رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل السابع والاربعون
"كُـنّتِ لي كَلماتِ الألحانِ...
فـ غدوتي لي سلام الأوطانِ"
_________________________
"لا أنا بطيرٍ و لا قلبي بخيرٍ"
عبارةٌ رددها ذات مرةٍ شخصٌ هُزم من الحياة، فكم عاش يتصور نفسه مثل الطير يسطتع فرد جناحه دون حاجته للسير، فتفاجأ بجناحه يُكسر على يد الغَير، حينها بكى و هو يرى ما عاش يحلم به يفوته، و هو من ظن نفسه مثل الطير، فوقف مُرددًا بخيبة أملٍ:
"لا أنا بطيرٍ و لا قلبي بخيرٍ
فما جنيت سوى الخسارة من السير
و لا استطعت مقاومة الغير،
كنتَ أحلم بالطير في الآفاق
و غدوت آمل فقط عِناق"
وقف الشباب جميعهم بلهفةٍ فسأله «ياسين» بقلقٍ ممتزج بالسرعة و اللهفةِ معًا:
"بجد !! فين طيب بسرعة ؟!"
رد عليه بنفس التردد و الصوت المهتز:
"للأسف في المشرحة، الناس جابوه النهاردة عامل حادثة على الطريق و مش معاه أي اثباتات شخصية، ياريت حد ييجي علشان تتعرفوا على الجُثة"
حرك «ياسين» رأسه نفيًا و هو يكذب حديثه، فصرخت «ميمي» بملء صوتها و حرقة نابعة من داخلها:
"ابـــنــــي"
أما «عامر» فارتمى على الأرض وهو يقول صارخًا:
"لأ....مــــش هـــو...."
اقترب «خالد» يسحب الهاتف من «ياسين» وهو يقول منفعلًا بغضبٍ:
"أنتَ بتقول إيه يا عم أنتَ !! أنتَ مجنون و لا إيه ؟! ياسر مين اللي في المشرحة؟!"
رد عليه الرجل بتفهمٍ لحالتهم:
"يا أستاذ حضراتكم طلبتوا مني ادور على المواصفات دي، و دا جاي النهاردة عامل حادثة على الطريق، يا رب يطلع مش هو"
رد عليه «وليد» بعضبٍ هو الآخر:
"مش هو !! أنتَ فاهم....أكيد فيه حاجة غلط"
أغلق الرجل الهاتف دون أن ينتظر تكملة حديثهم ففي مثل تلك الحالات يصعب على المرء التعامل بعقله، بينما الشباب بدأ البكاء يجلو على وجوههم و كلًا منهم يحاول استيعاب ما حدث، لكن هيهات، فقد رفض العقل كل ذلك و توقف فقط عند حديث الرجل، حتى صرخت «ميمي» فيهم تنبههم:
"قــومــوا....رجعولي ابني....ابني مماتش، قوم يا ياسين هات أخوك، أخوك لسه عايش.....قـــوم"
صرخت مرةً أخرى ببكاءٍ مزق نياط قلوبهم حتى ركضوا خلف بعضهم من خارج الشقة، عدا «عامر» الذي ظل موضعه، حتى اقترب منه «طارق» يوقفه وهو يقول بصوتٍ متحشرجٍ:
"قوم يا عامر......يلا علشان نروح نرجع أخوك، قوم معايا"
رفع «عامر» رأسه له وهو يقول ببكاءٍ:
"ياسر مماتش يا طارق....ياسر عايش و قالي إنه هيكمل معايا العمر.....أنا مش هقدر أكمل من غيره....مش هقدر"
بكى بحرقةٍ جعلت «طارق» يربت عليه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"يلا يا عامر..... أخوك كويس متخافش.....هنلاقيه و نرجع بيه"
سار معه حتى باب الشقة فصرخت «ميمي» به قبل رحيله:
"ترجعلي بابني يا عامر..... ترجعلي بيه حي و فيه النفس"
حرك رأسه موافقًا ببكاءٍ ثم تحرك من الشقة و معه «طارق» بعد رحيل الشباب جميعهم من المكان، و بعد مرور دقائق توقفت السيارات أمام المشفى الميداني بالمنطقة و كانت السيارات تصارع مع الأرض أسفلها حتى تصل للمشفى، و بعدها ركضوا جميعهم للداخل نحو تلك ما تُسمى بالمشرحة، ليشاهدا أصعب موقف قد يمر على المرء بحياته.
وقفوا جميعًا بالخارج فتحدث العامل لهم بهدوء:
"الجثة اللي حضراتكم جايين تشوفوها في التلاجة دلوقتي، حضراتكم هتدخلوا تتعرفوا عليها و يا رب يطلع مش هو"
حرك له «طارق» رأسه موافقًا و قبل أن يفتح الباب الخاص بالغرفة الموضوع بها الجثث ارتمى «عامر» على جسد «خالد» بغير قصدٍ منه و هو يقول بصوتٍ مهتز:
"مش هقدر.....مش هقدر أدخل أشوف حاجة زي دي....بلاش"
بكى «خالد» بحرقةٍ و هو يحرك رأسه نفيًا، فهو الآن أمام أصعب المواقف التي يواجهها بحياته، فمن المفترض أنه هنا حتى يتعرف على جثمان رفيق روحه الآخر، أي وضعٍ هذا؟! كيف يتم وضعه في موقفًا مثل ذلك ؟! بينما «ياسين» بمجرد ما قام الموظف بفتح الباب حرك رأسه نفيًا وهو يقول بحرقة قلبٍ و خوف و كأنه يلقى مصرعه:
"لأ....مش هقدر.... بلاش و الله ما هقدر، يلا نرجع....يلا ياسر مماتش"
نزلت دموعهم رغمًا عنهم جميعًا فتحدث العامل بتفهمٍ:
"أنا مقدر موقفكم، بس لازم تدخلوا تتعرفوا عليه...يا رب يبقى مش هو و يطلع أخوكم كويس"
اقترب «وليد» يمسك يد «ياسين» و كليهما يبكي حتى فُتح الباب، دلف «وليد» أولًا و خلفه «ياسين» و ضربات قلبه تتصارع و كأن قلبه سيخرج من موضعه الآن، كانت غرفةً ذات إضاءةٍ خافتة أقرب في لونها إلى الأخضر، ممتلئة بمربعاتٍ كبرى تشبه الصفيح و كلًا منها يتم وضع الجثمان به، و قبل أن يقترب الرجل من أيًا منهم، عاد «ياسين» للخلف متقهقرًا و هو يقول ببكاءٍ:
"ياسر مماتش....مش هو.....أخويا مش هيسيبني، أنا عندي أموت أهون عندي من إني أشوف اللحظة دي....مش هقدر....و الله مش هقدر"
قام العمل بفتح الثلاجة فجأةً، حينها التفت «ياسين» يضرب رأسه في الحائط وهو يقول:
"لأ....مش هو....قلبي بيقولي إنه عايش و إنه مش هو....يا يــــاســـر"
في الخارج استمع الشباب لصرخة «ياسين» و حينها كل ما هو سيء حضر ببالهم، فضرب «عامر» رأسه في الحائط خلفه و «خالد» خارت قواه حتى ارتمى على الأرض و كأن الثبات مهمة ثقيلة عليه و على عاتقه.
