رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الخامس والعشرون  بقلم سيلا وليد


أبحثُ عن تلك اليد التي تلامس روحي قبل أن تلامس يدي،
تلك اليد التي تلوّن حياتي بألوان السعادة،
وترسم على صفحات عمري ابتسامةً لا تغيب.

أحتاجُ إلى دفءٍ يُذيب بردَ الأيام القارس،
وإلى حبٍّ يُعيد لقلبِي نبضه الحقيقي،
حبٍّ يضيء دروبي في كل وقتٍ وحين.
أين هي تلك اليد التي ستحمل معي أثقال الحياة؟
تلك اليد التي ستزرع في طريقي ورود الأمل،
وتمنحني من قلبها طمأنينة، تريح الروح وتغنيها.

أحتاج إلى من يُلهمني أن الحياة تستحق العيش،
وأن الفرح ليس بعيدا، بل بين يدي من يشاركنا الفرح والهم.
أين من يُعيد إلى نفسي يقينها،
ويزرع في قلبِي الأمل من جديد؟

#ميرال_إلياس_السيوفي

ظلَّ يدورُ بسيارتهِ لساعات، غارقًا في أفكاره، عاجزًا عن مواجهةِ ما يحدث..لكن في النهاية عادَ إلى المستشفى كأنَّ شيئًا ما كان يجذبهُ للعودةِ هناك، وجدَ إسحاق جالسًا على المقعد، عينيهِ معلقتينِ على بابِ غرفةِ العمليات، وكأنَّ الزمنَ توقَّفَ عنده.
اقتربَ منهُ ببطء، محاولًا أن يخفي ارتباكه:
- لسه مخرجشِ من العملية؟

رفعَ إسحاق رأسهِ ببطء، نظرَ إليه بعينينٍ مليئتينِ بالحزن واليأس. بدا وكأن الكلمات ثقيلة على لسانه، لكنه تحدث بصوت متحشرج:

- عارف إنك مصدوم... بس ده أبوك يا أخي! ينفع تسيب أبوك في العمليات وتمشي؟ هو ده اللي رباك عليه؟

صمت المكان من حولهما، ولم يبقَ سوى صوتِ الأجهزة البعيدةِ في المستشفى، شعر بثقلِ الكلماتِ تضغطُ على صدره، وكأنَّهُ يتنفسُ بصعوبةٍ لم يكن يعرف ماذا يقول، لكنهُ أدركَ أنَّ إسحاق كان محقًا...

سحبَ نفسًا عميقًا وزفرَهُ ببطء، وكأنَّما يحاولُ أن يتماسكَ بصعوبة، قبل أن يهمسَ بصوتٍ مبحوح:

آسف يا عَمّو... سامحني، أنا فعلًا تعبان بجد.

رَبَتَ إسحاقُ على ركبتِهِ بحنوٍّ، وكأنَّهُ يحاولُ بثَّ الطمأنينة في قلبِه، لكنَّهُ فجأةً انتفضَ مع انفتاحِ بابِ غرفةِ العمليات. وقفَ إسحاقُ متوترًا، خطواتُهُ مترددةٌ نحوَ الطبيبِ الذي خرجَ. تطلّعَ الطبيبُ إليهِ بنظرةٍ جامدةٍ، قبلَ أن يتحدَّثَ ببرودٍ يقطرُ ألمًا:

عملنا اللي قدرنا عليه...الساعات الجاية حرجة...ادعوله.

قالَ كلماتهُ وغادر، تاركًا إسحاقَ مشدوهًا، عيناهُ معلقتانِ بالبابِ المغلق. وقفَ مكانهُ عاجزًا، يُحدّقُ في البابِ وكأنَّهُ يريدُ أن يقتحمَهُ ليصلَ إلى أخيهِ، ليخفِّفَ عنهُ ولو قليلًا من آلامِه.

التفتَ ببطءٍ وكأنَّ الزمنَ قد ثقُلَ على كتفيهِ، ليجدَ أرسلانَ واقفًا أمامَ النافذةِ الزجاجية، عيناهُ شاخصتانِ نحوَ والدهِ المُمدَّدِ تحتَ الأجهزة. اقتربَ إسحاقُ بخطواتٍ مثقلةٍ، وعيناهُ معلقتانِ بجسدِ فاروقَ المُنهَك.

وقفَ بجانبه، تنفَّسَ بعمقٍ وكأنَّهُ ينتزعُ من صدرِه حملًا ثقيلًا، قبلَ أن يقولَ بصوتٍ مرتجف:

فاروق مش مجرَّد أخ، يا أرسلان...فاروق كان أبويا.

توقّّفَ للحظة، وكأنَّ الكلامَ يتعثَّرُ في حلقهِ، ثم أكملَ بصوتٍ مبحوحٍ مليءٍ بالوجع:

جَدّك كان موجود، بس فاروق هو اللي شالني، هو اللي كان مهتمَّ بيا.. عُمره ما حسِّسني باليُتم، حتى لما أمَّي، أحلام هانم، سابتنا وراحت تتجوز، وقف وقال لي: "وإنتَ محتاجها في إيه؟ هو أنا قصَّرت معاك؟".

ارتعشتْ يدُه وهو يمسحُ وجهَه، ثم استدارَ نحوَ أرسلانَ بجسدهِ بالكامل، عيناهُ تفيضُ بوجعِ السنين:

فاروق شال الدنيا على كتافه، عشان يبني لنفسه اسم بعيد عن العيلة. فاكر لما لقاك؟ كنت طفل صغير ملفوف في بطانية، في عزِّ البرد والجوع. فاروق شالك من غير تردُّد، وقال: "الولد ده مكتوب له يعيش معايا". ومن وقتها، بقيت ابنه...لحدِّ ما الدنيا انقلبت عليه تاني.

صمتَ إسحاقُ فجأةً، وكأنَّ الكلماتَ تخونهُ، بينما أرسلانُ كان يُنصتُ، وجهُه جامدٌ، لكنَّ عيناهُ تكشفانِ عن عاصفةٍ داخليةٍ، رفعَ أرسلانُ رأسه، ملامحُه مشدودةٌ بالغضبِ والخذلان، وصوته خرجَ متحشرجًا:
-ليه ماقولتش، ليه سكتوا الوقت دا كله

حاولَ إسحاقُ الردَّ، لكنَّ أرسلانَ قاطعهُ بعنفٍ، عيناهُ تلمعانِ بغضبٍ أشبهَ باللهب:

-كنت عارف إن إلياس اخويا، علشان كدا حاولت تبعدني عنه، اقترب خطوة وعيناه تنطق بكم الخذلان الذي شعر بهما
-كنت عارف إنِّ فريدة السيوفي أمي، مش كده؟!

حاولَ إسحاقُ التحدُّثَ، لكنَّ أرسلانَ لم يتركْ له مجالًا..واندفعَ نحوهُ وأمسكَ بجاكيتِه بقوة، عيناهُ تغليانِ بالغضبِ والدموعِ التي تأبى أن تسقط:

كنت عارف... كنت عارف إن أمِّي اتظلمت، وإنِّها اتحرمت منِّي ومن إلياس..عارف إنها دفعت تمن غلطات غيرها، و سكت..كنت عارف، ومع ذلك منعتني عنها؟ 

ارتجفتْ يداهُ وهو يضغطُ على إسحاق بعنفٍ، ثم تركهُ فجأةً، عيناهُ تلمعانِ بالدموعِ والغضبِ الذي يفيضُ كبركانٍ ثائر:

أبويا مات مقتول، أمي اتحرمت مني، وأخويا ما عرفتش عنُّه إلا بالصدفة، صمت للحظات وكأنه تذكر شيئًا
-دلوقتي فهمت كلام مدام احلام، ليه كانت بتقول ابن شوارع، ورغم كدا كنت ساكت!

تراجعَ أرسلانُ خطوةً، نظراتُه تشتعلُ بنارِ الغضب، قبلَ أن يقولَ بصوتٍ يشبهُ الوعد:

مش هسامح...هفتح كلِّ الملفات، وهطلَّع كل الحقايق، وأولَّع في كل اللي كانوا السبب.

تركَ إسحاقَ واقفًا مكانه، وانطلقَ مبتعدًا بخطواتٍ ثقيلة، وكأنَّ الغضبَ الذي بداخله يكادُ يفتكُ به.

