رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل السادس والاربعون
أبصرتُ فيكَ الأمان....فلاحقني منك الخذلان.
_________________________
أسيرُ في قلقٍ منذ أمدٍ كاملٍ، أشبه في ضعفي ورقة خريفية أسقطتها من جذورها الرِياح، أجوب الطرقات أملًا في طيْب خاطري أبحثُ عن المُستراحِ، يا ليت هذا لم يكن زماني، يا ليت دنياي تُكرمني بالسماح، كنت أخطو طوال الدهر طامعًا في الآمان و لكن ما ذاقه قلبي فقط كان الحِرمان، يا ليتني وافقت قلبي حينما قال:
"كَيْفَ تَبحثُ عَنْ الأَمّـانِ
فِي مَضّاجِعِ قَسّوَةِ الحِرمّانِ؟
كَيْفَ تُبصِر أملًا في الحَنان؟
وَ أنّتَ مَكْتّوبّ عَلّيْكَ الخَذَلان؟
انّتَبِه فأنّتَ لَازِلتَ فِي الدُنيا
و رَاحَتَكَ فَقطْ فِي الجِنْانِ
في بعض الأحيان تكن الأمور أكثر خطورةً مما هو متوقع، و لكن هل لخيبة الأمل صوت؟ في الأصل "لا"، و لكن ماذا عن صوت تكسير القلب، أجزم الآن بأن قلبه تفتت إلى أشلاءٍ لم تعد تنفع بشيءٍ، خذلانه في كل ما يملكه بات واقعًا مريرًا أمام عينيه، و كأنه ضُرب من العدو في قلبه بسهام الغدر، هكذا وقف «ياسر» بينهم جميعًا و ما جعل الأمر يزداد سوءًا هو تعرف والده على «خالد»، وقفوا البقية منقسمين إلى نصفين، نصف يشعر بالتعجب الممتزج بالحيرة و الجزء الأخر يشعر بالخوف، حتى تحدث «سمير» مُرحبًا بباقي الشباب بقوله:
"أنا غالبًا كدا عارفكم كلكم....هو حضراتكم تعرفوا بعض ؟!"
ضغط «ياسر» على جفنيه بوجعٍ مزق نياط قلبه و كأنه نسيجًا التهمته النيران، طالعه «سمير» بتعجبٍ من حالته بل من حالة الصمت المخيم عليهم، و مع طيلة الصمت سأله بتعجبٍ:
"مين حضرتك ؟! مظنش اتقابلنا قبل كدا، و حضرتك كمان مين؟! الأساتذة شوفته"
وجه سؤاله لكلًا من «ياسر» و «وليد» فهذه مرته الأولى التي يراهما بها، حتى استطاع «ياسر» إيجاد صوته أخيرًا وهو يقول بتهكمٍ لأخوته:
"قولوله أنا مين، عرفوه و لا أعرفه أنا ؟! خلاص هعرفه أنا"
ظهر الخوف على ملامح الثلاثة و هم ينظرون لبعضهم حتى اقترب «ياسر» منه خطوة يمد يده له وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
"معاك الدكتور ياسر....ياسر سمير أبو اليسر.....تحب أكمل ؟!"
جحظت عينيه خارجًا وهو يطالع ابنه أمام عينيه، بينما هو انزل يده ثم رمق الجميع بنظرة قهرٍ ثم تحرك من أمامهم يخطو نحو الخارج، التفت ثلاثتهم و معهم «وليد» الذي التقط ما يحدث حوله فورًا حتى يلحقون به، بينما بقية الشباب وقفوا يطالعون بعضهم بتعجبٍ و حيرةٍ خاصةً بعد اهتزاز جسد «سمير» حتى استند على الطاولة الموجودة أمامه، و في تلك اللحظة اقتربت منه «جيسي» تسمك يده مُسرعةً قبل أن يسقط ثم قالت معتذرة منهم:
"معلش أنا متأسفة هو بس تعبان شوية و ماخدش الدوا، عن اذنكم"
حركوا رأسهم بموافقةٍ و هي تتحرك به من أمامهم و لازالت الحيرة تُخيم على قمسات وجههم جميعًا.
في الخارج كان «ياسر» يضرب بقدميه الأرض و هو يتحرك نحو الخارج و الأربعة خلفه، حتى ركض إليه «ياسين» يمسكه من يده وهو يقول بلهفةٍ:
"أقف يا ياسر.... أقف رايح فين؟"
أبعد «ياسر» يده عنه بعنف وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
"ابعد عني يا ياسين، محدش يجي جنبي"
أقترب منهما الثلاثة و «عامر» يقول بخوفٍ:
"استنى يا ياسر بس هفهمك كل حاجة، استنى بالله عليك"
صرخ في وجهه بقهرٍ:
"هــفـهـم إيـــه ؟! هتفهمني إيه يا عامر ؟؟ هتفهمني إن أبويا عايش و مبسوط و سابني أنا و أمي و أخواتي البنات؟! و لا هتفهمني إنه كل دا هو فرحان في حياته و أنا مقهور على عمري، هتقولي إيه و أنا شايف الغريب بياخد حقي و أنا واقف قلبي بيتعصر من القهرة و سامع صوت قلبي و هو بيتكسر !!"
نزلت دموعهم رغمًا عنهم على وجعه و جرحه الغائر فقال هو بنفس الوجع:
"عيشت عمري كله مستنيه علشان أقهره....و العمر فات و هو قهرني تاني، ليه ؟!....ليه عمل كدا فيا ؟! مش صعبان عليه؟! و كمان تطلعوا عارفينه و هو عارفكم !!"
أقترب منه «خالد» يقول ببكاءٍ بعدما صرخ في وجههم:
"والله العظيم كل خوفي كان إنك تتوجع و تتعب....جرحك هو جرحي يا ياسر....علشان خاطري متبعدش عني.....أنا مقدرش على زعلك"
التفت يوليه ظهره محاولًا منع دموعه من الظهور و لكن كل ذلك لن يُجدي بشيءٍ، حتى نزلت رغمًا عنه و هو يتذكر هيئة ذلك المُلقب بوالده، التفت مرةً أخرى يطالعهم فوجد «عامر» يبكي و هو يتوسل إليه بنظراته حتى لا يتركهم، رمقهم بوجعٍ، ثم التفت حتى يغادر من أمامهم، فاقترب «عامر» من «ياسين» و هو يقول ببكاءٍ و توسل:
"الحقه يا ياسين...علشان خاطري الحق أخويا.... رجعلي أخويا"
قبل أن يخطو «ياسين» خطوةً تحدث «ياسر» يقول بنبرةٍ جامدة:
"محدش يجي ورايا !! سيبوني، اللي هيجي ورايا هتبقى بنهاية كل اللي بيننا....ســـامــعـين !!"
صرخ فيهم بكلمته الأخيرة ثم عبر الطريق حتى أوقف أول سيارة أجرة قابلته و ركب بها دون أن يلتفت لهم و هم يحاولون إيقافه، بينما «خالد» ارتمى على الأرض بكتفين متهدلين و كأنه مُحاربًا سُلب سيفه و قرعت فوقه طبول الحَربِ فجلس يبكي بقوة، فاقترب منه «وليد» يحتضنه وهو يبكي معه، بينما «ياسين» وقف يلهث بقوةٍ بعدما ركض خلفه حتى يمنع رحيله، لكن كل ذلك كان بدون جدوى، فعاد مرةً أخرى نحو الشباب فوجد البقية يخرجون من الداخل لهم بتعجبٍ من تلك الأجواء حتى سألهم «طارق» بقلقٍ اتضح في نبرته:
"في إيه ؟! خالد قاعد كدا ليه؟! و فين ياسر؟! مالكم يا جماعة؟!"
وقف «وليد» يقول مُسرعًا:
"طارق خدهم و أمشي و أنا هفهمك لما نروح البيت، قوموا خلونا نلحق ياسر، يلا يا خالد قوم"
هب «خالد» منتفضًا من جلسته و هو يمسح دموعه ثم ركض نحو سيارته و معه «عامر» و خلفه مباشرةً تتحرك سيارة «ياسين»، فتحدث «حسن» يقول باستغرابٍ:
"هو فيه إيه؟! أنا مش فاهم حاجة ؟! الدنيا اتقلبت مرة واحدة"
رد عليه «وئام» مُسرعًا:
"بقولكم إيه الحفلة دي مش لازمانا، يلا ورا الشباب مينفعش نسيبهم لوحدهم"
أيده «طارق» مُسرعًا وهو يقول:
"صح، يلا بينا، هما كدا كدا مش هياخدوا بالهم"
أومأ له الجميع بموافقةٍ ثم تحركوا معه نحو سيارتهم حتى يذهبون خلف الشباب.
