رواية آصرة العزايزة الفصل الرابع والعشرون بقلم نهال مصطفي
أبدًا لم أكن أبحث عن شخص يشبهني ..
لم أحتمل نفسي حتى أرغب بنسخة مماثلة منّي، كنتُ أبحث عن شخص أجد فيه ما ينقصني شخصٌ يسد الثقوب التي أحملها ويملأُ الأجزاء الفارغة منّي، شخصٌ أرمّمُ جدرانه وأتقمّص أفكاره واختلس كلماته التي أغرقتني بنهر حُبه ، أكون فيه كما هو فيّ، شخص تتلاشى بيننا كلمتي أنا و أنت ..
روح واحدة في جسدين مختلفين ..
••••••••••
لطمت نجاة على وجهها وهي تترجاه :
-رؤوف بطل چنان ، أنا مش عاوزة اتچوزك ولا نيلة ، سيبني سيبني أربي ولدي من غير مشاكل .. أنا مش حِمل إنه يبعد عني ..
أمسك بمعصمها وهو يجذبها نحوه حاسمًا أمره بخصوصهم :
-نچاة خُلصت .. أنا مش هتچوز غيرك ولو السما انطبقت على الأرض ….
باغته طلق عيار ناري مر بجوارهم وصوت يصرخ من أعلى ويقول مذعورًا :
-عاوز أيه من مراة أخوي يا حضرة الظابط..
وقف رؤوف أمامهـا مدافعًا عنها بهيبته القوية وهو يوبخه :
-أنتَ عارف عقوبة اللي يضرب نار على ظابط ايه ولا افكرك !!
عانده” صديق ” بعنفوان :
-ظابط في وِحدتك عدم اللامؤاخذة ، لكن الدار إهنه له قواعد انا اللي عحكم فيها ..
تمالك رؤوف أعصابه ، فتدخلت نجاة لتُلطف الأمر :
-خلاص يا صديق ، رؤوف مش قصده وهو ماشي دِلوق !! مش إكده !!
مد رؤوف ذراعه أمامها ليُرجعها للوراء ووقف بوجهه قائلًا :
-ما تيچي نحلوها ودي !! البلد كلها خابرة إني رايد نجاة وچيه الدور عليك ، قبل ما أعاود هكتب عليها وأخدها هي وولدها يعيشوا معاي ..
-باه باه باه !!
تكدست النيران بعينه وهو يحملق بنجاة التي تندب على وجهها ليقول:
-دانتَ عفي على إكده وطايح في الكُل لا هامك عرف ولا كبير !!
ثم صرخ بوجهه :
-وطالما هي رايدة چواز ، مقالتش ليه كنت كتبت عليها ..
أفحمه رؤوف :
-هي رايدني وبس ، مش رايدة چواز .. ومهما كان رأيك ورأي أعرافك محدش هيأخدها مني..
عمت نظرات المكر بعيني صديق وهو يتلصص النظر لها :
-وأنتِ أيه رأيك يا عروسة !!
كل ما بها كان برتعش لتناظر رؤوف معتذرة وهي تعصر على قلبهـا :
-لاه مش عاوزة حاچـة لا رايداك ولا رايداه ولا عاوزة اتچوز ، وهو چيه إهنه وأنا سمعته رأيي ..
ثم شدت أوزار قوتها وصرخت بوجه سلفها:
-وفضونا من السيرة دي عاد .. أنا حياتي كُلها لولدي وبس .. أنا مش هكرر الغلط مرتين واتچوز راجل مش حابه ..
ثم نظرت لرؤوف بأعين يفيض منها البكاء:
-ولا هخش معاك في حرب تمنها ولدي ..
لتودعه بعينيها وتحاوره صمتًا آنتَ الوحيد الذي أحببتك عندما كان الحُب في عيني عدم .. وأنت الوحيد الذي رفضته وحبه بقلبي يرفرف كالعلم .. ثم استقلت سيارتها حاملة قفة حزنها وقلبها الذي يتقطر دمًا وهربت من حربهما التي لا تجلب لها إلا الخسائر …
حك صديق ذقنه بتوعد ليقول سرًا :
-أما فرچتك يا نچاة !!
••••••••••
-هيثـم أنا جاهزة ، هنروح فيـن بقا ؟!
خرجت ليلة من غرفتها وهي ترتدي بذلتها الشتوية المصبوغة باللون الأحمر القاتم وتحته سترة شتوية باللون الأبيض وكوتشي بنفس اللون ، الكاميرا مُعلقة برقبتهـا وأخذت تتفقد السماء الملبدة بالغيـوم فوقهم ، أطلق هيثم صفارتـه الانبهارية وهو يقول :
-مش معقول هتطيري عقول إكده يا ليلة !!
تأرجحت عينيها بعبث :
-يعني أيه ؟!
دنى منهـا وهو يغازلها بنظرات بريئة ويقول :
-كل ما تدخلي الأوضة دي تطلعي أحلى !! ألا قوليلي السر في الأوضة و أنتوا الچمال ديه عندِكم وراثـة ولا أنتي كوشتي عليه كله وخدتيه لنفسك !!
شرعت أن تسير بمحاذاته بالحديقة متجهيـن للبوابـة الخاصة بالبيـت وهي تقول :
-مش عارفة بس جدو وبابي كانوا حلوين أوي .. بابي كان شبه حسين فهمي كده ، بس يا خسارة عينيا مش ملونة زيه .. أخدت عينين مامي..
-ماهي مش بالعيـون يا ليلة .. بالروح ..
وضعت كفوفها فوق الكاميرا المعلقة وأكملت سيرها بخطوات أسرع وهي تمازحه :
-بكاش موت ، عكس أخوك العمدة .. ما بيعرفش يقول كلمتين حلوين !! أبقى علمه شوية .
حك شعر رأسه مفتعل الإحراج وهو يمس لها:
-هارون أخوي يعرف الجن الأزرق متاوي عياله فين ؛ لكن عند الحريم ويعطل .. فقري ما يعرفش أنهم نعمة واللي يكرههم يعمى ..
-لا أنتَ كارثة بجد ..
كان الضحك يكسو خُطاهم ولم يخلٌ الحوار من طرفات هيثم اللطيفة حتى لفت نظرها وقوف شاحنات كبيرة بدهليز البيـت ، وكالعادة سبقها فضولها متسائلًا :
-أيه العربيات الكبيرة دي !!
أخرج هيثم ريموت سيارته وهو يفتحها بضغطة واحدة على الزر ويقول :
-ديه تموين أول الشهر ..
وقفت تراقب حركة العمالة وكل منهم يرص الصناديق بالعربة :
-مش فاهمة يعني أيه ؟!
اقترب الاثنان من السيارة وهو يقول :
-شوفي يا ليلة ، مفيش بيت في العزايزة ينفع تكون تلاچة بيته فاضيـة ، إحنا إهنـه شُرفة ومعندناش طبقة فقيرة وطبقة متوسطة .. كلنا أشراف في مستوى واحد .. والعربيات دي مساعدات أساسية من المچلس هو متكفل بيها حتى ولو مش محتاجين لازمًا خزين الشهر يوصلهم مش ناقص غلاية رُز ….
استقلت سيارته وهي تحت تأثير دهشتها :
-لحظة بس ، يعني الحاجات دي بتتوزع كده ببلاش !! بس دي ميزانية جامدة ازاي !!
-ده العُرف !! العزايزة دولة چوة الدولـة ..
دور هيثـم سيارته متأهبًا للمغادرة تحت عيني هارون التي تركت براح البيت حوله واستقرت نحوهم وهو يراقبهم بملامح يفيض من الغضب الغير مبرر بل الأدق غيرة لا يسمح قلبه المغرور الاعتراف بهـا .. ما حرك هيثم سيارته ومر من أمام هارون فأجبر أن يوقف السيارة قليلًا احترامًا لأخيه وهو يفتح النافذة ويسأله :
-محتاچ حاچة يا عُمدة !!
لم يتكفل بنزع النظارة الشمسية عن عينيه كي لا يفضح دواخله ، كي لا يكشف عن عينيه اللاتي لا تُبصر سواها ، مازال محافظًا على معالم وجهه الثابتـة وهو يسأله بجدية :
-على فين ؟!
-مش عارف ، أهو مطرح ما رچلينا هتودينا !!
بوجه مستبد و طاغ وقلب هش كحلوى القطن ؛ كتم غيظه بداخله وقال بحدة :
-ما أنت لو مش محدد هتروح على فين يبقى بلاها طلوع ، ولا هي سرمحة وخلاص !!
زفرت ليلة بضيق من سطو أوامره وتحكماته التي لا تنتهي أبدًا .. وعقدت ذراعيها أمام صدرها مستندة على الباب وهي تتحاشى النظر له تمامًا مما آثار غضبه أكتر ، أخرج هيثم رأسه من النافذة وهو يغمـز له بطرف عينيه بألا يخجله أمامها وهو يقول:
-وسع صدرك هبابة يا عُمدة .. ليلة چواة عيني متعتلش هّم !!
رد بجمود ونظرته لم تتزحزح من عليهـا رغم تجاهلها التام لوجوده وهي تلهي نفسه بمشاهدة الرجال أمامها ، فهو لم يشغله خوفه عليها بقدر ما يفحمه تجاهلها له وتعمدها بألا تلتفت لوقوفه ، فقال بحزم وهو يشير بكفه :
-ساعة وتعاود ، ومش عاوز لف ومسخرة كاتير يا هيثم !!
أومئ رأسه بطاعة مسايسًا أمره معه وهو يعيد تشغيل سيارته كي ينجو من شظايا لهب أخيه المنبعثة نحوه :
-وأقل من ساعة ، هتزور الطريق وتعاود .
أشاح بغرور وهو يقول :
-وقولها تفرد بوزها ديه عالصُبح ، مش ناقصين فقـر .
دار هيثم إليهـا حاملًا رسالتـه ليُبلغها :
-عيقـولك مش ناقصين فقر وأفردي بوزك !!
اعتدلت في جلستها وهي تطل على هيثم لتقول بغضب :
-أيه العلاقة وبعدين هو ماله بيـا !!
حمل هيثـم جملتها الاعتراضية بمنتهى البساطة ليشعل النيران بينهم ليتأكد من شكوكه حوله أخيه :
-عتقولك مالكش دعوة بيهـا !!
سحب نفسًا طويلًا وهو يكز على فكيه ليصرخ مفجرًا طاقة غضبه المبهمة بأحد العمال :
-ما تشـد حيلك يا وِلد !!
أصاب الخوف قلبها إثر صوته المُرعد لتحث هيثم على الهروب بعجلة:
-هيثم أهرب قبل ما ياكلنا ….
الحُب ببدايته يكون كالطفل في مهده يبتدئ علاقتـه معك بالحبـو بدلًا من ثباتك بمكان والعالم يدور من حولك ، أن تحبـو في دروبه تتفقدها بفضول لا تعلم من أي جهة تسرب إليك وتدور أنت حول العالم ؛ عالمك الصغير الذي أعجبك ، ثم يعلمك المشي فـ الجري لتلحق الخُطى وتواكب سير العمر حوله .. ثم يسيطر على عقلك ويجعلك تتصرف كالصبيان ترسم وجه من أحببت بالطبشور على الحيطان وتدون اسمه على زجاج العربات المغبرة ، ثم ينتقل بك الحال لشاب يافع استبدل الطبشور بفرشاة ولوحات ، بقلم ومواويـل .. وتدرك حينها أن هناك أمرأةً قلبت تاريخك رأسًا على عقب وبتُ مذبوحًا فيها من الشِريانِ إلى الشِريان ..
ومن هنا جاءت لعنة الحُب لتُصيب قلبك وتغير مجرى حياتك يا أحمق .
عاتب هارون نفسه على اهتمامه المبالغ بها ، ولِمَ بات يطوف حولها كدبور عنيد يود لدغها بكلماته الجافة .. لِمَ بات لقاءها هدايـا وعينيها يتوه ، يتحول لصبي مراهق لم يعش فترة طيشه وهو بالسابعة عشر من عمرها ؛ لم يجد حلًا لاسئلة عقله المتراكمة والخالية من الأجوبة ليلجأ لحلـه السريع و ملاذه الوحيد في تفريغ طاقات غضبـه وهي لفافة التبغ التي لم تزور فمه لمدة ثلاثين عامًا ؛ فما حل عليه آخر خمسة أعوام يا ترى !! هل لكثرة ما فقده أم كثرة ما امتلئ بهِ !!
رج رأسه المتزاحم بالفكر وهو يعاتب نفسـه :
-ما خلاص يا هارون وشوف مصالحك عاد..
~بغرفة صفية .
رمت العباءة السوداء على كتفي زوجها المستند على عكازه وهي تبُخ سُمها بآذانه كعادتها وأخذت تواصل جولة ثرثرتها :
-لازمًا تشوف لك صِرفـة يا حچ الـچوازة دي قلبي مش راضي عنِها ، ولا البت نازلالي من زور .. كفاية فضايحها ..
ثم آتت بزجاجة المسك لتُعطر زوجها وأكملت مهددة بأسلوبها الكهين الذي يخالطه الترجي :
-البت دي لو قعدت على ذمة ولدي ليلة كمان أنا ههمل الدار وأروح لأخوي أقعد عنده وياني يا هي في الدار يا عمدة ..
كان يستمع لثرثرتها بهدوء لا يقطعه أي اعتراض وكإنه لم يستمع لحديثها من الأصل ؛ لأن رأسه غائصة في بحور الفكر التي لا تنقصها أبدًا ..
جلى حلقه وهو يطالع هيئته الشامخة بالمـرآة متذكرًا أكذوبة الطبيبة التي أوهمته بموت الفتاة التي يفتش عنها والتي لم يمر كذبها مرور الكرام على دهاء وفطنة رجل بعمره .. لقد صعبت عليه المهمة أكثر من قبل ، ألتفت لباقي ثرثرة صفيـة التي تمسح برفق على كتفه وتقول بفرحة :
-هاخد البت زينـة وأمها وأبوها ونشوفوا شبكة هارون ، خلي الفرح يخش بيتنا يا حچ ، بزيادانا ميآتم !! يبقى ولا بت ولا واد !! ديه أيه الخلفة اللي تُغُم دي!!
ما صبرت بأن تسمع رد فأعقبت مغيرة الحديث :
-والبت المصراوية بتاعت هيثم دي ، قعدتها طولت ؛ خليها تعاود بلدهم الناس تقول علينا أيه ؟!
عاتبها خليفة بنفاذ صبر بأسلوبه اللطيف:
-أنتَ فطرانة أيه على صُبح ربنا للرأس العمرانة دي كُلها يا صفية !!
هبت بوجهه مدافعة عن نفسها:
-حرمان يا حچ ما دوقته !! وأجيب نفس منين بس!!
لملم خليفـة شتات فكره من أمام صفية كي لا تزيد سوء الأمر عليه وغادر الغرفة متجهـًا نحو غُرفة هلال الذي جهر مناديًا بقوته المعهودة وهو يطرق الباب بمؤخرة عكازه :
-هلال !!! يـا هلال ..
تراقص قلب صفية فرحًا وهي تراقبه من باب غُرفتـها وتشكر ربها بأنها ستتخلص من هذه الغُمة الليلـة ..
توقف هلال عن ارتداء قبعة رأسه ليلقي نظرة مؤسفة على تلك التي تتنفض تحت فراشها وفتح الباب مُرحبًا بأبيه وهو يخرج له ويوارب البـاب خلفه :
-خير عليـك يا أبوي ..!
سأله بحدة :
-أومال فين مرتك !!
أطرق وجهه بالأرض وهو يقول :
-نايمـة يا حچ ، تحب أصحيها ؟
ربت الأب على كتفه وهو يتأمل ملامح وجه ابنـه بمهارة باحثًا على جواب لأسئلته ، اكتفي بقوله :
-اللي حُصل في المچلس لساتني مالومتكش عليه .. بس مش وقته ؛ خليك چار مرتك لغاية ما تعدي محنتها وبعدين هنشوفوا ..
اختصر الحديث مع والده وهو يتقبـله بسعة رحب :
-اللي تؤمر بيه يا أبوي ..
هز رأسه بحكمة :
-تصحى مرتك ونزلها تاخد بحس أحلام ، بلاش تقعد لروحها بين أربع حيطـان ..
حلت النازلة على قلب صفية التي خاب أملها وهي تدب على صدرها بحزن :
-ديه ناوي يچلطني هو وعياله !! عملت أيه أنا بس لي حياتي يا ربي عشان يچرالي ديه كله !!
