رواية آصرة العزايزة الفصل السادس والعشرون بقلم نهال مصطفي
كان يعامل قلبي على أنه نهرُ جارٌ ، يقدح منه كل اللحظات المؤنسـة المليئة بالبهجة ، ولحظات الحب النادر الذي لم تُعاش إلا معه ، ولحظات خوفي عليه كأنه طفلي الذي رُزقت بهِ من رحم المحبـة ، ولحظات من التيـه بمجرى الكلمات التي لم تُقال إلا لعينيهِ ، ثم يمضي بعد ما يمتلأ تمامًا بكُل طاقات الحُب التي يحتاجها المرء ليواصل العيش ، وعندما تُستنفذه الأيام يعود إلىّ ويستكمل خِطته من جديد حتى جف نهري وجفت مياهه ولم أعُد أنا كما اعتاد ولم يعُد حبه بقلبي كما اعتدته …
#نهال_مصطفى .
•••••••••••••
عاد هارون وهو يسند أخيه هلال الممسك بشجة رأسه التي سالت منها مجرى الدماء على كتفيه ولُطخت عباءته البيضاء بلون الغدر بعد ما أمسك المصليون " بكر" وذاع خبره بالبلدة ولقد نال من هارون ما يستحقه من الضربات ثم تم ارساله لمجلس العزايـزة .. ركض الخفير خلف هارون وهو يذيع الخبر بفزع ويعدل حمل بندقيته :
-يا وقعة مربربة يا عمدة .. ايه اللي جرالك يا شيخ هلال ؟! وه مين وِلد المدعوك ديه ونروحوا نقطعوا خبره ؟
-صوتك يا چابر الله يرضى عنك …
حذره هارون بحدة من ارتفاع صوته وهو يأمره بأن يأخذ أخيه لأحد الغرف النائية عن البيت كي يتجنب ثرثرة أمه وأمره أن يهاتف طبيب ما بالوحدة بعجل .. فحبذا هلال الذي يضمد جرح رأسه بالشال مقترحاً :
-لا حاجة لي بطبيب ورقية موجودة .. ستتولي أمري يا عمدة ..
زفر هارون بنفاذ صبر :
-بذمة أمك وديه وقته !! أنت في أيه ولا أيه !!
وشوش لأخيه بنبرة ما بين الضحك والألم متعمدًا اثارة استفزازه :
-يدها ترياق عجزت عن وصفه الأطباء ..
غير هارون مسار سيره وهو يرمقه بنظرات تعُمها الشماتة على ما حدث له وهو يقول :
-تصدق تستاهل اللي جرالك ! ولو مسكتش هكمل عليك بنفسي .
ضغط على جرح رأسه متألمًا بصوت تغلفه الضحكة :
-ولد الحرام غفلني يا هارون .. بس أنت يسلم يدك عطيته اللي فيه النصيب .. كنت خلصت عليه وريحتنا .
فتح هارون الباب بهدوء :
-طب اكتم عشان صفية لو شمت خبر .. هتمسع خبرنا كله للعزايزة .. ديه زين أبوك مجاش معانا الفجر .
دلف الأخوة ببطء شديد كي لا ينفضح أمرهم .. ومن حسن حظهم خروج صفية التي لم يسبقها أحد في الاستيقاظ مبكرًا وما سقطت عينيها على ملابس ابنها والدماء التي تلطخه رفعت يديها الاثنين لتنوح كمن يصرخ بجنازة .. حاول هارون أن يسكتها ولكنه عجز عن أمرها :
-أما اسكتي.. أما الناس نايمين .. صفية خلصنا ..
أخذت تلطم على الخدود وهي واقفة بمكانها وتهذي :
-اخوك سايح في دمه !! يا مراري .. كان نايم جاري زي الفل جرالك ايه يا حبيبي ..مين عمل فيك إكده ؟
ترك هارون يد أخيه ليضع حدًا لأمه التي لم تكُف عن الثرثرة :
-خلاص يا صفية خلاص صوتك ياما أبوي نايم ..
تحذيراته لم تزدها إلا صياحًا :
-يالهوي مكنش يومك يا ولدي .. لساتك صغير على الغلب ديه .. دمك اتصفى يا حبيبي .
ثم اندفعت لعنده بعد ما أيقظت أهل البيت وتوافدوا من كل صوب وحدب بفزع على حالة هلال المروعة .. جاء الخفير ركضًا من الخارج ليخبر هارون بعجلة :
-هارون بيه ألحق الحكومة كبست على المجلس وخدوا ولد فياض معاهم .
تمتم باختناق :
-أهي كملت أهي .. صرخي ياما .
لحظة وقوع اسم بكر على مسامع صفية فتحولت لإمراة فقدت عقلها وهي تصرخ :
-قول إكده الحكاية طلعت من تحت راس السنيورة ! جلابة النصايب .. دي داخلة علينا وشايلة الخراب يا ولدي ..ايه اللي رماك الرمية دي بس ؟
وما أن ظهرت رقية أمامها التي جاءت من أعلى تركض بخوف على هيئة هلال المقلقة .. فأمسكت بها صفية دون احترام لاحد وهي تشد شعرها من تحت الحجاب بنبرة صوتها المبحوحة:
-شايفة أهو كل ديه من تحت راسك .. شايفة ولد عمك عمل ايه في ولدي اللي محدش كان يسمع له حس !! ملاك ماشي على الأرض حد يستجرى ويمد يده عليه !
صرخة رقية دوت في أرجاء البيت مستغيثة فأيقظت أحلام التي هرولت للخارج ثم أتبعها خليفة .. تقدم هلال ليدافع عن زوجته فسبقته هاجر وهي تحاول تخلص رقية من تحت يد أمها وأتبعها صوت هلال الأجش وهو يشد رقية لعنده :
-أما يدك لو اتمدت تاني على مرتي أنا هأخدها واسيب لك البيت وأمشي .. وأنت خابرة كلمتي واحدة .
هرولت أحلام مفزوعة :
-في أيه .. ؟!
ثم ضربت على صدرها :
-يا حبيبي يا ولدي .. يقطع أمك ..