_________________________
في الداخل و تحديدًا في غرفة المكتب ارتمى «سمير» على الأريكة يمسك رأسه بكفيه معًا و هو يشعر و كأن حربًا تدور برأسه، اشتد الآلم عليه حتى سقط على عينيه فصرخ من شدة الآلم، و خاصة أن الطبيب أخبره أن ذلك المرض الخبيث لا يحبذ معه الانفعال أو الصدمات خاصةً أنه أصاب المخ، بينما «جيسي» رغم ضيقها منه و ضجرها من أفعاله، إلا أنها جلست بجواره و في يدها الدواء و هي تقول بلهفةٍ:
"طب خد العلاج طيب يا بابا، كدا غلط عليك و الدكتور قال مينفعش الإجهاد النفسي دا كله"
رد عليها بصوتٍ خافتٍ و كأنه يتحدث رغمًا عنه بقوله المتقطع:
"مش....قادر....مش قادر يا جيسي....ياسر.....كان قصادي و أنا مقدرتش...مقدرتش أعرفه و لا احضنه....ياسر اتقهر تاني...."
ردت عليه هي ببكاءٍ:
"اللي فضلت أحارب علشان ميحصلش...حصل و خرب الدنيا، شعوره صعب أوي و خصوصًا و هو شايف فادي واقف جنبك و بيشكر فيك....قهرة متمنهاش لألد أعدائي"
ضرب رأسه في الأريكة خلفه بقوة و كأنه يصارع ذاته من خلال الألم المنشوب في رأسه، أما هي فزاد بكائها و هي تتخيل شعور «ياسر» بعد كل ذلك ما عايشه اليوم.
في الخارج وقف «فادي» مع ضيوف الحفل بعدما اعتذر منهم بسبب انشغال والده، و أكمل ما بدأه دون أن يكترث لما يحدث حوله و كأن الأمر لا يعنيه من الأساس.
_________________________
أوقف «ياسر» سيارة الأجرة أسفل مسكنه ثم ركض نحو الداخل مسرعًا و عينيه يكسوها الاحمرار و كأنها جمرًا مُشتعلًا بسبب تفكيره فيها إن كانت تعلم بكل ذلك أم لا، بينما هي كانت على الأريكة ترتجف خوفًا عليه بعدما هاتفها شقيقها يخبرها بما حدث، و فجأة انتفضت حينما سمعت صوت طرقاته على الباب، ركضت هي بسرعةٍ كبرى و هي تمسح دموعها ثم فتحت له الباب و بمجرد التقائه بها، أمسك يدها بعنفٍ و هو يغلق الباب بقدمه حتى استندت هي على الحائط خلفها و هو ملتصقًا بها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
"هو سؤال واحد !! كنتي عارفة أنتِ كمان ؟! كنتي عارفة إنه هنا و إنه عارف خالد و الشباب ؟! انــطـقي !!"
حركت رأسها موافقةً بخوفٍ منه و الدموع تلمع في عينيها فوجدته يشدد مسكته ليدها و هو يهزها في يده بعنفٍ مع قوله الموجوع:
"كنتي عارفة !! كنتي عارفة إنه موجود على وش الدنيا و مخبية عليا ؟! حتى أنتِ؟! دا أنا مليش غيرك أنتِ، وجعتيني ليه ؟!"
ردت عليه ببكاءٍ تقطع استرسال حديثه بقولها:
"أنا موجعتكش....و الله العظيم ما وجعتك، أنا حافظت عليك من الوجع و اسأل خالد هو يقولك كل يوم كنت بسهر جنبك علشان الكوابيس اللي بتجيلك، كل يوم كنت بفضل أفكر إن طول ما أنا عايشة اليوم دا مش هيجي، استحملت وجع السر دا في قلبي علشان موجعكش، فكر فيها كدا هتلاقيني حافظت على قلبك من القهر يا ياسر"
لم يستطع تفسير ما يحدث حوله حتى وجدته يترك يدها وهو يمسك القطعة الزجاجية الموجودة على الطاولة ثم قزفها على الأرض حتى ينفث غضبه الكامن بداخله، ثم كرر الكرة مع عدة قطع موجودة حتى أمسك المقعد المجاور له يلقيه بقدمه
و هو يبكي بقوةٍ و كل ذلك مه صرخته العالية حتى جلس على الأرض يستند على الحائط خلفه بعدما خمدت نيرانه و هو يشهق بقوةٍ فجلست هي بجواره ثم احتضنته فوجدته يتشبث بها وهو يقول بقهرٍ من بين بكائه:
"بس أنا اتوجعت....قلبي اتكسر على إيده تاني...ليه؟!....ليه ادوق الأحساس دا مرتين و كل مرة أسمع صوت التكسير في قلبي؟! أنا اتقهرت....، هو مش الضرب في الميت حرام؟! طب أنا ميت و كل دا حرام يحصل فيا....
إيمان متسيبينيش....حتى لو زعلانة مني خليكي معايا.... أبوس إيدك بلاش تسيبيني"
شهقت هي بقوةٍ و هي تقول بوجعٍ مطابقًا لوجعه:
"أسيبك إزاي؟! و الله العظيم أنا فضلت أحارب علشان ميجيش اليوم دا....مش هسيبك...أنا معاك علطول حتى لو أنتَ عاوزني أمشي، أنا مكنتش عاوزاك تتوجع يا ياسر"
شدد عناقه لها و هو يقول بصوتٍ بدأ في الخفوت تدريجيًا:
"لأ....متمشيش...أنا خايف.... خايف قلبي يوجعني تاني و أنا مش حِمل كل دا....أنا مش قد....ه"
زادت شهقاتها أكثر حتى وجدت قبضته ترتخي عليها، انصدمت هي من سكونه بتلك الطريقة و خاصةً مع خمول جسده عليها، فعادت للخلف تبتعد عنه و هي تقول بخوفٍ:
"ياسر....ياسر !! أنتَ كويس؟! يـــاســر"
صرخت بإسمه حينما وجدته أغلق عينيه بتلك الطريقة و توقف عن التنفس و كأنه استسلم للوجع، ظلت تربت عليه و تهزه بعنفٍ و هي تصرخ باسمه حتى طرق باب الشقة بقوةٍ، أغلقت حجابها المرتخي على رأسها ثم ركضت نحو الباب تفتحه فوجدت أخيها و معه الشباب، حينها أمسكت يده و هي تقول ببكاءٍ ممتزج بخوفها:
"الحقني يا خالد.....علشان خاطري....شوفه أبوس إيدك"
حرك رأسه نحو موضع إشارتها فوجد أخيه ساقطًا على الأرض و كأنه جثةً هامدة، حينها اقترب منه يصرخ بإسمه و الشباب خلفه يحملونه حتى دلفوا به الغرفة الداخلية و «وليد» طلب رقم الطبيب الذي كان مسئولًا عن علاج عمته و «إيمان» جلست على الأرض بجانب الفراش تمسك كف يده تبكي بشدة حينما تذكرت حديثه الموجوع و تشبثه بها بتلك الطريقة، جلس «خالد» بجوارها يحتضنها و الدموع تنهمر على وجنتيه حزنًا على رفيق حياته و شقيقته، بينما «عامر» جلس القرفصاء أسفل الفراش و الدموع تنهمر على وجهه و كأنها شلالاتٍ خرجت عن سدود منابعها، اقترب منه «ياسين» و أثر الدموع على وجهه ثم جثى على ركبتيه أمامه وهو يقول بصوتٍ متحشرج نتيجة البكاء:
"عامر !! أنتَ كويس ؟! ساكت ليه؟!"
