رواية آصرة العزايزة الفصل التاسع والعشرون بقلم نهال مصطفي
"وقلب الإنسان غريبٌ، رحّالٌ في سفرٍ، أينما هامَ أو حلَّ يتقصَّى مواطِن الأُلفة.. فتارةً يلقاها في روحٍ، أو في سكنٍ، أو في لحنٍ، أو في صورةٍ، أو في كتابٍ.. وتارةً يأنسها في نفسه.
ومرّاتٍ يفتقِدُها في أيّامه الحاضرة، فيستحضِرها حِينًا في خياله، ويرْثِيها حينًا في مَباكِيه."
#لقائلها .
( تقـاوم ألمًا .. وتهزم ألمًا )
" امرأة جاءته كضربة حظ في الدقيقة التاسعة والثمانون من اليأس الذي كاد أن ينهي حياة قلبـه "
كُل شيء رائع بوقته ، كُل شعور فريد نعيشـهُ؛ نحيا بهِ .. يكون جميلًا لولا وجود ذئب الندم الذي يُراقبك من بعيد ، يشاهدك وأنت تمرح كيفمـا تشـاء ثم يسبقك ركضًا لغُرفتك ويُقفل عليكما البـاب مساءً ، وتبدأ جولة صراع فتاكة يخوضها القلب وذئب الندم بدون طرف تحكيـم ينهي هذه المعركة في ساعة ما …
عاد هارون لغُرفتـه بعد انفلات زمام قلـبه الذي ساقـه لطريق الذنب ، والنـدم .. قفل بابه بعد ما ودع ليلتـه الشهية ووقف أمام المرآة غارقًا بتفاصيل إمراة رممت قلبه المشروخ وأعادته للحيـاة ..
راودته تفاصيل ذراعه الذي عانق خصرها وكأنه كان ممسكًا بيده زهرة من الجنـة شعورها لا يوصف من شدة الجمال ..
أخذ نفسًا طويلًا وهو يتذكر تفاصيـل عينيها المُقمرة التي فعلت بقلبه كافة الظواهر الكونيـة ، أحدثت ظاهرتي المدّ والجزر في مجرى شواطئ دمه الهادئة طوال عمره ..
نزع ساعة يده وظل يتذكر كلماته ، أوامره .. فرضه المُبالغ في السيطرة عليها ، كونه معها شخصًا لم يعرفه ولكنه اكتشفه على حدود دولتها ؛ ليتساءل.. لِمَ كل هذا التحول المفاجئ يا عزايزي ؟!
فك زر بذلته ونزعهـا ثم رفعها لمجرى أنفاسه ينعم برائحة عطرهم الممزوج ببعضه ، كما امتزجت قلبهم منذ الرقصة الأولى .. ترك السترة بهدوء ثم عاد للمرآة وهو يفك رابطة أسرها من حول رقبته ، قلبه بتشتت وهو يتساءل ألف مرة بينه وبين نفسه حول كفارة الذنب الذي اقترفه للتو ! خوفه الشديد من عقوبته إثر ملامسته لإمراة لا تحل له !!
برر قلبه المتمرد على عقله وضميره قائلًا :
-هذا كله يعود لسحر إمراة مثلها .. لقد غلب سحرها إيمانك !!
زفر بضيق كأنه يطرد حرائقها من جوفه ممسكًا بهاتفـه ليتصل بأخيه ، يستفتيه ، يشرح له الأمر !! كيف يغتفر ذنبه !! كيف ينتصر على تأنيب ضميره الشرس !! تردد كثيرًا ثم رمى الهاتف من يده بتأفف :
-إذا بُليتم فاستتروا يا هارون !! ديه هِلال ممكن يجيلك هِنه يقيم عليك حدود الله ..
قلب الشاشة عن رقم هلال ثم فتح معرض الصور فأول صورة كانت تخصهما معًا .. دقق بكُل شيء حتى أنوثتها ، جمالها وبراءتها الطاغيـة لم ينجٌ منها ، أحدثت زلزالًا بصدره دوّى أثره بابتسامة خفيفة على وجههُ ويبدو أنه أقنع فرقد ذئب الندم مبررًا :
-ربي لا تلوموني فيما لا أملك !! وأنا مش عارف عملت كِده ليه !! بس أنتَ غفور رحيم يارب ..
ثم ملأ صدره بالهواء وهو ينزع حذائه متجردًا من دنس قلبه الذي خدعه تلك المرة وساقه لبحر الهوى :
-استغفر الله العظيم وأتوب إليه….
~بغُرفتها .
كانت مُمددة بفراشها وساقيها متدلدلتين يُلامسا الأرض بعد عودتها مساءً من مدينة الحُب التي طلت عليها من عينيه لدقائق محدودة ، تحملق النظر بالسقف كفها على قلبها تتحسس أول قشعريرة حُب استدعت معها انتشاءً بعودة الحياة لهذا القلب المهزوم من الأيام ، ذلك الرجل المثير للعقل والقلب !! تبعه شعورٌ بحزنٍ رقيق على العواقب التي تُحيل بينهما حتى وأن جاء ضيف الحُب ، نفسه الحزن الذي يزورها بعد كُل لحظة أمل ، يُسقط على قلبها مثل ورقة شجر هشة سقطت من غصن، لكنها لا تلبث طويلًا حتى يحملها نسيم صوته التي سكن مسامعها بعيدًا.
مدت يدها وشدت الوسادة ووضعتها فوق صدرها المتراقص كي يهدأ كي يدفأ بعد ما ذاق الحرارة الحقيقية بحضنه ، ضمتها بقوة وهي تنتشي برائحة عِطره التي كست ثيابها وروحها ، حضنه الذي أحدث بجسدها الضعيفة ما لم يحدثه مولد كهربي .. تتراقص الضحكات حافية على وجهها وهي تردد اسمه بين كل نفس والآخر ، لتثرثر رافضة ذلك العبث :
-لالا !! اكيد ده حلم !! حتى ولو حلم كفاية إني مبسوطة .. مبسوطة أوي كمان .. أنا طول الطريق كنت سرحانة وتايهة في عالم حلو أوي .. عالم يجنن مش فيه غير أنا وهو وصوت منيـر .. أيه الحلاوة دي!!
ثم قضمت أناملها ببراءة وتنهدت معترفة :
-حضنـه كان ليـل من كتر ما هو مريح لو نامت النجوم جواه هتصحى شموس كلها حب وحيوية ..
ضربت الأرض بقدميها كالطفلة صارخه بشغف :
-هو ازاي كده !! قلبي هيطير مني ومن تُقله وجماله وشياكته ورخامته ! أنا عُمري ما قابلت في حياتي التركيبة دي أبدًا .. رجل جاي من عالم تاني .
ثم قفلت جفونها وهي تستحضر بالذاكرة صورة ملامحه الجادة التي كانت تُراقصها فتمنت راجية :
-لو كان الزمن وقف عند الحتة دي وبس !!
ثم وثبت بملل تبدل ملابسها وهي تُغنى مقاطع مشتتة لمنير ، " ناداني من يميني ولسه بيناديني " .. " يا عزيزة با بنت السُلطان لو يتغير الزمان " … " وده حُب أيه اللي من غير أي حُرية " .. " تعالي أوام تعالي خُدي من الحب نايب"
رفضت أن تتحمم كي لا تزول رائحة عطره من فوقها ، ما فرغت من تغير ملابسها مرتدية " سلوبته " شتوية على شكل أرنب .. فأول شيء فعلته بعدها هاتفت رغد التي كانت تنتظر اتصالها على مراجل من نـار ..
تعرف الاثنتان على بعضهما البعض وجرت المكالمـة روتينية حتى تفوهت ليلة مشدوهًا :
-خبر أبيض ؛ يعني أنتِ وافقتي تتجوزيه ومش تعرفي أنهم بيرفضوا جواز الأغراب عنهم !! أزاي هاشم يعمل كده ؟!
اعتصرت رغد جفونها بحسرة :
-إحنا الاتنين خبينا يا ليـلة ، وأنا بكلمك عشان اتأكد وبس من الكلام اللي سمعته ؟! لو روحت عند أهله بجد ممكن يقتلوني ؟
احتلت الشفقة عيني ليلة المتأرجحة :
-بصي يا رغد ، أهل هاشم ، أخواته وأحلام وباباه ناس لطيفة جدًا وأنا اتعاملت معاهم شخصيًا .. بس المشكلة في الأعراف عندهم .. أنتِ متعرفيش عملوا أيه في هِلال أخوهم لمجرد أنه نصف بنت اتظلمت واتجوزها ..
ثم ساد الصمت للحظات وأتبعت :
-أنا عايزة اساعدك ومش عارفة ازاي !! بس أي رايك لو قلت لهارون .. آكيد هيساعدك ؟
انخرطت عبرات رغد :
-لا ، أنا معايا رقم هارون لو كُنت عايزة اكلمه كُنت كلمته ؛ بس .. حتى الحياة بيني وبين هاشم بقيت مستحيلة هو استغنى عني بسهولة يا ليلة بعد الحُب ده كله .
كانت ستُخبرها بخبر زواجه من " نغم " ولكنها تراجعت كي لا تحمل قلبها عبئًا جديدًا .. فأكملت رغد :
-الفكرة أن دلوقتي فيه بيبي !! البيبي ده هيتربى من غير أب !! ولما فكرت خفت أظهر في حياة هاشم يتأذى هو وابنه وو
صاحت ليلة بحسرة مصدومة :
-وكمان في بيبي !! وهاشم يعرف طيب !! ازاي ساب ابنه ومشي ، لالا هما مش كده صدقيني ..
كفكفت رغد سائل أنفها وأتبعت:
-هاشم ميعرفش إني حامل ، مشي قبـل ما أقوله ..
-يا روحي !! بجد زعلانة عليكِ موت .. بصي عايزة تسمعي نصيحتي !!
-قولي ، بس أنا خدت قراري خلاص ..
أتبعت ليلة مقترحة :
-أنتِ كده كده جوازكم رسمي وعند مأذون يعني البيبي هيتسجل بسهولة ، وسيبي هاشم شويـة لحد ما يهدى ويراجع نفسـه هو بس اتصدم آكيد ، وأنا هحاول اتابع الدنيا عندهم ونفكر بهدوء هنعمل أيه .. دلوقتِ أي قرار هناخده مش لصالحنـا .
