رواية آصرة العزايزة الفصل السابع والعشرون بقلم نهال مصطفي
ثمة شعور مُلغز يغلفـه شريط من التساؤلات التي تفتقر الجواب في قلب تائه لا يفسر حملة المشاعر التي غزته على حين غُرة ، ثمة شيء مبهم بمذاق الحلوى وبمرارة الصبار عالق بمنتصف الروح ، لا يمكن أن يشرحه بمنطوق ولا يُخلصك منه بكاء الليالي حتى ولو بكيت دمًا ..
#نهال_مصطفى .
•••••••••••
عنوان الفصل :
(بين تنهيـدة وآخرى تسلل لص الحُب) 🍂
عندمـا يغدو للقلب عزيـزًا فما أسرع أن تستولى اعلى قلـب المرء المخاوف .. وتتقلص مسافـة الأمان ببراح الأرض لتستقر كلها بين يديه ، تستغرق عمرك كُلّه تحت مظلة أمنهُ ، وتفزعك لحظة شـك واحدة وتقتلك كلمة وداع ..
تقدمت "سامية" حاملـة مائدة من الطعام الصحى لغُرفة ابنتها التي باتت سجينة بين جدرانها تحت رعاية سجان الحُزن الذي جلد روحها بدون رحمة وهي تقول بشفقـة :
-رغد طيب لو مش خايفة على نفسك خافي على اللي في بطنك يا حبيبتي ، بتعملي في نفسك كل ده ليـه بس ..
ثم جلست على طرف السرير وهي تترجاها :
-طب كُلى لقمة واحدة تغذى حتة اللحمة الحمرة اللي في بطنك دي ، هو ملهوش ذنب .. أنتي شايلة روح تانية يا حبيبتي .
رفعت جفونها المبللة من مطر الدمع وهي تقول بحرقة :
-هاشـم خلاص مشي وسابني يا مامي ، طيب هو دخل حياتي ليه وعلقنـي بيـه وهو ناوي يمشي ..
ثم انتفضت عظام صدرها وأتبعت بنبرة مدبوحة :
-أنا ماليش ذنب ، محدش فينا بيختار أهله ، أنا دوست بالجزمة على حقوقي وغمضت عينيـا ومشيت وراه وسبت له نفسي ، أنا مستهلش منه القسوة دي ، ده حكم عليا من غير ما يسمعني ..ده حتى محاولش يكلمني وقفل كل تليفوناته .
أخذت تكفكف دموع حوريتها التي حمتها من وكر الأفاعي من قبل وهي تدعو علي زوجها الذي خرب حياتهما معًا ؛ وتقول :
-رغد حبيبتي ، أنتِ حامل دلوقتي .. لو عايزة هاشم يرجع لك يبقى تمسكي في الولد ده بأيدك وسنانك .. ووقتها هيكون ابنه في الكفتين ومفيش قدامه فرصة للاختيار .
بللت حلقها الجاف من قسوة الحزن :
-وفكرك أنا هقدر أبص في وشـه بعد ده كُله .. بعد ما كذبت عليه يامامي .. خلاص طريقي مع هاشم اتقفل ضبة ومفتـاح.
وبختها بنصح وبعيني تتسع من هول سلبيتها :
-لا ؛ الطريق اتفتح يا رغد ، وأول حاجة هي لازم نوصل لأهله ، لو هو مش عايز ابنه فـ أهله صعايدة ومش هيضحوا بحفيدهم .. شوفتي كنت مصممة إنك تحملي ليه !!
سالت العبرات من عينيها بحنين :
-بس أنا عايزة هاشم وبس يا مامي ..
اعتصرت ذراع ابنتها وهي توعيها بصوت مغلول :
-متبقيش غبيـة ، الطفل ده هو اللي هيجيب هاشم وعيلته تحت رجليكي يا رغد ؛ قومي اغسلي وشك وكُلي لقمة وفكري معايـا نوصل لأهله أزاي .. هاشم لو فاكر أن محدش هيقف في وشه يبقى غلطان .. العياط مش حل ..
قلبها المتورم من شدة الشوق والحزن أجهشت باكية وهي تضم ساقيها لصدرها متسائلة بحرقة :
-أنا ازاي هونت عليه بعد الحُب ده كله !
ردت أمها بحكمة :
-عشان الحُب لوحده مش كفاية يا رغد ..
ثم التوى ثغرها بحسرة :
-أنا أهو حبيت أبوكي واتخدعت فيه ، وفي الأخر خدت أيه !! في الزمن ده الحُب مش بيجي من وراه غير الندم والوجع ..
ثم حملقت بها بتوعـد :
-وأنا مش هسمح لهاشم يعمل فيكي زي ما ممدوح الشيمي عمل فيا يا رغد ، قومي دوري على مصلحتك ومصلحة ابنك متبقيش غبيـة …..
لقد بات الحُب في زماننا مثل ساحر ضرب كفًا بكفٍ فأضاء لك الدرب وحوله لجنـات عدن ثم بعد ذلك لم تعد ترى مرةً ثانية ..
•••••••••••
~قصـر العزايـزة .
قيـل لي ذات مـرة :
أنكِ مرحة كـ غرفة مليئة بالزهور..
وعينيكِ حزينة بغُرفتي يملؤها اللهب أو ربما البكاء أو على الأغلب تذوب في صحن المجـهول .. ومن حينها وأنا مشتتة تمامًا حولي ، وحول فهم ذاتي، أن هناك حياة آخرى انتمى لهـا غير تلك العبثيـة التي أعيشها .. أن وراء باب مـا ستفتح لي أبواب مملكة ديزني بوجهي لأعيش مغامرة جديدة كما تمنيت في صغري ، وللآن فـ أنا لم أكُف عن طرق بابًا واحدًا لعلى أجد حياة المغامرة لم تبدأ بعد ..
شـد ذيل كحلها بالقلم ولأول مرة تتعمد وضع كُحل غزير بعينيها ، ربما كناية عن الحزن الذي يحاوط قلبها فأنطبع حول عينيها !! أو رُبما كانت تحاول جاهدة في إخفاء هالاتها السوداء من كثرة التفكير بهِ !! كانت عينيها تبدو أكثر جراءة عكس طبيعتها تمامًا كأنها تحاول التجبر والتمرد على شعور ما يسكنها ..
فرغت " ليلة " من وضع الحُمرة الخفيفة على باقية ملامحها وهي تُطالع نفسها بالمرآة وتتحدث بنبرة مختنقة :
-كانت مجهزة حاجتي ومتعمدة أمشي وأهرب من البيت ده إمبارح ، وكمان أخدت حجة أن مامتي تعبانة وبتلح عليا لازم ارجع .. بس السبب الحقيقي أنا مكنتش حابـة احضر خطوبة العمدة ، قصدي هارون .. حاسة في حاجة غلط في الموضوع ده ، أنا مش متقبلة فكرة أنه يتجوز زينة ؛ مع انها حلوة بس أنا مالي ، شاغلة بالي بيـه وباختياراته ليه ..
ثم شرعت في تصفيف قُصة شعرها متعمدة إخفاء ملامحهـا وأكملت :
-مقدرتش أرفض له طلب ، لما طلب مني أقعد النهاردة وبس ، لغيت كل حاجة ووافقت .. يمكن عشان دي أول مرة يطلب مني طلب وهبقى رخمة لو رفضتـه !!
وبدا عليها شبح ابتسامة حزينة :
-كفاية اهتمامه بيا ، إصراره أننا نروح للدكتور وأد أيه بذل مجهود عشان نعرف نكشف عنده ، وإصراره أني ماقولش لمامي عشان متضايقش .. بس أنا حقيقي لأول مرة أحس أني أحسن !! بس يا ترى مامي هتزعل لما تعرف بقيت اتابع مع دكتور تاني ؟ بس والله هارون هو اللي ألح عليا وو
ثم مالـت لتأخذ الشال الصوفي وتضعه على كتفيها وأخذت نفسًا عميقًا :
-بس أنا قلبـي واجعني و تايه ومشغول بحاجة مش عارفـة هي أيه !! عيـنيه ؟!