سحبت رقية زوجها بهدوء متجاهلة ثرثرة صفية وإهانتها والعبرات المتقطرة تسبق خُطاها وطلبت منه أن يجلس وهي تسنده وتباشر مهامها كطبيبة رغم دراستها بالصيدلة .. أحمر وجهها وهي تزحزح يده عن موطن الجرح لتكشفه فصرخت أحلام قائلة :
-أرمحي هاتي بن يا بت نكبسوا بيه الجرح!
صرخت صفية على رقية قائلة :
-شيلي يدك عن ولدي أنتو نسل ملعون خربتوا بيتنا وحياتنا .. متقربيش من ولدي عقولك أها ..
صرخ خليفة بصفية وهو يرتدي قبعة رأسه البيضاء :
-عظيم يمين تلاتة يا صفية لو لسانك ما حطتيه جواة خشمك لتكوني طالق ..
ثم جلس بجوار ولده وهو يربت على كتفه ويناظر هارون متسائلا :
-حصل أيه يا ولدي ؟
هز هارون رأسه :
-بعدين يا أبوي .. نطمنوا على هلال بس ..
ثم قال :
-هروح اجيب صندوق الإسعافات من العربية ..
همت أحلام بملأ جرحه بالبن وهي تدعو على بكر من صميم قلبها ولم تتوقف صفية عن التمتمة وفرط الحركة التي تلبست بها إثر كتمها للكلام الذي يحرقها .. ساعدت رقية أحلام في تضميد جرحه بعد ما ملأته بالبُن ثم قالت له وأحساس الذنب يحرقها وهي تأخذ الصندوق من يد هارون معترضة على البن :
-فوق هطهرلك الجرح وألفهولك زين ..مش هينفع يتساب كِده .
رفع رأسه الموجوعة وهو يطالعها بوجع يسكنه ولكن يبدو أن السعادة غمرته لاهتمامها به ليقول والبسمة لن تفارقه بنبرة خفيضة وبغمزة ساحرة من عينه :
-من اليوم أنا ملك لكِ .
لم تصل الجملة إلا لمسامع أحلام التي طالعت رقية التي لطخ وجهها بحمرة الخجل والذنب على ما حدث له بسببها .. وربتت على كتفه وهي تأمرها :
-رقية يابتي خدي جوزك وغيريله خلقاته دي هيبرُد مش ناقصين ..اللي فينا مكفينـا .
هبت صفية معارضة بجنون :
-تاخده فين ؟! محدش هيراعي ولدي غيري .. شيلي يدك يا بت ..عاوزني أمنها على ولدي كيف وهي اللي عاملة فيه كِده ؟
ضرب هارون كف على الأخر مختنقًا من تلك الثرثرة التي تربى عليها ولن يعتادها حتى الآن فنظر لأبيه كي تولى مهمة الأمر وغادر قائلا :
-أنا هروح أنام ساعة قبل النهار ما يطلع وبعدين نشوفوا المصايب دي .
ثم وثب خليفة مستندًا على يد هيام ابنته :
-نقومو نصلوا فرض ربنا .. وأنت يا يابتي خدي جوزك وراعيه وخلي بالك منيـه .
ثم نظر بحدة لصفية لا تقبل الاعتراض على أوامره :
-وانت روحي اعملي لنا لقمة نشق بيها ريقنا ..
مدت رقية كفها المرتعش لهلال كي يستند فـ لبى عرضها على الفور تقدمت هاجر لتعاونها فرفع كفه بوجهها رافضًا وهو يغمز لها :
-رقية ستتولى أمري ..
تبادلت نظرات الصديقتين فاعتذرت منها رقية بعينيها فتقبلت هاجر متفهمة وهي تصيح بخبث وتشيع ظهروهم المغادرة أمامها :
-لا سلامتك يا هٍلو .. شكل الجَرح چيه في وقته ..
ثم مالت على أحلام لتشكو لها منه :
-خدتي بالك يا أحلام من رقية ستتولى الأمر !! وهاجر كخة ! ولا الولاه صدق ما لقي !
لكزتها أحلام بخبث :
-بس يامقصوفة أنت وبعدين عيب تقولي على أخوكي الكبير ولاه ! اتربي هبابة .. وبعدين سيبيه يقرب منيها لعل اللي حصل خير .. البت كيف الوردة الدبلانة ياحبة عيني .
رمقته هاجر بخبث بعد ما وصل لنصف الدرج :
-وقعة واعرة دي يا شيخ هلال ..فينك يا أبو الهياثم ..فاتتك الطلعة دي .. كُنا هنتمقلدوا للصبح .
ثم وشوشت لأحلام :
-عمري ما اتخيلت أنها تطلع من شيخنا الكُبرة المحترم ديه يا أحلام ..
قرصتها أحلام في خدها برفق :
-ما تخليكي في حالك يا بت أنتٍ ..خشي شوفيلك مصلحة جار أمك تنفعك ..
تدللت هاجر :
-لا هروح أقعد على النت من إمبارح ممسكتش محمولي ..
-أهو هو ديه اللي فالحة فيه .. ربنا يهديك يا بتي ..
~بغرفة هارون الخاصة ..
تذكر أمر "ليلة" التي تركها بمفردها قبل صلاة الفجر .. فغير مسار سيره وتحرك نحوها متبعًا بوصلة قلبـه .. لمست أقدامه أعتاب الغرفة ذات الباب الموارب فوجدها ملتفة بعباءته ونائمة على سجادة الصلاة بعد ما فرغت من أداء فرضها .. توقف للحظة وهو يطالع هذه القطة المنكمشة حول عباءته وشعرها يغطي نصف وجهها .. فجثا على ركبتيه وهو ينادي عليها بهدوء :
-يااستاذة !!
لم يجد منها أي رد ..ربت على كتفها المغطي بتردد :
-ليلة !! أيه نومك كِده بس ؟!
لاحظ تراقص جفونها وهي تهذي بالكلمات المبهمة .. ثم نهضت وهي تحت تأثير النوم .. أمسك بكفها وتراقص كفه الآخرى وراء رأسها خوفًا عليها من ارتطام رأسها بالأرض لأنها لم تكن بوعيها .. ظلت تحت مخدر الهذيان تعبث بكلمات غير مفهومة ولكن ابتسامتها كانت أجمل ما في الموضوع .. ظل مستمعًا بمشاهدتها في هذه الهيئة البريئة كمن يشاهد لوحة فنية أبدع رسامها .. فرع حاجبيه مهتمًا لكلامها العبثي :
-حتى الختاريف وأنتِ نايمة .. وبعدين كملي حصل أيه !!
