم اظافرها بينما هو رغمًا عنه ضحك بقوةٍ حينما طالعها حتى ضحكت هي الأخرى ثم أحتضنته و هي تقول بأسفٍ: "أنا لو حلفتلك أني مقصدش أجيبه مش هتصدقني صح؟!" حرك رأسه موافقًا ثم قال بنبرةٍ ضاحكة: "حضرة المتهم أبي !! يا شيخة دا أنتِ لو دافعة ليهم دا مش هيحصل" رفعت رأسها ثم قبلت وجنته و بعدها سألته باهتمامٍ واضحٍ: "أنا بحبك يا ياسر و الله و كنت خايفة عليك أوي و كأني أم بتحمي عيالها، لو فيه حاجة مزعلاك عرفني" حرك رأسه نفيًا ثم قال: "لأ.....أنا مش زعلان و الحمد لله على كل حال و الله، لو فضلت أركز على اللي مش عندي، هضيع اللي عندي، و أنا مش عاوزك تضيعي مني" ابتسمت له بحبٍ خالصٍ فشدد هو عناقه لها ثم وضع رأسه فوق رأسها و هو يتنهد بعمقٍ، فسألته هي بحذرٍ: "ياسر !!..... مش عاوزني ارقصلك ؟!" ضحك بيأسٍ فضحكت هي الأخرى ثم رفعت رأسها بامتنانٍ لله تشكره على فضله في رحمته بزوجها. _________________________ في بيت آلـ «الرشيد» و تحديدًا في شقة «طه» جلست «خديجة» في غرفتها بعدما حممتها والدتها و شقيقتها، ثم ارتدت ثيابًا بيتية بمساعدة شقيقتها، بعدها جلست في الغرفة بعد خروج والدتها و شقيقتها حتى دلف لها «ياسين» و في يده كوبًا من العصير المفضل لها وهو يقول بمرحٍ: "عمو باعتني ليكي بالعصير بتاعك، حاجة تاني يا فندم؟!" حركت رأسها نفيًا بالسلب و هي تبتسم له فاقترب هو منها ثم مد يده لها بالكوب، فابتسمت أكثر و هي تقول: "شربني بقى يا ياسين، بصراحة مكسلة و كمل جميلك و هات الدوا أخده" وضع الكوب بجوارها و هو يقول بحنقٍ: "اشربي يا بت، مش كفاية جايبلك العصير لغاية عندك؟!" رمقته بغيظٍ و هي تقول: "معندكش ريحة الرومانسية، أقول إيه ؟! قلة ذوق" أخرج هاتفه يتفحصه و هو يتجاهلها، بينما هي ظلت تسخر منه بملامح وجهه و هي تقلد طريقته ظنًا منها أنه لا يراها حتى تفاجئت به يقول دون أن يرفع رأسه من على الهاتف: "لو خلصتي هبل اشربي العصير، علشان تاخدي الدوا" همست هي لنفسها بتعجبٍ: "مركب عينك في شعره !! عرف منين؟!" رفع رأسه يبتسم لها و هو يقول: "عاوزة إيه يا ست الكل، مين مزعلك ؟!" حركت كتفيها ببساطةٍ و هي تقول بثقةٍ و فخرٍ: "محدش يقدر يجي جنبي و لا يزعلني أصلًا، فوق يا بابا" ارتسمت السخرية على ملامح وجهه و هو يقول: "فعلًا ؟! أنتِ متأكدة من كلامك دا؟! بالله عليكي تحركي راسك كدا لتحت شوية؟! معلش" حركت رأسها مثلما طلب منها فوجدته يقول بسخريةٍ: "شوفتي ؟! ما شاء الله، الختم متساب في الناحية الشمال كلها، أنا عاوزك تسكتي و تتوكسي" سألته هي ببلاهةٍ: "مع بعض !! قصدي يعني ليه؟!" ابتسم بيأسٍ ثم حرك رأسه نفيًا عدة مرات، فسألته هي بمرحٍ: "بس إيه الحلاوة دي ؟! طلعت بتلعب كورة حلو أوي، كنت عاوزة ازغرطلك و الله" ابتسم لها ثم أمسك الدواء من جواره و أقترب منها يعطيه لها و هو يبتسم بخفةٍ أخذته ثم سألته بتعجبٍ: "مالك يا ياسين ؟! شكلك متضايق