ظلَّ يجوب بسيارته الشوارع بلا هدفٍ، كأنَّ الطرق لا نهاية لها، وكأنَّ جسدهِ يتبع تيهَ روحه، توقَّفت السيارة أخيرًا أمام مياه النيلِ الهادئة، ذلك الشاهدُ الصامتُ الذي لطالما احتضنَ أسرارَ الموجوعين. أسندَ أرسلان رأسه للخلف، وانفجرت دموعه كأنَّها بركانٌ مكبوتٌ ظلَّ مختبئًا لسنوات، شهقَ بعنفٍ، يحاولُ إخراج ما يعصفُ بصدره، وهمس بصوتٍ متهدِّج:

"إزَّاي حياتي تتقلَّب كده؟ ليه يا رب؟!"

ارتعشت أناملهِ وهي تمسحُ دموعه بلا جدوى، والألمُ كان يعتصره كقبضةٍ حديديةٍ لا ترحم. ذكرياتُ لقائه بإلياس بدأت تلوحُ أمام عينيه، كأنَّها شريطٌ سينمائي يعيد نفسه بلا نهاية، تردَّدَ صوتُ فريدة في رأسه، كلماتها في المستشفى تتكرَّر كأنَّها طعنةُ خنجرٍ بطيئة:

"أخوك...هي قالت: أخوك!"

رفع رأسه فجأةً، وشعر بأن هناك صاعقةٌ تضربه بقوة..عيناه احمرَّتا من كثرةِ البكاء، قبضَ على المقود بقوةٍ حتى ارتعشت أصابعه، ثمَّ ضربهُ بقبضته بعنفٍ، يصرخُ بصوتٍ مرتعشٍ ومبحوح:

"أخ... عندي أخ؟!"

رنَّ هاتفه مرارًا، لكنَّ صوت الرنين كان بالنسبة له كصدى بعيدٍ لا يعنيهِ فجأة، عندما تصاعدَ الرنينُ للمرةِ العاشرة، ألقى نظرةً على الشاشة..
. إلياس. التقط الهاتف بيدٍ مرتجفةٍ، وكأنَّ ثقلهِ أصبح فجأةً لا يُحتمل، أجاب بصوتٍ متحشرجٍ ومتهدِّج:

"أيوة..."
جاءه صوتُ إلياس، مشحونًا بالقلق والغضب المكبوت، كأنَّه يحاولُ السيطرة على انفعالاته:

"أرسلان! إنتَ فين؟ من ساعة ما خرجت من المستشفى وأنا مش عارف أوصلك  رد عليَّ، بالله عليك!"

شهق أرسلان شهقةً عميقةً كأنَّها تسحبُ الهواء من رئتيه، ثم انفجر بصوتٍ متحشرجٍ مليئٍ بالألم:

"فاكر لمَّا أنقذتني في إيطاليا؟ فاكر لما مراتك قالت إنِّنا شبه بعض؟ وقتها ضحكت عليها، فاكرها بتهزّّر، لكن...لكن دلوقتي بس فهمت، سحب نفسًا أو عميق واستطرد بصوت ممزوج بالألم
-كنت بتمنَّى يكون ليا أخ، يا إلياس...طول عمري كنت بحلم بده، رغم إنِّ إسحاق كان كلِّ حاجة بالنسبالي، لكن فكرة يكون ليا أخ حقيقي...حاجة تانية."

حاول أن يبتلعَ وجعه، ويصمت عن البكاء، و لكنه فشل، تابعَ بصوتٍ ينكسرُ مع كلِّ كلمة:

"تفتكر فيه إحساس أحلى من إحساس الأخوة؟ أنا كنت حاسس بده معاك، حتى من غير ما أعرف، كنت بحبَّك زي ما الأخ بيحب أخوه، وكنت دايمًا وراك...في كل خطوة، زي ظلك..عمري ما سألت نفسي ليه...بس دلوقتي عرفت."

رانَ صمتٌ ثقيلٌ على الطرفين، كأنَّما الكلمات خذلتهم أمام وطأة المشاعر..ثم استأنف أرسلان حديثه، بنبرةٍ مشحونةٍ بالغضب والوجع المكتوم:

"إلياس... الستِّ اللي كنت بعتني أتحرَّى عنها... طلعت أمِّنا..فريدة هي أمنا، يا إلياس."طيب ازاي، ومراتك دي مش بنتها، هي دي البنت اللي اتهموا بقتلها، يعني هي ماموتتهاش زي ماقالوا، شوف حتى دي طلعت فيها بريئة..رغم اني مكنتش اعرف انها هتكون أمي، بس مصدقتش انها تكون قاتلة روح، انا كنت عارف انها بريئة 

ساد صمتٌ طويلٌ آخر. شعر أرسلان بثقل أنفاسه وهو ينتظر إجابة، حتى جاء صوتُ إلياس، أهدأ لكنَّه أكثر حدَّة، كأنَّه يقطعُ سكينَ الألم على مهل:

"وأنا كنت عارف"

شهقَ أرسلان بدهشةٍ وصدمة، صوتهِ خرج مختنقًا:

"عارف؟!"

"أيوة. مدام فريدة بريئة...وميرال مش بنتها، عرفت من فترة، مكنتش اعرف من الاول لأنها غيرت اسمها لميرال جمال الدين، مكنش قدامي دليل واضح، لحد ماعرفت اني مش ابن السيوفي، بس مكنتش اعرف انك اخويا، حتى لما طلبت منك التحري مكنش اعرف، كنت عايز اثبت برائتها لنفسي وبس، المهم اسمعني دلوقتي، علشان لازم نكون هادين

أنا إلياس السيوفي، وإنت أرسلان الجارحي. بس ياأرسلان، وهجيب حقنا وحق مدام فريدة

قاطعهُ أرسلان بصرخةٍ محتقنةٍ بالألمِ والغضب، كأنَّما تنفجرُ من أعماقِ صدره:

"ومين هي مدام فريدة دي بالنسبة لنا؟ ايه ياحضرة الظابط نسيت ابوك
حق ابوك فين؟!

ردَّ إلياس بصوتٍ مشحونٍ لكنَّه متزن، يحاول أن يحتوي غضب أرسلان:

"حقُّهم هييجي يا أرسلان...بس مش بالطريقةِ اللي راجح عايزنا ناخدها..إحنا اتربينا نكون مختلفين زي ما إسحاق قال: من حقِّ أبوك عليك يفضل اسمه عايش. فاروق ومصطفى مالهمش ذنب، ما ننجرِّش ورا الغضب ونضيع كل حاجة."

لم يستطع السيطرة على نفسه، صرخةٌ أخرى انطلقت من جوفه، كأنَّها احتجاجٌ على القدر ذاته، ثم مسح دموعه فجأةً، وكأنَّه يحاول أن يستعيد قوته. أجاب بصوتٍ خافتٍ لكن مشحونٍ بالمرارة:

"تمام... أنا هروح المستشفى."

**أغلقَ الهاتف قبل أن يسمع ردَّ إلياس، أدارَ محرك السيارة..

عاد إلى منزله اولًا، وجد غرام تنهي صلاتها، جلس بجوارها إلى أن انتهت، ثم تمدد يتوسد ساقيها يهمس بأرهاق
-شوفتي القدر، إلياس السيوفي يطلع اخويا 
خللت أناملها بخصلاته تجيبه
-واختك تطلع مش اختك، وباباك يطلب منك وصية تحرق قلبي ..قالتها بصوت مكتوم بالدموع 
اعتدل مستندًا على مرفقيه، وجذبها من عنقها يحتضن ثغرها للحظات، ثم تركها يمرر انامله على شفتيها
-ملك هتفضل اختي ياغرام، كوني مطمنة من الناحية دي، انا اضطريت اوافق علشان عملية بابا، بس انا واسحاق مستحيل نقبل بحاجة زي كدا، حتى لو بابا ..صمت يتنهد بألم ثم اعتدل وجذبها يضمها لأحضانه 
-وعد مني مفيش ست تقرب مني، انت حياتي وغرامي، كوني واثقة في كلامي، لو خيروني بين الموت وبين وجعك، هختار الموت ولا اتحمل دمعة واحدة من عيونك 
ابتسمت من بين آلامها، لتقترب تطبع قبلة فوق وجنتيه تهمس بحبه بخفوت
"ربنا مايحرمني منك يارب" 
نهض من مكانه يسحب كفيها 
-اجهزي علشان نروح المستشفى، مش عايزك تبعدي عن ماما الايام دي 
-طيب مش ناوي تروح تشوف مدام فريدة، تعرف الست دي انا حبتها اوي 

حاوط أكتافها وتحرك للداخل قائلا
-هوصلك حبيبي، وبعد كدا لازم اروح لها، كفاية وجع لحد كدا 

مرَّت اللحظات كأنها أزْمان خَالدةٌ، كأنَّ الأرض توقَّفتْ عن الدَّورَان وَتركَتْهُ عالقًا بينَ الخَوْف والشَوْق، بينَ الأَمَلِ والرَّهبة. كانَت خُطُواتهُ إلى فيلَّا السِّيوفي ثَقيلةً كأنَّها تُجَرُّ بأَغْلَالٍ، وكلُّ نَبْضَةٍ فِي صَدْرِهِ تَصْرخ : "كيف تكون هذه أُمّك!". لمْ يَكُن الطَّريق مُجَرَّد دَقائق؛ بل كان رحلةً عَبْرَ جُرُوحِ السِّنِين، عبْر الغياب الَّذي مَزَّق قَلبهُ وترك فِيه فجوةً لَا يَمْلؤها إِلَّا هذَا اللِّقَاء.

