رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم سيلا وليد


 

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثالث والعشرون  بقلم سيلا وليد

"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض "

ليلةٌ واحدة...لا ننساها...تلك الليلة التي كبرنا فيها عمرًا فوق أعمارنا ..ونضجنا فيها من شدَّةِ ما كان أذاها عميقًا..
كلَّ نظرةٍ منَّا تحكي صمتاً أثقلُ من الكلمات..وجرحًت لا يلتئم..
مابين الحزنِ والصبرِ تتأرجحُ المشاعرُ كأرجوحةٍ في مهبِّ الريح....
فسلامٌ على مشاعرٍ أحرقناها بالسكات..
وسلامٌ على أعينٍ قاومت دموعها بأسخفِ الضحكات..
وسلامٌ على دفترٍ ملأناهُ حتى سقطَ القلمُ وانتحرت الكلمات...
ثابتينَ رغمًا عن كلِّ شيئ.
ثابتينَ وداخلنا ينتفضُ ويبكي ويحترق ..
ندَّعي أنَّنا بخير ونحنُ في أمسِّ الحاجةِ لنرتمي في حضنِ أحدهم ونبكي دون توقُّف

مرَّت ليلةٌ ثقيلةٌ على الجميع، لم يغمض لهم جفنًا، فريدة التي احتُجزت بجوارِ ابنها يجاورها مصطفى الذي لم يبتعد عنها إنشًا واحدًا، بينما إلياس جالسًا بالخارج جسدًا مهشَّمًا يشعرُ وكأنَّ الحياةَ أطبقت على روحهِ لتأنَّ بأنينٍ مرير..اقتربَ منه إسلام: 
-إلياس لازم تروح تغيَّر هدومك، هتفضل كدا..تراجعَ بجسدهِ للخلف وأغمضَ عينيه، لا يريدُ أن يتحدَّث، وكأنَّ الصمتَ ملجأهِ بتلك اللحظات، وماأصعبَ القلوبُ حينما تشعرُ بالانفجارِ ورغمًا عنها تصمت، ومخالبُ الألمِ تنهشُ بداخلها ..

-إلياس!! فتحَ عينيهِ وحاورهُ بصمت؛ 
-قوم روح ارتاح شوية وغيَّر هدومك، هدومك كلَّها دم..

-بعدين أطَّمن على ماما وأرسلان الأوَّل..استمعَ إلى حركةٍ بالردهة، وخروجِ صفية من غرفةِ أرسلان يحاوطها إسحاق، وهرولةِ الأطباءِ إلى الغرفة.
نهضَ من مكانهِ وتحرَّكَ إلى وقوفهم أمامَ النافذة، من يرى تحرُّكهِ يظنُّ هدوءَ لجسده، ولكن تحرُّكهِ لم يكن سوى ضعفه، ملامحٌ صلبةٌ جامدةٌ وقلبٌ استوطنَ به الألم، استندَ على الجدارِ حينما جاءهُ دوارًا من قساوةِ الحديثِ الذي اخترقَ أذنه: 
زوِّدي الأدرينالين، المريض هيروح منِّنا. 

استندَ على زجاجِ النافذةِ ينظرُ إلى محاولةِ الأطباءِ لإنعاشِ جسده، و إلى سكونِ جسدِ أخيهِ بفزعٍ وشبحُ رائحةِ الموتِ تطبقُ فوق صدره.. 

مرَّة واثنتان والطبيبُ يحاول إنعاشَ القلب، وهو ينظرُ إلى جسدهِ الذي يفارقُ الحياة، وصلَ إليه مصطفى وإسلام يحاوطونه، مع كلماتِ المواساةِ والدعاء..
مسَّدَ اسلام على ظهره: 
-إلياس ..ولكن كيف له القدرة بالتفوُّهٍ او النظرِ إلى أحدٍ سوى أخيهِ الذي يلفظُ أنفاسهِ الأخيرة، بداخلهِ آلامًا عجزت الأبجديةُ عن وصفها، ألمُ ينزفُ من روحهِ ويستوطنُ خلاياه.. 
همسَ بنبرةٍ خافتةٍ كالطفلِ الخائفِ الذي يدعو ربه: 
- اللهمَّ إنَّك رزقتني أخي من غير حولٍ لي ولا قوَّة فاللهمَّ احفظهُ لي وبارك لي في عمره،
اللهمَّ إنِّي أسألكَ بأنَّكَ لا إلهَ إلَّا أنتَ  اللهمَّ احفظهُ بعينكَ التي لا تنام إنَّكَ الحيُّ الذي لا يموت..