ردت بيأس:
-ملهوش لزوم ، أنا عرفت خلاص هعمل ايه .
ربتت ليلة على قلبها وظلت تمنحها اقتراحات عدة بخصوص حياتها ووعدتها بأنها ستجد معها حلًا بأقرب وقت ممكن .. ولم تتركها إلا وابتسامة المجاملة والشكر على وجه رغد .. قفلت المكالمة وهي تستثقل حجم المسئولية عليها :
-حرام رغد مسكينة ونغم كمان أيه ذنبها والبيبي .. كل ده من حضرة الظابط !! حرام بجد ..
بالغُرفة الأخرى ؛ جُن جنونه من كثرة محاولات اتصاله المتكررة بـ ليلة فيجد الهاتف مشغوًلا ، دبت براثن الغيرة في قلبه حول هوية من تحدثه بعبث مراهق لا يليق بشخصه ، حتى أجرى مكالمة لأخر مرة وهو يقنع نفسه بأنها الأخيـرة وسينام بعدها فورًا ، ولكن تلك المرة خيبت ظنه و ردت بسرعة ، فآتاها صوته ثائرًا ويتردد صداه من الشُرفة :
-أنتِ بتتكلمي مع ميــن كُل ديه !!
شرعت بفتح الشُرفة ببطء وهي تعتذر منه :
-سوري بجد والله !!طيب أنت متعصب ليـه ؟
ثم خرجت للشرفة فوجدته أمامها بشرفته ، تدلى الهاتف عن أذنها وسألته :
-ها أنت متعصب كده ليه !
دار لعندها وهو يقترب من الجدار الفاصل بين الغُرفتين محاولًا تمالك أعصابه :
-ولا حاجة كنت ووو كنت جعان وبشوفك لو حابة اطلب لك معايّ وكل..
ثم رمقها بتخابث:
-شوفي بقا كنتِ شغالة محمولك مع مين ساعة وربع _فتسرب الشك لعنده متمتمًا_شريف ولا شهاب ولا أي شين معدية من معارفك وو
أعقبت بعفوية وبدون تفكير مقاطعة لحديثه :
-لا دي كانت مراة أخوك .. ر
عقد حاجبيه باستغراب مُقاطعًا الكارثة قبل أن تحدث :
-رُقية !!
ضربت على رأسها بتردد وكأن وعيها عاد إليها :
-اه هي ، مين غيرها يعني !! أنت حد متجوز في أخواتك غير هلال !! كُنت بطمن عليها والكلام أخدنا وبس ..
حدجها بخبث:
-كل الرغي ده مع رقية !! بتچيبوا طاقة منين للرغي ديه كله مش عارف !! بالكم فاضي قوي .
ثم افتكرت المكالمة المفتوحة بينهما فقفلتها على هاتفها واستند معصمها على الفاصل الخشبي بينهما لتصالحه بصوت منخفض :
-و يا سيدي جعانة ، وبالمناسبة .. أنا حابة أعزمك على العشا ونحتفل بخبر النهاردة .
ثم أدخلت الهاتف بجيبها وهي تشد غطاء رأسها الأرنوبي على شعرها فجملها بعينيه أكثر :
-تتعشي سمك و جمبري واستاكوزا ؟!
فكر للحظة وهو يرمى هاتفه على الطاولة الصغيرة متحيرًا :
-ما بزيادة فسفور !! غدا وعشا !
-ليه ؟! ماله الفسفور ده ڤيتامين يعني مش فاهمة زعلان ليـه ؟!
-أفهمها كيف دي !!
حك رأسه إثر وقوعه بالفخ وهو يبرر :
-ياستي كُتره مضر على صحة القلب .. قصدي مضر بصحتي .. شوفي حاچة غيره !!
دست كفوفها بداخل جيوبها وقالت بدلال:
-مش فاهمة حاجة بس ماشي ، طيب أيه رأيك أوديك مطعم بيعمل حمام محشي أجمد من بتاع صفية بكتير ؟!
بملامح وجهه المشدوهة :
-يعني يا حمام يا جمبري واستاكوزا !! هو حد قال لك عليّ أني عريس وناقص تغذية !! ليلة بقول لك نفسي اتسدت هنامو خفيف .. ماله الخفيف ؟!
جاءت مقترحة :
-طيب خلاص شكلك مش حابب نخرج ، نطلب سندوتشات خفيفـة من الرستوران تحت وناكلها هنا قُدام البحر ؟!
-معقول ديه !!
راقت له الفكرة وقام بطلب بعض السندوتشات سريعة التحضيـر من مطعم الفندق ثم عاد إليهـا متناسيًا أمر نومـه الذي خطفه طائر الحُب من عينيه وهي تتطالعه بنظرة لا يتحملها قلب العاشق وتستعرض ثيابها الفضفاضة :
-أيه رأيك في لبسي ؟! الأرنوب شكله حلو .
شبح ابتسامة خفيفة على ملامحه مكتفيًا بنظرة سريعة وهو يقول :
-لا شياكة !!
-بجد !! يعني شيك ؟!
-على قولك شيك ..
استند مرفقها على سور الشُرفة وهي تُطالعـه بإعجاب وتقول بعفويـة :
-أنتَ عارف ، مرة واحد اتجوز واحدة كانت شيـك صحى من النوم لقاها كمبيالـة ..
ما أنهت مزحتها ونكاتها فتراجعت للوراء بضحكة تراقص القلـب ويغير منها ترنيم العصافير ،بجانب جمالها الساحر كانت مرحة خفيفة ظل و هذا ما يعقّد موقفه أكثر .. بات المفر منها مستحيلًا ؛ ابتلع ضحكته بثقل كي لا تتزحزح هيبته وهو يتأمل ملامحها الثوريـة التي تحدث بصدره قلقًا :
-ربنا يشفيكي ، أدي اخرة قُعادك مع هيثـم ..
عادت له وهي غارقة في دوامة الضحـك لتُداعبه بالحديث:
-طيب والله حلوة ، أنت مضحكتش ليه ؟! وشك بيضحك على فكرة .
حك أنفه ليخفي ضحكته محافظًا على غروره أمامها :
-أنتِ مش ناويـة تعقلي !!
-منا عاقلة أهو ، وأعجب الباشـا كمان ، وبكرة هبقى مذيعـة مشهورة وكُل الناس هتشاور عليا ، ووقتها تليفونك مش هيبطل رن من طلبات الجواز ، كُلهم هيجي يطلبوا أيدي منك عشان هديهم رقمك .
تأفف بهدوء ليقتل ذرات مشاعره المتطايرة:
-وماله !! ما أنتِ زي هاجر وهيام .. وعريسك عليّ لازم اختار عريسك زيهم .
كورت يدها تحت ذقنها مدركة الحدود الفاصلة بينهما ولتذكره بعهده مع زينة :
-على فكرة .. لازم تتصـرف في دبلة بسرعـة ، بصراحة أنك توقع الدبلة دي مش لطيفة وزينة هتزعل واسمها قلة تقدير لخطيبتك .
رد على الفور بدون تفكير :
-أنا سبت زينـة يا ليـلة .. ومش هكمل في الچوازة دي ..
خفق قلبها من مكانه فارحًا ولكنها ارتدت قناع الاهتمام لأمره :
-أيه ؟!!! أنتَ لحقت !! فجأة كده قررت هتسيبها ، خطبتها ليه من الأول ومسمعتش كلام أحلام !!
تنهد بارتيـاح :
-لما فكرت لقيت كِده أحسـن ، قولت بلاش أظلمها معاي .. وو
أكملت مستفسرة :
-مقدرتش تحرك مشاعرك مش كده !! زي ما أحلام كانت حاسـة وبتقول .
-حاولت مقِدرتش .
-المهـم إنك مرتاح طيب؟!
تطالع لعنـدها :
-مش عارف ، كنت فاكر أنها أي چوازة والسـلام ، وعيلين والعمر هيخلص في الشغل .. كل ديه اتبخر فچاة وبقيت بقول مش هو ديه اللي أنا عاوزه ..
بللت حلقها وهي تقول ناصحه :
-مش صح ، الطفلين دول عشان يجوا لازم يلاقوا أب وأم بيحبوا بعض عشان هما كمان يحبوا الحياة .
حانت منه نظرة إعجاب :
-أنتِ صح ..
داعبته بالكلمات بمرح :
-يعني أنا وأنتَ سينجل زي بعض دلوقتِ !! ماشاء الله جيت بلدكم فسخت خطوبتي ، أنت جيت بلدي فسخت خطوبتك !! للدرجة دي وشنا حلو على بعض !!
مازحها بخفة :
-هي أقدام يا ليلة !
-اسمها أقدار يا عُمدة ، بالمناسبـة ؛ أيه الفرق بين هارون القديم وهارون بتاع دلوقت ؟!
تذكر أيامه القاحلة بعذاب مرير يدفنه كل ما يرى طيفه :
-الفرق أن هارون القديم كان يحلم، يسمع لصوت قلبـه ، ويفتش على اللي يِسعدهُ وبس ..
أما اللي قِدامك شخص معندهوش قلب ، قلبه رماه في تُربة وقفل عليه من زمان .
اقتربت خطوة أخيرة لتلصق بالسور الخشبي الفاصل بينهمـا :
-لو سألتك سؤال .. هتجاوبني بصراحة مش كده ؟!
-أنتِ عارفة ماليش في التحويـر .
بللت حلقهـا :
-هارون بيـه أنتَ حبيت قبـل كده ؟! حبيت والحب ده مكملش ومن وقتها قفلت على قلبك وبقيت كدا!!
تناول سيجارة من عُلبـته واستأذنها قبل إشعالها فوافقت على مضض متحمـسة لسماع جوابه الذي استغرق وقتًا طويلًا في التفكيـر بهِ :
-في تانيـة جامعـة ، عچبتني واحدة معاي في الدفعـة ، كانت زعلانة أني طلعت الأول وهي خدت ترتيب تاني ، عچبني شطارتها وذكائها ..