على فكرة، إيه اللي مزعلك؟" تنهد هو بعمقٍ ثم قال بهدوء: "كل الحكاية إن عامر زعلان علشان ياسر، و أنا مبحبش حد يزعل، بس الحمد لله يعني، الدنيا هتبدأ تتصلح، أنتِ كويسة؟!" حركت رأسها موافقةً ثم قالت: "الحمد لله كويسة، بس بصراحة عاوزة أروح بيتي بقى، حاسة إن بيتنا وحشني يا ياسين، حاسة أني مقعدتش فيه" زفر هو بقوةٍ ثم قال بقلة حيلة: "أعمل إيه طيب يا خديجة ؟! على يدك محدش هنا موافق على حاجة زي دي، بس إن شاء الله لما تفكي دراعك و تفكي السلك هحاول اقنعهم حتى ممكن ناخد خلود معانا" سألته هي بلهفةٍ: "بجد يا ياسين ؟! ينفع ناخد خلود معانا حتى و أنا رجلي مسكورة؟!" حرك رأسه موافقًا ثم أضاف مؤكدًا: "طبعًا يا خديجة، دا بيتك و بيت خلود و بيت أي حد مش محتاجة سؤال يعني" ابتسمت باتساعٍ بعد حديثه و هي تقول: "الله !! تصدق اتحمست أقوم أروح دلوقتي، وحشني أوي يوم الجمعة في بيتنا و الروتين الحلو دا اللي كنت بعمله، صحيح هو مش كتير بس مش مشكلة" قبل هو رأسها ثم أمعن النظر في عينيها و هو يقول بنبرةٍ هادئة: "عاوزك بس تقومي بالسلامة و ترجعي أحسن من الأول علشان تنوري بيتك من تاني" حركت رأسها له توافق على حديثه و هي تبتسم له ثم قالت له: "ياسين، هنام و أقرأ ليا قُرآن، أنا مش بصحى مصدعة لما بنام على صوت القُرآن، يلا" ابتسم لها بخفةٍ فوضعت رأسها على صدره و هي تتثائب، بينما هو وضع يده على رأسها ثم شرع في قراءة القرآن لها و هي بين اليقظة و التيه. _________________________ انتهى ذلك اليوم حتى أتى الصباح التالي و تحديدًا في مزرعة «شرف» كان «حسن» جالسًا بجوار ذلك الرجل و هو يبتسم على هيئتها المُضحكة وسط الفتيات الصغيرات و هن يلعبن حولها بالطائرات الورقية، و هي ترتدي عباءة نسائية واسعة على جسدها، و حجاب منقوشًا الزهور الصغيرة، و ضحكتها ترتفع بين الحين و الآخر، حتى وكزه «شرف» في يده و هو يقول بخبثٍ: "خلاص يا واد، عينك هتاكلها، وحشاك و لا إيه؟!" حرك رأسه ينظر له و هو يقول: "شكلها وسط البنات الصغيرة حلو أوي، بحب كل حاجة فيها تظهرها على حقيقتها" ابتسم له و هو يتحدث بمرحٍ: "أنا حاسس إنك أبوها يا حسن، مش مجرد واحد متجوز واحدة و حبها، كدا هخاف عليك" انكمش ما بين حاجبي «حسن» و هو يقول بحيرةٍ: "تخاف عليا !! ليه إيه حصل؟!" رد عليه مُفسرًا حديثه: "هخاف عليك تتجرح تاني و هخاف عليك تسيبك، هدير لو سابتك هيحصل إيه يا حسن؟!" رد عليه مُسرعًا بقلقٍ: "هخاف تاني، و أنا مش عاوز أرجع لوحدي، على يدك أنا كنت تمثال من غير روح، حسيت إن الروح رجعتلي تاني، مش عارف ليه حاسس إنها العوض اللي مطلوب مني أحافظ عليه" ربت على كتفه و هو يقول بهدوء: "كل الحكاية يا حسن إنك ملكش غيرها في الدنيا دي، زيي أنا و ثريا كدا، مليش غيرها و طلبت منها تسيبني و تروح تتجوز حد تاني علشان تجرب مشاعر الأمومة، بس هي قالت إنها قبلاني أنا زي ما أنا، و اختارت