قالها بعيونٍ قلقةٍ والخوفُ الذي يتسلَّلُ بداخله، كشيطانٍ يتربصُ لمؤمنٍ ليزهقَ صبره..عيناهُ غُلِّفت بالظلام، وارتعاشةٍ أصابت وقوفه، وهو مازال يحتضن بنظراته جسد أخيهِ يدعو ربَّهِ أن يستجيبَ ويعودَ قلبهِ للنبضِ مرَّةً أخرى.

يااارب..قالها بخفوت، مع اختلالِ توازنه، وتكوُّرِ الدموعِ تحت أهدابه، لحظات بآلافِ السنينِ إلى أن هزَّ الطبيبُ رأسهِ بآسف، هنا توقَّفَ النبضُ ودارت به الأرض، وعيناهُ تنطقُ بكمِّ الألمِ الذي يشعر به، لحظاتٍ جحيمية، وصمتٍ مميتٍ مع أنفاسٍ مرتفعة، وضعَ الطبيبُ جهازه، مع اقتحامِ إسحاق الغرفةَ كالأسدِ المفترس، يحطِّمُ كلَّ ما يقابلهُ
إلى أن وصلَ للطبيب: 
-أنا قولت لك إيه..بترَ حديثهِ صراخُ الممرضة، التي تحاول انعاش القلب بالضغط على صدره، النبض عاد يادكتور..

هنا شعرَ إسحاق بالخدرِ يسري بجسدهِ بالكامل، وهو يستمعُ إلى نبضهِ يعلو بالغرفةِ مرَّةً أخرى..تراجعَ يشيرُ للطبيب:
-تمام ..تمام، شوف شغلك، قالها وتحرَّكَ بظهرهِ للخلفِ وعيناهُ تحتضنُ جسدَ أرسلان، خرجَ من الغرفةِ واتَّجهَ إلى مكان وقوفهِ مرَّةً أخرى، مع ترطيبِ لسانهِ بالحمدِ والثناء، حتى انتهى الطبيبُ وتحرَّكَ للخارج: 
-ربنا يقوِّمه بالسلامة..قالها وتحرَّكَ سريعًا من أمامه..أومأ برأسهِ دون حديثٍ وعينيهِ على إلياس الحاضرِ الغائب، اقتربَ منه وحمحمَ مردفًا:
-أرسلان قوي وإن شاء الله هيقوم عندي أمل في ربنا كبير.. 

-البركة في حضرتك، بس عايز أقولَّك إنتَ السبب في اللي هوَّ فيه، قالها ومازالت نظراتهِ على أخيه. 

اقتربَ منه إسحاق وتوقَّفَ بجوارهِ ونظرَ إلى أرسلان قائلًا:
-ومتفكرش هتوصلُّه ياحضرةِ الظابط، هوَّ عرف أه، بس برضو هيفضل أرسلان الجارحي.. 