هزت كتفها وهي تتأرحج في كل الاتجاهات :
-مش عارفة !
حتى استقر بها الحال لترمي رأسها على صدره وتعود لنومها العميق من جديد ..
لأول مرة يلتفت لصدح قلبه إثر قربها منه لهذا الحد .. لأول مرة يستلذ بتأملها ولا يود التحرك حتى ولو فارقه العالم برُمته .. على شطيها تناسى نفسه و أمره وهلل صوت قلبه بتصرفات لا تليق بجمود عقله ..امتدت أنامله لتزيح بعض الخصلات عن وجهها ليتأملها بحرية أكثر .. تدللت أنامله فوق عينيها النائمة بشهوة إطالة النظر بجمالها الذي حرك سكون قلبه أنفاسه هادئه تمامًا عكس الضجيج الذي يحاوطه ، كان وجهها الدائري الذي تطفو عليه حُمرة جمالها كرمانة مبهجة تلمع بالظلام وكانت ملامحها أشبه بفصوص الرمان المرصوصة بإتقان حبة حبة ، كل حبة بمكانها المناسب ، تنهد وكأنه يود أن يفرطهم جميعًا بين راحة يده …
رسم على زاوية وجنتها قوسًا بسبابته وهو يذوب بسحرها الطاغي الذي طغى على أعراف هارون العزايزي بجبروته ؛ قربها حفزه أن يكسر قواعد معدودة لأجل النظرة منها فقط فالمرء حين يرغب لا يعيقه أي شيء ..
فأول مرة يكتشف حقيقة أن المرأة يمكن أن تتحول لفراشـة عندما تقفل بوابات ثرثرتها وتضب جفون عينيها ..كانت ملامحها مغرية بالحب بوسعك أن تشاهد الحياة تركض في وجهها ..
همس بصوته المهزوز :
-ليلة !!
صوت ندائه مع صوت ضربات قلبه المدوية في قلبها استردوا لهـا وعيهـا ، فتحت عيونها بثقـل وهي تبتعد عن حضنه معتذرة بإحراج :
-أنا !! أنا نمت هنا أزاي ..
ثم تطلعت بهِ وهي تنظر لعظام صدره التي كانت مسند رأسها بخجل :
-هو أيه اللي حصل !!
تبسم بوجهها وهو يتكئ على كفه بالأرض :
-كُنت مستني أعرف الموضوع المهم اللي بتحكيه وأنتِ نايمـة !! كنتِ عتحلمي بإيه ؟
تراجعت قليلًا لتبعد عنه بحرج :
-يا خبر !! أنا قولت أيه ؟!قولت حاجة ما ينفعش تتقال طيب ؟.
عقد حاجبيه ببرود لا يعكس دواخله :
-هو كلامك كُله ماينفعش يتقال سواء صاحية ولا نايمة ..
-يعني كلامي مش مفيد ؟!
أطال النظر بعينيها المتراقصة :
-عاوز واحد غاوي .
-وأنتَ غاوي ؟!
رفع حاجبه هاربًا من سجن سؤالها ليبادله بسؤال آخر :
-حواديت ؟!
بادلته بنفس النظرة المدججة بشرارة الحب بينهما :
-لا كلامي .
-ماهو كلامك كله حواديت ..
-بس متنكرش أنها بتعجبك ، أنا بحس بكده .
ثم ترقرت عينيها بالعبرات :
-طيب لما أمشي هتفقد حواديتي ؟!
رجل كقرموط السمك كل ما تظن أنك ملكته بسؤال يهرب منك بالآخر :
-حلوة عبايتي عليكِ !
ابتسامة خفيفة شقت ثغرها :
-بتدفي جامد على فكرة .. بس بردو ماجاوبتش على سؤالي .
عقد حاجبيه هاربًا من كل اسئلتها ليقول :
-وأنتِ هتمشي كييف قبل ما تحضري خطوبتي ؟ مالكيش حق ..
تبدلت ملامح وجهها بجملة واحدة كانت كالشومة على رأسها خلقت منها شخصية جديدة ملأها شهور غريب أول مرة يزورها وكأن وادٍ من الفئران تناوبوا على قلبها .. نهضت بعجـل وهي تقول لتهرب من الحقيقة التي يرفضها قلبها :
-عندي فرح واحدة صحبتي السبت ؛ ولازم أكون في اسكندرية الخميس بالكتير .. وو
فمن فرط ما تشعر به اختل اتزانها فكانت ستسقط لولا أنه لحقها وهو يحتضن مُعصميها بعيني مسلوبة العقل لسيطرة جيوش الغرام عليها ليقول ضاحكًا :
-بردو ؟!
-سوري .
تعرقلت بأهداب نظراته التي ترجمها القلب وحده فخلق شعورًا عجيبًا يحتاج لطبيب أن يكتب له وصفة علاجيـة قبل أن ينتشر به المرض .. تقف أمامه كقطة بريئة خُلقت من ضلع فهد قوي مثله ، النظر إليه يشحنها بطاقات عجيبة ، والنظر إليها يملأه بهِا لتعود لمكانها بقلبه بدون شكٍ .. سبحت بعينيه قائلة :
-هسيبك تنام ..
تخدر بشعوره الغامض الذي يجذبه إليها للحد الذي تناسى فيه إمساكه لمعصميها وقال وهو يراقص تفاحة آدم بقصبته الهوائية :
-مش چايلي نوم ، تيِچي تصوري حلقتك الباقية خلينا نخلصو ..
تحمست للفكرة بشغفٍ :
-بجد !! موافقة طبعًا .. وبعدين ايه نخلصوا دي ؟! أنت مجبور عليا ؟!
فعاد ليرمي جمرًا من شِدقه :
-أصل أنا عريس ومش هكون فاضي اليومين الچايين .
ردت بضيق وهي تتحاشى النظر إليه باستخفاف:
-ااه عريس ؛ مبروك .