-حلوة !
-كانت حلوة ..
تنهدت بشغف:
-ها وبعدين كمل ..
-ولا قبليـن ، خدت شهر اتنين لآخر التيرم ، كنـا نتكلمـوا لغاية ما قفشتني أحلام وحكيت لها كُل حاچة ..
تحفزت لسماع المزيد :
-عملت أيه أحلام !! نصفت قلبك مش كده!
-أحلام في الحق چبارة ميعركيش حنيتها ..
أشادت معجبه:
-أحلام دي سُكرة .. كمل .
-قالت بالحرف كِده
"توبـنا واسع وبنات العزايـزة على قفا من يشيل اختار منيهم من بكرة أروح أخطبهالك .. بس بلاش تصغر أبوك وسط الخلق .. أنتَ الكبير والكبير لازمًا يبقى فوق الكُل ، متخليش حد يمسك عليك غلطة ومتظلمش البـت اللي معاك يا هارون وتخش في مشاكل منتش قدِها ."
رمشت مرتين بشفقة :
-وسبت البنت ؟
-سبتها طبعًا ، وقفلت بابي في وشها ومن ساعتها قفلت باب قلبـي لمدة ١٥ سنـة !
سألته :
-لسه بتفتكرها ؟!
نفى قطعًا :
-لا خالص لوّ شوفتها مش هعرفها أصلًا ، وهي اتجوزت وخلفت وعرفت أنها سافرت كمان من بعد الچامعة ..
-زعلت عليها ؟!
-في وقتها زعلت ، لكن بعدين عرفت أن ديه الصح ورضيت .. وأن الحُب مش كُل حاچة
-الحُب أهم حاجة …
أنكر :
-كلام مراهقين ..
ابتسمت ببشاشة :
-طيب أيه هي مواصفات البنت اللي ممكن تفتـح قلبـك ده المقفول لـه ١٥ سنـة يا عُمدة ؟!
ضلل على سؤالها الذي لامست به جدار قلبه :
-قصـدك يحبها يعني ؟!
-بالظبـط كـده..
-طب أنتِ شايفة يعني أيـه الحُب أصلًا ..؟!
هشت على وجهها الذي يشع حرارة بتوجس لتقـول :
-أنا معرفش الحُب غير من الأغاني القديمـة وبس ، مرة صباح غنت وقالت أن الحب ده له علامة ، ياخدك ويلف بيك بحور ياما ..ويسيب القلب في دوامة ..ويصحيك بالليل من غير داعي وتلاقيكي بين عقلك وقلبك ..
ثم أخذت نفسًا طويلًا وأتبعت بشرود وهي تتأمل البحر لتقـول :
-بس قالوا كمان أن بحر الهوى غدار والخطوه فيه فدان نزلوه فى ساعة شوق .. قبل الاوان باوان .
ثم عادت لتنظر له :
-بس بابي مقاليش يعني أيه حُب .. قال لي اختاري الشخص المناسب يا لي لي ، لأن الشخص المناسب هيخليـكِ تقعي في الحب تلات مرات ..
ثم دارت لتسند ظهرها على السور وتتأمله:
-لأنك ساعتها هتقع في حُب نفسك مرة ، وحب الشخص ده مرة وحب الحياة كُلها مرة .. أظن بابي كان قصده أن الشخص المناسب هو اللي هيعلمني الحُب مش كده !
ألتفت لحديثها المثير لقلبه وعقله باهتمام متسائلًا بفضول خفي :
-وأيه هي مواصفات الشخص المناسب ليكِ .. أحم عشان أعمل حسابي قبل ما أوافق أو أرفض أي عريس يچيلك ؟!
اندلعت من صدرها ضحكة مسموعة وهي تُجيبه متدللة :
-بصراحة أنا عايزاه زي ما شادية غنت وقالت وو
ثم وضعت كفها على سطح الفاصل بينهما واستندت بذقنها عليه وأتبع تشدو على قلبه كأنها تُخاطب عينيه بغنج خاصة بعد تجردها من شعور الخيانة لمشاعر زينـة أحست بملكيته :
-في إيديه قوة تهد جبال ، وعليه صبـر و طولة بال ، وعينيـه حلوة ...
ثم أصدرت صوت إيماءة:
-لو كان شبهك وافق على طول ..
ثنى سيجارته بقلب المطفأة وهو لا يزحزح عينيه المنتشيـة بسماعها وبسماع ترانيمها المُسلية و يراقبها بعينين تحترم عفويتها وتلقائيتها مجردًا نيته تمامًا من بيادر الإعجاب بينهما :
-أنتِ سبتي الأساطير والحكايات وبقيتي مغنواتية !
-شهرزاد لازم تكون بتعرف تعمل كل حاجة مسليـة ومختلفة ، عشان الملك ما يزهقش .. وبعدين أنت مجاوبتش عليـا في مواصفات البنت!
-هي شهرزاد دي الملك كان سايبها ضايعة كِده وبيتفرچ عليها !!
ثم حرك حاجبيـه :
-دانتي مش عتنسي واصل !!
-تؤ .. جواب بقا وسيب موضوع شهرزاد هنتخانق عليـه بعدين بس أبقى فكرني .
استند على الحائط وعقد ذراعيـه أمامه صدره بفتور وقال متعمدًا إثارة غضبها :
-عادي ، تكون عاقلة وبت ناس وتهدي السـر ..
تمتمت المواصفات في سرها وهي تقول بصوت مسموع :
-هي أكيد مش هتفضح السـر يعني وبنت ناس طيبين !! بس عاقلة ؟! اممم دي شرط اساسي لابد منه !
-طبعًا !!
-طيب لو عاقلة نص نص ؟!
تعمد اللعب معها :
-تُؤ متمشيش معاي .. لازم تكون عاقلة ومش بتاعت حواديت ولا ختاريف ( تخاريف) .
خيم اليأس على ملامحها :
-خلاص بقى مفيش فايدة روح دور عليها بعيد عن هنا ..
أخرج ضحكة هادئة وقال منسحبًا :
-شكلهم جابوا الأكـل ، هروح أخده ..
تركها لحيرتها وهي تهذي مع نفسها بخيبة :
-قفلها خالص ، طبعا هو شايفني مجنـونة ومنفعش ، أحسن بردو جت من عنده .. وهو يطول أصلًا ياخد واحدة زيي بتعرف تقول حواديت!
غاب عدة دقائق ثم عاد وبيده طبقين من السندوتشات المحشية، قدم لها طبقـها وشرع هارون في تناول خبزه الساخن المحشو ، ما أخذت قطعة صغيرة بفمها ، قالت منبهرة :
-الشاورما بتاعتـهم تـجنن .. تدوق !
مدت له الخُبـز كي يتذوقه مكان ما قضمت وكأنهما يتبادلان نوعًا لذيذًا من القُبل وهي تطعمه بيدها وتخشى من تبعثر الخبز المحشو ، فتشربت ملامحه دفعة واحدة وهي تسأله :
-عجبـك !
-شغال ..
أخذ قطمة من خبزه الخاص وهو يطالع القمر المُتقلص بالسماء واختبئ بـ عينيها المقمرة لتضيء ليله .. لقد كان ثابتًا يقاوم ألم الذنب ويخمده بترانيم القلب برفقتها ، يحافظ على هيبته تعبيراته صوته بنبرة محدودة حذرة لن يتغيـر به إلا عينيه اللامعـة باتت أكثر بريقًا .. ما فرغت من نصف وجبتها فسألته :
-ممكن أسأل سؤال تاني ..؟
أتمنى أن تعذِر انهماري الدائِم لديك ، أنا لا أعرفُ طريقًا يصلُني للأمان كالطريق الذي يجلبُني لعنـدك .. و تنفسته بقُربك ..
-هاه ؟!
-أنتَ ليـه رفضت نرقص في الفـرح ، بس رقصنا عادي على الشط !! خفت حد يشوفنـا ويحصل لك مشكلة !!
ضغط على الورقة الملفوفة حول الخبز ورماها بالسلة ثم ارتشف القليل من الماء وعاد ليُجيبها بصراحة :
-شوفي يا ليـلة ، هارون العزايزي مبيخافش من حاچـة !! ولو عملت حساب لحاچة كانت عشان شكلك قُصادهم مش حِلوة يشفوكي بترقصي مع واحد لا هو أخوكي ولا چوزك !!دي نقطة .
ثم تطلع بها :
-النقطة التـانيـة .. إذا بُليتم فاستتروا ؛ مبقاش عامل معصية وتجهر بيها ! مش عاصي وبحچ !! مش هقول لك اللي عملتـه صح ، ديه ذنب كبير أن يدي تلمس واحدة مش حلالي بـ
قاطعتـه :
-طيب ليـه رقصنا على البحر ولا كُنت حابب تُرد على جُملة شهاب السخيفة لما قال مالكش في الرقص زينـا !!
-سيبك منه ديه تافه .
ثم أخذ نفسًا طويل وأكمـل متحيرًا :
-يمكن حسيت أنك نفسك ترقصي محبتش أكسر بخاطرك ، أو احتفال بفرحة البرنامچ مثلا .. أو
ثم بلع اعترافه بأنه تصرفه كان نايعًا من أمر قلبـه وقال هاربًا :
-أنتِ مش هتنامي ولا أيه !
ردت بشـك :
-أنت عايز تنام !
-مش عندك مشاوير بكرة لازمًا تنقضي !
-هتيجي معايا على فكرة !! مش أنتَ محامي وجامد وكده !! لازم تيجي معايا عشان تراجع العقـود …
رد بدون اعتراض :
-هاچي معاكِ ، مش همشي غير وموضوعك ديـه خلصان..
رُسمت الابتسامة على وجهها وهي تلوح له مُعلنـة عودتها لغُرفتـها والقلوب تتعانق .. دخل كل واحد منهم لغرفته وهي يفتش عن شيء ما ينقصه غير معروف.. كانت تتفقد الغرفة بيحيرة وحماس وهي تنظر بهاتفها تفكر :
-اكلمه !! أممم طيب أقول ايه مثلا !! أوف آكيد نام !!
