رواية حان الوصال الفصل الواحد والاربعون 41 بقلم امل نصر


 رواية حان الوصال الفصل الواحد والاربعون 

خطفها في سمائه الوردية، ليحلق بها في عالمه الجميل، حيث لا عقد ولا حسابات ولا واقع بائس يعكر صفو لقاء الحبيبين
كيف حدث هذا؟ وكيف استسلمت بعد الوعود التي قطعتها على نفسها من أجل وضع حد لهذا المد والجزر بينهم؟ لا تدري؟ ربما الفرح بعودته ولقياه المفاجيء كان هو السبب، وربما رجع الفضل لتلك اللهفة في بث اشواقه اليها، ليرتد ذلك بأثره عليها فتبادله نفس الشوق والحنين الي
ضمته القوية لها بذراعيه وكأنه يغرزها بين ضلوعه
قبلاته العاشقة، حتى صارت تذوب بين يديه، يبدد مقاومتها، لمساته الرقيقة، تبدد صقيع ليلها الطويل، فتنشر الدفء به، لتزهر أحلامها بالورود
ثم انقشع كل ذلك، حينما تركها بغتةً، ليجيب على صاحبة الاتصال المفاجيء، ذلك الشعور المميت بابتعاده المفاجيء عنها ،تلك البرودة التي زحفت بها فجمدتها، احساس المهانة الذي اكتنفها في تلك اللحظة، بعد ارتفاعه بها بعنان السماء، ثم القاءها في قعر الارض
وقد ابتعد عنها بالهاتف، يحاول السيطرة على ضجيح انفاسه القوية، والتغلب على رغبته بالحبيبة التي طال اشتياقه لها، ليحيب المتصلة على مضض:
– الوو، عايزة ايه يا جوليا، من امتى انتي بتتصلي بيا اساسا؟…….. ايه؟…….. خرج امتى يعني؟ انتي ازاي سبتيه اصلا يخرج؟…… نادين مين دي كمان؟ انا هطربق الدنيا، اقفلي يا جوليا اقفلي
انهى المكالمة والتف نحو تلك التي كانت متجمدة محلها ، تطالعه بأعين خاوية كالزجاج، ليحاول التبرير بقلة حيلة، لا يعرف كيف يعبر عن اسفه، بالإضافة انه لا يوجد وقت للتفكير من الأساس
– بهجة انا
بهدوء ما يسبق العاصفة:
– إنت ايه؟
نبرتها الغريبة وهيئتها الغير مريحة تزيد من ثقل ما يضغط على صدره، ليقترب منها، ويخاطبها على عجالة كي يذهب:
– معلش يا حبيبتي، انا مضطر اخرج حالا دلوقتي عشان ا….
– عشان ايه؟
صدحت بها ترتد بجسدها عنه للخلف، مفضلة الإبتعاد عنه قبل أن تنفجر مرددة:
– عشان ايه يا رياض؟ عشان انا غبية وبسلم زي الهبلة، فرحت برجوعك ونسيت اهانتي ونسيت كرامتي المجروحة بسببك،………
لتخرج انفاس القهر من صدرها، مردفة بوجع اعتمل بصدرها:
– امشي وروح المكان اللي انت عايزه، ولا اقولك انا اللي ماشية، لأن أنا اللي مش عايزاك
وسارت نحو المغادرة تجفله بفعلها، حتى كاد ان يوقفها حينما امسك بذراعها:
– استني هنا، مش لما تفهمي الاول
– اوعى سيبني
صرخت تنزع يدها من قبضته، كصاعقة ضربت بوجهه، فتشخص ابصاره وترتخي يداه عن التمسك، وتهرول هي نحو الباب الذي تقف خلفه من الخارج عائشة، فتتخطاها دون ان تنطق بكلمة
فكان رد فعل الأخيرة ان توجهت نحوه بالسؤال:
– مالها بهجة، هي معيطة ليه؟
بالطبع لم يجد اجابه للرد عليها، كما انه لا يملك الوقت للحاق ببهجة، وهناك من هو على وشك فقدانه ان لم يخرج سريعًا للبحث عنه