التفتَ إليهِ إلياس، ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى مصطفى الذي أشارَ إليه بالهدوء، ولكن كيف يصمت وداخلهِ فوهةٌ بركانية، ليستديرَ بكاملِ جسدهِ لإسحاق: 
-لولا تعب أخويا كنت ردِّيت على حضرتك، دنا برأسهِ وأردفَ بنبرةٍ خافتةٍ ممزوجةٍ بالألم:
-جمال جمال الشافعي، ياسيادةِ العقيد، أنا مش هحرمك منُّه، ودا مش جدعنة منِّي، لا علشان أنا حقَّاني ومبحبش الظلم، فبلاش تقول هيفضل ويفضل، دا أنا اللي أقرَّره مش حضرتك، حتى هوَّ لمَّا يفوق مالوش غير القرار اللي أخوه الكبير هياخده..
-إنتَ اتجنِّنت...قالها إسحاق..تراجعَ إلياس إلى المقعد، فاقتربَ إسحاق منهُ ووجههِ عبارةٌ عن لوحةٍ من الألمِ والحزن:
-اسمعني علشان تبقى عارف، وأنا قولتها لحضرةِ اللوا، أرسلان هيفضل ابنِ الجارحي ولو فيها عمري.
-حقَّك ياباشا، مش هنكر حقَّك، بس اسمعني إنتَ كمان، الستِّ اللي جوا دي هيَّ أكتر واحدة ليها الحق، مع احترامي لتعب حضرتك ولفاروق باشا، بس أمِّي أكتر واحدة ليها الحق.. 
-وأمُّه اللي ربِّيته..استدارَ إليهِ إلياس: 
-وأمُّه اللي اتقهرت بخطفه، أمُّه اللي اتحمِّلت وجع ابنها المخطوف تلاتين سنة، يظهر قدَّامها وتعامله على أنُّه واحد غريب، ويوم ماتتمسِّك بالأمل حضرتك تهدِّدها.. 
-حضرةِ الظابط شوف بتقول إيه..
-بقول إيه، مش دا اللي حصل، ولَّا أنا بتبلَّى على حضرتك، مش لو حضرتك وزنت الأمور وعرَّفته مكنشِ دا كلُّه حصل، ذنبه إيه يكون في لعبة بينكم، وصدَّقني الستِّ والدتك مش فارقة معايا عمايلها، بس وحياة رقدته دي لو حصلُّه حاجة ماهسكتلها..
-إنتَ أكيد مجنون، والدتي مالها؟!..توقَّفَ إلياس وفقدَ سيطرتهِ وتحكُّمهِ بنفسه: 
-يعني إيه، يعني حضرتك متعرفشِ بلعبتها القذرة علشان تكشف لأخويا حقيقة نسبه، ذنبه إيه يتصدم كدا، حضرتك هتعرف إزاي وإنتَ معشتش صدمةِ القهر وإنتَ شايف نفسك شخص سراب ومالوش وجود..

حدقهُ مذهولًا، وتوقَّفَ بجسدٍ متيَّبسٍ من الصدمة، لا يريدُ أن يستوعبَ ما يوضِّحهُ عقله، هل وصلت والدتهِ لذلك الوضعِ المنحطّ..هزَّ رأسهِ بالنفي وبعيونٍ متَّسعةٍ نطق: 
-إنتَ بتقول إيه!؟..توقَّفَ مصطفى بينهما:
-لو سمحتم كفاية، راعوا حالة الكلّ..
دارَ حول نفسهِ كالأسدِ الجريح، يريدُ أن يهدمَ المكانَ وما فيه.. 
-روح اسأل الستِّ الوالدة، إيه قصدها من لعبةِ التحاليل دي..

هنا فاقَ إسحاق على كابوسٍ مريرٍ ممزوجٍ بقسوةِ ما فعلته والدته، كوَّرَ قبضتهِ وشياطينُ الجنِّ تتراقصُ بعينيه، يريدُ أن يصلَ إليها ويلقيها صريعة، تراجعَ على المقعدِ وهو يشعرُ أنَّهُ بركانٌ أوشكَ على الانفجار..

جذبَ مصطفى إلياس واتَّجهَ به إلى أحدِ المقاعد: 
-حبيبي اهدى، وبلاش تضغط على إسحاق، هوَّ كمان مالوش ذنب، شايف حالته، كفاية أخوه اللي بين الحياة والموت 
أغمضَ عينيهِ يحاولُ إسكاتَ ضرباتِ قلبهِ العنيفةِ التي تحوَّلت لجنونِ الألم.. 
جلسَ على المقعدِ ومازال يحاولُ ثبات صلابةِ قوَّتهِ الواهيةِ التي أوشكت على الانهيار..

عندَ ميرال قبل قليل: 
استيقظت من نومها، ونهضت متَّجهةً إلى حمَّامها، أدَّت فرضها وجلست لبعضِ الوقت، ثمَّ تحرَّكت بهدوءٍ للأسفلِ ظنًّا أنَّهُ رجعَ مرَّةً أخرى، جالت عيناها بالمنزل، وسألت الخادمة: 
-هوَّ الباشا مرجعشِ من إمبارح؟.. 
هزَّت رأسها بالنفي وأجابتها:
-لا يامدام، بس الستِّ الصغيرة في أوضتها فوق..

