رواية آصرة العزايزة الفصل الثامن والعشرون بقلم نهال مصطفي
قرأت ذات مرة نص شهير يقول :
"لا تُطعم طعامك إلا لمن يشتهيه."
وهنا يتحدث عن البذل في غير موضعه، وآيضًا عن مشاركة إنجازاتك وخطواتك مع مَن لا يأبه لها.. أو بالأحرى لا يأبه لك "أنت"…..
•عنوان الفصل :
( قُل لي بربك من تكــون )🍂
••••••••••
~العـزايـزة .
يجـلس " خليفة " مكفهر الملامح أمام هيثم الذي غلب سلطان النوم سلطان هواه في مرافقة لليـلة لبلدها ؛ وهو يلومه :
-أنت عُمرك ما كُنت قَد أيه حاجة اطلبها منك !! يعني أيه تنام وتخلي أخوك يسيب مصالحه وخطيبته ويوصلها هو !! وأنتَ فاضي لا شغلة ولا مِشغلة .
ضرب كفًا بكف وهو يقول :
-هي مش قالت مسافرة ٦ الصبح ، صحيت لقيتها مشت ، أيه ذنب هيثم يا عمدة !! المرة الچاية هنجـم وأقرا الأفكار عشان يبقى لي شُغلة ومِشغلة ..
كانت أحلام بينهمـا غارقـة في الضحك لتأكدها يوم بعد يوم من مشـاعر هارون ناحيـة ليلـة ، فربتت على ظهر خليفة بنوايا خفيـة :
-هو أيه وأخوه أيه بس يا حج ، ما واحد ، كبر مخك وخلي هارون يشم شوية هوا نضاف بعيد عن العزايزة وغُلبها ..
-استنى أنتِ يا أحلام .
ثم تطلع لابنه معاتبًا :
-أنت ما روحتش ليه شُغلانة البنك اللي أخوك چابهالك !!
-يا وقعة سودة هي أي عركة وخلاص !!
قال هيثم جُملته وهو يحك برأسه ليبرر سبب عدم ذهابـه بعفويته :
-أصلهم بيصحوا بدري قـوي!!
-أيــه !!
برر بحُجة :
-لا منا رُحت المقابلة وشكلي معجبتهمش !!
اختنق خليفة من استهتار ابنه :
-يعني ايه معجبتهمش !! هو لعب عيال !!
هب هاربًا كالفأر من القـط الذي تحالف عليه للتـو :
-قالولي هنشوف ونردوا عليك يا حچ !! وبعدين أنا اتفقت مع هارون همسك المصنع الواقع ديـه وهخليه أكبر مصنع في صعيد مصر ، أنت خليك واثق في هيثم حبيبك .
رد بيقين :
-والله ما واثق فيك من هِنه للباب ، عمرك ما اخترت حاجـة عِدلة ونفعت فيها !!
فتدخلت أحلام التي زاد حُبها لهيثم إثر عدم ذهابه مع ليلة وتركة الفسحة للعاشق أخيه لتقول مداعبـة :
-هو من بعد ما ساب الهندسـة وخش تجارة والواد خاب يا حچ !
غمز لها كي تهدي النفوس لا تُشعلها :
-خليكي فاعل خير يا أحلام وانا سبتها بمزاجي !! منا سقطت وبعدين مالها تِجارة دي كُلية الشعب وأنا من الشعب !!
ثم وشوش لها بضحك :
-هو مش الشعب ده كله بنات تتاقل بالدهب !!بيني وبينك انا مسقطتش بكيفي ، دول بنات هندسـة معجبونيش ، لقيت بنات تجارة أنقح وأحلى ..
ثم تنهد وهو يمسح على صدره :
-وأنتِ عارفة قلب هيثم ضعيف ..
ضرب خليفة الأرض بمؤخرة عكازه وهو يتمتم :
-عليا النِعمة ما أنت نافع ! وما هتتلم غير لما أجوزك .. وعروستك لقيتها ..
تلهف هيثـم لجُملة أبيـه :
-أنا في عرضك ألحقني بيـها ومش هنسالك الخِدمة دي .. هي مين ! حلوة كيف أحلام ولا عفيـة كيف صفية !!
قرأت أحلام بعينيه ترشيح ليلة لهيثـم فتدخلت لتنقذ الموقف قبـل أن يعلق ابنه بآمال خائبة وقالت :
-أمشي يا هيثم أنتَ دِلوق ..
-والعروسة !!
-اختارها وهجوزهالك أنا .. يلا .
انصرف هيثم على الفـور بدون أيه نقاش إثر رنيـن هاتفه من أحد الخفر المعينين بمراقبـة " جميلة " ، فخرج وقفل البـاب خلفه :
-أيـوة يا مرسي !
توارى مرسي خلف الشجرة وهو يقول متهامسًا :
-ايوة يا هيثم بيه ، الست جميلة خرجت من بيتهم الساعة ٧ و٤٠ دقيقة ، راحت الأجزخانة قعدت بالظبط ٧ دقايق ثم عادت وبحوذتها كيسة سودة ، بس معرفتش چواتها أيه !!
-أعرف وكلمني !
ألتفت خليفـة لأحلام وهو يشكو لها :
-عاوزة أقرب البت من هيثم عشان أجوزهاله وهو زي ما أنتِ شايفة ، حارق دمي !
عاتبـته أحلام بلُطف:
-كيف يا حچ وأنا اللي عقول عليـك تفهمـها وهي طايرة ، هيثم مش رايدها دي واخدها كيف أخته ، بس هارون يا عيني وياقلبي على هارون ..
برقت عيني خليفـة على تلميحات أحلام :
-قصدك أيه يا أحلام !!
-قصدي الحب ملى قلب هارون وخلاه يهمل الدِنيا كلها ويروح معاها على اسكندارية .. أنا كنت شاكة بس دِلوق اتاكدت ، ولدك حب غُفران يا حج ، حب بيتنا من دمنا ومن لحمنا ..
رد مندهشًا :
-يعني ايه !! وخطيبته !! طب كمل ليه وهو مش رايدها !
-عشانه الكبير ومش عاوز يعلق قلبه بحبال دايبـة ، ما يعرفش اللي فيها يا حبة عيني ، ورط نفسه قبل ما يتورط في قلبـه ، بس هنقولوا أيه الحب كيف الدخان مهما حاولت مش هتعرف تداريـه !
-هو قالك حاجة!
-ماقالش ، ما أنت خابر هارون زين ومستحيل يكسر عُرفنا ، هارون هو عريس غفران ، هو اللي هيقف في ضهرها قصاد العزايزة ويفرض وجودها على الكُل ، البت عاوزة ضهر شديد تتكي عليه ..
ثم امسكت بكفه :
-اتصرف يا حج قبل ولدك ما يتورط في بت صالح مهياش توبه ..
-البلد مقلوبة على هلال واللي عمله وإحنا مش حِمل نفتحوا طاقات نار في وشنا ، قلت اصبر شهر ولا اتنين تكون الدِنيا راقت .. بس أنا مخلي عيني على البت وأمها ..
تأوهت أحلام بسرها :
-ااه أمها القرشانـة دي _ثم غمغمت بالسر المدفون بينها وبين هارون_يارب يا هارون تعرف توقفهـا عن حِدها..
~بالمطبخ ..
دخل هيثم وراء ثرثرة زينة التي تدوي بالمكان وهي تتشاجر مع الهواء الذي تتنفسه :
-يِلد عليكي الحال ديه يا عمة !! أنا من ساعة ما سمعت اتكربجت حطيت الطرحة على راسي وچيت لك جري !! يعني ايه يهمل مصالحه ويروح معاها !! اااه يا ناري ؟ ايه هتتخطف فـ السِكة ماهي زي العفريتـة ملفلفة مصـر كُلها !!
ثم دارت لعمتها التي تصنع الجُبن بنفسها :
-واللي يشل تلفونه بيرن ولا حتى معبرني !! ياما يتقفل في وشي !! عمة انا الحال العوچ دي مش عاجبني !! شوفي لك صِرفة .
-وه وه يخربيتك !! كل ديه ريـحة شياط !! هتولعي يا حزينة !
اقتحم هيثم المطبخ قائلا جملته الأخيرة بسخرية ، فانفجرت زينة بوجهه :
-هيثم مش ناقصاك ، رن شوف لي أخوك عيعمل إيه مع البت دي !
سحب ثمرة فاكهة من الطبق الكبير أمامه وقال :
-آكيد قاعد على البحر بيضرب وكلة سمك من اللي يرموا العضم !
-مع البت دي ؟!
-أومال مع أبو چالمبو !! طبعًا مع القمر ..
ضربت على سطح الطاولة بغلٍ :
-واعية لتصرفات عيالك يا عمة !! هي البت دي ملهاش أهل يلموها بعيد عنينا !!
-طب بذمتك يا صفية مش البيت دمه تقيل من ساعة ما مشت والله ما طايق اقعد فيه !! البت كانت عاملة روح في البيت ، مش زي واحدة كل ما شوفها بتنوح !!
ثم مال على مسامع أمه :
-لقيتي أيه عِدل في جواهر دي عشان تجوزيها للراجل العاقل اللي حيلتنا ..
هبت زينة معترضة :
-وهو أخوك كان هيلاقي ضُفري فين ! ديه مفيش راجل في النجع كله متقدمش لبت صالح .. لولا بس القلب وما يريد!
-قصدك القلب لما يخيب !!
ثم دنى منها وهو يستلذ بمذاق الفاكهة وإغضابهـا :
-تعرفي يا زينة أن في أسطورة عتقول ، لو بينك وبين الراجل اللي عتحبيه حرف واحد مشترك في اساميكم ؛ يبقى ديه اسمه حُب من طرف واحد وهيموت عطشان بعون الله !
انفرجت عينيها :
-كـيف ديه يا هيثم!! خدتها في الكُتب !!!
••••••••••••••
~اسكندريـة.
عم الصمت على غصن الصدمة وكل منهما يحاول إدراك هول الموقف الذي عجزت الكلمات عن وصفه .. اعتدلت نادية من نومتها لتبرر بوقاحة :
-ليلة .. متفهميش غلط أنا وأونكل رشدي متجوزين !
حانت منها نظرة ساخطة على اعترافها :
-على سرير بابي !! وفي أوضة نومه !! ليه تعملي فيه كده .. هو ده اللي تعبانة وتعالي فورًا يا ليلة !!
ثم بللت حلقها الذي جف من قسوة الصدمة وحانت منها نظرة مهزوزة لرشدي :
-طيب وطنت أميرة !!تستاهل منك كدا ..دي أكتر واحدة وقفت جمبك ؟!
ثم انخرطت العبرات من مقلتيها هي تضرب الأرض بقدميها :
-أنتوا أزاي كده ؟! أزاي !!
تأهبت نادية لمفارقة فراشها بقميصها القصير للغاية.. فتحاشت ليلة التطلع إليها بضيق:
-لو سمحتِ .. أنا ماشية وياريت متعملوش صوت عشان معايا ضيوف تحت مش حابة يشوف مامي وهي متجوزة في السر ..
ثم انحنت والتهمت حقيبتها وصفعت الباب خلفها وهي تأكل خطاوي الأرض ركضًا وسُخب عينيها تمطر حزنًا وقهرًا .. اقتربت من هارون الجالس وهي تحاول إخفاء دموعها عنه بأسف :
-لو سمحت يلا نمشي من هنا ..أنا أسفة بس .
وقف ببطء وهو يتأمل وجهها الشاحب :
-مالك !! وشك متغير ليه ؟!
كفكفت دموعها بكفها المرتعش وهي تجر حقيبتها متأهبة لمغادرة البيت وهي تترجاه :
-لو سمحت ممكن متسألنيش أي حاجة مش حابة اتكلم .. وو و يلا بينا من هنا بسرعة ..
أخذ الحقيبة التي تجرها من يدها وغادر الثنائي البيت بعجلً في اللحظة التي انتهت فيها نادية من ارتداء روبها الطويل خارجة من الغرفة تبحث عنها وتنادي باسمها .. فعادت بأسف لرشدي الذي يكمل ارتداء ثيابه وهي ترتمي على أقرب مقعد :
-مشيت .. أنا هبص في وشها أزاي يا رشدي بعد النهاردة .. موقف زي الزفت .
اتبع رشدي مبررًا جريمتهما بوقاحة :
-متكبريش الموضوع يا نادية ليلة مش عيلة دي مش صغيرة وفاهمة .. و اللي حصل حصل مش معقولة هتعملي حساب لبت فاشلة وهبلة زي دي !
انفجرت بشكواها :
-مكنش لازم تعرف دلوقتي يا رشدي .. كدا فقدت السيطرة على ليلة .. و دي فقدت فيا الثقة كمان !! خسرنا كل حاجة .
ثم أكملت وهي ترجع شعرها الفوضوي للوراء :
-هي قالت جاية بكرة أيه جابها النهاردة بس !!
عاتبها :
-وأنت مادام عارفة أن المفاتيح معاها !! مقفلتيش ليه الباب يا نادية !!
تناولت يدها المرتجفة كوب الماء وأحد الأقراص المهدئة التي ابتلعتها على الفور وأتبعت :
-استلمت العشا من الدليفري ونسيت يا رشدي نسيت .. وبعدين كفاية كلام شوف لنا حل للورطة دي !!