وصلَ إلى البوَّابة، ووقف للحظةٍ يُحَاوِلُ أَنْ يَلْتقط أَنْفَاسهُ الْمُبعْثرة إِلْيَاس سَمح لَهُ بِالدُّخُول، ولَكنَّ قَدميه كانَتا تَرْتعشان كأَنَّهما تَحْملَانه إِلَى قَدَرٍ مجهولٍ. وعندما خطى إلى الداخل، تسلَّلت إلى أُذُنَيْهِ نَغْمَة صوتها. ذَاك الصَّوْت الذي جعل قلبه يرتجف

تَوقَّف الزَّمن وهو يستمع إليها تتحدَّث مع إلياس، قلبه كاد ينفجر:
"هل هذه أمِّي؟ هل هذا الصوت الذي يروادُ أحلامي؟".

استدارَ بِبُطْءٍ، ورآها ونظر لها نظرةً وكأنه يراها لأول مرة، هنا شعر وكأن حياته أصبحت سنوات ضائعة، ك
تعلقت الأعين بوقوفها، لكنَّهُ لم يكن يرى سوى الحنين يطلُّ من عينيها..التقت نظراتُهما بحديثٍ طويل ملغم بالألم والحنين، اقترب خطوة اخرى، ولكنها مرتعشة، لتهمس بتقطع 
-"ارسلان" رغم أنها خافتة إلا أنها اخترقت اذنه، في تلك اللحظة انهارت كل الجدران. شعرَ فيها الأم التي حملتهُ يومًا بين ذراعيها، رأى فيها حضنًا اشتاقَ إليه، رأى فيها كل ما فقدهُ في عمره.

اقتربَ بخطواتٍ اخرى مرتجفة، جسدهِ كلَّهُ كان ينتفضُ كأنه طفلًا صغيرًا يتعلمُ المشي لأوَّلِ مرة..لكنه هذه المرة لم يكن يمشي نحو الحياة؛ كان يمشي نحوها، نحو روحه التي فقدها..حاولَ أن ينطق، حاول أن يُخرِج الكلماتَ من فمه، لكن الحروف خانته، خذلتهُ كما خذلهُ الزمن، الذي دمر حياته فجأة، من بعد ماكانت حياة الأمير المنعمة بالورود أصبحت حياة الفتى الطاغي بالشوك والوعود، خطى وخطى ولكنه لم يستطع سوى أن يحتضنها بعينيه، يلتهمُ ملامحها بنظراتهِ وكأنَّها صورةٌ تفرُّ من بين أصابعه..ليسرقها الزمن كما سرقه الشيطان من نبع حنانها..همس بتقطع وعيناه مازالت تحاصر وقوفها
-اتأخرت عارف ..سكون للحظات من ناحية فريدة علها تستوعب ماتلفظه، هل عقلها الباطني هيئ لها ..اقترب خطوة أخرى وكأنه يتحرك إليها على سيف مدبب ليراود عقلها لما لا وهي 

الأم التي ظلت تنتظرهُ طوالَ سنواتها العجاف، لا تفعل شيئا مع تحركاته فقد تجمَّدت في مكانها..كيف لامرأةٍ أن تختصرَ كلَّ سنواتِ الغياب في لحظةٍ واحدة؟ كيف لقلبها أن يحتملَ هذا الانفجارِ العاطفي؟ ظلت تنظرُ إليه بذهول، تتفحَّصُ وجهه، تسألُ نفسها:
"هل هذا حلم؟ هل هذا حقًا علم من هو؟"...استمعت إلى همسه الذي اعتبرته بعيدًا بعد المدى وهو يتمتم:

-أنا جيت، وعايز أتأكِّد بس ضايع، هي مين؟! وأنتِ مين؟! وهو مين؟!.،

ثم بصوتٍ مختنقٍ بالشوقِ والوجع:
-أنا ضايع، ليه بيحصل معايا كدا، طيب 
أمي صفية، إزاي هي، وإزاي إنتِ
حاسس إنِّي بغرق، لأ أنا بردان..قالها برجفةٍ تسرَّبت لكاملِ جسده..جيت لك يمكن الاقي الدفى عندك، هلاقي الدفى دا ولا لسة هغرق تاني 

هنا توقفت عقارب الساعة، بل توقف دوران الأرض لتجذب جسدهِ المرتعشَ إلى حضنها، احتضنتهُ كأنَّها تعيدُ وصلَ ما انقطع، كأنها تحميه من لسعة برد القلوب التي شعر بها، كأنها وكأنها، تريد وتريد، ولكن الأهم تستعيدُ جزءًا من روحها المفقودة، بكاءها كان كصرخةٍ تخرجُ من أعماقِ قلب أمٍّ قُتل صبرها، وصار انتظارها عذابًا..لتمتم بصوتٍ مخنوق:
– ادفيك بروحي يانور عيوني

ظلَّ أرسلان بين ذراعيها، عاجزًا عن الكلام لكنهُ حين التقطَ أنفاسهِ أخيرًا، خرجت منه كلماتٍ كالهمس، لكنها كانت تحملُ ثقلَ الكونِ كلِّه ليردد بنبرة تحمل اوجاع كل ماشعر به:
– إنتِ أمي؟!

كانت كلمته كطعنة في قلبها، لكنها لم تؤلمها، بل أخرجت كل مشاعرها دفعة واحدة. شهقت كأنها تُلقي بحمل سنوات الغياب، وانهارت على الأرض وهي تضمه إليها أكثر:
– آااه صرخةٌ شقَّت عنانَ السماء، ليشعرَ إلياس بالفزعِ على ذاك المشهدِ المريب، حتى انزلقت عبرةً تحرقُ وجنتيه، وهو يراها لأولِ مرَّةٍ بتلك الحالة، اقتحمَ مصطفى الغرفةَ بعدما استمعَ الى صرخاتِ فريدة، ليقفَ بجسدٍ متصنِّمٍ وهو يراها تحتوي جسدَ ارسلان بين ذراعيها. 

رفعَ ارسلان عينيهِ نحو إلياس، وقد أثقلَ الحزن كلماته، حتى بدت كأنها تحملُ جبالًا من الألم.
-ليه ماقولتش من زمان ستِّ الكل تبقى أمِّي!!

"الستِّ اللي حياتها اتحطمت..هيَّ أمي، أمِّي اللي بعتني أدوَّر عنها، أمِّي!!
- آاااه..صرخت بها فريدة وهي تجذبهُ لأحضانها مرة اخرى، كأنّّ صدى الصرخة يحملُ كمّّ الألم، الشوق، والفراق..كان عناقها محاولةً يائسةً لاحتواءِ كل ما تحملهُ في قلبها، وكأنها تريدُ أن تصهرهُ بحضنها الحنون، حضنًا تمنَّتهُ بسنواتٍ عجاف، تريدُ أن تجمعَ به كل مايمسُّ الأمومة التي فقدتها وهو بعيدًا عن أحضانها..
-أمي !! أطبقت على جفنيها تتذوَّقُ حلاوةَ الكلمةِ التي تردّّدَ صداها بأذنيها..

وفي تلك اللحظة، انكسرت كلَّ الحواجز بينهما، وكأنَّ العالمَ انشقَّ ليكشف عن سرٍّ دفين، توقَّفَ الزمن مرة اخرى، وتلاشت الضوضاء..وكأن لم يكن هناك شيئًا في الكون سوى أرسلان وأمه، كانت عيناها تحملانِ تاريخاً من الألم، كلَّ دمعةٍ سكبتها في ليالٍ حالكةٍ وكلَّ دعاءٍ رفعت به يديها للسماء بحثًا عنه..وكان هو بين يديها ، كأنَّما قُذفَ من أعماقِ القدر ليعيد إليها الحياة التي سُلبت منها..