ضيَّقت مابين حاجبيها متسائلة:
-مين غادة؟!..إزاي هيَّ مش عاملة حادثة، هوَّ فيه إيه؟..قالتها وصعدت إلى غرفةِ غادة، دلفت للداخلِ وجدتها تغفو بهدوء، جلست جوارها تستكشفُ حالةَ جسدها، ثمَّ هزَّتها بهدوء: 
-غادة..فتحت عيناها.. 
-حبيبتي إنتِ صحيتي، قالتها واعتدلت جالسةً على الفراش. 
نظرةٌ متفحِّصةٌ تطالعها بتساؤلٍ من عينيها..فركت يديها مبتعدةً بنظراتها، تمتمت بتقطُّع:
-أصل إلياس في المستشفى وقالِّي آجي أقعد معاكي، ماهو.. 
هبَّت من مكانها: 
-هتنقَّطيني إلياس بيعمل إيه في المستشفى، أوعي يكون تعبان..لا أوعي يكون هوَّ اللي عمل حادثة.  

-ميرال اهدي إلياس كويس، بس الحقيقة فيه موضوع ملخبط الدنيا، أرسلان الجارحي.. 
-أرسلان الجارحي، ماله؟!..
-طلع أخو إلياس اللي بيدوَّر عليه. 
-إيه..أرسلان، إزاي معقول!.. لا أكيد مش صح..
فركت غادة جبينها مرَّة، ثمَّ مسحت على وجهها بالكامل، ورفعت عينيها التي سكنَ بها الحزنُ إلى ميرال وأردفت قائلة:
-الموضوع صعب أوي ياميرال، وإلياس منهار علشانه، أصله عمل حادثة صعبة أوي..اتَّسعت حدقتاها، وتذكرت حديثه مع فريدة واتهاماته، هنا علمت معنى حديثه، شعرت بألمٍ يفتكُ بها وهي تتخيَّلُ حالته الآن، لتستديرَ بقلبها المتلهِّفِ عليهِ قائلة:
-اجهزي لمَّا ألبس، لازم أروح له..ركضت إليها تتشبَّثُ بذراعها:
-ميرال استني، مينفعشِ إلياس هيزعل، هوَّ قالِّي متتحركيش من مكانك..احتجزت الدموعُ بعينيها مستطردة؛
-غادة لازم أكون جنبِ جوزي، وماما دلوقتي حالتها إيه، وفي الأوَّل والآخر دا ابنِ عمِّي، والراجل اللي عمل فيهم كدا بيكون أبويا للأسف..قالتها وغادرت الغرفة.. 

بعد فترةٍ وصلت إلى المشفى دلفت للداخلِ تبحثُ عنه بعيونِ الألمِ والندم، إلى أن توصَّلت لمكانِ جلوسه، ثمَّ ردَّدت اسمه:
- إلياس..قالتها بألمٍ ارتسمَ بعينيها  المحتجزةِ دموعَ الألمِ والقهرِ بآنٍ واحد.. 

رفعَ رأسهِ ينظرُ إليها بعيونٍ تتلألأُ بالدموع، انسابت دموعها تخطُّ وجنتيها ليهبَّ من مكانه، ودون حرفٍ تنطقُ به شفتيهِ جذبها لأحضانهِ وانهارَ باكيًا، بكى بكاءً كالطفلِ الذي فقدَ والديهِ مما جعلَ الجميعَ يتعجَّبُ من حالتهِ التي لأوَّلِ مرَّةٍ يرونهُ بها..
ضمَّتهُ بقوَّةٍ وبكت على بكائه، مما جعلَ الكلُّ يبكي عليه، نطقت بشهقاتٍ متقطِّعة: 
-راجح اللي عمل فيه كدا ياإلياس صح؟.. هوَّ أكيد السبب ورا حادثته، عرف أنُّه أخوك..هوَّ قالها طول ماأنا معاكم هيموُّتكم كلُّكم، أنا مش هقدر أشوفك بتتوجع كدا، الراجل دا مهما كان اسمه أبويا، خلِّيني أروح له ياإلياس..