ثم لوحت بكفها متوعدة :
-وديني يا رقية ما طفشتك من إهنه مبقاش اسمي صفيـة …
عاد هلال لغُرفتـه و رد بابها بهدوء ، خطى خطوتين نحو تلك المنتفضة تحت فراشها ولكنه تراجع ، تردد ، ثم عاد لها مرة آخرى مناديًا :
-رقيـة …
لم تُجبه اكتفت بغلق عيونها المتورمة وشد اللحاف فوقها ، استغفر الله في سره وتقبل الأمر بسعة صدر، أمسك بمصحفه وحرك الحامل المعدني نحو أقرب مقعد لتختها وشرع في تلاوة سورة ” الدخان ” بصوته العذب الذي يحرك كل ساكن .. ما سمعت أول آيتين بصوت أصابتها رهبة وعظمة القرآن الذي أجبرها بدون نقاش أن تكُف عن البكاء مستمتعة بدرجة الخشوع والإيمان الذي يقرأ بها .. ما قرأ عليها عشرة آيات فأجبرت أن تعتدل من نومتها احترامًا لما يتلوه ، ازاحت اللحاف عن وجهها ونظرت له بأعين ذابـلة يحرقها الحزن لترمقه باستغراب حول نوع السكينة التي سربها صوته لقلبها فلقد كان بريق صوته قاربًا صغيرًا يحمِلها إلى برِّ الأمان والإيمان خيرها وشرها .. شبح ابتسامة طفيفة شقت محياه لأنه عثر على طرف الخيط الذي يوصلـه لقلبـها وأكمل قرآته بصوته الذي نال العديد من الجوائز والشهادات من الأزهر الشريف ….
“يكفي من الحُب بأنني كُلما نَظرتُ إلِيك شَعرتُ بِأنّ قَلبِي بردًا وسلامًا وهو في جُب النيران ”
•••••••••••
وصلت ليلـة مع هيثـم لساحة واسعـة من الأراضي المزروعة ، مهما امتد النظر فلم تحصد نهايتها ، هبطت مش السيارة وقفلت بابها برفق لتتساءل :
-إحنا جينا هنا ليه !!
تفقد هيثم المكان حولهم وهو يدخل كفوف بجيوب جاكته الشتوي ليقول :
-دي چنة العزايزة ، الزرع إهنه عيطلع أحسن من أيتها حتة تانية ، هتبصي في كل حتة تلاقي خُضرة وزرع وو
ثم دار نحو اليسار ليشاور لها على البناء الضخم :
-اللي هِناك ديـه مرعى العزايزة فيه أكتر من خمستلاف راس وطيور على عچب عينك ..
ثم أشار الجهة الآخرى :
-ودي چنينة هتاكلي منيها أحلى فواكه ..
ثم دار للخلف و تلعثمت الكلمات بفمه وهو يلاحظ الفتاة التي تُثير فضوله تهبط من سيارتها النصف نقل ليقول بشرود :
-ودي حور عين چنة العزايزة وو ..
التفتت ليلة نحو ما يشير متعجبة عما سيقصده حتى اندفع قائلًا :
-ليـلة .. ليلة أيه رأيك في چوز العينين اللي بيغرد هناك ديـه !
مال هيثم على مسامع ليـلة بتخابث وهو يتهامس لها مشيرًا نحو الفتـاة التي تقف بمنتصف الغيط ، تشـد الوشاح على أنفها وتصرخ بالعمالة وتآمرهم بالعجـلة ، امتدت أنظار ليلة لعندها لتُراقب فتاة يحاوطها الزرع من كُل جهـة ، ذات صوت جميل ولكنه حاد الطباع ، تجمهر بقوة عشـرة رجال لتوقد العشرات من العمالة بأرضها .. ترتدي فستانًا طويلًا مريجًا باللونين الأحمر والأسود ، اتكأت على مقدمة السيارة الخاصة بهيثم مبنهرة :
-واو !! دي حبيبتك يعني ؟! أحكي لي ..
مسح هيثم على صدره متنهدًا وهائمًا في بحر خُطاها :
-اسمها چميلة بت الخواجة مهندسة زراعة ، من النسل المطرف للعزايزة ، هي من فرع عيلة أحلام والوحيدين اللي عينيهم ملونين في العزايزة ..
انجذبت ليـلة لحديثه عنها وقالت :
-طيب ما حلو ده !! باين إنك معجب بيها .. ما تتقدملها ؟ بس لحظة لحظة يعني ايه نسل مطرف !!
-اسألي عليها أحلام دي !! هتحكي لك كل حاچة و..
ثم دار نحو ليلة ليقف الجهة الأخرى وهو يطالع خط سير جميلته السرية ويقول بقهر :
-معششة في مخي ليها فترة بس ملهاش دخلة بت الـخواجة ، أمها وأبوها ميتين وعايشة مع جدتها بتراعي أخواتها صغيرين وبت كيف القطر ملهاش كبير ياليلة ..
جاءت ليلة مقترحة :
-طب هيحصل أيه لو روحت كلمتها !! جربت ؟
حانت منه نظرة متحسرة وهو يسمعها تصرخ بالشاب العامل ويقول بحسرة :
-طب بذمتك دي كيف دخلتها !! خايف أمسي عليها تدوسني ..
انفجرت ليلة ضاحكة بأعين دامعة من شـدة الضحك :
-لك حق تخاف !! عارف دي عايزة مين بجد .. دي عايزة واحد زي العمدة هارون ده .. جامد وشديد ..
أسبل عينيـه معاتبًا :
-أيه تخبيط الحِلل دهوت يا ليلة !! لعلمك محسوبك مش سهلة بردو ، ده هارون ديه يتعلم مني وعشان الكلمتين دولت ؛ اتفرچي على الدخَلة دي …
انفرجت عيني ليلة لتوقفه صارخة عندما لاحظت سيارة هارون تقترب منهما ، فلحقته :
-هيثم هيثم .. هولاكو جيه ؛ قصدي هارون العمدة أخوك جاي علينا ..
تراجع هيثم عن فعله وهو يرمق جميلة التي تصرخ بصوتها الذي يردده الجبال ليحك رأسه قائلًا :
-وشكل چميلة كمان مش فاضية ، أبقى نفوتوا عليها وقت تاني …
غرق الاثنان بالضحك حتى هبط هارون من سيارته متواريًا خلف نظارته السوداء متعجبًا من تواجدهم بزيف :
-أنتوا إهنه !!
دارت ليلة ظهرها عنه وأخذت تلتقط الكثير من الصور العشوائية متجاهلة تواجده بالمكان وصوته الذي يرن بقلبها وليس بمسامعها ، فسأله هيثم :
-عرفت كييف مكاننـا !!
تفقد هارون المكان بغرور كي يشتت انتباهه عنها وينكر إخباره بواسطة أحد العمالة :
-وأنا هعرف منين !! چاي أشوف الأرض وو
وشوش له هيثم :
-چميلة بت الخواچة عمالة قلبان ، سامع صوتها !!
أشاد هارون مُعجبًا بشخصها :
-بت چدعـة وهي اللي ماسكة المشتـل چوة وعاملة شغل تقيـل وو
لكزه هيثم :
-هِرن أنا محتاچ واحدة زيها في حياتي ، كلام في سرك أصل أحلام كسلت تربيني معاكم .. وواضح أنها عاچبك ، ما تخطبهالي .
دار ليلة التي تزرع آذانها بينهما لتقول:
-هيثم !! أنت ملاحظ بتقول أيه !! عاجباه هو ويخطبهالك أنت ليه !! أنتوا بتعبدوا أيه ؟
زفر هارون بضيق :
-عاچبك إكده سمعتنا كلمتين ملهمش لازمة !!
فتدخل هيثم بينهما :
-اصل ذوقي أنا وهِرن واحد .
عارضته بتمرد :
-لا مش واحد !! يعني مثلًا أنا وأنت أهو صُحاب ..-ثم أرسلت له نظرة مؤسفة- وأنا وهو معرفناش نكون صُحاب .. يبقى ذوقكم مش واحد ..
ثم رسمت ابتسـامة خفيفة على ثغرها الرقيق متعمدة إثارة غضبها وتقول :
-تحب أبشرك أنها هتكون من نصيبك ..!!
تحمس لجملتها قائلًا :
-أيه مخاوية وهما اللي قالولك !!
اندست الضحك بجوف هارون الذي حفظها جيدًا وهو يطوف بعينيه في الفضاء الفسيح ليقول ساخرًا وهو يولي وجهه عنهم :
-هتخبطك واحدة أصل الأسطورة بتقول هتچيب أجلك ..
زفرت بضيق وهي تلوح بكفها :
-سيبك منه بس وخليك معايا ..
رغم أنه كان واقفًا مصدرًا ظهره لهما إلا أن مسامعه كانت تتجسس على كل كلمـة تقولها ، فأتبعت بحماس :
-في أسطورة بتقول أن الأسماء المشتركة في حرفين أو أكتر هيكونوا لبعض .. يعني أنت هيثم وهي جميلة .. الميـم واليـاء من أقوى الحروف في علم الفراعنة المُصنفة للحُب والعلاقات .. ولو تلات حروف هيبقى مابينهم حب أفلاطوني الدنيا كلها تتحاكى عنه ..
ألتوى ثغر هارون جنبًا بضحكة ليست ساخرة ولكنه وجود متاعه بحديثها الشيق ، فكر هيثم بالأمر وهو يزن الأمر برأسـه :
-اه يعني أنتِ ليلة وأنا هيثم ، كده مفيش غير حرف بس مشترك ، يبقى ما ينفعش .. طب لو مشتركين في حرف واحد يبقى إعجاب بس !!
هتفت بفرحة :
-الله ياهيثم بقيت تقول أساطير زيي !! دماغك حلوة ..
راقت له الفكرة وهو يقول :
-استنى نچرب تاني عندك مثلا هارون وليلة !! ده ولا حرف يبقى طربقت على الأخير وأهي مطربقة من غير حاچة !! و وخليفة وصفية !! بس أحلام وخليفة ؟! ده حرف بس !! معقولة الحچ خليفة يكون معجب بس بـ أحلام وعيشتغلنا ..
-لا يا ناصح حرف الخاء من فصيلة حرف الحاء .. كلهم في مجموعة واحدة !!
زفر هارون بسخرية وهو يدور لهم مانعًا إظهار ضحكته التي تلمع بعينيه :
-العقل زينة بردك !!
انكمشت ملامحها وقالت منسحبة كي لا تغوص معه بأي شجار وهو تطالع رقم أمها يملأ الشاشة :
-هيثم ، هرد على مامي …
هتف هيثم فارحًا :
-سلامي وقُبلاتي للست الوالدة اللي چابت الچمال ده كله وو
ألجمه هارون بنظرة حادة أخرسته ثم رد على هاتفه هو الآخر وهو يوزع أنظاره هنا وهناك لترسـو عليها بالآخير ، ثم جهر قائلًا :
-تمـام هبعتلك هيثـم دِلوق يراچع الحسابات ومشوره كيف ما تحب ..
تدخل هيثم معارضًا :
-هتبعتني فين !
-تطلع دِلوق على المهندس خالد وتراجع الحسابات وقبض الموظفين في المصنع ..
-طب أروح ليلة وأروح ..
ربت هارون على كتفه قاصدًا زحزحت أخيه الواقف بينهما وقال بفظاظة :
-اخلص يا هيثم ، مفيش وقت للمراچيح دي !! هابقى اروحها أنا …
زفر هيثم بضيق وهو يتمسك بملابسـه :
-ماشي يا هارون .. أهو ماشي.. بالراحة على البت مش قدك ..
••••••••••
~بغُرفة أحلام .
بعد ما أكدت ” أحلام” على الفتاة التي تُساعدهم بالبيت والتي قدمت لهما الشاي وأوصتها تغلق الباب جيدًا خلفهـا ، مدت الكوب لزوجهـا وسألتـه بفضول :
-دماغي شغالة تودي وتچيب يا حچ ، طمني عملت أيـه مع الداكتورة ؟!
تناول الكوب بيده المرتجفة وهو يقول بهدوء لا يتناسب مع منطوقـه :
-ما نكرتش الحكاية ؛ بس قالت لي البت ماتت بعديها بأسبوع .
هبت أحلام بحرقة :
-موتة في قلبها ، بعيد الشـر ..
ثم تلعثمت الكلمات بفمها وهي تُفتش بدواخله :
-طب وأنتَ أيه شورتك ..
رد بيقين :
-كدابة يا أحلام ، لقيتها اتنفضت وتهتهت في الحديت واتكربجت كأنها لدغتها عَقربة ، وبعدين حبت تنومنـي وقالت مامت ..
ثم رسم ضحكة ساخرة على فمه :
-فاكراني عيل صِغير ، بس أنا بلعتها الطعم وخليت واحد من الوِلد يُقطرها .. وأديني مستني ..
تنهدت ” أحلام ” بارتيـاح وهو تلكزه لتقوم بمشيتها العرجاء تفتح خزانة ملابسه وتفتش على ألبوم الصور القديـم ، ثم عادت إليـه والبشاشة على وجهها :
-اسمع الحديت اللي عِند أحلام..
تأوهت وهي تجلس بجواره لتُكمل :
-الصحفية اللي مع الواد هيثم ..
-مالها يا أحلام !! دي صفية ماسكة ودني وبالدين بالعافية إلا أمشيها ..
تنهدت بملل:
-سيبك من صفية دِلوق ومرطها ، اسمعنى للآخر .. أنت عارف البت طلع اسمها أيه ؟! ليلة سامح الچوهري ..
تراقص الكوب من يده والتفت لها خليفة بإهتمام واتسعت عينيه ، فأتبعت أحلام :
-عملت زيك بالظبط .. البت اسكندرانية والچوهري وأنت رايح اسكندريـة ، قولت بس ، دي آكيد بت عمهم ، قريبتهم من العيلة وهنلاقـوا اللي عندوروا عليـه عندها ..
تلهف لسماع المزيد :
-وبعدين يا أحلام ، قالت لك أيه ؟! قولي ..
أتبعت أحلام ببشاشة :
-روحت ميلت على ودان هارون وقبل ما أسأله عليها من كلمتين لقيتوا عيقـول دي چدها كان لواء إهنه واسمه رفعت الچوهري أكيد أبوي الحچ يعرفوا !!
تلك الآمال الصغيرة التي يتعلق بها المرء بعد أعوام من البحث كأنها تعثر على ثقب صغير دومًا في بقلبك تُخيطه ببعضه لتسد فراغات ما كنت تبحث عنه ؛ جلى حلقه غير مصدقًا وهو يتنفس بلهفة :
-كملي كملي يا أحلام …
فتحت الألبـوم على صورة “مهـرة” صديقتهـا وقالت :
-شوف يا حچ نظرة أحلام وقلبها اللي عمره ما ضلها واصل ..
فرغ فاهه بعدم تصديق وهو يقول :
-أنا كيف مخددتش بالي !! يعني البت هي غفران ولا ليها أخت !! رسيني يا أحلام ..
ابتسمت أحلام بوجهه :
-لا هي نفسها يا عمدة ، وتبقى أمها الداكتورة اللي أنتَ سافرت لها بس ووو
قاطعها خليفة غير مصدقًا :
-الدنيا دي صغيرة قوي قوي يا أحلام خُرم إبرة !! يعني أنا سافـرت عشان أدور عليها والبت في بيتـي ؟؟؟ بس بردك لازمًا اتأكد ..
ترددت أحلام في إخباره عن أمر الأدويـة ولكنها تراجعت حتى تتأكد من هارون ، ربيت أحلام على ركبته لتهنئه :
-خلاص يا حچ اللي عندوروا عليه ليقنـاه ، ريح لي قلبك وفكرك !!
تلهف الحج قائلًا :
-اتأكد بس ، وسيبي الباقي عليّ .. عارفة المُشكلة فين !!! هفتح ملفهـا قصاد مچلس العزايزة كيف ؟! وو
طبطبت أحلام على قلبه بكلماتها الأشبه بالنسيـم :
-اللي چابها لغاية قعر بيتك هو وحده اللي هيحلها يا حبيبي ..
لقد طار عقل الحج بمعرفته لهوية ” غفران” الفتاة التي فتش عليها بتراب الأرصفة ولم يجدها ، بلل حلقها غير مستوعب فرحة الخبر وهو يقولد مقترحًا :
-نچوزوها لهيثم .. وتعيش وسطينا وتاخد حقها وو
قاطعته أحلام بيقين قلبي :
-چوزها ونصيبها هينديها لوحده يا حچ ، سيب الموضوع ديه عليّ ..
دقت صفية الباب وبدون إذن بالدخول فتحته وهي تقول :
-متأخذنيش يا عمة ، بس المچلس مشيعين للحچ خليفة وعاوزينه ، آكيد كله من تحت الچوازة الغبرة دي ..
وشوشت لزوجها قائلة وهى تلبسه العباءة :
-قوم شوف لك صِرفة مع البت دي أنا تعبت معاها يا حچ .. أنا ربيت ٦ عيال متعبونيش كديها ..
-ربك يهديها ..
ثم أعقبت صفية والفضول يقتلها حول الموضوع الذي يشغلهم وخروج ألبوم الصور القديمـة ، قفلت أحلام الألبوم بسرعة وسألتها :
-علي فين إكده ؟!
هللت فارحة :
-رايحين نچيبو شبكة هارون وزينة ، دعواتك يا عمة يتم الچوازة على خير !!