علق الكرافت على كتفيه وهو يسب بليلة علنًا كأن هناك ثأر قديم معها :
-فصلت الدماغ اللي عاملها بت ال***
ثم جلس بجوارها وقال بمكر ذئب لعوب :
-ولا حاجة يا نادية سبيها يومين تهدأ .. وكلمها وشوية شحتفة من بتوعك على دمعتين وهي هتحن وترجع ..
ثم حك ذقنه مكملا حياكة خطته الدنيئة :
-وأنا هكلم شريف يخلصنا من التهمة دي ويتجوزها في أسرع وقت .. نادية الأرض اللي في العلمين دي كنز لوحدها .. لازم ناخدها منها حتى ولو التمن روحها ..
اختلج قلبها عند سماعها لجملته الأخيرة إثر تلميحه بنواياه الخبيثة جهة ليلة التي يود قتلها لمجرد الحصول على مصلحته .. فهبت معترضة :
-لا يا رشدي .. ده مش اتفاقنا .. الاتفاق أننا نطلعها فاقدة الأهلية مش نقتلها .. دي بردو بنتي وو
ارتدى قناع الإقناع وهو يقبل كفها:
-منا عارف يا حبيبتي مفيش أحن وأرق من قلبك .. بس المصلحة تحكم .. واتمنى ما نوصلش لكده .. أنت بس كسفي الجرعات عليها الفترة دي خليني أسدد ديوني وأفوق لك وأطلق أميرة وارمي لها فلوسها عالجزمة وناخد بيت لوحدينا بعيد عن الدوشة دي ..
ثم طبع لدغة العقرب كفها بقبلة أخرى :
-أنت عارفة أن رفعت الجوهري اشترى الأرض دي من أبويا بكام !! بملاليم !! وحاليًا سعرها يوصل كام!! ملايين الملايين !! مش حرام كل الفلوس دي تبقى مع البت الهبلة اللي اسمها ليلة ..فكري فينا يا ندود ....يرضيكي رشدي حبيبك وجوزك وابن عمك يتحبس وانتي في إيديك تنقذِه من الحبس !!
قتلت أخر ذرة من مشاعرها صوب ليلة التي تربت على يديها :
-تمام يا رشدي .. اديني شهرين بس وموضوع ليلة دي كله هيخلص والأرض هترجع لك ..
رسمت الضحكة على ملامحه :
-هو ده الكلام وهي دي نادية اللي أعرفها ..
بسيارة ليلة والتي يقودها هارون الذي لم يكف عن التطلع لها في صمت بناءً على رغبتها كان يتبع الخريطة كي ترشده على الطريق للفندق الذي حجز فيه قبل ساعة .. كانت جالسة في مقعدها ترتعش من البرد ومما رأته وتهذي بكلمات غير مفهومة لتختم صرختها بالسؤال المعتاد والذي يفتقر الرد وهي تخبط في صندوق السيارة أمامها :
-ليـــه ؟!ليـه كده !!
لم يتحمل رؤيتها في هذه الصورة وهو يشعر بالعجز في تخفيف همها الذي شك في سببه بدهائه ولكنه ما زال مجهول عنه زفر بضيق وهو يصف السيارة جنبًا وهبط منها بدون أي كلمة ..
كل ما فعلته تكورت بداخل مقعدها ودفنت وجهها بيدها وهي تتوسل للذاكرة أن تمحو صورة أمها وقدوتها من ذاكرتها وهي تئن بآهات مكتومة .. غاب هارون عدة دقائق حتى عادي وبيده علبتين من القهوة التي ابتاعها من المتجر المختص بها ..فتح بابها وقال بهدوء :
-هتحبي تشربيها فى العربية ولا تنزلي تقعدي على البحر ..
رفعت جفونها وهي تراقب يده الممتدة لها بالمواساة .. فأخذت منه القهوة بمهلٍ وقالت بفتور :
-عادي .. أي حاجة .
قفل باب السيارة ودار ليجلس بمكانه وهو يحكم قفل الأبواب ويلقى نظرة على البحر الثائر على يمينه كحزنها تمامًا وقال:
-الجو صعب .. خلينا في العربية أحسن .. عشان متبروديش .
أخذت تلتمس دفء يديها من الكوب الساخن ورمقته بعينيها التي لم تكف عن البكاء قائلة :
-أنا ليه بيحصل معايا كل ده !! ليه بجـد ..
نزع غطاء كوب القهوة وهو يقول :
-أنا مش عارف أيه اللي حُصل .. بس أحلام تملي عتقول أن رب العالمين مش بيجيب حاجة وحشة .. كل حاجة ليها حكمتها ..
لفت الكوب بين يديها وهي تخر بالبكاء خارجة عن صمتها وكتمان وجعها أكثر :
-طيب وأيه الحكمة اللي تخليني أقضي أحلى سنين عمري في مدرسة داخلي .. أيه الحكمة اللي توجع قلبي على جدو وبابا .. أيه الحكمة اللي تخليني أخد أدوية وأنا لسه في السن ده !! أيه الحكمة اللي معطلة تحقيق حلمي لحد اللحظة دي ..
ثم انخفضت نبرتها المقهورة وهي تطالع عينيه التي تراقبها باهتمام بالغ وقالت :
-أيه الحكمة من إني أشوف مامي في سريرها مع واحد غير بابي ..
ثم اختلج قلبها وارتفع صوت أنفاسها وهي تقول :
-أسفة مكنتش حابة أحكي بس جوايا نار مش عارفة تهدأ ..
تأكد من شكوكه التي تزاوله منذ مفارقتهما لبيتها في هذه الحالة .. تنهد بضيق وهو يمضغ حزنه عليها بين فكيه ويتحاشى النظر إليها شاردًا في حقيقة هذه السيدة التي تثور حولها الشكوك .. أخرج نفسًا طويلًا وهو يعصر مقود السيارة بيده مغلولا ويعاود النظر إليها وهي تقول :
-مامي طلعت متجوزة بابا شريف في السر .. طيب ليه تعمل كده !! ليه وهي مش مجبرة لو عايزة تتجوز تقول أنا مش همنعها.. بس ليه في السر !! ومالقيتش غير بابا شريف !!وطنت أميرة صاحبة عُمرها !
أطفئ النيران التي تحرق دواخله برشفة من قهوته وأتبع قائلًا ليلطف الأجواء بينهما :
-وايه الحكمة اللي تخليني سايب كل مصالحي وقاعد اتساير معاكي ونشربوا قهوة على البحر !!
أرسلت إليه نظرتين مهزوزتين وأخبئت الثالثة بقهوتها وهي تتمتم :
-مش عارفة !!
-شوفي يا ليلة .. مش لازم كل حاجة تحصلنا نعرف حكمتها في لحظتها .. الانسان مش ملزم يعرف كل حاجة في حياته ..
ثم ملأ رئته بنفسٍ طويل ممزوج بعطرها وأكمل :
-يعني لو جينا قبل عشر سنين وسألتك أيه الحكمة من واحد كان بيلم شنطة هدومه عشان يتحرك على مصر في اليوم اللي صدر فيه قرار تعينه عشان يكون قاضي عسكري !! لقى أبوه واقف قصاده وقاله مش توبك .. أنت توبك العمدية وكرسي أبوك .. العزايزة عاوزة راجل من جبال زيك ..
لمعت عينيها بشغف الدهشة :
-ده المفروض انت ؟؟ وسمعت كلامه طبعا وضحيت بمستقبلك !!
رد مقتنعًا غير نادمًا على قراره :
-أبويا أمر يا ليلة ومينفعش أكسرله كلمة حتى ولو غلط .. ديه كلام ربنا هو مخلفنيش عشان أخيب أمله في ، وأصغره وسط الخلق...أو على الأغلب دي مشكلة الكبير بيكون شايل المسئولية .
-أحيـــه بجد !!!
رفع حاجبه ممازحًا :
-مفيش فايدة فيكي !!
رسمت ابتسامة خفيفة على وجهها لا تتناسب مع أجواء حزنها الذي سحبها منه بدهائه وفطنته .. فقالت :
-لا أنت هنا في اسكندرية يعني أقولها براحتي ..
-مش براحتك قوي .. استني لما امشي ابقى قوليها براحتك ..
-ما أنت قولتها على فكرة .. ولا تحب أفكرك !
ضحك بوجهها منتصرًا على حزنها الذي يملأه :
-ما انتِ تخرجي الواحد عن الملة مش عن شعوره وبس ..
كانت تتأمله كأنه طوق النجاة الوحيد لشخص غريق وهي تقول :
-بجد بجد شكرا لانك معايا في الظروف دي .. مش عارفة لو مكنتش هنا أنا كمان ممكن أروح فين .
انكسر غصن من شجرة تمرده على قلبه ليفول بهدوئه الاعتيادي :
-ولا حاجة متكبيرش الموضوع يا ليلة .. امك اتچوزت معملتش حاجة حرام .. ااه حقك تزعلي بس يومين وهتتقبلي الموضوع ..
ثم أتبع من وراء عقله :
-اقعدي معاها وأفهمي الدنيا ... يمكن عندها عذرها ..
تأرجحت عينيها بشك :
-انت شايف كده !!
تأهبت لقيادة السيارة :
-ديه كلام العقل .. في الأول والأخر دي أمك ومن حقها تعيش حياتها كيف ما هي عاوزة ..
صمتت للحظة تفكر في كلامه وهي تضع الكوب بمكانه بالسيارة :
-بس هي لو كانت بتحب بابي مستحيل تقدر تتجوز غيره ..
رد بملل :
-الأيام اللي أحنا فيها تنسي الواحد اسمه .. مش هتنسي الحب !!
-ااه طبعا .. انا لو قلبي حب حد مستحيل يعيش مع حد غيره .. ده ما يبقاش حب ..
رد بنبرة العقل :
-ده يبقي هبل يا ليلة .. الحُب اللي يسجنك يبقى قِلته أحسن.. متخليش حاجة تِلوي دراعك وتشغل قلبك .. متخليش فرحتك متعلقة على وجود نفر.
أجابته بنبرتها الحالمة :
-الحب مش هبل .. الحب أحلى حاجة في حياتنا .. والحياة كلها شخص واحد نرتاح له يا عمدة ونعيش معاه العُمر .. أنتَ ليه مصمم تحبس قلبك في تابوت!! ليـه مش سايبه يحب ويتعلم ويغلط ، ليه كل حاجة محسوبة أوي عندك!! كده مش صح .
أرسل لها نظرة خاطفة :
-ونلاقوه فين الشخص ديه !!
-مش لازم تلاقيه .. هو هيجي لحد قلبك ويفتح الباب ويتربع جواك وأنت مش هتقدر تقوله لا .. ولا تمنعه .
ثم عادت لأخذ الكوب الخاص بها وأتبعت بمزاح :
-بس انا مبسوطة بجد أنك عرفت تقول ليلة .. معرفش ليه كنت مصمم على ليلي دي كانت تضايقني ..
رد ببرود :
-منا كنت قاصد .
-قاصد تقول لي ليلي ؟
-لا قاصد أضايقك ...
هبت كالطفلة بوجهه :
-ياسلام!!وأنا كُنت عملت لك ايه يعني؟! انت والدُنيا عليا! ده مش عدل .
تحرك بالسيارة وهو يقول :
-لا هو ديه العدل عشان عضمك طري ، لازمًا تنشفي هبابة …
•••••••••••
"متى سينتهى الخريف الذي لا جرد روحي من كل شيء ، متى سوف تنتهي كُل هذه التناهيد الحارقـة، متى سوف تخرج هذةِ الليالي الموحشـة مني !"
عندما وصلت رسالة نصيـة لرغد بفتـح هاتفـه الذي ظل مُغلقًا لمدة أربعة أيام ، هرولت كالمجنـونة لتطلب رقمه من خط مجهول اشترته صباح اليـوم .. كان يتمدد على فراشه بجرح كتفه المتعري والمُضمد بالشاش الأبيض بالمشفى العسكري ، رفع جفونه لأعلى نحو الضابط رفيقـه وهو يقول :
-حمدلله على سلامتـك يا سيادة الرائد ..
رد بصوت متألم وهو يكتم صوت رنيـن هاتفـه ويقول بابتسامة رضا :
-عمر الشقي بقيِ ، يكش يضبط نيشانه المرة الچاية ويجيبها في القلب .
عارضه رفيقه :
-بعد الشر عنك يا باشا ، البلد محتاجالك .. شد حيلك لسه طريقنا طويـل ..
-وراهم وراهم لغايـة ما أخلص عليهم يا يخلصـوا هما عليّ ؛ مُحى مش عاوز أي خبر يوصل لناسي في الصعيد ، كُلها يومين وهبقى زي الفل ..
ربت مُحي على كتفه السليم :
-معلوم يا فندم ، هستأذن أنا عشان عندي دورية .. وهزورك الصبح ..
انتظر هاشم حتى غادر مُحى من غرفته الخاصة بالمشفى العسكري التي يقطن بها ليطلع على هوية الرقم المجهول بقلب يشُم رائحتها ، لم يستطع أن يتجاهل الرنين المتواصل ربما إنه في حاجة لمسكن صوتها ، اكتفى بسحب زر القبول ووضع الهاتف على مسامعـه ، فتسرب لقلبه أنفاسها المحترقة في محرقة الغياب ..