احتضنتهُ كما لو أنَّها تحاولُ أن تلحمَ كلِّ الشروخ التي أحدثها الفقدُ في روحها، بكلِّ أمومةٍ لم تذق طعمها، بكل حبٍّ ظلت تحرسهُ في أعماقها ككنزٍ مفقود. وكأنَّ نبض قلبها، الذي كاد أن يخفتَ في غيابه، قد استعادَ إيقاعهِ لأوَّلِ مرَّةٍ منذ سنين.

كان اللقاء كأنَّهُ انشقاقَ الفجرِ في ظلمةٍ دامسة، أو كأنَّ روحينِ تاهتا في متاهاتِ القدر وأخيراً وجدت طريقهما، اختلطت أنفاسهما بحشرجةِ الدموع، كأنَّ الحياةَ نفسها تراقبُ هذه اللحظة، متوقِّفةً عن دورانها، فقط لتشهدَ كيف يمكنُ للأمومة أن تدفن، ياالله ماهذا الشعور، وولدها الغائبَ لسنواتٍ طوال بين أحضانها، هل شعر أحدكم بهذه الفرحة فلقد ذاقتها فريدة واعتبرتها أعظمَ انتصار على الزمن، والألم، والغياب.

بدأت تقبِّلُ وجههِ بجنونٍ أقربُ إلى الهوس، تمسحُ دموعهِ بيديها المرتعشتين، وكأنَّها تحاولُ أن تمحو آثارَ سنواتِ الفقدانِ من على ملامحه، كأنها تحاولُ أن تزرعَ مكانَ كلَّ لحظةِ ألمٍ عاشتها حبَّا لا ينتهي..ضحكاتها المكسورة اختلطت ببكائها الحارق، وكلماتها المتقطِّعةِ بأوجاعِ السنين، حتى بدت وكأنَّها تحاربُ الجنونَ الذي طاردها طوال غيابه..

– "اهتزّت وهي تهزّ رأسها، ودموعها تنهمرُ بلا توقُّف، صوتها صارَ خليطًا بين الرجاءِ والخذلان:
– "أوعى تصدَّق كلامهم...أوعى تبقى زي إلياس..واللهِ يا بني خطفوك من حضني، حرّموني منك إنتَ وأخوك، حرموني من روحي. مين يصدَّق إنِّ أم ممكن تعيش بعد دا كله؟"

رفع يديهِ ليحتوي يديها المرتجفتين، واردف بصوتهِ الهادئ ولكنَّهُ يحملُ وجعًا يعكس وجعها:
– "ششش... اهدِي يا أمي، أنا عارف كلِّ حاجة..كلِّ حاجة، محدش محتاج يقولي.

لكنَّها لم تستطع التوقُّف، جذبت رأسهِ إلى صدرها بقوَّةٍِ تكادُ تؤلمه، وكأنَّها تخشى أن تختطفهُ الحياةَ منها مرَّةً أخرى..شهقاتها العالية باتت كأنَّها طعناتٌ تخترقُ الصمتَ من حولها

قبلةً مطوَّلةً على جبينها يزيلُ دموعها: 
-خلاص حبيبتي، اتجمَّعنا تاني، بلاش دموع ياستِّ الكل..قالها ثمَّ رفعَ كفَّيها وقبَّلهما..هنا اختفى جميعُ ماشعرت به
وكأنَّ حياةَ الألمِ التي عاشتها لسنوات، استعادتها الحياة بلحظة...ولكن بكاؤها لم ينقطع بل يزداد ويزداد لتضمه مرة أخرى وكأنه سيهرب من أحضانها، وتصيح ببكاء
- شوفت يامصطفى مش قولت لك هيرجع، كنت عارفة أنه هيرجع 

أحضانًا فقط، ولكن ليس كحضنٍ عابر، دفنَ رأسهِ بأحنِّ مكانٍ  يشعرهُ بالأمان، بعدما استمع الى رجفة صوتها الحزين 

كان احتضانهما أشبهُ بلقاءِ روحين بعد رحلةٍ من الضياعِ الطويل، دموعها تغرقُ شعره، ودموعهِ تسيلُ على صدرها، وكأنَّهما يغسلانِ كلَّ الذكرياتِ المؤلمةِ معًا..
لم يكن هناك عالم، لم تكن هناك جدران أو مكان، فقط أمٍّ تعيدُ جمعَ شتاتَ عمرها بين ذراعيها، وابنٍ يحتضنُ الأمان الذي كان يظنُّهُ حلمًا مستحيلًا..

اقترب إلياس وانحنى يرفعها من فوق الأرض 
-كفاية عياط، علشان متتعبيش، رفعت عيناها إليه ثم أشارت إلى ارسلان
-شوفت اهو جه لوحده، رغم محاولتي بس اخوك جه، رفعت عيناها إلى مصطفى 
-ولادي رجعوا لحضني يامصطفى، شوفت رحمة ربنا، مش قولت لك ولادي عايشين وهيرجعوا، واحد ربيته وانا معرفوش، والتاني القدر رماه في طريق اخوه، هو فيه فرحة ورحمة اكتر من كدا 
-ماما قومي كفاية كدا...قالها إلياس بصوت مختنق، وابتسمت عيناها بدموع الفرح تشير إلى إلياس وهي تنظر إلى ارسلان
-اول مرة يقولي ياماما، اكيد عارفه، بس مش مهم، المهم يكون جنبي وبس 
تأفف إلياس وتراجع إلى مكتبه 
-طيب قومي يامدام فريدة، خدي ابنك الحيلة عندي شغل 
افلتت ضحكة وهي تملس على رأس ارسلان 
-لو معملش كدا ميكنش إلياس، مش هزعل منه مهما يعمل المهم انكوا قدام عيوني وفي حضني 
استند بوجنتيه على كفيه وتحدث بتهكم:
-في حضنك، طيب خدي ابنك في حضنك وبرة مكتبي، دا في اسرار دولة، وابنك مش ضامنه، يمكن يخوني

رمقه ارسلان بنظرة ساخرة
-معرفش تقل دمك دا جايبه منين، طيب انا دمي خفيف، ثم استدار إلى فريدة ولمعت عيناه بالحبور قائلًا
-وست الكل عسل وزي القمر، إنما انت دمك يلطش وزفت على دماغك 
قاطعهم دخول اسلام الذي توقف على باب الغرفة قائلًا
-وأنا كمان دمي خفيف واتحب
رفعت فريدة ذراعيها إليه، ليقترب منها ملقيًا نفسه كالطفل بأحضانها، مما جعل إلياس يضرب بكفيه على المكتب
-ناقص اجيب الببرونة

بفيلا العامري:

كانت تغطُّ في نومٍ عميق، عندما فتحت إيمان الباب بهدوء ودلفت إلى الغرفةِ تحملُ صينية الطعام، وضعتها بعنايةٍ على الطاولةِ الصغيرة، ثمَّ اقتربت من السرير الذي صار ملاذًا دائمًا لرحيل في أيامها الأخيرة..

ملَّست على خصلاتِ شعرها برفق، وهمست بحنان:
– رحيل حبيبتي، قومي علشان تاكلي حاجة.

رفَّرفت أهدابها المثقلة بالألم، وقالت بصوتٍ خافت:
– مش عايزة آكل.
ثمَّ جذبت الغطاءَ فوقها مجدَّدًا، تمتمت بصوتٍ يغمرهُ الحزن العميق:
– إزاي هيجيلي نفس آكل؟..

قطعَ صمتهما صوتُ الباب الذي فُتحَ لتدخلَ إيلين، توزِّعُ نظراتها بين الاثنتينِ وهي تسأل:
– لسَّه مش عايزة تاكل؟
أومأت إيمان برأسها بحزن، ثمَّ أردفت:
– أسيبك معاها، يمكن تقدري تقنعيها.

اقتربت ايمان من رحيل وطبعت قبلةً دافئةً على جبينها وهمست بصوتٍ يملؤهُ الشفقة:
– والدتك سألت عنِّك علشان خاطرها، لازم تقوي.
ثمَّ غادرت الغرفة بخطواتٍ صامتة..

جلست إيلين على حافةِ السرير، وأمسكت طبقَ الطعامِ وهي تقول بلطف:
– قومي يا حبيبتي لازم تاكلي، والدتك محتاجاكي كفاية اللي حصل لوالدك.