❈-❈-❈
توقف بسيارته امام واجهة محل المأكولات الشهير، حيث وقوف شقيقه امامه، بناءًا على التعليمات التي ألقاها عليه عبر الهاتف، حتى لا يشرد ويرهقه بالبحث،
يحمد الله ان الساعة التي يرتديها، بها خاصية تحديد الموقع، والا ما كان أبدا استطاع تحديد المكان المتواجد به، وهو لا يعرف اسماء الشوارع ولا حتى الميدان الذي يقف بالقرب منه الان
تتصارع المشاعر برأسه، ما بين غضب لخروجه بدون إذن او توجيه، وارتياح للعثور عليه قبل أن يتوه وسط زحام المدينة التي لا يعلم عنها شيء،
تقدم ادم اليه قائلا بنبرة عادية لا تتناسب مع الحدث:
– جيت بسرعة يعني افتكرتك هتتاخر
ترجل هو من السيارة، يغلق بابها بقوة، ويرمقه بتجهم وصمت مهيب، دام لحظات، قبل ان يأمره بحزم:
– أركب يا ادم، كلامنا مش هيبقى في الشارع
– كلام ايه اللي لسة هنقوله؟ مش انت خلاص وصلت واطمنت عليا، روح بقى ولا شوف وراك ايه؟ خالتو زمانها على وصول، انا قولتلها على المكان وهي وعدتني نتعشى مع بعض في المطعم اللي ورايا .
خرج عن شعوره يضرب بقدمه على إطار السيارة بغضب:
– ما تخلص بقى وفوضها، خالتك مين اللي هتجيلك وخليتك تسيب البيت عشان تخرج لها، انت معندكش مخ؟ مكنتش قادر تصبر على ما ارجع انا واشوف حكاية الزفتة دي.
– ممكن لو سمحت متقولش على خالتو كدة عشان انا عارف ان الكلمة دي معناها مش كويس،
قالها بهدوء يثير التعجب، حتى كاد ان يجلطه، وهو الذي يشتهر بهدوء الأعصاب، جاء من دمه من اهو ابرد منه، ليعض على باطن خده بغيظ شديد، يحاول الا ينفجر به حتى لا يخسر ثقته من البداية:
– ماااشي، مش هقول عليها كدة تاني، ممكن بقى يا حبيبي تروح معايا ؟
لم يجد منه رد فوري بل ظل يرمقه بنظرات غامضة، وملامح مغلفة لا تتناسب مع سنوات عمره القليلة، يتسائل داخله، أين براءة الأطفال التي كان يسمع عنها؟
– خالتو جات اهي؟
صدح آدم بالكلمات وقد ألتفت رأسه نحو الجهة المقابلة، حيث السيارة البيضاء التي توقفت بالقرب منهم، تترجل منها امرأة ثلاثنية، ترتدي فستان اسود محكم على جسدها بأناقة، بدون أكمام يصل حتى ركبتيها، بأنوثة متفجرة لفتت ابصار المارة والجميع نحوها، وجه فاتن وشعر بني مموج حتى نصف ظهرها،
– خالتو نادين
هتف بها آدم لتفتح هي ذراعيها اليه تلقاه بترحاب:
– حبيبى يا قلب خالتو
وركض نحوها بلهفة يتقبل عناقها له، فيغمغم ذلك المتابع لمشاهدهم بحديث نفسه:
– خلصت انا من ناريمان عشان تطلعني نادين، وحكيم الصغير مكان حكيم الكبير
❈-❈-❈
بخطوات مسرعة، خرجت من البناية وكأن شياطين الارض تلاحقها، لا تلتفت ولا تلقي بالًا لذاك التي ينادي بإسمها من الخلف، يعصف بها الغضب منه ومن افعاله الغريبة، نالت منه ما يكفيها لقتله حتى تستريح منه، والهروب الان هو اسلم حل حتى تؤذي مستقبلها بجريمة ترتكبها في حقه
– ساعة انده عليكي وما تروديش.