حرك رأسه له يطالعه وهو يقول بوجع خرج من قلبه قبل نبرته و رافق حديثه دموعه:
"لأ مش كويس....أنا مقهور على أخويا و قلبي بيتقطع.... رجعلي أخويا زي ما كان....علشان خاطري رجعهولي.... رجعلي ياسر"
خطفه «ياسين» بين ذراعيه وهو يقول من بين دموعه:
"هيرجع....متخافش عليه أخوك جامد و الدنيا مش بتقدر عليه"
ابتعد عنه يقول بنفس الألم البادي عليه:
"بس وجعه كبير المرة دي....ياسر تعب يا ياسين، أخوك تعب...و تعبه تعب قلوبنا إحنا، ما بالك هو"
كان «خالد» يتابعه بعينيه الباكيتين ثم حرك رأسه يطالع ذلك الذي يسكن الفراش و كفه بين كفي زوجته و هي تبكي بين ذراعي شقيقها، و على أعتاب الغرفة كان «وليد» يتابع كل ذلك بدموعه التي أعلنت عليه العصيان و ذكرته بتمسكه الواهٍ، حتى هاتفه الطبيب يعلن عن وصوله فنزل هو من الشقة بعدما انسحب من بينهم، و في الأسفل توقفت سيارة الشباب بعدما علموا بمكان تواجدهم بعدما هاتفوا «وليد»، بينما «وليد» وصف للطبيب مكان تواجده حتى وصل إليه فأخذه و صعد به للأعلى و الشباب يلحقونه حتى وصلوا جميعًا للشقة بخوفٍ و قلقٍ من ما يحدث حولهم، دلف «وليد» أولًا و معه الطبيب الذي جلس على المقعد المجاور للفراش يتفحص «ياسر»، و البقية حوله يطالعونه بقلقٍ حتى اعتدل هو بعدما قام بقياس ضغط الدم و جميع الفحوصات اللازمة من خلال فحص بؤبؤ عينيه، حتى التفت يسألهم بنبرةٍ عملية:
"هو اتعرض لضغط عصبي ؟! أو انفعال مبالغ فيه ؟! حد ضايقه؟"
حرك «ياسين» رأسه موافقًا بقلة حيلة فوجده يقول مُفسرًا:
"هو جاله هبوط حاد في الدورة الدموية نتيجة الانفعال دا، أنا دلوقتي هديله حقنة و ياخدها مرة تانية بعد ١٢ ساعة و ياريت أي حاجة ممكن تزعله أو تجهد أعصابه بلاش منها"
سأله «وليد» بلهفةٍ باعتباره أكثرهم وعيًا:
"طب حضرتك شايف إننا نوديه مستشفى ؟! نطمن عليه أكتر يعني"
رد عليه مُردفًا بهدوء:
"ملوش لازمة، الموضوع كله محتاج راحة بس مش أكتر، و ياريت يهتم بالأكل و العصاير و السوائل علشان تظبط الهبوط دا، أنا بس محتاج المحاليل دي علشان أعلقهاله ضروري"
كانت «إيمان» تتابعه بعينيها الباكيتين و لولا وجود الشباب و الرجال لكانت الآن تأخذه بين ذراعيها تحميه من كل ذلك الآسى، بينما «حسن» اندفع يأخذ منه الورقة التي دون هو بها اسم المحلول الطبي حتى يقوم بجلبه، ذهب معه «أحمد» أيضًا، و وقف البقية يتابعونه بأعين دامعة و شفقةٍ معًا، و أكثرهم حزنًا كان «عامر» الذي وقف يبكي دون أن يتحكم في دموعه التي نزلت رغمًا عنه ممتزجة بشهقاتٍ بين الحين و الآخر
و لم يختلف عنه «ياسين» كثيرًا بل كانت دموعه تنزل في صمتٍ و «خالد» الذي أصبح في ضعف عمره خلال دقائق معدودةٍ، ظل الوضع هكذا حتى اقترب «وليد» من «عامر» يحتضنه و هو يحاول التحكم في دموعه
و «طارق» و «وئام» يحاولا تهدئة «ياسين» الذي طالعهما بوجعٍ من نظرته حتى وصل «حسن» مرةً أخرى و هو يقدم للطبيب المحلول الطبي الذي أخذه منه بلهفةٍ ثم غرزه في وريد كفه و بدأ بتفعيل دورة المحلول في جسده، و من بعدها رحل بعدما تمنى له الشفاء و أخبرهم بكل ما يلزم في حالته و تفاصيله، و خرج الشباب خلفه من الغرفة تباعًا عدا «خالد» الذي مال عليه يقبل رأسه و كأنه يعتذر منه بذلك و هو يبكي، فسقطت دمعته على وجه «ياسر» رفع حينها نفسه مُسرعًا وهو يقول بنبرةٍ باكية:
"أنا آسف...و الله أنا آسف على كل حاجة زعلتك و أنا مقدرتش في يوم أحوشها عنك...... حقك عليا من الدنيا اللي عمالة تزعل فيك و أنتَ ساكتلها.... أسف علشان وعدتك موجعكش و وجعتك، قوم علشان خاطري متوجعش قلبي عليك"
أبان ذلك كانت «إيمان» تقف خلفه تتابعه و تتابع حديثه معه حتى اقتربت من أخيها ترتمي بين ذراعيه و هي تبكي بكاءٍ ممتزجًا بالشهقات التي مزقت قلبها قبل حلقها و هو يربت عليها ثم قبل رأسها و طالع عينيها و هو يقول بصوتٍ مختنق:
"حقك عليا علشان خلفت بوعدي، قولتلك هحميكم أنتم الاتنين و طلعت مش قد الوعد، مكانش قصدي و الله"
زاد بكائها و هي تتشبث به مع قولها المقهور على زوجها:
"ياسر مقهور....شكله و هو ماسك فيا و بيقوله إنه موجوع مش هقدر أنساه....خليك معايا و معاه و متسبهوش"
ابتعد عنها ثم مد يده يمسح دموعها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"ابعد عنكم !! مقدرش أبعد عن عيالي يا إيمان، أنا اللي مربيكم على إيدي و لا نسيتي، أنا مش هقدر أسيبكم متخافيش"
حركت رأسها موافقةً فوجدت باب الغرفة يُطرق بواسطة «عامر»، ابتعدت عن شقيقها و هي تمسح دموعها فوجدت «عامر» يدلف الغرفة ثم تقدم حتى وقف أمام الفراش القابع عليه «ياسر» و لم يتمالك نفسه وهو يجلس على ركبتيه بجوار الفراش ثم رفع كفيه يمسك كفه الحر وهو يقول بنبرةٍ باكية:
"أنا طول عمري كان نفسي يكون عندي صحاب و كنت فاكر إن محدش هيقدر يصاحبني و أنا أهبل كدا، بعصب خالد و أزهق ياسين و أجي عندك أنتَ و بلاقي نفسي طفل، طفل صغير معاك أنتَ، مبعرفش أكبر معاك....و مش عاوز أكبر، عاوزك ترجعلي تاني، ترجعلي أخويا و صاحبي و العيل اللي عامر بيلاقي نفسه معاه، أنا و الله مقدرش على زعلك و لا تعبك...أنتَ غالي عليا"
كان «ياسين» واقفًا على أعتاب الغرفة يبكي من جديد على حديث «عامر» الذي أخفض رأسه يقبل كف رفيقه، فاقترب منهم وهو يطالعه في فراشه حتى وجد «عامر» يعتدل واقفًا وهو يمسح دموعه ثم أشار لـ «خالد» حتى يخرج معه و معه شقيقته، أومأ له موافقًا ثم سحب «إيمان» خلفه لكنها أبت الخروج و ارتمت على الأريكة و هي تبكي، فجلس «ياسين» على الفراش بجواره يمرر كفه على رأسه و هو يقول ببكاءٍ يشبه بكاء الطفل الصغير:
"عارف لما ببصلك و أشوفك قدامي بحس أني عاوز أحضنك و أخدك أخبيك من الدنيا، علشان اللي زيك صعب يعيش فيها....لو بإيدي هاخد الوجع منك علشان متحسش بيه.....وجعك صعب و وجعي صعب زيه، أنتَ أول واحد أقول عليه أخويا، أول واحد القلب شاور عليه و قال هو دا اللي هيبقى في كتفك طول ما العمر....
فيه أخ يسيب أخوه كدا؟! دا أنتَ أول واحد أفرح بيه إنه صاحبني، لسه فاكر أول مرة اتصلت بيك علشان اتأكد هتيجي المدرسة ولا لأ؟! طول عمري رابط حياتي بيك، كنت بمشي أقول للناس ياسين و ياسر توأم، فاكر لما الكل كان فاكرنا أخوات علشان حروف أسامينا ؟؟ قوم علشان أخوك مش هيقدر على زعلك منه..... ياريتني كنت قولتلك من زمان أحسن ما أشوف قهرتك بالمنظر دا"
كل ذلك تابعته «إيمان» ببكاءٍ و كذلك «عامر» الذي ارتمى على باب الغرفة و هو يجلس ببكاءٍ و «خالد» وقف يتابع هدم الحياة فوق رأسهم جميعًا.
في الخارج قام «وليد» بسرد بعض التفاصيل للشباب حتى يفهمون ما حدث مع «ياسر»، ظهر التأثر على وجوههم، و الغضب من «سمير» فمنهم من سبه، و منهم من توعد له، حتى خرج لهم الشباب و بقيت زوجته بجواره في الداخل، وقف الشباب عند رؤيتهم لهم، و أول من تحدث كان «طارق» حينما قال بلهفةٍ:
"إيه الأخبار طمنونا، مفاقش؟!"
حرك «خالد» رأسه نفيًا فظهر الإحباط على وجوههم، فتحدث «حسن» بخجلٍ وهو يقول:
"أنا أسف و الله لو كان عندي حتى خلفية بسيطة مكنتش عرضت عليكم تيجوا معانا، الغلط غلطي أنا"
رد عليه «عامر» بقلة حيلة من صوته الذي يجاهد حتى يتحدث به:
"متقولش كدا يا حسن، دا نصيب و بعدين أنتَ كنت هتعرف منين يعني، و كتر خيركم تعبناكم معانا"
رد عليه «طارق» بمعاتبةٍ:
"مش احنا إخواتكم برضه؟! المهم ربنا يطمننا على ياسر و يرجع تاني أحسن من الأول"
تحدث «وليد» يقول بنبرةٍ هادئة لم تخلو من حرجها:
"طب إحنا هنستأذن علشان ترتاحوا شوية و علشان تقدروا تقفوا مع ياسر و تخلوا بالكم منه، و أنتَ يا ياسين متقلقش على خديجة، في عينيا متقلقش و هاجي ليكم الصبح اطمن عليكم، يلا يا شباب ؟!"