لا يعلم أيذكر نفسه أم يذكرها بخبر خطوبته ، بإنها إمرأة المستحيل بالنسبة له ، لِمَ تعمد أن يُكرر جملة كهذه أكثر من مرة على مسامعها ، هل أراد أن يضع الحواجز بينهم أم يذكر نفسه بوجودها في الأصل .
•••••••••
~بغُرفة هلال .
أخرجت "رُقية" ملابس جديدة من الخزانـة ووضعتهم على طرف السرير ولسانها لم يكُف عن سيل الاعتذارات .. فعادت له بهيتئتها الخائفة :
-الچو سقعة ، قوم غير لبسك وأنا هنزل تحت ااا
قاطعها متأوهًا بتمثيـل :
-لا يجوز ، ومن يساعدني !!
ثم رفع عينيـه متخابثًا :
-كُل شيء يؤلم ..
تفاقمت الحيرة فوق ملامحها :
-طب خد دش الأول ، مش هينفع تغيـر على كِده .
أيدها برحبٍ :
-ديه الكلام !!! لكن فيه مُشكلة ..
اتسعت عينيها :
-خير يارب ؟!
وثب قائمًا برأسه المضمدة ليقول :
-احتاج لطشت وكوز وشخص يُصب عليّ الماء بحذر بعيدًا عن رأسي ..
عيناه كانتا كأنهما نجمتان يتلألأن بسماء تفصح عن رغبه في اغتساله بمساعدتها ، هربت من سطو اقتراحاته بذعر أرنبٍ :
-طب ؛ طب أناديلك هارون ولا عمتي صفيـة ولا …
-لِمَ وأنتِ هنا ! قصدي .. أنك ستتولي الأمر .
جف حلقها من مجرد تخيل الفكرة وهي تقف أمامه كطير مبلول من شدة انتفاضـة جسدها .. اخذت تعتصر حلقهـا كي يقطر ماءه ولكنها فشلت ، فهزت رأسها يمينًا ويسارًا :
-يا مري !! كيف يا شيخ هلال !
حك لحيته بتردد :
-طالما قولتي شيخ هلال يبقى ماينفعش !!
تعلقت بحبال الكلمة :
-الله يفتح عليك !
سايرها متبعًا :
-وعليكِ إن شاء الله..بس متفقناش !! أنا مين سيتولى أمري .
هبت مقترحة :
-هيثم !!
-خسئتِ !!
-ايه ؟!
عاد للهجته الصعيدية الحادة :
-ايه مين ، عاوز اغتسل يا رقية وعقولك ساعديني ، تچيبيلي هيثم !! واللي مشتراش يچي يتفرج ..
بررت هاربة :
-منا مش عارفة أعمل أيه ، وأنت موترني ومتبصليش كِده يا هلال .. انسى ، أنا هروح أشيع لخالتي صفية ..
زفرت بامتعاض وهو يحرك ضميرها :
-تمهلي .. سأدبر الأمر بنفسي وأي عواقب وخيمة أنتِ المسؤولة .. لقد طلبت مساعدتك وأنتِ رفضتي ..
بعد مفارضات وترددات وصرخات وأعين منغلقة وضمير يقظ وثعلب مكار تعلم كيف يراوغ ؛ انتهى به الحال جالسًا ببنطاله الفضفاض يتوسط الإناءة المعدني ويعلوه سترته صعيدية بدون أكمام تحت صدح هواجسها وكل شيء تمسك به يتساقط من يدها .. بللت منشفة صغيرة واعتصرتها جيدًا وأخذت تمسح حول موطن الدماء بحرص كي لا تقترب منه الماء دون لمسه بشتى الطرق وعينيها المغلقة طوال الوقت وهمهماته المدفونة ؛ عكسه تمامًا لقد وجد ملاذه بقربها وقرب توترها الذي يعقد خيمته فوق رؤوسهم ..
سقطت المنشفة من يدها المرتجفة وهي تعتصرها وتطلب منه :
-شيخ هلال متتحركش ..
رد غضبانًا من تلقبه بشيخ ؛ فـ رد متحسرًا :
-أمرك يا أخت رقية .
نظفت حول الجرح ببراعـة ثم شرعت بسكب الماء الساخن فوق ملابسـه وهي تحدث ضجيجًا لا يوصف .. حتى فاض صبره :
-رقية الاغتسال ديه مش صحيح ..
-اومال أيه ؟!
-أين المشكلة في نزع السترة!
-ديه مش اتفاقنـا ، ولو هتقلعها هطلع برة ؟
قفل عين وفتح الآخرى :
-هل هي تُعصمك من الفتنة !! ولكن أي فتنـة يافتاة !! يعلم الناس أنني زوجك والفتنـة بيننا مطلوبـة شرعًا .
لقد كان يعتصر خوفها بمزاحه عصرًا حتى فاض بها الأمر ، فألقت الإناء الذي تسكب به الماء في يده وحسمت أمرها وهي تقول مقلدة طريقته :
-حسنًا ، لقد انتهت مهمتي .. دبر أمرك بنفسك يا شيخ .
ثم تركته وهربت من آسر تلميحاته الخبيثـة وقفلت باب الحمام خلفهـا وهي ترتعد لتقول لنفسها باستنكار :
-قال شيخ قال !!
تكدس الضحك فوق أساريره وهو يتخلص من ملابسه ليتمم غسله بنفسه ويقول متسائلًا بصوت عالٍ وهو يدس الضحك :
-رقية ؛ هل غضبتي مني !
صرخت له بضيق وهي تندس تحت لحافها :
-سيب رقية في حالها ..
~بالغرفة الأخرى
قرأت هاجر رسالة شريف مراراً وتكرارًا حتى حسمت أمرها معـه ووضعته على قائمـة الحظر وهي تتنفس بضيق :
-ايه اللزقة دي بس !! حلال فيك البلوك .
•••••••••••
~ظهرًا
~مرسى علـم .
-اللي أوله شرط أخره نور ..
غرس هاشم فوهة سلاحه ببطنه وهو يقول بشكٍ :
-أنا حمايا ميت ، أنت مين وإلا ..
-أهدى أهدى يا حضرة الظابط ، داحنا أهل ..