هتف بها، يرافقها ضربة قوية على باب السيارة التي كانت وشك القيام بفتحه، ليجفلها بفعلته حتى صدرت منها شهقة عالية، جعلته امسك ابتسامته بصعوبة يستطرد:
– عايزة الناس يقولوا علينا ايه؟
الى هنا وانفرط العقد، ولم تعد بها طاقة على ضبط النفس، فامتدت قبضتها تضرب كل ما تطاله يداها على صدره او ذراعه:
– ناس مين اللي تقول علينا ها؟ ناس مين؟ ولا انت كذبت الكذبة وصدقتها بجد، انت طلعتلي من فين يا عم انت؟
امسك رسغ يدها بين كفه، يضغط عليه متمتمًا بتلك الابتسامة التي تستفزها:
– على فكرة كدة غلط ، الناس لما يلاقوكي بتضربي خطيبك في نص الشارع ومن غير اعتبار، مش هيصدقوا حكاية خطوبتنا دي بالعكس، دا كدة هيفتكرونا متجوزين.
كاد ان يضحك بملء بفمه، وهو يشاهد التعبير الذي اعتلى ملامحها، وقد فغرت فاهاها من فرط الذهول، وهو يغلبها في كل مرة بمكره، اجتمعت فيها أجمل الصفات، شرسة وفي نفس الوقت طيبة وشهية وهذا ما يجعله يزداد تعلقًا بها:
– اقفلي بوقك يا أستاذة، قولتلك منظرنا كدة في الشارع بيأكد الظن اللي قولته،
همس بها بإغواء وعيناه تمشط ملامحها بجرأة، لتعي على وضعها بهذا القرب منه، بعدما احكم قبضته على رسغها حينما حاولت افراغ غضبها به، ياله من لعين؟
– سيب ايدي.
تمتمت بها بقلة وقد فقدت الأمل من ان تشفي غليلها بضربه، مفضلة الانسحاب.
وقبل ان يصدر رد فعله دوى هاتفها بتلك النغمة المميزة لرقم صديقتها، فوجه قوله لها:
– طب ردي ع التليفون الاول
هتفت به بخشونة:
– بقولك سيب ايدي، ولا انت عايزانى اعملك فضيحة:
رد غير مبالي بغضبها:
– انا ماسك ايد واحدة، ما تردي بإيدك التانية….
زمجرت كقطة شرسة لتجبره على تركها هذه المرة، رغم تسليته بهيئتها تلك، فتناولت على الفور هاتفها تجيب صديقتها؛
– الوو يا بهجة……… مالك بتعيطي ليه؟……… طب قوليلي انتي فين وأنا اجيلك……. خلاص اقفلي جيالك بسرعة
انهت المكالمة، لتشرع باستقلال سيارتها بنية الذهاب اليها، ولكن ما ان حاولت إشعال المحرك حتى فوجئت بتعطلها، لتحاول مرة ومرات، حتى يأست لتخرج وتصفق الباب بعنف فتجده يخرج رأسه من نافذة سيارته :
– هتفضلي واقفة مكانك كتير تستني التاكسي، تعالي ياللا عشان اوصلك معايا
همت ان ترفض، ان تلقي عليه الاتهامات بتعطيلها كالمرة السابقة، ولكنه لم يعطي لها فرصة:
– انتي لسة هتفكري؟ كدة البنت ممكن تتفلق من العياط ولا يجرالها حاجة لا قدر الله، اخلصي ياللا يا أستاذة بقى
❈-❈-❈
داخل المطعم الشهير، وبعد اصرار والحاح رضخ لرغبة شقيقه ومرافقته في تناول وجبة العشاء مع هذه الدخيلة التي تذكره بالراحلة، رغم اختلاف الشكل بينهما، لكن الجرأة في الحديث ونظراتها المكشوفة نحوه، وكأنها هي:
– يا روحي يا ادم، كبرت يا روح خالتو، بس شكلك ع الحقيقة احلى بكتير من ع الشاشة.
– وانتي كمان يا خالتو، انا مبسوط اني جيت مصر عشان اشوفك.
سمعت من ادم لتتوجه بحديثها نحو شقيقه:
– يبقى احنا كدة واجب علينا نشكر رياض باشا، اللي اتكفل بكل حاجة، ولا ايه يا دومي
شبه ابتسامة اغتصبها بصعوبة، ليعقب ردًا لها:
– دا اخويا، يعني مش محتاج توصية، ولا انا منتظر منه شكر
– طبعا اكيد ، بس انت طلعت شهم اوي ودي مبنلاقيهاش في رجالة كتير في الزمن ده، ولا ايه، اصل مش اي حد يقبل يعني .