في تلك اللحظة جاء الرد من نفس قلبه الثائر الذي يلح عليه بأن يهاتفها ، فـ رن هاتفها باسمه فقفزت مهللة وهي تجمع شتاتها:
-لسه منمتش !
قفل أنوار الغُرفة وترك هاتفه وهو يحدثها من السماعات المُعلقة باذنه متحججًا وهو يرتب فراشه للنوم :
-قولت لي بكرة الساعة كام !!
مددت على فراشها وهي تحضن الوسادة فوق بطنها لتسد فراغ ما بروحها وتقول :
-الساعة ١١ ياعمدة ..
بسط جسده على الفراش وهو يطالع السقف والابتسامة تحتل ملامحه :
-ماشي ..
-ماشي ..
ساد الصمت للحظات كل منهما ينتظر الآخر أن يختلق أي موضـوع غير أنهما ينهيان المكالمة ، تدخلت ليلة معترفة :
-أنت تعرف ، جدو كان بيحبكم أوي ، كان دايما يحكي لي عن العزايزة ، وبيقول لي لما تكبري لازم تروح هناك تزورها ..
-عشان كِده چيتي !!
تحمست :
-هحكي لك …
انفجـرت ليلة بالثرثرة التي تنزل على مسامعه طربًا ، موضوعًا يعقب الآخر ، ليلة مميزة لا أُغنيات، لا كُتب، لا قهوة، فقط صوتـه ..
ضحكة يليها قصة مضحكة ، حزن يتبعه الأمل في عوض الله .. الكثير والكثير من المواضيع التي خلقتها حتى طلوع الشمس ..
خرج الثنائي من غُرفهم ليلتقيان بالشرفة من جديد فوجدها غارقة بالضحك ، نزع السماعة عن أذنه :
-الصوت ، فيها ازعاج للسلطات دي !!
كتمت صوت ضحكها غير مصدقة :
-الصبح جيه !! أحنا بنزغي من الساعة ١٢ بالليل !! متخيـل !
رمى اللوم عليها :
-الله يسامحك ياشيخة .. خشي نامي واقفلي الزفت ده ..
قبل أن تنصرف من أمامه رمت جملتها التي تُعبر عن شعورها وهي تقول له بخوف :
-محستش بالوقت خالص على فكرة .. أول مرة اتكلم مع حد وأكون مبسوطة كده !!
ثم تنهدت بريق عينيه وأكملت مشيرة نحو الشمس التي في بداية اشراقها :
-في شعاع نور في أخر الطريق هناك زي الشمس كده !!
فعادت لتحدث عينيه مُكملة :
-خايفـة أمشي لأخره النور ده يحرقني …
اكتفى بهز رأسه قائلًا :
-خشي نامي يا ليـلة ..
أدرك للتو أنه بين أحضان الساعات التي عاشها معها قصـة جديدة تلمع بالأفق ، ترجم قلبـه تصرفاتها وفهم أنها تحمل طير الحُب بقلبها ويريد أن يتحرر على يديه ، علم بأن لعنة الرقصة أصابت قلبها مثلما أوقدت ألف نار بقلبـه ، أحس بنيران قلبها التي لا تختلف عنه ولكن الفارق بينهما صمتـه سكوته حول تلك المجازر التي تُقيم بهِ .. لمح نجوم الليل تترصع بوجهها بمشاعر حُب مغرية للأعمى .. تأكد أن من ذيل هذه النجوم ثمـة حياة جديدة ستبدأ ..
قرأ على أهدابها الاستحالة أن ثمـة حكاية بينهما سيرويها البحر منسوجـة من أمواجه الثائرة ، بقاعة السماء وبشهادة الشمس والقمر وكل نجـوم السماء معازيـم يحتفلون ببدايـة قصتهـم المستحيـلة.
" يقاوم ألمًا ويهزم ألمًا .. ويلوح بالأفق حُبًا من سينتصر يا ترى ؟! "
"سقطتُ في فم الحُب ابتلعني ؛ قبل أن اتذوقه حتى "
••••••••••••••
منذ إعلان هارون رغبته في إنهاء علاقته بزينة ، طول الليـل لم تتوقف صفية عن النـدب والهذيـان حتى فاض بها الأمر مع مطلع الصـبح وهي تدق باب غُرفة احلام لتزف الخـبر المحزن لقلبهـا وتشكو من ابنها الذي ترك خطيبته .. فتح لها " خليفة " الباب ، فانفجرت شكاء بكاء كالمُقبل على جنازة حارة :
-عيني مش زارها النوم يا حج ! تعالى شوف ولدك عمل فيّنا أيه !! عيالك ناويين يچيبوا أجلي ..
تدخلت أحلام :
-ما تخفي ندب وتنطقي !!مالهم عيالك ما زي الفُل ..
لطمت صفية على فخذيها بحرقة :
-ولدك هارون مكلمني عيشة يقول لي مش مكمل في الچوازة ، ديه سبحان من صبرني لطلوع الشمس .. عاوز يسيب بت خاله !! طب أقول أيه لأخوي !!
تبادل كُل من خليـفة وأحلام النظرات اليقينية حول مشاعر هارون التي صرحت بها لخليـفة من قبل ، فردت بفرحة :
-خير وبركة ، هو ادرى بمصلحته .
فأكمل خليفة :
-صفية سيبي الواد على راحته ، يختار البت اللي على كيفه ..كبري مخك منه وخفي زن على راسه .
فأتبعت أحلام :
-وزينة لا توبه ولا كيفه ولا علامه ، تصدقي فرحتي قلبي .. الواحد يُفطر بنفس.
لم تكد تندب حظها أمامهم فدخل هيثم الذي عزم نيته على "جميلة" والبدء في خطته معها ، دلف على صوت أمه التي تصيح :
-ياما ، يـاما الحياة دي عاوزة الشخص البارد ..أما الشخص اللي قلبه أون فاير ملهلب ديه زيك بيمـ.وت مجلوط .. وأخنا عاوزينك .
ثم جلس بجوار أحلام :
-عتولول على الصبح ليه!
شكت له صفية :
-أخوك فسخ خطوبة زينة وابوك وأحلام ساكتين وهينقطوني كأنها مش بت ناس دي !! دي البت غلبانة ..وهتروح فيها .
-يا فرج الله !!
ثم غمز لأحلام بدهاء :
-شالله يا مرسي يا أبو العباس …بركاتك يا حلومة ..
لكزته أحلام كي يصمت ولا يبوح بسرهما ، صرخت صفية بمنتصف الغرفة وهي تشكو همها بجهل :
-الخِلفة دي منظورة ، عيالي الستة محسودين دول عاوزين زار يفك نحسهم !! عملت أيه أنا في دنيتي يا رب !! دا أنا حتى غلبانة ونيتي صافية كيف اللبن ..
ثم توسلت لزوجها :
-كلم هارون دِلوق قوله يچي يا حچ .. هو ناوي يخلل في سَكندرايه ! ما بزياداه ..قلبي واكلني عليـه .
نهرها خليفة الذي حرك عينيه عن قراءة المصحف :
-اصطبحي وقولي يا صبح يا صفيـة .. الله يهديكي.
مال هيثم لأحلام راجيًا :
-دعوة طب لأبو الهياثم حبيبك كيف ما عتدعي لهرن اللي واخد كُل الدعاوي لروحه ..
فارقها هيثم بعد ما تبادل الضحك معها والكثير من الهمسات وهو يصفق بمرح حول صفية بخفة ليحتفل بفسخ خطوبة أخيـه :
-طب أقروا الفاتحة لأبو العباس دي اسكندرية يا أجدع ناس …
ثم داعب خصر أمه بمزاحٍ ليصيح ضاحكًا :
-حلاوتك وأنتِ شايطة يا صفصف .. ااه يا هرن يا نمس بس تعاود.
فجرت صرختها بوجهه :
-امشي من وشي قبل ما أغضب عليكم واحد واحد يا عيال بطني .. ديه أيه خِلفة الحِزن دي!!
~فـ تمام السابعـة صباحًا ..
هيثم الذي يشكو من الاستيقاظ مبكرًا لشغل البنك ولكنه يفيق على الرحب والسعة ليعقـد مقابلاته النسائية الهوائية !! يبدو أن الحُب هذه المـرة نصب خيمـته بقلبه الذي قرر ألا يُضيع جميلة من يديه واتخذها كأكبر تحدي له ، يبدو أن لعينيها المُغريـة سحرٌ طاغي طغى على كُل الفتيات بقلبـه ..
توارى بجوار " مرسى" خلف الشجرة الضخمة بالقرب من منزلها وسأله :
-ولاه يا مرسي ، متوكد أنها عتطلع في تمام الساعة السابعة صباحًا ؟
أيده بنفـس النظرة المتلصصة :
-مظبوط يا هيثـم بيه .. دانا مترقدلها ليّ أسبوع.
رمق ساعة يده :
-أدينا مستنين هانت .. باقي دقيقتين .
في هذه اللحظـة فُتح باب منزلهـا فطلت منه جميلتـه الحسناء مرتدية ملابس الزراعـة متأهبة لذهابها للمشتـل ، تعثرت قدميها في جوابٍ ورقي بالأرض ، فانحنت لتكتشفه بـ غرابة ، خفق قلب هيثم فارحًا :
-مَسكت الچواب يا مرسي ، ها ها يلا أقري يا جميلة ..
عارضه مرسي :
-هيثم بيه ، الشيخ هلال لو شم خبرنا هودينا ورا الشمس!
-تعرف تكتم !! اصبر بس تقرى الچواب ..بلا هلال دِلوق .
استندت جميلة على السور وهي تفتح الورقـة وتسب سرًا ، فتحت المرسال وقرأت ما كتبه هيثم إثر تعليمات ليلة :
-أهنئك على الحب الذي أكنه لكِ أنتِ محظوظة بقلبي يا قلبي ، وهذه فضيلة واختيار أحسده في أعين المشاهدين لنا يا چميلة الچميلات ..
وكانت الإمضاء بحرفي " مـ&ي" ، زفرت جميلة باختناق إثر هذه التصرفات الطائشـة المتكررة لمدة أسبوع ، فشقت الجواب لنصفين ورمته بالسلة ، إثر تصرفها العنيف مسك هيثم بقلبـه متأوهًا ويسنده مرسي لأنها مزقت قلبه قبل الجواب قائلًا :
-يا بـت الجاحدة !! ااه ياقلبك ياهيثم .