وافقوه في الحديث ثم قاموا بتوديع الشباب و نزلوا من الشقة حتى يذهبون إلى بيتهم، و معهم «وليد» بعدما نظر له «ياسين» نظرة امتنانٍ التقطها هو على الفور فأشار له برأسه يطمئنه، بعدها جلس الشباب في غرفة الصالون، بقلة حيلة و كأن الهزيمة تسحق بهم أرضًا، و في الداخل كانت «إيمان» بجواره على الفراش تضع رأسها نحو موضع قلبه و هي تبكي و بين الحين و الآخر تضع يدها على فمها حتى تكتم شهقتها، فهي حتى في أحلامها لم تتصور أن يكون ذلك اليوم بكل تلك الصعوبة، عليها قبله هو، فكلما تذكرت هيئته و غضبه و خموله بعدها يصرخ قلبها قهرًا عليه، حتى غفيت دون أن تشعر بنفسها و رأسها استقر على قلبه و هي تقنع نفسها بأن قلبه لازال نابضًا، إذن هو بخير، و في الخارج وضع «عامر» رأسه على كتف «ياسين» و لازالت دموعه كما هي تنهمر على وجنتيه، حتى اقترب منه «خالد» يحتضنه فوجده يشهق بين ذراعيه، أما «ياسين» فمسح دموعه ثم اقترب من الطاولة يأخذ المصحف الشريف من عليها ثم قام بفتحه يقرأ ما تيسر منه، و هما يطالعونه بتأثرٍ، فهو اعتاد على اللجوء لله دومًا في فرحه قبل حزنه، بينما هو بدأ القراءة بصوته العذب الذي ملأ أركان البيت، حتى اختلطت دموعه بصوته حينما وقع بصره على الآيات الحكيمة.
_________________________
في بيت آلـ «الرشيد» وصل الشباب بعد رحيلهم من عند «ياسر» و كلًا منهم يشعر بالتعجب و الدهشة الغضب تجاه ذلك المدعو "سمير"، حتى توجه كلًا منهم إلى وجهته، كانت «خديجة» في غرفتها تشعر بالضجر منه و هي تتوعد له بسبب تأخره عليها، حتى تحدثت تقول بتوعدٍ له:
"ماشي، اقفل تليفونك كويس و اتأخر براحتك، لما اتعصب عليك متبقاش تزعل يا أبو طويلة"
فُتح باب غرفتها فجأةً و ظنت هي أنه هو لذلك قبل أن تحرك رأسها تواجه الطارق، قالت بضجرٍ:
"أهلك معلموكش تخبط على الباب يا أبو طويـ...."
توقفت عن الحديث حينما وجدت «وليد» يدخل الغرقة فقالت من جديد:
"هو أنتَ ؟! تعالى كدا كدا متربيتش، طول عمرك بتفتح الباب من غير ما تدخل، فين جوزي؟!"
سألته بتهكمٍ و هي تسخر منه فوجدته يجلس مقابلًا لها وهو يقول بصوتٍ خافتٍ:
"ياسين مش هيقدر يجيلك هنا النهاردة، هيبات عند ياسر"
رفعت حاجبها و هي تقول بتوعدٍ:
"ليه ؟! هو جوز مين فينا ؟!"
تنهد «وليد» بقلة حيلة ثم قام بسرد ما حدث عليها و عن تبدل الحال في لحظةً و أخرى، و هي تطالعه بدهشةٍ حتى اقتربت منه تمسك يده و هي تقول بتوسلٍ ممتزج بالبكاء:
"خدني عندهم يا وليد، إيمان هتتعب أوي، علشان خاطري وديني ليهم، لازم أكون و مع ياسين، هي مش هتقدر تشوفه في الحالة دي"
رد عليها بنبرةٍ جامدة يرفض حديثها:
"خديجة فوقي أخدك فين ؟! شوفي نفسك و حالتك، أنا جاي أطمنك و أريحك علشان التفكير ميتعبكيش، إنما كدا أنتِ بتستهبلي"
ردت عليه بتوسلٍ:
"إيمان هتتعب يا وليد، مش هتقدر على كل دا، علشان خاطري عاوزة أكون معاها"
في تلك اللحظة دلف «أحمد» الغرفة فوجدها تمسح دموعها، اقترب هو يقف مجاورًا لها وهو يقول بتعجبٍ:
"مالك !! هي كانت بتعيط ولا إيه؟!"
رد عليه «وليد» يسخر عليها:
"عاوزة تروح عند ياسر علشان مراته متبقاش لوحدها، مش شايفة نفسها عاملة إزاي؟"
وجه «أحمد» حديثه لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
"يا خديجة الوضع هناك صعب، البيت كله مقلوب و أنتِ تعبانة يعني ليكي عذر، إن شاء الله ياسين يطمن على ياسر و يجي يطمنك و يخليكي تكلميهم، ريحي نفسك بس"
حركت رأسها موافقةً بقلة حيلة فترك كليهما الغرفة لها، بينما هي رغمًا عنها شعرت بالآلم يعتصر قلبها حزنًا على حال الجميع، و هي تفكر في صديقتها و زوجها و رغمًا عنها أيضًا شعرت بوخز الدموع في مقدمتي مُقلتيها، فزفرت بقوةٍ تحاول التحكم في نفسها و هي أضعف ما يكون عن ذلك.
_________________________
بعد مرور ساعتين و أكثر كان الوضع كما هو، جلوس الشباب في الخارج دون أن يغمض لأيًا منهم جِفنًا، و «إيمان» التي استقرت بجانبه و رأسها كما هي ساكنة على صدره، بينما «ياسر» نفسه كان يحرك رأسه نفيًا و العرق يتصبب على وجهه كما لو أنه يتحمم، و كل ما يدور برأسه و يمر على سماعه صوته الغليظ و هو يقول:
"أنا مش ملزم بيكم، مش هضيع عمري جنبكم هنا في فقر و قرف، هستفاد إيه أنا لما أشقى عليكم؟! أخرتها كل واحد فيكم هيروح يفتح بيت و أغني أنا ظلموه...؟!
"أنا حابب أرحب معاكم بوالدي، و الحقيقة اللي معظمكم ميعرفهاش إن سمير مش والدي البيولوجي، بس هو أكتر بكتير من كدا هو اللي اداني عمره و وقته و بقى ليا أكتر من أبويا، هتفضل أحسن أب في الدنيا كلها و هفضل علطول فخور بيك يا بابا"
كل هذا كان يجول بخاطره و يراوده في كابوسه حتى تذكر الصفعة القوية التي نزلت على وجهه من والده و كأنها تهوى على صفحة وجهه الآن حينها صرخ في نومه وهو يقول رافضًا ما يشاهده:
"لاااااأ"
اندفع للأمام بجسده وهو يلهث بقوةٍ حتى ابتعدت «إيمان» عنه و هي تحرك رأسها نفيًا و هو بجوارها يجاهد حتى يتنفس و المياه تتصبب على وجهه، و في تلك اللحظة فتح باب الغرفة بواسطة «خالد» حينما استمع لصوت صرخته، خرجت «إيمان» من الفراش تقف بجواره و هي تقول بلهفةٍ ممتزجة بخوفها:
"ياسر....أنتَ كويس...فيك إيه؟"
حرك رأسه نحو موضع كفه و تلك الإبرة الطبية الموصولة به و هو يشعر بجفاف حلقه فحتى الآن لم يستطع التمييز بين واقعه و حلمه، بينما «خالد» اندفع له وهو يقول بقلقٍ واضحٍ:
"ياسر !! عامل إيه طمني عليك، أنتَ كويس صح؟!"
كان «ياسين» و «عامر» على أعتاب الغرفة لم يرفع أيًا منهم رأسه بسبب تواجد زوجته خوفًا أن تكون رأسها مكشوفةً، لكنها هي كانت بحجابها، فاقتربت منهما تشير لهما بالدخول، حينها تحدث «ياسر» بدهشةٍ ممتزجة بالتيه و صوتٍ متقطع:
"يعني إيه؟؟ هو دا مكنش كابوس؟!....كل دا كان حقيقة؟!"
لمعت العبرات في مقلتيها بينما «خالد» زفر بقوةٍ ثم حرك رأسه موافقًا بإيماءةٍ بسيطةٍ، فنزلت العبرات من عيني «ياسر» و هو يحرك رأسه يطالعهم جميعًا بقهرٍ و هو من ظن أن كل ما عايشه من نسج خياله، حتى تفاجأ بصفعات الواقع تطلمه على وجهه، حتى وجد «عامر» يندفع نحوه ثم قبل رأسه و هو يقول بنبرةٍ باكية لم يستطع التحكم بها:
"ألف سلامة عليك، يارتني أنا و أنتَ لأ.....طمني عليك أنتَ كويس صح؟!"