تمتمت أحلام بتمنى لنفسها وهي ترجع الألبوم لمكانه :
-شالله ما تتم يا رب اسمع مني …
••••••••••
قلوبنا لا تؤمن بالنهايات.. فهي لا تملك هذه الرفاهية ، رفاهة إنهاء شيء عانق قلوبنا ثم نسيانه .. فهي مازالت مُحملة بجروح عتيقة ، علاقة فريدة تحيا في القلب، غصة، خيبة صديق، ذكرى شخصٍ رحل وترك وراءه قلبًا تنهشه ثلجية الوحدة ، ندبة طفولة، آثار صفعة، أو رقة قبلة كل شيء هو للأبد باقٍ ، باقٍ هنا بقلوبنا الحمقاء …
تبدو أمامه بهدوء غريب رغم كون قلبها يرتجف ، كانت ” رغد ” تعاونه في ضب حقائب وهو يستعد للسفـر والعِبرات متكدسـة بعينيهـا ولكنها مخفية عنـه .. لملم زجاجات عطره وهو يقول آمرًا :
-رغـود ، من البيت للشغل من الشغل للبيت ، لا كامب ولا سهر ولا صحابك السوء دول ..
كانت تحضر ملابسة المرتبة فوق بعضها من الخزانة بطاعة :
-حاضر والله .. وكمان هرجع أشتغل بايدي تاني وهعملك هدايا كتير ترجع تلاقيهـم وو
ثم قفلت جفونها كي لا تفر منها الدمعة وقالت :
-المهم ١٥ يوم وبس زي ما قولت ؛ متتأخرش عن كده ..
جذبها من خصرها إليه ليطبع قُبلته الطويلة على بجدار عنقها ويقول :
-أصلًا مقدرش اتأخر عن كده !! أنتي عاوزاني أموت فيها ؟!
عارضته بدموع تفجـرت بوجهه :
-هاشم ممكن بلاش السيرة دي بقا ، حرام عليك وو
شدها لعنده ليداعب خصلات شعرها المتطايرة ويتلقى عبرات المنهمرة ليقول معتذرًا :
-رغود حبيبتي اهدي !! أنا رايح شغلي مش رايح أحارب .. وبعدين أنت مش واثقة في قدراتي كظابط جيش ولا أيه !!
جففت وجهها المبلل بماء الحزن وقالت :
-لا طبعًا واثقة بس ..
فباغتها ملاطفًا وهو يطوق خصرها ويحدق بدموعها :
-طيب وقدراتي كزوج .. !!
انفجرت ضحكة خفيفة من جُب حزنها وهي تعاتبه :
-متهزرش عشان ده مش وقت هزار !!
-أومال وقت أيه ؟!
ثم ضاقت عينـيه بتخابث :
-يعني واثقة من الأداء الحربي والأداء الحُبي مش وقت هزار !! بت اتظبطي بدل ما اظبطك على مزاجي الساعة دي..
حدقت بعينيه اللاتي عشقتهما وهي تمرر أبهامـها فوق ملامحـه وقلبها يتساءل : لِم الخوف من الخوف ؟! لِمَ الفراق يرفرف فوق دارنا ؟! لِمَ أحببتك وحدك من بين الجميع ؟! ولِمَ سأجني أوزار أشياء لم اختارها ؟! يعلم ربي بأني فعلت المستحيل لأبعدك عني ولكنك آسرت قلبي وعقلي حتى بات طوعًا لك !! لمتى ستظل ذيول الحزن ترافقني مهمـا غادرتها.. بات بين أعينهم بحرًا من العتاب ونهرًا جاريًا من الحب !! من سيقنع الآخر بمصبـه يا ترى !!
اهدته قُبلة خفيفة قبل أن تعانقـه عِناقًا طويـلًا وتعترف له :
-هاشم ، أنا بحبـك فوق ما أنت تتخيل ويمكن أكتر ما أنت بتحبني كمان .. وو
قاطعها قائلًا بمزاح :
-بس أنا بحبك أكتـر .. وممكن اثبت لك ..
-محدش هيحبك أد قلبي في الدنيا وبلاش الحركات دي عليـا يا هاشم بيه ..
أمسك بذقنهـا وهو يجذبها إليها ممازحًا :
-مش إحنا اتراهننا ليلة إمبارح وأنا اللي كسبت !! بتنكـري ليه !
أحمر وجهها بحُمرة المشاعر المدججة بينهما وهي تتذكر تفاصيـل تحدي الحُب الخاص بينهما بليلة أمس حيث أعلنت هزيمتها أمام حبه بجدارة فحدقت بعينيه :
-اللي يهمني أن عمري ينتهي وأنا جمبك .. وهستناك تغلبنـي دايمًا ..
كاد أن يُجيبها ولكن قطعه صوت رنيـن هاتفـه فتبسم بوجهها وقال :
-ده مين الرخم ده !!
فارقها وهو يقترب من هاتفه ليرى اسم هارون فعاد معتذراً :
-لا ده هارون بيـه ، منقدروش نتكلمـو ..
ثم رد على أخيـه مُرحبًا وهو يمسك بورقة وقلم ليكتب رقم ما وهو يحاور أخيه الذي أخبره :
-هنصطادوه ، أعمل اللي اتفقنا عليـه بس وأنا هطيرهولك من قنا كُلها .. شريف أبو العلا لازمًا يتربى !!
رد هارون بثقة :
-كله تمام ياسيادة الرائد ..
انهى مُكالمته مع هارون ومد لها ورقة مكتوبًا عليها رقمه وهو يقول لها :
-رغود ، ده رقم هارون خليـه معاكي احتياطي محدش عارف بكرة مخبي أيـه …
~العزايزة …
عادت ليلة بعد إنهاء مكالمتها مع أمها التي أمرتها بالعودة في أقرب وقت وظلت تسألها اسئلة غريبة لم تدرك لها معنى حتى اطمئن قلب نادية قليـلاً بأنها لا تعلم شيئًا .. أخذت تتفحص المكان وتفتش عن هيثم :
-هيثم راح فين ؟!
وضع هاتفه على مقدمة سيارته وقال بمكرٍ :
-باين له خلع ..
-يعني أيه خلع !!
-مخابرش !! هو مش سبق وعملها مرة ، يعملها التانية عادي..
زفرت باختناق وهو تدور حول نفسها بنفاذ صبر حتى اقتربت منه مشيرة بسبابتها :
-أنتَ اللي مشيتوا صح !
رد بجمود :
-وأنا هعمل إكده ليه !! شيفاني فاضي عشان أقعد مستنيكي لغاية ما تخلصي !! ديه بس من أصلي وعدي الچمايل ..
رفعت حاجبها غير مصدقـة ما يقوله وهي تشُم رائحة المكر من بين كلماته لتقول معاندة :
-تمام .. يبقى تستناني لحد ما أخلص .. في صور كتير هنـا لسـه هاخدها ..
ثم رفعت سبابتها بوجهه:
-بس يكون في علمك انا لا هكلمك ولا تكلمني ولما اخلص هركب العربية الكرسي اللي ورا وتفهم إني خلصت فتيجي عشـان توصلني ..
عض على شفته السُلفية وهو ينادى على أحد الصبيان العاملين بالأرض ويزرعون القمح بصوته الرعدي متجاهلًا أوامرها :
-حمي قلبك منك له لسه قِدامنا كتير ..
تأففت بضيق وتركته مغادرة وهي تتوعد لهيثم علنًا .. ظلت تتفقد الطرقات والأشجار والجنائن وشجر الرمان الحزين ، وهو تعمد تجاهلهـا تمامًا ولكن كيف تتجاهل الأعين عن نفسها؟! كان يراقبها بعينيه كمن يراقب طفل صغير يخشى أن يتوه منه .. لاحظ وقوفها تحت شجرة البرتقال وهي تقفز محاولـة ألتقاط الثمرة المُعلقة فوقها ..
نزع جلبابه الصعيدي وتركه بالسيارة واقترب منهـا بخطوات واسعـة ولكنها هادئة لا تحدث صخبًا .. في حين محاولتها باستخدام العصا لتوقع الثمرة سبقتها يده لقطفها وفي لحظة ما تلقت يمينه الثمرة و تلقتها يساره إثر فزعها فتعرقلت قدمها بالضفة الطينية التي تحيط بالشجرة ..
لقد سقطت على سهوة من الغصن في رياح الحب كعود ريحان ضئيل لكن ما حدث ، أن قلوبهما تعطّرت .. تعرقلت ببعضها البعض .. فقُرأت تعوذيـة الحُب عليهمـا ..
قمرٌ بيساره يجاور قلبه ويلقي عليه الحُب ، ونجمة بيميـنه كأنه جاء بها من السماء لعندها رمزًا بأنه سيفعل المستحيل لأجلها ، بدون أي عتاب بينهم غمغمت وهي تتشبث بذراعه:
-مرسي لحقتني ،كُنت هقع ..
كانت أصابعـه تطوق خصرها الصغير وهو يقول ملاطفًا :
-وأيه الچديد !! ما أنتِ تملي عتقعي وو
عاد لها رُشدها في الحـال وهي تستعين به لتنصب قامتها وتنفض بنطالها من الغبار وتعاتبه :
-البدلة باظت وو
تمتم بصوت لم يصل لأذانها وهو يعلن ضجره من اللون الأحمر :
-بدلة الإعدام اللي لابساها ديه !!
-بتقول ايه !!
ثم غيرت مجرى الحديث فورًا وهي تُشير نحو حظيرة واسعة :
-أيه اللي هناك ده !! ينفع نروح هناك !!
لم تمهله الرد أيضًا وتوقفت بعد خطوة قطعتها لتسأله :
-مضطرة أصالحك الشويتين دول عشان مش قدامي غيرك للأسف ؛ ولمـا نروح هخاصمك تاني !! اتفقنا
شد كُم جلبابه المثنى وتابع خُطاها ليقول بصوت خفيض :
-قلبك أسود يا ليـل ..
-أنتَ قولت ايه ؟!
-اللي تشوفيه ، بس نخلصـوا ..
ثار الاثنان فوق الخط الفاصل بين الأراضي الزراعية ، كانت خطوتها عرجاء تتمايل هنا وهناك لتعرجات الأرض عكسه تمامًا حيثت كانت خطواته تدرك مقصـدها جيدًا .. أسهبت في الثرثرة كعادتها وأسهب في الاستماع لهـا وكأن هناك أرض جافة متعطشة وتلاقي بسيـل من الماء ، فكانت أرضيه متعطشة لري كلماتها وحدها .. أول مرة يكتشف صبره على الاستماع لإمراة ، ترابيس صبره كانت توصد الأبواب بوجه كُل من يدق فوقها ، إلا هي ؛ فتح بوجهها جميع الأبواب والنوافذ وهو بكامل متعـة رغم تفاهة ما تقـوله ..
وصل الاثنان لباب الحظيرة فنظرت له :
-انا ينفع أدخل ولا دي بتاعت حد !!
-دي بتاعت صفية ، كُلها ديوك رومي مربياهم هي …
ثم دق الباب لتفتح لهـما حارسـة المكان وقبل أن تسأله اندفعت كالفراشة لتلقي بنفسـها بين معشر الديكة .. فرك لحيته وهو يقول بحسرة :
-طب اتلقي اللي هيچرالك وو
لحظات قليلة وجاءت هاربة تصرخ وتستغيث به وخلفها مجموعة من الديكة يلحقونها ويزفونها بأصواتهم المميزة ، احتمت بظهره صارخة :
-الحقني والله ما عملت حاجة هما اللي اتعصبوا لما شافوني ..
تدخلت الحارسـة لتبعدهم عنها وأخذها هو للخارج تحت سطو ضحك ، نظرت له بذعر :
-أنتَ بتضحك !! والله ؟! آكيد أنتَ اللي قايلهم وو
قاطعها وهو يبتلع ضحكاته :
-ما لازم يتعصبوا لما يشفوكي ببدلة الإعدام دي !!
-يعني أيه مش فاهمة !!
-مقرتش بين أساطيرك أنو اللون الاحمر عيستفزهم ، وأنا وارث داء الديوك ديه منيهم .
ثم رمقها من رأسها للكاحل :
-ومن ساعة ما شوفتك وانت معصباني ..
وضعت أناملها على شِدقها :
-أحيه يعني هما مش بيحبوا اللون الأحمر !!
-وأنا كمان ..
ردت بعفوية :
-أنت مش مهم ، بس دي معلومة جامدة أول مرة أعرفها …
قطم شفته بغيظ:
-ياصبـر الصبـر .. هي أحلام مقالتش ممنوع البنات يلبسوا أحمر صِرف في بلدنا ؟
-لا مقالتش ، بس ليه ممنوع !
-عشان عيـب !
-ايـه ؟!
-ديه عاداتنا ، العروسة بس اللي مسموحلها تلبس أحمر .. اف تعالي تعالي أما نشوف أخرتها معاكٍ .
••••••••
~مساء
عادت نجاة لمنزلها بعد يوم طويل بشغلها بالوحدة الصحية .. حيث كانت تجر خطواتها جرًا .. فتحت الباب الحديدي ثم دلفت لداخله وقفلته خلفها .. سارت خطواتها نحو بيت العائلة .. فوجدت حماتها تنتظرها بالطابق السفلي .. ألقت عليها التحية ، ثم سألتها :
-مازن نام ولا لسه يامراة عم ..
أجابتها بضيق دون أن تناظرها :
-مالكيش عيال عندينا يابت رابحة ..
لم تستوعب مغزى تلميحاتها :
-لا مفهماش ؟! يعني أيه ؟!
هنا تهجم عليها صديق بصوته قبل يده التي تناولتها بدون رحمة :
-اهلا يا عروسة طب زين والله إنك لساتك فاكرة عندك واد عاوزة تربيه ..
ثم تجاهل أصوات استغاثتها وجرها خلفه بمنتهى الوحشية :
-هي مش أمي قالت لك مالكيش عيال عندينا ؟! عاوزة تروحي تتجوزيه روحي محدش مانعك بس انسي ولدك ..
انفطر قلبها لنصفين وهو تترجاه :
-ولدي فين ياصديق وديت الواد فين انطق .. يا مراة عم عشان خاطري ولدي فين ..
دفعها صديق على المقعد بكل ما أوتي من قوة وهددها :
-تنسي حاجة اسمها ولدك لغاية ما ترجعي لعقلك ..
ثم مسح شدقه بكم جلبابه وهو ينهرها بعنف :
-شكلنا دلعناكي عالاخير .. خروج وطلوع وبيات براة البيت ولا ليكي حاكم ولا رابط ؟! لكن خلاص عيني فنجلت عليكي .
قاطعته متوسلة :
-أحب على يدك يا صديق .. أديني ولدي وربنا ما هعمل حاجة وهعيش أربي ولدي العمر له بس متحرمنيش منيه ..
طالعها بنظراته الدنيئة والتي ترغب فيها من قبل زواجها بأخيه .. والأن قدمت له كقربان :
-هتشوفيه بس لو عقلتي يا نجاة ..
ثم سحبها بقوة لم ترحم ضعفها وهو يقول :
-مفيش مرواح الوحدة دي تاني ..فضناها
ثم ألقاها بداخل الغرفة فارتمت كقماشة بالية بالأرض وأوصد الباب خلفها :
-وهتفضلي محبوسة إهنه لغاية ما تقولي حقك برقبتي …
ثم رفع سبابته معلنًا ولم يراعٍ شعور زوجته الأولى :
-قصادك ياما .. توافق على جوازي منيها هتشوف ولدها وتعيش عيشة هنيه .. هتفضل سايقة العوج يمين تلاته اتاويها قبل ما تعرنا ..
ظلت تضرب على الباب بقوة وتستغيث بأهله ولكن لا حياة لمن تنادي عليه الجميع اتفقوا على قوله ولم يستمع لها أحد ..
********
~بمنزل خلفية العزايزي ..
أحتشد الجميع في ساحة البيت الواسعة .. فكان جالسا كل من أحلام وهارون وأبيه بمجلس منعزل قليلًا .. وبالمجلس الأخر كانت تجلس ليلة مع هيام وهاجر وفردوس يتبادلن الحديث والضحك .. كانت عيني هارون طائفة على عكس عادته لأنها للأسف نفذت وعدها له كما قالت .. منذ أن وطأت أقدامها أعتاب هذا البيت أعلنت عليه الخصام من جديـد ..
كانت نظرات أحلام وخليفة لم يفهمها أحد غيرهما وهما يتلصصان النظر من ليلة وهو لم يفارق لسانه قول :
-تبارك الله ربنا يحرسك لشبابك يا بتي ..
ولكن كانت أعين أحلام تركز جيدا على هدفها و تراقب نظرات هارون ببشاشة وبروح مرحة .. تعالى صوت الفتيات بالضحك حتى جاءت هيام مقترحة :
-تيجوا نعملوا كيكة في الجو ديه ونتسلوا ..
عارضتها ليلة باصرار :
-يالهوي !! مابعرفش أعملها خالص .. معرفش أنتو بتعملوها أزاي ؟!