ثم تهامس مع مرسي :
-وبعدين !! كل مرة على ديـه الحال !!
-ما تصرف نظر عنيهـا يا سي هيثم دي قويـة ومحدش عاچبها !
-ماهي حِلوة عشان قـويـة ..
أخذ يراقبها وهي تتجول حول منزلهم الريفي فهبت الفكرة برأسـه :
-ولاه يا مرسي ، اسمع اللي هقولهولك بالظبط ونفذه وهديك ألفين جنيه حِتة واحدة ..دي لازملها دَخلة تطلعني بطل .
تابع الاثنان خُطاها حتى يبدأ هيثم بتنفيـذ خطتـه .. هرول مرسي خلفها وهو يتبع مسار سيـرها متغزلًا و منفذًا خطته مع هيثم :
-يا أرض احفظي ما عليكـي ..
أكملت مسار سيرها وهي تستغفر ربها وتطلب منه أن يمنحهـا الصبـر كي لا ترتكب جناية على الصُبح تدخل هيثم وهو يمسكه من جلبابه ويصفعـه على رأسه ويعطيه دورس في الأخلاق:
-مش عيب قِلة القيمة دي وتحترم نفسك يا وِلد المحروق !! أنتَ معندكش أخوات بنات تخاف عليهم !!
همس له الفتى مرسي متوجعًا :
-عتضرُب واعر يا سي هيثم ..
دارت له جميلة معنفة :
-أنتَ واد مين في البلد !
تدخل هيثم مجيبًا بدلًا منه متغزلًا بجمال عينيها :
-أنا هعلمهولك الأدب .. متشغليش بالك يا قمر ..
حدجته بعنفوان :
-خليك في حالك أنتَ ..
ثم أشارت بسبابتهـا نحو الشاب المراهق :
-أنتَ الجامد بتاع الجوابات !!
أكمل هيثم بصفعه معاتبًا :
-يا بجح وكمان چوابات هي حصلت !! أيه هي البلد مفيهاش كبير تعمله حساب ؟!
ثم نظر لجميلة التي لم يظهر من وجهها إلا عينيها الملونة قائلًا :
-تحبي ناخدوه على كبير العزايزة هارون بيه ونعلموه الأدب ؟ والشيخ هلال يستفتي في حكمه على قليل الرباية ديه؟
رمقتـه مشبههة عليه :
-أنتَ هيثم وِلد الحچ خليفة مش كِده !
اتسعت ابتسامته :
-هو بشحمه ولحمه .. تصدقي هيثم طالعة من خشمك زي السُكر !
هزت رأسها كاظمة غيظها بنفسها وهي تقول بحدة وبعينيها شك في الأمر :
-واضح أن مش الواد ديه لوحده اللي عاوز يتربى !!
-مين كمان عاوز يتربى غير مرسى، وهيثم العزايزي يربيه !!
ثم ترك الفتى وهو يتمسك بشاله ويدنو منها :
-أعرفك بنفسي هيثم العزايزي ، مدرسة تأهيل وتأديب وإصلاح ! مين مزعل الجميلة وعاوز يتربى .. شاوري عليه .
رمقته بسخط وقالت جملتها بعد ما تذكرت وجه الولد العامل بأرضهم :
-مرسي واللي مشغله ، المرة دي هعديها المرة الچايـة ورحمة أمي وأبوي ما هعديها غير وأنا مفرچة الخلق عليكم .
ثم جهرت باسم مرسى وهي تضع عينيها بعيني هيثم بعد ما كشفت مخططه :
-لو لمحت چواب تاني قصاد البيت هوديك المچلس يا مرسي و هما يتصرفوا معاك ..
ما أردفت جملتها التحذيرية ثم دارت متأففة لتباشر مهامها ، فعاد هيثم لمرسى وطوق كتفيه وهو يحك ذقنه ليخفي إحراجه :
-قَلت منك قوي ياد يا مرسي دي بعترت الكرامة ، عمال أقول لك بلاش بلاش ، أنت اللي تبت وقولت دي وحلاوتها عشان قوية .. كسفتنا الله يكسفك !
-وانا مالي يا هيثم بيه ؟! فين الألفين چينيـه !!
-تصدق أنك بچح وتستاهل كل اللي عملتـه فيك جميلة !! امشي قِدامي …
•••••••••••
~مسـاءً …
قبل أن ينام لقـد حجز هارون تذكرة طيران بمساعدة موظفي الفندق إثر مكالمات صفية المتعددة .. انتهـت مهمته مع ليـلة وقام بمراجعة العقود دون الإفصـاح عن دوره الحقيقي بتمويل برنامجها .. تناولا وجبة غدائهما معًا وعقدوا العديد من الاتفاقيات المذعنة بواسطته ، فكانت جميعها توصيات لا تقبل إلا الموافقة منها دون أي اعتراض .. طلب منها العودة لبيتها ، و الحرص الزائد وعدم ثقتها بمخلوق .. أكد على الانتظام في دواءها وعدم إهماله .. وكثير من التوصيات على أعتاب المطار ..
وصلته وعادت للفندق خاليـة القلب تفتش عنه بكل مكـانٍ .. لملمت حقائبها وغادرت الفندق بعد ما دفع هارون مصروفاته كاملة .. ثم استقلت سيارتها متجاهلة اتصالات امها خلال يوميـن ..
وصلت البيت بملل وكآبة تملأها ولكن ما طمئن قلبها قليلاً رسالة هارون التي أبلغها بوصوله قـنا .. قفلت الهاتف لتلتقي مع أمها التي تنفجر من شدة الغضب :
-والله لسـه فاكرة أن ليكِ بيت ياهانم !! كُنتِ فين اليومين اللي فاتوا !! هاااه..
ثم اقتربت منها وأتبعت تحقيقها :
-كُنتِ مع أبو عِمة وجلابية !! النصاب بتاعك!
تأففت بامتعاض وهي تتحاشى النظـر إليهـا :
-حضرتك مراقباني ولا ايه!! وبعدين اسمه هارون يا مامي .. حضرة العمدة هارون العزايزي ، ومالها العِمة والجلابيـة ، سوري كتير ببِدل ومظاهر واو وهما كذابين ومزيفين من جوه وحياتهم في السر ..
صرخت نادية بوجهها عندما قرأت تلميحاتها التي تقصدها :
-ليلة بلاش تلميحاتك السخيفة دي !! أنا خايفة عليـكِ الولد ده مش تمام وعيلته كلها مش مظبوطة ..ده بيضحك عليكِ وبيستغلك ، آكيد عارف أنك وارثة وجـاي ..
-مامي هو مش محتاج لده عشان يطمع في ورث ميعرفهوش أصلاً !! ولا أنا اعرفه فين ..
ثم رمقتها بملل وهي تنسحب من أمامها :
-ما بلاش حضرتك يامامي تتكلمي في النقطة دي!!كلنا عارفين مين الطماع الحقيقي وساكتين ..
قبضت نادية على معصمها صارخة بدون مراعاة لحالتها العصبية والنفسية :
-أنتِ عارفة هما عملوا ايه في شريف خطيبك !! دول نقلوه من مكان شغلوه وآذوه !! هما دول اللي أنتِ مأمنة لهم .. ضيعوا مستقبل الولد والترقية بتاعته.
-مامي من فضلك صوتك .. وبعدين انا مالي بشريف …هو لا خطيبي ولا حاجة.
ثم انفعلت بوجهها :
-انا وشريف خلاص خلصنا !! كفاية بقا وسبيني في حالي .. أنا حُرة أنا قرفت من الوسط المزيف اللي حضرتك مُصرة تزرعيني فيه .
-يعني أيه خلصتوا !! من بمزاجـك ، جوازتك بشريف هتتم ورجلك فوق رقبتك ؟! هو لعب عيال!
تحدتها بقوة استمدتها من مرافقة الجبل وابنه كما دلها قبل رحيله ليضمن أمانها لفترة محدودة حتى يعود لها :
-الموضوع ده قصاد أن طنت أميرة تعرف أن جوزها متجوزك ، منا مش هبني حياتي على كذبكم ، لو مُصرة أنا هقول لطنت أميرة وشوفي بقا هي ممكن تعمل أيه ، دي ممكن هي اللي ترفض جوازنا .
اهتزت نادية أمامها مندهشة من شخصية هذه الفتاة التي فقدت السيطرة عليها تمامًا :
-أنتِ ازاي بتتكلمي معايا كده !! أنتِ واحدة قليلة الأدب ومش متربية.
وقفت ليلة بوجهها وهي تزيح بحور الدمع :
-لا أنا متربية كويس أوي ، سامح الجوهري رباني أحسن تربية عشان مامتي دكتورة نادية أبو العلا اللي مش عاجباها تربيتي دلوقتِ مكنتش فاضيـة تربي هي ..
ثم غرق وجهها في بحور الحزن :
-أنا متربية عشان عمري ما أعمل حاجة في السـر .. كفاية يا مامي لحد كده بلاش نجرح بعض أكتر ؛ كل واحد فينا حُر يعيش الحياة اللي اختارها .. حضرتك اخترتي أونكل رشدي تمام مش همنعك ..
ثم رمقتها باستحقار :
-بس يا ريت تتقابلوا في مكان غير هنا ، مش في بيتي وبيت بابي وسريره .. بعد إذن حضرتك ….
صرخت نادية عليها بهزيمة وهي تهرب لغرفتها:
-ليلة انا عايزة مصلحتك افهمي بقا ..
••••••••••••
~العزايـزة …
ما وصل الخبـر لمسامع زينـة فسقطت مغشيًا عليها من وقع الصدمة ، ظلت صفية تنوح وتعاتب هارون الذي لم يرتاح من سفـره بعـد .. هارون الذي تحاشى الجميع وانساق لغرفة أحلام باحثًا عن أبيـه .. ما دخل الغُرفة بنيران أسئلته وقفـل الباب خلفه متساءلًا :
-حچ خليفة .. أيه بينك وبين نادية أبو العلا يخليـك تحط واحد من رچالتنا يراقبها ..