انسابت دموعُها بصمتٍ ثقيل. لحظات مرّت وهي تئنُ بمرارةِ الفقد، قبل أن تهمسَ بصوتٍ متهدِّج:
– الفراق صعب، بيوجع أوي يا إيلين، مش قادرة أصدَّق إنِّي مش هشوف بابا تاني.

ربتت إيلين على كتفها بحنو، وقالت بصوتٍ مكسورٍ يحمل أصداءَ ألمها الخاص:
– عارفة، ومجرباه بس متخافيش، هتتعايشي معاه وهيبقى جزء من حياتك..عندك اللي يواسيك...والدتك وجوزك أمَّا أنا ما عنديش غير الوجع. بقينا أصحاب، وتأقلمنا عليه.

تنهَّدت ثمَّ أردفت بحزمٍ يتخلَّله الإصرار:
– فوقي، يا رحيل. حياتك مش هتقف هنا،  الناس مش هيشفقوا عليك، بالعكس، هيستنُّوا وقوعك قومي علشان تصلبي نفسك.

لكن رحيل دفعت الطبقَ بعيدًا بيدينِ مرتعشتين، ونهضت من السريرِ بجسدٍ منهك، خطت خطواتٍ ثقيلةٍ نحو الباب، تستندُ إلى الأثاثِ لتجنُّبِ السقوط.

فتحت بابَ غرفةِ والدتها ودخلت، عيناها المشحونتينِ بالدموع باحثةً عن صورةِ والدها على الحائط توقَّفت أمامها، شهقت شهقةً مكتومةً قبل أن تغمرها موجةً من البكاءِ المكبوت.

وضعت كفَّيها على فمها تحاولُ كتم صوتِ بكائها، لكنَّها تقدمت نحو والدتها التي فتحت ذراعيها بحنوٍ صامت..ألقت رحيل بنفسها في حضنِ والدتها، وانهمرت دموعها بعجزٍ مطلق، غير قادرةٍ على مقاومةِ حزنها العميق.

في الأسفل:

جلست إيمان في حديقةِ الفيلا تنتظرُ عودةَ أخيها حتى تتمكنَ من المغادرة، فجأة..اخترقَ صوتًا ساخرًا الهدوء خلفها:
– شايفة رجلك أخدت على المكان؟ أوعي تفكري إنِّك صاحبة البيت يا بنت..

استدارت إيمان بصدمة، ثم أجابت بهدوءٍ متماسك:
– مش فاهمة الكلام ده ليَّ ولَّا لحضرتك؟.. أنا هنا في بيت مرات أخويا.

اقتربت رانيا منها، وعيناها تقدحانِ نار الغضب والاحتقار:
– اسمعي يا بنتِ الحواري، جوز مين؟ فوقي كده..أخوكي ضحك عليها عايز يتجوِّز من أسياده؟ دي هتتجوِّز طارق غصب عنُّكم بلاش ترسمي أحلام على حسابنا..

سقطت كلماتُ رانيا على إيمان كسهامٍ حارقة، لكنَّها تماسكت رغم الإهانةِ التي شعرت بها. كيف يمكن لبعضِ الناس أن يتَّسموا بهذه القسوة؟

رفعت رأسها بثبات، وأجابت بنبرةٍ قاطعة:
– أحلامنا ملكنا، ومحدش له دخل فيها.

استمعتْ إلى صوتِ دراجةِ أخيها، فاتجهتْ نحوهِ سريعًا، تخفي دموعها تحتَ أهدابِها التي أثقلها الحزن..كلماتُ القهرِ التي تلقتَّها من تلكَ الحرباءِ ما زالتْ تحرقُ قلبها ترجَّلَ من دراجتِهِ واقتربَ منها، نظراتاستمعتْ إلى صوتِ دراجةِ أخيها، فاتجهتْ نحوهِ سريعًا، تخفي دموعها تحتَ أهدابِها التي أثقلها الحزن..كلماتُ القهرِ التي تلقتَّها من تلكَ الحرباءِ ما زالتْ تحرقُ قلبها ترجَّلَ من دراجتِهِ واقتربَ منها، نظراتهِ تحملُ قلقًا عميقًا:

حبيبتي، مالِك؟ رحيل كويسة؟

هزّتْ رأسها عاجزةً عن الحديث، وكأنَّ غصّةً خانقةً احتجزتْ كلماتِها، اقتربَ منها واحتوى ذراعيها بحنان، ثم التفتَ إلى أخيهِ الأصغرِ قائلًا:

- معاذ، انزل هنشوفُ رحيل وهنرجعُ على طول..

تحرَّكَ للداخل، لكنَّ إيمانَ وقفت في طريقه، تحاولُ قمعَ حزنِها وكلماتِ رانيا القاسيةِ التي ما زالتْ تتردَّدُ في ذهنِها، همستْ بصوتٍ ضعيف، محاولةً منعَ دموعِها من الانهمار:

- حبيبي، هيَّ نايمة...تعالَ بكرة شوفها.

هزَّ رأسهِ بالرفض، ماضيًا بخطواتِه الواثقةِ نحوَ الداخل، هرولت إيمان لتوقفه، وذراعاها تطوِّقانهُ بحذر، لكن نظراته التقت بعيونِ رانيا التي وقفت أمامَ البابِ الرئيسي، تنتظر كأنَّها تتهيَّأُ لمعركة..

تقدَّمت رانيا بخطواتِها المتأنِّيةِ، وكلماتها مشبعةٌ بالسخرية:

-رايح فين يا حضرةِ الميكانيكي؟

توقَّفَ يزن، ومسحَ ذقنهِ وابتسمَ بسخريةٍ مريرة، ثم قالَ بصوتٍ هادئٍ يحملُ تهديدًا مبطَّنًا:

"بصي، اسمِك إيه ما اعرفش، أنا مش شايفِك أصلاً..امشي من قدامي علشان مش حابب أعملَ حاجة أندم عليها.

دفعها بلطفٍ جانبي لتتراجع، وكادت أن تختلَّ خطواتُها وتسقط، رسمَ ابتسامةً ساخرةً على شفتيهِ وهو يتمتم:

ما وقعتِكيش علشان أبويا علِّمني أحترم الكبار لكن لو ممشيتيش، هعلِّمِك إزاي السيراميك يلمع..

ارتفعَ صوتُ رانيا بغضبٍ:

إنتَ بتقول إيه يا متخلِّف؟!

استدارَ نحوها بخطوةٍ واثقةٍ، مما جعلها تتراجعُ بخوفٍ، ترفعُ يديها في محاولةٍ لتداركِ الموقف:

هخلِّي الأمن يرميك برا..

رفعَ إصبعَهِ مشيرًا إلى الصمت:

- صوتك..سكوتي مش ضعف بس احترام لسنِّك، مش لشخصِك..

وصلَ صوتُ العراكِ إلى أذنِ رحيل، التي غادرت غرفتها رغمَ ضعفِها..وقفت عندَ أعلى الدرج، ورأتْ إيلين تسألُ بقلق:

- إيه الصوت ده؟

تحرَّكت رحيل للأسفل، وإيلين تتبعُها…توقَّفت رحيل أمامَ الجميعِ، صوتها واهنًا لكنَّهُ يحملُ هيبةً واضحةً:

-إيه اللي بيحصل هنا؟..

التفتَ يزن نحوها فورًا، وعيناهُ تلمعانِ بشوقٍ جارف..دنا منها وكأنَّهُ يحاولُ أن يرسمَ وجهَها في ذاكرتهِ بلهفةٍ لم يستطع كبتها..كم اشتاقَ إلى صوتها الحنونِ، دنا منها بخطوات أخرى حتى توقف أمامها يرسمُ تفاصيلها بعينيه، وبلهيبِ الاشتياقِ الذي يضطرمُ في صدره، وجذبها إلى أحضانهِ بلهفة:

-عاملة إيه؟ وحشتيني، اخيرًا؟!

خرجت من بين ذراعيهِ ببطء، تطالعهُ بعينيها الحزينتينِ قبل أن تردَّ بصوتٍ هادئ:

-أنا كويسة... إنتَ كنت فين؟

أمسكَ كفَّيها برفق، وحاوطَ جسدها بيدهِ الأخرى، ثمَّ تحرَّكَ بها نحو الأريكة، متجاهلًا تمامًا صوتُ رانيا التي حاولت التدخُّلَ بنبرةٍ حانية..
جلسَ قبالتها على ركبتيه، يحتضنُ وجهها بين يديهِ وكأنَّهُ يخشى أن تفلتَ منه مرَّةً أخرى:

الحمدُ لله إنِّك قومتي وفوقتي، حبيبتي... محتاجة حاجة؟ أكلتي؟ أخلِّي إيمان تعملك حاجة؟..