فتدخلت هاجر :
-البت هيام دي قروبة .. عتعمل كيك فنادق فاخر من الاخر وو
عارضتها ليلة بإنبهار :
-يابختك بتعرفي .. أنتِ عارفة أن في أسطورة قديمة بتقول وو
هنا سُحبت أذان هارون قبل أعينه لعندها حيث باتت أساطيرها كجرعة مسكنة يستلذ بها .. تلصص السمع بفضول قاتل لاحظته أحلام بدهاء فأعقبت ليلة وهي تقف لتروي لهما الأسطورة وهي مقتنعة بها تماما :
-بتقول أن البنت اللي حظها حلو في الكيك حظها بيطلع حلو في الرجالة .. والبنت اللي زي حلاتي كده ملهاش حظ خالص فيها بختها بيكون زي ما أنتوا شايفيني ..مايل زي حظي.
تفوهت أحلام بصوت عالٍ لتقول وهي ترمق هارون بخبث :
-ولا مايل ولا حاجة .. يكش حظك هيكون كيف الورد وأبقي قولي أحلام قالت ..
هبت هاجر مقترحة :
-طب أنا عندي فكرة .. أحنا نجيبوا ونعملوا كيكة وهيام هتعلمنا ونشوفوا مين بختها هيطلع حلو ..
تحمست هيام وهي تقول لفردوس :
-يالا يافردوس نجهزوا الحاجات ونعملوها إهنه على السفرة أحلام وأبوي وهارون يحكموا ما بينا ..
رفعت ليلة مبرئة ذمتها :
-لالا أنا برة اللعبة دي .. بنات أنا واحدة فاشلة في المطبخ .. أنتوا مش عاوزين تفهموا ليه ؟
نظرت أحلام لهارون وهي توضح الصورة له بطريقة مرحة :
-ولا خايبة ولا حاجة بكرة تتعلم وتبقي على كيفك ..
تحمحم هارون واقفا وهو يقول بفظاظته المعهودة :
-ماهي لو تتعلم لها طبخة بدل الخرافات اللي واكلة عقلها دي كانت نفعت ..
زفرت بضيق وهي تطالع أخوته قائلة :
-شايفين ؟! قاصد يعصبني أزاي ..
ثم فارقت مجلسهم واتجهت نحو أحلام لتقول :
-أنا يا أحلام بقول خرافات ؟! شايفة طريقته !! عمو الحج لو سمحت قوله يحترمني شوية هو على طول بيضايقني بكلامه ..
لم تنكر استغرابها من نظرات خليفـة اللامعة نحوها طول الوقت .. ولكنها تعمدت تجاهلها ، نظر له الأب بلوم :
-ما تسيبها تحكي يا هارون مالك بيها .. البت متعلمة ومتنورة و
عارضه هارون بلطف وهو يحدق النظر بها :
-كل ديه عشان عقولها تتعلم طبخة .. أصلو يا أحلام الراجل منينا هيكون عاوز أيه غير لقمة يُرم بيها عضمه ، ربنا يكون في عون اللي هتقع في نصيبه ..
وضعت يديها بخصرها لتقول بضيق طفولي :
-والله الأكل في المطاعم كتير أما أنا هحكي له حواديت مش موجودة عند حد ..
تمدد ثغره بضحكة خفيفة إثر إصابة كلمتها طرف مجهول بقلبه وهو يقول بسخرية :
-وماله لما يجوع أبقي حمريلو حدوتتين !! ويبقى اتعشت قوي ..
غلت الدماء بعروقها وتأفف بضيق :
-مش هرد عليك احتراما لعمو الحـج بس..
عاد هارون ليجلس بمكانه وعلى عكس عادته أول مرة يحبذ المكوث طويلا بالبيت .. أخرج هاتفه ليقول :
-هكلملك هاشم يا أحلام سألني عليكي الصبح .
زفر ليلة بيضيق مولية ظهرها للخلف ففي تلك اللحظة أخرج خليفة محموله ونادى بصوتٍ عالي :
-غفــــران يا بتي ….
انفرجت الأعين حول خلفية إثر ذكره اسما لم يكن بينهم .. توقفت خطى ليلة متراجعة فهذه أول مرة تسمع فيها اسم غفران بعد موت جدها .. زلزل وقع الاسم على مسامعها جسدها وتحرك قلبها بذكريات شتى .. تبادلت النظرات بين هارون وأحلام بتساءل .. اقتربت ليلة منه متعجبة والعبرات تتكدس بعينيها :
-عمو الحج حضرتك عرفت الاسم دي ازاي ؟!
ثم أشارت لهارون مستفسرة :
-أنت اللي قولت له ؟؟!
انكرت ملامح هارون لتناسيه أمر الاسم .. أخفض خليفة الهاتف من فوق مسامعه ويده ترتجف يود أن يقوم باحتضانها في التو .. تحكم في أعصابه ولكن ماذا عن ملعان العين وهو ينكر معرفته للاسم ويمد الهاتف أمامها :
-كنت عتحدد في المحمول وو
فبررت ليلة على الفور وهي تبد اعتذارها بتوتر ملحوظ :
-اسفة بجد .. افتكرتك بتنادي عليا ..
ثم مسحت على وجهها المحمر من شدة الارتباك وأكملت العبرات تترقرق بعينيها :
-أصل حضرتك لما قولت غفران.. افتكرت جدو .. هو الوحيد اللي كان يناديني بالاسم ده وو
ثم أخذت نفسها من شدة الارتباك و أتبعت:
-كان بابي يتخانق معاه دايما ويقوله اسمها ليلة .. بس هو كان مصمم على اسم غفران وبصراحة أنا بحب الاسم ده أوي ..
ثم رمقت هارون بنظرة سريعة لا تعلم لما أرسلتها له .. وواصلت باكية :
-قريت مرة أن أقدارنا تؤخذ من اسامينا .. كل ما بسمع الاسم ده بحس أنه مخبي لي أسرار كتير عشان كدة محدش يعرفوا ومش بحب أقوله قدام حد عشان مش يناديني عليا بيه ؟! فالمقولة تتحقق ويتفتح قدامي طريقين طريق ليلة وطريق غفران …واتوه بينهم ..
اغرورقت عيني أحلام بالدمع ولمعت عيني خليفة بالفرحة وطارت أنظار هارون فوق مدن الحيرة .. وثبت أحلام لتضمها بحب وتهدئ من روعة مخاوفها :
-تعالى في حضني يا حبيبتي متقلقيش .. ربنا يجعل كل اللي جاي من أيامك هنا .. انا قلبي حاسس .. بس بس متبكيش يا حبيبتي .. الله يسامحك يا حج خليفة قلبت المواجع على البت ..
جففت ليلة عبراتها وهي تفارق حضنها :
-لا خالص .. جدو بس وحشني عشان كده بعيط ..
رق قلب هارون وأراد أن يخفف الحمل عليها ولا يعلم لماذا .. نبض قلبها يريد ضمها ولكن كيف ؟! تحمحم بجمود يخفي حوله نواياه :
-خبر أيه أومال ؟! هتوكلونا كيكة في الليلة دي ولا نمشوا ؟؟!-ثم جهر مناديا-ماتيجي تشوفي يا هيام .
ربت خليفة على كتف ليلة وهو يقول :
-احنا كلنا أهلك يا بتي ..
ثم نظر لأحلام :
-ماتشيعوا لمراة هلال تقعد معانا .. عاوز اتعرف على البت وأشوف نقاوة ولدي !!
تدخلت هاجر بحزن على حالتها :
-كل ما اطلعلها ألقاها نايمة .. تهدى بس وهنزلها تقعد معانا ..
ثم سحبت ليلة من يدها :
-يلا عشان هنعملوا الكيكة وبزيادة حديت عاد ما أحنا كنا حلوين ….
••••••••••••
~بغُرفة هلال ..
لقد قضى نهاره معهـا بالغُرفة وهو يتلو القرآن على مسامعها تارة ويراقبها طورًا .. حتى انتشرت الملائكة بالمكان وعمت حالة من الهدوء والسكينة حولهما للحد الذي جفت فيه دموع عينيها وباتت تبادله الحديث لتشتت حزنها عنها و بعد ما أشادت بجمال صوتـه .. توقف على شفا طلبه منها بالمواظبة على قراءة آية الكرسي عقب كل صلاة ؛ قائلًا :
-تعرفيـن لماذا سُميت آية الكرسي بهذا الاسم ؟!
أحكمت ضب حجابهـا وهي تضم ساقيها لصدرها أمامه على سجادة الصلاة بعد ما صلى بها العشـاء في جماعـة وذاب حزنها في جمال الصلاة خلفه ، بدّ جهلها للجواب على ملامحهـا ، فرُسمت ضحكة خفيفة على محياه وهو يعد أحجار مسبحته المعطرة بمسك الذكر وقال بطيب نفس :
-الكرسي فالمعتاد هو أساس الحكم وهو رمز الملك وهى الدالة على الألوهية المطلقة .
رفعها الله في بدايتها باسمه ( الله ) وفى نهايتها باسمه ( العلى العظيم )
وهى ترفع معها كل من تعلق بها واستمسك بها ومن حفظها حفظته ورفعته معها إلى أعلى مقام وأسمى منزلة .
فركت كفيها ببعضهما وهي تبتسم بخجـل وتخشى التطلع له لتقول :
-طول عمري اعرف أن فضلها كبير بس عمري ما سألت نفسي ليه اتسمت بالاسم ده ..
هز رأسه متفهمًا وهو يسألها :
-لِمَ لم تتسألين لماذا طلبت منكِ أن تقرأيها عقب كُل صلاة !!
ردت بعفوية :
-ليـه ؟!
ملأ جيوب عينيه من ملامحها الباهتة التي يحاول أن ينيرها بذكر الله من جديد .. مد لها مسبحتـه فأخذتها منه متحيرة فقال بتأدب ورقي ووجه يشرق من نور الإيمان مع بياض وجهه الناصع والمتوارث من أمه :
-لن يصبح بينك وبين الجنة إلا الموت-ربي يحفظك بحفظه- ، وأيضًا لأن لكل من قرأها دبر كل صلاة فإن الله ذو الجلال والإكرام هو الذي يتولى قبض روحه عند موته .. هذا بعد عمر مديد لكِ ..
ثم تنهد وأكمل :
-أما بأمورنـا الدنيوية لمن قرأها ليلا خرج الشيطان من البيت ولا يدخله حتى يصبح وأمنه الله على نفسه ومن قرأها في الفراش قبل النوم لنفسه أو لأولاده يحفظهم الله لا يقربهم شيطان حتى يصبحوا ويبعد عنهم الكوابيس والأحلام المزعجة ووسوسة الشيطان ..
أومات متقبلة نصيحته بنفس راضيـة وهي تُشير على السبحة التي تزين يدها ، فتضحك بخفوت :
-هذه هدية مني لكِ ..
ثم مسح على لحيته بهدوء وقال :
-تحبي تنزلي تقعدي مع الجماعة تحت ، الحج خليفة يود التعرف على زوجـة ابنـه ؟
طافت عينيها بالمكان بهروب وهي تعلن رفضها :
-مش قادرة اتكلم مع ناس والله .. لولاك أنت بس خدتني في الحديت وو
-رقية ؛ أنتِ هنا تخصينني وما يحزنك يحزنني .. فلا داعي من حرجك أمامي ..
ثم غير مجرى الحديث :
-أعلم إنكِ تحفظين كتاب الله ولكن ما أخبار المراجعة ؟
-حفظته وأنا في ثانوي ، بس مع المذاكرة والكلية آكيد نسيت .
-سهلة ، سنبدأ من الأول و بالتفسير ، ما رأيـك ؟
رفعت جفونها باستغراب :
-ليه ؟! ليه أنا بالذات عتعمـل معاها كل ديه !!
-لانك زوجتي ..
أومأت بخفوت وهي تفارق سجادة الصلاة ولم يبد عليها الاقتناع برده :
-تمام ..
لحق بها :
-تمام مقتنعة ولا لن تقتنعين بعد !!
-أنت شايف أيه قدامك ؟!
ينظر إليها وكإنه يود الغوص بأعماقها ، متفحِّصًا كلَّ تضاريس روحها الباهتة ، مفتشًا عن الأسرار الخافية حتى عليها ؛ تأرجحت عينيه بغزل صريح وهو يقول :
-أرى أمامي بدرًا في ليلـة تمامـه ..
شهقة مكتومة اندلعت من جوفها وهي تفر هاربة من أمامه إثـر بريق عينيه المربكتين لتتحرك بعشوائيـة وتخرج ملابسه من الحقيبة وهي تتحاشى النظر إليه ثم فرت لتتحامي بالحمام من جُملة غزله التي رجت كيانها رجًا .. ضحك على صورتها العبثـية ثم اقترب من باب الحمام ليخبرها :
-سأرحل كي تكونين بحريتـك .. رقية لا تبكين مرة أخرى وهذا أمر ..
~بالأسفـل …
قدمت أطابق الكيك الذي أعدوه الفتيات ، فجاءت كل واحدة منهمن تحمل طبقها .. أفصحت ليلة فارحة :
-طنت أحلام ، دوقي كده .. أنا مبسوطة أوي هيام علمتـني أعمل كيك حلو أوي ..
رفع هارون عينيـه عن شاشة هاتفه ليراقبها بملامح مبتسمـة دون نية منه … فأقبلت هاجر نحوه لتُرشيه :
-هارون ، دوق كيكتي وقول حِلوة وانبهر ، عشان انا الوحيدة اللي صينيتها هبطت وبقيت كيف خد الندابـة ..
أعلنت هيام رفضها :
-اكده في غش من أولها ..
ضحكت ليلة واتبعت :
-أنا وهيام الكيك بتاعنا طلع قمر ، بس الكيك بتاع هاجر طلع وحش أوي ..
ثم دمدمت بصوت مسموع :
-أكليه لأخوكي بقا خلي بطنه توجعه ..
تذوقت أحلام قطعة الحلوة الخاصة بليلة وأشادت بجمالها ثم منحت زوجها قطعة :
-دوق يا حچ وقول رأيك عاد ، ولا غلطـة ..
تذوق هارون كيك أخته هاجر واكمل بلعها بالماء وهو يعاتبها همسًا :
-فرحتي فينا الاسكندرانية !! متعمليش كيكة تاني ومالكيش دعوة باللي هقوله دِلوق !!
ثم جهر :
-كيكة هاجر ولا غلطة ، متسمعيش كلام البنات دولت يا بت يا هاچر دول غيرانين منك ..
تقدمت هيام لتقدم له طبقها :
-والله ، طب دوق بتاعتي وأنت هتعرف الفرق عشان تطبلها زين .
تناول قطعـة من أختـه وبدّ الإعجاب على ملامحه يتراكض :
-لا عاليـة قوي دي !! بس طبعا بتاعت هاچر أحلى .
ثم همس لهاجر محذرًا :
-أنتِ والكيكة بتاعتك تختفوا لغاية ما انسى اللي طفحته قبل شوية ..
فمدت له أحلام طبق ليلة بخبث:
-ودي .. دوق وقول رأيك !!
تدخلت ليلة بعناد:
-أصلًا رأيه مش مهم يا أحلام ، كفاية أنها عجبتك أنتِ وعمو الحچ ..
عاندها وتناول الطبق كله بدل من أخذه قطعة واحدة ، أمعنت النظر به منتظرة رأيه ، فلم يجب .. تناول واحدة وراء الأخرى فسألته أحلام :
-اظن مش محتاج يتكلم ، ديه هيخلص الطبق من حلاوتـه !!
رفع حاجبه متعمدًا استفزازها :
-دانا بدوق كذا حتة عشان محكمش بالباطل ..أصلو آكيد الطعم مش هيبان من أول قطمتين ..
زفرت بضيق وهي تسبـه بسرها :
-يارب صبرني عليـه ..
مع تناوله للقطعة الثالثة رفع جفونه ليقول بغرور :
-عشرة على عشرة يا استاذة .. والنجمة تاخدها هاچر عشان كيكتها أحلى بردك ..
حضنت هاجز ذراع أخيها وهي تقبله بخده:
-أشطر محامي يدافع عن أخته يا ناس !!
لمعت السعادة بعينيها رغم محاولاتها الكثيرة لإخفاء ابتسامتها عنه ، فهللت أحلام مدافعة :
-مش قولت لك ليلة بكرة تتعلم وتبقى على كيفك !!
هنا دق ناقوس الزغاريد بأرجاء المكان لتدخل صفية وأخيها وزوجته وزينة ثم هيثم الذي ذهب لعندهم بعد مشاوير هارون الذي اختلقها له وضل هو بالبيت ، كانت الفرحة تغرد على وجوههم لتقول :
-مقدرناش نستوا لبكرة لغاية ما يجي معانا العريس .. چيبنا الشبكة وچينا ، ويبقى هارون يحاسبـه على مهله ..
تعالى يا عمة أحلام اتفرجي وملي عينك ….