قفلت أحلام المصحف من يدها وهي تُطالع أبيه الذي يصلي ركعتي قبل نومـه .. خفق قلب أحلام من تعرية الحقائق وهي تشير له :
-تعالى أقعد يا هارون ….
كرر سؤاله :
-أحلام أنتي وأبوي مخبيين حاجة !! الست دي وراها أيه ؟! في سر أنا لازمًا أعرفـه دِلوق .
ثم نظر لأبيه الذي فرغ من صلاته :
-أنتَ ليه يا أبوي رُحت لها اسكندرية !! أيه بينك وبينها !! تعرفها منين ؟
استند أبيه على عكازه وهو يتحرك بمهلٍ ليجلس بفراشـه بجوار زوجته ويقول :
-مكنتش أعرف أنها أم ليـلة ياولدي.
-أومال سافرت لها ليه !! تعرفها منين ؟
اتكئ بتعب وهو يقول :
-كانت في أمـانـة مع حماها رفعت الچوهري روحت عشان أرچعها لصحابها ..
تسرب الشـك لقلبه حول ليلة :
-أمانـة أيه دي !! وكيف أنا معرفش الموضوع ديـه ؟
ربتت أحلام على كتفه :
-ما تهدى يا حبيبي مالك متكدر ليـه !! بالراحـة وعلى مهلـك .. وكله هيتعرف في وقته .
-ياصبر الصبر ..
كرر سؤاله :
-أمانة أيه دي يا أبـوي اللي چاي تدور عليها دِلوق ؟! وبعدين أنت عرفت كيف أن ليلة اسمها غفران !! أنا نسيت أسألك !
حسم خليفة أمره عازمًا الصمـت على أمر الحقيـقة حتى يمسك بيده دليلًا ملموسًا يثبت فيـه انتماء ليلة للعزايزة وصدق روايته ، اختلق له كذبة مؤقتـة كي ينجو من تحقيقه :
-نص خريطة في قلب الجبـل لمقبـرة كبيرة العزايـزة مقطعين بعض عليها .. نص الخريطة دي مع رفعت الجوهري من وقت ما كان بيشتغل إهنه ..
ثارت الشكوك برأس رجل القانون :
-ومن ميتى يا أبوي ليـك في حوارات المچلس والحكيت اللي في الچبل !! في حاچة تمخول النفوخ وأنا لازمًا أعرفها !!!!! ما تحكي أنتِ يا أحلام …..
••••••••••••••
~بغُرفـة هِلال .
عاد هِلال في وقت متأخر من الليل بعد غيابـه اليوم بأكملـه في المعهد الأزهري والأمتحانات المُقبـلة وغيرها من دروس الفقـه بالأزهر .. قفلت رقيـة المصحف من يـدها وهي تنظر نحو الباب الذي فُتح فطل منـه .. ألقى عليها تحيـة الإسلام .. ردت عليه وهي تشد طرف جلبابها لتخفي أقدامها :
-وعليكـم السلام ورحمة الله !!
أرسل لها ابتسامة جميلة وقال بالصعيدي :
-لساتك منمتيش ؟
زفرت بضيق :
-عادي ، كُنت بقرأ قرآن لأمي وأبوي ومنمتش ؟
نزع قفطانه الأزهري :
-كلتي ؟
ردت بتوجس :
-لا لا مكنش چايلي نفس .. عمتي أحلام حلفت عليّ قولت لها هستنى الشيخ هلال .. عشان مزعلهاش وو بس .
تنهد متحيرًا وهو يقترب منها :
-مالكش نفس ولا مستنية الشيخ هلال !! عشان هتفرق كتير معاي .
بررت بتوتر وهي تتجنب النظر إليـه :
-منا اتحججت بيك عشان متغصبش عليّ أكل ..
-دعنا من هذا الآن ، وجهك شاحب ويزحمه الحزن ما بهِ ؟!
ثم جلس على طرف فراشه مداعبًا :
-لولا أني أعرفك جيدًا لقُلت كل هذا بسبب غيابي عنك !!
قضمت أظافرها :
-أم بكر جات الصُبح وزين خالتي صفية مكنتش قاعدة ، بس عمتي أحلام وقفت لها ومن ساعتها وانا مضايقـة وو ..
كظم غضبـه بنفسـه كي لا يحملها همًا جديدًا وقال بإيمانِ :
-ليه تضايقي يا رقيـة !! ليـه انسانة جاهلة العقل والقلب تأثر على واحدة في مكانتك ؟!
-غصب عني ، الأيام بتصعب عليّ وأنا تايهه ومش لاقية تفسير لحاجـة ..
أتبع بنفس راضية :
-"السَّفينةُ التي لو لم تُثقَبْ لسُلِبتْ!
والغلامُ الذي لو لم يُقتلْ لأشقى والديه!
والجدار الذي لو لم يُقَمْ لضاعَ مالُ اليتيمين!
مع كلِّ ثقبٍ، وكل فَقْدٍ، وكلِّ نعمةٍ"
ثم جلى حلقه :
-رددي دايماً بيقين : اللهم صبراً على ما لم نحط به خبرًا .
ثم غير مجرى الحديث قائلًا :
-أنا آيضًا لم أتذوق الطعام على أمل أن نأكله سويًا .
ثم تجرد من الفصحى مكملًا :
-ولا هنام على لحم بطني ويبقى ذنبي في رقبتك ؟
-لا ميصحش ، طب أعمل أيه ؟!
-أنا خدت جولة بالبيت ، الكُل كان نايـم .. انزلي المطبخ جهزيلنا عشـا خفيف وأنا هحصلك ..
لبت طلبه بطاعة واحترام ، انتعلت حذائها وغادرت الغُرفة دون النظر له .. نهض هلال ليبدل ملابسـه مرتديًا " ترينك رياضي" أول مرة يلبسـه أمامها ، ثم فاحت منه رائحة المسك الذي لم يستغنى عنه أبدًا ولحق بهـا لأسفل ..
وصل للمطبخ فوجدها تقف أمام الموقد ، تحمحم بحرج وهو يتطلع إليها بنظراته المبتسمة :
-هتعشينـا أيه يا رُقيـة !
-لقيت رز وفراخ وبطاطس من الغدا ، سخنته ..
حك لحيته بعدم اقتناع :
-وماله ، كل شيء من تحت يدك جميـل .
شد المقعد منتظرًا أن تغرف له الطعام الذي سيأكله جبرًا ، بعد عدة دقائق كانت تجهز الأطباق ، لم تتمكن من مهارة طهي الأكل وغرفـه ففزعت صارخة إثر حرق يدها بـ " صنية الفراخ " وهي تخرجها من الفرن ..
فزع ملهوفًا ليطمئن على حالة يدها :
-رقية وريني ..
شكت له والدمع يرقص بعينيها :
-يدي اتحرقت مخدتش بالي ..بتحرق قوي ..
سحب يدها بسرعة تحت مجرى ماء فاتر وأمرها :
-متحركيش يدك ، سبيها تحت الميـة هبابة ..
ثم ركض نحو الثلاجـة وأخرج منها مكعب من الثلج بيده .. قفل صنبور الماء وضم كفها بيساره ثم وضـع المكعب فوق إحمرار جلد يدها ، تأوهت بألمٍ مدفون وهي ترفض إمساكه ليدها محتجة بألم ، فألهمها الصبر بتحذير :
-رقية تحملي .. لا تبقي كالطفلة ..
ظل يدلك حرق يدها حتى ذاب الثلج وذاب معـه قلبه وذاب جدار المسافات الفاصل بينهما .. بقربه وخوفه عليها باتت ترى الأيام بشكل أفضل أن عاشتها معـه ، رأت من اهتمامه حقول خضراء تنتظرها بصُحبة رجل مثلـه .. كانت تتأمل تفاصيل لحيته المنمقة شعرة شعرة وبياضه المُلفت و المتوارث من أمه ، ملابسه الرياضية التي تراها عليه لأول مرة ومنحته سنهُ الشبابي عكس الجلباب والقبعة .. وجهه كان لافتـة مغريـة لعالمـه الجميل الذي يسحبها إليه خطوة خطوة ، تخدر ألم يدها واتقد ألم آخر بالقلب .. خاصـة وهي تراه يسحب منديلًا ورقيـًا ويجفف حول الإحمرار برفق تام .
إمرأةٌ.. و وردةٌ .. ووسادة .. أتخذهم رجُل ناسك مثله مكاناً للعبادة ، طريقًا للجنـة ، كانت إمرأةٌ تقودُ قوافلَ من الريحان بوجعِ مريم العذراء وهو بمحرابه يُجففُ الياسمين ويصنع من روحهِ لها قِلادة تاجًا من الزهور ، يُؤرخانِ الليل معًا عشقًا وذكرًا ..
-لا بأس طهور عليكِ إن شاء الله ، لقد رُفع عنـكِ ذنبًا ما..
لن يكتفي بهذا بل انحنى لمستوى كفها وطبع قُبلة طويلـة دوّى تأثيرها بالقلب الذي رُجا من مكانه وهي تشد يدها برجفة قبل أن تلتقي بعينيه :
-شكرًا ..
انتقل احمرار يدها لوجهها الذي لُطخ بدماء الخـجل فتبسـم :
-تصبحين أكثر جمالًا عندمـا تخجلين..
كادت أن تفارقـه فمنعها وهو يقف أمامها :
-إلي أين !! لم نأكل بعد .. أني جائع وسأموت جوعًا .
-أصلووو ..
فهمهـا وفهم هروبها المتكرر :
-تتعمدين وضع حدود فاصـلة بيننا لا أرى من وجودها أي فائدة ..
ثم اقترب كاسرًا قانون المسافات ليحملق بعينيها ويتحسس درجة حرارة خجلها المتوردة على وجنتها :
-كم مرة باليـوم يجب عليِّ أن اذكرك بأني زوجك .. برب مُحمـد أنتِ كُلك لي وقلبـي لكِ .