هزَّت رأسها بنفي، وعيناها تلمعانِ بابتسامةٍ خفيفةٍ عندما رأت لهفتهِ الصادقة عليها:

- أنا كويسة، واللهِ مش جعانة لو جعان، أخلِّيهم يجهِّزوا لك أكل..

ابتسمَ ابتسامةً دافئة، يهزُّ رأسهِ نافيًا بلطف:

لو هتاكلي معايا، موافق بس على فكرة، أنا جعان جدًا..من إمبارح ما أكلتش..

قاطعتهم رانيا وهي تقتربُ منهما، قائلةً بحدِّة:

-روح كُل في بيتكم...ثم اقترب ورسمت القلق وهي تجلسُ بجانبِ راحيل:

خفت عليكِ جدًا والله، حتى سبت عمِّك في المستشفى، ورحت الشركة، حضرت الاجتماع، وجيت أطمِّن عليك..

مطَّ يزن شفتيهِ بسخرية، وقال بنبرةٍ تحملُ شيئًا من التحدِّي:

"معلش، هنضيف لك أجرك آخرِ الشهر."

هبَّت رانيا من مكانها، صائحةً بغضب:

"عجبك الكلام ده يا راحيل؟٠٠شوفتي جوزك الوقح بيقول إيه؟

نهضَ من مكانهِ وأشارَ بيدهِ إلى بابِ المنزلِ قائلاً ببرود:

"اتفضلي، ابعدي عن الوقح، وارجعي بيتك..
أنا لو كنت وقح، كنت ردِّيت عليكي..

توقَّفت رحيل بعدما اشتدَّ العراكَ بينهما، وكان كل ما حولها يتلاشى في ضبابِ الألم:

-خَلاص يا خالتو، أنا آسفَة.

التفتَ يزن إليها بنظرةٍ غاضبة، وتمتمَ بعتابٍ حزين:

- تعتذري ليه؟! أنا مَغلطش، أنا معرفشِ قالت إيه لإيمان، مُتأكِّد إنَّها قالت كلام يزعَّلها، بس إحنا ولاد أصول مالناش في الحربقة..

مسحَ على وجههِ ببطء، وكان يبدو وكأنَّهُ يحاولُ قهر غضبه، لكن كلَّ كلمةٍ تنطق بها شفتيهِ تحملُ ألمهِ العميق، ليقول بهدوءٍ مختنق:

-على العموم، أنا جاي أطمّن عليكِ، لو احتجتيني كلميني.

التمعت عينيها بالدموع، وهمست برقَّةٍ وحنين:

-أنت هتروح؟

شعرَ بما تشعرُ به، فاقتربَ منها بحنان، يحيطها بذراعيهِ الدافئتينِ وكأنَّهما حصنها الوحيد من كلِّ الأذى الذي يحيطُ بها، همسَ لها بلطافةٍ عميقة:

- إيمان امتحانها بعد يومين، تخلَّص امتحاناتها وأفوق لك إن شاء الله، المهمِّ إنتي لازم تفوقي بسرعة علشان تشوفي حياتك اللي وقفت، طول عمري شايفك قوية، عايز رحيل القوية عارف الفراق صعب، بس برضو الحياة ما بتوقفشِ، فهماني حبيبتي؟

رفرفت أهدابها بخجل، وكلماتُ يزن تُشعلُ في قلبها نيراناً من المشاعر المختلطةِ بين الحبِّ والضعف، هل هذا هو فعلاً؟ أم مجرَّد وسيلة لإبقائها قوية؟

قبلةً حانيةً على جبينها وهمسَ بخفوتٍ وعاطفةٍ عميقة:

مرات يزن السوهاجي لازم تكون قوية، علشان لسه عندنا لعبة حلوة هتعجبك.

دفنت رأسها بصدره، وكأنَّ كلَّ جزءٍ منها يحتاجُ إليه أكثر من أيِّ وقتٍ مضى،  همست بنبرةٍ مليئةٍ بالحاجة:

أنا محتاجاك أوي..

حاوطَ جسدها بكلِّ قوَّته، وكأنَّه يريدُ أن يحميها من كلِّ شيء حتى أنفسهم، وهمسَ بما في قلبه:

وأنا مش هبعد، إنتِ جوا القلب..قالها بعيونٍ تحملُ كلَّ المشاعر ِالمدفونةِ داخله.

حمحمت إيلين :

-راحيل، أنا هرجع بيتنا بقى بدل بقيتي كويسة.

تراجعت رحيل من تحت حنانِ ذراعيه، تهربُ من نظرات ِالجميع، بينما تحرَّكت رانيا للأعلى وهي تلعنُهم ... صمتَت للحظةِ وكأنَّها ستفقدُ السيطرةَ على كلِّ شيء. 
تمتمت بإجابةِ لإيلين بصوتٍ خافتٍ لكنَّهُ يحملُ ثقلاً من المشاعر:

براحتك حبيبتي، كنت هكون مبسوطة لو فضلتي معايا كمان كام يوم، بس طبعاًا آدم هيرفض.

بسيارةِ آدم: 
-أيوة يابابا، أنا رايح عند خالو، هعدِّي أجيب إيلين.. 
-متتأخروش ياآدم. 
-تمام ..قالها آدم وأغلقَ الهاتف، متَّجهًا إلى فيلا العامري..وصلَ بعد قليل، ولجَ لداخلِ الفيلا، قابلتهُ رانيا التي تحملُ حقيبتها. 
-عمِّتو، حضرتك رايحة فين؟.. أنا لسة كنت عند عمُّو راجح..
توقَّفت أمامهِ تشيرُ للداخلِ وتهتفُ بتذمُّر: 
-ادخل شوف بنتِ خالتك، جايبة لنا ناس دون المستوى غلطوا فيَّا، أنا انطردتِ من واحد ميكانيكي.. 
أشارَ بيديهِ لتهدئتها: 
-تمام اهدي ياخالتو، واعذري راحيل..
دفعتهُ وتحرَّكت للخارج.. 
-دافع عنها، أنا هعرَّفه مقامه الميكانيكي...ظلَّت نظراتهِ على تحرِّكها إلى أن استقلَّت سيارتها وغادرت المكان، دلفَ للداخلِ قابلتهُ إيلين: 
-كويس إنَّك وصلت، كنت لسة هكلِّمك، علشان توصَّلني لبيت رؤى.. 
لم يرد عليها وتحرَّكَ لجلوسِ راحيل:
-عاملة إيه ياراحيل؟..
أومأت قائلة: 
-الحمدُ للهِ أنا كويسة، طافَ بعينيهِ متسائلًا: 
-هيَّ خالتو رانيا زعلانة ليه، هوَّ يزن كان هنا ولَّا إيه؟.. 
توقَّفت رحيل  متَّجهةً إلى الدرجِ قائلة:
-آدم يزن جوزي، استدارت برأسها واستأنفت حديثها:
-مش هسمح لحدِّ يهينه، وبلاش حركات خالتو دي، وعرَّف خالو بكرة هيكون فيه اجتماع في الشركة لازم كلِّ واحد يعرف مكانته خلاص..
تنهَّدَ بتثاقلٍ يمسحُ على وجههِ بعنف، ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى إيلين: 
-ياله علشان عندي شغل. 
-هنروح فين؟.. 
-بيتنا..قالها وارتدى نظارتهِ ثم تحرَّكَ إلى السيارة، وصلَ بعد قليل، كان زين بانتظاره، توقَّفَ بعد دخولهم: 
تعالي ياإيلين نتكلِّم..اقتربت متسائلةً بلهفةٍ وعينيها تجولُ بالمكان: 
-فين مريم، فيه حاجة حصلت؟.. 
-كلُّهم كويسين، أنا كنت عايز أسألك عن الكلام اللي قولتيه في بيت خالتك، شوفتي فريدة فين، وإيه اللي خلاكي تقولي إنَّها هي؟..
-طنط فريدة بتكون أم الظابط المسؤول عن رؤى صاحبتي، قالتلي أنُّه كان مخطوف من والدته واتربى مع أبوه على أساس ابنه لحدِّ ما اكتشف من قريب أنُّه مش أبوه. 
-يعني إيه أنا مش فاهم حاجة؟.. 
جلست تقصُّ إلى زين كلَّ ما عرفته.