قالتها بتملق مكشوف، قابله بمكر يقارعها:
– امال يعني كنت هرميه، دا اخويا يعني من دمي، ودي مسالة مفيهاش نقاش بعد موت المرحومة والدته، لكن هي تبقى اختك من آلاب والأم برضو؟
باغتها بسؤاله الاخير، لتقطب بعدم فهم تجيبه:
– اه طبعا من الاب والام، ليه السؤال؟
تبسم ساخرا، يلقي بنظرة جريئة على ما ترتديه من فستان ضيق وعاري، لا يمت للحداد بصلة سوى في اللون:
– اصل واضح انك حزينة اوي عليها، بدليل انك لابسة اسود
لم تكن غبية حتى لا تفهم تلميحه، ومع ذلك جارت تهكمه، باصطناع الحزن:
– طبعا البس اسود، دي كانت اقرب واحدة ليا في اخواتي، رغم بعد المسافات ما بينا، لكن طول الوقت كنا بنكلم بعض.
وختمت بادعاء البكاء الذي صدقه ادم يهون عليها:
– خلاص يا خالتو، هي اكيد في الجنة دلوقتي يعني مينفعش حد يزعلها.
– جنة! ربنا يسمع منك يا بني .
غمغم بها رياض بحديث نفسه،شاعرا بالاختناق، يحصي الدقائق في انتظار ان ينتهي من هذا الجلسة الثقيلة ويغادر بشقيقه، ليفرغ لبهجة وترضيتها
❈-❈-❈
– عمل معاكي ايه؟ عمل معاكي ايه ها قوليلي؟
هتفت بالكلمات نحو صديقتها فور ان وقعت عينيها عليها، جالسة بزاوية درج منزلهم الصغير، منزوية على حالها في الظلام، تبكي بصمت، لتسرع اليها وتضمها اليها، متمتمة بالتوعد:
– انا هخربلك بيته، والنعمة لا اجبلك حقك من عنيه ابن نجوان.
ظلت بهجة على وضعها من البكاء بحرقة، تقطع نياط قلب صديقتها وذلك المرافق لها ، حتى تدخل في الحديث معهما:
– بهجة احنا كلنا في ضهرك، اتكلمي وقولي ع اللي زعلك، واللي ماتقدريش تقوليه لاخوكي، قوليه ليا، انا هعرف اجيبلك حقك بالطريقة اللي انتي عايزاها.
كلمات التهوين والدعم كانت تلقي على اسماعها من الاثنان لمدة من الوقت، حتى ملكت صوتها، لتتحدث وتفرغ عن مكنون حزنها:
– قلبي اتعلق بواحد معندوش قلب، كنت اخدة عهد على نفسي اني محبوس، دايما كنت بعمل حساب للفراق، ومتوقعة انه في اي لحظة يفارقتي، لكن اللي حصل كان غير كدة خالص، لا هو راضي يسبني ، ولا انا قدرت ابقي قوية قصاده.
شهقة بنشيج غص بها حلقها، تمسح بأصابعها الدموع التي كانت تسيل بغزارة دون توقف وهي تواصل امام صمت الاثنان وقد التزما بالاستماع لها الآن:
– يقولي بحبك، وانتي النفس اللي اتنفسه، يطلع بيا لساابع سما، ثم يجي فجأة ومن غير سابق انذار، يرميني على جدور رقبتي، واللي بيحز فيا ويقهرني، هو اني دايما بصدقه، بصدق لحظة العشق، بنسى وعودي، وبنسى نفسي وبنسى كياني معاه….. مع واحد شايفني مش قد المقام، واحد حاططني ع الهامش في حياته ومليش قيمة، عشان عارفني متاحة في اي وقت، مش بعترض ولا اضايقه، وحتى لو حصل مبكملش……….. بقيت حاسة نفسي قليلة اوي
وانطلقت لموجة أخرى، التقطتها أحضان صديقتها لتضمها اليها، تؤازرها بالتهديد والوعيد نحو المذكور:
– متفلقيش نفسك في العياط، ولا تزعلي خالص، مش هو رافض يسيبك، انا بقى بكرة اخلصك منه ومن قرقه، في واحدة تأمن لراجل من الاساس، دول صنف وسخ اساسا.