اندلع صوت قرقعة من معدتها أم من قلبها فشهقت بتوتر لا تعلم من أي جهة تسرب لها لتقول هاربة من هذا السطو المسلح الذي اقتحمها فجأة ، وكأن إنسانًا آليًا تلبس بها :
-شيخ هلال ، أنا عاوزة ارجع أسيوط وكليتي عشان الامتحانات قربت وبس كِده …..
||••••••••••••••||•••••••••••••||
~بعـد مرور شـهر ….
مـرت الأيـام سـريعًا ..
بدء من هارون وليـلة التي تشتعل علاقتهم يوم بعد يوم ، بات وجودهما بحياة بعضهما شيء أساسي كالهواء والماء .. لا تمر ساعة عليهمـا بدون كلمة ، رسالة ، مكالمـة ، مزحة .. بات الليـل يحلو بمكالماتهم الطويـلة التي يُجمعها القمر ويفرقهـا الشمس ..
وبات النهار تسكنه الفراشات التي تقطف من كُل ساعة رحيق صوتها الذي أصبح مُخدره .. وصلت المشاعر لقمـتها ، وتألفت أرواح الاثنين لدرجة لا يمكن الفصل بينهما .. كان عُكازها الذي تتكئ عليه في أيامها الصعبة التي تواجهها لوحدها ..
شرعت في تصوير حلقات برنامجها الذي سيُذاع يومين بالأسبوع باسم " حكاوي ليـلة " .. شهر مليء بالحُب والنجاح ما الذي يمكن أن يحتاجه المرء بعد !.. طوال هذه الفترة لم يدع هارون حجة او سببًا ليقطع المسافات إليها حتى ولو كان كوبًا من القهوة معها ويعود لبلـده ..
عاشت قلوبهم في حالة من سُكر الحب البكري الذي يلامس قلوبهم لأول مرة ولم يبقى سوى الاعتراف الذي أجله هارون حتى يضـع حلًا بأعرافهم …
حن هاشم خلال هذه الفترة ، سمع صوت قلبـه ، هُزم أمام حُبـه ولكن كيف بعد ما قام بالقبض على ثلاثة عشر شخصًا من عيلتها وقدمهما للعدالة !! كيف .. رق لسماع صوتها وهاتفها في مرة من المرات ولكن وجد واحدة غيرها ترد عليه ، واحدة قتلت جنين الحُب بقلبها حتى ولو سيُسمها ، واحدة لم تتقبل أن تسمع حتى صـوته ، أدركت أن العيش بينهما مستحيلًا لحمايته من ظلم أبيها ومن أسر أعرافهـم الظالمة ، طوت حبها وجنينها بأحشائها وعزمت أمرها مكتفيـة بآخر طلب منه وهي ورقة طلاقها الذي لم يرسلها لهذه اللحظة ..
سافرت رُقية لأسيوط مع هاجر التي ما زال شريف يُلاحقها من كل صوب وحدب… انشغلت كل واحدة منهن بامتحانات منتصف العـام مع علاقتها التي بدأت بهلال منذ ذهابها ، فلم يمرر ليله دون الاطمئنان عليها ، لم يدعها تفوت صلاة فجر واحدة .. استقرت الحيـاة نوعًا ما بينهما ويوم بعد يوم انشغل الجميع بمشاكلـه حتى تناسوا أمرها إلى حد كبير … وصدر حُكم بالسجن المُشدد لبكـر ابن عمها ..لص روحها .
نجاة التي تحججت بامتحانات ابنها ودراسته وأنها تريد بيتـًا لوحدها بعيدًا عن بيت زوجها الاول وعقدت وعدًا على نفسها بانهما سيتزوجان عند انتهاء فترة الامتحانات وتنفيذ كل شروطها ، وظلت طوال هذه المدة سجينة الغرفة هي وولدها بعد ما أجبرها أن تقطع أجازة طويلة من عملها بالوحدة … وهددها بولدها أن حاولت الاستغاثة بأي شخص !!
ما زال خليـفـة يُطارد أشباح الماضي يفتش عن دليل واحد يثبت بهِ قوله ، يثبت فيه عودة فتاة لأهلها وأخذ حقها حتى توصـل لطـرف الخيط !!!!!!!!!
*•••••••••••••*•••••••••••••*
~صباحًا ..
كبرت ومرت أيام العُمر وأنا اراقب أصابعي المرتجفة ، كبرت وفي قلبي ثقبٌ واسع يتسرب منه الأشخاص بدون كلمة وداع يظلل عليـه خيمـة الوحدة الأبديـة ، يهرب مني كل شيء تمامًا مثلما يهرب الخفاش من النهار إلى حضن الليل.. هذه أنا وهذا هو قلبـي الذي أعتاد أن يبقى وحيدًا ..
سحبت " نغم " كُحل عينيـها باستسلام لحياتها الجديدة والتي اتخذتها بكـامـل قواها العقلية بصرف النظر عن عدم اكتمال أهليـة القلـب .. اكتفت بالكُحل الأسود الذي يزين لوحة بشرتها النقيـة صاحبـة الخدود الوردية الربانيـة ، ثم أحكمت لف حِجابها وهي تلقي نظرة على ملابسها المتكونة من بنطال فضفاض باللون الأسود ويعلوه سترة من الصوف بنفس اللون ثم " بليـزر " أنيق باللون الأخضر الغامق ابتاعته قبل عام من أحد المُتجرات ..
سحبت حقيبتها إثـر رنيـن هاتفهـا باسم " هاشم " فعلمت بوصـوله ، حملت حقيبتها على كتفها وساعة يدها باللون الذهبي وهي ترتديها لتزين مُعصمهـا ثم غادرت غُرفتها بهدوء مستسلمة لقدرها معه .. هبطت على درجات السُلم بتئن وهي تخطو على أصوات قلبها التي تتمرد على قرارها حتى وصلت لساحـة البيت واستأذنت خالها :
-خال صالح ، طالعة مع هاشم ننقوا الدِبـل .
فارت الدماء بصدر زينة التي لم تتوقف عن الندب والصياح خلال الأيام الماضية ومحاولاتها المتكررة في التوافد على الدجالين لتستعين بهم في رجوع حبيبها .. ألتهب قلبـها بالغيرة الشديدة نحو "نغم" التي تظهر بهيئتها الانيقة كعادتها وملابسها المميزة التي كانت ترتديها بالجامعة .. فهبت معترضة :
-بالعربي كِده يابا ، طالما چوازتي من هارون باظت ، چوازة البت دي متمش وإحنا مش عاوزين ننسابوا حد من عيال عمتي صفية ، اشمعنا هي .
تدخلت أمها محذرة :
-ما تتلمي يابت أنتِ ، مالك مش مبطلة ندب ليـه ، قال لك الچواز قِسمة ونصيب ، ونصيب بت عمتك چالها ، هتوقفي حالها ليه!!
هبت مذعورة والحقد يملأها :
-عشان نغم مش أحسن مني يامـا .. ومتتجوزش قبلي .. وكمان تاخد هاشـم وهيسفرها معاه !! وأنا أقعد چارك اندب حظي ؟
نهرها أبيها بحدة :
-مالك يا بت عيارك فَلت ليه !! كُل ديه عشان خطوبتك اتفسخت !
-ماتقولش اتفسخت ، هارون هيرچعلي ومش هيتچوز غيري ، وهتشوفوا !!
وثب أبيها ليصفعها بلطمة قوية على وجهها وسرعان ما ارتمت في حضن أمها وهو يحذرها:
-هارون لو چيه بنفسه وقال عاوزك أنا مش هقبـل .. وهقوله معنديش بنات للچواز ..انسي يا زينة حاجة اسمها هارون..
حزنت نغم على حال أبنة خالها والحالة التي وصلت لها بسبب حُبها المرضي ، فقالت :
-أنا ماشيـة يا خال .. ومش هتأخر ..
ثم لحقت بها زينة وهي تشد غطاء رأسها :
-أنا هروح اشتكي لعمتي صفية منيكم ..
••••••••••••••••
~بغُرفـة أحلام .
-هاشم أخوك مش عاچبني يا هارون !! الواد دِيه مخبي حاچة !
أردفت أحلام جملتهـا بشكٍ على مسامع هارون الذي كان منشغلًا في مراسلة ليلة على " الواتساب " ، لقد كانت تأخذ رأيه بثيابها المقفولة قبل النزول لـ تصوير الحلقة .. رد على أحلام :
-هابقى أشوفه واتكلم معاه يا أحلام ..
رمقته بتخابث وهي تعلم بهوية من يحدثه صاحبة الابتسامة الفريدة التي تُرسمها وحدها على وجهه ، عصفورته التي تشكي لها لوعة الحُب كُل ليلة ، لقد وجدت بحنيتها أمها المفقودة ، سألته بمكـر :
-طب هي زينـة دِلوق وصحتها حِلوة !
-هي مين يا أحلام ؟
-اللي عتكلمها يا قلب أحلام !!
هنا رنت ليلة لتأخره عليها في الـرد فوثب ليقبل رأس أحلام متأهبًا للذهاب لينفرد بصوتها بين أربع حيطان لوحده بعيدًا عن أعين أحلام الكاشفة لأمره رغـم عدم نطقه بكلمة :
-مش كبرنا على الحركات دي يا أحلام .. ديـه كُله شُغل .
ثم فر من الغرفة متجهـًا لغرفته وهو يعاود الاتصال بها …
بالمطبخ كانت زينـة تنوح وتندب حظـها على مسامع عمتها التي تنشغل بمهام المطبخ ، فجاءت زينة مقترحة :
-أيه رأيك أعمله كوباية لمون وأروح له .. يكش يحنن قلبه علي..
ملت صفية من نواحها :
-قومي أعملي اللي عاوزاه وحِلي عن نافوخي يا زينة ، فيّ اللي مكفيني ومطفطف ..
تدخلت فردوس :
-ارتاحي يا ستِ زينـة ، هعملوله أنا .
عادت زينـة لتجلس على مقعدها بمضض وبريق الشر يتلألأ من أعينها ، انتهت فردوس من إعداد العصير ، فخطفته من يـدها :
-هاتي أنا هودي له العصير ، يمكن القلب يِحن والميـة ترچع لمچاريها ! أدعولي أحسن أموت فيهـا ..