انتفضت من مكانها وهي تلهث مفطورة البكاء وهي تتوسله :
-هاشم ، عشان خاطر حُبنا متقفلش ، أنا رغد حبيبتك ومراتك وحتة من قلبك زي ما كُنت دايمًا تقول..
ثم هبطت بالأرض وهي تمسح الحائط بظهرها ، وأكملت باكية :
-طمني عليك الأول ، قلبي حاسس فيك حاجـة بس مش عارفة هي ايه ! أنت كويس مش كده ، ولا مش كويس عشان بعيد عني !! وانا زيك بالظبط بموت كل دقيقة ألف مرة .. أنا مش قادرة أعدي الساعات من غير ما استناك فيها !! بس يا ترى هتيجي أمتى ؟!
تكرر صدى تعب الرصاصة التي ضُربت بكتفـه وهو يعتصر جفونه من شدة وهج القلب الذي سمع احتراقه بموطن الجرح .. لم يصلها من صوته إلا آهات تحترق مثلها تمامًا ، تبللت أناملها بماء لعابها وهي تكمل شكواها منه إليه:
-كل حاجة وحشة من غيرك يا حبيبي.. هاشم بلاش تعمل في قلبي كده أنا ماليش غيرك .. صوتك وحشني ، اسم رغود منك وحشني.. حضنك واهتمامك ولهفتك عليا وحشوني؛ كل ده راح فين .. انا عمري ما هبطل استناك حتى ولو مش جاي يا هاشم !!
حرائق كلماتها اشتعلت بصدره وهو يستمع للمزيد منها كأنه أراد أن يروي قلبه منها ، فأتبعت :
-تعالى ننسى الماضي وننسى كل حاجة ونرجع ، أنا مخترتش أهلي زي ما أنت كمان مخترتش أهلك .. أهلك اللي لو عرفوا بحقيقة جوازنا هيقتلونا ، مش هو ده السر اللي أنت مخبيه عليا ..
ثم احتنضت جوفها الذي يحمل مضغة حبهم الكبير :
-تعالى نهرب ونسيبلهم حياتهم الظالمة دي ، ونعيش أنا وأنت في أي مكان ، المهم أنك تكون معايا، هاشم انت اختياري الوحيد في الدنيا كلها متخذلنيش.. تعالى وأنا والله مش هعاتبك ، أقولك موافقة جوازنا يبقى في السر العمر كله بس متحرمنيش منك ..انا بموت بالبطيء يا هاشم ..
ثم ضمت ساقيها إلى صدرها وأكملت :
-هاشم متعملش في رغد حبيبتك كده ، زي ما أنا خبيت أنت كمان خبيت ، أنت التمن شغلك وأنا التمن حياتي .. والله ما تغلى عليك ؛ بس تعالى أموت حضنك مش عايزة أموت وحضنك واحشني … رد عليا هتفضل ساكت كتير ؟
رفس كمن يركل كُرة الحنين بقدمه وهو يشتعل شوقًا وشوكًا لرغد قلبه وهناه ليقول :
-أحنا الاتنين غلطنا يا رغد ، وبندفع التمـن ده .. معنديش حاجة أقولها غير أن ورقة طلاقك هتوصلك في أقرب وقت ..
من هذا الذي يتكلم !! أ هل هاشم القيادي رجل الجيش أم هاشم أليف روحها وحبيب عمرها !! من يكون ذلك القاسي الذي قدم لها شهادة وفاتها بسكين بارد وهي ما زالت حية ترزق بحبه !! لم ينتظر ردها بل أنهى المكالمة على الفور حتى انه لم يسمح لقلبه أن يسمع اعترافها بوجود طفل برحمها ما ذنبـه !! ما ذنبه أن يُعاقب بنفس عقابهم .. قفل جفونه وانكمشت ملامحه قابضة على جمر الحزن الذي يقلع حبيبة فؤاده من روحه .. أما عنها فانفجرت حد الانهيار العصبي كالبركان الذي لا يمكن أن يخمده أحد .
ويبقى التساؤل هنا :
"ما الخطأ في أن يتعلق الغريق بلوح خشب أو عود أو قشة لتنقذه من الغرق !! ما الجُرم في إشعاله لفتيـل من اللهب كي يُنير الدرب بعينيه فيحرقه !! ما الجريمة في سعى المرء ليحيا بعد ما قتلتـه الحيـاة فيُمت وهو يحاول!! ما الكارثة في حبي لك !! ما سينقصه العالم أن تركك لي لآخر عمري "
••••••••••••••
ذهب كُل من ليـلة وهارون لأحد الفنادق الراقية بالاسكندريـة .. حجز لهما غُرفـتين مجاورتين وبعد البحث المتعدد آخيرًا وجد الموظف غرفتين كطلبه .. صعدت ليلة غُرفتها ورمت أشياءها بملل ، ثم رمت جسدها على السريـر الذي يحمل النار والنور في آن واحد ، نار أمها ونور وجوده معها ، ضمت الوسادة لحضنها متمنيـة أن يبقى هنـا للأبد ، لا يفارقها ولا تفارقه لقد وجدت أمانها المفقود منذ سنوات مضت ، لقد كان لوجوده سحر الونس والأمان السند الذي تفتقده بحياتها ….
أما عنـه لم تخلٌ رأسه من الشكوك خاصة بعد رؤيته لأحد رجال أبيـه يختبئ أمام بيت ليلة !! فما السبب يا ترى !! أخرج هاتفـه ليتواصل مع الرجل الذي سبق و أوقف السيارة عنده قبل ساعتين ليعرف سبب وجوده وترك ليلة بالسيارة غارقة بحزنها لم تلتف لأي شيء حولها .. ظل يفكر دومًا حول ما يدور برأس أبيه ليراقب هذه السيدة وما صِلته بها ، حتى رد عليه الرجل بالهاتف فاكتفى متسائلًا :
-الراجل اللي كان فوق نزل !!
-نزل يا عمدة من نص ساعة ، الرجل ده كل ليلة يجي ويمشي الساعة ٢ بعد نص الليل ..
-تمام متبلغش ابوي بحاجة وخلي كلامك معاي !! وخليك ماشي ورا الدكتورة دي لغاية مانشوفوا أيه وراها ..
انتهت مكالمتـه مع الرجل وهو ينزع سترته الشتوية وملابسه ليأخذ حمامه الدافئ من مشقة الرحلـة ويقضي فروضه الفائته على مدار اليوم وهو يستغفر ربـه جهرًا ..
~في تمام السـاعـة الثامنـة صباحًا ..
استيقظت ليلة على صوت رنيـن هاتفهـا باتصال هارون الذي لن يعتاد النوم أكثر من ستـة ساعات ، ما صلى الفجـر وقرأ أوراده مثلما اعتاد مع أخيه هلال من قبل ، ظل يجوب بالغرفة بملل من الشُرفة للغرفة للتلفاز الذي يمله ويمل من مشاهدته ..
آتاه صوتها المفعم بالنـوم وجفونها المُغلقة :
-صباح الخيـر !
لا يعلم سبب خفق قلبه المفاجئ بنبضة غريبة عليه عندما سمع نبرتها هذه ولكنه ما زال محافظًا على نبرة صوته الشامخة والثابتة وهو يطالع البحر من وراء الزجاج:
-كله ديه نوم ! أنا عاوز افطر .. وأنتِ مجوعاني على فكرة !
ضحكت بخفـوت ودلالٍ يحتل نبرتها :
-طيب اديني نص ساعة كمان أكون فوّقت وجهزت .
قال مهددًا :
-نص ساعة لو مجتيش هستندل وانزل افطر لوحدي ..
-لا والله نص ساعة بس .. مش هتأخر عن كده .
قالت جملتها وهي تُفارق فراشها بسرعة وتركض صوب الحمام لتكون بالموعد ، كان يحركها شيء أسمى من خطوات رجلها ، ربما قلبها .. صوته ، سعادتها بوجوده ، فرحتها بلذة هذه المشاعر التي تعيشها لأول مرة .. قبل الموعد المحدد بخمس دقائق كانت تطرق باب غُرفته وهي في كامل أناقتها … فتح لها الباب والابتسامة تشغل ملامحه وهو يقول ممازحًا و يقفل باب غرفته خلفه:
-أنا كُنت نازل بس لحقتيني على آخر لحظة !!
-من غيري!
-الجوع والنوم ملهمش سلطان …
تابعت خُطاه :
-ليه بقا ..
ضغط على زر المصعد وهو يقول :
-عشان هما الاتنيـن سلاطين ..
كانت مع كل كلمة منه تتعمد النظر إليه كأنه الشيء المميز الوحيد الذي تراه .. وصل الثنائي الي المطعم وكل منهما سحب طبقـه ليملأه في " البوفيه " ودار الحديث بينهما وهي تسأله بحزن :
-أنت هترجع النهاردة!
كان منشغلًا بتعبئة صحنه الأبيض :
-لا قاعد معاكي يومين طلع لي شغلانة لازم اخلصها ، مضطرة تستحميلني..
-الله بجد !! خلاص مادام كده تروح معايا فرح النهارده.. أنا مكنتش ناوية أروح بس أي رأيك نروح سوا ! وننبسط شوية .
رفع حاجبه معترضًا :
-أروح فرح معرفش فيه حد!
-ما أحنا هنروح سوا ، بليـز وافق عشان خاطري ..
لم تمهله فرصة للاعتراض فأتبعت:
-أحنا هنروح لصاحب القناة عشان بيجي اسكندرية يومين بس سبت وأحد ، واقدمله الفيديوز وبعدين نلف سوا نشتري حاجات لزوم الفرح ، وحاجات ليك آكيد مش هتقعد باللبس ده يومين .. هاه قول موافق بقا ..
رغم عدم اقتناعه إلا أنه أحب حماسها وفرحتها بوجوده معها في هذا اليوم ، وافق على مضض وبعد ما فرغ الاثنان من تناول وجبة الإفطار، بدأت رحلتهما لـ مكتبت المدير التنفيذي بأحدى القنوات الفضائية.. أخذت ليلة الكاميرا وهي تطلب منه أن ينتظرها بالسيارة والقلق يحوم بملامحها:
-ادعي لي بقا ! يارب الفكرة تعجبه ..
-منصورة أن شاء الله يا ليـلة .. خليكي واثقة في نفسك متخليش حاجة تهزك مهمـا كانت النتيجة..
قال جملـتـه بنبـرة ناصحة وهو يتكئ على مقعد القيادة ثم رفع حاجبه مشجعًا :
-يلا اتوكلي على الله وهستناكي …
تقبلت نصيحته بسعة رحب وهي تفارق السيـارة وتدلف بداخل المبنى الفخـم المُحاط بالزجاج ، هبط هارون من السيارة متجهًا نحو عربة القهوة الواقفة ليطلب قهوته و يتساير مع الرجل حول هوية ذلك الشخص صاحب هذا المكان الذي ستُقابله ليلة ..
مرت قرابة النصف ساعة حتى غادرت ليلة مكتب هذا الشخص الذي عاد ليجري اتصاله برشدي ليخبره :
-رشدي بيه ، ليلة لسه نازلة من عندي .. وزي ما اتفقنا ، مفيش قناة في مصر هتشغلها … أنا حطمتها على الآخر .
-عفارم عليك يا شناوي بيه ، دي خدمة عمري ما هنساهالك …
عادت مطأطأة الرأس محاولة اخفاء دموع عينيـها عنه والخزى يعقد ضبابه فوق رأسها .. كان واقفًا أمام سيارتها في انتظارها فما اقتربت منه سألها:
-خير يا ليلة !! حُصل ايه !!
هشت على دموعها بآهاتٍ مُلتـاعة :
-زي كُل مرة يا هارون ، محدش راضي يشغلني .. هو أنا بجد فاشلة زي ما بيقولوا ، ولا هما اللي اتفقوا عليا يدمروني .. انا تعبت أوي .
كظم غضبه بنفسه وهو يقول :
-كله هيتحل متزعليش نفسك .. هو يعني مفيش غير الراجل ده في البلد!!
-مش زعلانة بس مقهورة ، هما ليه مش عايزين يشغلوني ليه بيقفوا في طريق حلمي!! طيب المفروض أعمل أيه تاني ؟! أنا مفيش حاجة مش عملتها .. والله فكرة البرنامج اللي أنت قولتها جامدة بس هو اقتنع وبعدين قالي هنبقى نشوفلك ممول ..
اختنق لحزنها فقال مشجعًا :
-دول هما اللي خسروكي ، بلاش إحباط وكبري مخك ، متيأسيش .. فكي عاد ، عندك فرح ماينفعش تروحي بالمنظر ديه ..
-نفسي اتسدت والله ..
-طب انا ليه حاسس إنهم شوية وهيكلموكي ويوافقوا ، اتفائلي خير بس ومتحطيش في دماغك ربنا بيقلب الليل والنهار في ساعات ، قادر يبدل حالك لافضل حال في لحظات .. قولنا نرضى مهما كانت النتيجة ..
ثم أخرج من جيب بنطاله منديلًا وقدمه لها:
-امسحي الدموع دي ، عيبة في حقي لما تكوني مع هارون العزايزي وتبكي .. ولا انتِ عايزة تزوغي من عزومة السمك !!