قالتها بحقد جعلت الاعتراض يخرج من فم الاخر:
– بتعممي ليه يا ست الاستاذة؟ طب راعي شعوري وسطيكم، ولا انتي مش شايفاني راجل قدامك مثلا؟
اخجلها بلفتته، وقد غفلت عنه بالفعل، بعد أن اخذتها الجلالة تعيش دورها الدائم في صب اللعنات على صنف الرجال بأكمله، في القضايا التي تتولاها للدفاع عن حقوق النساء.
– اسفة مخدتش بالي
قالتها كنوع من الاعتذار بتعالي يميزها، وهي تشيح بأبصارها عنه، تستفزه ليشاكسها كالعادة، ولكن هذا ليس وقته، تغاضى بصعوبة، ليتحدث مخاطبًا بهجة بجدية:
– انتي عمرك ما كنتي قليلة يا بهجة، وعشان تبقي عارفة بس، مفيش راجل بيتمسك بالست القليلة، انتي قوية بس الحب هو اللي بيضعفك، مش عايز اوجهلك نصيحة، بس انتي الوحيدة اللي تقدري تحددي، آن كنتي عايزة التطور في العلاقة ما بينكم او انهاءها، وفي الحالتين لازم تبقى قوية وتفصلي،
– انا عايزة انهيها، مش عايزة أشوف وشه حتى .
صدرت منها سريعًا وبدون تفكير، لتجعله يسألها بتشكك:
– متأكدة يا بهجة من قرارك ده؟
عرضت صفية تسبقها بحماسها:
– لو متأكدة من قرارك، ليكي عليا امشي في الإجراءات من دلوقتي، وأجبره انه ينفصل عنك، حتى لو وصلت اني اشرشحه في المحاكم.
– مستعجلة انتي اوي على خراب البيوت، ما تهمدي شوية يا أستاذة، وخفي كدة على البنية، واهدي ها، اهدي.
عضت على شفتها، تحدجه بغيظ شديد، قبل ان تعود لصديقتها متراجعة قليلًا:
– خدي وقتك في التفكير يا بهجة…… وانا في انتظارك ومعاكي يا حبيتي في اي وقت
❈-❈-❈
صباح اليوم التالي
فلم يغمض له جفن، إلا سويعات قليلة، بعدما غلبه التعب الجسدي نتيجة السفر والاجهاد المستمر في الساعات الاخيرة، وها هو يستقيظ باكرًا حتى عن ميعاده اليومي، وكان اول شيء يقوم به هو النظر بشاشة الهاتف ومطالعة سجل المكالمات والرسائل، ولكن النتيجة واحدة، لم تكلف نفسها بالرد ، رغم عدد محاولات الاتصال الكثيرة بها، او النظر حتى بالرسائل التي ارسلها.
لينهض متمتمًا باللعنات، يشرع بلقائها اليوم وتصفية جميغ الخلافات بينهما، يعلم انه قصر معها كثيرًا، ولابد من ترضيتها، فهي تستحق.
دلف إلى المرحاض، يأخذ حماما سريعًا كعادته، ثم خرج وارتدى ملابسه ليتجهز للخروج، اطمن على شقيقه نائما، ثم ذهب إلى منزل والديه ، ليرى والدته، صعد إلى الطابق الثاثي متوجها نحو غرفتها، ولكن تفاجأ بقدومها امامه، تقابله بابتسامتها الرائعة:
– صباح الخير
– صباح الفل يا ست الكل.
تمتم بالتحية، يقترب منها ويقبلها على جانبي وجهها مردفًا بغزل:
– عيني باردة عليكي، زي القمر النهاردة، وانا اللي فاكرك لسة تعبانة ورايحلك اطمن عليكي.
تبسمت تسحبه، ليهبطا الدرج معًا قائلة:
– ما انا كرهت السراير والنوم يا قلبي بقى، ما صدقت اخرح للنور، وحمد لله قادرة وماشية على رجلي اهو.