ثم رجت رأسها بخفة رافضـة تصريح قلبها بانشغالها بعينيـه :
-أيه الهبل ده !! لا طبعا انا وهو صُحاب بس .. وبعدين أنا اتعمدت مخصوص احضر خطوبته دي عشان اقتل أي شعور تاني من ناحيتي له .. بس لأول مرة أحس أني بقيت غريبـة فـ البيت ده !!
يألف المرء الأماكن بعيون أحبته ، فأن غرُبت عاد غريبًا كما جاء .. أصابت قلبها وخزة متمردًا على حماقتها جعلتها تتأوه للحظة وهي تجُر المقعد الخشبي أمام التسريحة وتجلس عليه بملل واضعة وجهها بين كفيها وظللت ستائر شعرها فوق خيمة حيرتها تتساءل بكلل :
-أف !! مالك بس يا ليـلة !! أهدي أهدي .. خلاص .
أقصى أماني القلب أن تستريح سفن مشاعره في ميناء الحُب وسلامـه الواضحة ، لكن الإبحار في بحر الشكوك يقتـل صاحبـه ..
~بغُرفـة هلال .
لقد كان عابث الوجـه يقف أمام المرآة يرتدي ملابسـه بفتـور شديد إثر ذهابه لإلقاء أحد الدروس الدينيـة بالمسجد فلم يجد إلا طفلًا واحدًا من بين العشرات وكان السبب أن النساء امتنعن لإرسال أطفالهم لعنده لأنه بات غير مؤهلًا لتعليمهم على يديه ، يبدو أن المعاناة الحقيقية لزواجه لم تبدأ بعد ، فكانت رقية المتكورة تحت لحافها تراقبـه بعيني يعُمها الفضول والتساؤلات .. فرغت من قضم أناملها وهي تسأله بقلق:
-شيخ هلال ، هو حصل حـاچة ؟!
كان منشغلًا بلف عِمة رأسه وهو يقول بإيجاز :
-لا .. لم يحدث شيء.
-لاه كيف ووشك عيطق منه شرارة من ساعة ما رچعت وو
رفع عينيـه بالمـرآة التي تنعكس فيها صورتها ليقول متغلبًا على شعوره :
-دعنا نثنّي على الحزن الذي لفت انتباه القمـر لانطفاء النجم .
ثمة وهج خفي في كل انسان، لا يظهر إلا مع أشخاص معينة، وفي أوقات معينة، وأماكن معينة .. سؤالها واهتمامها كان سيفه الذي حارب بهِ العبوث ، زفرت رقيـة بخجـل لمغازلته اللطيفة وكررت سؤالها :
-يعني بچد مفيش حاچة !!
دار لها بعد ما فرغ من ربط عِمته الأزهريـة ذات الطابع الصعيد وقال مغيرًا مجرى الحديث:
-رُبما لأن زوجتي تمتنع عن المجئ مع للخِطبة .
أصرت على موقفها بحزن أغرق عينيها :
-أمي لسه مربعنتش وأنا أروح فرح !!
أحس بالندم الشديد وهو يدنو منها :
-حقك عليّ ، وحزنك فوق رأسي وإحنا اتكلمنا واتفقنا يا رقيـة أن دنيتنا فانية ؛ والآخرة خير وأبقى .. وأنتِ مؤمنة وموحدة بالله ..
جرى صدى صوت أمها بأذانها وهي تساءله بقلب يختلج :
-طب والشوق !! ميـن يطفيـه !
تحركت يده لتتلقى دمعة من طرف عينيها تمزق قلبه ولكنه تراجع كي لا يُصعب عليها الأمر مكتفيًا بضم كفها المبلل ليقول بنبرة تملأها الرضا :
-أنا معك حتى أغسل عن هذا القلب غبار الحياة ووجعهـا ليعود كالسحابة البيضاء ..
ثم أطال النظر بعينيـها وأتبع بأسفٍ :
-وحتى يُعدم من تجرأ على قطتي النقيـة .. وتعود الحقوق لأصحابها ..
من بين الدمع والأمل انفرجت عينيها بسعادة :
-يعني هيتعدم ، وهيشفى غليلي منـه !! والله عيني ما بتشوف النوم من القهر ..
تبسم متأملًا :
-سلامـة هذا القلب من أي سوء يا رُقيـة..
ثم أومئ بهدوء:
-هروح خطوبة هارون وأرجع لك نكملو درس اليـوم ..
لقـد كان ذكيًا للحد الذي تسلل بين قطرات عينيها ليشغلها عن البكاء ، وبدلًا من تركها فريسة لأنياب الليل ، بات ليلهُ برفقتها حلقـة من الذكر يملأها الونس والكيثر من النظـر ، كانت تتطلع إليها بدهشة أعمى يرى شعاع الشمس لأول مرة لتقول دون رقابة منها :
-أنتَ طيب قـوي يا شيخ هلال وو
ثم هبت مذعورة :
-أنا ماشوفتش جرحك وريني عايز يتغير عليه وو
قاطعها بوجهه البشوش وهو يُسبل عينيه بغرور الثقة وكأن الأسرار بدأت تتولد بينهما تدريجيًا للحد الذي تُقرأ الكلمات من الأعين :
-بالليـل .. لنـا ليلنـا يا رُقية ..
يشتت النهار الأحبـة ويجمعها القـلوب ، رغم نقاء مقصـده بمدح الليل الذي يجمع قلوبهم في السهـر إلا أن الجملة كانت تشمل كل طقوس الحب الطاهر الذي يضم روحيـن تحت سحابـة العشق المحلل .. كأنهما زوجيـن حقيقيين كما جاء في الكتاب والسُنة ؛ ولكن أي حُب هذا الذي يجعلها تشاهد المطر دونما تُعانقـه !!!
~بُغرفـة أحلام .
-يا أحلام استهدي بالله وقـومي يلا ، أنا مش هروح حتـة من غيرك ..
لقد نفذ صبـر هارون في محاولاته المتعددة بإقناع أحلام أن تأتي لخطبته ولكنهـا رفضت رفضًا قاطعًا .. تحاشت النظر له لأنها تأكدت من شرارة الحُب بينه وبين ليلة :
-مش چاية يا هارون ولا قلبي راضي عن الچوازة دي ، وأنت عاوز تكمل فيها كمل من غير رضا أحلام ..
فأتبعت هيـام بهدوئها المتوارث من أخيها الكبير:
-طب والناس يا أحلام ، زوقي معانا اليوم وبعدين هارون لو مرتحش يبقى الچواز قسمة ونصيب ..
هبت أحلام بوجهه :
-وفكرك دي لو مسكت واتمكنت منه هتسيبه ! يا ولدي ما تفتحلهاش باب متعرفش تقفله ، طالما مش رايدها مكمل ليـه ..
انفجر بوجهها بحزن شديد طفطف من قلبه :
-من ميتى عاخد اللي رايده يا أحلام ..
ثم رفع سبابتها واضعًا حدًا لمجزرة قلبه وهو يعانده :
-شوفي يا أحلام أنا مش هچبرك وعلى راحتك .. بس جوازتي من زينـة خلاص اتكتبت ، خلينا نفوقوا لمصالحنـا ..
صرخت عليه بحرقة :
-أعمل اللي في راسك يا هارون ، بس اللي ما يندمش ..
شد زعابيب غضبه وهو خارج من الباب فارتطم بالليـلة بوجهه وسقطت عينيه على تفاصيلها المُهلكة لقلبـه ولرجولتـه .. جمالها كان مختلفًا عن كل مرة رأها بها .. كانت بعينيها تقطن نظرتي قوة تتحداه جعلتـه يود أن يتحرك نحوها ويمضغهما بفكيـه ، عينيها كانت ساحرة بتعويذة جعلتـه يتنهد مغمضًا جفونه ليتفاداها .. رمشت بأهدابها بقلق :
-أنتَ مالك !! مضايق ليه ..
-مفيش ..