رفع «ياسر» كفه الحر يمسح وجهه ثم حرك رأسه موافقًا على مضضٍ و هو يلقيها على ظهر الفراش، فاقتربت منه زوجته و معها كوب المياه و هي تربت على كتفه، فتح هو عينيه يطالعها فوجدها تشير له بعينيها نحو الكوب، أخذه هو منها ثم تناوله جرعة واحدة من شدة الجفاف في حلقه، بينما هي نظرت في وجوههم و كأنها تطلب منهم العون، لكنها تفاجأت به يمسك يدها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"حقك عليا.....مكنتش قاصد أزعلك و لا كنت قاصد أعمل اللي عملته قدامك، متزعليش"
طالعته بدهشةٍ من عينيها الدامعتين فوجدته يجذبها نحوه ثم قبل رأسها و بعدها طالعها بندمٍ و هو يقول بصوتٍ مختنق:
"متزعليش مني، أنا آسف و الله"
بكت هي رغمًا بشهقاتٍ قوية جعلته يطالع أصدقائه ثم حرك رأسه لها وهو يقول بقلة حيلة:
"خلاص و الله، مكنتش أقصد أني اتعصب عليكي كدا، بس أنتِ مش زعلانة صح؟!"
حركت رأسها موافقةً بشدةٍ فوجدته يبتسم لها بوهنٍ ثم ربت على كفها بيده، فتدخل «خالد» يقول بصوتٍ تائهٍ:
"أنتَ....أنتَ حاسس بإيه....كويس صح؟؟ تحب نطلع و نسيبك ترتاح؟!"
حرك رأسه نفيًا وهو يقول بصوتٍ خافتٍ:
"خليكم معايا.....متمشوش"
طالعوه الثلاثة بدهشةٍ فقال هو بتهكمٍ و بنبرةٍ جامدة:
"هو انتم ما صدقتوا عاوزني أخلع منكم؟! خلاص بقيت اللقمة في الزور؟؟"
سأله «ياسين» بلهفةٍ:
"يعني أنتَ مش زعلان مننا و هتبعد عننا ؟!"
رفع حاجبه له وهو يقول:
"من إمتىٰ و حد فينا ساب التاني؟! كفاية اللي حصلكم بسببي"
جلس «عامر» بجانبه يقول بلهفةٍ:
"ياسر أنتَ مش هتخاصمني صح؟؟ على فكرة أنا مكنتش موافق على كل دا، و خالد كان فرحان إنك هتسيبنا و تموت و ياسين كان بيفكر يشتري الشقة دي يفتحها على شقته"
ضحك «ياسر» رغمًا عنه ثم خطفه أسفل ذراعه يحتضنه وهو يعلم أنه يحاول تغيير حالته، حتى بكى «عامر» رغمًا عنه وهو يقول:
"و الله العظيم قلبي وجعني....علشان خاطري متسبناش.....بلاش تقطمنا و إحنا طول عمرنا كتف واحد.....مش هتسبنا صح؟!"
سأله بحذرٍ فحرك «ياسر» رأسه يقبل رأس «عامر» ثم شدد مسكته له وهو يقول بنبرةٍ باكية:
"أسيبكم و أروح فين؟! مين ليا غيركم في الدنيا علشان أرمي حمولي عليه، خليكم أنتم بس جدعان و متسبونيش"
أقترب منه «خالد» يدفع «عامر» ثم أخذه بين ذراعيه وهو يقول بوجعٍ:
"أنا معيشتش يوم صعب زي دا في حياتي يا ياسر، حقك عليا و متزعلش مني و الله خبيت من خوفي عليك، خوفت على ابني اللي شيلته على إيدي، أنا عمري ما أقصد أوجعك"
مسح دموعه ثم ابتعد عنه وهو يحرك رأسه موافقًا تزامنًا مع قوله بصوته الباكي:
"عارف و الله عارف، أنا طول عمري كنت متأكد إن لو اليوم دا جِه أكيد أنتم هتعملوا كدا، ربنا يخليكم ليا، بس هو نصيب و مكتوب أني أتوجع منه هو"
أقترب «ياسين» و الدموع تنهمر على وجنتيه وهو يقول:
"أبوس إيدك بلاش تقول إن أنتَ اتقهرت، قلبي بيتقطع من جوة، أنا مش حمل إن أخويا يتعب....ياسر أنتَ كويس؟! صح !!"
فتح ذراعه له وهو يبتسم بهدوء على الرغم من ملامحه الباكية، فارتمى «ياسين» عليه يتمسك به وهو يبكي حتى صرخ مع دموعه و «عامر» الذي اقترب يحتضن «خالد» هو الآخر، فتحدث «ياسر» بعدما ابتعد عن «ياسين»:
"أنا كنت ناوي أهرب منكم، بس ههرب و أروح فين و أنا أولي و أخري عندكم؟؟ مقدرتش أفكر أني ممكن أروح لحد غيركم، لقيت نفسي باجي على هنا علشان عارف إن هنا أولي و أخري"
ربت «خالد» على كتفه، فاقتربت منه «إيمان» بملامحها الباكية ثم قبلت قمة رأسه، رفع هو رأسه يطالعها ثم حرك رأسه للشباب وهو يقول بمرحٍ محاولًا تغيير الأجواء:
"طب يا شباب أنا رجعت في كلامي، برة بقى و ياريت تاخدوا الباب في أيديكم"
اصطبغ وجهها بحمرة الخجل، بينما الشباب ضحكوا عليه، فتحدث «ياسين» يقول بمرحٍ هو الآخر:
"طب كل واحد فينا بقى يروح بيته و يسيب الراجل يرتاح، إحنا مش هننام، كلمونا لو فيه حاجة، يلا يا خالد يا عامر"
وافق على اقتراحه كليهما ثم قبل كلًا منهم رأس «ياسر» الذي كانت ملامحه باهتة إلى حدٍ كبيرٍ، كما أن صمته عن الموضوع أثار حفيظتهم، لكنهم ظنوا أنه يود الهروب مما عايشه و شعر به، رحلوا معًا من الشقة، فاقتربت هي تجلس بجواره فوجدته بسحبها نحوه حتى التصقت به، فهمس معتذرًا لها بقوله:
"أنا طول عمري مكرهش في حياتي قد إن راجل يطلع رجولته على ست، حتى لو بنظرة عين، طول عمري بكره الراجل اللي يقهر الست اللي معاه، أكيد مكانش قصدي أعمل فيكي اللي عملته برة، عارف أني خوفتك، شكلك و أنتِ بتترعشي من الخوف في أيدي قهرني أكتر من قهرتي منه، شوفت نفسي نسخة منه و دي أكتر حاجة خوفت منها، ريحيني و قوليلي إنك مش خايفة مني؟!"
حركت رأسها نفيًا دون أن ترد عليه فحتى الآن لم تجد صوتها الهارب، فوجدته يحتضنها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"ربنا يباركلي فيكي يا إيمان"
بكت هي بين ذراعيه بشدة حتى خرجت شهقاتها قويةٍ فسألها بدهشةٍ بعدما ابتعد عنها حتى يطالعها:
"مالك يا إيمان؟! بتعيطي ليه كدا طيب؟! أنتِ لسه خايفة مني ؟!"
حركت رأسها نفيًا وهي تقول بصوتٍ مختنق نتيجة عبراتها:
"بعيط علشان خايفة عليك، مش خايفة منك، أنا طول عمري كنت خايفة من اليوم دا يجي و تتعب و لا حتى تسيبني، خوفت كل اللي بيننا يخلص بكلمة تخرج منك، كنت مستحيل هرجعلك لو نطقتها، خوفت زعلك يعميك و يخليك تشوفني جاني عليك"
رفع كفه يمسح دموعها وهو يقول بعدما زفر بقوةٍ:
"مش أنا اللي أعمل كدا، أنا عيشت بحارب علشانك و شايفك الجايزة اللي ربنا هيكافئني بيها بعد المر اللي شوفته، مينفعش تكوني بتحافظي على قلبي من الجرح، و أجي أقولك أنتِ السكينة اللي عورتني، عمري ما كنت هقدر أبعد عنك"
مسحت دموعها و هي تحرك رأسها موافقةً فوجدته ينام على الفراش و هي بين ذراعيه و هو يحرك كفه الحر يربت عليها و هي بجواره، حرك رأسه نحو كفه فوجد "الكانيولا الطبية" في يده، سألها هو بتعجبٍ:
"هو إيه اللي حصل !! و الكانيولاظ دي جت في إيدي إزاي؟!"