عقب بارتياح تسلل اليه:
– يارب دايما يا أمي، دا احب ما عليا.
– حبيبي ربنا يخليك ليا .
تمتمت بها نجوان نحوه ، تضمه اليها من خصره، ليصدح صوت نبوية في الأسفل وهي تتابع نزولهما بسعادة للم شمل الام بابنها اخيرا، بعد سنوات من الجفاف والابتعاد :
– بسم الله ما شاء، اللي يشوفكم، ميقولش ام وابنها، يقول عروسة وجوزها، ربنا يحرسكم من العين.
تبسم هو لقول المرأة وردت نجوان ضاحكة:
– بطلي مبالغة يا ست انتي هتخليني اصدق بجد ، المهم بقى جهزتي اللي اتفقنا عليه.
اجابتها نبوية بلهفة:
– كل حاجة زي ما امرتي، قبل ما تنزلي بالظبط عم علي دخل اخدهم وسبقك على العربية.
– هما ايه اللي اخدهم عم علي وسبقك بيهم على العربية
تسائل بها رياض قبل أن تأتيه الإجابة من والدته:
– دي حاجات للاطفال الأيتام يا قلبي ، اصلنا طالعين بيهم رحلة النهاردة نرفه عنهم، يعني اكيد هتأخر معاهم برا يعني متقلقش.
باستدراك سريع واصل يستفهم منها:
– طب وبهجة، رايحة معاكي كمان؟
نفت له بهزة من رأسها :
– لا هي اتصلت واعتذرت، بتقول عايزة تريح النهاردة في البيت مدام مفيش شغل في الجمعية.
❈-❈-❈
وفي منزلها
وقد غادرت عائشة بصحبة شقيقها إيهاب ولم يتبقى سوى جنات والتي تأخرت عنهما، حتى ترفع الاطباق والطعام المتبقي من وجبة الإفطار التي اعدتها بنفسها اليوم، نظرا لعدم استيقاظ شقيقتها حتى الآن، وقد جافى النوم عينيها، حتى موعد اذان الفجر، حتى أدت صلاتها وقرأت وردها من القرآن ثم غلبها سلطان النوم اخيرا.
قامت جنات بتنظيف المطبخ وجلي الاواني، قبل ان ترتدي ملابسها وتتجهز للخروج، ثم دلفت اليها لتخبرها، فدنت منها تدفعها بأصبعها بخفة:
– بهجة يا بهجة،
زامت بفمها لتشد عليها الغطاء بتذمر:
– اممم عايزة ايه يا جنات، سبيتي عايزة انام انا لسة راسي تقيلة.
همست لها بصوت خفيض حتى لا تزعجها:
– انا عايز اقولك بس اني ماشية يا بيبو، إيهاب كمان سحب عائشة يوصلها لمدرستها قبل ما يروح هو على جامعتي، تحبي نجيبلك حاجة معانا؟ ولو في شيء ناقص في البيت نشتريه معانا واحنا راجعين……. بهجة
ردت بنصف وعي حتى ترجع لنومها مرة أخرى:
– لا مش عايزة، ولو عوزت هبقى اتصل بيكي.
– ماشي يا بهجة
تفوهت بها جنات ، بعد أن تيقنت من إيقاظها تتابع:
– طب انا همشي بقى، وهبقى اتصل بيكي عشان الشباب اللي هيفتحو الكافيه على ما نرجع احنا من جامعنتا، سلام يا بيبو.