أخذت المنديل من يده وهي تُجفف دموعها بضحكة مكسورة :
-لا خلاص ، هعزمك ونحتفل بالخيبة اللي أنا فيها ..
ثم كلمت نفسها بقلب مهزوم :
-انسى انسى خلاص يا ليلة ، يعني دي مش أول مرة !!
ثم نطرت لعينيه تسألهما:
-المفروض أكون أخدت حصانة مش كده !!
••••••••••
~العزايزة ..
عاد هِلال برفقة رقيـة من "النيابة العامة" بعد إثبات التُهمة على بكرة وصدور قرار بتجديد حبسه لمدة أربعة عشر يومًا على ذمة التحقيـق .. بعد ما رفضت رقية التنازل نهائيًا عن حقها وطالبت بمعاونة محاميها بنيل المتهم أقصى عقوبة يستحقها وهي القصاص..
عند وصولهما للبيت كانت تسير بمحاذاة هِلال بمهلٍ حتى ألتقت بصفية التي رمقتها باشمئزاز :
-عاجبكم أنتوا الفضايح والجُرس دي !! جبت لروحك وجع الرأس ليه يا ولدي ! كان مالك بس بالهم ديه !
ربت على كتف رقية :
-رقيـة روحي على أوضتك ..
هزت رأسها بالنفي معارضة طلبه بتأدب ثم تقدمت خطوتين لـتواجهها :
-وأيه الغلط في وخد الحقوق يا مراة عم !! أيه الغلط اللي أنا عملته عشان أمشي كاسرة عيني !
-معملتيش حاجة آه ، بس شيلتي ولدي حِمل ملهوش ذنب فيه يابت الناس !!
تدخل هلال القابض علي جمر غضبه:
-انتهينا يا أمي .. رقية بقيت مرتي وانتهى الأمر ، مش عاوزة تقفلي على الماضي ليه وتنسي !
تدخلت رقية التي تقاوم دموعها:
-بعد إذنك يا شيخ هِلال ، سيبني أكلم مراة عمي باللغة اللي تفهمها ..
ثم تطلعت لصفية :
-لو هاجر ولا هيام حصل فيها اللي حصلي كُنتي هتعملي أيـه !! قوليلـي .. هتقتلي بتك ولا تاكلي كبد اللي عمل فيها كِده ولا ترميها وتچوزيهاله !! ليـه مش راضية تشوفيني بتك ونازلة تجريح فيّ !! ليه بتشاركي حيوان زي بكر في جريمته !!
دنت منها صفية محافظة على كلماتها التي تعاكس سُم نواياها لتقول:
-أنا بناتي عارفين عرفهم ومصيرهم ،متمردوش على نصيبهم .. أما أنتِ افتريتي على الراجل وطلعتيه عن شعوره ، وخلتيه كيف المجنون يدافع عن حقه .. ياريت بس تكوني فرحانة بروحك ومچيتك على المحاكم وأحنا عنقولو يا حيط دارينـا ..
تدخل هلال بينهما ليضع لأمه حدًا ، فلم تتحمل رقية إهانتها أكثر من ذلك ففرت لغُرفتها باكيـة :
-أنتِ ليه مصممة تخليني أخد مرتي ونسيبوا البيت ونمشوا !! ليه أنتِ الوحيدة اللي شايفاها مجرمة مش مظلومة !! ليه مصممة تحطيني بينك وبينها !! خلاص يا صفية أنتِ اللي اخترتي .. ومن الساعة دي مش هتشوفي وشي أنا ومرتي في البيت تاني ..
صرخت عليه :
-ليه عاوزني أغضب عليك يا هلال يا ولدي ليه بس !! كمان بتعصيك عليّ وعاوزة تطلعك من بيت أبوك !
قال جُملته وهو يلحق بخطى المسكينة التي اتخذت من الجدران مأوى لها متجاهلًا ثرثرة أمه حاسمًا قراره ليُعزل من بيت أبيه كي يرحم زوجته من إهانات أمه المستمرة ..
وصل لغُرفته فوجدها نائمة بمنتصف فراشها وهي تنتقض من لوعة الحزن الذي لم تتحمله بعد .. قفل باب الغُرفة وهو يقول بهدوء :
-رقية .. قومي هنمشوا..
-هي ليه مصرة تدبحني بكلامها !! ليه !
قالت رقية جملتها وهي تنهض لتواجهه بحرقة وأتبعت:
-ليه كل ما أحاول انسى تيجي تفكرني ، ليه هي والزمن عليّ !! يا ريتني ما وفقت بجوازنا كُنت قعدت فـ بيت أبوي أكرملي .. طلقني يا شيخ هلال وعذرك هيكون معاك ومحدش هيلومك ..
أن تحاشي لوم الجميع فأين يذهب من لوم قلبه يا ترى !! هناك دخان يتصاعد من قلبه من ملامحه كل شيء بداخله يحترق تحول لرمادٍ ، لم يتحمـل رؤيتها في هذه الهيئة الضعيفة المستسلمـة ، بنظرات حادة كالمشارط يود أن يزيـل تجاعيـد الحزن عن وجهها ، وبضمة مفاجأة وقوية منـه وكأنه يود حشو الأمان بـ جسدها المتعطش للحنان برغبة جامحـة ..
ضم بقوة على جسدها الضعيف فسقطت عِمة رأسه أرضًا ، دفنها بداخل حضنه كأنه يقدم قربان اعتذاره عن أيامها القاحلة التي عاشتها .. كلما ازدادت انتفاضة جسدها الذي لم يكد يتحمل قوته التي تعتصره بحضنه تضاعف احتضانه إليها .. لأول مرة يشعر باكتمال روحه وقلبـه .. لأول مرة يشعر بأنه قطع شوطًا طويلًا في درب الوصول إليهـا ..
ابتلت ملابسه بدموعها ، لم تقاومه ولن تعارض حضنه الذي كسر كل الأوجاع بجسدها ، حضنه الذي تأخر كثيرًا حتى ترك فسحة للحزن أن يتغلغل فيها .. وجدت نفسها تميل على صدره ، تستمع لصوت ضربات قلبـه الثائرة بجفونٍ مقفولة تأبى فتحهمـا كي لا يعارضان ذلك الشعور الغريب الذي سكنها ولا تود الابتعاد عنه ..
حلقة من الصمت الطويل ، تعمقت بحضنه وتعمق بحمل وجعها عنها وهو يقبل رأسها التي تزحزح عنها الحجاب ويقول معتذرًا :
-حقك عليّ ، وأسف على كُل كلمة وجعتك ، وأسف على اللي عمله بكر عشان مقدرتش أحميكي منه .. وأسف عـ
ثم خاطب عينيها المحمرة وغير مجرى كلامه وهو يمسك وجهها و يكفكف عبراتها بكفيه ويتعمق بجمال أهدابها المبللة بالدمع :
-هنمشوا من هِنه عشان اللي يزعلك كأنه زعلني بالظبط ..
هزت رأسها نافية :
-لا ، مش هبعدك عن ناسك .. أنا اللي همشي .. طلقني يا شيخ هلال أنا مستاهلش واحد زيك ..
قطب حاجبيه برسم ابتسامة مترددة ويمازحها :
-أي طلاق يافتاة !! أنتِ خلاص ادبستي فيّ لآخر عمرك .. ومُجبرة أن تتقبلي هذا الوضع حُبًا ولست أمرًا ..
كادت أن تعارضه وهي تشد حِجاب رأسها وتبتعد عن حضنه الذي أغرقته بالدموع ، فقطعها :
-أول مرة بعمري أرى أعين يُجملها الحزن !! أنتِ أغويته هو كمان !!
-يعني أيه !!
-يعني تسمعي الكلام وتجهزي نفسك عشان هنمشوا .
رفضت قطعًا :
-لا ، ديه بيتك ومينفعش تبعد عن ناسك بسببي انا هستحمل كلام أمك خلاص دي في مقام أمي وست كبيرة ..
-وأنا مش هستحمل يا رُقية !!
تعرقلت بنظرات عينيه المُربكة بقلق مدركة ما حدث قبل لحظات بخجل لتُعاتبه على فعله وعن احتضانه لها وهي تقول :
-شيخ هلال؟!!
دنى منها بهدوئه المعتاد بعد ما قرأ العتاب والخجل بعينيها ثم تنهد قائلًا :
- لست مضطرًا لتبرير شيء يا رقية !!
ظلت تراقبه بنظرات حائرة تتساءل بنفسها من أنت يا رجل !! من أنت الذي يحطم حصوني شلو وراء الآخر ولم أمانعه ! خيم التوتـر على ملامحها وهي تطوف بأعينها في كُل مكان :
-أنتَ مش عِندك محاضرة في المعهد ، أمشي قصدي هتتأخر وو
ثم توقفت عن ارتباكها الذي زاد ابتسامته وسألته :
-أنتَ ليه مصحتنيش أصلى الفجر الليلة دي !!
دنى منها خطوة وهو يشد حاجبها على رأسها رغبةً من أنامله أن يتحسس نعومة شعرها اللامع تحت الحجاب والذي يغازل عينيه كثيرًا كشعاع الشمس :
-سَهّى عني أمر إجازتك من الصلاة .. مع أن الخطأ منك وو
-هي عمتي أحلام قالت لك !! ولا أنت عرفت منين !! انتَ تعرف أيه بالظبط ؟
لم يتوقف عن محاولة إدخال شعرها تحت الحِجاب وهو يقول دون النظر لعينيها :
-أنا أعلم عنكِ كُل شيء يا رقيـة ، أعلم أن هناك مدة إجازة من الصلاة، وأعلم أن ما يسبقها فترة كآبة تحتاج ليد حنونة لتهونها عليك ..
ثم أطال النظر بعينيها وأكمل :
-وأعلم أن هناك فترة تتفتح فيها الفتاة كالوردة الزاهيـة وتكون في قمة جمالها وجاذبيتها وأيضا تحتاج لنفس اليد الحنونة التي تضمها وتمدها بأسمى معاني الحياة .. أنا أعلم كل هذا !!
انفجرت عينيها بدهشة ، خاصةً عند علمها بدراسته الأدبية الخالية من أي معلومات علمية كهذه وهي تسأله :
-أنتَ عرفت كل ديه كيف ومنين !!
انفجرت منه ضحكة خفيفة وهو يقول :
-يقولون أني شيخ ومُعلم .. ولا لازم أكون طبيب لكي أعرف كل هذا !!
أحست بتجردها أمامه من كل شيء لتقول بارتباك :
-وديه أكبر دليل عشان منصدقش كل اللي بيتقال .
-ديه أكبر دليل أنكِ لما تحتاجي لاستشارة من أيا نوع متروحش تستفسري من أحلام ..
ثم ولى ظهره ليسحب حقيبته :
-يلا عشان هنمشوا من هِنه …
❤️❤️❤️❤️❤️❤️
" قل لي بربك من تكون
وصل هارون وليلة لأحد المولات العملاقة بالإسكندرية بعد ما بذل مجهودًا جبارًا بـتشتيتها عن همها الذي يكتظ بملامحها .. استقل الثنائي المصعد متجهين صوب أحد محلات الفساتين ذات العلامات التجارية المشهورة وهي تشير له نحو متجر ما :
-أهو المحل ده بجيب منه كل فساتيني .. هيعجبك أوي .
سبقت خطاه بخطوة لتدخل المتجر وطافت عينيها بانبهار في المكان بالمجموعة الجديدة الخاصة بالفساتين التي يعرضها .. ألقى كوب العصير البلاستيكي من يده بالسلة ووقف مكانه يُراقب المكان بصمتٍ .. أو على الأغلب كان يراقبها ويقارن جمال الفساتين المعلقة بها ، فكلهم يناسبون رقتها .. جاءت إليه وبيدها فستانين لتخيره :
-أيه رأيك يمين ولا شمال ؟
كان الفستان بيمينها باللون الأسود من القطيفة ذو أكمام واسعة ولكنه قصير يصل لركبتها .. تعكرت ملامح وجهه وهو يطالع الأخر الذي كان باللون الأحمر ذو حمالات رفيعة للغاية وطويل حيث يلامس ذيله الأرض .. حك ذقنه وعدم الاقتناع يقاسم ملامحه :
-لا ده يمشي ولا ده يمشي .
هبت معارضة لرأيـه :
-ليه ؟؟ دول تحفة بجد !!
-دانتِ اللي تحفة !! هو يا عريان من فوق يا عريان من تحت !! لا لا متمشيش جمبي باللبس ده !!
تأففت بضيق وقدمت الفساتين للفتاة العاملة بالمكان وذهبت لتختار غيرهم .. ظلت تكتشف كل الفستان مراعية لقواعده بألا يكون مكشوفًا ..ثم جاءت بأخر باللون الأخضر ليس بقصير ولا بطويل وذو أكمام طويلة .. وقفت أمامه لتستشيره :
-طيب وده ؟!حلو ؟! قول حلو !
-شبه الخيارة يا ليلة !! لا لا شوفي غيره ..مش حلو .
-والله !! طيب ما تختار أنت أحسن !!