الطريق معايا، أنا حاسس بيك، و عارف مشاعر أنك ملكش غير شخص واحد في الدنيا دا عامل إزاي، أنا جربته و دوقته و اللي داقه هيبقى صعب عليه" حرك رأسه موافقًا ثم وجه بصره نحوها و هي تمسك في يدها طائرة ورقية تحاول رفعها مثل الفتيات، فاتسعت بسمته أكثر، حتى اقتربت منهما «ثريا» زوجة «شرف» و هي تقول مُرحبةً به: "منور يا حسن، خلاص نسيتونا !! اومال لو مش قايلة ليكم اسألوا عليا ؟! كنتوا عملتوا إيه؟!" رد عليها بحرجٍ منها: "أنا عارف إنك لازم تزعلي، بس كل حاجة كانت غصب عننا، الدنيا كانت بايظة و يدوبك بدأت تتصلح، حتى فرح وليد و طارق قرب خلاص، و الفرش يوم الجمعة الجاية" ردت عليه هي بمرحٍ: "هنيجي طبعًا، علشان نشوف العرسان و هما فرحانين، طول عمري كان نفسي أشوفكم بتضحكوا انتم التلاتة، صحيح الحب بيصنع المعجزات" رد عليها هو مُسرعًا: "أو هي دي حلاوة صحة العلاقات، علاقات مريحة تخليكي فرحانة في حياتك غصب عنك، و أنا فرحانة بالغصب من غير ما أحس" أقتربت منهم «هدير» تجلس بجواره و هي تبتسم باتساعٍ بعدما فشلت في رفع الطائرة، حتى سألتها «ثريا» بتعجبٍ: "جيتي ليه ؟! مش كنتي بتلعبي بالطيارة ؟!" ردت عليها بخجلٍ طفيف: "بصراحة فشلت فشل ذريع، مش مشكلة أنا كنت بس واقفة جنب البنات، شكلهم حلو أوي" ردت عليها بمرحٍ و كأنها تهدهد طفلتها الصغيرة: "و الله أنتِ اللي شكلك حلو أوي و زي القمر، أنا حبيتك أوي، لو حسن بس يوافق هاخدك منه و يجي ياخدك بعد كام شهر" رد عليها «حسن» يرفض حديثها بقوله المُسرع: "نعم !! كام شهر إيه دول ؟! و لا كام ساعة حتى، الافكار دي تتشال من دماغكم خالص، على جُثتي" ابتسمت «هدير» باتساعٍ بعد حديثه، فسألته «ثريا» بمشاكسةٍ: "مش بمزاجك بقى !! هي هتقعد معايا و هخليها هنا لحد ما هي تقول تمشي إمتى، تلاقيها زهقت منك" ردت عليها «هدير» مُسرعةً: "لأ طبعًا، مستحيل و الله، مكان ما حسن هيكون موجود، هكون أنا كمان موجودة، مهما كان هو فين" ابتسم بانتصارٍ لهما فتحدثت «ثريا» بنبرةٍ مُحبطة: "اخس عليكي، ضحكتيه عليا يا هدير، ماشي يا ستي ربنا يخليكم لبعض، شوفت يا شرف؟! لو حد قالك أني المفروض أمشي من هنا هتعمل إيه؟!" جاوبها ببساطةٍ و لا مبالاةٍ: "هفرح طبعًا، هقيم الأفراح والتهاني والتبريكات بالمناسبة السعيدة دي" رفعت حاجبها له، فأضاف هو مُفسرًا بنبرةٍ ضاحكة: "خلاص بلاش الشرار اللي خارج من عينك دا، هزعل طبعًا، أنتِ روحتي تزوري أختك يومين ، حسيت فيهم كأني مسجون، قال تغيبي شهور قال" انتشرت الضحكات عليهما بمرحٍ و استمرت تلك الجلسة على ذلك الحال و «حسن» يطالعها بأعين مُحبة و خاصةً بتلك الهيئة الغريبة عليه، فهربت هي من نظراته تنظر جهة الفتيات بمرحهن و أصواتهن الذي يطابق صوت فرح قلبها من الداخل. _________________________ بعد مرور عدة أيام على تلك الأحداث و بعدما عاد «حسن» إلى شقته مع زوجته، و بعدما استقر وضع «ياسر» بعد