ختمت بها تطبع قبله أعلى رأسها، ثم تحركت تغادر وتتركها تغوص في نومها، حتى تريح العقل المتعب من كثرة التفكير، فلم تشعر بمرور الوقت ، ولا بالذي دلف إلى غرفتها يضع الحقيبة التي كان يحملها على الارض، ثم خلع سترته يلقيها على جانب الفراش، ليصعد التخت ويزحف بخفة حتى يتسطح بجوارها متكئًا على مرفقه، يتأمل ملامحها الجميلة، وتلك السكينة التي تنام بها، يلعن غباءه الذي آخره في اتخاذ خطوة جريئة تمكنه من الاحتفاظ بها داخل منزله ، وعلى سريره، في مكانها الطبيعي داخل حضنه وبين ذراعيه، طال تجديقه بها، حتى تجرأ يزيح شعرها للخلف، ويمسح بأنامله على بشرتها الناعمة برقة، حتى استفاقت، تفتح اجفانها للضوء، فتقابل وجهه بهذا القرب الشديد يبتسم لها بحنان ، وخضراوتيها تطالعه بسكون، فقد ذهب ظنها للحلم، كانت تظن انها تحلم فلم تعي بحقيقة حضوره امامها سوى عندما دنى يقتطف قبلة من شهد ثغرها، لتنتفض بإجفال ، ثم تبعده عنها بقبضتيها صائحة بها:
– يا نهار اسود، انت حقيقة ولا خيال؟ ايه اللي جابك هنا؟
رفع كفيه امامها باستسلام حتى تهدأ:
– اهدي يا بهجة انا رياض حبيبك مش خيال ولا عفريت طلعلك من الحيط
سمعت منه تطالعه بذعر تنقل بأبصارها ما بين باب الغرفة وبينه، تحاول الاستيعاب:
– طب ودخلت هنا ازاي؟ دخلت ازاي يا رياض واخواتي مش موجودين، ولا كسرت الباب؟ كسرت الباب يا رياض كسرت الباب
– طب واكسر الباب ليه؟ وانا معايا المفتاح.
قالها بسهولة يرفع مفتاح مشابه طبق الأصل لذلك الخاص بمنزلهم، لتتوجه له بالسؤال:
– وايه اللي يجيب مفتاحنا عندك؟
تبسم يجيبها:
– انتي ناسية ان انا اللي مضيت العقد مع صاحب البيت القديم، وانا اللي اديتك مفتاحه؟ احتفظت يا ستي بنسخة منه، عشان تعرفي بس ان مفيش باب يمنعني عنك.
ودنى يخطف قبله أخرى من ثغرها، ليفاجأ بتجمدها، ونظرتها مرتكزة عليه دون ان يتحرك لها جفن:
– مالك يا بهجة؟ دا زهول دا ولا اندهاش؟ ولا هي صدمة وعايزاني افوقك.
قال الأخيرة بعبث، يهم بتكرار فعلته، ولكنها هذه المرة استفاقت لتدفعه عنها بعنف، ثم تنهض بجزعها الفراش والتخت ايضًا لتقف قائلة له بغضب:
– لو اعرف من البداية انك تملك نسخة تانية منه، البيت دا مكنتش عتبته ولا قبلت اسكن فيه ولو يوم واحد
نهض هو الاخر، وقد صدمه رد فعلها، ليحاول التخفيف بما يشبه الاعتذار؛
– لدرجادي يا بهجة، انا بس كنت عايز أعمالهالك مفاجأة، مكنتش اعرف انك هتاخديها بالحساسية دي، دا انا جايبلك معايا شنطة هدوم وهدايا كتير، اهي تعالي افتحها وتشوفي جايب ايه فيها.
– بس انا مش عايزة منك هدوم ولا هدايا
قاطعته بها بنبرة حادة يقطر منها الجفاء، ليترك الحقيبة يوجه ابصاره نحوها بتمعن، ملامحها التي تغيرت بشدة وكأنها اصبحت امرأة أخرى:
– انتي مالك متغيرة كدة؟ عارف انك زعلانه، بس…..
– بس ايه؟
– بس انا جاي اصالحك
– وانا مش قابلة.
هتفت بها باستغناء يثير الدهشة، تمط شفتيها بابتسامة ساخرة فتضاعف من زهوله:
– معلش بقى، قابلت مفاجأتك الرائعة بقلة زوق مني، قلة اصل بقى تقول ايه؟
كان هنا قد استعاد بأسه، ليقبض على ذراعها يهزهزها بغضب:
– ما تهدي بقى واعقلي الكلام اللي طالع منك، مقدر انك زعلانة من موقف امبارح لما سيبتك، بس انتي تعرفي انا كان واريا ايه؟ جايلك عشان اشرحلك……
– مش عايزة اسمع.