في الداخل اقترب «وليد» من الثلاجة بعدما فتحها العامل، ودّ لو توقف قلبه عن النبض حتى لا يُكمل تلك اللحظة، فصارع جسده حتى يقدر على الحِراك حتى اقترب منها و قام بكشف وجه المتوفي، حينها أغلق «وليد» عينيه خوفًا من القادم، فتحدث العامل يقول:
"اتفضل يا أستاذ....شوف"
فتح عينيه أخيرًا و كأن جفنيه في تلك اللحظة التصقا ببعضهما، فخطى خطوةً واحدة و هو يحرك رأسه نفيًا بخوفٍ و «ياسين» خلفه يقف بخوفٍ و كأن قدمه انفصلت عن جسده فأبت التحرك خطوةً واحدة حتى وقع بصر «وليد» على وجه المتوفي، حينها تنفس بعمقٍ و رافق تعبيراته دموعه، بينما «ياسين» في الخلف يضرب رأسه في الحائط و هو يبكي، حتى اقترب منه «وليد» يضع يده على كتفه وهو يقول بصوتٍ مهتز:
"مش هو.....مش...ياسر.....مش....هو و الله"
انتبه له «ياسين» بسرعةٍ ثم ركض نحو الجثمان يتأكد بنفسه، فوجد شابًا في عمر الثلاثون تقريبًا لقىٰ مصرعه على الطريق، حينها تنفس براحةٍ و هو يبكي ثم أغمض عينيه و هو يرتمي على كتف «وليد» حتى صرخ أخيرًا يخرج ما يجيش به صدره، و في الخارج كان كلًا من «عامر» و «خالد» مُرتميًا على الأرض و هو يبكي و البقيةِ يجزمون أن تلك اللحظات مرت عليهم و كأنها دهرًا كاملًا، حتى «حسن» الذي وقف يبكي هو الآخر و هو يتذكر مرارة الفقد، و كأن كل أحبته يفارقونه الآن، و فجأة فتح باب الغرفة و خرج منها «وليد» و خلفه «ياسين»، هب الجميع منتفضون إليهما بلهفةٍ، و قبل أن يسأل أيًا منهم تحدث «وليد» يقول أخيرًا بصوتٍ بالكاد وصل إلى مسامعهم:
"مش هو، الحمد لله مش ياسر"
اختلفت التعبيرات بين الفرحة و اللهفة و التكذيب و اللهفة و كلها ممتزجة بالدمع و كأنها تكذب السمع، فتحدث «ياسين» بصوتٍ متحشرجٍ:
"طلع مش هو، هو فيه شبه منه شوية.....بس مش أخويا"
أقترب منه «عامر» يمسك يده وهو يقول بنفس الوجع الممتزج بالبكاء:
"علشان خاطري يا ياسين.....مش هو صح....أخويا مماتش.....هموت و الله....قولي"
خطفه «ياسين» بين ذراعيه وهو يقول بلهفةٍ باكية:
"مش هو و الله العظيم، مش ياسر أخونا، ياسر عايش"
مسح «خالد» دموعه ثم مسح وجهه بكفيه ثم التفت حتى يغادر دون أن يتفوه بكلمةٍ واحدة، فسأله حينها «وئام» بتعجبٍ:
"رايح فين يا خالد ؟! استنى بس"
رد عليه بنبرةٍ جامدة:
"رايح أدور على أخويا إن شاء الله لو هفضل طول العمر ماشي على رجلي، مش هفضل مستني لحد ما دا يبقى حقيقة"
خرج خلفه الشباب جميعهم و قبل وجدوا أسرة الشاب المتوفي تركض نحو الداخل حتى يتعرفوا على الجُثمان"
انسحب «وليد» خلفهم حتى يعلم بما يحدث و يا ليته لم يفعل ذلك، حيث ارتفع صوت صرخات والدته عاليًا و أخيه يصرخ من الداخل بإسمه و كذلك شقيقته التي لطمت على وجهها و هي ترتمي بين ذارعي والدها، بكى «وليد» بحرقةٍ عليهم ثم خرج للشباب من جديد، فوجدهم يقفون بالخارج أمام المشفى، فتحدث «أحمد» مُقترحًا:
"طب نقسم نفسنا طيب، يعني نروح ندور تاني و كل شوية في مكان، بدل ما نتراكم في مكان واحد"
رد عليه «عامر» مُسرعًا:
"نعمل اللي نعمله....المهم نلاقي أخويا، إن شاء الله لو هنسأل كل المحلات كأنه عيل تايه"
انتبه «وليد» لتلك الجملة و هو يقول بلهفةٍ:
"أنتَ قولت إيه؟! قول كدا تاني"
رد عليه باستغرابٍ بات واضحًا عليه و هو يقول:
"نلف نسأل عليه المحلات.."
قاطعه «وليد» بلهفةٍ:
"مش دي يا عامر...الباقي إيه؟"
رد عليه بتيهٍ:
"كأنه عيل تايه... !!"
حرك رأسه موافقًا وهو يقول:
"صح !! ياسر تاه في الدنيا دي.....أنا عرفت ياسر فين...يلا"
انتبه له الجميع و هو يركض نحو السيارة و البقية حوله بعدة مشاعر مختلطة لا يدركون منها شيئًا سوى أن هناك راحةٍ تتخلل قسماتهم.
_________________________
يا ليتني في تلك اللحظة ما وقعت يا ليتني لنفسي ما سمعت، هكذا كان يفكر «ياسر» حينما جلس شاردًا في اللاشيء أمامه و هو يتذكر كيف أنجاه الله من ذلك الحادث الذي كان سيؤدي بحياته، لولا ذلك الملاك كما يلقبه هو منذ صغره أنقذه قبل فوات الأوان حينما دفعه نحو الرصيف قبل أن يصطدم بالسيارة، ليرفع رأسه بعدها يطالعه بلهفةٍ وهو يقول بدهشةٍ من تواجده في تلك الجهة:
"أيـــوب !!"
تحركت حينها السيارة فرفع «أيوب» رأسه و هو يقول منفعلًا في وجهه و هو يلهث بقوةٍ:
"أنتَ عبيط يا ياسر !! في حد يمشي في الطريق دا شارد كدا"
رد عليه الآخر بلهفة:
"أنا مخدتش بالي يا أيوب و الله، أنا كنت جاي الناحية التانية علشان ادخل المسجد، إيه اللي جابك من الناحية دي؟!"
رد عليه بتهكمٍ:
"حكمة ربنا سبحانه و تعالى علشان أجي الحقك، مالك يا ياسر؟!"
تنهد بقلة حيلة و هو يحرك رأسه بيأسٍ، فتحدث «أيوب» مقترحًا:
"طب تعالى علشان الجرح اللي في إيدك دا، يلا قوم معايا نقعد في المسجد"
خرج «ياسر» من شروده في الحادث و كيف أنقذه الله بواسطة صديقه، فانتبه له حينما لوح «أيوب» بيده أمام و جهه وهو يقول:
"يا ياسر !! روحت فين يا بني؟!"
انتبه له و هو يقول بصوتٍ تائهٍ:
"أنا معاك أهو يا أيوب، معلش تعبتك و لغبطلك يومك بس تليفوني فصل شحن و مش عارف أكلم حد فيهم"
رد عليه بلومٍ و معاتبةٍ:
"بس يا ياسر متزعلنيش منك، هو أنتَ مش أخويا؟! الحمد لله إنك كويس، قولي مالك بقى ؟!"
رد عليه بقلة حيلة ممتزجة بالآلم:
"اللي فيا طول عمره يا أيوب، سمير طلع عايش و رجع و شوفته و مش بس كدا، دا أنا اتقهرت منه تاني و يمكن المرة دي أكبر من القهرة القديمة"
طالعه «أيوب» بدهشةٍ و هو يقول:
"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ؟! استغفرك ربي و اتوب إليكَ"
رد عليه بقلة حيلة:
"تعبت....لما روحت شوفته و اتكلمت كلام عمري ما تخيلت أني ممكن أقوله، حسيت نفسي واحد تاني معرفهوش، الدنيا ضاقت بيا و صدري قفل، لقيت نفسي بلف زي الزاهد في الدنيا و كأن مفيش مكان هيكفيه، لحد ما افتكرتك و أنتَ بتقولنا، لما تتوهوا تعالوا بيت ربنا، أوعى ترمي حمولك على العباد، و تعالى بيت ربنا و أنتَ عُمرك ما هتفضل تايه، و سبحان الله جيت هنا علشان تلحقني"
ابتسم له وهو يقول:
"اللي بيحصل دا حكمة من ربنا سبحانه و تعالى، طول عمرك يا ياسر راجل محترم و عمرك ما عملت حاجة تغضب ربنا، رعيت ربنا في أهل بيتك و في علامك و في أخواتك، حتى زوجتك، فضلت صاين العهد طول عمرك لحد ما ربنا جمعك بيها بالحلال، كل دا يخليك زعلان يا ياسر؟!"
طالعه بعينيه فقط و لم يتحدث فوجده يضيف مُفسرًا:
"لو والدك كان لسه معاكم بطبعه دا زي ما هو، تفتكر كان زمانك حصلت كل دا؟!