رفعت رأسها تطالعه وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
"أغمى عليك في حضني بعدما ما اتعصبت و كسرت الحاجة،نظ وقتها كان الشباب وصلوا وراك، و أخو خديجة جابلك الدكتور، الحمد لله إنهم كانوا هنا، مكنتش هعرف اتصرف لوحدي، و قبل ما تفوق خالد دخل قفلها و شالها من إيدك، هو كان متابعها كل شوية"
ابتسم هو بسخريةٍ:
"طب كنتي عاوزاني أروح فين بقى و أسيبكم ؟! افرضي يعني كنت اتكلت على الطريق ؟! عرفتي إني مليش غيركم ؟!"
رفعت رأسها تطالعه بعينيها الدامعتين و هي تقول:
"عرفت و الله عرفت، أنا كنت هموت من الخوف، لما خالد كلمني حسيت كل حاجة بتروح مني، أخويا و صاحبي و حبيبي و جوزي، حسيت أني بخسر كل الدنيا، بخسر ياسوري"
قالتها بمرحٍ جعله يبتسم رغمًا عنه وهو يقول مشاكسًا لها:
"ياسورك !! ياسورك بقى خلاص، ورقة شجر الخريف جاب بكرامتها الأرض"
ردت عليه هي مسرعةً:
"يا باشا و أنا الربيع اللي هيحيك تاني، عندك شك يا ياسر في كدا؟!"
حرك رأسه نفيًا وهو يبتسم له بسمته الصافية فوجدها تقول بفرحةٍ ظهرت في صوتها:
"بس فرحانة إنك مخلعتش مني، كنت خايفة تتلكك و تطلقني، كنت هموت و الله"
رد عليها هو مُسرعًا يشاكسها:
"هي كانت فرصة بصراحة أخلع و أنا مستريح، بس هعمل إيه، موكوس و رجلي جابتني على هنا"
شهقت بقوة فوجدته يضحك عليها ثم قال بهدوء:
"بهزر يا ستي، أنا مقدرتش أمسك نفسي قدامك، افتكرت لما عم رياض قالي مهما هتعمل فيها جامد و ماسك نفسك هتيجي قدام مراتك و تعيط و ترجع عيل صغير، و افتكرت كمان كلام أيوب عن سيدنا محمد لما قال:
لم يخْجَل حين قال
"خشِيت على نفسي فذهبتُ إلى خديجة "
لم يذهب إلى قبيلتهِ ولا عشيرتهِ اللّذان هما الأحَق...كأنّهُ أرادَ إخبارَنا فيما بعْد
"خديجة هي قبيلتي وكل أُناسي"
إنه الحَبيب المُصطفى الذي علَّمنا كيف يكُون الحب حقاً...صلُّوا عليهِ وسلِّموا تسْليما
و سبحان الله، حسيت إن عقلي بيفكرني إني مُجبر على سلطة قلبي و هي أني أجيلك أنتِ، أنتِ و بس"
ربتت على كتفه بفخرٍ و تأثرٍ فقبل هو قمة رأسها ثم ابتسم لها و هي تلقي رأسها على صدره، بينما هو رغمًا أغمض عينيه و هو يحاول الهروب مما عايشه و مما شعر به، فحاول الانخراط معها في الحديث حتى لا يتطرق تفكيره إلى ما حدث اليوم، و لكن مهلًا هل هذه الحقيقة يوجد منها مفرٍ ؟! حرك رأسه نحو الساعة الموضوعة فوجدها تشير إلى الثانية صباحًا، حينها حرك رأسه للأسفل فوجد عينيها أوشكت على الانغلاق، زفر بقوةٍ ثم حرك رأسه يضعها على رأسها.
_________________________
في شقة «ياسين» دلفها بمفرده ثم قام بفتح الأنوار، فابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
"البيت مضلم من غيرك يا كتكوتة، شبر و نص بصحيح بس مغلباني، و مسهراني"
ابتسم على نفسه ثم دلف للداخل حتى يبدل ثيابه، و هو يتحرك في الشقة لكن عدم تواجدها بها جعله يزفر بضيقٍ ثم قال مُحدثًا نفسه بتعجبٍ:
"يا نهارك مش فايت يا ياسين ؟! خلاص مبقتش تعرف تقعد من غيرها؟! عملتلي سحر أسود دي ولا إيه؟!"
أخرج هاتفه بعدما ارتمى على الفراش يهاتف «ياسر» لكن لم يصله ردًا منه، فزفر بقوةٍ و فجأة لمعت العبرات في عينيه و هويتذكر هيئة «ياسر» و بكائه و وجعه الذي شعر به اليوم، و حينما شعر بالحزن يُخيم عليه فتح المحادثة الخاصة بها حتى يحادثها و يتأكد من إيقاظها ثم يهاتفها، لكنها بالطبع من المؤكد أنها غفيت منذ وقتًا طويلًا، خاصةً بعد ذلك الدواء الغريب، زفر هو بقوةٍ بعدما وجد أن أخر ظهور لها منذ ما يقرب الساعتين فأغلق حينها هاتفه ثم ذهب ليتحمم.
في شقة «عامر» كانت «سارة» جالسة على الأرض و «عامر» يضع رأسه على فخذها و هي تدلك فروة رأسه حتى شعرت بسخونة دموعه فسألته بتعجبٍ:
"مالك يا عامر بتعيط ليه؟! مش خلاص هو مش زعلان منكم؟! و قالكم أنا مش هسيبكم؟! مالك بس ؟!"
رفع نفسه يقول مُسرعًا:
"اللي عيشته كان صعب عليا، فكرة إن واحد فينا يسيبنا دي مرعبة أوي، جرحه صعب و أنا مش قادر أداويه، و لسه متكلمش و مسألش، هو بس بيطمننا، إنما هو بيموت من جواه، عينه كانت مكسورة و مش عارف يبص في وشنا، خدت بالي من بصته لينا وجعتني أوي"
ردت عليه هي بأسى:
"الله بصبره يا عامر، وجعه مش سهل برضه، عارف لما الوجع بيجي من الغُرب إحنا مبيفرقش معانا علشان ملهمش غلاوة عندنا، قطمة الضهر بجد لما تيجي من اللي منك، لما تيجي من اللي المفروض يحموك و هما اللي يكسروك، بتوجع يا عامر و اللي جربها و داقها بتقطع قلبه"
مد يده يمسح دموعها التي نزلت رغمًا عنها ثم قال بعدما تنفس بعمقٍ بصوتٍ متحشرجٍ:
"لو هما ميستاهلوش يبقى مع السلامة المركب اللي تودي يا سارة، محدش في الدنيا دي مُجبر يكمل في علاقة بتقهره و تظلمه حتى لو كانوا قرايب و بينهم دم، انسحابك من الوضع اللي مش مرتاح فيه، سلام نفسي ليك مش أنانية"
حركت رأسها موافقةً على حديثه فوجدته يعيد رأسه كما كانت وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
"سارة...قومي حمريلي بطاطس"
ابتسمت عليه بيأسٍ فوجدته يقول بنفس الطريقة:
"يلا و لا أجبلك بنت عمك ؟! مش هي دي أم رجل مسلوخة؟!"
ردت عليه هي بسخريةٍ:
"لأ يا حبيبي و أنتَ الصادق، دي أربعة و أربعين، جتها القرف"
في شقة «خالد» دلف شقته و ارتمى على الأريكة بتعبٍ بات واضحًا على هيئته و خاصةً من خلال إحمرار عينيه، حتى تفاجأ بزوجته تربت على يده وهي تقول بصوتٍ خافتٍ:
"خالد !! قوم نام يا خالد جوة، جسمك كدا هيوجعك"
اعتدل في جلسته وهو يطالعها بقلة حيلة فوجدها تجلس بجواره ثم سألته بنبرةٍ اتضح بها اهتمامها:
"أنتَ عامل ليه كدا بس؟!
زفر بقوةٍ ثم قام بسرد ما حدث عليها خاصةً أنه عند عودته كانت هي نائمةً بجوار صغيرها، أما هي فاحتضنته و هي تقول بإشفاقٍ عليه:
"طب دا كله و أنتَ شايله لوحدك؟! الحمد لله إن ياسر عاقل و الحمد لله إنه عارف إنه ملهوش غيركم، احمد ربنا و ريح قلبك يا خالد، الحمد لله جت على قد كدا"
رد عليه هو بلهفةٍ بعدما ابتعد عنها:
"هي لسه معدتش و لسه محصلش اللي خايفين منه، ياسر بيحاول يعمل نفسه مش زعلان، بس هو مقهور و كلنا عارفين، هو خدنا على قد عقلنا و إحنا هودناه"
زفرت هي بيأسٍ فوجدته لأول مرّة منذ زمنٍ بعيدٍ يلقي رأسه على كتفها و هو يقول:
"أنا حاسس أني ضعيف و مش قادر أتحرك، حاسس أني محتاجك يا ريهام، مش عارفة هتساعديني إزاي، بس خليكي موجودة علشان محسش أني خايف"
ابتسمت هي بسعادة غامرة و هي تقول بسخريةٍ منه:
"هو أنتَ ليه عندك إعاقة في المشاعر ؟! ليه بتقول كلام حلو يفرحني و هو مش وقته، خالد أنتَ أهبل؟!"