بغرفةِ ميرال جلست معتدلةً بعد خروجِ فريدة، تحيطُ رأسها بين راحتيها، ودموعها تنهمرُ بغزارةٍ كأنَّها تسبحُ في بحرٍ لا نهايةَ له من الألم..شعرت وكأنَّ الحياةَ تُحكِمُ قبضتها عليها، تقذفها في دوامةٍ لا تستطيعُ الهروبَ منها.

رفعت رأسها مستندةً على الفراش.. أغمضت عينيها والألم يئنُّ بداخلها، هل يمكن أن يزيحَ عنِّي هذا الثقل؟..لكن صدى كلماتِ إلياس اخترقَ سكونها،  حديثهِ الذي كالنارِ التي لم تهدأ، تحرقُ قلبها وتزيدُ أوجاعها.

فتحت عينيها المثقلتينِ بالوجع..

تطلَّعت حولها كأنَّها تبحثُ عن شيئٍ يمسكُ بيدها وينتشلها من لجَّةِ الألم..وقعت عيناها على صورتهِ المعلَّقةٍ على الكومودينو، ببطء بسطت كفَّيها المرتجفينِ وسحبت الصورة..تأمَّلت ملامحهِ بألم، ثمَّ مرَّرت أناملها المرتعشةِ على وجهه، وكأنَّها تبحثُ عن إجابةٍ..ما الذي يملكهُ ليجعلني أعشقهُ كلَّ هذا العشق؟!

انسابت دموعها من جديد، تحترقُ وجنتيها، و مشاهدُ لحظاتهم السعيدةِ تمرُّ أمامها كأشباحٍ ترفضُ الرحيل..أحبَّت رجلاً وشمت اسمهِ على قلبها، 
طافت عيناها بالمكانِ مرَّةً أخرى وكأنَّها تبحثُ عنه، ولكنَّها لم تشعر سوى بحياتها الباردةِ وكأنها محاصرةً بجبالٍ من الثلج، شهقاتها تعالت وهي تضمُّ صورته، وكأنَّها ملاذها وحصنها الآمن.. 

استمعت غادة لصوتِ شهقاتها هرعت إلى الغرفة بخوف، وما إن دخلت حتى شهقت لهولِ حالتها جلست بجوارها تحتضنها بحنان:

- ميرال مالك يا قلبي؟ اهدي، أنا هنا..

رفعت ميرال رأسها، والدموعُ لم تهدأ:

-ليه يا غادة؟ ليه بيحصل معايا كده؟ أنا عملت إيه؟!..ليه أتعاقب على ذنب ماليش يد فيه؟..كلِّ اللي طلبته حياة مليانة حب وأمان.

حبِّيت شخص وطلبت منه يحسِّسني إنِّي غالية عليه...مطلبتشِ كتير.

مسحت غادة دموعها، وصوتها يقطرُ حزنًا:

- اهدي يا ميرو، إلياس تحت من بدري، واللهِ تحت، هوَّ بيحبِّك وبيخاف عليكي..

شعرت ميرال بصدمةٍ عنيفةٍ تهزُّ كيانها،

تطلَّعت إلى غادة بعينينٍ تائهتين، وقلبًا ينزف:

تحت؟ يعني مهنشِ عليه يطلع يطَّمن عليَّا؟..طبعًا مش هيطلع...ابنه كويس، وأنا؟ أنا مجرد بنتِ الراجل اللي دمَّره، بنتِ راجح هيحبني؟ لا..يشفق عليَّا وبس، أو يمكن حتى دي كمان تلاقي مامته طلبتها منُّه..

قاطعتها غادة بحزم:

- ميرال ما تقوليش كده إلياس بيحبِّك..

ضحكت ميرال بسخرية، وكأنَّ الألمَ يتحدَّثُ بدلًا عنها:

بيحبِّني؟..صح، لازم يقرَّب منِّي علشان ابنه..يضحك عليَّا بكلمتين وأنا الغبية بجري وراه.

نظرت إلى غادة بعينينٍ يملؤها الانكسار:

أخوكي طول عمره بيدوس عليا، أنا فين من حياته يا غادة؟ أنا فين..
هوَّ قالها زمان، اتجوِّزني علشان ينتقم من فريدة لما فكَّرها عدوِّته، وقالها واحدة بتجري ورايا، ليه ماتمتَّعش.

احتضنتها غادة، تربتُ على كتفيها بحنانٍ وتمتمت بحزنٍ على حالتها:

-اهدي يا ميرو، الزعل وحش عليك، 

متنسيش إنِّك حامل..!!
حامل كلمة اخترقت أذنها ليبكي قلبها ألمًا، حتى شعرت بثقل أنفاسها 
-حامل..هزت غادة رأسها علها تهدأ من روعها ولكنها صرخت  بغضب:

-بس، كلِّ اللي يهمُّكم إنِّي حامل؟..أنا إنسانة حياتي ضاعت جوزي بيخاف على صورته قدَّام الناس وأنا؟ أنا فين؟ هفضل طول عمري بنتِ عدوُّهم..
متأكدة أنُّه عايز يرميني برَّة حياته، أيوة هوَّ عايز يرميني لولا ابنه اللي في بطني..قالتها وهي تعاني ألمًا يعتصرُ صدرها، لتئنَّ وجعًا، حتى شعرت بنيرانٍ تتسرَّبُ لضلوعها..
-ميرو حبيبتي متخليش الشيطان يكرَّهك جوزك..
-جوزي هوَّ فين جوزي ياغادة، اللي مش هاين عليه يطمِّن عليَّا.. توقفت غادة تمد يديها قائلة:
-إيه رأيك تعالي ننزلهم تحت، يمكن لمَّا يشوفك...قاطعتها وهي تدفعها بعيدًا:
-ابعدي عنِّي.. 

ركضت غادة إلى الطابقِ السفلي، واندفعت إلى غرفةِ مكتبِ إلياس الذي كان واقفًا بالشرفة، بينما فريدة تجلسُ تحتضنُ أرسلان صاحت غادة بغضب:

مراتك منهارة فوق، ازاي تسبها تعبانة وانت ولا على بالك حاجة، المفروض تساندها مش تعاقبها بالطريقة البشعة دي، كل اللي على لسانها انا بنت عدوهم

التفتَ إلياس يطالعها بحدَّة، من كلماتها، ولكنها سحبت نظرها إلى فريدة:

حمدالله على سلامة ابنك التاني يا ماما فريدة، لكن ميرال مالهاش ذنب..هيَّ مفكَّرة إنُّكم كارهينها.

تحرَّكَ إلياس بخطواتٍ سريعةٍ كمن يحملُ العالمَ فوق كتفيه، وصعدَ إلى غرفتها، دفعَ البابَ بقوة، وجدها تجلسُ 

بالشرفةِ تحتضنُ ركبتيها، تنظرُ إلى الأفقِ بشرود، ودموعها تنهمر بصمت...شعرت بوجوده، ولكنَّها لم تلتفت إليه، اقتربَ منها وتمتمُ بصوتٍ مبحوحٍ بالغضب:

-حمدَ الله على السلامة يامدام، ماإنتِ كويسة أهو، أومال ليه عاملة دوشة؟. 
قابلت كلامهِ بالصمتِ البارد ومازالت تنظرُ بشرود:
انحنى وحاوطَ مقعدها واقتربَ يهمسُ بجوارِ أذنها:
-راجح اتصل بيكي يهدِّدك، قوم إيه، المدام سابت جوزها نايم واستقلِّت بيه وراحت تعمل رئيسة عصابة وواخدة مسدس جوزها الميري، اللي اعتبرته مش راجل ومش قادر يحميها، وراحت تعمل بطلة.. 
مش دا اللي حصل يامدام، أنا قبلها بساعات طلبت منِّك إيه يابت، مش قولت لك متتحركيش خطوة من غير علمي، أتفاجئ بالحيوان دا بيهدِّدك، هوَّ أنا مش راجل علشان حضرتك تخافي منُّه وتجري زي المجنونة تودِّي نفسك وتودِّيني في داهية..للأسف النهاردة أثبتيلي فعلًا إنِّك بنت..صمتَ عن الحديث، وعينيهِ تضجُّ بكمِّ الاتهامات.. 
تلوَّت شفاهها بالألمِ فرفعت عينيها الممتلئتينِ بالدموع، وهمست بصوتٍ منكسر:

قولها بوضوح أنا بنتِ راجح علشان تبقى مرتاح، ماداريش، ماهيَّ دي الحقيقة.. 
حدَّقَ بها مذهولًا، يرسمُ وجهها الذي يُعتبرُ لوحةً من الألمِ والحزن..
-سكِّت ليه ياحضرةِ الظابط، ولَّا مكسوف مني؟..ومش عايز تقولها صريحة، توقَّفت أمامه، ورفعت رأسها بكبرياءٍ رغم الكسرةِ التي تضخَّمت داخلها وتمتمت بقوةٍ عكسَ ماتشعرُ به:
-إنتَ في الأوَّل كنت بتحاول تخفي كرهك ليا، جوازنا جه بالضغطِ علينا، حاولت تقنع نفسك بحبِّي وأنا اقتنعت، كنت بتزقِّ نفسك، وزي ماقولتها بنتِ بترمي نفسها عليَّا وبتحبِّني، يمكن زي ما قولت قبلِ كدا ماحاولتش تاخدني بذنبِ مدام فريدة لمَّا كانت عدوِّتك، بس دلوقتي للأسف هكون فعلًا عدوِّتك، كلِّ ماتشوفني قدَّامك هتفتكر اللي حصل، كلِّ ما تكتب اسمك هتكلِّم نفسك مين السبب في كدا، آسفة ياإلياس بس أنا مقدرشِ أعيش معاك وعيونك كلَّها اتهامات..أنا فكَّرت كويس، ابنك هيكون تحتِ أمرك، ولو عايز تاخده بعد ماأولده أنا موافقة، هتنازل عنُّه، علشان بس مكنشِ قدامك بنتِ الراجل اللي دمَّر حياتكم، هنسحب من حياة الكلّ..

التفتت إلى غادة وفريدة اللتان دلفتا للتو ومخالبُ الألمِ تحرقُ روحها، تشيرُ إليهما:
-حتى أنتوا انسوني، أنا مش عايزة أكون عبء على حد..
قالتها واستدارت متَّجهةً إلى غرفةِ ملابسها، فأوقفتها فريدة بفزع: 
-إنتِ بتقولي إيه ياحبيبتي، مش حقيقي اللي بتقوليه دا..
-إيه هوَّ اللي مش حقيقي ياماما، إنِّي بنتِ راجح، ولا إنُّكم بتحاولوا تنسوا إنِّي بنته، في كلتا الحالتين أنا بنتِ راجح، أنا اللي ادمَّرت، وأنا اللي موجوع .. 
أغمضَ عينيهِ يحاولُ إسكاتَ ذلك الجنون الذي تخلقهُ الشياطينُ داخله، ليستديرَ إليها بحدَّة:
-إنتِ بتعملي كدا علشان معاقبيش على اللي عملتيه، لا فوقي يابنتِ راجح.. 
استدارت إليهِ سريعًا، وابتسامةٌ حزينةٌ مؤلمةٌ حتى شعرت وكأنَّها خناجر قائلة:
-بالظبط ياحضرةِ الظابط، دي الحقيقة الوحيدة اللي بتحاول تبعد عنها..خليك دايمًا فاكرها ياالياس، انا بنت راجح اللي دمر حياتكم

ربتت فريدة على ظهرها:
-حبيبتي هو ميقصدش.
نظرت إليهِ ميرال بعيونٍ مكسورةٍ وأعلنت:
-لا يقصد ياماما، مش عارفة حتى كلمة ماما اللي بقولها بحسَّها مش من حقِّي.. 
قالتها بدموعٍ تنسابُ بقوَّة، لتستديرَ سريعًا للداخل، هروبًا من قدرٍ حكمَ عليها بالألمِ والضياع. 

-استني عندك يامحترمة ولمَّا أكلِّمك توقفي..اقتربَ منها حتى توقَّفَ أمامها:

-لو خرجتي من البيت دا اعتبري آخر حياتنا..شهقت فريدة بخفوتٍ مقتربةً منهما:
-إلياس إيه اللي بتقوله دا؟.. 
-لو سمحتي ياغادة خدي ماما واطلعوا برَّة..تخبَّطت فريدة بقلقٍ تهزُّ رأسها بالرفض:
-حبيبي اهدى، شيطان ودخل بينكم. 
-مدام فريدة هو إنتِ مكنتيش فرحانة من شوية برجوع ابنك، ماتنزلي تشوفيه. 
-إلياس حبيبي..استدارَ يواليها ظهرهِ وتمتمَ بحدة:
-عايز أتكلِّم مع مراتي على انفراد، ولَّا لازم أقول حاجة تانية.. 
أمسكت غادة كفَّ فريدة وأردفت:
-تعالي ياماما سبيهم لوحدهم يمكن يتصالحوا..كانت تنظرُ إلى ابنها بصمت، علَّهُ يرأفُ بحالةِ ميرال ولكنَّهُ ابتعدَ بخطواتهِ وهو يجذبُ سجائرهِ متَّجهًا إلى الشرفة، وكأنّّهُ لم يقل شيئًا: 

خرجت فريدة وبقيت ميرال التي مازالت متوقِّفةً تتطلَّعُ بنقطةٍ وهمية، استدارَ بعد إغلاقِ الباب، ثمَّ وصلَ إلى وقوفها: 
-عايزة تبعدي صح، لا لا مش تبعدي بس، لا عايزة تتنازلي عن الولد..قالها وعينيهِ كفوهةٍ بركانيةٍ تريدُ إحراقها.. 
سُرقت الحروف من بين شفتيها عندما اقتربَ منها وأطبقَ على ذراعيها بقوةٍ آلمتها:
-وصلت بيكي البجاحة تتنازلي عن ابنك، لا وكمان بتقولي يمكن يموت، وصلت بيكي البجاحة إنِّك تقولي محدش له دعوة بيا..
كادت تصرخُ من الألم، ولكن ليس ألمُ أصابعهِ التي تتخلَّلُ جسدها، ولكن ألمَ روحها الذي جعلَ قلبها متحجرًا بأنينٍ مكتوم، رفعت عينيها الممتلئتينِ بوجعِ العالم كلِّهِ وهمست بتقطُّع: 
-مش عايزاه، خده، في سبيل حريِّتي منَّك، عايز أكتر من كدا إيه؟.. 
تراجعَ بجسدهِ للخلف، بعدما ألقت قسوةَ كلماتها مرَّةً أخرى ليتيقنَ أنَّها لم تبقَ عليه، رفع عينيهِ الممتلئتينِ بالغضبِ منها ومن نفسه: 
-مش عايز أشوف وشِّك في البيت دا، قدَّامك نصِّ ساعة بالظبط، هستنى من بنت واحد حقير ايه، قالها وغادرَ الغرفةَ بخطواتٍ مليئةٍ بالغضب، وكأنَّهُ
يتحرَّكُ فوق تلالٍ من البراكينِ التي أوشكَ على الانفجار..بينما هي دلفت للداخل لتقوم بتبديل ثيابها، وامسكت قلم ودونت بداخل ورقة بتنازلها عن جميع مالها من ممتلكات تدون باسمها، رفعت عيناها تتجول بالغرفة، تجمع كم ذكرياتها،  ثم حملت أوراقها فقط وغادرت المنزل وهي تحمل الآم ثقيلة كثقل الجبال ..قابلتها فريدة على الدرج 
-ميرال متعمليش كدا حبيبتي 
قبلة حنونة بمعاني كثيرة على وجنة فريدة
-دا الصح ياماما فريدة صدقيني، حضرتك تستاهلي تعيشي مع ولادك، وانا كمان استاهل ابعد عن الاتهامات 
-مين ياحبيبتي اتهمك 
-دمي ياماما، دم راجح بيجري في عروقي، مش عايزة حاجة توجع لو سمحتي، كدا احسن، ومتخافيش على إلياس هينسى مع الوقت، وجوزيه رؤى، هي جميلة وتستاهله، وهو كمان يستاهل يعيش حياة كويسة، مش من حقه يعيش مع بنت اكبر عدو له 
قالتها وتحركت تحبس دموعها تحت اهدابها، وكأن القدر استكتر حياتها مع حبيب قلبها، جلست فريدة على الدرج تتابع تحركها بقلب ينتفض ألمًا، وصلت إلى الحديقة تنظر إلى سيارتها ولكنها تحركت إلى الخارج دونها، تابعت الأمن بعيناها، رغم إصرارها ولكنها تمنت أن يمنوعها من الخروج كعادته، ولكن خيب ظنها لتخرج خارج الفيلا وتوقف سيارة تنقلها إلى مصير مجهول


تعليقات



×