فجاء الخفير راكضًا من الخارج :
-حضرة العمدة ، إلحق نصيبة …
لم أحتمل نفسي حتى أرغب بنسخة مماثلة منّي، كنتُ أبحث عن شخص أجد فيه ما ينقصني شخصٌ يسد الثقوب التي أحملها ويملأُ الأجزاء الفارغة منّي، شخصٌ أرمّمُ جدرانه وأتقمّص أفكاره واختلس كلماته التي أغرقتني بنهر حُبه ، أكون فيه كما هو فيّ، شخص تتلاشى بيننا كلمتي أنا و أنت ..
روح واحدة في جسدين مختلفين ..
••••••••••
لطمت نجاة على وجهها وهي تترجاه :
-رؤوف بطل چنان ، أنا مش عاوزة اتچوزك ولا نيلة ، سيبني سيبني أربي ولدي من غير مشاكل .. أنا مش حِمل إنه يبعد عني ..
أمسك بمعصمها وهو يجذبها نحوه حاسمًا أمره بخصوصهم :
-نچاة خُلصت .. أنا مش هتچوز غيرك ولو السما انطبقت على الأرض ….
باغته طلق عيار ناري مر بجوارهم وصوت يصرخ من أعلى ويقول مذعورًا :
-عاوز أيه من مراة أخوي يا حضرة الظابط..
وقف رؤوف أمامهـا مدافعًا عنها بهيبته القوية وهو يوبخه :
-أنتَ عارف عقوبة اللي يضرب نار على ظابط ايه ولا افكرك !!
عانده” صديق ” بعنفوان :
-ظابط في وِحدتك عدم اللامؤاخذة ، لكن الدار إهنه له قواعد انا اللي عحكم فيها ..
تمالك رؤوف أعصابه ، فتدخلت نجاة لتُلطف الأمر :
-خلاص يا صديق ، رؤوف مش قصده وهو ماشي دِلوق !! مش إكده !!
مد رؤوف ذراعه أمامها ليُرجعها للوراء ووقف بوجهه قائلًا :
-ما تيچي نحلوها ودي !! البلد كلها خابرة إني رايد نجاة وچيه الدور عليك ، قبل ما أعاود هكتب عليها وأخدها هي وولدها يعيشوا معاي ..
-باه باه باه !!
تكدست النيران بعينه وهو يحملق بنجاة التي تندب على وجهها ليقول:
-دانتَ عفي على إكده وطايح في الكُل لا هامك عرف ولا كبير !!
ثم صرخ بوجهه :
-وطالما هي رايدة چواز ، مقالتش ليه كنت كتبت عليها ..
أفحمه رؤوف :
-هي رايدني وبس ، مش رايدة چواز .. ومهما كان رأيك ورأي أعرافك محدش هيأخدها مني..
عمت نظرات المكر بعيني صديق وهو يتلصص النظر لها :
-وأنتِ أيه رأيك يا عروسة !!
كل ما بها كان برتعش لتناظر رؤوف معتذرة وهي تعصر على قلبهـا :
-لاه مش عاوزة حاچـة لا رايداك ولا رايداه ولا عاوزة اتچوز ، وهو چيه إهنه وأنا سمعته رأيي ..
ثم شدت أوزار قوتها وصرخت بوجه سلفها:
-وفضونا من السيرة دي عاد .. أنا حياتي كُلها لولدي وبس .. أنا مش هكرر الغلط مرتين واتچوز راجل مش حابه ..
ثم نظرت لرؤوف بأعين يفيض منها البكاء:
-ولا هخش معاك في حرب تمنها ولدي ..
لتودعه بعينيها وتحاوره صمتًا آنتَ الوحيد الذي أحببتك عندما كان الحُب في عيني عدم .. وأنت الوحيد الذي رفضته وحبه بقلبي يرفرف كالعلم .. ثم استقلت سيارتها حاملة قفة حزنها وقلبها الذي يتقطر دمًا وهربت من حربهما التي لا تجلب لها إلا الخسائر …
حك صديق ذقنه بتوعد ليقول سرًا :
-أما فرچتك يا نچاة !!
••••••••••
-هيثـم أنا جاهزة ، هنروح فيـن بقا ؟!
خرجت ليلة من غرفتها وهي ترتدي بذلتها الشتوية المصبوغة باللون الأحمر القاتم وتحته سترة شتوية باللون الأبيض وكوتشي بنفس اللون ، الكاميرا مُعلقة برقبتهـا وأخذت تتفقد السماء الملبدة بالغيـوم فوقهم ، أطلق هيثم صفارتـه الانبهارية وهو يقول :
-مش معقول هتطيري عقول إكده يا ليلة !!
تأرجحت عينيها بعبث :
-يعني أيه ؟!
دنى منهـا وهو يغازلها بنظرات بريئة ويقول :
-كل ما تدخلي الأوضة دي تطلعي أحلى !! ألا قوليلي السر في الأوضة و أنتوا الچمال ديه عندِكم وراثـة ولا أنتي كوشتي عليه كله وخدتيه لنفسك !!
شرعت أن تسير بمحاذاته بالحديقة متجهيـن للبوابـة الخاصة بالبيـت وهي تقول :
-مش عارفة بس جدو وبابي كانوا حلوين أوي .. بابي كان شبه حسين فهمي كده ، بس يا خسارة عينيا مش ملونة زيه .. أخدت عينين مامي..
-ماهي مش بالعيـون يا ليلة .. بالروح ..
وضعت كفوفها فوق الكاميرا المعلقة وأكملت سيرها بخطوات أسرع وهي تمازحه :
-بكاش موت ، عكس أخوك العمدة .. ما بيعرفش يقول كلمتين حلوين !! أبقى علمه شوية .
حك شعر رأسه مفتعل الإحراج وهو يمس لها:
-هارون أخوي يعرف الجن الأزرق متاوي عياله فين ؛ لكن عند الحريم ويعطل .. فقري ما يعرفش أنهم نعمة واللي يكرههم يعمى ..
-لا أنتَ كارثة بجد ..
كان الضحك يكسو خُطاهم ولم يخلٌ الحوار من طرفات هيثم اللطيفة حتى لفت نظرها وقوف شاحنات كبيرة بدهليز البيـت ، وكالعادة سبقها فضولها متسائلًا :
-أيه العربيات الكبيرة دي !!
أخرج هيثم ريموت سيارته وهو يفتحها بضغطة واحدة على الزر ويقول :
-ديه تموين أول الشهر ..
وقفت تراقب حركة العمالة وكل منهم يرص الصناديق بالعربة :
-مش فاهمة يعني أيه ؟!
اقترب الاثنان من السيارة وهو يقول :
-شوفي يا ليلة ، مفيش بيت في العزايزة ينفع تكون تلاچة بيته فاضيـة ، إحنا إهنـه شُرفة ومعندناش طبقة فقيرة وطبقة متوسطة .. كلنا أشراف في مستوى واحد .. والعربيات دي مساعدات أساسية من المچلس هو متكفل بيها حتى ولو مش محتاجين لازمًا خزين الشهر يوصلهم مش ناقص غلاية رُز ….
استقلت سيارته وهي تحت تأثير دهشتها :
-لحظة بس ، يعني الحاجات دي بتتوزع كده ببلاش !! بس دي ميزانية جامدة ازاي !!
-ده العُرف !! العزايزة دولة چوة الدولـة ..
دور هيثـم سيارته متأهبًا للمغادرة تحت عيني هارون التي تركت براح البيت حوله واستقرت نحوهم وهو يراقبهم بملامح يفيض من الغضب الغير مبرر بل الأدق غيرة لا يسمح قلبه المغرور الاعتراف بهـا .. ما حرك هيثم سيارته ومر من أمام هارون فأجبر أن يوقف السيارة قليلًا احترامًا لأخيه وهو يفتح النافذة ويسأله :
-محتاچ حاچة يا عُمدة !!
لم يتكفل بنزع النظارة الشمسية عن عينيه كي لا يفضح دواخله ، كي لا يكشف عن عينيه اللاتي لا تُبصر سواها ، مازال محافظًا على معالم وجهه الثابتـة وهو يسأله بجدية :
-على فين ؟!
-مش عارف ، أهو مطرح ما رچلينا هتودينا !!
بوجه مستبد و طاغ وقلب هش كحلوى القطن ؛ كتم غيظه بداخله وقال بحدة :
-ما أنت لو مش محدد هتروح على فين يبقى بلاها طلوع ، ولا هي سرمحة وخلاص !!
زفرت ليلة بضيق من سطو أوامره وتحكماته التي لا تنتهي أبدًا .. وعقدت ذراعيها أمام صدرها مستندة على الباب وهي تتحاشى النظر له تمامًا مما آثار غضبه أكتر ، أخرج هيثم رأسه من النافذة وهو يغمـز له بطرف عينيه بألا يخجله أمامها وهو يقول:
-وسع صدرك هبابة يا عُمدة .. ليلة چواة عيني متعتلش هّم !!
رد بجمود ونظرته لم تتزحزح من عليهـا رغم تجاهلها التام لوجوده وهي تلهي نفسه بمشاهدة الرجال أمامها ، فهو لم يشغله خوفه عليها بقدر ما يفحمه تجاهلها له وتعمدها بألا تلتفت لوقوفه ، فقال بحزم وهو يشير بكفه :
-ساعة وتعاود ، ومش عاوز لف ومسخرة كاتير يا هيثم !!
أومئ رأسه بطاعة مسايسًا أمره معه وهو يعيد تشغيل سيارته كي ينجو من شظايا لهب أخيه المنبعثة نحوه :
-وأقل من ساعة ، هتزور الطريق وتعاود .
أشاح بغرور وهو يقول :
-وقولها تفرد بوزها ديه عالصُبح ، مش ناقصين فقـر .
دار هيثم إليهـا حاملًا رسالتـه ليُبلغها :
-عيقـولك مش ناقصين فقر وأفردي بوزك !!
اعتدلت في جلستها وهي تطل على هيثم لتقول بغضب :
-أيه العلاقة وبعدين هو ماله بيـا !!
حمل هيثـم جملتها الاعتراضية بمنتهى البساطة ليشعل النيران بينهم ليتأكد من شكوكه حوله أخيه :
-عتقولك مالكش دعوة بيهـا !!
سحب نفسًا طويلًا وهو يكز على فكيه ليصرخ مفجرًا طاقة غضبه المبهمة بأحد العمال :
-ما تشـد حيلك يا وِلد !!
أصاب الخوف قلبها إثر صوته المُرعد لتحث هيثم على الهروب بعجلة:
-هيثم أهرب قبل ما ياكلنا ….
الحُب ببدايته يكون كالطفل في مهده يبتدئ علاقتـه معك بالحبـو بدلًا من ثباتك بمكان والعالم يدور من حولك ، أن تحبـو في دروبه تتفقدها بفضول لا تعلم من أي جهة تسرب إليك وتدور أنت حول العالم ؛ عالمك الصغير الذي أعجبك ، ثم يعلمك المشي فـ الجري لتلحق الخُطى وتواكب سير العمر حوله .. ثم يسيطر على عقلك ويجعلك تتصرف كالصبيان ترسم وجه من أحببت بالطبشور على الحيطان وتدون اسمه على زجاج العربات المغبرة ، ثم ينتقل بك الحال لشاب يافع استبدل الطبشور بفرشاة ولوحات ، بقلم ومواويـل .. وتدرك حينها أن هناك أمرأةً قلبت تاريخك رأسًا على عقب وبتُ مذبوحًا فيها من الشِريانِ إلى الشِريان ..
ومن هنا جاءت لعنة الحُب لتُصيب قلبك وتغير مجرى حياتك يا أحمق .
عاتب هارون نفسه على اهتمامه المبالغ بها ، ولِمَ بات يطوف حولها كدبور عنيد يود لدغها بكلماته الجافة .. لِمَ بات لقاءها هدايـا وعينيها يتوه ، يتحول لصبي مراهق لم يعش فترة طيشه وهو بالسابعة عشر من عمرها ؛ لم يجد حلًا لاسئلة عقله المتراكمة والخالية من الأجوبة ليلجأ لحلـه السريع و ملاذه الوحيد في تفريغ طاقات غضبـه وهي لفافة التبغ التي لم تزور فمه لمدة ثلاثين عامًا ؛ فما حل عليه آخر خمسة أعوام يا ترى !! هل لكثرة ما فقده أم كثرة ما امتلئ بهِ !!
رج رأسه المتزاحم بالفكر وهو يعاتب نفسـه :
-ما خلاص يا هارون وشوف مصالحك عاد..
~بغرفة صفية .
رمت العباءة السوداء على كتفي زوجها المستند على عكازه وهي تبُخ سُمها بآذانه كعادتها وأخذت تواصل جولة ثرثرتها :
-لازمًا تشوف لك صِرفـة يا حچ الـچوازة دي قلبي مش راضي عنِها ، ولا البت نازلالي من زور .. كفاية فضايحها ..
ثم آتت بزجاجة المسك لتُعطر زوجها وأكملت مهددة بأسلوبها الكهين الذي يخالطه الترجي :
-البت دي لو قعدت على ذمة ولدي ليلة كمان أنا ههمل الدار وأروح لأخوي أقعد عنده وياني يا هي في الدار يا عمدة ..
كان يستمع لثرثرتها بهدوء لا يقطعه أي اعتراض وكإنه لم يستمع لحديثها من الأصل ؛ لأن رأسه غائصة في بحور الفكر التي لا تنقصها أبدًا ..
جلى حلقه وهو يطالع هيئته الشامخة بالمـرآة متذكرًا أكذوبة الطبيبة التي أوهمته بموت الفتاة التي يفتش عنها والتي لم يمر كذبها مرور الكرام على دهاء وفطنة رجل بعمره .. لقد صعبت عليه المهمة أكثر من قبل ، ألتفت لباقي ثرثرة صفيـة التي تمسح برفق على كتفه وتقول بفرحة :
-هاخد البت زينـة وأمها وأبوها ونشوفوا شبكة هارون ، خلي الفرح يخش بيتنا يا حچ ، بزيادانا ميآتم !! يبقى ولا بت ولا واد !! ديه أيه الخلفة اللي تُغُم دي!!
ما صبرت بأن تسمع رد فأعقبت مغيرة الحديث :
-والبت المصراوية بتاعت هيثم دي ، قعدتها طولت ؛ خليها تعاود بلدهم الناس تقول علينا أيه ؟!
عاتبها خليفة بنفاذ صبر بأسلوبه اللطيف:
-أنتَ فطرانة أيه على صُبح ربنا للرأس العمرانة دي كُلها يا صفية !!
هبت بوجهه مدافعة عن نفسها:
-حرمان يا حچ ما دوقته !! وأجيب نفس منين بس!!
لملم خليفـة شتات فكره من أمام صفية كي لا تزيد سوء الأمر عليه وغادر الغرفة متجهـًا نحو غُرفة هلال الذي جهر مناديًا بقوته المعهودة وهو يطرق الباب بمؤخرة عكازه :
-هلال !!! يـا هلال ..
تراقص قلب صفية فرحًا وهي تراقبه من باب غُرفتـها وتشكر ربها بأنها ستتخلص من هذه الغُمة الليلـة ..
توقف هلال عن ارتداء قبعة رأسه ليلقي نظرة مؤسفة على تلك التي تتنفض تحت فراشها وفتح الباب مُرحبًا بأبيه وهو يخرج له ويوارب البـاب خلفه :
-خير عليـك يا أبوي ..!
سأله بحدة :
-أومال فين مرتك !!
أطرق وجهه بالأرض وهو يقول :
-نايمـة يا حچ ، تحب أصحيها ؟
ربت الأب على كتفه وهو يتأمل ملامح وجه ابنـه بمهارة باحثًا على جواب لأسئلته ، اكتفي بقوله :
-اللي حُصل في المچلس لساتني مالومتكش عليه .. بس مش وقته ؛ خليك چار مرتك لغاية ما تعدي محنتها وبعدين هنشوفوا ..
اختصر الحديث مع والده وهو يتقبـله بسعة رحب :
-اللي تؤمر بيه يا أبوي ..
هز رأسه بحكمة :
-تصحى مرتك ونزلها تاخد بحس أحلام ، بلاش تقعد لروحها بين أربع حيطـان ..
حلت النازلة على قلب صفية التي خاب أملها وهي تدب على صدرها بحزن :
-ديه ناوي يچلطني هو وعياله !! عملت أيه أنا بس لي حياتي يا ربي عشان يچرالي ديه كله !!