رد بملل هاربًا من سطو التطلع إليها الذي آتى بقلبه مجرورًا لقعـر وجهها .. فجاء هيثم من الخلف متعجبًا :
-ماله هارون واخد في وشه وماشي؟
هزت كتفيه بعدم فهم :
-مش عارفة في أي، تعالى نشوف أحلام ..
حينهـا آتاهم صوت صفيـة مناديًا :
-يلا يا هيثم وهات أخواتك عشان أبوك عينام بـدري .
خرجت هيام بقلة حيلة وهي تقفل الباب خلفها وأخبرتهم :
-أحلام بردو مش راضية تروح ، حكمت رأيها خلاص ..
•••••••••
~بغُرفـة زينـة ..
لقد كانت ترتدي فستانًا منوشًا باللون الوردي أشبه بفساتين الزفـاف بأكمام تصل لمعصمها ، تاركـة شعرها المموج وراء ظهرها ويعلوه تاجًا من الفضة ، لم تكن هيئتها وإطلالتها مناسبـة لهذا العصر ، حيث كانت متبعة موضة قديمـة من عشر سنوات .. جرت ذيول فستانها واقتحمت غُرفة نغـم التي اكتفت بها عن العالم وتعمدت أن تتمايل بخصرها المُحاط بالجواهر وقالت بمكر :
-يوه ! لساتك ملبستيش يا نغـم !! أومال مين يقدملي الشبكة ، ماهو لازم اللي يقدمها تكون بت فاتها سن الچواز عشان ربك يحـل عقدتها .
رفعت نغم عينيها بجراءة :
-خليكي في حالك يا زينة ، وسيبيني في حالي!!
رفعت حاجبها كالحية :
-ديه جزاتي عشان عاوزة افرح واطمن على بت عمتي يعني!! أما أنتِ قلبك اسود يا نغم !!
ثم وقفت أمام المرآة لتدلل شعرها:
-ما تخفي نمردة وقعونة ، مستنية عريس يتقدملك أحسن من هاشم فين !! كفاية هياخدك معاه .. ولا أنت ناوية تعيشي عالة على أبوي .
ثم تنهدت بخبث:
-هنبقوا سلايف بس يلا ، مراة الكبير محدش هيتعداها..
انفجرت نغم بوجهها وهي تفارق تختها:
-اسمعي انا قاعدة هِنه مش عالة على حد ، أنا قاعدة في ورث أمي اللي أبوكي عيوكلك منه .. ولو وچودي عالة زي ما عتقولي ، يبقى بيت أبوي وعمامي أولى ..
دارت لها مرتدية ثوب الأفعى :
-وه وه !! كل ديه عشان عاوزة مُصلحتك .. وبعدين مالك شايفة روحك علينا ليه ، شهادتك دي تبليها وتشربي ميتهـا ، مش بالشهادة يا نغم ديه بالراجل اللي يخلي الست فوق فوق فوق..
رمقتها بسخط:
-ده تفكيرك المريض يا زينة ..
مالت لها بكيد أنثوي:
-ولا أنت رافضة هاشم عشان عينك هطق على أخوه !! أنا قارياكي يانغم وفهماكي بس ديه بعينك ، خلاص خِلصت هارون لزينة وزينة لهارون ..
قاومت دمع عينيها وهي تقول:
-تصدقي إنك ناقصة وقليلة عقل بصحيح !! واطلعي يا زينة بدل ما أفرجك مقامك وساعتها لا هعمل حساب لخال ولا عم .. هارون يحرم عليا من الساعة اللي قال رايدك فيها وبعدين كلنا عارفين أنتِ چايبة رچليه كيف ، بالدجل والحنچل بتاعك مخليين الرجل مش واعي قِدامه ولو مبطلتيش السكة دي وربنا لأقول لأبوكي وخالتي صفية ..
ثم جزت على فكيها :
-هارون لو في وعيه كان شاف حقيقتك زين .
لُطخت الدماء بوجهها وهي تعارضها:
-وه عاوزة تتبلي عليّ وتلبسيني جِناية يا نغم !! طب لو چدعة قولي وساعتها هفضحك قصاد الكُل وأقولهم أنك رفضتي هاشم لأجلك رايده أخوه وساعتها الكل هيشوفك خطافة رچالة وحقودة ..
ثم قبضت على معصمها والأساور تحدث صخبًا بيدها:
-شيليني من راسك يا نغم وبلاش أنا ، عشان اللي عيقف قصادي عدوسـه برچليّ .
دفعتها نغم بكل قوتها لترتطم بالخزانة متأوهة وهي توبخها:
-اطلعي برة يا زينـة وبكرة هتشوفي أعمالك السودة هتاخدك لفين ، يا خسارة محدش صعبان عليّ غير هارون ؛ واقع في حيـة …
تراقص حجبها على أسلاك المكر وهي تقول:
-همشي عارفة ليه !! عشان مش عاوزة واحدة غِلاوية زيـك تعكر فرحتي بعريسي .. وأنتِ خليكي تحت سقف الأوضة دي لغاية ما تعفني .
نار بالقلب وشرار بالرأس .. انتظرت نغم حتى تغادر زينة الغرفـة فتركت نفسها للأرض وهي تضمد وجع قلبهـا الدامي والمقهور من ظلم الحياة والبشـر ومن كل شيء يعاندها .. فرفعت جفونها نحو السماء من تحت نافذة غرفتها تشكو حزنها :
-طب كُنت سبت لي واحد من الاتنين يارب ، لا أب ولا أم !! ليـه ؟
أحست أن العالم بأكمله تآمر عليها ثم وثبت من مكانها وعزمت أمرها وأمسكت هاتفها متحدثة مع خالها التي تراقبه من أعلى ، فرد عليها وبدون أي مقدمات أردفت بحرقة:
-خال صالح !! أنا موافقة اتچوز هاشـم ..
••••••••••
~ سينـاء ..
"هلعٌ من خوفٍ قديم أن تُعاد المأساةُ من جديد دون النجاةُ مِنها تلك المـرة "
تنقلات مع حركة الساعة للجنود والعساكر ، وحملات عسكرية متواصلة بقيادة هاشـم العزايزي الذي كان ينتقم لقلبه من كُل إرهابي بالمنطقـة .. رصاص مسدسه لا يرحم أحد ، غارات عسكرية متتاليـة وطلقات فوق رؤوسهم كالمطـر ، وبين كل هذا يخرج منتصرًا في المعركة التي كان ثمنها قلبـه ..
تسلل من بين الأشجار بزيه الميـري وهو يلهج من شدة المعركة التي أوقعت بـ١٣ إرهابي بأحد ممراتهم تحت الأرض ، ربت صديقه على كتفه متفاخرًا :
-عاش هاشم باشـا .. أحنا بالحال ده لمدة سنة مش هنشوف إرهابي واحد في سينا.
بصق غبار معركته المريرة وقال :
-خليها تنضف من أعوانهم ، دانا ناويهالهم ولاد الـ***
أتبع زميـل له وهم في طريقهم للسيارة بعد ما القوى أخذت المجرمين :
-وأحنا في ضهرك يا باشا ..
حياههٌ قائلًا :
-تعيش يا منتصـر ..
ثم أخرج هاتفه الذي لم يزل من خلفيتـه صورة رغد التي أشعلت النار بقلبـه وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة :
-مفيش شبكة هِنه ..
ثم أخرج جهاز اللاسلكي وتحدث مع قائده قائلًا :
-كله تمام يا فندم .. وأحنا في طريقنا للمعسكر..
-هاشم بيه !!
مع نهايـة جملته جاءت رصاصـة مستهدفة وقاصـدة هدفها بغدر لتخترق كتفه وفينفجر صارخًا من شدة الألم بين رفاقه الذين تحمسوا لخوض معركة آخرى في لحظة غدر …
~مرسى علـم .
دوت صرخـة " رغد " النائمة بحضن أمها في أرجاء الغرفة مناديـة باسمه ، وهي تهذى كمن فقد عقله وترتعش باحثة عن هاتفها :
-مامي ، مامي هاشم جراله حاجـة ..