قطفت زينة الكوب من يدها ، وصعدت لأعلى متجهة نحـو غُرفـة هارون وهي تتفقد أجواء البيت حولها بنواياهـا الخبيـثة بحرص كي لا ينكشف أمرها .. توارت خلف أحد الجدران كالحيـة لتبخ سُمهـا بالعصـير ..
كان هارون جالسـاً على مكتبه يتحدث مع ليـلة التي تتأهب للنزول لتصويـر حلقات اليـوم وهي تُلملم عدتها وتمنحه تقريرًا كافيًا ووافيـًا حول خط سيرها اليومي ، حتى نوع القهوة الذي ترتشفه بيدها أخبرته عنـه .. ما فرغت من كل شيء جلست على طرف السرير قائلة:
-وأنت بتعمل أيه ؟!
قفل دفتـر حسابات الزراعـة من أمامه وقال والابتسـامة لا تُفارقه :
-عكلمك !!
تدلل صوتها الذي يبطن بالضحك :
-الله مفيش شغل النهاردة ولا ايه ؟!
رغم جدية ملامحـه إلا أنا بسمـة المتعة بسماع صوتها كل ساعة لم تفارقه رغم انشغال عقله وعينيه بالمهام التي يُنجزها إلا أنه دومًا ما يتعمد أن يشعرها بأن أي شيء يمكن أن يتعطل لأجلها ، فقال :
-لما تقفلي هشتغِل ..
أصدرت صوت إيماءة خافتة وسألته بتوجس :
-أنا لو طلبت طلب ممكن تفكر فيه وتنفذه .. طلباتي كتير أنا عارفة !!
-أيه عاوزاني أچيلك اسكندرية اشرب معاكي شاي ولا قهوة المرة ديي !!
أطلقت ضحكة طويلـة عندما تذكرت هذا اليوم الذي تحدته فيه ونهضت الصبح وجدته بانتظارها بأحد المقاهي القريبة منهـا :
-لا المرة دي بجد ، لو طلبت طلب صعب شوية هتنفـذه ؟!
وثب من مكانه وهو يُعيد الدفتر للخزنـة ويفتش على ورقة آخرى :
-علشانك يحصل يا ليلة ..
اتسعت ابتسامتها وهي تعبر عن إعجابها بجملته التي لا تُعارض لها طلبًا :
-بحب اسمعها منك أوي .. بحس أني شخص غالي عندك كده ومهم وو كل طلباته مُجابة .
وقف في منتصف الغُرفـة معبرًا بسطو قلبه :
-ما أنتِ غاليـة بحق !!
-إذا كان كده اطلب بقى بقلب جامد ..
ثم غيرت مكانها لتنتقل أمام المرآة وهي تراقب ملامحها المشعة بحُب رجل المستحيل ، رجل لا يجمعها بهِ إلا الحُلم وقالت مترجية بأمل:
-هارون .. سبق وقولت لي إنك مستحيل ترجع القضاء صعب ، بس أنا نفسي ترجع تشتغل دكتور في الجامعة تاني !! أنتَ مكانك هناك .. المكان ده اتعمل عشان واحد زيك ..
ترك الدفتر من يده على سطح مكتبه وعلى وجهه ملامح الرضا والفرحة باهتمامه بهِ وبمستقبله ، تحرك ليقف أمام النافذة يراقب غيوم السماء التي تُقاومها الشمس لتنصهر وتتحول لغيث جديد بجمال نظراتها وهي تتطلع إليه ليقول معترفًا :
-أنا بالفعل عملت كِده يا ليـلة ، وقدمت طلب لرئيس الچامعة من كام يوم ومستني الرد عليـه .
فزعت فارحة :
-بجد !! وماقولتش ليه !! ده أحلى خبر أنا سمعتـه أنت ازاي تخبي عليـا خبر زي ده؟ أنـ
قاطعها بهدوء:
-كنت مخليهالك مفاجأة وأهي اتحرقت ، زي حاچة كمان بس مش هتعرفيها غير لما تتم .
كان قلبها يُراقصها من شدة السعادة وهي تسأله بدلال لطيف:
-يعني مش هتقول لي وهتسيبني بفضولي كده !
-لغاية ما تحصـل قُلت ..
-أنا مبسوطة أوي ، يعني راجل جامد في مكانتك وكمان هتبقى دكتور في الجامعة وتكون فارس أحلام كُل البنات هناك ، بس أنت المفروض تكون في قلبك واحدة وبس كل اللي يقرب منك يشوفها في عيونك .. وممم كده باقي العروسة وهتبقى الصورة كِملت يا دكتور ..
تنهد مبتسمًا ملمحًا بنيته نحوها :
-طب دعواتك عشان شكلي لقيتها ..
تنهدت متمنيـة بحدوث معجزة بينهما :
-بجد يابختها .. هتعرفني عليها ؟
ثم حملت حقيبتها متأهبة لمغادرة الغُرفة وهي تتنفس حبه وسألته بنفس النبرة الحنونـة برغبة جامحة في البقاء معه لآخر عمرها وهي تقفل الباب ورائها :
-طيب سؤال كمان ، هارون القـديم اللي بيكلمني .. لو حب ،قصدي ولو قلبه طلب حاجة مستحيلة هيتصرف ازاي!!
-هيهد الدِنيا بحالها علشان ياخدها …
خفق قلبها فارحًا :
-بجد !!!
بدهاء المحاميين أدرك مقصدها ، أدرك أنها تود أن تطمئن على حالة قلبها بصحبته ، تود أن تعرف مصيرها معه ، طوى كل صفحات اعترافه بمشاعره رغم أن كل تصرفاته وأفعاله أقرته حقًا ، عاشق مع وقف التنفيذ ، منتظرًا الوقت المناسب ليُفجر طلبه واعترافه برغبته فيها صراحة ، نواياه التي تتجه نحوها أن تكون هي وحدها حلاله وزوجتـه أمام العالم … أن تكون له بدون عوائق ..
استأذنت منه لرؤية أمها أمامها تود التحدث معها ، وفي تلك اللحظة طرقت زينـة الباب فسمح بدخول الطارق قبل معرفته لهويتهـا .. دخلت زينة لغرفته وقدمت له العصير .. أخذ الكوب من يدها دون التطلع بوجهها ووضعه على سطح مكتبـه قائلًا وهو يشتت نفسه عنها:
-تشكري يا زينة.. تعبتي روحك .
تابعته بتوسل:
-هارون ، ما بزياداك چفا ، وخلينا نرچعوا والفرحة تبقى فرحتين .. محدش هيحبك غير زينة يا عمدة ..
تأفف ممتعضًا:
-زينة قفلنا الحديت في الموضوع ديه وقولت لك أنا مش عاوز اتچوز يا ستي ، ربنا يكرمك بالأحسن مني.. طلعيني من راسك .
-مفيش في عيني أحسن منك ولا رايدة غيرك يا عُمدة ، أنا ليّ شهر لا باكل ولا أشرب ولا دُوقت الزاد من حزني عليك .. طب زعلتك في أيه علشان تسيبني !
تأفف مختنقًا ليلتهم كوب عصير الليمون ليهدئه قائلًا:
-زينة قِعادك إهنه غلط ، اطلعي وخدي الباب في يدك .. مينفعش أصلًا تيچي لإهنه .
رفعت جفونها وهي تراقبه لينهي كاس العصير كله ، فتسرب الارتياح لنفسها ، ظلت تراوغ على مسامعه كالحية ، تفتح بوابات مواضيع كثيرة ليس لها أي علاقة ببعضها ، تعمدت أن تمد وقتها معـه أكثر ممـا يمكن حتى سرى مفعول المُخدر بجسده وباتت الزغللة والرؤية المشوشـة تطارده ، ما لاحظت بوادر نجاح مخططها دنت منه وظلت تبادر بلمسات بغيضة ، لامسات مليئة باللهفة والطمع في الاستيلاء عليه عمدًا .. غمغم بدون وعي :
-بت حاطة أيه في العصير !!
مرت قرابـة السـاعة فهبط هيثم من سيارته راكضًا نحو أبيه الجالس بالحديقة وهو يأخذ أنفاسـه بصعوبـة بالغة :
-ألحق يا أبوي ، نصيبة والبلد كُلها مقلوبـة ..
نهض خليفـة من مكانـه مذهولًا :
-نصيبة أيه يا وِلد ، انطُق .
-هارون قَدم طلب الصُبح للمچلس عاوز يلغي چواز الدم من العزايـزة ، والدِنيـا مقلوبة قلـب عليـه .. ومحمول هارون ما عيردش عليه .
هرول خليـفة للداخل وهو يصيح مناديًا على هارون ، فخرجت صفية ترتعـد :
-خير يا خوي ؟!
-فين هارون..؟
ردت بعجل وهي تُجفف كفوفها المبتلة بملابسها وهي تصعد لأعلى منادية عليه خوفًا من غضب خليفة الذي يتطايـر :
-هركب أشوفهولك .. وأنت ياهيثم روح بص عليه في أوضته اللي في الچنينة !! بس هو عمل ايه بس !!! يا هارون يا ولـدي ..
أسرعت صفية الخُطى وهي تهلل :
-استرها علينا يا رب أحنـا مش ناقصـين مصايب ..
وضعت يدها على مقبض الباب ودفعت الباب فجأة للتفاجئ بجفونه تتراقص تحت نور المصباح وزينـة المتجردة من ملابسـها ، ترتدي قميصـًا قصيـرًا للغايـة نائمـة بحضنه ، أخذت تندب على وجهها وهي تقفل الباب وتنوح فوق رؤوسهم ، ففزعت زينـة التي تُمثل النـوم وهي تتوسل لها وتراقب هارون الذي يقاوم سطو نومـه :
-استري عليا يا عمـة .. أنا معملتـش حاجة ..أحب على يدك متفضحنيش أبوي يقتلني فيها !!!
ثم تعمدت رفع الغطاء لتُريها الزهرة الحمراء التي تدنس فراشـه لإثبات التهمة عليـه فصرخت صفية بعدم تصديق وأعين مُبرقـة وهي تضرب على صدرها كثيرًا :
-يا مري !! يا نصيبتي !!يا مري يا مراري !!!! يا الفضايح !! يا حزنك يا صفية على عيالك !!