أردف ممدوح جملته الأخيرة وهو يمعن النظر بعيني هاشـم ؛ فأكمل :
-عايزك تكون عيني اللي بشوف بيها داخل الجيش .. وتبقى حبيبي وابني اللي مخلفتهوش .. طبعًا رغد غالية عندك وعشانها تعمل كل حاجة ؛ يرضيك حماك وجد عيالك يتحبس !!
فقاق هاشم من شروده وهو يضرب على مقود السيارة بذعر فاق وصفه بالكلمات ، حمرة الغضب تكاد تنفجـر من وجهه .. صف سيارته الواقفـة أمام بيته الذي تقيم به رغد ، وهرول نحو الباب الذي فتحه بدون طرقـه على عكس عادته ، ركل الباب بقدمـه بعنف وهو يصيح مناديًا :
-رغد !! رغـد ..
جاءت من أعلى متعجبـة وفارحة في نفس الوقت لمجيئه ، قطعت خطوات السُلم ركضًا وهي تُكذب أعينها لترتمى بين ذراعيه هاتفه :
-أنا آكيـد مش بحلم !! ولا وحشتك ومش قادر على بعدي ؟ايه المفاجأة الجامدة دي يا هشوم !
لم يتكفل حتى بتحرك كفيـه ليربت على ظهرها بل ظلت يديه منصوبة على جانبيه تقبض عاى جمر الغضب .. لأول مرة تشعر فيهـا ببرودة حضنه فتراجعت وهي تحدث عينيـه بقلق:
-حبيبي ؛ أنتَ كويس .. فيك حاجـة يا هاشـم ؟
ثم جلى حلقها بارتباك لتقول وهي تتأهب بالذهاب:
-هجيب لك ميــه ولا عصير ، استنى .
تكورت يديـه على معصمها ليديرها أمامه رافضًا رحيلها والغضب يشارك أنفاسه ، ألقت نظرة على قبضته التي تعتصـر ذراعها وقالت بحزن يملأ عينيها :
-هاشم بتوجعني !! أنت مالك ؟
-ممدوح الشيمي بيسلم عليكِ !!
علقت الغصة بحلقها غير مصدقة ما قاله :
-أيه !!
-ما قولتيش ليـه ممدوح الشيمي عايش يا رغد !
ارتدى ثوبه الحربي الذي لا ينساق وراء عواطف أو مشاعر تشتته عن غايته ومصلحته القيادية ، لم يشفق على دموعها المترقرقة وملامحها الباهتـة وهو يرجها بدون رحمة ليكرر سؤاله بعيون مُلتهبة بحُمرة الخزى :
-قولتي أبوكي مات ليـه !! هاه !!
نهر متدفق من العبرات شق وديان خدها حتى باتت صورته أمامها مشوشـة ، مهما طال عمر الكذب فهو قصير وسيحل الوقت الذي يكشفه عاجلًا أم آجلًا .. تمتمت شفتيها المرتعشة بذهول :
-أنتَ عرفت !! هـ..
انفجر بوجهها معاتبًا :
-هتكدبي تاني ! أنتِ مزهقتيش !! طبعًا معندكيش رد عارفة ليه ! عشان أبوكي وعيلتك من أكبر مرهبين السلاح في سينـا ومطلوب مني اصطادهم فار فار ، عيلة الفهلوة والبلطجة .. هاه اتكلمي هي دي خطة أبوكي !! عاوزين تزرعوني عيون ليـكم وأنت تساعديه .. تبقى متعرفيش هاشم يا رغد ..
ثم دفعهـا بقوة على الأريكة وأكمل صياحه المتقاذف فوق مسامع هذه المسكينة :
- هاشم اللي داس على عيلته كلها واتجوزك ولسه كان هيعمل أكتر عشان وانت طلعتي بتلعبي عليـه !! وخداني لعبة ؟! ويا ترى بتكسبي حلو من الشغلانة !
صرخت بوجهه باكيـة :
-هاشم خلاص بقا كفاية كفاية حرام عليـك كفاية إهانة وتجريح ، أنا ماليش ذنب في كل ده والله .. بابا وماما منفصلين من عشر سنين لما عرفت حقيقتهم ..وانا من وقتها اعتبرته ميت ويعلم ربنا والله والله ما بكلمه ولا أعرف عنه حاجة ..
ثم نصبت قامتها لتقف بوجهه متكئة علي عكاز الهزيمة:
-تفتكر كام مرة رفضت ارتباطنا ! كام مرة حاولت ابعدك عني واقفل السكك ما بينا !! كام مرة حاولت اتخلص من لقب ممدوح الشيمي وأعيش !! أنا واحدة اتيتمت وأبوها لسه عايش .. وأنت ، أنت جاي تظلمني زي ما هو ظلمني حتى من قبل ما تسمعني.
زأر بوجهها بصوت رُجت الجدران لقوّته والحزن يغلي بقلبه :
-كفاية تمثيل ، كفاية مبقاش ياكل معايا ، طلعت أنا اللي غلطان في الآخر !! طب قوليلي وانا اللي اقرر اخاطر بشغلي ولا بيكي !! لكن متستغلفنيش يا رغد ، وكُنتي عاوزاني اخلف عشان تبقي كتفتيني أيدين ورجلين ..
ثم رمقها باسهم الخسة :
-يا خسارة يا رغد .. ياخسارة
ثم طاف العتاب والعشم بينهما للحظة فأتبع مؤسفًا :
-خلصت ، ورقتك هتوصلك وانسي أنك عرفتي حد اسمه هاشم العزايزي ، أنتِ فاهمـة !! مش عاوز أشوف وشك تاني !
ثم طاحت يده بالفازة الكبيرة الموجودة بالأرض بغل يتفجر من جوفه وهو يتجاهل صوت ندائها وصوت الزجاج المتهشم الذي لا يختلف عن صوت قلبـه حتى جر ذيول حبه المظلم من هذا البيت الذي شهد على أعظم قصة حُب بينهما وغادر دون أن يلتفت لتلك التي غلبها القهر وسقطت مغشيًا عليها غير مصدقة ما تعرضت له وحكمه على قلبها بالإعدام بدون رحمة .