ثم لوحت بكفها متوعدة :
-وديني يا رقية ما طفشتك من إهنه مبقاش اسمي صفيـة …
عاد هلال لغُرفتـه و رد بابها بهدوء ، خطى خطوتين نحو تلك المنتفضة تحت فراشها ولكنه تراجع ، تردد ، ثم عاد لها مرة آخرى مناديًا :
-رقيـة …
لم تُجبه اكتفت بغلق عيونها المتورمة وشد اللحاف فوقها ، استغفر الله في سره وتقبل الأمر بسعة صدر، أمسك بمصحفه وحرك الحامل المعدني نحو أقرب مقعد لتختها وشرع في تلاوة سورة ” الدخان ” بصوته العذب الذي يحرك كل ساكن .. ما سمعت أول آيتين بصوت أصابتها رهبة وعظمة القرآن الذي أجبرها بدون نقاش أن تكُف عن البكاء مستمتعة بدرجة الخشوع والإيمان الذي يقرأ بها .. ما قرأ عليها عشرة آيات فأجبرت أن تعتدل من نومتها احترامًا لما يتلوه ، ازاحت اللحاف عن وجهها ونظرت له بأعين ذابـلة يحرقها الحزن لترمقه باستغراب حول نوع السكينة التي سربها صوته لقلبها فلقد كان بريق صوته قاربًا صغيرًا يحمِلها إلى برِّ الأمان والإيمان خيرها وشرها .. شبح ابتسامة طفيفة شقت محياه لأنه عثر على طرف الخيط الذي يوصلـه لقلبـها وأكمل قرآته بصوته الذي نال العديد من الجوائز والشهادات من الأزهر الشريف ….
“يكفي من الحُب بأنني كُلما نَظرتُ إلِيك شَعرتُ بِأنّ قَلبِي بردًا وسلامًا وهو في جُب النيران ”
•••••••••••
وصلت ليلـة مع هيثـم لساحة واسعـة من الأراضي المزروعة ، مهما امتد النظر فلم تحصد نهايتها ، هبطت مش السيارة وقفلت بابها برفق لتتساءل :
-إحنا جينا هنا ليه !!
تفقد هيثم المكان حولهم وهو يدخل كفوف بجيوب جاكته الشتوي ليقول :
-دي چنة العزايزة ، الزرع إهنه عيطلع أحسن من أيتها حتة تانية ، هتبصي في كل حتة تلاقي خُضرة وزرع وو
ثم دار نحو اليسار ليشاور لها على البناء الضخم :
-اللي هِناك ديـه مرعى العزايزة فيه أكتر من خمستلاف راس وطيور على عچب عينك ..
ثم أشار الجهة الآخرى :
-ودي چنينة هتاكلي منيها أحلى فواكه ..
ثم دار للخلف و تلعثمت الكلمات بفمه وهو يلاحظ الفتاة التي تُثير فضوله تهبط من سيارتها النصف نقل ليقول بشرود :
-ودي حور عين چنة العزايزة وو ..
التفتت ليلة نحو ما يشير متعجبة عما سيقصده حتى اندفع قائلًا :
-ليـلة .. ليلة أيه رأيك في چوز العينين اللي بيغرد هناك ديـه !
مال هيثم على مسامع ليـلة بتخابث وهو يتهامس لها مشيرًا نحو الفتـاة التي تقف بمنتصف الغيط ، تشـد الوشاح على أنفها وتصرخ بالعمالة وتآمرهم بالعجـلة ، امتدت أنظار ليلة لعندها لتُراقب فتاة يحاوطها الزرع من كُل جهـة ، ذات صوت جميل ولكنه حاد الطباع ، تجمهر بقوة عشـرة رجال لتوقد العشرات من العمالة بأرضها .. ترتدي فستانًا طويلًا مريجًا باللونين الأحمر والأسود ، اتكأت على مقدمة السيارة الخاصة بهيثم مبنهرة :
-واو !! دي حبيبتك يعني ؟! أحكي لي ..
مسح هيثم على صدره متنهدًا وهائمًا في بحر خُطاها :
-اسمها چميلة بت الخواجة مهندسة زراعة ، من النسل المطرف للعزايزة ، هي من فرع عيلة أحلام والوحيدين اللي عينيهم ملونين في العزايزة ..
انجذبت ليـلة لحديثه عنها وقالت :
-طيب ما حلو ده !! باين إنك معجب بيها .. ما تتقدملها ؟ بس لحظة لحظة يعني ايه نسل مطرف !!
-اسألي عليها أحلام دي !! هتحكي لك كل حاچة و..
ثم دار نحو ليلة ليقف الجهة الأخرى وهو يطالع خط سير جميلته السرية ويقول بقهر :
-معششة في مخي ليها فترة بس ملهاش دخلة بت الـخواجة ، أمها وأبوها ميتين وعايشة مع جدتها بتراعي أخواتها صغيرين وبت كيف القطر ملهاش كبير ياليلة ..
جاءت ليلة مقترحة :
-طب هيحصل أيه لو روحت كلمتها !! جربت ؟
حانت منه نظرة متحسرة وهو يسمعها تصرخ بالشاب العامل ويقول بحسرة :
-طب بذمتك دي كيف دخلتها !! خايف أمسي عليها تدوسني ..
انفجرت ليلة ضاحكة بأعين دامعة من شـدة الضحك :
-لك حق تخاف !! عارف دي عايزة مين بجد .. دي عايزة واحد زي العمدة هارون ده .. جامد وشديد ..
أسبل عينيـه معاتبًا :
-أيه تخبيط الحِلل دهوت يا ليلة !! لعلمك محسوبك مش سهلة بردو ، ده هارون ديه يتعلم مني وعشان الكلمتين دولت ؛ اتفرچي على الدخَلة دي …
انفرجت عيني ليلة لتوقفه صارخة عندما لاحظت سيارة هارون تقترب منهما ، فلحقته :
-هيثم هيثم .. هولاكو جيه ؛ قصدي هارون العمدة أخوك جاي علينا ..
تراجع هيثم عن فعله وهو يرمق جميلة التي تصرخ بصوتها الذي يردده الجبال ليحك رأسه قائلًا :
-وشكل چميلة كمان مش فاضية ، أبقى نفوتوا عليها وقت تاني …
غرق الاثنان بالضحك حتى هبط هارون من سيارته متواريًا خلف نظارته السوداء متعجبًا من تواجدهم بزيف :
-أنتوا إهنه !!
دارت ليلة ظهرها عنه وأخذت تلتقط الكثير من الصور العشوائية متجاهلة تواجده بالمكان وصوته الذي يرن بقلبها وليس بمسامعها ، فسأله هيثم :
-عرفت كييف مكاننـا !!
تفقد هارون المكان بغرور كي يشتت انتباهه عنها وينكر إخباره بواسطة أحد العمالة :
-وأنا هعرف منين !! چاي أشوف الأرض وو
وشوش له هيثم :
-چميلة بت الخواچة عمالة قلبان ، سامع صوتها !!
أشاد هارون مُعجبًا بشخصها :
-بت چدعـة وهي اللي ماسكة المشتـل چوة وعاملة شغل تقيـل وو
لكزه هيثم :
-هِرن أنا محتاچ واحدة زيها في حياتي ، كلام في سرك أصل أحلام كسلت تربيني معاكم .. وواضح أنها عاچبك ، ما تخطبهالي .
دار ليلة التي تزرع آذانها بينهما لتقول:
-هيثم !! أنت ملاحظ بتقول أيه !! عاجباه هو ويخطبهالك أنت ليه !! أنتوا بتعبدوا أيه ؟
زفر هارون بضيق :
-عاچبك إكده سمعتنا كلمتين ملهمش لازمة !!
فتدخل هيثم بينهما :
-اصل ذوقي أنا وهِرن واحد .
عارضته بتمرد :
-لا مش واحد !! يعني مثلًا أنا وأنت أهو صُحاب ..-ثم أرسلت له نظرة مؤسفة- وأنا وهو معرفناش نكون صُحاب .. يبقى ذوقكم مش واحد ..
ثم رسمت ابتسـامة خفيفة على ثغرها الرقيق متعمدة إثارة غضبها وتقول :
-تحب أبشرك أنها هتكون من نصيبك ..!!
تحمس لجملتها قائلًا :
-أيه مخاوية وهما اللي قالولك !!
اندست الضحك بجوف هارون الذي حفظها جيدًا وهو يطوف بعينيه في الفضاء الفسيح ليقول ساخرًا وهو يولي وجهه عنهم :
-هتخبطك واحدة أصل الأسطورة بتقول هتچيب أجلك ..
زفرت بضيق وهي تلوح بكفها :
-سيبك منه بس وخليك معايا ..
رغم أنه كان واقفًا مصدرًا ظهره لهما إلا أن مسامعه كانت تتجسس على كل كلمـة تقولها ، فأتبعت بحماس :
-في أسطورة بتقول أن الأسماء المشتركة في حرفين أو أكتر هيكونوا لبعض .. يعني أنت هيثم وهي جميلة .. الميـم واليـاء من أقوى الحروف في علم الفراعنة المُصنفة للحُب والعلاقات .. ولو تلات حروف هيبقى مابينهم حب أفلاطوني الدنيا كلها تتحاكى عنه ..
ألتوى ثغر هارون جنبًا بضحكة ليست ساخرة ولكنه وجود متاعه بحديثها الشيق ، فكر هيثم بالأمر وهو يزن الأمر برأسـه :
-اه يعني أنتِ ليلة وأنا هيثم ، كده مفيش غير حرف بس مشترك ، يبقى ما ينفعش .. طب لو مشتركين في حرف واحد يبقى إعجاب بس !!
هتفت بفرحة :
-الله ياهيثم بقيت تقول أساطير زيي !! دماغك حلوة ..
راقت له الفكرة وهو يقول :
-استنى نچرب تاني عندك مثلا هارون وليلة !! ده ولا حرف يبقى طربقت على الأخير وأهي مطربقة من غير حاچة !! و وخليفة وصفية !! بس أحلام وخليفة ؟! ده حرف بس !! معقولة الحچ خليفة يكون معجب بس بـ أحلام وعيشتغلنا ..
-لا يا ناصح حرف الخاء من فصيلة حرف الحاء .. كلهم في مجموعة واحدة !!
زفر هارون بسخرية وهو يدور لهم مانعًا إظهار ضحكته التي تلمع بعينيه :
-العقل زينة بردك !!
انكمشت ملامحها وقالت منسحبة كي لا تغوص معه بأي شجار وهو تطالع رقم أمها يملأ الشاشة :
-هيثم ، هرد على مامي …
هتف هيثم فارحًا :
-سلامي وقُبلاتي للست الوالدة اللي چابت الچمال ده كله وو
ألجمه هارون بنظرة حادة أخرسته ثم رد على هاتفه هو الآخر وهو يوزع أنظاره هنا وهناك لترسـو عليها بالآخير ، ثم جهر قائلًا :
-تمـام هبعتلك هيثـم دِلوق يراچع الحسابات ومشوره كيف ما تحب ..
تدخل هيثم معارضًا :
-هتبعتني فين !
-تطلع دِلوق على المهندس خالد وتراجع الحسابات وقبض الموظفين في المصنع ..
-طب أروح ليلة وأروح ..
ربت هارون على كتفه قاصدًا زحزحت أخيه الواقف بينهما وقال بفظاظة :
-اخلص يا هيثم ، مفيش وقت للمراچيح دي !! هابقى اروحها أنا …
زفر هيثم بضيق وهو يتمسك بملابسـه :
-ماشي يا هارون .. أهو ماشي.. بالراحة على البت مش قدك ..
••••••••••
~بغُرفة أحلام .
بعد ما أكدت ” أحلام” على الفتاة التي تُساعدهم بالبيت والتي قدمت لهما الشاي وأوصتها تغلق الباب جيدًا خلفهـا ، مدت الكوب لزوجهـا وسألتـه بفضول :
-دماغي شغالة تودي وتچيب يا حچ ، طمني عملت أيـه مع الداكتورة ؟!
تناول الكوب بيده المرتجفة وهو يقول بهدوء لا يتناسب مع منطوقـه :
-ما نكرتش الحكاية ؛ بس قالت لي البت ماتت بعديها بأسبوع .
هبت أحلام بحرقة :
-موتة في قلبها ، بعيد الشـر ..
ثم تلعثمت الكلمات بفمها وهي تُفتش بدواخله :
-طب وأنتَ أيه شورتك ..
رد بيقين :
-كدابة يا أحلام ، لقيتها اتنفضت وتهتهت في الحديت واتكربجت كأنها لدغتها عَقربة ، وبعدين حبت تنومنـي وقالت مامت ..
ثم رسم ضحكة ساخرة على فمه :
-فاكراني عيل صِغير ، بس أنا بلعتها الطعم وخليت واحد من الوِلد يُقطرها .. وأديني مستني ..
تنهدت ” أحلام ” بارتيـاح وهو تلكزه لتقوم بمشيتها العرجاء تفتح خزانة ملابسه وتفتش على ألبوم الصور القديـم ، ثم عادت إليـه والبشاشة على وجهها :
-اسمع الحديت اللي عِند أحلام..
تأوهت وهي تجلس بجواره لتُكمل :
-الصحفية اللي مع الواد هيثم ..
-مالها يا أحلام !! دي صفية ماسكة ودني وبالدين بالعافية إلا أمشيها ..
تنهدت بملل:
-سيبك من صفية دِلوق ومرطها ، اسمعنى للآخر .. أنت عارف البت طلع اسمها أيه ؟! ليلة سامح الچوهري ..
تراقص الكوب من يده والتفت لها خليفة بإهتمام واتسعت عينيه ، فأتبعت أحلام :
-عملت زيك بالظبط .. البت اسكندرانية والچوهري وأنت رايح اسكندريـة ، قولت بس ، دي آكيد بت عمهم ، قريبتهم من العيلة وهنلاقـوا اللي عندوروا عليـه عندها ..
تلهف لسماع المزيد :
-وبعدين يا أحلام ، قالت لك أيه ؟! قولي ..
أتبعت أحلام ببشاشة :
-روحت ميلت على ودان هارون وقبل ما أسأله عليها من كلمتين لقيتوا عيقـول دي چدها كان لواء إهنه واسمه رفعت الچوهري أكيد أبوي الحچ يعرفوا !!
تلك الآمال الصغيرة التي يتعلق بها المرء بعد أعوام من البحث كأنها تعثر على ثقب صغير دومًا في بقلبك تُخيطه ببعضه لتسد فراغات ما كنت تبحث عنه ؛ جلى حلقه غير مصدقًا وهو يتنفس بلهفة :
-كملي كملي يا أحلام …
فتحت الألبـوم على صورة “مهـرة” صديقتهـا وقالت :
-شوف يا حچ نظرة أحلام وقلبها اللي عمره ما ضلها واصل ..
فرغ فاهه بعدم تصديق وهو يقول :
-أنا كيف مخددتش بالي !! يعني البت هي غفران ولا ليها أخت !! رسيني يا أحلام ..
ابتسمت أحلام بوجهه :
-لا هي نفسها يا عمدة ، وتبقى أمها الداكتورة اللي أنتَ سافرت لها بس ووو
قاطعها خليفة غير مصدقًا :
-الدنيا دي صغيرة قوي قوي يا أحلام خُرم إبرة !! يعني أنا سافـرت عشان أدور عليها والبت في بيتـي ؟؟؟ بس بردك لازمًا اتأكد ..
ترددت أحلام في إخباره عن أمر الأدويـة ولكنها تراجعت حتى تتأكد من هارون ، ربيت أحلام على ركبته لتهنئه :
-خلاص يا حچ اللي عندوروا عليه ليقنـاه ، ريح لي قلبك وفكرك !!
تلهف الحج قائلًا :
-اتأكد بس ، وسيبي الباقي عليّ .. عارفة المُشكلة فين !!! هفتح ملفهـا قصاد مچلس العزايزة كيف ؟! وو
طبطبت أحلام على قلبه بكلماتها الأشبه بالنسيـم :
-اللي چابها لغاية قعر بيتك هو وحده اللي هيحلها يا حبيبي ..
لقد طار عقل الحج بمعرفته لهوية ” غفران” الفتاة التي فتش عليها بتراب الأرصفة ولم يجدها ، بلل حلقها غير مستوعب فرحة الخبر وهو يقولد مقترحًا :
-نچوزوها لهيثم .. وتعيش وسطينا وتاخد حقها وو
قاطعته أحلام بيقين قلبي :
-چوزها ونصيبها هينديها لوحده يا حچ ، سيب الموضوع ديه عليّ ..
دقت صفية الباب وبدون إذن بالدخول فتحته وهي تقول :
-متأخذنيش يا عمة ، بس المچلس مشيعين للحچ خليفة وعاوزينه ، آكيد كله من تحت الچوازة الغبرة دي ..
وشوشت لزوجها قائلة وهى تلبسه العباءة :
-قوم شوف لك صِرفة مع البت دي أنا تعبت معاها يا حچ .. أنا ربيت ٦ عيال متعبونيش كديها ..
-ربك يهديها ..
ثم أعقبت صفية والفضول يقتلها حول الموضوع الذي يشغلهم وخروج ألبوم الصور القديمـة ، قفلت أحلام الألبوم بسرعة وسألتها :
-علي فين إكده ؟!
هللت فارحة :
-رايحين نچيبو شبكة هارون وزينة ، دعواتك يا عمة يتم الچوازة على خير !!