لقد فاض صبرها من تعليقاته السلبية فنظر للفتاة التي ترتدي سترة مقفولة من أعلى و تنورة قصيرة للغاية قائلًا :
-الله يسترك ياشيخة تحت زي ما سترك فوق .. ما تشوفلنا فستان محترم مقفل فوق وتحت ميبينش الحركات .
-بس بقا عيب متحرجش البنت ..
ثم حاولت بلع ضحكتها التي لمعت بعيونها هامسة له بحذر :
-هارون .. حركات ايه ياعمده؟!
رد متأففا :
-الحركات !!أقولك اسكتي الأستاذة فهمت طلبي .
انصرفت الفتاة وهي تبحث عن شيء يتناسب مع طلبه ولم يخل وقوفهم من الهمهمات :
-لازم تبقى أوبن مايند شوية .. أحنا هنا مش في الصعيد ..
-لا أنا عقلي القفل الصعيدي ملازمني في كل حته أروحها .. ديه طبع .
انكمشت حول نفسها :
-خلاص يا عم بالراحة عليا .. الله .. عرفنا إنك صعيدي أوي .
جاءت الفتاة وبيدها فستانين أحدهما باللون الأرزق الغامق الطويل من خامة القطيفة .. ذو أكمام طويلة بذيل طويل .. وأخر باللون البني من خامة الحرير ذو أكمام واسعة يصل لتحت ركبتيها .. عرضت الفساتين عليه :
-رأيك في دول يا فندم !!
راحت عينيه نحو الأزرق وهو يتفحصه متسائلًا :
-ده كله مقفل ولا هتفاجئ بشبابيك ومناور فيه لما يتلبس ؟!
ضغطت على كفه بحرج وهي تعتذر للفتاة بابتسامة :
-هارون بيه أنت بتقول ايه !!
ثم شدت الفستان من الفتاة بحماس :
-اشطا هقيس ده !!
ما كادت أن تخطو خطوة فتراجعت لتسائله بخبث انثوي :
-على فكرة أنا بلبس حاجات قصيرة عادي!! أنت ليه مكبر الموضوع ! دي موضة .. ولا أنتَ ليك وجهة نظر تانية؟
أخفي غيرته عليها قائلًا :
-الجو سقعة مش ناقص مكابرة .
سألته بخبث :
-بس كده ؟ عشان الجو و بس !!
رد بجمود وهي يتحاشى النظر إليها كي لا تفضحه نظراته المدججة بالغيرة :
-أومال هيكون عشان أيه !!
رفعت حاجبها معاندة وهي تشد أحد الفساتين القصيرة وكأنها تتحداه :
-كده !! عموما أنا مش ببرد ومتعودة .. وهقيس ده كمان !!
تمتم لها مغلولا :
-قيسي هو القياس عليه جُمرك !!بس مش هتجيبي غير اللي يعجبني ..
دخلت غرفة "البروڤا " وشرعت بلبس الفستان القصير أولا حيث كان باللون الوردي يصل لركبتيها ذو أكمام قصيرة وفوق فرو بناتي بنفس اللون .. فخرجت له متشوقة لرؤية الغيرة بعينيه .. دارت له كالحورية :
-ده واو بجد ! طلع جامد .. أيه رأيك؟
نظرة واحدة على سهوة من عينيه حفرت صورتها بالذاكرة للأبد .. ثم تجولت أنظاره بالمكان ليتأكد من خلائه من معشر الرجال وقال بحدة دون التطلع لها مشيرًا بكفه :
-خشي أقلعي المسخرة اللي لابساها ديه !
-ليه والله حلو ومحترم .. أهو طويل ده مغطي الركبة !!
زفر باختناق متمتمًا :
-يا صبر الصبر ..
ضربت الأرض بقدميها مستسلمة لأوامره وتحكماته وهي تشكو منه للفتاة :
-هو مش حلو عليا !! أومال مش عاجبه ليه !!
-واضح أن خطيبك بيغير عليكي .. والغيرة حب يا استاذة !!أنتِ مش شايفـة نظراته عاملة ازاي!
-قصدك أنه بيغير عليـا !!
كررت في سرها جملة الفتاة التي نطقتها بدون قصد ولكن للكلمة وقع سحري على قلبها وهي تنزع فستانها وتتخيل للحظة ماذا لو سمح لهما الزمان ليكونا أحبة !! لا تعلم سر الابتسامة المفاجأة التي طغت على ملامحها وهي تلبس الفستان الأزرق الجميل الذي جعلها أشبه بحوريات البحر .. ولت ظهرها لتقفل لها الفتاة الفستان لتنبهر بجماله عليها .. ما فرغت من ترتيب هيئتها شدت الستار وخرجت له بوجه يحمل ملامحها المبتسمة :
-طيب وده ؟! أظن مفيش غلطة ..
تفصحت أعينه ذيل الفستان الدائري بالأرض تحتها ليصعد تدريجيا لتفاصيله التي تبرز معالم أنوثتها وجمالها الساحر الذي استولى على عقله .. رفع حاجبه بثبات وهو يقول لها :
-أهو حلو ده الحشمة حلوة بردك .. والجو مش مستحمل مرقعة ..
-بجد عجبك !! يعني تمام !
أومئ رأسه مؤيدا اختياره للفستان فدارت للفتاة فارحة :
-خلاص هاخد ده ..عجبه اخيرًا ..
ساعدتهت الفتاة في نزع فستانها ثم أخذته وخرجت لتتركها تواصل ارتداء ملابسها .. أما عنه أشار للفتاة العاملة ومد لها بطاقته البنكية ومعها فرو بنفس لون الفستان وهو يقول لها :
-شوفي حساب الحاجات دي ..
خرجت ليلة بعد عدة دقائق وهي تخرج من حقيبتها بطاقتها البنكية .. وتمدها للفتاة التي تبسمت بوجهها قائلة :
-الحساب وصل ..
تطلعت له بصدمة :
-نعم !! حساب أيه اللي وصل ؟! لا طبعا أنت هتصرف عليا !!
أخذ الحقيبة من يد الفتاة ورمى جملته الأخيرة همسًا :
-اصرف عليكي وعلى عيلتك كلها .. يلا وشيلي فلوسك دي .
غادر المحل قبلها فعلقت حقيبتها وتابعته معاتبة :
-على فكرة الكلام ده ما يصحش .. ده فستاني يعني أنا اللي هحاسب عليه !
-ليلة .. أهدي وقولي هديت .. شوفي هتجيبي أيه تاني خلينا نخلصوا ..
فكرت للحظة :
-كده باقي الباك والشوز .. هنجيبهم من هناك .. والدور اللي تحت هنزل اختارلك بدلة على ذوقي ..
سار الثنائي في أجواء يعمها الضحك والهزار حتى فرغت ليلة من استكمال طلباتها والتي أصر على دفع حسابهم أيضًا واستقلت معه المصعد لتهبط للدور الأسفل لتتولى مهمة اختيار ملابسه .. هنا جاءها اتصال من رقم مجهول ، فتجاهلت الرد عليه وتابعت السير معه وهي تخبره :
-هخليك النهاردة اخر شياكة .. وأحلى من العريس كمان !!
دخل أحد المحلات الشبابية .. وشرعت في فحص البذل المعروضة عكسه تماما انشغل بشراء بعض الملابس الرياضية والشبابية التي يفضلها .. عادت له وبيدها أربعة من البذل مختلفة التصميم وقالت :
-دول أحلى حاجه في المحل .. يلا قيسهم كلهم حابة أشوفهم عليك ..
-أيه ده كله ؟؟ وريني هي واحدة بس اللي هتتقاس ..
عاين الملابس المميزة التي احضرتها وقال باعجاب :
-تصدقي كلهم حلوين ..
-اشتريهم كلهم .. سهلة أهي !!بصراحة كلهم جامدين .
ثم أشارت على واحدة باللون الكحلي كي تتناسب مع فستانها الخاص بحفلة اليوم وقالت :
-ممكن دي تلبسها في فرح النهاردة ..
ثم أشارت على السوداء وقالت بحزن كأنها تذكر نفسه بأنها على ذمة الأخرى غيرها حتى لا يتمادى قلبها في التعلق به :
-ودي ممكن تلبسها في فرحك .. والباقيين فأي مناسبات تانية بقا ..
ثم اتبعت :
-ممكن واحدة في فرحي لما أعزمك .. وو الرابعة دي مش عارفة خليها ففرح هيثم ..
-مش هنقدروا البلا قبل وقوعه ..
أحس بالاختناق من تلميحاتها التي فتحت دفاتر الواقع بوجهه وضبت دفاتر الحُلم الجميل بعينيـه فترك الثلاثة ولم يختار إلا التي أشارت عليها أولًا وقال :
-متسبقيش الأحداث .. هشوف دي ..
-طيب يلا وأنا هختار الشوز والاكسسورز بتاعها ..
انشغلت في اختيار الحذاء المناسب لبذلته وازاز أكمامه والمشبك الذي سيضعه بجوار قلبه وسيكون هديتها .. دقائق قليلة وخرج هارون من غرفة "البروفة" وهو يقفل زر بذلته :
-هاا ايه رايك ..؟
تركت ما بيدها ودارت إليه منبهره بوسامته الطاغية :
-واو بجد .. أنت مفيش حد بعدك ينفع يلبس بدل على فكرة .. بجد بجد ولا غلطة .
-تمام يعني ..
قدمت له الحذاء والاكسسوارات :
-ده تمام ونجمة كمان .. وبص دول كمان !! بص كل البنات النهاردة هتقع في حبك وهتعاكسك .. أنا مش مسئولة لو خطفوك من زينة .
ثم شرعت بتركيب مشبك البذلة بجوار قلبه للحد الذي تعانقت فيه انفاسهم وبدأ سيل وصال المشاعر بينهما مشتعلًا فتمتمت متجاهلة تراقص قلبها :
-كده برفكت يا هارون بيه .. أيه رأيك في ذوقي ..
-تمام طالما عجبك يبقي نتوكلوا على الله ..
دخل هارون ليبدل ملابسه فانشغلت باختيار العديد له من الثياب الشبابية وهاتفها لم يتوقف عن الرنين بعد .. ردت بضيق وهي تقدم الثياب للموظف بالمكان وتبلغه :
-دول تبع حساب هارون بيه ..
ثم ردت على هاتفها بضيق :
-الو مين ..!!
تنفست رغد الصعداء :
-أخيرا رديتي ..
فارقت ليلة المتجر وهي تسألها :
-حاسة إني سمعت الصوت ده قبل كده !! مين معايا ..
-أنا رغد .. مراة هاشم العزايزي .. لو سمحتي متقفليش .. أنا عايزة مساعدتك ضروري ..
رمشت بجفونها مرتين متتاليتين :
-ده بجد !!أنا مصدقتش لما قولتي لي أول مرة وقلت أكيد فيه حاجة غلط ..
اعتصرت رغد جفونها :
-اسمك ليلة مش كده ... أنا هحكي لك بس مش عايزة حد يعرف إني كلمتك .
لمحت ليلة اقتراب هارون منها فقالت بعجل :
-طيب بصي هارون بيه معايا دلوقتي .. ومش هعرف اتكلم ممكن بالليل اكلمك براحتنا .. سوري بس بجد فى أسئلة كتير حابة أعرف إجابتها منك ..
دنى هارون منها متسائلا بنبرته التي وصلت لمسامع رغد وسألها :
-مين بيكلمك !!
ردت بقلق :
-دي !! دي واحدة صحبتي من زمان ..
ثم قالت لرغد :
-ماشي يا رغد هكلمك بالليل ياحبيبتي ...
تحرك هارون الذي يحمل حقائبه متجاهلا احساسه المُلح بهوية المتصل .. فسألها :
-هتعملي ايه دلوق ؟!
-بص المفروض أروح الفندق وهكلم الكوافير اللي بتعامل معاه عشان يبعتلي واحدة من البنات تظبط شعري .. و
تعلق في ذيول انشغالها :
-عال .. هوصلك الفندق واستأذنك بس في العربية هروح أعمل كام مشوار !! تكوني خلصتي ..
هزت رأسها برضى :
-اتقفنا .. بس ممكن نتغدى الأول عشان بجد واقعة من الجوع.
-ومين سمعك .. يالا تعالي اغديكي .
••••••••••••
-مالك يا زينـة مش على بعضك ليـه ؟!
رمت أمها ذلك السؤال على مسامعها إثر جنونها المفرط فيه و التحدث مع نفسها وهي تجوب بالمكان ذهابًا وإياباً، فضربت على فخذيها:
-هارون من ساعة ما سافر مع البت بتاعت بحري دي والفار بيلعب في عِبي ياما !! ديه مش معبر تليفوناتي واصل ! هتجنن ياما ..
رمقتها نغم الجالسة على المقعد تقرأ بأحد الكُتب الخاصة بعلم النفس وتقول :
-أهدي ليطق لك عرق يا زينة .. يمكن مشغول ولا حاجة مش فاضي لخوتتك .
-وأنتِ مالك بي !! مركزة معاي ليه ؟! ما تركزي يا ختي في خيبتك ..
ثم نظرت لأمها بغلٍ :
-يعني أيه ياما البت نغم دي هتتجوز قبلي ، عمي خليفة قصده أيه لما قال هاشم هينزل يكتب عليها بعد اسبوعين !!