تفتكر كان زمانك الدكتور ياسر اللي كل ولاد المنطقة اتعالجوا على إيده لما قرر يتبرع بوقته في المسجد و يكشف عليها مجانًا، تفتكر كنت هتخرج سوي نفسيًا كدا، أكيد دا مكانش هيحصل، كان زمانك شخص تاني الله أعلم بيك،
كان ممكن تكون عصبي و غليظ القلب نتيجة وجودك في مكان مع شخص طول عمره بيضغط عليك، لكن بانسحابه الوضع اختلف كتير، أهلك بقوا في رعاية راجل بجد، راجل شال المسئولية صح، راجل جوز اخواته و صرف على بيته، و رعى والدته و تكفل بسيدة مُسنة بعمر جدته من صغره، و بقيت دكتور كبير اللهم بارك، و دلوقتي راجل متجوز و فاتح بيتك و لسه هتبقى أب عظيم، احمد ربنا إنه سابك و مشي، علشان لو كان فضل الله أعلم و أدرى باللي كان هيحصل"
رد عليه بوجعٍ ظهر في صوته و نظرته المتألمة و هو يقول:
"اللي عيشته بسببه كان صعب، كان صعب أوي، اتحكم عليا باليتم من صغري و هو حي على وش الدنيا، كنت فاكره بيتعذب طلع مبسوط و فرحان في حياته، طلع بيربي عيال الغريب و شايل مسئوليتهم و سايب اللي من دمه، كان فين و أنا بنام في المحل في الشتا علشان أجمع مصروف البيت؟! كان فين و أنا بشتغل مرتين في اليوم علشان أقدر أصرف على اللي في رقبتي، لولا خالد كان بيشيل معايا، كان فين و عم رياض اللي مهما كان أنا مش من دمه و هو بيشيل مسئولية تعليمي لحد ما بقيت دكتور، كان فين و عم فهمي أبو عامر بيساعد في جهاز أخواتي و راح قال قدام إمي و أخواتي أني كنت بحوش معاه فلوس جهازهم علشان ميوجعنيش، و لحد دلوقتي هو و عم رياض ليهم جمايل في رقبتي و الاتنين قالوا إن زيي زي عيالهم، كان فين و الغريب بيعطف عليا، كان فين و أنا كل ما أشوف أب اتمنى يكون عندي زيه، كان فين و أنا شايل أكثر من طاقتي و زي اللي بيحارب من غير سلاح"
حرك رأسه موافقًا ثم أضاف مؤكدًا:
"أنا معاك في كل دا و حقك إنك تتعب و كل دا كان أكبر إنك تشيله و تتحمله، بس فكر كدا في كرم ربنا عليك و رحمته، خد منك أب أنا متأسف يعني ملوش لازمة في حياتك، و قصاده بقيت راجل البيت و بقيت أنتَ اللي ليهم بعد ربنا سبحانه و تعالى،
اتجوزت اللي اتمنيتها و طلبتها من ربنا، حققت حلمك و بقيت الدكتور ياسر، ربنا كرمك برزق لما والدتك ورثت و كان ساعتها بداية الخير ليك إنك تقدر تجيب الشقة اللي اتجوزت فيها علشان تقدر تطلب بنت الناس بقلب جامد، كل دا يخليك تحمد ربنا سبحانه و تعالى إنه قفل في وشك باب واحد،
بس قدامه فتحلك كام باب خلوك تعيش مبسوط، عارف إنك كنت محتاجه أب معاك و في ضهرك و عارف إنك كنت عاوزه يساعدك في الحياة و يكون هو المهرب ليك، بس افتكر إن إحنا كلنا ملناش ملجأ غير ربنا سبحانه و تعالى،
مهما حبيت أهلك و مهما اتعلقت بيهم و مهما قلبك حب، لازم تتأكد إن في النهاية هنروح لوحدنا و لازم تتأكد إن ملناش غير ربنا يا ياسر، ربك وحده هو اللي عالم بحالك و مُطلع على قلبك، ربك وحده هو اللي قادر يخفف عنك،
حاسس بخذلان أو حاسس إنك اتظلمت منه و من الدنيا كلها، تذكر قوله تعالى:
﷽
" واصْبِر و ماصَبرُكَ إلاّ باللَّه ولا تحّزَن عليهِم و لا تَكن فِي ضيقٍ ممَّا يمْكرون إنَّ اللَّه مع الذِّين اتَّقو و الذِّين هُم مُحسِنون "
و تذكر أيضًا قوله تعالى:
"وَ اصْبِر لحُكمِ ربِّك فإنَّك بِأعيٌنِنَا و سبِّح بحَمدِ ربِّك حِين تَقوُم و مِن اللّيلِ فسّبحْه و إدبار النُّجُوم"
_"صدق الله العظيم"
تفوه بها كليهما فتابع «أيوب» بنفس الطريقة:
"تخيل يا ياسر ربنا سبحانه و تعالى يقولك إنك بأعيننا، إحنا لو حد من البشر زينا قالها لينا بنفرح و نطير و نحس بجبر الخواطر، تخيل ربك سبحانه و تعالى يقولها ليك، تخيل الفرحة اللي أنتَ فيها لما ربنا سبحانه و تعالى يجبر بخاطرك بكلامه و حكمته"
ابتسم «ياسر» بفرحةٍ و العبرات تلمع في مقلتيه فوجده يضيف بفخرٍ:
"استنى هخليك تفرح أكتر، لو حاسس إنك لوحدك أو اللي فات كله كان صعب عليك أو إنك كنت محتاجه جنبك، افتكر قوله تعالى:
﷽
" وَ نَحنُ أقرَبُ إليهِ مِنْ حَبلِ الوريد "
تخيل يا ياسر، أنتَ تبقى زعلان على حد من البشر علشان مش موجود معاك أو بعد عنك و سابك و مشي و أنتَ في نفس الوقت معاك ربنا، أقرب ليك من نفسك و من حالك، إحنا مش للدنيا و هي مش لينا، هي دار اختبار، و كل واحد فينا على حسب اختباره في إيه"
رد عليه «ياسر» بنبرةٍ متعبة:
"بس اختباراتها صعبة أوي، صعبة و تقيلة على إن طاقة إنسان يتحملها، كتير عليا يا أيوب أني أتوجع من اللي المفروض يكون أحن عليا من قلبي، مشوفتش منه غير كل قسوة، أنا راضي و مش زعلان و مش هيأس من رحمة ربنا، بس سؤالي ليه ؟! ليه مفكرش فيا؟! ليه كنت كل يوم رقبتي بتتلوح من كتر ما أنا ببص و مستنيه يرجعلي، ليه دلوقتي ؟!"
رد عليه مُفسرًا:
"علشان تعرف إن الخير كان في غيابه و إن عمره ما كان في وجوده، علشان تعرف إنك كسبت كتير في غيابه، علشان تعرف إنك فعلًا تستحق كل اللي أنتَ فيه، كل الإشارات و الدلالات واضحة قصادنا بس إحنا ناسيين إنها دنيا و إنها كلها عند ربنا متسواش جناح بعوضة، يبقى حرام علينا لو ضيعنا الحلو اللي مستنينا علشان مكان فاني"
أقترب منه «ياسر» يحتضنه و هو يقول بتأثرٍ و بنبرةٍ أقرب للبكاء:
"ربنا يديم وجودك لينا كلنا، طول عمرك زي طوق النجاة لينا كلنا، مغلطتش لما قولتلي لما تتوه تعالى بيت ربنا، الحمد لله على كل حاجة، حتى اللي أنا مش فاهمها و حتى اللي اتوجعت منها"
ربت «أيوب» على ظهره بفخرٍ و قبل أن ينطق و على أعتاب باب المسجد وصلهم صوته الذي بث الرعب في قلب كليهما:
"يـــاســــر !!"
ابتعد كليهما عن بعضهما ينظرا نحو الباب تحديدًا عند مصدر الصوت، فتحدث «خالد» بنفس الاسلوب:
"يمين بالله لو مخرجتوش دلوقتي من بيت ربنا، أنا بنفسي هبعتكم هناك"
رد عليه «أيوب» بخوفٍ:
"بس يا خالد، أنا طول عمري بخاف منك، افتكر أني لسه متجوزتش"
ابتسم له بخبثٍ و هو يقول:
"يبقى حلال عليك حور العين يا أيوب"
ازدرد لُعابه بقلقٍ منه فابتسم «ياسر» بقلة حيلة ثم وقف و هو يمسك يد «أيوب» ، و بمجرد خروجهما من المسجد قام «خالد» بلكم «ياسر» في وجهه، حتى صرخ «ياسر» قائلًا:
"يا ابن الغشيم !! إيه ؟! شاكوش نازل على وشي ؟! بتضرب ليه متخلف أنتَ ؟!"