رحيل والده من "مصر" استعاد هو طبيعته كليًا، و قبل ذلك الصباح ذهبت «خديجة» إلى الطبيبة و قامت بفك الحصار من على ذراعها و جبينها، و كانت الأوضاع هادئة إلى حدٍ ما، حتى ذلك اليوم "الجمعة" و هو يوم نقل الأثاث و الأجهزة الخاصة بالشباب، و بعد صلاة الجمعة وقف الرجال معًا في انتظار القادم و هو «عامر»، حتى سأل «طارق» بقلقٍ: "أنا مرعوب يا جماعة، بجد و الله هموت من الخوف، المصيبة إننا مستنيين عامر" رد عليه «أحمد» بسخريةٍ: "أنا اللي مخوفني إن وليد قاله سُكيتي، و اللي مخوفني أكتر إن عامر ميعرفش يعني إيه سُكيتي" ضحك عليه الشباب، حتى حرك «حسن» رأسه يتفحص المكان ثم سأل بتعجبٍ: "هو الحج مُرتضى فين ؟! مش شايفه يعني !!" تدخل «ياسر» يقول بتهكمٍ: "الله !! عم مرتضى و عامر مش ظاهرين، أستر يا رب" ضحك الرجال و الشباب معًا و هم يقفون أمام البيت، حتى أقترب منهم «عامر» سيرًا على الاقدام و هذا ما أثار دهشتهم، و حينما اقترب منهم سأله «ياسين» بتعجبٍ: "خير جاي على رجلك ليه؟! فين العربيات و فين الليلة بتاعتك ؟!" حرك كتفيه ببساطةٍ و هو يقول: "مش أنتم قولتولي تعالى سُكيتي ؟! جيت سُكيتي و العربيات زمانها جاية، الحاجة جهزت ؟!" تدخل «خالد» يقول بتعجبٍ: "دي علامة من علامات الساعة ؟! خير يا عامر ؟! فين الحاجة؟!" رد عليه بحنقٍ: "مش قولتولي تعالى ساكت ؟! جيت ساكت أهو، و عمار جاي ورايا مع العربيات و كل حاجة في الهدوء كفاية فضايح بقـ....." توقف عن الحديث قبل أن يُكمل جملته حينما صدح صوت الفرقة على مُقدمة الشارع، و هي فرقة متخصصة في العزف بالطبول و يطلق عليها "فرقة بلدي" حيث يرتدي العازفون جلبابًا واسعًا مع عمامةً بيضاء، و في يدهم الآلات الموسيقية القديمة مثل "الناي" و الطبول الكبيرة، ضحك الشباب بقوةٍ و لكن ما أثار دهشتهم و جعل الصمت يُخيم عليهم هو قدوم «مرتضى» على أحد الخيول و كأنه فارسًا ماهرًا، فاقترب «وليد» من «عامر» يمسكه من تلابيبه و هو يقول بحنقٍ: "مركب أبويا حصان يا عامر !! هو دا السُكيتي ؟! فاكر نفسك بتنقل عفش ابن الزناتي خليفه ؟!" كان «مرتضى» يرقص بالخيل على العزف الموسيقي حتى اقترب منه الشباب يقفون بجواره و هم يرقصون حوله، و النساء يشاهدن كل ذلك من الشرفات في البيت، و قبل أن تهدأ تلك الأجواء، اقتربت السيارات المتخصصة في نقل الأثات و يتقدمها السيارة الخاصة بالادوات الموسيقية و فوقها عامل الأفراح الذي يُدعى "عمدة" و هو يقول بصوته العال في مكبر الصوت: "الليلة ليلة و لا ألف ليلة و ليلة...الليلة عيد....و الكل سعيد بفرحة أولاد الــــرشــيــد" اتسعت الأعين بقوةٍ بينما «عامر» ركض يركب خلف «مرتضى» على الخيل و هو يقول بمرحٍ: "أديها يا عم مرتضى" رفع «مرتضى» الخيل للأعلى وسط تلك الأجواء الصاخبة حتى اندمج الشباب و السكان و الجيران معهم في تلك الفرحة، التي كان سببها أولًا و أخيرًا هو «عامر»


تعليقات



×