ثم نظرت لها بحقد:
-وبعدين مش هاشم ديه وقف قصاد الكُل وقال مش عاوزها !! أيه غير رأيه فجأة ورجع اتكلم عليها تاني !!
قفلت نغم الكتاب الذي بيدها وهي تهم مُغادرة :
-والله يا زينة انا شايفة أنك تطلعيني من راسك وروحي شوفي خطيبك اللي مش معبرك من أصلو !!
ثم مالت على آذانها متعمدة إثارة غيرتها :
-ولا مفعول السحر بِطل في اسكندرية !! ماتشوفي إكده ..
ثم جهرت :
-انا راكبة اريح راسي هبابة يا مراة خالي .. عقلي بتك وقوليلها تتقي ربنا ، الچواز مش عافية .
•••••••••
صف هارون سيارة ليـلة أمام المبنى الذي تقطن به عيادة نادية ، اقترب من الرجل الذي يُراقبها وسأله :
-حجزت لي كشف ..
-كله تمام يا عمدة ، بس هو أيه قِصة الولية دي !! هي عملت لكم أيه أنتَ والحچ خليفة .
ارتدى نظارته الشمسية وقال بحدة:
-خليك في حالك ..
ثم تحرك نحو البناية وصعد درجات السُلم وانتظر دوره بالكشـف ، لم ينتظر كثيرًا حتى نادت باسمه الممرضة فدخل بخطواته الواثقة وجلس قبل أن تأذن له نادية التي رمقته بنظرة سريعة وقالت مرحبة :
-استاذ هارون ، متجوز ولا أعزب !
نزع نظارته الشمسية ورماها على مكتبها وقال:
-هتفرق في أيه ؟!
-عادي عشان نعرف بس سبب المشكلة اللي بتعاني منها !! بتشتكي من أيه !!
نظر لها بكامـل قوته قائلًا :
-بشتكي من قلة الأصـل … وبصراحة راسي هتتقلب ليها اسبوع أيه اللي يخلي أم محترمة زيك تصرف علاچ غلط لبتها وتموتها بالبطيء!!
سقط القلم من يدهـا وهي تراقبه بأعين مرتعشة :
-أنتَ ايه الجنان اللي بتقوله ده !! أنت مين أصلا !! وايه الكلام المجنون ده!
وقف بوجهها حاملًا عواصف تهديده :
-أنا هارون العزايزي .. أظن سمعتي عن الاسم ، بس متعرفيش الوش التاني لصاحبه .
وقفت نادية صارخة بوجهه مدافعة عن نفسها :
-والله انا مش عارفة أيه رمي البلا ده !! مرة باباك يجي يدور على حاجة تايهة ليها ٢٨ سنة ، وأنت جاي تتهمني إني بحاول أقتل بنتي وكلام فارغ !! أنتو مجانيين !
صرخ بنبرته القوية التي هزت جدران المكان :
-أنا كلامي واضح !! كاتبة علاچ يدمر بتك ليه !! مصدقش دكتورة في سنك بتتعلم في بتها ! العلاچ ديه بيتاخد من حد عارف شُغله زين ..وقاصد .
أشارت نحو الباب مهددة :
-أطلع بره وإلا هطلبلك البوليس ..
-وماله هاتي الشرطة والنيابة وأنا بالي معاكي طويل للصبح .. أقولك أنا فاضي لك !
ثم ضرب على سطح مكتبه مهددًا بذعر :
-اسمعي هما كلمتين .. تبعدي سِمك عن ليلة ، ولو حاولتي تديها العلاچ ديه تاني لو اشتكت لي بشوية صداع هفهم أنك لعبتي في الدواء ..
ثم ترك مكانه وقرب منها معلنًا حربه عليها بنبرته المخيفة :
-ومن غير يمين متخلنيش ألبس روب المحاماة عشان ساعتها هقفلهالك ضبة ومفتـاح .. ومش هرتاح إلا وأنت مسجونة .. فاهمة !!
ثم ضرب مرة أخرى على سطح مكتبها فانتفضت من الرعب وهي ترتمي على مقعدها الجلدي وقال محذرًا :
-اسمعي الكلام و ابعدي عن ليـلة وسيبي البت في حالها .. مفهوم وإلا متجبرنيش أوريكي الوش التاني لهارون العزايزي ….
ثم رمقها بنظرة ساخرة :
-اه ومبروك الجواز يا عروسة ، شريف أبو العلا ده حبيبي ولازم اكلمه ابارلك بنفسي..
صرخت عليه بخوف :
-استنى هنا ، شريف ما يعرفش حاجة!!
رد ببرود:
-منا قاصد أعرفه !! عقولك صاحبي وحبيبي لازم نباركوله على عروسة أبوه الچديدة ….
••••••••••••
-روحي يا صفيـة منك لله !
تمتمت أحلام بجملتها الأخيرة وهي ترى هلال حاملًا حقائبه مُعلنًا مغادرته للبيـت .. فظلت تتوسـله :
-ياحبيبي من ميتى عناخدوا على كلام أمك ، ما كُلنا عارفينها عقلها صغير ..
رد مصرًا على رأيه :
-كِدا أحسن للكُل يا أحلام ، أمي هي اللي اختارت .
رمقت صفية رقية بغِلٍ وشغلت بعينيها نافورة التماسيح :
-ليه يا ولدي عاوز تسيبني وتبعد عني ، وانا ليا مين غيركم في الدِنيـا .. ليه عاوز تحرق قلبي عليك ..
-دي سُنة الحياة يا أمي ، ولو سمحتِ الموضوع منتهي .. أنا هاخد مراتي وأشوفلها بيت بعيد عن هِنه .
تدخلت أحلام بضيق:
-وفكرك أبوك لو سمع هيوافقك !! ليـه عايز تقلبها حريقة يا ولد !! ما تعقلي چوزك يا رقية يا بتي .. !!
صوت زمجرة خليفـة خيم على المكان وهو يراقب تجمعهم فسألهـم :
-في أيه إهنـه !!
تدخلت صفية الباكية بزيف:
-ولدك عاوز يهملنا ويمشي يا حج خليفـة !! يرضيك الكلام ديـه !! يرضيك ؟
فعقبت أحلام لتشكو له:
-ولدك واخد على خاطره من صفية يا حج ، مش كل ما تشوف البت تسم بدنها بكلامها !! اهو الرجل هملها الدِنيا وواخد مرته وماشي .
انفجر خليفة صارخًا بوجههم :
-أيه قِلة العقل دي !! مهمل بيتك وبيت أبوك ورايح فين يا هلال !!
-أي مكان يا أبوي ..
نهره أبيه :
-خِف حديت ماسخ !! وطلع الشِنط دي وخد مرتك واطلع ، مفيش واد هيطلع من بيتي على حياة عيني ..
ثم دار لصفية ليوبخهها محذرًا :
-يمين عظيم يا صفية لو لسانك قال كلمة عفشة لمراة هلال لتكوني طالق….. سمعتي ..
ثم أشار بعكازه آمرًا :
-قِل الشِنط دي من إهنه بلا قلة عقل وحديت فارغ ….
•••••••••••
~في تمام الساعة الثامنة مساءً .
عاد هارون إلي الفندق بعد ما فرغ من كل مشاويره الخاصـة .. استلم بطاقة غرفته وهو يتحدث مع ليلة التي لم تُكف عن اتصالاتها المتواصلة والتي لم يتجاهل منها مكالمة واحدة على مدار ساعات غيابه .. وقف أمام باب غُرفتها وهو يحدثها :
-أنا وصلت الأوضة ، هاخد دش وأجهز ..
لقد كانت انتهت تمامًا من لبسها لم يتبقى إلا لمساتها الخفيفة من مستحضرات التجميل وهي تختار لو حُمرة شفتها باللون الوردي الفاتـح وتقول مترجية :
-طيب بليز متتأخرش ، صُحابي مش مبطليين زن .. وبيستعجلوني .
ركل الباب بقدمه :
-حالًا أهو ..
قفل المكالمة معهـا واتجه صوب الحمـام ليباشر طقوسه الخاصة قبل الحفل والابتسامة لم تفارق ملامحه ، شغف غير طبيعي في رؤيتها مرة ثانية لم يكن اليوم كافيًا ليشبع خفة روحها .. بات الشوق لها يطادره أينما ذهب ..
مع دقات الساعة التاسعة مساءً كان هارون واقفًا أمام المراة ينفث القليل من عطره الذي أهدته له ليلة .. نوع مميز وجديد عما يستخدمه أصرت أن يجربه .. ترك الزجاجة من يده وهو يحكم قفل زر معصمه .. فجذب أنظاره رنينها الذي أجابه على الفور :
-هااه تمام يا عمدة ولا لسه ؟؟!
-انا تمام شوفِ أنتِ ..
-وأنا كمان تمام ..تمام جدًا .
ثم رسمت ابتسامة واسعة على محياها وهي تطلب منه بخفة روح :
-أنا على الباب على فكرة .. لو تمام ممكن تفتح لي ..
أخذ مفتاح سيارتها وشفرة غرفته الخاصة وقفل الأنوار بعجل ثم فتح لها الباب ليتفاجأ أمامه بإمراة لم ير أحلى منها بحياته .. كل تفاصيلها متناسقة كما قال الكتاب .. من جمالها يتأملها القمر بنفسه لا هو وحده .. أخذ يتأمل تفاصيل الفريدة والمميزة بدءً من عقد رقبتها الأنيق باللون الفضي .. لتسريحة شعرها التي برزت معالم جمالها .. للون عينيها الأرزق المتناسق مع الفستان ولمسات التجميل البسيطة التي برزت جمال ملامحها ..وكحل عينيها الأزرق الذي سقط على جفونها دون أن يذوب ، كيف لا يغرق بجمال أهدابها ؟! كيف بحُمى أنفاسها لا يشتعل مثلما اشتعل قلبه لرؤيتها ؟!
دقق في تفاصيل فستانها الذي ينحت تفاصيل رشاقتها بطريقة تذهب العقل وتسكره .. حذائها ذو الكعب العالي الذي جعلها بمستوى ذقنه .. كل هذا كان أشبه بشعور من فتح نافذته ووجد السماء مرصعة بالنجوم في ليلة سحرية ينيرها قمر ابتسامتها .
لأول مرة يهتم بجمال التفاصيل وحلوها وبها .. لأول مرة تشغله إمراة كما فعلت هي .. لأول مرة يقف أمام حسنها ولا يود التحرك خطوة .. ابتسمت بوجهه مطلقة صفارة هادئة منبهرة بهيئته التي تشع بـ الوسامة والرجولة الطاغية معًا .. تفاصيل أناقته كأنه عريس في ليلة عرسه .. أشادت بصورته مشدوهة :
-أيه الشياكة دي كلها .. يسلم ذوقك يا بت يا لي لي ..حقيقي سوبر جنتل مان .. أنت تلبس بِدل على طول بقا ..تجنن عليك .
قفل باب غرفته وهو يفحصها بعناية وبأعين منبهرة :
-وأنت كمان شكلك حلو ..
-أيه الرخامة دي !! حلو بس !! يعني انبهر شوية كده وحلل الفلوس اللي دفعتها .. على فكرة هتاخدهم .
هز برأسه بخفة وهو يشير لها نحو المصعد :
-طب أمشي وبطلي كلام فارغ ..
سارت بمحاذاته فكان يطالع الطريق وكانت تستدل من جماله على عنوان الجاذبية .. دخل الثنائي المصعد فأخرجت هاتفها لالتقاط صورة لهما بالمرآة :
-يلا نتصور ..
لم يمانعها بل دنى منها خطوة لضبط زاوية الصورة ليلتقط الاثنان أجمل صورة بحياتهما صورة اجتمع فيها الشمس والقمر في لحظة واحدة .. فتح باب المصعد فسمح لها بالخروج أولاً ثم تابع خطاها بشموخ وهيبة لفتت أنظار الجميع .. كل الأعين تلتفت لجمالهم وتناسقهم بانبهار كأنهم خلقا ليكملا بعضهما البعض ..
فتح لها باب السيارة بشياكة وأشار لها أن تدلف .. فأعجبت بلفتته الساحرة وشكرته :
-كمان أيه الدلع ده كله !! مرسي ..
قفل الباب خلفها برفق ثم دار ليجلس بجوارها وقبل ما يحرك السيارة سألها :
-ليلة أخدتي أدويتك في معادها .. مش عايزك تأهملي العلاج .
لمعت فرحة اهتمامه بها بعينيها وهزت رأسها بالموافقة :
-أخدتها كلها متقلقش .. أنا كويسة حتى الصداع خف خالص بطل يجي زي الأول ..
-إن شاء الله مفيش غير كل عافية ..
-يارب ..مرسي .
ثم اعتدلت في جلستها لتطلع عليه :
-الفرح في فندق سان ستيفانو ..قريب من هنا مش بعيد ..
حرك السيارة مفارقا المكان بهدوء فاقترحت عليه قائلة:
-ما تسمعني حاجة على ذوقك .. قصدي بتحب تسمع مين !!
ارتسمت الابتسامة على وجهه وهو يغادر بوابة الفندق ، رد ببشاشة :
-بحب اسمع منير .. تقريبا مش بحب اسمع غيره .