تدخل «ياسين» يمسكه من تلابيبه و هو يقول بتوعدٍ له بانفعالٍ:
"و لسه، أنا هوصل عليك محل عم فهمي كله، هخليك الوصلة العمومية للمنطقة كلها، حرام عليك يا أخي، الدم هرب مننا و كنا هنموت، ليه يا ياسر كدا؟!"
طالعه «ياسر» ببلاهةٍ و هو يرمش بعينيه حتى وجد «عامر» يقترب منه ثم احتضنه و هو يقول بلهفةٍ اختلطت بالبكاء:
"أنا مش زعلان على اللي حصل، فرحتي بوقوفك قصادي و أنتَ كويس بالدنيا كلها عندي، بس قلبي أتوجع أوي و الله قلبي أتوجع أوي"
رفع «ياسر» ذراعيه دون أن يفهم ما يدور حوله و لا النظرات التي احتلتها الراحة و هو يقول بتأسفٍ و ندمٍ:
"حقكم عليا، بس أنا مش عارف حصل إيه و الله، و تليفوني فصل و الأرقام كلها طايرة من مخي"
ابتعد عنه «عامر» ثم قبل رأسه و هو يقول بلهفةٍ:
"كل دا مش مهم....المهم إن أخويا بخير و زي الفُل قصادي، حرام عليك"
كان «أيوب» يبتسم بحبٍ لهم حتى وجد «خالد» يقترب منه و هو يقول بصوتٍ حادٍ:
"طب هو و تليفونه فصل يا أيوب، مهانش عليك تكلمنا و تطمنا؟! مجاش في بالك اللي ممكن يكون بيحصلنا؟!"
رد عليه بهدوء:
"عارف بس مقدرتش أعمل حاجة زي دي و هو حالته صعبة يا خالد، كان لازم يرتاح و يفضل هنا شوية، و بعدين أنتَ عارف أني باجي المسجد من غير الموبايل، الحمد لله إن ربنا طمن قلوبكم"
أقترب منه «وليد» يقول بنفس الهدوء من وجهه المبتسم:
"و الحمد لله على كلامك اللي كل مرة بيكون دليل، لولا كلمتك إننا لما نتوه نجيلك هنا، كان زماننا لسه بنضرب كف بكف"
رد عليه بوجهه البشوش:
"الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مُباركًا فيه، ربنا يطمن قلوبكم جميعًا، أنا متأسف مرة تانية"
في تلك اللحظة مال «حسن» على أذن «ياسين» وهو يقول بهمسٍ:
"هو أنتم بتعرفوا الناس دي منين؟؟ أنا حاسس أني عاوز أروح أحضنه، إيه دا؟!"
رد عليه «ياسين» بعدما ابتسم له:
"دا يا سيدي الشيخ أيوب، كان معانا من و إحنا صغيرين في دروس الدين و حفظ القرآن، طول عمرنا بنلجأله لما نتعب، وجوده طيب أوي يا حسن، اتعلمنا منه حاجات كتير"
ابتسم له و هو يحرك رأسه موافقًا، و بعدها قام هو بتوديع الشباب ثم رحل من أمامهم، فتحدث «ياسر» يسأل بتعجبٍ من حالتهم:
"هو إيه اللي حصل؟؟ مالكم يا جماعة ؟! متخضونيش كدا"
رد عليه «عامر» بصوتٍ عالٍ بعدما رفع يديه للسماء:
"منه لله سمير المبقع أبوك، روح يا بعيد ربنا ينتقم منك و تتخض زينا نفس الخضة، يا رب خُدلي حقي و حق إخواتي منه يا رب"
ضحك عليه الشباب حتى «ياسر» أيضًا ثم قام «وئام» بسرد ما حدث منذ منتصف الليل حتى حلول هذا الليل الجديد، كان هو يتابعه بتمعنٍ حتى ظهر الآسف على وجهه و هو يقول:
"أنا مكانش قصدي و الله، بس لما خرجت من عنده هناك و عرفت إنه تعبان حسيت إن الدنيا بتضيق بيا، و كأن الأرض دي مش سيعاني و الله"
ربت «ياسين» على يده ثم قال بهدوء:
"طب يلا علشان نوصلك عند مامتك و أخواتك و مراتك، يلا قلبهم واقف من الخوف عليك و مراتك خلاص من الخضة مش فيها حيل أصلًا"
حرك رأسه موافقًا فتحدث «ياسين» مُسرعًا:
"خُده يا خالد و روح عندكم و أنا هروح أطمن ميمي و هروح بعدها أشوف خديجة و الشباب طلع عينهم معانا من الصبح روحوا ارتاحوا"
رد عليه «أحمد» مُسرعًا:
"أنا هروح علشان خلود في الدرس و سلمى عندها مراجعة هروح أجيبهم، حد فيكم هيجي معايا؟!"
تدخل «حسن» يقول مُسرعًا:
"هروح أنا مع ياسين أشوف ميمي، و اتطمن عليها و طارق و وئام يروحوا يطمنوهم و أحمد يروح مشواره، هتيجي معانا يا وليد؟!"
حرك رأسه موافقًا و من بعدها بدأ الشباب في تنفيذ ما تم قوله، و كلًا منهم يتوجه إلى وجهته بعدما اطمئنوا على «ياسر» الذي طلب منهم مهاتفة «ميمي» حتى يطمئنها عليه.
_________________________
في شقة «ميمي» وصلها كلًا من «ياسين » و «حسن» و «عامر» و «وليد»، حتى يقومون بطمئنتها، أما هي بمجرد رؤياهم، تحدثت تقول بلهفةٍ و بكاءٍ على الرغم من مهاتفتهم لها يطمئنوها:
"فين ياسر !! فين ابني ؟!"
رد عليها «عامر» مُسرعًا:
"راح يطمن أمه و أخواته و مراته يا ميمي، مش أنا كلمتك و خليته يكلمك؟!"
ردت عليه هي ببكاءٍ:
"مش كفاية برضه، عاوزة أخده في حضني، كفاية اللي هو حاسس بيه يا عامر، أنا قلبي بيتقطع عليه و على ميرفت"
اقترب منها «حسن» ثم قبل رأسها و بعدها طالعها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"متخافيش عليه، هو كويس الحمد لله و بعدين أنتِ ليه بتعيطي كدا؟! مش هو كلمك خلاص ؟!"
ردت عليه مُسرعةً:
"برضه كنت عاوزة أشوفه، أنا قلبي بيوجعني على عيالي مقدرش استحمل حاجة تحصلهم"
رد عليها هو بحزنٍ:
"ربنا يبارك فيهم و يبارك في عمرك و يخليهم ليكي"
وكزته في كتفه و هي تقول:
"ما أنتَ كمان ابني، ربنا يخليكم كلكم ليا، و معاكم فارس و يونس حبايب قلب تيتة"
وضع «حسن» رأسه على قدمها بحبٍ و هو يتنفس بعمقٍ يُشبع حنينه لوالدته الراحلة، فوضعت هي كفها المُجعد على رأسه تربت عليها و العبرات تلمع في مقلتيها، بينما «عامر» احتضنها من الخلف و هو يبتسم براحةٍ كُبرى بعد اطمئنانه على صحة أخيه، فجلس حينها «ياسين» و «وليد» بجوارها، و هي تبتسم له، حتى ربت «وليد» على كتف «ياسين» بعد كل ما عايشه اليوم.
_________________________
في شقة «ميرفت» كان الوضع أشبه بالرعب، من كثرة الخوف و القلق، حيث كانت والدته و شقيقتيه و زوجته و والدتها يجلسن بخوفن و خاصةً «إيمان» التي كانت تجلس بين ذارعي «ندى» تبكي بحرقةٍ من خوفها عليه، و فجأة طُرق باب البيت فهبت كلًا منهن حتى قام «ياسر» بفتح الباب بمفتاحه الخاص، حينها اندفعت النساء نحوه بأكملهن و والدته التي تشبثت به و هي تقول بنبرةٍ باكية و وجعٍ نبع من داخلها:
"حرام عليك تتعب قلبي كدا، الخضة وقفت قلبي، أنتَ كويس يا ياسر صح؟! كويس ؟! رد عليا متسكتش كدا"
حرك رأسه موافقًا و الدموع تلمع في مقلتيه فوجد «نيرمين» شقيقته الكبرى تأخذه بين ذراعيها و هي تقول بحرقة قلبٍ:
"أنتَ كنت فين يا حبيبي ؟! وجعت قلبي عليك، ليه كدا يا قلب أختك"
رد عليها بصوتٍ مختنق:
"حقكم عليا مكانش قصدي أوجع حد فيكم عليا كدا، بس غصب عني حسيت أني محتاج أكون لوحدي، أنتِ كويسة ؟! عيالك فين؟!"