تمتمت أحلام بتمنى لنفسها وهي ترجع الألبوم لمكانه :
-شالله ما تتم يا رب اسمع مني …
••••••••••
قلوبنا لا تؤمن بالنهايات.. فهي لا تملك هذه الرفاهية ، رفاهة إنهاء شيء عانق قلوبنا ثم نسيانه .. فهي مازالت مُحملة بجروح عتيقة ، علاقة فريدة تحيا في القلب، غصة، خيبة صديق، ذكرى شخصٍ رحل وترك وراءه قلبًا تنهشه ثلجية الوحدة ، ندبة طفولة، آثار صفعة، أو رقة قبلة كل شيء هو للأبد باقٍ ، باقٍ هنا بقلوبنا الحمقاء …
تبدو أمامه بهدوء غريب رغم كون قلبها يرتجف ، كانت ” رغد ” تعاونه في ضب حقائب وهو يستعد للسفـر والعِبرات متكدسـة بعينيهـا ولكنها مخفية عنـه .. لملم زجاجات عطره وهو يقول آمرًا :
-رغـود ، من البيت للشغل من الشغل للبيت ، لا كامب ولا سهر ولا صحابك السوء دول ..
كانت تحضر ملابسة المرتبة فوق بعضها من الخزانة بطاعة :
-حاضر والله .. وكمان هرجع أشتغل بايدي تاني وهعملك هدايا كتير ترجع تلاقيهـم وو
ثم قفلت جفونها كي لا تفر منها الدمعة وقالت :
-المهم ١٥ يوم وبس زي ما قولت ؛ متتأخرش عن كده ..
جذبها من خصرها إليه ليطبع قُبلته الطويلة على بجدار عنقها ويقول :
-أصلًا مقدرش اتأخر عن كده !! أنتي عاوزاني أموت فيها ؟!
عارضته بدموع تفجـرت بوجهه :
-هاشم ممكن بلاش السيرة دي بقا ، حرام عليك وو
شدها لعنده ليداعب خصلات شعرها المتطايرة ويتلقى عبرات المنهمرة ليقول معتذرًا :
-رغود حبيبتي اهدي !! أنا رايح شغلي مش رايح أحارب .. وبعدين أنت مش واثقة في قدراتي كظابط جيش ولا أيه !!
جففت وجهها المبلل بماء الحزن وقالت :
-لا طبعًا واثقة بس ..
فباغتها ملاطفًا وهو يطوق خصرها ويحدق بدموعها :
-طيب وقدراتي كزوج .. !!
انفجرت ضحكة خفيفة من جُب حزنها وهي تعاتبه :
-متهزرش عشان ده مش وقت هزار !!
-أومال وقت أيه ؟!
ثم ضاقت عينـيه بتخابث :
-يعني واثقة من الأداء الحربي والأداء الحُبي مش وقت هزار !! بت اتظبطي بدل ما اظبطك على مزاجي الساعة دي..
حدقت بعينيه اللاتي عشقتهما وهي تمرر أبهامـها فوق ملامحـه وقلبها يتساءل : لِم الخوف من الخوف ؟! لِمَ الفراق يرفرف فوق دارنا ؟! لِمَ أحببتك وحدك من بين الجميع ؟! ولِمَ سأجني أوزار أشياء لم اختارها ؟! يعلم ربي بأني فعلت المستحيل لأبعدك عني ولكنك آسرت قلبي وعقلي حتى بات طوعًا لك !! لمتى ستظل ذيول الحزن ترافقني مهمـا غادرتها.. بات بين أعينهم بحرًا من العتاب ونهرًا جاريًا من الحب !! من سيقنع الآخر بمصبـه يا ترى !!
اهدته قُبلة خفيفة قبل أن تعانقـه عِناقًا طويـلًا وتعترف له :
-هاشم ، أنا بحبـك فوق ما أنت تتخيل ويمكن أكتر ما أنت بتحبني كمان .. وو
قاطعها قائلًا بمزاح :
-بس أنا بحبك أكتـر .. وممكن اثبت لك ..
-محدش هيحبك أد قلبي في الدنيا وبلاش الحركات دي عليـا يا هاشم بيه ..
أمسك بذقنهـا وهو يجذبها إليها ممازحًا :
-مش إحنا اتراهننا ليلة إمبارح وأنا اللي كسبت !! بتنكـري ليه !
أحمر وجهها بحُمرة المشاعر المدججة بينهما وهي تتذكر تفاصيـل تحدي الحُب الخاص بينهما بليلة أمس حيث أعلنت هزيمتها أمام حبه بجدارة فحدقت بعينيه :
-اللي يهمني أن عمري ينتهي وأنا جمبك .. وهستناك تغلبنـي دايمًا ..
كاد أن يُجيبها ولكن قطعه صوت رنيـن هاتفـه فتبسم بوجهها وقال :
-ده مين الرخم ده !!
فارقها وهو يقترب من هاتفه ليرى اسم هارون فعاد معتذراً :
-لا ده هارون بيـه ، منقدروش نتكلمـو ..
ثم رد على أخيـه مُرحبًا وهو يمسك بورقة وقلم ليكتب رقم ما وهو يحاور أخيه الذي أخبره :
-هنصطادوه ، أعمل اللي اتفقنا عليـه بس وأنا هطيرهولك من قنا كُلها .. شريف أبو العلا لازمًا يتربى !!
رد هارون بثقة :
-كله تمام ياسيادة الرائد ..
انهى مُكالمته مع هارون ومد لها ورقة مكتوبًا عليها رقمه وهو يقول لها :
-رغود ، ده رقم هارون خليـه معاكي احتياطي محدش عارف بكرة مخبي أيـه …
~العزايزة …
عادت ليلة بعد إنهاء مكالمتها مع أمها التي أمرتها بالعودة في أقرب وقت وظلت تسألها اسئلة غريبة لم تدرك لها معنى حتى اطمئن قلب نادية قليـلاً بأنها لا تعلم شيئًا .. أخذت تتفحص المكان وتفتش عن هيثم :
-هيثم راح فين ؟!
وضع هاتفه على مقدمة سيارته وقال بمكرٍ :
-باين له خلع ..
-يعني أيه خلع !!
-مخابرش !! هو مش سبق وعملها مرة ، يعملها التانية عادي..
زفرت باختناق وهو تدور حول نفسها بنفاذ صبر حتى اقتربت منه مشيرة بسبابتها :
-أنتَ اللي مشيتوا صح !
رد بجمود :
-وأنا هعمل إكده ليه !! شيفاني فاضي عشان أقعد مستنيكي لغاية ما تخلصي !! ديه بس من أصلي وعدي الچمايل ..
رفعت حاجبها غير مصدقـة ما يقوله وهي تشُم رائحة المكر من بين كلماته لتقول معاندة :
-تمام .. يبقى تستناني لحد ما أخلص .. في صور كتير هنـا لسـه هاخدها ..
ثم رفعت سبابتها بوجهه:
-بس يكون في علمك انا لا هكلمك ولا تكلمني ولما اخلص هركب العربية الكرسي اللي ورا وتفهم إني خلصت فتيجي عشـان توصلني ..
عض على شفته السُلفية وهو ينادى على أحد الصبيان العاملين بالأرض ويزرعون القمح بصوته الرعدي متجاهلًا أوامرها :
-حمي قلبك منك له لسه قِدامنا كتير ..
تأففت بضيق وتركته مغادرة وهي تتوعد لهيثم علنًا .. ظلت تتفقد الطرقات والأشجار والجنائن وشجر الرمان الحزين ، وهو تعمد تجاهلهـا تمامًا ولكن كيف تتجاهل الأعين عن نفسها؟! كان يراقبها بعينيه كمن يراقب طفل صغير يخشى أن يتوه منه .. لاحظ وقوفها تحت شجرة البرتقال وهي تقفز محاولـة ألتقاط الثمرة المُعلقة فوقها ..
نزع جلبابه الصعيدي وتركه بالسيارة واقترب منهـا بخطوات واسعـة ولكنها هادئة لا تحدث صخبًا .. في حين محاولتها باستخدام العصا لتوقع الثمرة سبقتها يده لقطفها وفي لحظة ما تلقت يمينه الثمرة و تلقتها يساره إثر فزعها فتعرقلت قدمها بالضفة الطينية التي تحيط بالشجرة ..
لقد سقطت على سهوة من الغصن في رياح الحب كعود ريحان ضئيل لكن ما حدث ، أن قلوبهما تعطّرت .. تعرقلت ببعضها البعض .. فقُرأت تعوذيـة الحُب عليهمـا ..
قمرٌ بيساره يجاور قلبه ويلقي عليه الحُب ، ونجمة بيميـنه كأنه جاء بها من السماء لعندها رمزًا بأنه سيفعل المستحيل لأجلها ، بدون أي عتاب بينهم غمغمت وهي تتشبث بذراعه:
-مرسي لحقتني ،كُنت هقع ..
كانت أصابعـه تطوق خصرها الصغير وهو يقول ملاطفًا :
-وأيه الچديد !! ما أنتِ تملي عتقعي وو
عاد لها رُشدها في الحـال وهي تستعين به لتنصب قامتها وتنفض بنطالها من الغبار وتعاتبه :
-البدلة باظت وو
تمتم بصوت لم يصل لأذانها وهو يعلن ضجره من اللون الأحمر :
-بدلة الإعدام اللي لابساها ديه !!
-بتقول ايه !!
ثم غيرت مجرى الحديث فورًا وهي تُشير نحو حظيرة واسعة :
-أيه اللي هناك ده !! ينفع نروح هناك !!
لم تمهله الرد أيضًا وتوقفت بعد خطوة قطعتها لتسأله :
-مضطرة أصالحك الشويتين دول عشان مش قدامي غيرك للأسف ؛ ولمـا نروح هخاصمك تاني !! اتفقنا
شد كُم جلبابه المثنى وتابع خُطاها ليقول بصوت خفيض :
-قلبك أسود يا ليـل ..
-أنتَ قولت ايه ؟!
-اللي تشوفيه ، بس نخلصـوا ..
ثار الاثنان فوق الخط الفاصل بين الأراضي الزراعية ، كانت خطوتها عرجاء تتمايل هنا وهناك لتعرجات الأرض عكسه تمامًا حيثت كانت خطواته تدرك مقصـدها جيدًا .. أسهبت في الثرثرة كعادتها وأسهب في الاستماع لهـا وكأن هناك أرض جافة متعطشة وتلاقي بسيـل من الماء ، فكانت أرضيه متعطشة لري كلماتها وحدها .. أول مرة يكتشف صبره على الاستماع لإمراة ، ترابيس صبره كانت توصد الأبواب بوجه كُل من يدق فوقها ، إلا هي ؛ فتح بوجهها جميع الأبواب والنوافذ وهو بكامل متعـة رغم تفاهة ما تقـوله ..
وصل الاثنان لباب الحظيرة فنظرت له :
-انا ينفع أدخل ولا دي بتاعت حد !!
-دي بتاعت صفية ، كُلها ديوك رومي مربياهم هي …
ثم دق الباب لتفتح لهـما حارسـة المكان وقبل أن تسأله اندفعت كالفراشة لتلقي بنفسـها بين معشر الديكة .. فرك لحيته وهو يقول بحسرة :
-طب اتلقي اللي هيچرالك وو
لحظات قليلة وجاءت هاربة تصرخ وتستغيث به وخلفها مجموعة من الديكة يلحقونها ويزفونها بأصواتهم المميزة ، احتمت بظهره صارخة :
-الحقني والله ما عملت حاجة هما اللي اتعصبوا لما شافوني ..
تدخلت الحارسـة لتبعدهم عنها وأخذها هو للخارج تحت سطو ضحك ، نظرت له بذعر :
-أنتَ بتضحك !! والله ؟! آكيد أنتَ اللي قايلهم وو
قاطعها وهو يبتلع ضحكاته :
-ما لازم يتعصبوا لما يشفوكي ببدلة الإعدام دي !!
-يعني أيه مش فاهمة !!
-مقرتش بين أساطيرك أنو اللون الاحمر عيستفزهم ، وأنا وارث داء الديوك ديه منيهم .
ثم رمقها من رأسها للكاحل :
-ومن ساعة ما شوفتك وانت معصباني ..
وضعت أناملها على شِدقها :
-أحيه يعني هما مش بيحبوا اللون الأحمر !!
-وأنا كمان ..
ردت بعفوية :
-أنت مش مهم ، بس دي معلومة جامدة أول مرة أعرفها …
قطم شفته بغيظ:
-ياصبـر الصبـر .. هي أحلام مقالتش ممنوع البنات يلبسوا أحمر صِرف في بلدنا ؟
-لا مقالتش ، بس ليه ممنوع !
-عشان عيـب !
-ايـه ؟!
-ديه عاداتنا ، العروسة بس اللي مسموحلها تلبس أحمر .. اف تعالي تعالي أما نشوف أخرتها معاكٍ .
••••••••
~مساء
عادت نجاة لمنزلها بعد يوم طويل بشغلها بالوحدة الصحية .. حيث كانت تجر خطواتها جرًا .. فتحت الباب الحديدي ثم دلفت لداخله وقفلته خلفها .. سارت خطواتها نحو بيت العائلة .. فوجدت حماتها تنتظرها بالطابق السفلي .. ألقت عليها التحية ، ثم سألتها :
-مازن نام ولا لسه يامراة عم ..
أجابتها بضيق دون أن تناظرها :
-مالكيش عيال عندينا يابت رابحة ..
لم تستوعب مغزى تلميحاتها :
-لا مفهماش ؟! يعني أيه ؟!
هنا تهجم عليها صديق بصوته قبل يده التي تناولتها بدون رحمة :
-اهلا يا عروسة طب زين والله إنك لساتك فاكرة عندك واد عاوزة تربيه ..
ثم تجاهل أصوات استغاثتها وجرها خلفه بمنتهى الوحشية :
-هي مش أمي قالت لك مالكيش عيال عندينا ؟! عاوزة تروحي تتجوزيه روحي محدش مانعك بس انسي ولدك ..
انفطر قلبها لنصفين وهو تترجاه :
-ولدي فين ياصديق وديت الواد فين انطق .. يا مراة عم عشان خاطري ولدي فين ..
دفعها صديق على المقعد بكل ما أوتي من قوة وهددها :
-تنسي حاجة اسمها ولدك لغاية ما ترجعي لعقلك ..
ثم مسح شدقه بكم جلبابه وهو ينهرها بعنف :
-شكلنا دلعناكي عالاخير .. خروج وطلوع وبيات براة البيت ولا ليكي حاكم ولا رابط ؟! لكن خلاص عيني فنجلت عليكي .
قاطعته متوسلة :
-أحب على يدك يا صديق .. أديني ولدي وربنا ما هعمل حاجة وهعيش أربي ولدي العمر له بس متحرمنيش منيه ..
طالعها بنظراته الدنيئة والتي ترغب فيها من قبل زواجها بأخيه .. والأن قدمت له كقربان :
-هتشوفيه بس لو عقلتي يا نجاة ..
ثم سحبها بقوة لم ترحم ضعفها وهو يقول :
-مفيش مرواح الوحدة دي تاني ..فضناها
ثم ألقاها بداخل الغرفة فارتمت كقماشة بالية بالأرض وأوصد الباب خلفها :
-وهتفضلي محبوسة إهنه لغاية ما تقولي حقك برقبتي …
ثم رفع سبابته معلنًا ولم يراعٍ شعور زوجته الأولى :
-قصادك ياما .. توافق على جوازي منيها هتشوف ولدها وتعيش عيشة هنيه .. هتفضل سايقة العوج يمين تلاته اتاويها قبل ما تعرنا ..
ظلت تضرب على الباب بقوة وتستغيث بأهله ولكن لا حياة لمن تنادي عليه الجميع اتفقوا على قوله ولم يستمع لها أحد ..
********
~بمنزل خلفية العزايزي ..
أحتشد الجميع في ساحة البيت الواسعة .. فكان جالسا كل من أحلام وهارون وأبيه بمجلس منعزل قليلًا .. وبالمجلس الأخر كانت تجلس ليلة مع هيام وهاجر وفردوس يتبادلن الحديث والضحك .. كانت عيني هارون طائفة على عكس عادته لأنها للأسف نفذت وعدها له كما قالت .. منذ أن وطأت أقدامها أعتاب هذا البيت أعلنت عليه الخصام من جديـد ..
كانت نظرات أحلام وخليفة لم يفهمها أحد غيرهما وهما يتلصصان النظر من ليلة وهو لم يفارق لسانه قول :
-تبارك الله ربنا يحرسك لشبابك يا بتي ..
ولكن كانت أعين أحلام تركز جيدا على هدفها و تراقب نظرات هارون ببشاشة وبروح مرحة .. تعالى صوت الفتيات بالضحك حتى جاءت هيام مقترحة :
-تيجوا نعملوا كيكة في الجو ديه ونتسلوا ..
عارضتها ليلة باصرار :
-يالهوي !! مابعرفش أعملها خالص .. معرفش أنتو بتعملوها أزاي ؟!