فضرب الأرض بقدميها:
-اتصرفي لازم اطمن عليه !! قلبي هيقف من الخوف يامامي .،
ثم تناولت هاتفها بيدها المرتعشه وهاتفته وكعادته مغقلًا ، ألقته بالأرض عاجزة وهي تصرخ بصوت مكتوم :
-حرام عليك يا هاشم متعملش في قلبي كده حرام عليك ..
حاولت أمها أن تهدئها بشتى الطرق ولكن نيران القلب أن توهجت لا يطفئها إلا حبيب .. هنا دق جرس البيت فهرولت سامية لتعرف هوية الطارق متوسلة ابنتها أن تهدأ.. وما فتحت الباب ففوجئت بفؤاد يقف أمامها والسيجارة تحتل بين أصبعيه ، تفحصته سامية بضيق:
-فؤاد !! أنت جاي هنا ليه !!
دخل قبل أن تأذن له ؛ فوقفت بوجهه:
-رايح فين وإحنا هنا اتنين ستات لوحدنا !!انت مش هتبعد عن بنتي بقا يا فؤاد وتشيلها من دماغك !
أصدر صوتًا نافيًا :
-لوّ شيلتها من دماغي تتشال من قلبي ازاي يا طنت !! هي فين عايزها .
-اطلع برة وسيب بنتي في اللي هي فيه يا فؤاد ..بنتي واحدة متجوزة وعلى ذمة راجل تاني .
رفع حاجبه والشماتة تركض فوق ملامحه :
-لا ازاي !! منا جاي أعرفها حقيقتـه ، وأنه كان واخدها يومين أفراح وخلع …
-عايز أيه يا فؤاد ؟!ومالك بهاشم ؟!
ما سمعت اسم هاشم جاءت من غرفتها بقلب ملهوف لسماع أي خبر عنـه .. فنظر لهيئتها الشاحبة :
-أيه يا رغود الوش ده ؟! هو جوزك عملها وهرب !!
صرخت سامية بوجهه :
-انت لو محترمتش نفسك ومشيت من هنا أنا هطلب لك البوليس ..
تدخلت رغد بصوتها المهزوم من الحب والحياة :
-استنى يا مامي .. عايز أيه يا فؤاد ؟
جلس معجباً بسؤالها وهو يفك زر بذلته ويقول :
-هو ده كلام العقل ... أنت تعرفي أيه عن هاشم يا رغد .
-يعني ايه ؟! ده جوزي أكيد أعرف عنه كل حاجة !!فؤاد ممكن بلاش طريقتك السخيفة دي !
قهقه بسخرية ووقف أمامها وهو يتحداها بعينيه :
-يعني كنتي عارفة أنه من العزايزة .. أكبر وأشهر قبائل في الصعيد ؟؟
تراجعت للخلف بشك :
-أه طبعا عارفة ؟! وبعدين وأنت مالك ؟!
أكمل بنفس النبرة الثعلبية :
-بقولك عزايزة .. يعني العيلة دي مش بتسمح غير بجواز الدم وبس ، يعني هاشم مش مسموحله غير يتجوز واحدة من دمهم .. وأي حد بيخالف أعرافهم مصيره الموت ؟!
ثم ضاقت عينيه بخبث :
-أيه الحب عماكي للدرجة دي وخلاكي تبيعي عمرك وتتجوزي واحد محكوم عليه في عرفهم بالموت .. ومش هو بس .. وأنت قبله .. ولو في طفل مصيره من مصير أبوه وأمه !!
حلت النازلة على رأسها فلم تستوعب ما يقوله وهي تضع يدها على مضغة جوفها .. فتمتمت بشفاه مرتعشة :
-انت جبت الكلام ده منين ؟! لا طبعا كذب ..
رد بثقة :
-مش بكذب يا رغد أنا ليا 3 أسابيع متابعه خطوة بخطوة .. أه مكنش سهل أعرف كل الحاجات دي بس أنتِ تهميني .. عشان تبقي تعرفي مين شاركي ومين بايعك ..
ثم أطال النظر بعينيها :
-كلمي جوزك وأتأكدي من الكلام ده بنفسـك .. بس لما تتأكدي أهربي عشان لو عرفوا مش هيسيبوكي عايشة ..
ما رمى قذيفة أخباره برأسها استأذن مغادرا والشماتة تقاسم معالم وجهه .. نظرت رغد لأمها بصدمة كبيرة وهي تشكو لها :
-مامي أنتِ مصدقة الكلام ده !! هو أيه اللي بيحصل فيا ده !!
***********
~بدوار الحج صالح .
احتشدوا أهله القبيلة بأكملها لحضر حفلة خطبة عمدة البلد وكبيرها واحتراما لحزن هلال وزوجتها اشترط هارون أن يكون الحفل خاليًا من أي قرع طبل أو غناء .. تجلس " ليلة" بأحد الزوايا وهي تراقب النساء وهن يغتابن أنفسهن بدون رحمة .. وفرحة "زينة" التي كادت أن تعلق جناحين وتطير بهما في المكان .. ربتت هيام على كتفيها :
-مالك يا ليلة .. سرحانة في أيه ؟!
ردت بملل :
-مش عارفة بجد يا هيام .. مخنوقة أوي .. حاسة بحاجات كتير مش عارفة هي أيه !!
-أنت بس قلبك واكلك على أمك .. خلاص أديكي الصبح هتروحي لها .. وهتقطعي بينا !
أشاحت ليلة بنظرها بشك :
-تفتكري ده السبب ؟!
ثم غيرت مجرى الحديث ممازحة :
-وبعدين خطيبة أخوكي أيه اللي عاملاه ده !! أنا ماشوفتش الموضة دي من زمن !
ضحكت هيام معها وهي تقول :
-هقولك .. أصل الفستان ديه جايبها من وهي في ثانوي .. وشبطت فيه واشترته وفضلت شايلاه في دولابها لغاية اليوم ده .. وأهي المجنونة لبسته ..زينة دي عبيطة قوي !!
-هي بجد سو فاني مش عبيطة .. طيب والعمدة أخوكي عاجبه الكلام ده !
ضحكت هيام بخفة :
-أنا شايلة همه ليتصدم من دلوق .. بس هو قاريها وعارف أنها هابة منها .. هارون عيقرأ الناس زين .
-طيب وليه مجبور عليها ؟! ده مش مبسوط خالص؟
ردت هيام باسف :
-صدقيني يا ليلة .. معرفش ، اللي قدامي ديه مش هارون أخوي ده واحد تاني عيجدف بمركبته في النهر بس هو مش عارف بيهرب من إيه ؟؟ ودي أول مرة يكسر كلمة لأحلام !! في حاجة مش مفهومة ...تحسيه بيحارب نفسه المرة دي وبيفتري كمان.
نظرت لها ليلة والإعجاب يشع من ملامحها :
-على فكرة هارون أخوكي شخص جميل بجد .. أنا اتعاملت معاها وبصراحة عمري ما قابلت حد في جمال قلبه وهدوئه وعقله وحتى وهو متعصب الحنية مالية وشه .. بجد هو شخص لطيف جدا ومثقف أوي وذوق !! وزينة دي زي ما أنت شايفه ..فرق السما والأرض .
يبدو أن هيام قرأت الحب المغرد بلسانها فتمتمت بخبث :
-أمم هاورن فيه كل ديه !! وأيه تاني !!
توترت في جلستها :
-أيه يا هيام !! عادي أنا بفضفض بس .. لكن هو وخطيبته حُرين يشبعوا ببعض .. مش هو اللي اختار.
ثم وثبت من مكانها :
-أف أنا اتخنقت وعايزة أروح .
أمسكت بمعصمها :
-طب أقعدي بس .. كلها ساعة يلبسها وهنمشوا ..