ردت عليه بصوتها الباكي:
"عيالي في البيت مع باباهم، طمني عليك بس و ريحني كنت فين ؟!"
قبل أن يرد عليها دفعتها «ندى» ثم احتضنته و هي تقول بلهفةٍ:
"اوعي بقى يا نيرمين، طمني عليك، كدا توجع قلبي و تخليني أنهار كدا؟! يا ياسر أنتَ أبويا، مجيتش ليا ليه؟!"
احتضنها و هو يقول معتذرًا لها:
"حقك عليا يا ندى، بس كنت تعبان شوية و الله، المهم انتم كويسين؟!"
حركت رأسها موافقةً و الدموع تنهمر على وجنتيها، فتحدث «خالد» بنبرةٍ هادئة:
"طب هسيبكم أنا بقى علشان أروح أشوف ريهام و يونس، يلا يا ماما خليهم يرتاحوا شوية"
حركت رأسها موافقةً ثم اقتربت من «ياسر» تقبل رأسه ثم قالت بنبرةٍ باكية:
"حمدًا لله على سلامتك يا حبيبي، ربنا يخليك لينا"
رد عليها هو بنبرةٍ هادئة:
"خليكم أنا عاوزكم، تعالى اقعد يا خالد، دول أخواتك برضه"
حرك «خالد» رأسه بخجلٍ موافقًا على حديثه، كل ذلك كانت تتابعه «إيمان» بعينيها الدامعتين و كأنها تعاتبه بذلك، فتحدث هو أمام الجميع بقوله:
"سمير رجع و عايش و أظن كلكم عرفتوا كدا، أنا كـ ياسر مش فارق معايا، حياتي هتمشي زي ما هي، كأنه كابوس ظهر و صحيت منه، لكن أنتم مش هقدر أحكم عليكم، اللي عاوزة فيكم تشوف أبوها أنا مش همنعها، طبعًا يا ماما الكلام دا مش ليكي، أنتِ طليقته"
ردت عليه «نيرمين» بقولها الحاد:
"أنا مليش أبهات غيرك يا ياسر، سمير مين دا اللي أطلب اشوفه؟! اللي سابنا و مشي بمزاجه علشان الفلوس، و لا اللي كان كل شوية يمد إيده على حد فينا؟! من يوم ما هو خرج من البيت دا و أنا قولت أني يتيمة الأب، لو فيه حد يستاهل المكانة دي يبقى أنتَ، و دي أقل حاجة قصاد اللي عملته علشاننا"
ظهر شبح ابتسامةٍ على مُحياه فخرًا بها فوجدها تقول بنفس الطريقة:
"دا كلام مش هرجع فيه، أنا أصلًا مستغربة إزاي ممكن تفكر إن حد فينا هيتقبل حتى يبص في وشه تاني، بتفكر إزاي أنتَ"
رد عليها بقلة حيلة:
"علشان أنا مش أناني يا نيرمين، و فيه حاجة كمان لازم تعرفوها، أبوكم...قصدي سمير عنده سرطان في المخ، يعني قرب يموت خلاص"
رغم لمحة الحزن التي ظهرت في أوجه الجميع إلا أنها قالت بثباتٍ:
"كُتر البُعد بيعلم الجفا، و الجفا بيجيب قسوة يا ياسر، هو بعد و قِسي بزيادة أوي، مش من حقه يطلب بحاجة مش بتاعته، اللي ليه عندي أدعيله ربنا يشفيه زيه زي أي غريب محتاج الدعوة، و اللي عرفته إنه معاه فلوس يعني مش محتاج زي غيره"
حرك رأسه نحو شقيقته الصغرى و هو يقول:
"و أنتِ يا ندى؟! هتعملي إيه؟!"
اقتربت منه تقف أمامه و هي تقول ببكاءٍ:
"أنا طول عمري مكانش ليا أب و مش فاكرة حتى شكله و لا أي حاجة منه، اللي رباني أنتَ و ابيه خالد، معنديش غيركم و دلوقتي بقى معاكم نادر جوزي، معرفش غيركم في حياتي، هو أنا معرفوش أصلًا، بأي حق ممكن اتقبله أو حتى أطلب أشوفه ؟! بأي حق أخد حقك فيا و أديهوله؟! خليه يمشي زي ما كان مش هنا، أنا مش مستعدة حتى اتقبل وجوده قدام عيوني؟!"
أخذها في حضنه بعناقٍ أبوي أكثر من كونه أخويًا، ثم قبل رأسها فوجدها تقول ببكاءٍ:
"أنا مليش غيرك أنتَ أبويا يا ياسر، مينفعش حد ياخد المكان دا عندي، حتى لو هو نفسه، أنتَ قصاد الدنيا كلها في كفة لوحدك"
مسح دموعه التي نزلت منه تأثرًا من صغيرته كما يلقبها، فتحدث «خالد» أخيرًا بقوله الحاد:
"خلاص يا جماعة زي ما كل حاجة كانت ماشية، سمير رجع زي مرجعش، المهم أخويا بخير و مش عاوز حاجة تانية، اللي جاي بقى بتاعي أنا، سمير لو خطى جنب البيت دا أنا هكسر رجله، و هريحه من المرض، كفاية قهرة منه لحد كدا"
حرك الجميع رأسهم بموافقةٍ، بينما «ياسر» رفع له رأسه و هو يقول بصوته الهادئ:
"ربنا يخليك ليا....حقك عليا تعبتك و بهدلتك معايا يا خالد، شوفت كتير بسببي و كفاية الخضة"
رد عليه «خالد» بعاطفةٍ أخوية:
"أنا مش عاوز منك أسف، أنا عاوزك تبقى كويس و تركز مع حياتك و تشوف اللي يخصوك و تسيبك من اللي يوجعك"
أشار له برأسه نحو زوجته التي كانت تتابعه من على بعدٍ و الدموع تسيل على وجنتيها، حتى حرك رأسه موافقًا ثم اقترب هو منها يمسك يدها، فرفعت عينيها الباكيتين تطالعه فتحدث موجهًا حديثه لمن هم خلفه:
"عن إذنكم يا جماعة هاخد إيمان عاوزها في كلمتين ضروري، يلا"
قال جملته ثم دلف بها الغرفة الخاصة به في شقة والدته كما أن ذهنه لم يتركه بعد طيلة صمتها و زاد قلقه مع نظرتها نحوه، حينها أقترب منها يقول بتعجبٍ بعدما أغلق الباب خلفه:
"فيه إيه يا إيمان؟! ساكتة ليه كدا؟! من إمتى و أنتِ بتسكتي كدا؟!"
ردت عليه منفعلةً في وجهه بصراخٍ باكيةً:
"من دلوقتي يا ياسر....بسكت من غُلبي علشان لو اتكلمت هتزعل، هو أنا مش صعبانة عليك؟! مستغرب أني ساكتة؟! خليني اقوم من جنبك في نص الليل و أقفل تليفوني في الظرف اللي إحنا فيه دا، و مش بس كدا أعرف إنهم رايحين المشرحة علشان يتعرفوا عليك....ليه ؟! هو حرام أطمن و أنا معاك ؟! عايشة عمرك كله خايفة من اللحظة دي و بتزود خوفي باللي عملته !! ليه طيب؟!"