صاحت بها لتنفجر بوجهه مرددة:
– لا عايزة اسمع ولا أفهم ولا احس حتى، تعبت منك، معدتش فيا حيل لقلباتك، كرهت حبي ليك، وكرهت ضعفي معاك، انا حتى كرهت نفسي بسببك. خلصني يا رياض بقى وريحني.
تحدثت بحرقة جعلته يحتقر غباءه الذي اوصلها لهذه المرحلة، ولكنه الآن يريد الأصلاح، كيف يعيد اليها صفاءها ورقتها؟
– مش هبرر يا بهجة ولا أدي نفسي أعذار، انا بس عايزك دلوقتي تسمعيني.
– تاااني
صرخت بها، ترافقها دمعة خائنة سالت على وجنتها، لتردف بيأس:
– انا اللي عايزة أفهمه بس، بتستفيد ايه لما تعشمني وتبني في خيالي قصور على شيء معروف نهايته، مش احنا كان اتفاقنا من البداية مدة وتنتهي يا ابن الناس، انت اشتريت وانا بعت…..
قطعت في الأخيرة مجبرة وقد قبض بكفه على فمها يمنعها من الاكمال
– بس بقى بطلي غباء، دا كان كلام وراح لحاله خلاص افهمي
صارت عيناه تناجيها باستجداء، ولكن قلبها المجهد من افعاله، لم يعد به طاقة في تحمل المزيد، ليصبح سيل الدمعات منها هو فقط المتحدث
تجبره على تركها، بألم ينزف داخله، مفضلا مهادنتها :
– انا همشي دلوقتي وهسيبك تهدي، عشان واضح ان معندكيش نية تسمعي، هتاخدي وقتك وبعدها نتفاهم:
– يبقى هتضبع وقتك ع الفاضي عشان انا حسمت واخدت قراري
بهدوء يحسد عليه، تجاهل ثورتها، ليتناول سترته ويرتديها قائلا:
– عادي خالص لما يضيع وقتي معاكي، انا قابل، عشان عمري ما هسيبك يا بهجة.
ضحكة مكتومة بسخرية كانت هي اجابتها، لتوقفه قبل ان يخرج؛
– المفتاح لو سمحت، عشان انا محدش يدخل بيتي من غير اذني، خصوصا لما أكون دافعة فيه تمن غالي اوي..
قالتها بمغزى واضح فهم عليه، يزيد من وهيج النار بداخله، لينزع المفتاح من سلسلة مفاتيحه بعنف يلقيه ارضا، ثم توجه نحو باب الخروج من الغرفة على الفور
يهم بالمغادرة، ولكنها عادت توقفه:
– وياريت تاخد شنطتك معاك كمان، عشان انا مش قابلة هدايا ولا هدوم.
وكأن بقولها، قد وجد المنفث الذي يخرج به غضبه، ليكيل بأقدامه على الحقيبة بالركلات كازًا على اسنانه:
– اهي يا بهجة، اهي، اهي الشنطة، ارميها في الزباله احسن، ارميها في الزبالة
انتهي منها حينما انفتحت وتناثرت منها الملابس على الارض وقد توجعت اقدامه، يرمقها بأنفاس لاهثة لمدة من الوقت، حتى أجبر نفسه على المغادرة، يصفق باب المنزل الخارجي بعنف اهتزت له الجدان، حتى جعلها تنتفض رعبًا، ثم تحمد الله انه ذهب وتركها سليمة دون ان يؤذيها بحالته المجنونة تلك.
زفرت تطرد انفاس مكتومة بصدرها، تنزل بعيناها نحو الفوضى التي احدثها، بهياجه لتنتبه بعيناها على تلك الملابس الزاهية على الارضبة، غلبها الفضول ، لتتناول احدى القطع تتفحصها جيدا حتى فغرت فاهاها إعجابًا وانبهارًا بجماله، لتندفع بإحساس الأنثى تقف امام المرأة به تقيسه على جسدها، فتتمنم بتذكر:
– يالهوي ع العرياني، دا اشتري فعلا الفستان اللي بعتهولي في الصورة، بس طلع حلو اوي، اروح اشوف جاب ايه تاني بقى؟

تعليقات



×