سحبَ كفَّها ودلفَ لداخلِ الغرفةِ،  حاوطَ وجهها يزيلُ عبراتها بأطرافِ أنامله:
-ميرال مش عايزك تنطقي اسمِ الراجل دا، إنتِ مالكيش دعوة بحاجة، سمعتيني الراجل دا مفيش حاجة تربطه بيكي..وعداوته معانا مش بسببك أبدًا، وبحلف لك ياميرال حتى لو إنتِ مش مراتي كنت مستحيل أخلِّيكي تروحي له، عايزك تشيلي من دماغك اسمِ الراجل دا ماشي.. 

صمتت وحاولت أن تقنعَ نفسها بحديثه، رغم انعكاسِ نيرانِ قلبها التي توحَّشت داخلها..
رفعَ ذقنها: 
-أوعديني إنِّك مش هتروحي للراجل دا..هزَّت رأسها وجذبت يدهِ متحرِّكةً بخطاً بطيئةً بسببِ شعورها بالدوران،  
جلست تنتظرُ جلوسهِ بجوارها، ولكنَّهُ ظلَّ متوقِّفًا يدقِّقُ النظر بها: 
-ميرال مش هتعملي حاجة بدون علمي صح..رفعت رأسها وهزَّت رأسها بالموافقة..جلسَ بجوارها وجذبها لأحضانهِ يحاوطها بذراعه:
-عاملة إيه دلوقتي؟..رفعت كفَّيها على وجههِ تتفحَّصهُ بعينها:
-إنتَ اللي عامل إيه، وماما فريدة عاملة إيه؟..
تمدَّدَ على الفراشِ يضعُ رأسهِ فوق ساقيها متنهِّدًا بألمٍ يخرجُ من أعماقِ قلبهِ قائلًا:
-ماما محجوزة في الأوضة اللي جنب أرسلان، بابا طلب من الدكاترة تفضل على المهدِّئات، بس هيَّ كويسة.. 
ملَّست على رأسهِ بحبٍّ تستمعُ إلى حديثه، وكأنَّهُ لا يوجد بينهما أيِّ صراع:
-طيب ممكن تنام شوية، شكلك مرهق أوي.. 
-أنام إزاي ياميرال وأنا حاسس لو قفلت عيوني هفوق على كابوس فقدان أرسلان..انحنت تضعُ رأسها على جبينهِ وهمست بخفوت:
-حبيبي كلِّ حاجة مقدَّرة في الدنيا، هوَّ أنا اللي هقولَّك على القضاء والقدر، لو له قدر يعيش هيعيش، ارمي حمولك على ربنا.. 
ابتسامةٌ من وسطِ أحزانهِ على كلماتها التي تحاولُ أن تهوِّنَ عليه، نظرَ لداخلِ مقلتيها: 
-ربنا يكمِّلك بعقلك وتفضلي عاقلة على طول..داعبت أنفهِ بأنفها ومازالت تهمسُ بخفوت:
-مراتك عاقلة واللهِ بس إنتَ اللي مجنِّنها معاك..أغمضَ عينيهِ يستمتعُ بكلماتها الحانية، فلقد نزلت على قلبهِ كقطرةِ ندا ترطِّبُ جفافَ القلبِ من الألمِ والحزن، تراجعَ بجسده، يفردُ ذراعهِ لتتوسَّده..لم تفكِّر كثيرًا، لتتمدَّدَ تدفنُ نفسها بأحضانهِ وآااه عميقة أخرجتها على كمِّ المشاعرِ التي شعرت بها...

بإحدى المستشفيات بألمانيا، تقفُ أمام أحد النوافذِ تنظرُ إلى والدها الممدَّدِ بالفراش، توقَّفَ بعدما تحرَّكَ زين إلى الغرفة، اقتربَ منها: 
-بقالك أكتر من نصِّ ساعة واقفة، أقعدي علشان ماتتعبيش..
زفرةٌ قويةٌ تدلُّ على مدى آلامها، لتردفَ بتهدُّج:
- ارتاح ازاي وبابا حالته صعبة

دمعةٌ انبثقت من جفنيها وذكرياتها مع والدها أمامَ عينيها، وتابعت حديثها: 
-أنا مش هقدر أعيش من غير بابا يايزن..التفتت إليهِ واستطردت بنبرةٍ ممزوجةٍ بالحزن:
-تعرف لمَّا قولت له اتجوِّزت يزن، فرح أوي وقالِّي دا راجل ومش هخاف عليكي..عادت بنظراتها لوالدها تنظرُ إليه بعينيها التي بها الكثيرُ من الأمنيات: 
-بنتك مستنياك يابابا، أوعى تخلف وعدك معايا.. 