اقترب منه يقول مُسرعًا و رغمًا عنه تهدج صوته و هو يقول ببكاءٍ:
"بس أنا مهربتش و لا أنا كان قصدي كل دا يحصل، أنا لما خرجت من عنده تعبت و حسيت بالنار بتقيد فيا، أنا كنت ناوي أوجعه و أقهره و أسم بدنه زي ما سمم حياتي و أنا صغير بس اتفاجئت بيه مريض و مش هقدر أعمل حاجة علشان أنا مش زيه، أنا تعبت يا إيمان، تعبت و حياتي كلها مرتحتش فيها غير لما بقيتي معايا، بلاش تزودي الحِمل أنتِ كمان"
أقتربت منه تحتضنه و هي تبكي بقوةٍ حتى بكى معها هو الآخر و هو يقول بوجعٍ:
"أنا تعبت......و الله العظيم تعبت و كل حاجة عمالة تكسر فيا، أبويا منصفنيش و لا دُنيتي كلها، أنا اللي بيحصل فيا دا صعب.... بلاش تزودي صعوبته بقى"
ربتت على ظهره وهي تبكي بنفس الوجع حتى وجدته يشهق بقوةٍ بين ذراعيها يعلن أمامها عن ضعفه و قلة حيلته.
_________________________
في بيت آلـ «الرشيد» وصل الشباب الثلاثة معًا، بعدما تركوا شقة «ميمي» ثم توجه كلًا منهم إلى وجهته، و أولهم كان «حسن» دلف شقة حماه فوجده يجلس بانتظاره، فقال بمجرد رؤيته له:
"السلام عليكم، إزيك يا عم محمود"
رد عليه التحية ثم سأله بنبرةٍ هادئة:
"و عليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا حسن، كنت فين يا حبيبي ؟! طارق و وئام هنا من بدري"
تحدث بصوتٍ هادئ يقول:
"كنت مع ياسين و وليد يا عمي، إحنا جينا سوا، هي هدير فين؟!"
رد عليه يجاوبه بصوتٍ هاديء:
"طلعت عند هدى علشان فارس بيعيط و هي كانت عاوزة تحضر الغدا، هتلاقيها نازلة دلوقتي"
حرك رأسه موافقًا فوقف «محمود» وهو يقول:
"طب أنا هروح أعملي كوبايةأعشاب علشان صدري تاعبني، أعملك معايا يا حسن؟!"
وقف له و هو يقول مسرعًا:
"طب خليك أنتَ طيب و أعملهالك أنا، متتعبش نفسك"
ربت على كتفه و هو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
"لأ يا حبيبي متتعبش نفسك، أنا بحط عليه حبة البركة و بظبطه بروقان، هعملك كوباية منه علشان تلحق نفسك قبل البرد ما يجي عليك"
حرك رأسه موافقًا له و هو يبتسم فتحرك «محمود» من أمامه و قبل أن يجلس «حسن» مرةً أخرى، صدح صوت جرس الشقة، أقترب من الباب يفتحه فوجدها تبتسم بفرحةٍ و هي تقول:
"حسن !! أنتَ هنا ؟! وحشتني أوي"
ابتسم لها ثم أغلق الباب بعدما دلفت هي، فدارت حول نفسها بفرحةٍ و هي تقول مثل الأطفال:
"بص الإسدال حلو عليا إزاي؟؟"
ثم اقتربت منه و هي تقول بحماسٍ:
لبسته طول اليوم النهاردة و صليت بيه، و أقولك على حاجة، قرأت كتير في المصحف، و استخدمت السبحة طول اليوم أهيه في إيدي، كنت فرحانة أوي يا حسن، و أنتَ وحشتني أوي"
قبل أن يرد عليه تفاجأ بها تقترب منه أكثر ثم لفت ذراعيها حول عنقه و هي تقول بهيامٍ به:
"عمري ما اتخيلت إن يجي اليوم اللي ممكن توحشني فيه كدا، و عمري ما اتخيلت إن ممكن يجي اليوم اللي أحس فيه إنك كل حاجة عندي كدا، حسن أنتَ ساكت ليه؟!"
قبل أن يرد عليها هو خرج والدها من الداخل يقول بسخريةٍ:
"علشان محترم ياختي، محترم أني هنا، بس هقول إيه؟! جوزك"
شهقت هي بقوةٍ و كأنها خرجت من المياه لتوها فوجدت «حسن» يضحك عليها و هو يبعد ذراعيها عنه، فالتفتت هي تقول لوالدها بخجلٍ:
"أنتَ صاحي يا بابا !! على فكرة بقى هو اللي غلطان كان المفروض يقولي إنك مش نايم"
رفع «حسن» حاجبه لها فتحدث والدها يقول بنبرةٍ ضاحكة:
"يا شيخة !! اخس عليك يا حسن، قال يعني لو أنا نايم عادي"
ارتسم الحنق على وجهها فوجدته يقول مشاكسًا لها:
"خلاص أنا هدخل أوضتي، الأعشاب بتاعتك أهيه يا حسن علشان تشربها"
أشار له على الطاولة بعدما وضع الكوب عليها، ثم تحرك من أمامهما تاركًا المجال لهما، فاقتربت منه توكزه في يده و هي تقول بحنقٍ:
"مش تقولي إن بابا صاحي؟! أنا افتكرته نايم الله يسامحك شكلي بقى زفت قدامه"
رد عليها هو بتهكمٍ:
"هو أنتِ ادتيني فرصة؟! نزلتي رغي رغي، طب أعمل إيه؟!"
رمقته بغيظٍ فوجدته يسحبها نحوه و هو يقول هامسًا بخبثٍ:
"قوليلي بقى كنتي بتقولي إيه كدا ؟!"
ضحكت رغمًا عنها و هي تحرك رأسها نفيًا تعانده، فوجدته يحملها على يده و هو يقول:
"مش مشكلة أنا جوة هعرف كل حاجة، و قبل ما تنطقي افتكري إن أبوكي صاحي جوة"
حاولت كتم ضحكتها بكفيها معًا و هو يتحرك بها نحو الداخل بعدما رمقها بتهديدٍ.
_________________________
وصل «وليد» شقته و منها إلى غرفته بعدما ألقى التحية على الجميع، ثم خلع قميصه و ارتدى معطفًا باللون الأسود
"سويت شيرت" على بنطال رياضي بنفس اللون و بعدها ارتمى على الفراش و هو يشعر بالتعب يقوم بهدم قوته و خاصةً بعد خوفه على «ياسر» منذ الأمس، أغمض عينيه بتعبٍ لكنه تفاجأ بيدٍ ناعمة تدلك رأسه، لم يقو على فتح عينيه بسبب كثرة التعب، فتفاجأ بها تقول بهمسٍ بجانب أذنه من المفترض يخيفه:
"وليد ؟! قوم يا وليد...وليد"
ضحك عليها و هو يقول بيأسٍ و لا زال مغمض العينين:
"يا متخلفة بطلي هبل و أعقلي شوية، و بعدين جاية أوضتي تعملي إيه؟!"
ضربته على وجهه بخفةٍ و هي تقول بضجرٍ طفيفٍ:
"أنا غلطانة جاية أهتم بيك و أأكلك، خليك نايم بقى"
فتح عينيه ثم اعتدل على الفراش يستند على الوسائد خلفه و هو يقول بمرحٍ:
"أنام إيه بس ؟! أنا هموت من الجوع يا عبلة، هاتي الأكل"
تحركت تجلب الصينية ثم جلست بجانبه و هي تقول بنبرةٍ هادئة:
"اتفضل يا سيدي، عملت النهاردة مكرونة بالوايت صوص، و عملتلك جنبها فراخ علشان عارفة إنك بتحبها"
ابتسم لها و هو يقول:
"هي إيه دي يا سوبيا؟!"
ردت عليه هي بمرحٍ:
"عارفة إنك بتحب المكرونة بأنواعها، و عارفة إنك بتحب الفراخ جنبها و بتحب عصير الفراولة، عملتلك كل دا"
تحدث هو يسألها بتشككٍ:
"و دا ليه كله؟! هات العواقب سليمة يا رب"
ردت عليه هي بضجرٍ:
"بس يا مهزق، أنا عملت كل دا علشانك، خليت ماما تعلمني كل دا و عملته علشانك، مش فرحنا قرب؟! هنتجوز إزاي و أنا لسه مبعرفش أطبخ؟!"