حرك رأسه موافقًا ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"أهبل علشان بحبك و أنتِ هبلة زيي، أمي علطول كانت تقولي، الهُبل للهُبل، يمكن حبيتك علشان أنتِ هبلة بقى"
ابتسمت رغمًا عنها فوجدته يزفر بقوةٍ ثم اغمض عينيه يستسلم للنوم أخيرًا و رأسه على كتفها و هي تربت عليه.
_________________________
انسحب من جوارها ثم ارتدى ثيابه و هي غافيةً لا تدري برحيله، بينما هو تنهد بعمقٍ ثم خرج من الشقةِ ينسحب بهدوء حتى لا تستيقظ و تعرقل انطلاقه، فهو شدد العزم على تلك المواجهة حتى يرتاح و لو قليلًا، خرج من الشقةِ، ثم ركب سيارة الأجرة التي طلبها خلال تطبيق الهاتف، حتى ينطلق به نحو بيت ذلك المزعوم «سمير»، و بعد مرور بعض الوقت الطويل، توقفت السيارة أمام البيت، دلف هو بعدما أخبر الحرس بهويته بنبرةٍ جامدة.
في الداخل كان «سمير» جالسًا في ردهة البيت الواسعة و الدموع تنهمر على وجنتيه و «جيسي» تقوم بسرد ما حدث على أخيها الذي صمم على معرفة تغير الأوضاع بتلك الطريقة حتى خُربت حفلتهم، حتى تحدث أخيرًا يقول بلامبالاةٍ:
"و يمكن دول نصابين أصلًا و عاملين كدا علشان يبتزوكم و ياخدوا قرشين حلوين، كبروا مخكم، دا فيلم حمضان"
رمقه «سمير» بغيظٍ بينما أخته اندفعت تصرخ في وجهه وهي تقول:
"بطل جحود يا فادي، أنا عارفة كل حاجة و روحت مع بابا عند بيت مراته القديمة، و روحت مكان شغل ياسر و شوفته هناك، و بعدين هما يعرفونا منين علشان ينصبوا علينا؟!"
حرك كتفيه ببساطة وهو يقول:
"عادي ناس عرفوا إن فيه راجل أعمال جاي مصر و ممكن يكون حد مديهم كل المعلومات علشان يلعبوها صح، متستبعديش حاجة في زماننا دا يا جيسي"
رد عليه «سمير» يصوتٍ عالٍ:
"ياسر ابني، غصبٍ عنك و عن الدنيا كلها، دا ابني و من صُلبي، و لما تتكلم عنه ياريت تتكلم عِدل"
قبل أن يرد عليه «فادي» دلف «ياسر» مع الحرس و هو يقول بتهكمٍ ساخرٍ:
"يا راجل !! تصدق قشعرت ؟! لأ فعلًا قشعرت و الدم جري في جسمي كله من فرط المشاعر"
التفت له «فادي» وهو يقول بنبرةٍ عالية:
"أنتَ بتعمل إيه هنا يالا أنتَ؟! اطلع برة بدل ما أطلبلك البوليس"
رد عليه «ياسر» بسخريةٍ:
"بس ياض يا أهبل أنتَ، هتطلب البوليس تقوله إيه ؟! واحد جاي يخبط على بابي؟! دا أنا داخل البيت من بابه حتى، أومال لو كنت دخلتلك من شباكه كنت عملت إيه؟!"
اقتربت منه «جيسي» تقول مُرحبةً به بأدب و لباقةٍ:
"اتفضل يا دكتور ياسر، نورت البيت، تعالى"
رد عليها بنبرةٍ جامدة:
"أنا مش جاي اتفضل، أنا جاي أقول كلمتين لسمير و ماشي تاني"
ازدرد «سمير» لُعابه بقلقٍ فوجده يتخطى الواقفين ثم اقترب منه يقف مقابلًا له بثباتٍ على عكس صراخ قلبه من الداخل وهو يقول:
"المقابلة دي أنا عيشت عمري كله مقسوم نصين، كنت بتمناها علشان أقهرك على عمرك اللي ضاع من غيرنا و كنت فاكرك إنسان بتحس زينا، و نص تاني كنت مش طايق يبص في وشك"
أغمض جفنيه بوجعٍ فوجده يضيف بنفس الجمود و كأنه بلا مشاعر:
"بس إحنا فيها، معاك الدكتور ياسر أبو اليسر، متخصص في طب الأطفال و من أكبر الدكاترة اللي بيتم استشارتهم في المجال دا، راجل اتولد نتيجة جواز أب فاشل عديم المسئولية من ست تتحط تاج على الراس، اتقاله في وشه زمان من أبوه أنا مش ملزوم بيك، هضيع عمري عليكم و هبقى استفدت إيه؟! و جري ورا الفلوس و راح ربى عيال الغريب، و ساب ٣ ستات في رقبة العيل اللي يدوبك ١٠ سنين، أنا ميفرقش معايا ظهرت إمتى و لا يفرق معايا ظهرت لمين، بس قسمًا بربي، لو سكتك جت على سكتي تاني أنا هقلبها على دماغك يا سمير، هطلع قهر و غُلب السنين فيك أنتَ"
ارتمى «سمير» على الأريكة من قوة الحديث و هو يشعر بالضرب في رأسه، فاقتربت منه «جيسي» و هي تقول بتوسلٍ له:
"كفاية يا دكتور، أرجوك كفاية، بابا عنده سرطان في المخ و مرحلته متأخرة جدًا....كفاية"
اتسعتا حدقتيه بقوةٍ و خاصةً حينما رفع «سمير» عينيه يطالعه بقهرٍ و وجعٍ، فاستعاد «ياسر» جموده وهو يقول بلامبالاةٍ:
"ربِك الشافي إن شاء الله....كلامي مش هكرره تاني، لو ظهرت قدامي يا سمير أنا ساعتها هريحك من التعب دا، لا أمي و لا أخواتي تظهر ليهم، و اعتبره تهديد"
أقترب منه «فادي» يمسكه من تلابيبه و هو يقول بنبرةٍ جامدة:
"شغل النصب دا مياكلش معايا ياض أنتَ، الشويتين دول تروح تعملهم على حد أهبل، فاكرني مش عارف شغل الحارات دا؟"
صرخت به شقيقته و هي تقول:
"بس يا فادي....خلي عندك دم"
هزه في يده بعنفٍ وهو يقول:
"اسكتي أنتِ يا جيسي، أنا هعلمه إزاي يلم نفسه و يكلم أسياده بأدب"
رد عليه «ياسر» بتبجحٍ:
"أنا مش المفروض استغرب، ما أنتَ تربيته، يعني قلة الأصل شاربها منه بالمعلقة على أصولها، و أنا هوريك الأصول"
لكمه برأسه في أنفه حتى ترنح للخلف فالتفت «ياسر» حتى يرحل فتحدث «سمير» أخيرًا يقول بانهاكٍ واضحٍ:
"هتسيب أبوك و هو بيموت يا ياسر.....أنا باقيلي أيام.....خدني معاك"
ابتسم «ياسر» بتهكمٍ وهو يلتفت له مع قوله الحاد:
"أنا مش مُلزم بيك...هضيع الباقي من عمري على واحد ميت؟! اللي بياخد العباد ربنا، ادعي بقى يسامحك علشان الكلمة دي مش هتطولها مني"
أخرج «فادي» سلاحه من خلف ظهره يرفعه في وجهه وهو يقول:
"أنا هعلمك إزاي تقل أدبك على الناس في بيوتها، اتشاهد على نفسك بقى"
امتعض وجه «ياسر» و هو يسأله بضجرٍ مع حركة رأسه يطيح بها:
"أنتَ متوضي يالا؟! روح يا خواجة و سيب اللعبة اللي في إيدك دي، و بلاش تعيش فيها دور المعلم علشان أنتَ اجنبي و أنا عارف و أنتَ عارف، بلا شغل هبل، بس هقول إيه ؟! تربية قليل الأصل تعمل كدا برضه"
التفت يغادر بعد حديثه، دون أن يكترث لذلك الذي ينازع خلفه على الأريكة، بينما «فادي» جلس على المقعد الوثير و الشرر يتطاير من عينيه و «جيسي» تربت على يد «سمير» بأسى.