-أول مرة أقابل حد يقولي بيحب منير .. أو !! أنت دايما غريب كده حتى في اختياراتك ؟!
ثم فتحت هاتفها المتصل بالسيارة وقالت :
-حابب اشغل ايه .. اختار اغنية ؟!
حانت منه نظرة سريعة ثم عاد لينشغل بأمر الطريق :
-شغلي أغنية يونس ..
شرعت كلمات الاغنية التي كانت تستمع اليها ليله باهتمام لأنها اول مرة تسمعها ..حتى تلاقت أعنيهم عند سؤال منير وهو يقول :
-وده حب أيه اللي من غير أي حُرية !!
كأن أعينهم تعتذر لبعضها وللحب المستحيل الذي يزهر بين قلوبهم المُكبلة .. فتعالى صوت الغناء الذي ملأ قلبه بالتنهيدات والنظرات المتقطرة منها فوق قلبه كالمطر .. حتى تمتم سرًا مع كلمات الأغنية التي جاءت على وجعه وقلة حيلته :
-يا عزيزة يابنت السلطان لو يتغير الزمان وقابلتيني في أي مكان .. كنت أعشقك من غير ما تقولي ..
أجواء الأغنية بكلماتها سلبت قلوبهم لعالم أخر عالم لا يلونه الا الحب .. انتهت الأغنية مع انتهاء المسافة فتولدت بينهما ذكرى طريق عمرها أغنية لمنير .. فهتفت :
-وصلنا وكمان الأغنية خلصت .. الأغنية طلعت حلوة أوي أبقى نسمع منير وأحنا راجعين ..
هبط من السيارة التي فتح بابها العامل أمام الفندق .. فترك له مفتاح السيارة ليقوم بركنها ووقف بجوارها منتظرها أن تعيد ترتيب فستانها دون التطلع إليها .. وما نصبت قامتها و لاحظ ظلها فوجئت بكفه الممتد لها لتتمسك به .. صدمة كانت إثرها تنهيدة ملحوظة وهي تدس أصابعها بين فراغات يده ليتقدمان معاً نحو صالة الفرح ...
هبط الثنائي على درجات السُلم بتناغم يلفت نظر الأعمى .. احتارت الأعين عن هوية ذلك الرجل ذو الخطوات المغرورة وأناقته الطاغية .. أم على جمال الفراشة التي تتمسك بالغصن فتزيده هيبة وسحر .. ارتفع صدرها بتنهيدة واسعة وهي تنظر له وكأنها تكذب أنظارها تشعر وكانها بحلم جميل يشبه أفلام ديزني التي تعشقها وقالت له مقترحة :
-تعالى نقعد هنا ..
شد لها المقعد بشياكة لتجلس فوقه ثم فك زر بذلته وجلس بجوارها وهو يتأمل تفاصيل الحفل فسألته :
-عجبك المكان ؟!
-حلو ...
-بابا العروسة يبقي مساعد وزير والعريس باباه كان طيار في الدفاع الجوي ..
-فرح تقيل يعني !!
تفاخرت بنفسها :
-يابني أنا مش بصاحب أي حد ..
توافدوا عليها الفتيات ليرحبوا بها فأخذوها من هارون الذي لم يتزحزح أعينه عنها .. ونظرات رفقاتها التي لم تتركه بعد .. شهقت جوري منبهرة :
-ليلة !! الولد طلع مز يخربيت حلاوته .. عرفيني عليه ..طيب ينفع اتجوزه !! قولي ااه ..
فأتبعت شروق :
-يانهار جمدان !! ده طلع غير الصورة خالص .. أنا حبيته .. بصي هروح أخد نمرته .
زفرت بضيق وهي تقرصها بكتفها :
-عيب على فكرة مش بيكلم بنات .. بيكلمني أنا بس !!
-ده ليه ؟
ردت بثقة :
-عشان أحنا صحاب ..
أتبعت علا بدهاء :
-صحاب مين يا هبلة ده منزلش عينيه من عليك !! ليلة لو متنازلة عنه أنا ممكن أخده وهخليه يحبني ..
توهجت الغيرة بصدرها من سخافات صديقاتها :
-ممكن تسكتوا وعيب الكلام ده !! بلاش ياخد عنكم فكرة وحشة وأنتوا أصلا هُبل وبتهزروا ..تيجي تسلموا وتمشوا على طول ..بأدب .
ثم تقدمت له ليلة لتعود جالسة بمكانها :
-هارون بيه .. أحب أعرفك على صحابي .. شروق علا جوري .. وده يا بنات هارون بيه العزايزي ..
مدت شروق كفها لمصافحته بلهفة :
-هاي يا هارون بيه نورتنا .. أنا شروق .. ليلة حكت لي عنك كتير ..
امتنع عن مصافحتها بابتسامة خفيفة واضعا كفه على صدره ليقول :
-أهلا بيكي ..
فتدخلت ليلة بعدما ألقت نظرة على يمينه فوجدتها خالية من دبلة زينة التي نزعها عمدًا وكأنه أخيرًا تصالح مع حقيقة رفض قلبه لها .. فبررت الموقف بحرج :
-قولنا مش بيحب يسلم كتير .. ده راجل صعيدي يا بنات ..
سحبت شروق كفها وأخذت تختلق أحاديث مع هارون عشوائية كان لا يجاريها وظلت الفتيات تخلق المواضيع التافهة بينهم للتحدث معه فتدخلت ليلة لرفع الحرج عنه :
-خلاص يابنات هارون بيه مالهوش في الكلام الكتير ..ولا ايه !!
بعد كثير من المحاولات انسحبت واحدة تلو الأخرى منهن فمالت ليلة نحوه متسائلة :
-أنت ليله مسلمتش عليها .. أحرجت البنت ..
برر موقفه :
-لو كنت سلمت عليها مش هخلص منها ومن صحابها .. ومش حلوة لما ألم البنات دي كلها حوليا فأنا قطمت الكلام معاهم ...
لمعت عينيها بإعجاب :
-طيب واشمعنا أنا ؟؟!
تحمحم مشوشا على الموضوع :
-أحنا مش صحاب ولا إيه .. ما أنت لسه قايلة ..
-أيوة صح أحنا صحاب .. بس هي فين دبلتك ؟!
كور يده حاسما أمره بخصوص دبلته :
-شكلها وقعت مني .. كبري ..
-يعني ايه وقعت !! وزينة هتضايق ...
هنا أنقذه أحد الشباب الذي تعرف عليه بعد محاولات :
-مش معقول !! هارون بيه العزايزي !!
وقف هارون ليرحب بصديقه:
- شهاب عز الدين ؟! أيه الصدف دي ؟؟
أردف شهاب :
-بصراحة اخر واحد كنت متوقع أشوفه هنا !! فينك وفين أراضيك ..
ونظر لليلة :
-وايه لم الشامي على المغربي ..أنتو تعرفوا بعض!
تدخلت ليلة مندهشة :
-أيه ده أنتوا تعرفوا بعض ... ؟!
بادر شهاب قائلا :
-هارون بيه دفعتي .. كنا دفعة واحدة في الوادي الجديد .. وأحلى أيام قضيتها في العزايزة عندهم .. وكنا مقدمين نيابة سوا بس هو اللي خسره القضاء ..
هز هارون رأسه متسائلا وهو يبلع غصته التي لم يستطع التخلص منها بعد :
-وحاليا ماسك فين يا شهاب بيه ؟!
-ماسك في الجيزة وجيت أحضر فرح أختي .. بس أنت تعرف ليلة الجوهري ازاي ؟.
رد بدون تفكير :
-شغل ...
فأيدته ليلة :
-ااه شغل ..
فمد شهاب يده متغزلا بجمالها وهو يتأهب لطبع قبلة خفيفة على كفها :
-عمرك ما فشلتي تبهريني بجمالك ..
أصبحت عينيه ككرتين من نار أرعبتها فشدت يدها بسرعة وهي تبتسم بتصنع بوجهه :
-مرسي يا شهاب بيه .. وأنت خطبت ولا لسه ؟!
-لا لسه .. وشكلي كده لقيت الوسيط اللي ممكن يتوسط لي للعروسة اللي تقلانة علينا .. سمعت إنك سبتي شريف أبو العلا !!
قال جملته وهو ينظر لهارون بتأمل في تحقيق مراده .. هارون الذي تبدلت ملامحه في لحظة .. لم يكمل شهاب جملته فأقبلت أخته الصغرى :
-شهاب بابي بيقولك تعالى استقبل معاه ناس مهميين ..
استأذن شهاب مؤكدا بعودته مرة ثانية .. جلست ليله على مقعدها وهي تملا كوب الماء بتوتر والخوف يملأ من نظراته الصامتة ..وضع قبضة يده على سطح الطاولة وسألها بنبرة محقق :
-تعرفيه منين؟! ..
ردت بتلقائية :
-ده يبقي أخو العروسة وجيراننا في الكمبوند .. وو كان متقدملي زمان بس مامي رفضته واصرت على شريف ..
فأتبع هارون الذي قرأ نظرات شهاب :
-وشكله ناوي يجدد طلبه !!
هزت كتفيها بذعر أرنب :
-يجدده كدا كدا أنا مش بفكر في الموضوع أصلا .. بس ...
ثم راقت لها فكرة النبش بمشاعره :
-لو أنت شايفه عريس كويس أنا ممكن أوافق ..
رد بحسم لينهي عبثها الذي يخنقه :
-لا مش كويس وبتاع بنات من زمان .. وعينه زايغة ..ومش بطيقه .
-ااه .. مش يمكن عقل طيب وبطل ..
-بطل أيه !! دي لو الناس كلها تابت وبطلت شهاب عزالدين ميبطلش ..
ثم دار إليها بزعابيب غيرتها الساطعة :
-بس لو عاجبك أنا ممكن أقوم أطلب لك يده ..
شغلت نفسها بالبعث في الزهرية الموجودة أمامها وهي تتمتم:
-لا مش عاجبني ولا حاجة !! أصلا كبير عليا ده 35 سنة !! وأنا لسه في العشرين..
-وايه عيب أبو 35 سنة !هاه؟!
أدركت صعوبة المأزق الذي تورط به نفسها :
-لا خالص .. حلوين أنا ماقولتش حاجة .. كلهم حلوين لكن شهاب نوت ماي تايب خالص ..
كرر سؤاله :
-وايه التايب بتاع الأستاذة اللي هموت وأعرفه !!
كتمت ضحكتها مرتديه وشاح الجدية وهي تتأمل تفاصيله بإعجاب :
-أي راجل لون أبيض نوت ماي تايب .. بحب الرجل الأسمراني ..عارف ليه ؟!
شع النور بوجهه مرة أخرى وسألها بفضول :
-ها ..!!
اقتربت منه وهي تغازله برقة وتتأمل بشرته الخمرية :
-عشان لما يزعلني أغني له أسمر يا سمراني ..مين قساك عليا ، لو ترضى بهواني بردو أنت اللي ليا ..
ثم شدت نفس طويل من جمال ضحكته المدفونة :
-ماقولتش عليا هبلة ممكن .. أحنا صحاب ومفيش مابينا كده ..بس دي حقيقة مش بحب الراجل يكون لونه أبيض خالص!!
-هي الرجالة بقيت باللون الزمن ده !!
ثم رفع حاجبه آمرا :
-شهاب لو جيه تاني كشري في وشه ..أحسن عليا النعمـة ااا
-حاضر والله هكشر ...بلاش تضايق .. أصلا هو رخم ومش بحبه !
مرت فقرات الحفل المتنوعة بين نظرات هارون وليلة التي قرأها الجميع إلا قلوبهم المتمردة .. ولن تخلو من مزاح ليلة المتكرر وهارون الذي يكتفي بابتسامته الخفية والثقيلة .. فاشتغلت أحد الأغنيات الرومانسية فكل شخص أخذ شريك حياته ليشاركه رقصة سلو مع العرسان .. تحمست ليلة بفرحة :
-الله ! بحب الأغنية دي أوي .. أحنا ينفع نرقص عليها صح ؟؟
رمقها بنظرة حادة تحمل الرفض القاطع جعلتها تعود لمقعدها بتفهم وهي تقول :
-صح ماينفعش .. خلاص والله مش هتكلم تاني ..
جاءهم شهاب من بعيد وهو ينضم لهم من جديد معتذرا عن تأخيره ليقول مقترحا :
-أنتو قاعدين ليه .. صح نسيت هارون بيه مالهوش في الرقص والكلام بتاعنا ..
ثم مد يده لليلة وقال مستأذنا :
-يبقي تسمح لي أخدها منك الرقصة دي ياباشا ..
تراجعت ليلة للوراء خائفة من رد فعل هارون الذي فزع قائما وهو يقف أمامها ويصافحه باختناق :
-اعذرنا يا شهاب بيه .. بس أحنا يادوب نحلقوا نمشوا .
ثم نظر لليلة :
-أنت مش عملتي الواجب ؟!
ردت ببلاهه :
-واجب أيه !!
ثم أدركت على الفور قصده :
-اااه اهه عملت الواجب خلاص ..خلصت الواجب أصلًا .
فأكمل هارون بضيق :
-اسمحلنا نمشوا يا شهاب بيه .. وان شاء الله الفرحة الجاية تكون فرحتك ..