رد عليها هو بمشاكسةٍ:
"هطبخلك أنا، صحيح مليش أوي في المطبخ، بس بعمل كبدة حلوة، متشليش هم الطبخ ياختي"
ابتسمت له هي ثم قالت:
"طب يلا كُل يا ليدو، أنتَ تعبت النهاردة أوي، ربنا يعينك"
رد عليها هو بانهاكٍ:
"تعبت أوي، اليوم كان مُرعب و صعب، ربنا ما يكتبها على حد يعيش الموقف دا، بس الحمد لله ياسر سليم و ربنا طمننا عليه"
ربتت على كتفه ثم قالت:
"الحمد لله إنكم اطمنتوا عليه يا وليد، معلش أنا عارفة إنك كنت في موقف صعب، علشان كدا جيت أتطمن عليك و أريحك شوية"
رفع رأسه يطالعها فوجدها تقول بصوتٍ هاديء:
"يعني اللي أنتَ فيه الفترة دي صعب أوي، تجهيز بيتنا و فرحنا و تعب خديجة، و مشكلة ياسر، و علاجك عند دكتورة هناء كل دا صعب عليك لوحدك، بس أنا معاك و الله، مش عاوزاك تحس إنك لوحدك"
ابتسم لها وهو يقول بعدما زفر بقوةٍ:
"أنا مش لوحدي، أنتِ معايا و جنبي، عيونك طول ما هما قدامي أنا مرتاح و حاسس أني متونس بيهم، فاكرة لما قولتلك مجنون مين اللي يسيب ونسيه في الدنيا دي؟! أنا هسيبك يوم ما أكون مجنون يا عبلة، طول ما ربنا مخليني حي على وش الدنيا و القلب بيدق، هتفصلي أنتِ ونيسي في الدنيا دي، أنتِ إجابة كل سؤال العقل احتار فيه، و أنتِ السبب اللي كل ما القلب يموت تحييه"
طالعته بعينيها الدامعتين فوجدته يقترب منها يقبل رأسها ثم قال هامسًا بهدوء:
"علشانك أنا قادر أكمل.... علشانك قادر أتحمل....
و كل مرة بشوفك هحبك تاني من الأول"
ابتسمت له باتساعٍ فوجدته يغمز لها بمشاكسةٍ ثم أشار برأسه نحو الطعام و هو يقول:
"يلا ناكل و كُلي معايا....خلي نفسي تتفتح، أنا واحد كنت في زيارة لـ تلاجة الميتين"
_________________________
جلس «ياسين» وسط «خديجة» و والديها بعدما اطمئنوا منه على صديقه، بعدها قام هو بمساندتها ثم دلف بها غرفتها بعدما تفحصته هي و أدركت من ملامحه أنه يشعر بالتعب، بل أوشك على فقد كامل طاقته، و بعد دلوفهما الغرفة، أغلق هو الباب ثم التفت يحتضنها حتى تفاجئت هي بفعلته تلك، فسألته بتعجبٍ:
"مالك يا ياسين؟! فيه إيه؟! و ليه شكلك تعبان كدا؟!"
رد عليها بانهاكٍ واضحٍ:
"مش قادر يا خديجة، اللي حصل فيا من إمبارح عمري ما اتخيلت أني أعيشه، أنا شوفت كتير، أنا اتحطيت في أكتر موقف ممكن حد يخاف منه، خلاص مش قادر أكمل اليوم و أنا ماسك نفسي كدا"
رفعت ذراعها الحر تربت على ظهره وهي تقول بصوتٍ مختنق:
"الحمد لله على كل حال يا ياسين، عارفة إن دا كله صعب و إنك شوفت كتير، بس متزعلش و إحمد ربنا إن أخوك رجعلك و بقى بخير"
أدرك هو وضعها حالًا و هي تتحدث فابتعد عنها يمسح دموعه و هو يقول بلهفةٍ:
"أنا....أنا آسف و الله يا خديجة، معلش بس تعبي عماني، متزعليش مني"
ردت عليه هي بنبرةٍ هادئة:
"أزعل منك ؟! أنا كويسة و زي الفل أهوه، طمني عليك بس، أنتَ كويس؟!"
حرك رأسه موافقًا دون أن يتحدث فوجدها تبتسم له ثم قالت بحنقٍ زائف:
"أنا كنت قلقانة عليك أوي و الله، و اتحايلت على وليد ياخدني ليكم بس هو مرضاش، و أنا زهقت من خوفي و قلقي و أنا قاعدة متكتفة كدا، كنت حاسة إنك محتاجني"
أمسك كفها ثم أجلسها على الفراش و هو يقول بصوتٍ خافتٍ:
"كنت محتاجلك و الدنيا كانت ضيقة عليا يا خديجة، أنا إمبارح بس كان نفسي تكوني معايا، حتى بيتنا مستحملتش أقعد فيه من غيرك و مش طايقه يا خديجة، أنا بقيت عاوزك في بيتي علشان مش لاقي الراحة بعيد عنكم انتم الاتنين"
ابتسمت له فوجدته يتنهد بعمقٍ ثم قال بصوتٍ ظهر به التعب:
"أنا كنت فاكر إن الإنسان فينا ممكن يرتاح طول ما هو معندوش مشاكل، بس اللي بنحبهم لما يتوجعوا الوجع بيجيلنا إحنا كمان، وجع ياسر وجعني يا خديجة، حسيت إني مش قادر اتنفس، و لما روحت بيتنا كنت عاوزك معايا علشان أرمي حمولي عليكي و أقولك على تعبي، كنت متأكد إن راحتي عندك أنتِ، زي لقيت فيكي كل حاجة طلبتها و أكتر بكتير، أنا تعبت أوي يا خديجة...تعبت و مش لاقي حد غيرك ينفع أقوله أني تعبت....أنا بتكلم معاكي و حاسس أني بتكلم مع نفسي، بقيتي أقرب ليا من نفسي يا خديجة"
أشارت له حتى يقترب منها، فامتثل لمطلبها، حينها احتضنته و هي تقول بصوتٍ هادئ رغم نبرتها المختنقة من شدة تأثرها:
"أنا معاك أهو قول اللي عاوزه و عيط كمان و اشتكي يا ياسين، بدل ما تكتم جواك، قول اللي مزعلك كله"
نزلت دموعه رغمًا عنه فحتى الآن لم يجد حديثًا يكفي ما يشعر هو به حتى أنزل جسده يضعه على قدمها السليمة، فوجدها تمرر كفها على خصلات رأسه و هي تقرأ له آيات القُرآن الكريم بصوتها الهادئ، حينها هو شعر بالسَكينة تجتاحه و رغمًا عنه أغمض عينيه دون أن يعي هو لوضعه و هو على فخذها الحر و الآخر تحاول هي تحريكه لكن دون فائدة، حتى زفرت بقوةٍ ثم ربتت عليه بقلة حيلة، و حينها شعرت بالشفقة عليه فلم ترد إيقاظه، بل ظلت تمسح على رأسه و هي تقرأ له ما تيسر من القُرآن الكريم.
_________________________
فوق سطح البيت جلس «طارق» يقوم بإنجاز بعض الأعمال الخاصة به، حتى صعدت له «جميلة» و هي تبتسم بسمتها الهادئة التي تُزين وجهها، رفع هو رأسه و حينما وجدها أمامه قال بفرحةٍ كبرى:
"كدا كتير عليا، شكل الواد وليد معاه حق يحب السطح دا، تعالي خليني أفرح شوية، دا النكد داس على وشي بقطر"
ابتسمت أكثر و هي تجلس بجواره ثم قالت بهدوء:
"عاوزة أتكلم معاك شوية، ينفع؟!"
حرك رأسه موافقًا ثم أضاف مؤكدًا:
"لو مينفعش أنا هخليه ينفع يا جميلة، اؤمريني، عاوزة إيه؟!"
ردت عليه هي بنفس هدوئها المعتاد:
"الأمر لله وحده يا طارق، عاوزاك تاخد الفلوس دي"
مدت يدها له بعد جملتها بـ مبلغٍ من المال فحرك هو رأسه للأسفل يطالع ما تقدمه له ثم رفعها مرة أخرى و هو يقول بتعجبٍ:
"إيه الفلوس دي يا جميلة ؟! بتاعة إيه؟! و جايباهم ليا ليه أصلًا؟!"