هللت الزغاريد بمكان حيث تقدم هارون الذي كان يتكئ على تمرده وعناده ويسافر شعراً إلى وجهته المفقودة، ولا يصل إلا لطريق الضلال ؛ وتابعه وهيثم مخترقًا صفوف النسوة اللاتي لم تنزع اللون الأسود بعد من فوق رؤوسهن .. ما أن رأته زينة وقفت مغردة بالزغاريد كفرحة العبيط وتابعها البقية من النساء وباتت كل واحدة تتنافس من أعلى صوت فيهن .. جلس هارون ذو الملامح القاضبة بمنصة العروس التي تمسكت به كالجرادة وهي تمسح على ذراعه :
-يا فرحة قلبي بيك يا عمدة .. وأخيرا ..قول لي عجبك الفستان أكتر ولا صاحبة الفستان .
ضرب الأرض بمشط قدمه بخفة وهز رأسه قائلا دون التطلع إليها :
-كله زين ..
-والله ما حد زين النجع كله غيرك يا سيد الناس وسيد قلبي ..
تسابقت الدماء في عروق ليلة التي بات وجهها يشع بنيران لا تعلم مصدرها .. لهب الغيرة تمكن منها فجعلها تتطلع يمينًا ويسارًا و أي جهة أخرى لا تنتهى به .. خرجت صفية من أحد الغُرف حاملة علبة الذهب والزغاريد تنبعث من أفواههن فاقتربت صفية من هيام ومدت لها صينيتين من الذهب :
-بت يا هيام ، خدي قدمي شبكة أخوكي خلي نحسك يتفك وتحصليه .
أخذت الصنيتين من أمها .. أعطت ليلة واحدة حملت الأخرى بضيق :
-تعالى معاي يا ليلة خلينا نخلصوا ..
عارضتها صفية :
-أختك هاجر فينها تساعد أخوها ..البت دي عتخفى تروح فين !
حملت بين يديها صنية ممتلئة بالذهب وتقدمت خطوتين عن هيام وكانت خطواتها متمهلة كمن يقدم كفنه على ثأر لم يرتكبه .. تعلقت الأعين ببعضها وهو يرقب الفتاة التي سرقت نوم عينيه بفحم كُحلتها وهي تدنو منه تدريجيًا بحرص وتتحاشى رؤيته في هذه الصورة التي تحرق قلبها .. صعدت ليلة فوق المنصة وتطلعت بملامحه التي أصبحت مأوى روحها وقالت بصوت مختنق :
-مبروك يا عريس .. شكلك حلو.
لم يزحزح عينيه المرفوعة لأعلى من عليها وشرارة حبه تفيض منه واقعًا في غرام مدحها ؛ ليجيبها :
-عقبالك يا أستاذة ..
أكتفت بهز رأسها فصاحت زينة متمردة :
-وه مفيش غيرك يا هيام أنتِ والبت دي تقدموا الدهب .. ديه فال عفش ما تتكلم يا هارون ..
رد باختناق :
-مالك بس يا زينة ؟!
-هيام والبت دي فاسخين خطوبتهم و ديه فال مش حلو علينا .. لالا شيعي لهاجر _ثم أكملت بكيد _ أو لنغم يقدموا هما الشبكة ..
تدخلت هيام باختناق :
-هارون قولها حاجة بدل ما أهبد الصونية في وشها !! أن محترمة وجودك بس .
اكتفى هارون بنظرة واحدة من عينيه أخرستخا فانضم لهم هيثم ساخرًا :
-فقري ومتأرعن وأنت كنتِ لاقية .. ما خلصينا يا ست حلويات عاوزين نتعشوا .
مدت هيام الشبكة لأخيها التي بدأ أن يلبسها لعروسته الفارحة بغباء والملل الشديد يطوف فوق ملامحه .. حرقة مجهولة بقلب ليلة كان دخانها يستشيط بقلبه العاصي عليه .. شتت "ليلة" انتباهها عن هارون الذي يضع خاتم زواجه بأصبع أخرى لا تشبهه تماماً فاعتصر قلبها حزنًا وهي تقاوم دموع عينيها التي توهمها بأنها مشفقة على حاله .. فالأصعب هو أن تشعر بوزن الحزن في قلبك بدلًا من سببه وهذا أثقل ما في الأمر .
يحدث أنك قد تتمنى أكثر مما ينبغي تمنيـه بقصـر الأحلام البعيدة ، وهذا ما يجعلك الآن تُعاني ، متعب أكثر مما يحتمله قلبك الهش .. حتى تجد نفسك عالقًا وسط حشد من الأحلام الجائعة، تلك الأحلام التي لا تملك إطعامها، وهي لا تعرف كيف تموت من حولك ، فما زال صخبها يدوي بقلبك …
كانت نغم تراقبــه من أعلى بقلب يحترق بحرائق لا تختلف كثيرًا عن "ليلة" الحمقاء في درب الحب إلا أن نغم كانت تعلم بالسر وسببه أما ليلة فكان حبها خفي عنها .. كان يحركها ويعبث بها بدون علمها .. نفذت صنية الذهب الأولى بدلت هيام الثانية من يد ليلة .. فتقدم هيثم ساخرا :
-ليه صونيتين دهب يا زينة أنت داخلة مسابقة ؟
شخللت الغوايش بيدها :
-لا دي شبكة العمدة لمرته وأم عياله .. قول أن شاء الله يا عمدة ..
هب هيثم ضاحكا :
-أوعى تأمم يا عمدة أنا عندي أمل الجوازة تتفشكل ..
صرخت زينة بوجهه :
-فال الله ولا فالك يا هيثم .. عقولك ايه خف نبر فوق رأسي وسيب العرسان يشبعوا من بعض .. ديه لُقا من بعد شوقة ...
زفر هارون بضيق معاتبًا نفسه عما يفعله بها :
-ديه مرار طافح ..
غمغم ضاحكًا بصوت لم يصل إلا لأذان هيام التي كتمت ضحكتها :
-لا دي شبع من بعد جوع بعيد عنك و أنتِ الصادقة ..
لم تتحمل ليلة البقاء بجوارهم أكثر من ذلك .. رمت الصنية بيد هيثم وهي تركض هاربة من المكان لتشم الهواء إثر اختناق نفسها بالمكان او قلبها ؛ أيهما أقرب ..وهي تدمدم :
-هيثم امسك دي ..
وقعت الأسوار من يد هارون الذي شد رأسه لعندها رغم عنه مستغربا تصرفها الغامض وخطواتها التي تتسابق مع الأرض وهي تتسلل من بين السيدات باحثة عن مكان تتنفس فيه هواء نقي يكون خاليًا من عطره ونظراته الحارقة ..وقفت بجوار النافذة واضعة يدها فوق صدرها الذي يعلو ويهبط والحرارة تشع من وجهها فأخذت تهش على أوجاعها تتساءل بارتباك حائر :
-ليلة مالك بس.. أهدي أهدي ..مش على بعضك ليه ؟
ظلت تأخذ شهيقا وزفيرا ونظرة منه وتلجأ لأبواب السماء راجية أن تهدأ نيران قلبها المتقدة :
-ياربي هو في ايه !! أنا مش مظبوطة خالص ، وواخدة الدوا !! في أيه بس؟
تائهه كمن تورط في حكاية لم تكن حكايتـه ، ففي موكب الأحلام تلمح العين ما تبقّى من رمادِ لياليها المُظلمة فترى قلبك في أشلائها يترنحُ ، وفي موكب الحُب يبصر القلب كُل شيءٍ ويطوى اللسـان صفحات اعترافه بالحقيقة ..
••••••••••
"أتيتك من كُل المنافي أجرجِر تعبي وقلّة حيلتي لأترك علىٰ أعتابك محاولات صبري، لا جلد لي على السير إن لم تكن أنتَ وجهتي، أرجوك رجاءً لا أعرف كيف أصيغه وأنت ربّ قلبي وقاضي حاجتي، لا أملك من زادٍ إلا تسبيحة يُونس والكثير من اليقين، عبدك يناديك، بِئس العبد لكنك نعم المُجيب الواسع"..
رفعت يديهـا للسماء بعد ما قفلت مصحف هلال الذي كانت تمسكه بقماشة عازلة وظلت تردد هذا الدعاء وتدعو بالرحمة والمغفرة لأمهـا وأبيها تاركة حِملها للمولى عز وجل .. ثم قفلت النافـذة وما كادت أن تهرب لفراشها فسمعت صوت طرق على الباب ، هرولت مسرعة لفتحه مدهوشـة :
-عمتي أحلام يالهوي !!! كيف ركبتي ورجلك وجعاكي !