استقل هاشم سيارته وفر من البيت وهو بحالة قائد في قلب المعركة يتشاجر حتى مع نسمة الهواء التي تتغللـه.. جاءه اتصال هارون في هذه الأثناء عائدًا من عند الجواهري ؛ فـ رد عليه بملل محاولًا دفن حزنه عن أخيه :
-خير يا عمدة ..؟
-خير يا سيادة الرائد ؛ قولت أكلمك قبـل ما أعاود البيت ، أبوك إمبارح چابلي سيرة چوازتك من نغم .. وأنت قولتله يسيبك على راحت لغـاية ..
قاطعه هاشم بنبرته الصارمة بعد ما أحس بقيمة أعرافهم التي تخشى دماء الغرباء وهو يحمل وصمة العار وتمرده بقلبـه :
-متأجلوش حاچة يا هارون ، خليـه يتمم الچوازة وهنزل الأجازة الجاية اكتب عليها …
صُدم هارون من قرار أخيه :
-وأيه اللي غير رأيك !!
•••••••••••
~بقصـر العزايزة .
-العُمدة جـيه وصالحني إمبارح ، وصورت الحلقة الجديدة يا أحلام ، هابقى أوريهالك بس لما أجيب الكاميـرا ..
قالت جُملتها بفـرحة عارمـة تنتطق بحروف اسمه من فوق ملامحهـا .. ثم ارتشفت رشفـة خفيفة من فنجان قهوتـها وقالت بأسفٍ :
-أحلام أنتِ زعلانة ليـه !! متعودة عليـكِ بتضحكي وتهزري ، في حاجة مضايقاكي مني ..
مسحت أحلام بكفها الأبيض على رأسها وقالت :
-اتعودت عليكِ يا ليلة ومش عاوزاكي تهمليني وتعاودي ..وأنت مُصرة ترچعي .
أغرورقت عيني ليلة بالعبرات فتلك أول مرة منذ رحيل أبيها تشعر بتأثر في قلب أحد .. تركت القهوة من يـدها وارتمت في حضنها مدمعة العينين:
-متقوليش كده يا أحلام ، والله هابقى أجيلك كتير .. بس أنا قاعدة هنا ليا أسبوعين .. كتير أوي بجد ؛ أنا حياتي في اسكندريـة .
ضمتها أحلام لقلبـها وهي تقول بحنو :
-ولو هتقعدي العُمر كله ، على قلبي زي العسـل يا ليلة يابتي .
-تعرفي إني بحبـك أوي وشايفة فيكِ حنينة كأنك مامي والله .
ما كادت أن تردف ليلة جُملتها الأخيرة فدخلت فردوس من البـاب لتشاهد الدموع والحُزن يعقد سحابته بالمكـان ، دخلت وقفلت الباب ورائها مستنكرة :
-ليه البكا والحِزن دهوت ، دي حتى الدموع تچيب الفقـر .
ثم ميلت لتُلملـم الأطباق والفناجين فنظرت لليـلة بفضول :
-ديه فنچانك يا ستِ ليلة !! ما تيچي أشوف لك بختـك .
حملقت بها أحلام معاتبة :
-أنتِ معتحرميش ! مش هتهمدي غير لما هلال يطردك من البيت .. تحرم فنچان معدي لازم تقراه ..
قلبت فردوس الفنجان وجلست بالأرض مربعة ساقيها وهي تقول :
-أدينا عنتسلوا يا حجة أحلام ، استري عليّ بس وهو مش هيعرف .
-طب هتروحي من ربنا فين يا ناصحـة !
-متحبكيهاش عاد يا حچة أحلام وخليكي زي ست صفية كل يوم تخليني أقرهولها ..
-يكش هلال يقفشكم ويطين عيشتكم يابعيدة أنتِ والمدبوبـة صفيـة .
تبسمت ليلة بشغف وهي تستند برأسها على صدر أحلام لتقول بفضول:
-خليها تشوف ونهزر شوية يا طنت ..
أرسلت لها فردوس قبلة بالهواء :
-عليّ النعمة أنت سكر مكرر ..
ثم أخذت فردوس فنچان ليـلة بعد ما توسلت أحلام بألا تقوم بإخبار الشيخ هلال ؛ ودورته أمام عينيـها وهي تقول بأسف لا يُطمئن :
-الفنچان مقسوم نصـين .. نص كله فرح ونص كله حِزن وهموم ..
ثم امتدت عينيـها لقاع الفنجان وأكملت :
-في لت وعچن كتير من ورا ضهرك وكلهم حبايبك بس مش عيتمنولك الخير ، شايفـة كل دي عقارب ، والعقارب هما القرايب يا بتي .. حرصي منيهم.
فلفت الفنـجان لفة بطيئة مع اتجاه عقارب الساعة وأكملت :
-فيه طريقين مفتوحين لك ، طريق سالك وطريق واعر قوي هتتعبي فيه بس أخرته فرج كبير..
ثم أكملت لف الفنجـان لترسو على يده التي تمسكه بها :
-عندك تغيـر كبير في حياتك وتوهان ، الماضي بيسلم دفاتره ومفيش يوم من الماضي راچع ولا هتعيشيه ، أنتِ داخلة على حياة جديدة بس واعرة .
ثم زحزحت الفنجان بدقة وأتبعت :
-وفي نهايـة النص ديه من الفنجان فيه في حياتك واحدة واقفـة في طريقك عتحاول تمنعـك وتعرقلك وعتقلب الدِنيا عليـكِ ، بس مش هتقـدر .. لأن بصي …
ثم وجهت الفنجان إليهم وقالت :
-شوفي يا حچة أحلام ؛ في سيـف واقف في ضهر الست دي وهو اللي هيحميهـا ..
نظرت ليلة وأحلام كل منهمـا لبعض بتوجس فأكملت ليـلة بفضول :
-كملي ..
دخلت فردوس على النصف الحلو من الفنجـان :
-طالعالك عصفورة ، وجاية تبلغك أنك هتحققي حلم قريب ..
ابتسم وجه ليلة بفرحِ :
-واو ! بجد يعني هابقى مذيعة، أصل هو ده حلمـي .