فتدخلت هاجر :
-البت هيام دي قروبة .. عتعمل كيك فنادق فاخر من الاخر وو
عارضتها ليلة بإنبهار :
-يابختك بتعرفي .. أنتِ عارفة أن في أسطورة قديمة بتقول وو
هنا سُحبت أذان هارون قبل أعينه لعندها حيث باتت أساطيرها كجرعة مسكنة يستلذ بها .. تلصص السمع بفضول قاتل لاحظته أحلام بدهاء فأعقبت ليلة وهي تقف لتروي لهما الأسطورة وهي مقتنعة بها تماما :
-بتقول أن البنت اللي حظها حلو في الكيك حظها بيطلع حلو في الرجالة .. والبنت اللي زي حلاتي كده ملهاش حظ خالص فيها بختها بيكون زي ما أنتوا شايفيني ..مايل زي حظي.
تفوهت أحلام بصوت عالٍ لتقول وهي ترمق هارون بخبث :
-ولا مايل ولا حاجة .. يكش حظك هيكون كيف الورد وأبقي قولي أحلام قالت ..
هبت هاجر مقترحة :
-طب أنا عندي فكرة .. أحنا نجيبوا ونعملوا كيكة وهيام هتعلمنا ونشوفوا مين بختها هيطلع حلو ..
تحمست هيام وهي تقول لفردوس :
-يالا يافردوس نجهزوا الحاجات ونعملوها إهنه على السفرة أحلام وأبوي وهارون يحكموا ما بينا ..
رفعت ليلة مبرئة ذمتها :
-لالا أنا برة اللعبة دي .. بنات أنا واحدة فاشلة في المطبخ .. أنتوا مش عاوزين تفهموا ليه ؟
نظرت أحلام لهارون وهي توضح الصورة له بطريقة مرحة :
-ولا خايبة ولا حاجة بكرة تتعلم وتبقي على كيفك ..
تحمحم هارون واقفا وهو يقول بفظاظته المعهودة :
-ماهي لو تتعلم لها طبخة بدل الخرافات اللي واكلة عقلها دي كانت نفعت ..
زفرت بضيق وهي تطالع أخوته قائلة :
-شايفين ؟! قاصد يعصبني أزاي ..
ثم فارقت مجلسهم واتجهت نحو أحلام لتقول :
-أنا يا أحلام بقول خرافات ؟! شايفة طريقته !! عمو الحج لو سمحت قوله يحترمني شوية هو على طول بيضايقني بكلامه ..
لم تنكر استغرابها من نظرات خليفـة اللامعة نحوها طول الوقت .. ولكنها تعمدت تجاهلها ، نظر له الأب بلوم :
-ما تسيبها تحكي يا هارون مالك بيها .. البت متعلمة ومتنورة و
عارضه هارون بلطف وهو يحدق النظر بها :
-كل ديه عشان عقولها تتعلم طبخة .. أصلو يا أحلام الراجل منينا هيكون عاوز أيه غير لقمة يُرم بيها عضمه ، ربنا يكون في عون اللي هتقع في نصيبه ..
وضعت يديها بخصرها لتقول بضيق طفولي :
-والله الأكل في المطاعم كتير أما أنا هحكي له حواديت مش موجودة عند حد ..
تمدد ثغره بضحكة خفيفة إثر إصابة كلمتها طرف مجهول بقلبه وهو يقول بسخرية :
-وماله لما يجوع أبقي حمريلو حدوتتين !! ويبقى اتعشت قوي ..
غلت الدماء بعروقها وتأفف بضيق :
-مش هرد عليك احتراما لعمو الحـج بس..
عاد هارون ليجلس بمكانه وعلى عكس عادته أول مرة يحبذ المكوث طويلا بالبيت .. أخرج هاتفه ليقول :
-هكلملك هاشم يا أحلام سألني عليكي الصبح .
زفر ليلة بيضيق مولية ظهرها للخلف ففي تلك اللحظة أخرج خليفة محموله ونادى بصوتٍ عالي :
-غفــــران يا بتي ….
انفرجت الأعين حول خلفية إثر ذكره اسما لم يكن بينهم .. توقفت خطى ليلة متراجعة فهذه أول مرة تسمع فيها اسم غفران بعد موت جدها .. زلزل وقع الاسم على مسامعها جسدها وتحرك قلبها بذكريات شتى .. تبادلت النظرات بين هارون وأحلام بتساءل .. اقتربت ليلة منه متعجبة والعبرات تتكدس بعينيها :
-عمو الحج حضرتك عرفت الاسم دي ازاي ؟!
ثم أشارت لهارون مستفسرة :
-أنت اللي قولت له ؟؟!
انكرت ملامح هارون لتناسيه أمر الاسم .. أخفض خليفة الهاتف من فوق مسامعه ويده ترتجف يود أن يقوم باحتضانها في التو .. تحكم في أعصابه ولكن ماذا عن ملعان العين وهو ينكر معرفته للاسم ويمد الهاتف أمامها :
-كنت عتحدد في المحمول وو
فبررت ليلة على الفور وهي تبد اعتذارها بتوتر ملحوظ :
-اسفة بجد .. افتكرتك بتنادي عليا ..
ثم مسحت على وجهها المحمر من شدة الارتباك وأكملت العبرات تترقرق بعينيها :
-أصل حضرتك لما قولت غفران.. افتكرت جدو .. هو الوحيد اللي كان يناديني بالاسم ده وو
ثم أخذت نفسها من شدة الارتباك و أتبعت:
-كان بابي يتخانق معاه دايما ويقوله اسمها ليلة .. بس هو كان مصمم على اسم غفران وبصراحة أنا بحب الاسم ده أوي ..
ثم رمقت هارون بنظرة سريعة لا تعلم لما أرسلتها له .. وواصلت باكية :
-قريت مرة أن أقدارنا تؤخذ من اسامينا .. كل ما بسمع الاسم ده بحس أنه مخبي لي أسرار كتير عشان كدة محدش يعرفوا ومش بحب أقوله قدام حد عشان مش يناديني عليا بيه ؟! فالمقولة تتحقق ويتفتح قدامي طريقين طريق ليلة وطريق غفران …واتوه بينهم ..
اغرورقت عيني أحلام بالدمع ولمعت عيني خليفة بالفرحة وطارت أنظار هارون فوق مدن الحيرة .. وثبت أحلام لتضمها بحب وتهدئ من روعة مخاوفها :
-تعالى في حضني يا حبيبتي متقلقيش .. ربنا يجعل كل اللي جاي من أيامك هنا .. انا قلبي حاسس .. بس بس متبكيش يا حبيبتي .. الله يسامحك يا حج خليفة قلبت المواجع على البت ..
جففت ليلة عبراتها وهي تفارق حضنها :
-لا خالص .. جدو بس وحشني عشان كده بعيط ..
رق قلب هارون وأراد أن يخفف الحمل عليها ولا يعلم لماذا .. نبض قلبها يريد ضمها ولكن كيف ؟! تحمحم بجمود يخفي حوله نواياه :
-خبر أيه أومال ؟! هتوكلونا كيكة في الليلة دي ولا نمشوا ؟؟!-ثم جهر مناديا-ماتيجي تشوفي يا هيام .
ربت خليفة على كتف ليلة وهو يقول :
-احنا كلنا أهلك يا بتي ..
ثم نظر لأحلام :
-ماتشيعوا لمراة هلال تقعد معانا .. عاوز اتعرف على البت وأشوف نقاوة ولدي !!
تدخلت هاجر بحزن على حالتها :
-كل ما اطلعلها ألقاها نايمة .. تهدى بس وهنزلها تقعد معانا ..
ثم سحبت ليلة من يدها :
-يلا عشان هنعملوا الكيكة وبزيادة حديت عاد ما أحنا كنا حلوين ….
••••••••••••
~بغُرفة هلال ..
لقد قضى نهاره معهـا بالغُرفة وهو يتلو القرآن على مسامعها تارة ويراقبها طورًا .. حتى انتشرت الملائكة بالمكان وعمت حالة من الهدوء والسكينة حولهما للحد الذي جفت فيه دموع عينيها وباتت تبادله الحديث لتشتت حزنها عنها و بعد ما أشادت بجمال صوتـه .. توقف على شفا طلبه منها بالمواظبة على قراءة آية الكرسي عقب كل صلاة ؛ قائلًا :
-تعرفيـن لماذا سُميت آية الكرسي بهذا الاسم ؟!
أحكمت ضب حجابهـا وهي تضم ساقيها لصدرها أمامه على سجادة الصلاة بعد ما صلى بها العشـاء في جماعـة وذاب حزنها في جمال الصلاة خلفه ، بدّ جهلها للجواب على ملامحهـا ، فرُسمت ضحكة خفيفة على محياه وهو يعد أحجار مسبحته المعطرة بمسك الذكر وقال بطيب نفس :
-الكرسي فالمعتاد هو أساس الحكم وهو رمز الملك وهى الدالة على الألوهية المطلقة .
رفعها الله في بدايتها باسمه ( الله ) وفى نهايتها باسمه ( العلى العظيم )
وهى ترفع معها كل من تعلق بها واستمسك بها ومن حفظها حفظته ورفعته معها إلى أعلى مقام وأسمى منزلة .
فركت كفيها ببعضهما وهي تبتسم بخجـل وتخشى التطلع له لتقول :
-طول عمري اعرف أن فضلها كبير بس عمري ما سألت نفسي ليه اتسمت بالاسم ده ..
هز رأسه متفهمًا وهو يسألها :
-لِمَ لم تتسألين لماذا طلبت منكِ أن تقرأيها عقب كُل صلاة !!
ردت بعفوية :
-ليـه ؟!
ملأ جيوب عينيه من ملامحها الباهتة التي يحاول أن ينيرها بذكر الله من جديد .. مد لها مسبحتـه فأخذتها منه متحيرة فقال بتأدب ورقي ووجه يشرق من نور الإيمان مع بياض وجهه الناصع والمتوارث من أمه :
-لن يصبح بينك وبين الجنة إلا الموت-ربي يحفظك بحفظه- ، وأيضًا لأن لكل من قرأها دبر كل صلاة فإن الله ذو الجلال والإكرام هو الذي يتولى قبض روحه عند موته .. هذا بعد عمر مديد لكِ ..
ثم تنهد وأكمل :
-أما بأمورنـا الدنيوية لمن قرأها ليلا خرج الشيطان من البيت ولا يدخله حتى يصبح وأمنه الله على نفسه ومن قرأها في الفراش قبل النوم لنفسه أو لأولاده يحفظهم الله لا يقربهم شيطان حتى يصبحوا ويبعد عنهم الكوابيس والأحلام المزعجة ووسوسة الشيطان ..
أومات متقبلة نصيحته بنفس راضيـة وهي تُشير على السبحة التي تزين يدها ، فتضحك بخفوت :
-هذه هدية مني لكِ ..
ثم مسح على لحيته بهدوء وقال :
-تحبي تنزلي تقعدي مع الجماعة تحت ، الحج خليفة يود التعرف على زوجـة ابنـه ؟
طافت عينيها بالمكان بهروب وهي تعلن رفضها :
-مش قادرة اتكلم مع ناس والله .. لولاك أنت بس خدتني في الحديت وو
-رقية ؛ أنتِ هنا تخصينني وما يحزنك يحزنني .. فلا داعي من حرجك أمامي ..
ثم غير مجرى الحديث :
-أعلم إنكِ تحفظين كتاب الله ولكن ما أخبار المراجعة ؟
-حفظته وأنا في ثانوي ، بس مع المذاكرة والكلية آكيد نسيت .
-سهلة ، سنبدأ من الأول و بالتفسير ، ما رأيـك ؟
رفعت جفونها باستغراب :
-ليه ؟! ليه أنا بالذات عتعمـل معاها كل ديه !!
-لانك زوجتي ..
أومأت بخفوت وهي تفارق سجادة الصلاة ولم يبد عليها الاقتناع برده :
-تمام ..
لحق بها :
-تمام مقتنعة ولا لن تقتنعين بعد !!
-أنت شايف أيه قدامك ؟!
ينظر إليها وكإنه يود الغوص بأعماقها ، متفحِّصًا كلَّ تضاريس روحها الباهتة ، مفتشًا عن الأسرار الخافية حتى عليها ؛ تأرجحت عينيه بغزل صريح وهو يقول :
-أرى أمامي بدرًا في ليلـة تمامـه ..
شهقة مكتومة اندلعت من جوفها وهي تفر هاربة من أمامه إثـر بريق عينيه المربكتين لتتحرك بعشوائيـة وتخرج ملابسه من الحقيبة وهي تتحاشى النظر إليه ثم فرت لتتحامي بالحمام من جُملة غزله التي رجت كيانها رجًا .. ضحك على صورتها العبثـية ثم اقترب من باب الحمام ليخبرها :
-سأرحل كي تكونين بحريتـك .. رقية لا تبكين مرة أخرى وهذا أمر ..
~بالأسفـل …
قدمت أطابق الكيك الذي أعدوه الفتيات ، فجاءت كل واحدة منهمن تحمل طبقها .. أفصحت ليلة فارحة :
-طنت أحلام ، دوقي كده .. أنا مبسوطة أوي هيام علمتـني أعمل كيك حلو أوي ..
رفع هارون عينيـه عن شاشة هاتفه ليراقبها بملامح مبتسمـة دون نية منه … فأقبلت هاجر نحوه لتُرشيه :
-هارون ، دوق كيكتي وقول حِلوة وانبهر ، عشان انا الوحيدة اللي صينيتها هبطت وبقيت كيف خد الندابـة ..
أعلنت هيام رفضها :
-اكده في غش من أولها ..
ضحكت ليلة واتبعت :
-أنا وهيام الكيك بتاعنا طلع قمر ، بس الكيك بتاع هاجر طلع وحش أوي ..
ثم دمدمت بصوت مسموع :
-أكليه لأخوكي بقا خلي بطنه توجعه ..
تذوقت أحلام قطعة الحلوة الخاصة بليلة وأشادت بجمالها ثم منحت زوجها قطعة :
-دوق يا حچ وقول رأيك عاد ، ولا غلطـة ..
تذوق هارون كيك أخته هاجر واكمل بلعها بالماء وهو يعاتبها همسًا :
-فرحتي فينا الاسكندرانية !! متعمليش كيكة تاني ومالكيش دعوة باللي هقوله دِلوق !!
ثم جهر :
-كيكة هاجر ولا غلطة ، متسمعيش كلام البنات دولت يا بت يا هاچر دول غيرانين منك ..
تقدمت هيام لتقدم له طبقها :
-والله ، طب دوق بتاعتي وأنت هتعرف الفرق عشان تطبلها زين .
تناول قطعـة من أختـه وبدّ الإعجاب على ملامحه يتراكض :
-لا عاليـة قوي دي !! بس طبعا بتاعت هاچر أحلى .
ثم همس لهاجر محذرًا :
-أنتِ والكيكة بتاعتك تختفوا لغاية ما انسى اللي طفحته قبل شوية ..
فمدت له أحلام طبق ليلة بخبث:
-ودي .. دوق وقول رأيك !!
تدخلت ليلة بعناد:
-أصلًا رأيه مش مهم يا أحلام ، كفاية أنها عجبتك أنتِ وعمو الحچ ..
عاندها وتناول الطبق كله بدل من أخذه قطعة واحدة ، أمعنت النظر به منتظرة رأيه ، فلم يجب .. تناول واحدة وراء الأخرى فسألته أحلام :
-اظن مش محتاج يتكلم ، ديه هيخلص الطبق من حلاوتـه !!
رفع حاجبه متعمدًا استفزازها :
-دانا بدوق كذا حتة عشان محكمش بالباطل ..أصلو آكيد الطعم مش هيبان من أول قطمتين ..
زفرت بضيق وهي تسبـه بسرها :
-يارب صبرني عليـه ..
مع تناوله للقطعة الثالثة رفع جفونه ليقول بغرور :
-عشرة على عشرة يا استاذة .. والنجمة تاخدها هاچر عشان كيكتها أحلى بردك ..
حضنت هاجز ذراع أخيها وهي تقبله بخده:
-أشطر محامي يدافع عن أخته يا ناس !!
لمعت السعادة بعينيها رغم محاولاتها الكثيرة لإخفاء ابتسامتها عنه ، فهللت أحلام مدافعة :
-مش قولت لك ليلة بكرة تتعلم وتبقى على كيفك !!
هنا دق ناقوس الزغاريد بأرجاء المكان لتدخل صفية وأخيها وزوجته وزينة ثم هيثم الذي ذهب لعندهم بعد مشاوير هارون الذي اختلقها له وضل هو بالبيت ، كانت الفرحة تغرد على وجوههم لتقول :
-مقدرناش نستوا لبكرة لغاية ما يجي معانا العريس .. چيبنا الشبكة وچينا ، ويبقى هارون يحاسبـه على مهله ..
تعالى يا عمة أحلام اتفرجي وملي عينك ….
فجاء الخفير راكضًا من الخارج :
-حضرة العمدة ، إلحق نصيبة …