ردت عليه هي بعدما أخذت نفسًا عميقًا لعلها تُهديء به من توترها:
"الفلوس دي بتاعتي يا طارق، بابا كان بيديهم ليا علشان جهازي و علشان أقدر أجيب كل اللي نفسي فيه"
قطب جبينه بتعجبٍ منها فوجدها تقول مُسرعةً:
"قبل ما تفهمني غلط بس، أنا هنا محدش فيكم مخليني محتاجة حاجة، خالو مرتضى جايب كل حاجة لعبلة و خالو محمد بيجبلي أنا زي ما بيجيب لعبلة، و أنتَ شايل كل حاجة، خلي الفلوس دي معاك أكيد هتحتاجوها"
رد عليها بنبرةٍ جامدة:
"شيلي فلوسك يا جميلة، بطلي هبل و عبط، دا حقك علينا و محدش هيقدر ينكر حاجة زي دي"
ردت عليه هي بقلة حيلة:
"يا طارق اسمعني، ماما كلمت خالو محمد قالها ملهاش دعوة بيا و بابا الحاجات اللي كان هيجيبها أنتَ جبتها كلها، دا أكبر من طاقتكم، الفلوس معايا أهيه، خدها و ريحني"
رد عليها هو بضجرٍ:
"يا ستي الله يرضى عليكي بطلي هبل، دي فلوسك أنتِ خليها معاكي، اللي تعوزيه كله اطلبيه مني، كفاية إنك مكنتيش معانا و إنك عيشتي بعيد عننا و اتحرمتي من عيلتك، ريحيني أنتِ و شيلي فلوسك يا جميلة"
زفرت هي بقوةٍ ثم قالت مُسرعةٍ:
"طب هقولك، شوف أي مكان من اللي بيكون محتاج مساعدات و بيكون فيه عرايس بتتجهز و نجهز بيه عروسة يتيمة أو محتاجة مساعدة إيه رأيك ؟!"
ابتسم لها باتساعٍ دون أن بتفوه بكلمةٍ واحدة، فحركت رأسها باستفسارٍ و هي تقول:
"سكت ليه؟! طارق؟! أنتَ كويس"
حرك رأسه موافقًا ثم قال بنبرةٍ هائمة:
"أنتِ جميلة أوي يا جميلة، بجد كل يوم بكتشف حاجات أحلى من الأول، طلعتي أحلى من كل حاجة حلوة تخيلتها في يوم"
ابتسمت بخجلٍ منه فوجدته يقول بهدوء:
"أنا ليا حق اتمسك بيكي و ليا حق أفضل متبت في حُبي ليكي كمان، ربنا يزيدك من فضله و يكرم قلبك الجميل"
مدت يدها له حتى تزيل خجلها منه و هي تقول بتلعثمٍ:
"طب ريحني و خدهم، شوف هتتصرف فيهم إزاي بقى، أنا معنديش خلفية عن أي حاجة هنا"
حرك رأسه موافقًا ثم أخذهم منها و هو يقول بهدوء:
"هكمل عليهم من معايا و نروح سوا أنا و أنتِ علشان ناخد ثواب مع بعض، حلو كدا؟!"
حركت رأسها موافقةً بحماسٍ فقال هو بسخريةٍ:
"ألا بصحيح أنتِ مين اللي مربيكي؟! لا فيكي حاجة من عمتي و لا فيكي حاجة من أبوكي؟!"
ردت عليه هي بنبرةٍ ضاحكة:
"تربية تيتة نوال، ارتاحت بقى ؟؟"
حرك رأسه موافقًا و هو يقول:
"آه كدا ماشي، مُقنعة دي"
_________________________
في منزل «سمير» كان جالسًا في ردهة البيت و على طرفيه «جيسي» و «فادي» و كانت الفتاة تتحدث في الهاتف مع أحد رجالهم الذي كلفته هي بمراقبة الشباب بعد خروجهم من بيتهم حتى يطمئنهم على «ياسر» و بعد حديثها معه بعدة كلماتٍ مقتضبة أغلقت معه و هي تقول:
"لقوه في مسجد في المنطقة عندهم و بعدها راح عند مامته و شكله هيمشي دلوقتي يروح بيته"
تنهد «سمير» براحةٍ كبرى ثم أرجع رأسه للخلف يمسكها بكفيه معًا، فوجدها تجلس بجواره و هي تقول:
"أنا بقول كفاية كدا و ياريت ملناش دعوة بيه تاني، كفاية تعبه لحد كدا، هما مش حمل ظهورنا و لا حمل مواجهات صعبة من ديه"
حرك رأسه موافقًا على مضضٍ ثم تحرك من أمامهما دون أن يتحدث، بينما «فادي» انتظر اختفاء أثره ثم قال بتعجبٍ:
"أنا مش فاهم حاجة، هو زعلان و لا مش فارق معاه؟! و أنتِ شاغلة نفسك ليه بقى؟!"
ردت عليه بضجرٍ:
"يعني إيه شاغلة نفسي ليه؟! أنا لو مركزتش معاه كل حاجة هتدمر يا فادي، حياته و حياتنا و حياة عياله كمان، كفاية اللي ياسر بيحس بيه دلوقتي"
سأله بتشككٍ:
"أنتِ شاغلة بالك بياسر ليه؟! مالك و مال ياسر يا جيسي؟! اللي يشوف خوفك عليه يقول إنك بتحبيه"
تنهدت هي بقلة حيلة ثم قالت:
"هحب مين يا فادي ؟؟ و أنا أعرفه منين علشان أحبه؟! أنا مستغرباه مش أكتر من ساعة ما جينا هنا و أنا بتابعه و توقعت هشوف نسخة تانية من سمير و هو صغير، بس دا غريب، مش زيه أبدًا، زوج مخلص و صاحب جدع و دكتور أطفال، عامل زي الاطفال و هو وسطهم"
ابتسم بتهكمٍ وهو يقول:
"لأ فعلًا مش مركزة معاه، عارفة عنه كل تفاصيله دي و أنا معرفش؟! نسيتي أني أنا راجل شرقي الأصل برضه؟!"
زفرت هي بقوةٍ ثم قالت:
"فادي ياريت بلاش الكلام دا، أنا بس حسيت بشفقة ناحيته، حسيت إنه حرام يتوجع مرة تانية بالطريقة دي، ياسر ميستهلش إنه يكون عنده أب زي سمير يا فادي، ياسر يستاهل إنه يعيش مبسوط بعد كل اللي شافه"
حرك رأسه موافقًا على مضضٍ ثم سألها بتشككٍ:
"هو أنتِ فيه حاجة في دماغك؟! بتفكري في حاجة معينة يعني؟!"
حركت رأسها نفيًا ثم قالت ببساطةٍ:
"خالص، أنا مستنية أشوف أخرة اللي إحنا فيه دا إيه؟! يمكن كل حاجة تعدي و تخلص، و يمكن تاخد كتير من طاقتنا"
حرك رأسه موافقًا و هو يتابع ملامحها بتمعنٍ و هو يفكر فيما هو آتٍ
_________________________
بعد مرور عدة ساعات و قبل صلاة الفجر كان «ياسر» جالسًا على فراشه و «إيمان» نائمة على قدمه و هو يحرك كفه على خصلات شعرها و كأنها ابنته، ابتسم و هو يرى تشبثها بها، بعدما أمسكت كفه بيدها حتى لا يتحرك من جوارها مرةً أخرى، ثم أخفض نفسه يراقب ملامحها و هي نائمة، فابتسم رغمًا عنه بفرحةٍ و هو يتذكر قلقها عليه و تمسكها به، ثم تذكر ما عاشته بسببه، حينها قبل جبينها ثم قال بهدوء معتذرًا لها:
"أنا أسف و الله.....كفاية إنك كنتي بتحاربي علشاني و كنتي شايلة كل القلق دا من خوفك عليا، الدنيا كلها مكانش فيها حاجة حلوة غيرك أنتِ، و أنا قلبي ملوش غيرك أنتِ"
ربت على رأسها بعد حديثه و فجأة صدح صوت جرس الباب، قطب جبينه بتعجبٍ ثم حرك رأسه للساعة يطالعها فوجدها تقترب من الثالثة صباحًا، حينها خرج من الفراش منتفضًا، فشعرت به زوجته، فسألته بلهفةٍ و خوفٍ:
"مالك يا ياسر ؟! فيه إيه؟!"
رد عليها هو مُسرعًا:
"مفيش يا إيمان، نامي أنتِ، متخافيش"
خرج من الغرفة ثم توجه نحو باب الشقة يفتحها فتفاجأ به أمامه، فطالعه بدهشةٍ و هو يقول:
"أنتَ ؟! بتعمل إيه هنا؟!"