استندت أحلام على كفها وهي تدلف للغرفة وتلتقط أنفاسها بمعاناة :
-خُلقي ضاق يا بتي ومحدش واخد بحسي ، كُلهم راحوا الخطوبة الغبرة دي .. قولت أجي اتساير معاكي ..
-تعالي يا عمة تنوريني .
سحبتها ببطء شديد ورفعت طرف الغطاء لتجلس على سريرها وساعدتها في الجلوس برفق وهي تقول :
-لو كنت أعرف إنك مروحتيش الفرح كُنت نزلت لك من بدري ..
ثم شدت اللحاف فوق قدميها التي تؤلمها:
-أجيب لك ميه !!
أمسكت أحلام يدها:
-أقعدي بس أنا چاية اتونس بيكي مش اتعبك، طمنيني عليكِ يا حبيبتي عاملة ايه !
جلست رقيـة أمامها على طرف السرير :
-ولا حاجة بحاول ارضى ، ادعي لي ربنا يمن عليّ بالرضا وكله هيهون ..
-كله عند ربك بأجر وحساب يا ضنايا، حزنك دي أنتِ هتتجازي عنه في الآخرة..
ردت بخفوت والدمع يترقرق من عينيها:
-الشيخ هلال قال لي..
تبسمت أحلام بوجهها:
-چدع هلال وواثقة إنه مش هيسيبك للحزن، نيچوا للمهم .
-خير يا عمتي؟!
-مش عاوزة تعاودي ليه على كليتك مع هاچر بكرة؟؟ هتفضلي محبوسة بين اربع حيطان لميتى !!
انخفضت أنظارها بالأرض بيأس:
-مش قادرة، مش هقدر اسمع كلمة تسم بدني من حد، هأجل السنة تكون الناس نسيت و
-غلط يابتي! وتضيعي سنة من عمرك مش كفاية اللي ضاع! طب وهلال أيه رأيه ؟
غمغمت بحزن:
-هو كمان ماموافقش، بس رچع وقال لي اللي يريحك اعمليه..
ربتت أحلام على كتفها بوجهٍ بشوش:
-وأنا هقولك زيه، اللي يريحك أعمليه وأحنا في ضهرك يابتي.
حضنتها رقية بامتنان لتشم بها رائحة أمها ثم عادت بخجل:
-عمتي هو أنا ممكن اسالك في حاچة!
-طبعًا يابتي…
حكت كفوفها ببعض بحرج وقالت والحياء والحزن يملأها:
-من ساعة ما عملولي العمليـة ، وو .. في نزيف بيروح ويجي، وأنا مش عارفة اصلي ولا أعمل أيه .. وساعات بتحرج من الشيخ هلال لما يقول لي قومي نصلوا ، بتضطر اغتسل واصلي بس … هو ديه حرام !!
ضحكت أحلام على حالتها المرتبكة :
-يعني أنتِ متچوزة الشيخ هلال منارة العِلم كلها وچاية تستفسري من أحلام الغلبانة .. !!
-يالهوي!! أسال هلال كيف!! دانا بتكسف أبص في وشه !
تبسمت العجوز ذات ملامح الوجه المصبوغة بلون العسـل وهي تقول:
-ديه جوزك يا عبيطة عارفة يعني أيه جوزك !! يعني أنتوا الاتنين بقيتوا روح واحدة في جسدين !!
عاتبتها رقية بخجل :
-أنتِ عتقولي أيه يا عمتي!! لا مفيش حاجة من دي !!
ثم رفعت أهدابها المبللة لتقول بحرقة:
-أنا مستاهلش أكون مراة هلال .. أنا ظلماه معاي ومش قادرة اصلا عاوزة اسيبه و
قاطعتها أحلام :
-بس يا عبيطة .. هلال لو سمع كلامك ديه هيزعل قوي، وبعدين انتي مش مبطلة نبش في قبور الماضي ليه!! اللي حُصل حُصل ايه هنموتوا روحنا يعني ولا اللي حصل كان بمزاجك !! متعكريش حياتك وتوقفها وأحمدي ربك أنه عترك في واحد كيف هلال عارف ربنا .. ارمي ورا ضهرك وشقي طريقك لسه الحياة قدامك واسعة ..
ثم مسحت على رأسهـا:
-ربنا خد منك حاجات كتير متتعوضش بتمن ، بس كرمك ورزقك براچل حنية الدِنيا فيه وشاريكي ، وأحنا كُلنا هنا أهلك .. وبكرة يكون عندك حياتك وشغلك وعيالك وچوزك اللي معاه هتفوتي في الحديد.. بصي للي في يدك دلوق وحافظي عليه ؛ متبصيش للي راح خلاص ..
ثم ختمت جملتها بأصوات " تلكسات" السيارات التي أحدثت ضجة بالمكان وقالت :
-شكلهم چم ، بصي كِده يا رقية يا بتي ..
•••••••••
-كِده ياما تسافري من غير ما تقوليلي ؟
استقبلت " نجاة " ابنها الذي حُرمت منه لمدة ثلاثة أيام ظلت محبوسة بالغُرفـة ، ما رأته جثت على رُكبتيها وهي تقبل كل حتة بوجهه وكفوفه وصدره بشوق أم انفطر قلبـها على صغيـرها .. ما انتهى لقاءها بصغيـرها أتبع صديق الواقف بجوار أمه قائلًا :
-هااه يا نچاة !! قولتي ايه !!
وقفت مستندة على كتفي ابنها الذي ضمته إليها تحت سطو تهديده بحرمانه من ابنها وهي تعاصـر قلبهـا حزنًا وهمًا ، نفس المشهد يتكرر أمامها ولكن تلك المرة تقبل الألم بأيدي مغلولة وتقول بمرارة :
-موافقة يا صِديق .. موافقة اتچوزك بس متبعدنيش عن ولـدي …
هلل فارحًا :
-على بركة الله .. نشيعوا نجيبوا المأذون !!
هبت مذعورة :
-لا مش دِلوق، خليها آخر الأسبوع الچاي أكون جهزت روحي …
-يا صبري عليكي ، وماله نصبروا ، بس يكون في معلومك رجلك مش هتعتب عتبة الباب ديه ، وكمان مفيش لا محمول ولا مكالمات .. وولدك أهو في حضنك بس كلمتي هي اللي هتتسمع يا نچاة ..
قلبت على مضض وقلبها يتمزق إربابًا :
-اللي تشوفه أنا قابلة بيه .. بس بلاش ولدي ..
-طول ما أنتِ حِلوة وعتسمعي الكلام محدش هيزعلك …
ثم صاح مناديًا على زوجته التي تتوجع في الزواية آمرًا :
-جهزي الأوضة اللي فوق يابت ، هشيع أجيب أوضة نوم چديدة للعروسة …
•••••••••••
~بعـد منتصف الليـل .
طرق الحج خليفـة باب غُرفة هيثم الذي فتحها وهو تحت تأثير نومه :
-خير يا بوي !!
هتف أبيه بنبـرة آمرة :
-اعمل حسابك الصُبح هتسافر مع ليلة اسكندرية توصلها لغاية بيتها وتعاود .
-ليه !! قصدي حاضر يابوي ..
كانت ليـله يتسللها الشتاء نسمات هواء تلامس الروح هذه المرة قبل ملامستها لجسد لتفتح أبواب شتى بالذاكرة .. كل القلوب بلا استثناء تحتـرق ، كُلها مولعـة بمشاعر مجهولة !!