كان يستمعُ إليها وشعورٌ بالألمِ يحرقُ روحه..لعنَ نفسهِ التي استخدمتها كوسيلةٍ انتقامية..

رفعَ ذراعهِ وحاوطَ أكتافها يقرِّبها إلى أحضانه، لتنهارَ باكيةً بشهقاتٍ مرتفعة:
-أنا خايفة يايزن، الدكتور بيقول نسبة نجاح العملية ضئيل، وانا عاجزة ومش عارفة آخد قرار..

ضمَّها بقوةٍ لأحضانه، بعدما فقدَ اتزانهِ من بكائها، حاولَ السيطرةَ على رجفةِ قلبهِ التي اعترتهُ من رائحتها..ابتلعَ لعابهِ بصعوبة، حينما لفَّت ذراعيها حول خصرهِ وكأنَّها تثبتُ له أنَّهُ قلعتها الحصينة..سحبها إلى المقعدِ وجلسَ وأجلسها بجواره، رفعَ ذقنها يزيلُ عبراتها: 
-ممكن تبَّطلي عياط، أنا متأكِّد أنُّه هيفوق ويقوم بالسلامة، قطعَ حديثهم وصولِ راجح ورانيا: 
-راحيل حبيبتي..قالتها رانيا وهي تجذبها لأحضانها، بينما رمقَ راجح يزن يشيرُ إليهِ بغضبٍ تجلَّى بعينيهِ وهدرَ بعنفٍ بخروجِ زين من الغرفة:
-الواد دا بيعمل إيه، حدجهٍ بنظرة مشمئزة:
-إنتَ مفكَّر نفسك مين ياله، علشان تتجرَّأ وتيجي هنا..
نصبَ عودهِ وتوقَّفَ مقتربًا من وقوفِ راجح: 
-اسمعني إنتَ علشان مبحبش كلام أشباهِ الرجال، أنا لو مش راجل كنت طردتك من هنا، بعد اللي عملته في مراتي، أنا وبس اللي ليَّا الحق أكون هنا، أمَّا إنتَ متطفِّل لا غير..

ثارت شياطينُ غضبِ راجح التي لاحت بعينيه، واقتربَ يجذبهُ من تلابيبه:
-هوَّ مين ياحشرة اللي أشباه الرجال، دا أنا مش هرحمك..دفعهُ بغضب، ولكمهُ بصدره ..فتدخَّلَ زين صائحًا بهما: 
-إيه اللي بتعملوه دا، إحنا في مستشفى ومش في مصر كمان، اهدوا، لحدِّ مانشوف الدكتور هيقولِّنا إيه..استدارَ إلى راجح وأشارَ إليه: 
-راجح دا جوز رحيل، خلاص بقى سواء رضيت ولَّا لأ، دنا منه خطوةً واخترقهُ بنظراته:
-إحنا لسة ماتكلمناش في اللي حصل في الشركة، وإزاي طارق يهجم على بنتِ خالته ويطردها، لا وكمان عايز تغصبها على الجواز، لسة متحسبناش ياراجح، فياريت تسكت مش عايز كلمة واحدة، إحنا هنا علشان مالك وبس. 

تحرَّكَ مغادرًا المكانَ بخطواتهِ التي تأكلُ الأرض، يشيرُ بيدهِ معترضًا على الكلام..راقبت رانيا تحرُّكهِ إلى أن اختفى، ثمَّ توجَّهت إلى زين:
-ينفع كدا يازين، ليه تعمل فيه كدا، يعني تفضَّل عليه عيِّل، وجزاته أنُّه خايف على راحيل وورثها..
-رانيا مش عايز أسمع كلام، جوزك وعارفه مش منتظر إنِّك تعرَّفيني عليه، وبدل ماإنتِ واقفة تدافعي عنُّه، ادخلي شوفي أختك التعبانة دي..