ربتت أحلام على كتفها فأتبعت فردوس:
-وظاهرلك طاووس ديله طويل .. والطاووس عريس يا ست ليـلة ، عريس مفيش حد زيـه ، وتصدقي ده طالع أهو ، طول بعرض راجل ولا كُل الرجالة
ضحك وجه أحلام وهي تدمدم :
-عارفاه ، هو بعينه اللي عليه القصد والنية..
فواصلت فردوس حديثها :
-واقف على البـاب بس في حاچة مانعاه يدخل بـس فـ
قطع جُملتها الطاووس المُعلن والمقصود بدخوله المفاجئ فـأخفت فردوس الفنجان وراء ظهرها وهو يتشاجر من خطاوي الأرض ليشكو لأحلام من زينة وعمتها بعد ما فاض بئر صبره :
-يرضيكي الهرج ديه يا أحلام !!
-وه وه !! مالك نافش ريشك كيف الطاووس إكده !! مين مكدرك يا حبيبي !!
تدخلت ليلة بعد ما أرسلت له بسمة سريعة :
-يعني ايه مكدر يا أحلام !
أشارت نحوه بسبابتهـا :
-يعني معكر وشه بالهم والغم ..
ثم نظرت له :
-تعالى يا حبيبي تعالى في حضن أحلام .
انضم له هيثم عند رؤيتـه للباب مواربًا :
-متچمعين عند النبي .
-أخوك من صبحية ربنا ما شوفتش وشه يا هارون ، وكأني نومته جار بت صفاء حليت له ..
فلحقت بهِ صفية وهي تدس أنفها في مجلسـهم :
-متزرز ليه أنتَ كمان ..
جلس بجوارها وهو يكمل شكواه :
-يعني أيه شبكة ٤٥٠ چرام يا أحلام ؟!!!
ثم نظر لأمه :
-هو مال سايب عنخفوه !!
تدخل هيثم معترضًا وهو يلتهم ثمرة الفاكهة وهو يعاكس ليلة متعمدًا استفزاز أخيه :
-يعني أيه زينـة يچيلها ٤٥٠ جرام ! أومال الشهد اللي قاعد حِدى أحلام دي نچيبولها أيه !!
دخلت صفية مدافعـة عن بنت أخيها :
-وأيه يعني وأنتَ أي حد دانت كبير العزايزة !! ولا بت أخوي أي واحدة ، دي تستاهل تُقلها دهب .
تدخل هيثم ساخرًا :
-عليا النعمة من نعمة ربي زينة دي لو فكفكناها واتباعت قطاعي ما هتچيب ربع التمن ديه ياصفية !!
انفجرت أحلام في الضحك على جملة هيثم الأخيرة وهي تقول:
-يحظك يا هيثم، بصراحة الواد مغلطش .. چيبتي أيه بكل الدهب ديه يا صفية ، منا عارفاكي مخوتة دهب وآكيد بت أخوكي طالعة لك .
ترنحت صفية لوصف الشبكة :
-دول كلهم ٨ غوايش في يدها واليد التانية تمساح عچبها ومعاه كَفة يد .. وفرعين في رقبتها وسلسلة قرص شمس ، البت عچبتها وخلخال يملي رجلها ويجي ٥ خواتم لأجل الحسد ..
تدخل هيثم معترضًا وهو يرمى نفسه جالسًا بين ليلة وأحلام :
-دي مخطوبة لهارون العزايزي ياما مش أبو طلال السعودي ..-ثم نظر لأخيه- يا هارون يا هارون اسمع مني دولت داخلين على طمع يا وِلد أبوي وصفية مقوياهم .
تأفف هارون ممتعضًا :
-شوفي لك صِرفة يا أحلام ..
-أحلام مش لادة عليها الچوازة من ساسها لراسها .
تدخلت ليلة مبتلعـة غصـة قلبها المجهولة وهي توجه حديثها لـ هارون :
-على فكرة أنت لازم تكون كريم مع خطيبتك و
قاطعها هيثم وهو يقشر الموز ليقول ساخرًا :
-عقولك زينـة .. بالك لو واحدة تستاهل زيك نتاقلولها بالألماظ ..
حدجه هارون بحدة مدافعًا عن خطيبته أم يشتعل غيرة على ليلة !! وهو يقول :
-احترم روحك يا هيثم ..
وشوشت له ليلة بتحذير :
-بس يا هيثـم ، دي بردو خطيبته .
زفر هارون باختناق وهو يرمقه يغضب ، فأعقب هيثم قائلًا لأحلام وهو يغمز لها :
-ما تچوزيني ليـلة يا أحلام !! عشان انا لو لفيت الدنيا كُلها مش هلاقي زيها !
احتج بأصفاد الأعراف التي التفت حول عنقه ولا يعلم حقيقة كونها الغيرة ، كور يده مغلولًا وهو يبرق لأخيه بتوعد ، فتدخلت ليلة معترضة :
-طيب وجميلة يا هيثم !! أنت نسيت !
أجابها من خلف فكيها المنطبقين وقال:
-اشش متفضحيناش ..
أمتدت أنظاره بفضول محاولًا قراءة لغة شفتيه ولكنه فشل ، فتدخلت أحلام بخبث وهو تطالع هارون :
-بس يا هيثم ، عريس ليـلة عندي ومش هتتچوز غيـره ..
هبت ليلة ملهوفة بفضول :
-بجد يا أحلام مين هاه مين قولي !! عشان ناخد رأي حضرة العمدة ..
انكمشت ملامح وجهه بضيق:
-وأنا مالي ، وهو أنا اللي هتچوزه !
تدخل هيثم :
-وأنا روحت فين ؟! من ساعة ماتصالحتوا وانتِ مطنشاني خالص ..
عضت ليلة على شفتها مغلولة من ثقل دمه :
-استنى أنت يا هيثم عشان شكلنا هنرجع نتخانق تاني !!
ثم نظرت لهارون :
-يعني أيه مش هتسأل على العريس وتعرف أصله من فصله قبل ما اتجوزه !
رد بجمود :
-مش عاجبك وعاجب أحلام ، كفايـة .. هتعملوا برأيي أنا أيه !
هبت بوجهه :
-على فكرة أنت مش صاحب جدع ..