_________________________
استيقظت «إيمان» بعد رحيله و خاصةً حينما وجدت الفراش خاليًا منه هبت منتفضة تبحث عنه في الشقة بأكملها حتى هاتفت أخيها و هو هاتف البقية ثم نزلوا جميعهم يبحثون عنه، بعدما أتى لهم «وليد» هو الآخر، و بعد البحث عنه اجتمعوا في رأيهم على ذهابه لدى «سمير»، حينها توجهوا هم الأربعة إليه بعدما تركوا «إيمان» في شقتها، و بعد وصولهم للبيت، و بعد شجارهم من حراس الأمن دلفوا أخيرًا، و أول من هجم ردهة البيت كان «خالد» الذي رفع صوته و هو يقول:
"سمير !! اطلع لو لسه عندك رجولة و فيه ذرة نخوة عندك"
خرج له من مكتبه و خلفه «جيسي» بينما «فادي» نزل من الأعلى و هو يقول بصوتٍ هادر:
"فيه إيه يا جربوع أنتَ !! أنتَ داخل بيت أبوك؟! بتجعجع ليه"
رد عليه «ياسين» بضجرٍ وصوتٍ حاد:
"اتكلم عِدل ياض أنتَ، اقسم بالله هجيب رقبتك تحت رجلي و أعرفك مين الجربوع تربية الجربوع اللي زيه، ياسر فين؟!"
رد عليه «سمير» بلهفةٍ:
"ياسر كان هنا، هو مروحش ؟! ياسر راح فين ؟!"
اقترب منه «عامر» و على حين غرة أمسكه من تلابيبه وهو يقول:
"أنا طول عمري من ساعة ما ياسر بقى أخويا و أنا بكرهك، و هموت و أموتك بإيدي، علشان أخد حقي أخويا من القهر، يا عرة الرجالة أنتَ، انطق ياسر فين؟!"
هزه في يده بعنفٍ فتدخلت «جيسي» تقول بنبرةٍ شبه باكية:
"أرجوك كفاية كدا، أنا عارفة إنكم خايفين على صاحبكم، بس هو مريض مش حمل كل دا، ياسر كان هنا فعلًا بس مشي من شوية، مش هنا صدقني"
اقترب «فادي» منهم يقول صارخًا في وجوههم:
"مفيش كلب منكم هيخرج من هنا، أنا هسجنكم كلكم و هقول إنكم جيتوا تتهجموا علينا في نص الليل، فاكرين نفسكم إيه؟! أنا هسجنكم"
قبل أن يتدخل أيًا منهم قفز عليه «وليد» حتى ارتمى به على الأريكة و هو يقول بنبرةٍ جامدة:
"ولا !! هتطلع روح فريد الديب اللي جواك يمين بالله هطلع روح أمك في إيدي، اظبط يا حيلتها و لِم نفسك، إحنا جايين نسأل على أخونا اللي و رب الكعبة لو طلع ليكم علاقة بأي حاجة تحصله، هوريك جنان وليد الرشيد، جنان مبيخرجش غير للغاليين اللي زيك كدا، غور"
دفعه على يد الأريكة ثم اعتدل واقفًا وهو يقول:
"أخويا لو حصله حاجة، حتى لو من غير ما تعملوها انتم أنا هحاسبكم، كفاية إنكم السبب"
أقترب «ياسين» من «سمير» وهو يقول بصوتٍ حاد:
"كل الناس ربنا خلق في وشها القبول، إلا أنتَ و الزفت اللي متلقح ورا دا، خلقتكم واخدة انصراف"
تنهد بقلة حيلة فحتى الآن لم يجد ما يقال في ذلك الموقف حتى اقترب منه «خالد» يشهر بسبابته في وجهه وهو يقول:
"ياسر لو مظهرش متلومش غير نفسك، و كفاية أوي أفضحك وسط شركائك و كل اللي الناس اللي هتشتغل معاك، اللي يخصوني خط أحمر، و ياسر بقى ابني من اليوم اللي أنتَ سيبته فيه، فاكر يا سمير و لا أفكرك؟!"
رد عليه بصوت خافت:
"ملوش لازمة الكلام دا يا خالد، ياسر ابني و أكيد أنا مش هضر ابني"
رد عليه «ياسين» بسخريةٍ:
"دا بجد !! مش هتضره !! هو أنتَ لسه عندك ضرر تاني؟! ناقص إيه تاخده تبيعه قطع غيار بالجُملة؟! ضيعت طفولته و شبابه و عمره اللي راح و اللي جاي كمان و لسه مقتنع إنك مش هتضره ؟! حروف اسمك لوحدها غلط تتحط جنب إسمه، اتفو على أي أب زيك"
بصق في وجهه بقهرٍ ثم أشار للشباب حتى يرحلون سويًا، فتحدث «وليد» بتهكمٍ:
"ابقى ربي النطع دا بدل ما أجي أربيهولك أنا، و يا ويله اللي يتربى على إيد وليد الرشيد"
_________________________
بعد خروج «ياسر» من ذلك البيت المشئوم ظل يجوب الشوارع ذهابًا و إيابًا بمفرده دون أن يعي خطواته و لا مساراته، تارةٍ يبكي و تارةٍ يصرخ بوجعٍ و تارةٍ يجلس على الأرصفة، و على الجهة الأخرى كان الشباب جميعهم يبحثون عنه في الطرقات و المشافي الميدانية والمناطق المجاورة و لكن دون جدوى حتى لحقتهم خيبة الأمل، فاجتمعوا في منزل «ميمي» في منتصف اليوم بعدما انقضى ليلهم حتى اليوم التالي في البحث عنه.
كان «ياسر» يسير على الطريق يود أن يخرج كل ما يشعر به حتى جلس على الطريق قبل تلك الوجهة التي سار إليها، و قبل أن يعبر الطريق و هو شارد الذهن فيما حدث معه و في مرض ذلك الملقب بأبيه و قبل أن يعبر الطريق حتى يتوجه إلى وجهته أتت سيارةٍ و قبل أن يدرك ما يحدث حوله، حينها كل شيءٍ ذهب في لمح البصر، و لم يعد يعي ما حوله.
_________________________
بعد حلول الليل عليهم و بعد ذهاب وقتهم و انقضاء نهارهم و ليلهم في البحث عنه جلسوا في شقة «ميمي» من جديد حتى تحدث «حسن» بتعجبٍ:
"هيكون راح فين بس؟! من الفجر مسبناش مكان غير و روحناه و لا تليفون غير و كلمناه، حتى راشد كلمته و سألته"
رد عليه «ياسين» بقلة حيلة:
"مش عارف هو راح فين، كل حاجة كانت كويسة لحد ما هو قالنا روحوا، طب راح فين؟!"
ردت عليه «ميمي» ببكاءٍ:
"منه لله سمير، ربنا ينتقم منه واجع قلبي على ابني طول العمر، عاوزة ابني يا خالد....شوف أخوك فين و هاته"
رد عليها بيأسٍ:
"قوليلي أروح فين تاني؟! أكلم مين علشان يدلني، أنا قلبي هيقف، مش حِمل الوجع عليه"
تدخل «طارق» يقول بقلة حيلة:
"أنا كلمت ظابط شرطه صاحبي و هو قالي إن الحاجات دي مبتاخدش إهتمام، و قالي إن لازم الأربعة و عشرين ساعة يعدوا علشان نقدر نبلغ بشكل رسمي"
تحدث «عامر» منفعلًا ببكاءٍ:
"يعني إيه !! هستنى لحد ما كل حاجة تضيع ؟! أخويا مش موجود و أنا مجبر استنى عدد ساعات علشان أقدر أبلغ و أتطمن عليه ؟! هو دا القانون ؟!"
رد عليه «وليد» بقلة حيلة:
"هنعمل إيه يا عامر ؟! مش عم رياض قال إنه كلم الناس اللي في القسم و المستشفيات الحكومية؟! يمكن ربنا يكرمنا و حد يدلنا عليه"
حرك «وئام» رأسه يسأل «ياسين» بهدوءٍ:
"طب الرقم اللي عم رياض قالك هيدور و يكلمك ؟؟ مفيش أخبار منه؟!"
حرك رأسه نفيًا بيأسٍ و فجأة صدح صوت هاتفه بذلك الرقم، اتسعتا حدقتيه بقوةٍ فصرخ به «خالد»:
"رد بسرعة و افتح الصوت....يلا"
فتح «ياسين» المكالمة بخوفٍ حتى يرد على أحد العاملين بالمشفىٰ الذي أعطاه والده رقمه حتى يتواصل معهم بعض فحصه الداخلي، فرد عليه الرجل بترددٍ وهو يقول:
"السلام عليكم يا أستاذ ياسين، أنا دورت بالمواصفات اللي حضرتك قولتلي عليها و لقيت واحد بنفس المواصفات دي"
وقف الشباب جميعهم بلهفةٍ فسأله «ياسين» بقلقٍ ممتزج بالسرعة و اللهفةِ معًا:
"بجد !! فين طيب بسرعة ؟!"
رد عليه بنفس التردد و الصوت المهتز:
"للأسف في المشرحة، الناس جابوه النهاردة عامل حادثة على الطريق و مش معاه أي اثباتات شخصية، ياريت حد ييجي علشان تتعرفوا على الجُثة"