ليلة التي لم تكف عن التحرك بغرفتها وهي تتحدث مع رفاقها بثرثرة كبيرة، تارة تجلس وآخرى تفزع واقفة .. تتجوب بزواية الغرفة ثم تتوقف بمنتصفها فجاة وهي تهذي بقلبها ودموع عينيها :
-بنات الحقوني قبل ما اتجنن !! انا حاسة إني اصلا اتجننت .. من وقت ما عرفت انه هيخطب زينة دي وانا بقول عادي وانا مالي .. وبتجاهل ، لكن النهاردة انا كنت بموت حرفيا ، شعور غريب مد أيده في قلبي وبقا يقطعه حتة حتة .. كل ما أبص ناحيته اتوتر وأحس بالعجز ..
ثم شد خصلات شعرها :
-في دماغي دوشة وفي قلبي دوشة وتعب في كل حتة ، صورته مش راضية تفارقني ، اوقاتنا مع بعض ، كل حاجة كل حاجة ملازماني ، حتى حتى المواقف الرخمة بتاعته اللي كانت تجنني وتعصبني الغريب أنا بقيت بحبها وببتسم لما افتكرها..
تدخلت علا مشفقة على حالة صديقتها:
-احيه !! ليـلة انتِ لازم ترجعي بسرعة من عندك وتنهي كل وسائل التواصـل مع العيلة دي!! أنتِ شكلك غرقتي ..
فأتبعت جوري:
-لا هي loved him شوري .. مفيش احتمالات ..
قفلت جفونها محاولة استيعاب الجملة :
-حبيته !! يعني ايه حبيته وحصل امتى الكلام ده !! احيـه !!
ثم جلست على طرف السرير وهي تتحسس نبض قبلها :
-بنات متهزروش .. انتوا والله لو جيتوا تشوفوا قبلي بيدق ازاي هصعب عليكم ..
فأيدتها شروق بمزاحٍ:
-ده شكل الحُب مولع في قلبك وانتٍ غيرانة يا لولي !
صرخت بوجههن بصوت عاجز :
-محدش يقول حب دي قدامي ، لاه ..never..انا مش بحبه -ثم أغرورقت عينيها-مش بحبه خالص ..
فغيرت مجرى الحوار لتشتتهم عن فكرة الحب التي يتهمونها بها :
-عارفين الغريب فين !! انه طول الطريق ساكت مقالش كلمة .. لبس خطيبته الدهب وقام كده عايز يمشي .. ولما وصلنا البيت متكلمش ولا نص كلمـة ، وطلع على أوضته ..
ثم أتبعت :
-دي حتى أحلام قالت له يرن على هاشم عشان قلقانة عليها .. قالها خلي هيثم وسابها ومشي.. بقولكم أحلام الست دي بيعشقها … و
فكرت عُلا بحديثها لتقوم بتخمين:
-مش ممكن يكون هو كمان حب واحدة..
ردت بيقين:
-تؤ، ملهوش في الحُب ولو كان بيحب كان خطبها ..
فأتبعت عُلا موضحة :
-يابنتي افهمي، ما يمكن الواحدة دي انتِ ، وهو حاسس بالعجز قدامها عشان اعرافهم دي وبيحاول يرتبط بأي واحدة عشان ما يورطش نفسه معاكي..
انفرج ثغر ليلة بصدمة:
-لا متقوليش كده !! مستحيل ، هارون يحبني أنا ؟! ايه الهبل ده .. أحنا صحاب وبس ..
ثم أتبعت بغيرة واضحة :
-طيب على فكرة بقا ، من وقت ما رجع وتليفونه ويتنج آكيد بيتكلم مع البنت اللي بيحبها او زينة دي .. انا مراقبـاه على التروكولر ..
تحمحمت شروق بخبث:
-وتقول لك قال أيه مش بتحبه.. اتكلموا أنتوا..
فهبت ليلة التي تغلي الغيرة بدمها:
-يعني بيكلم مين كُل ده افهم بس ؟!
ردت جوري متعمدة إثارة غيرتها:
-آكيد مع زلابيـة خطيبته ..
-جوري اخرسي !!
~بغُرفة هارون ..
فارق مكتبه بعد ما كتب العنوان الذي ألقاه الرجل على مسامعه :
-يعني دي عنوان العيـادة بتاعت نادية أبو العلا !! شكرا ياباشا منتحرمش من خدماتك ..
أنهى هارون المكالمة مع " الضابط عمرو " من عائلتهم ويخدم باسكندرية بعد ما طلب منه عنوان عيادة نادية أبو علا وبعد ما حذره الطبيب الذي رشحه عمار لليلة وأخبره بأن هذه الأدوية مأخوذة عن قصـد وهدفها قتل الفتاة ببطء .. فأخفى عنها هارون ذلك السر وأخذ يتتبع خُطى المدعية أمها ، ولِمَ تفعل ذلك !!!
ثم نظر بساعتـه ليهاتفها ، فتردد :
-الوقت متأخر ، ماينفعش.. اووف ..
ما كاد ليخطو خطوة فأوفقـه جرس اتصال زينة ، تأفف باختناق لكثرة تليفوناتها المتكررة التي لم يُطعمها بالرد إثر انشغاله بمهامه .. أجاب بملل وهو يرتب فرشته :
-خير يا زينـة ؟!
-خير ايه فينك يا هارون ، شوف رانة عليك كام مرة !
-وافرض مخمود ، اي مش تنامي أنتِ كمان !
تمايعت قائلة :
-لا منا قلبي كان حاسس إنك صاحي !
رد بملل :
-وديه من ايه إن شاء الله !!
تنهدت بميوعة:
-من الحُب يا هارون ، الحُب اللي بيزور القلب ويطير من عينيـه النوم .. كيف منا عيني متشعلقة في السقف كِده وعفكر فيك .
-فكري لغاية ما تتبدي ..
-انا اتدبيت في حبك واللي كان كان .. هارون ما تقولي عتحبني قد ايه !
-لما أعرف هقولك حاضر ..
هبت مصفوعة من جفاءه :
-يعني ايه لما تعرف ؟! هو أنت مش دايب في حُبي كيف منا دايبة !
-لا انا عاوز انام وارتاح يا زينة .
انبطحت على بطنها وهي تحرك قدميها بالهواء :
-عقبال ما تنام وترتاح في حضن زينة يا عمدة ..
فاض صبره من وقاحتها واشمئزازه لحديث لا يشتهييه مع واحدة مثلها :
-يابت ما تتحشمي هبابة !! أيه المياعة وقِلة العقل دي !! زينة تصبحي على خير !!
قفل قبل أن يسمع ردها وهو يغلق نور الأباجورة متأففًا ، ففاجأته برسالة نصية :
-وانت من اهلي يا سيدي الناس ، يارب تحلم بيّ ..
قرأ الرسالة بضحكة ساخرة وهو يقول :
-يبقى لا راحة في نوم ولا صحيان !! أنتِ چايبة الصحة دي منين !!
ثم ترك هاتفه على الكمود ووضع يديه تحت رأسه وهو يراقب السقف الذي يزاوله صورتها ، فهبت الفكرة برأسه وهو يأخذ هاتفه :
-انا لازم اعتذرلها عشان قلة ذوق النهاردة ..
وبدون تفكير ضغط على زر اتصال فاستقبلت ليلة مكالمته صارخة بفزع مستغيثة برفقاتها :
-يا خبر ابيض بيتصل ، الحقوني .. امشوا امشوا باي ، هشوفه عايز ايه .. باااي .
انهت المكالمتيـن في آنٍ واحد وهي تجوب الغرفة بعشوائية تأخذ شهيقًا وزفيرًا وتتفحص حمرة خدودها :
-ليلة ليلة نثبت ونجمد ، اهدي اهدي خلاص ..
ثم قفلت نور غرفتها ومددت في فراشها وعاودت الاتصال به ، فـ رد من أول جرس ملهوفًا :
-زين لساتك صاحيـة ..
اتكأت على وسادتها مستخدمة نبرة صوتها الهادئة التي كانت تتحدث بها شهرزاد للملك :
-بجهـز حاجاتي لزوم السفر عشان منساش حاجة ..
-هتتحركي الساعة كام !
-اتفقت مع عمو چابر على قبل الفجـر كده ، عشان مش بحب الوداع ، همشي في هدوء والكُل نايم ؟!