تدخل هيثم معارضًا :
-أأه أأه واعرة دي يا عمدة ..
هارون بضيق:
-طب يا ستي تُشكري ..
ليلة بملل :
-العفو ….
فتأرجحت عيني أحلام بين هارون وليلة وكأن الفكرة راقت لها :
-طاووس وعصفورة .. يا حلاوة .
جاءت أحدى الفتيات العاملات بالبيت لتخبرهم:
-هارون بيه ، داكتور عمار چاي يكشف على ست ليلة …
••••••••••••
~ بعد مرور يومين ..~
أن يعـود الإنسان وحيدًا لغُرفتـه .. لا يسمع إلا صوت دقات قلبـه الضائعة في الضجيـج .. ينفـرد بنفسه وفي أذنيه صوتٌ يهمس له دائمًا " استمع لي ولو لمرة واحدة بالعُمر ، صادقني وصدقني هذه المرة فقط "
لقـد قرأتُ مرة عن ضعف الإنسان أمام قلبـه؛ ولكنني لم أعرف يوماً عن خيبة الإنسان من نفسه كالآن .._ليلمس قلبه مُكملًا_كما يحـدث هُنـا بالضبط .
لألف مرة قلت أن العيون ليست مرآة الروح ، حقيقة المرء بالعشرة ؛ وها أنت الآن تقف وحيدًا بين أربعة جدران وبين كفيك تحمل قمرين ؛ عينين غلبك طيفهمـا وبات ملازمًا لك أينمـا ذهبت ..
فقرة الهروب من الذات التي فعلتها وأنت تبتسم ربما كانت خيبة ، ربما إستغاثة وربما كانت محاولة لتشتت الحزن عنـك !
ربما كانت محاولة لقتـل النفس التي تسكنك وتحويلها لروبوت متحرك .. وفي كل الأحوال كانت محاولات فاشـلة ويبدو أن القلب شن حملة على هذا العقـل المتمرد عليـه .. يا ترى من منـا سيُهزم في هذه المعركة !!
كان يتأمل صورته بمرآة الحمـام بعد ما فرغ من حلق لحيتـه القصيـرة مكتفيًا بترك شاربـه الأسود .. كان يتحرك خلال اليوم ، بل خلال العمر كجهاز متحرك متجاهلًا كونه انسان خُلق من كتلة متوهجة من المشاعر التي تُحركه .. قفل جفوفه ليرتاح قليـلًا من صوت قلـبه الثائر عليـه ، فحـل بآذانه صوتها وهي تقول له ببراءتها المعهـودة :
--أنا بطلت أحب حاجة يا هارون عشان بتروح مني أول ما ابتدي أحبها ..
هذه الجُملة التي تعلقت بقلبـه كزينـة العيد ، لِمَ لم يتخلص منها حتى هذه اللحظة ، لِمَ لم يكُف عن لحظات طيشه وبحثه عنها كمراهق لا يليق برجل يافع مثله ، لِمَ لم يتوقف عن التفكيـر بها وهو سيُلبس خاتم زواجه بيد فتاة آخرى !! منّ متى ألتفت هذا القلب الصخري لكُل هذه الأحاسيـس..
علق المنشفة التي بيده على مقبض الباب وخرج بملل وشرع في ارتداء زي خُطوبته وطيف وجودها يُلاحقـه هنا وهناك .. أخذ يغطي في تفاصيل صدره العاري حتى ختمه بلبس جلبـابه الأبيض ، ثم أمسك بعباءته الصعيدية ورماها على كتفيـه ، عاد للمرآة مرة آخرى ونثر القليل من العطر بملل وكسل رهيب، ثم تحرك نحو الخزانة وأخرج منها خاتم فضي ذو قبـة سوداء وما لفت انتباهه وجود دبلة ليلة بداخله ؛ سقطت الدبلة بكفه وأخذ يتذكر تفاصيل لقائهم الأول ليقول بتعب يشغل صدره :
-طلعتيلي منين بس يا بت الناس !! وايه طيفك مش مفارقني !! راسي مزحومة بيكِ !
ثم وخزه صدره بعتب ليوقف تلك الفوضى التي سيقوم بها ويطبع خاتم ملكيته بيد فتاة لا ينجذب لها كما فعلت ليلتـه الطريفـة .. ترك دبلتها بمكانها وهو لا يعلم سبب احتفاظه بها حتى الآن وقفل خزانته ونفض غبار عبث قلبه من عليه ليطلق حمحمة قوية ويذكر نفسه :
-فوق يا هارون وحياة أبوك … من ميتى عتسمع لصوت قلبك ما أنت دفنته من زمان .
كيف يمكن إقناع شخص بالحب اعتاد أن يقطع الشوارع بلا هدف محدد، وكأنه يحمل في داخله جبلًا من الحيرة والتوتر للحد الذي يشغله عن أهوائه ، شخص عيناه تتجول بلا هدوء كموج البحر ، تسحبه في كل الاتجاهات كأنه يفتش عن إجابات لأسئلة لم يستطع حتى تصوّرها ، يفتش عن نفسه بين الزحام ولا يجدها . شخص خطواته مثقلة بالهموم كأنه يحمل جبلًا منها على كتفيه، يسحبه إلى الأسفل فأسفل . كل جزء من جسده يشعر بالتعب والإرهاق لمحاولاته الدائمة في قتـل هذا القلب ؛ وعندما لامس شعاع الحُب قلبه زادت حدة اضطرابه وشعوره بالتشتت والحيرة . كان يشعر بأن هناك لص يترقبه ليسرقه من الحياة للأبواب المجهول ، وازدادت الأصوات في رأسه، تتراقص في ذهنه بلا هدوء .. فقرر أن يتخلص من كل هذا الخوف الذي سكنه على سهوة بالانسياق وراء المتاح ودفن الخيال الذي يجمعه بإمراة جذابة مثلها بمقبرة القلب الكئيبة …حسم أمره وطوى صُحف قلبه وهو يغادر غرفتـه متجهًا نحو خُطبتـه القائمة بالوقت الحالي ليعقد نيته الأبدية على زينة وهو يقول :
-ازحم قلبك بكيفك قبل ما يزحمك هو بكيفه .