ثم مسك حقيبة ليلة الصغيره بيده وهاتفها وباليد الأخرى سحبها وراه متجردا من كل القواعد التي تمنعه بأن يأخذها من الحفل وينفرد بها .. تابعت سيره ركضا حتى فارق الثنائي الحفل واتجه بها لخارج الصالة نحو الشاطئ الخلفي للفندق .. قدم لها حقيبتها وتركها بمكانها ثم تقدم خطوتين وهو يتأمل البحر الثائر أمامه الذي أشعله بالصبابة والحب وأفلت زمام قلبه من تحت يده ..
تقدمت له ليلة بعد ما نزعت حذائها المهلك لقدمها ودنت منه معتذرة :
-أنت اتضايقت عشان شهاب ده .. بس انا ماليش ذنب تزعل مني ليه !! هو اللي قليل ذوق على فكرة بس وو
ثم قاطع حديثها رنين هاتفها الذي أجابته على الفور بتأفف :
-ألو !!مين ..
اتاها صوت فتاة تعرفها بنفسها وتخبرها :
-أستاذة ليلة أنا سارة مديرة مكتب شناوي بيه .. هو مستنيكي بكرة عشان تمضوا العقود .. لقى ممول للبرنامج والفكرة ..
قفزت بفرحة :
-أحلفي كده !! والله قولي أنك مش بتكذبي عليا !!
أكدت لها الفتاة بفرحة وهي تخبرها بالميعاد :
-بكرة الساعة 11 هيكون في انتظارك في مكتبه ..
قفلت المكالمة مع سارة وهي تقف أمامه لتزف له الخبر بأنفاسها المتصاعدة :
-هارون .. عارف مين كلمني.. ألحق ! ده الشناوي .. ده غير رأيه وعايزنا نمضي عقود البرنامج ..
ثم قفلت جفونها وفتحتهم مرة أخرى وهي تهلل لتحضنه من فرحتها :
-أنا مش مصدقة .. حلمي بيتحقق .. أنا سمعت صح مش كده ..
كانت بين يديه بكل فرحتها وسعادتها التي لم تشاركها مع أحد غيره .. نسى كل تصرفات شهاب التي أغضبته واكتفى مربتاً على كفتها بفرحة هو السبب فيها بعد ما عقد اتفاقه المُغري للشناوي فتخلى عن رشدي وفضل مصلحته :
-مش قولتلك كله هيتحل .. أنت بس اللي معندكيش ثقة في نفسك .. مبروك عليكِ .
ابتعدت عن حضنه وهي تأخذ أنفاسها بصعوبة وتضحك :
-أنا هيبقى ليا برنامجي .. بس هو اقتنع ازاي ..دانا خرجت من عنده بعيط .. أنا فرحانة أوي ...
ثم أطالت النظر بعينيه واغرورقت عينيها بالبكاء :
-أنا مش فاشلة زي ما كلهم بيقولوا عليا .. أنا هعمل برنامج وهيبقى أشهر برنامج في مصر ..حاسة قلبي هيقف من الفرحة وشك حلو عليا .. حقيقي شكرا ..
-مبروك يا ليلة أنتي تستاهلي كل خير وفرحتك دي عندي بالدِنيا وما فيها ...
ظلت تقفز أمامه كالطفلة معبرة عن سعادتها :
-تعرف عايزة أرقص واتنطت وأقول لكل الناس أن ليلة الجوهري هتبقى أكبر إعلامية في مصر .. وبكره أنافس منى الشاذلي ولميس الحديدي ..
ثم وقفت تحت مظلة أنظاره بأعين باكية :
-كان نفسي بابي يكون معايا دلوقتي ..بس هو أكيد حاسس بيا ومبسوط .
وقف أمامها وهو يخرج السماعات اللاسلكية من جيبه ويضع واحدة بأذنها والأخرى بأذنه فسألته بتوجس :
-أنت بتعمل أيه ؟
أراد أن يرد على إهانة شهاب له واتهامه بإهماله للرقص والتقليل منه .. فقال :
-هتعرفي حالًا …
ثم شغل على هاتفه اغنية "ناداني لمحمد منير" .. التي بدأت بالكلمات الهادئة التي منحته الفرصة في تأمل تفاصيل وجهها عن كثب وهو يرجع تلك الخصلات التي تزحم ملامحها وراء أذانها ..
أخذ يتأملها متمليًا في تفاصيلها التي آسرته وهو يمرر كفه الخشن من حمل الصخور على وجنتها الأشبه بالقطن فهتز جسدها للمسته الحرة التي لا تخلصت من كل قيودها وكلمات الأغنية باتت تصدح بمسامعهم معاً ويحتفل موج البحر ثائرا محتفلا ببوادر مشاعرهم المشتعلة .. وبدأت سماء إسكندرية التي لم تتوقف عن المطر بالتقطر فوق ملامحهم الغارقة بالحب وببعضهم البعض ..
خاطب عيونها بكلمات منير
"شىء من بعيد ناداني .. و أول ما ناداني .. جرالي ما جرالي "
ثم تدلت كفوفه عن وجهها ليقبض على خصرها الذي يتناسب بمقدار كفه ..
وبالأخرى مد لها كفه فلبت طلبه بوضع كفها بداخله فقفل عليه بأصابعه كمن يعزف على بيانو .. كانت المسافة الفاصلة بين أجسادهم قرابة الربع متر ..
تكررت الكلمات وتكرر اللحن وتراقص نغم الحب بينهما وبين أعينهم الحائرة .. ثم تاه في السحر الملامح الذي جعلته ينزع ثوب العمدية والصعيد .. ويخضع لأوامر قلبه الذي أبرأت الديانات السماوية ذمتها على عتابه .. وهو يعتذر لعرفه وقوانينه ولحياة المستحيل بينهما
"ده مش بايدي يابا .. ده مش بايدي يابا "
ثم باغتها بضمة قوية إليه بترت المسافة الفاصلة بين أجسادهما لتشهق مفزوعة بدون صوت وهي تغرق أكثر وأكثر بسطوه المسلح الذي هجم على قلبها ...
-"ناداني من يميني ولسه بيناديني "
كانت ملامح وجهه ثابته لا يتحرك منها الا عينيه فقط .. وكانت خطواته متزنة كل خطوة محسوبة بمقدار .. قطع معها خطوة لليمين ثم للأمام وعند لحنه:
"بيقولي حصليني على بلد العجايب "
دارها أمامه كفراشة في حقل زهور .. لقد كان يحركها كمن يحرك عروسة خشيبة يلعب بحبالها ببراعة .. كرر تلك الخطوات نحو الشمال وهي تذوب في سحره الذي اكتشفته معه للتو .. وجملة المشاعر المتدفقة بقلبها وهي تتوه وتتوه في طريق عينيه الي مالا نهاية .. ثم دورها مرة أخرى وتلقاها مائلة على كفه ..تحكي الخطاوي قصتهم ، غرباء ثم لقاء ثم تشابكت الايادي واتحدت الانفاس وتناغمت الخطوات وتعانقت الارواح المغلفة بالحب
انحنى ظهرها وخيم بأهدابه المنحنية عليها وهو يملأ جيوب قلبه من ملامحها وعندما قال منير "تعالي قوام تعالي خدي من الحب نايب"
ضمها مرة ثانية لحضنه بعد ما وضع كفها الرقيق على كتفه لتنفرد يساره بضم خصرها على بقية الاغنية يتمايلان بحالة من الحب فريدة لم تزر الاثنان طوال عمرهما ..
تدلي كفها برقة ليستقر على صدره الصلب وطالعت عينيه معبرة بصعوبة لجملة المشاعر التي سكنتها على سهوة منه :
-انت اتعلمت الرقص فين ..؟
إذا كانت الشجرة لا تعرف كيف ترقص فستعلمها الرياح .. وإذا كان المرء يجهله فسيحركه القلب الذي يحرك الصنم ؛مدرسة الرقص الأولى هي الحب ثم عينين من تحب .. أن وطأت الأقدام بوابتها سبحت وسرحت القلوب بدون رقيب ..
رفع كفها ليديرها مرة ثانية ويشدها بقوة حضنه الذي أحست بملكيته وانه لا يحق لاحد أن يشاركها فيه .. فتمتمت معترفة وكأنه سكب على قلبها بحرًا من حنانهِ في الحِين الذي كان العَالم كله يخيفها:
-تعرف ان دي اول مرة ارقص فيها مع حد .. أحساس مختلف وجميل .
أحيت ألف عرق ممتد لقلبـه بقُربها الساحر .. فدمدم معترفًا لعيونها وهو تحت تأثيرهما :
-ودي أول مرة يرجعلي فيها هارون القديم اللي فقدته من زمان !
ارتشفت الحُب من عينيه حتى بعد معرفتها بأعراضه الجانبية :
-القديم كان شخص غير هارون اللي أعرفه دِلوقت !!
-فرق سما وأرض ..
-بتحب مين أكتر طيب !
-القديم .. كان تايه ورجع !!
-مش فاهمة !! المهم إنك مبسوط ؟
-أنتِ مبسوطة ؟!
-مش عارفـة بس لما قلبي يدق بسرعة أوي أبقى كده مبسوطة !! صح ؟
ثم جلى حلقها وهي تشاهد تضاعف المطر فوقها .. فاحتمت بحضنه ضاحكة كأنه قدم لها صك الملكية لهذا المكان :
-دي بتمطر اوي .. الجو تحفة ..
ثم تحمست ممسكة بكفيه :
-أتمنى أمنية بسرعة ..
تمعن النظر بها ولأول مرة يكتب قلبه امنية تكون إمراة .. تنفس حروف اسمها وهو يرسل أمنيته للسماء بصمت لا يليق بقلبه الثائر :
-أخلق معجزة يالله واكتبها لهذا القلب الذي لم ينل شيء تمناه بحياته.. ويوم ما تمنى تمنى إمراة مثلها .. كلا إمراة تكون هي وحدها ..
لاحظت شروده :
-اتمنيت !!
هز رأسه بهدوء فاتبعت بعفويتها و تلقائيتها :
-أقولك قصة مضحكة مع المطر والبحر !!
-متقدريش تعديها من غير حكايات !! قولي ..
شرعت في رواية القصة الطفولية :
-وأنا صغيرة كنت متعلقة أوي بفيلم سعاد حسني .. صغيرة على الحُب ..ولما كانت بتمثل المسرحية في الفيلم .. و طلع لها عم حزنبل فاعل الخير اللي دايما بيحب يساعد الغير ..
ثم أخذت تقلد حركات سعاد حسني بالتفصيل بالفيلم وهي تمشي على طراطيف أصبعها :
-ففي المسرحية لما طلبت منه طلب واتحقق !! فاكر المشهد ده ؟
لقد كان يتذكر المشهد بتفاصيل ولكنه فضل أن يسمعه منها ، داعب الهواء ملابسه :
-وبعدين ..
تدللت أمامه بنفس شغفها الطفولي وهي تتمنى أمنيتها تحت عينيه بكناية :
-لما قالتله ، عايزة افتح عيني أغمض ألقى عمري بقى عشرين .. علشان ايه ؟! علشان اعجب شاب يكون 35 ....علشان خاطري ياعم حزنبل بس ولو ليومين اتنين ..
ثم انفجرت ضاحكة أمامه وأتبعت :
-كل ما تمطر وأنا على البحر افتكر المشهد ده ، ولازم أمثله تحت المطر ، مش عارفة أيه العلاقة بس بحبه أوي !!
ثم نظرت لعينيه :
-يمكن عشان قلبي بيتمنى فعلًا حد زي عم حزنبل يحقق لي أمنيته حتى ولو يوم ..
ثم شهقت بفزع :
-يا خبر !! كلام فردوس بتاع الفنجان طلع صح !! قالتلي حلمك هيتحقق وفي عريس!! يكون قصدها على شهاب !! بس هي قالت زي الطاووس لكن شهاب ده زي الدب القطبي !! يارب تكون غلطانة .
أشعلت جمر الغضب والغيرة بملامحه من جديد :
-هي الست دي مش هتبطل قراية فناجين !! طيب يا فردوس ..
ثم أشار لها بنظرة من عينيه :
-أمشي قِدامي !! هو أنتِ أيه بينك وبين حرف الشين !! يعني بالعقل تسيبي شريف عشان تاخدي شهاب !! طب غيري العتبة !
وقفت أمامه متراقصة على أوتار تمرده :
-يعني اركز على حرف أي في المستقبل !! أيه رأيك في حرف الهاء طيب !!
تخابث عليها :
-هيثم أخوي !! حلو مجانين زي بعض ..
-ااه هيثم ده وحشني جدًا ، أنا قصدي هيثم على فكرة، اقولك انا عايزة اروح ..
سبقت خطاه وهي تمحل حذائها بيدها وتسير نحو السيارة فأتبع خطاها وهو يتحدث مع امه الذي لم تتوقف عن الرنين :
-أنت هتعاود ميتى يا هارون !! ومعتردش ليه على البت زينة !! البت هتتعبط بسببك ..
رمق ظهر ليلة بنظرة حائرة وهو يقول حاسمًا قراره بخصوصها متأملًا أن ينال مراده يومًا ما :
-صفية ؛ قولي لزينة الچواز قِسمة ونصيب وهارون مش هيكمل في الچوازة دي …