هل من المنطق أن يمر الحب علينا دون أن يعرفنا عليه؟! وضع يساره تحت رأسه فبرزت عضلات يده :
-يعني لو مكنتش كلمتك كُنت هصحى مش هلاقيكي !!
كتمت صوت ضحكتها وهي تضم الوسادة :
-بالظبط .. حتى مامي معندهاش خبر ، حابة عملهالها مفاجأة ..
-أمم ، قوليلي مالك ، وشك كان ماله النهاردة !
-لا خالص ، أنتَ عارف بس عشان تعب مامي وكده !! قلقانة عليها هي ملهاش غيري ..
ثم أتبعت:
-مبروك ، كان شكلك حلو ، عريس بجد .
-الله يبارك فيكي ..
ثم صمت لبرهة وأتبع لسانه داعيًا وبقلب غير مُؤمم :
-عقبالك ..
-لو عريس شبهك أنا موافقـة !!
غرد وجهه بمعالم السرور :
-شبهي كيف يعني !!
قضمت شفتها السُفليـة بتوجس وهي تذكر نفسها سرًا -ليلة خلي بالك ده شخص خاطب أنتوا صحاب وبس - فأتبعت متنهدة :
-جدع و طيب وعنده هيبة تخض أي حد .. وطويل زيك ، ويناكف فيا كده طول الوقت .. وأنا هحبه على طول.
اعترف قلبها بحبـه بدون ما تنتطق حروف الكلمـة ، رفع حاجبيه مستمتعًا بحديث العذب معها وقال بخبث:
-لو عترت فيـه همسكهولك من قفاه وهجوزهولك غصب عنه .
-ليه غصب عنه !! هو لما يشوفني آكيد هيحبني .. صح !
رد مؤيد وهو يتنفس صوتها :
-صح يا ليـلة .. هااه اسيبك تنامي زين طريقك طويل!
فتح شهيتها في الكلام معه ، فبسطت جسدها بهدوء وهي تفتح له أبواب قلبها :
-تعرف انا ليا ٤ سنين مش بعرف انام كويس
بنام وانا حاسة بخوف ، بكون بردانة في عز الصيف .. بابا مشي وأخد كل حاجة حلوة معاه ، والغريب أني حاسة نفس الإحساس ده النهارده.
راقت له الفكرة فقال :
-لو حابة ممكن نرغوا لغاية ما تنامي عشان متخافيش ..
ردت بعفويتها المعهودة :
-أنا كُنت خايفة ، بس دلوقتِ مبقتش خايفة ، تحب نحكي في أيـه !! أحكي لك حواديت ؟
ضحك قلبه قبل وجهه من اقتراحها العذب :
-هو أنا كام مرة أقول لك أن الرجل مننا عاوز لقمة طرية تطري على قلبه اخر اليوم مش حكاوي .
-ماهي شهرزاد مكنتش تعرف تعمل أكل زيي ، أصلها قدوتي ..
سكب عليهـا بحر حنانه ليعود مراهقًا فـ الصبى وهو يقول :
-طب احكي يا ليـلة ..
أجمل ما قيـل لوصف إمراة تُشبهها :
"أنتِ المرأة التي تكدستْ فيها الرقةُ ، حتى فاضت ، فأزهر اليأسُ موسيقى ، وتحوّل الألمُ إلى شلال. يجَوْهركِ الحبُّ ، والألم من الحب ، لأنكِ تبرقين في العتمة ، تشعّين مثل ماسة .."
كل منهما وجهه بالسقف يتأمل صوت الآخر والضحكات لم تفارق وجهه بابتسامات الحُب المترعرع بينهم .. باتت الكلمات لحن مدوي بينهمـا تنقله الفراشات في تلك الليلة الباردة التي لم تخلٌ من أساطير وحكاويهـا المثيـرة ….
ظل حديثهم متبادل قرابة الساعتين حتى أنها كانت تُلملم أغراضها وهي تُكلمـه حتى دق ناقوس الساعـة الثالثة ، فودعها لينام محتجًا بتعب اليوم وتركها تُكمل لملمة أشياءها .. بدلت ملابسها وارتدت ملابسها الشتوية الثقيـلة وللمرة الأول تشعر بثقل قلبها رغم أنها ستعود الإسكندرية موطنها الأصلي ..
أخبرها " جابر" بإنه في انتظارها أمام البيت ، فضبت حقيبتها وأكدت عليه بأنها ستكون أمامه خلال دقائق .. كتب رسالة نصية لهارون :
-بليز سلم لي على أحلام كتيـر وبوسهالي ..
ثم سحبت حقيبتها خلفـها وغادرت غُرفتها وتحركت نحو الحديقـة الخلفية وهو تعبث في هاتفها غير منتبهه للطريق حتى وصلت لموقف سيارتها الذي ينتظرها بهِ جابر، فرفعت عيونها باستغراب عندما وجدت هارون يقف أمام سيارتها في كامل أناقتـه وملابسه الشتوية ويقول ضاحكًا مقلدًا صوت جابر :
-في تأخير ٣ دقايق يا ستِ ليله ..
انفجرت ضاحكة غير مصدقة ما تراه :
-أيه ده بجد!! أنت ما نمتش ؟!
أخذ الشنطة من يدها ثم أعطاها لجابر ليضعها في مؤخرة سيارتها :
-وانا قليل ذوق للدرچة دي !!
بوجه أشرقت بهِ الشمس قبـل السماء:
-لا بجد !! أنت هنا بتعمل ايه !! مش قولتلك مبحبش الوداع !
-لا منا مش هودعك ، أنا هوصلك لغاية بيتكم .
-ايـه ؟! أزاي !! لالا مستحيل أقبل ، أنا أصلا وافقت بجابر عشان مكسرش كلمة عمو الحج ، لكن اتعبك معايا ! مش هينفع .
أخذ مفتاح سيارتها من يد جابر وقال :
-متكسريش كلمة أبوي ، لكن كلمتي أنا تتكسر عادي !! اركبي ..
أمسك بكُمه غير مستوعبة :
-هارون بيه أنتَ بجد هتوصلني اسكندرية بنفسك !! طيب وشغلك ؟كده هتتعطل !
قال مبررًا بكذب :
-بصراحة نفسي رايحة على وكلة سمك وجمبري محصلتش ، فـ أنا چاي لمصلحتي أصلا مش عشانك ، يلا اركبي …
-لا والله !! خلاص هعزمك !
وقف جانب السيارة من جهة القيادة :
-موافق بس أنا اللي هحاسب ..
••••••••••
~في الثامنـة مساءً من نفس اليـوم ..
صفت سيارة ليلة التي قادها هارون أمام "ڤيلا الجوهري" بأحد الأماكن الراقية بالاسكندرية .. فأصرت ليـلة ألا تتركه يعود للفندق قبل أن يتعرف على أمها، وكأنها قدمت له ما يبحث عنه منذ أيام .. صف السيارة وهبط الثنائي منهـا ..
حمل هارون حقيبتها واتبع سيرها وهي تفتح البوابة مندهشة:
-غريبة هو السكيورتي فين!! بس عربية مامي هنا تبقى فوق.
ثم وشوشت له :
-متعملش صوت بقا عشان نفاجئها ..
فتحت باب الڤيلا بحرص شديد ووسوست له أن يدخل بمهلٍ ، فرحبت به بهمس:
-نورت بيتنا ، استناني هنا وأنا هروح أشوف مامي فوق ..
جلس هارون مكان ما أشارت له وهو يتأمل تفاصيل البيت العصري والمكون من أثاث باهظ الثمن بإعجاب، تسللت ليـلة على أطراف أقدامهـا نحو غرفة أمها التي فتحتها مهللة كالطفـل :
-مامـي أنا جـ…..
لتقع عينيها على فراش أمها الذي يجمع كل من نادية ورشدي في وضع مؤسف وصعب للغاية أن يراه أي أحد مهما كان ، تجمدت الدماء في عروقها وسقطت حقيبة يدها بالأرض وهي تراهم يستران أجسادهم باللحاف لتقول بأعين تائه في بحور الصدمة :
-أيـه ده !!!!