رمقت يزن بنظرةٍ سريعةٍ ثمَّ تحرَّكت متَّجهةً إلى الغرفةِ دون حديثٍ آخر، التفتَ زين إلى يزن واقتربَ منه قائلًا:
-متفكرشِ إنِّي قبلت هجومك وكلامك عليه، دا قدِّ والدك، عيب أوي إنَّك تكلِّم اللي أكبر منَّك بالطريقةِ دي، غير هجومك الغير مبرَّر عليه.. 
-حضرتك ياعمُّو أنا معملتش حاجة، شايف عمل إيه..
رفعَ كفَّيهِ إليهِ بالصمت، ثمَّ أردف: 
-أيِّ حدِّ مكانه كان هيعمل كدا، متزعلشِ يابني، راحيل ينطِمع بيها، وهوَّ حسب نظرته شايف إنَّك طمعان في ورثها، غير إنِّ طارق ورحيل كانوا مخطوبين فهوَّ كأب صعبان عليه ابنه. 
-خالو ممكن مانتكلمش في الموضوع دا، أنا تعبانة وماليش نفس للمناهدة..

بالقاهرة وخاصَّةً بشقةِ آدم: 
وصلَ بها إلى الداخل، وأغلقَ البابَ يسحبُ المفتاحَ منه، ثمَّ وضعها بهدوءٍ مع محاولتها التملُّصَ من بينِ قبضته.. 

تراجعَ يسحبُ نفسًا ثمَّ اتَّجهَ إلى الأريكةِ وجلسَ عليها مع محاولاتها بالخروج، ركلت البابَ تصرخُ به ثمَّ اقتربت تلكمهُ بصدرهِ وهو جالسًا دون أيِّ ردِّ فعل، هاجت بنَّيتها بالعواصفِ الغاضبة تسبُّه، وبدأت تحطِّمُ كلَّ ما يقابلها حتى هوت على الأرضيَّةِ بأنفاسٍ مرتفعة..نهضَ من مكانهِ وجلسَ بجوارها على الأرض: 
-من تلات سنين بعد حصولي على الدكتوراه بدرجةِ امتياز، كان معايا تلاتة من جنسيات مختلفة، واحد بريطاني، وواحد نمساوي، وواحد روسي وأنا، بيختارو اتنين بس للتعيين، كان طبعًا لازم يعيِّنوا مننا، وإنتِ عارفة التعيين في الجامعة دي بداية أوَّل خطوة في النجاح ، حلمي هيتحقَّق، للأسف الوقت دا عمِّتو ماتت، حاولت اتَّصل بيكي بس طبعًا مرات أبوكي قالتلي إنِّك مش عايزة تكلِّميني، قولت من الصدمة، مرَّة واتنين ومعرفتش أوصلِّك، لحدِّ مافي يوم قالتلي الصراحة يادكتور إنتَ صعبان عليَّا بس إيلين مش هتكلِّمك تاني خلاص، أصلها بتحبِّ واحد منعها من الكلام معاك، فضلت دقايق أستوعب الكلام اللي قالته لحدِّ ما قفلت الخط بعد ماقدرتش أردِّ عليها، وأنا بفتكر كلامك وهستناك ومتتأخرش، آدم أنا بحبَّك..رفعَ رأسهِ وتعمَّقَ ببنيَّتها:
-الكلمة دي كانت زي المرض الخبيث في الودان، ضحكتك وإنتِ بتقوليها مع كسوفك، ريحتك في قميصي وأنا مسافر اللي رفضت أغسله علشان كلِّ ماأشتقالك أشمُّه، خجلك لمَّا بوستك على خدِّك، دا كلُّه كان كذب، إزاي قدرتي تعملي كدا فيَّا، قعدت مع نفسي، إيه دا إزاي ماأخدتش بالي إنِّي حبِّيت عيِّلة كلمة بتودِّيها وكلمة بتجبها، كلِّمت أبوكي علشان أقطع الشكِّ باليقين، قالِّي البنتِ اتخطبت ياآدم وربنا يوفَّقك..اتخطبت، للدرجة دي قدرت تنسى حبِّي بسرعة كدا، طيِّب فين حبَّها في الطبِّ اللي كانت بتقول هذاكر علشان نبقى دكاترة زي بعض، لا مستحيل فيه حاجة غلط كلِّمت كرم وحاولت أفهم إيه اللي حصل، وقتها إنتِ كنتي معاه، 
طلبت منُّه أكلِّمك إنتِ رفضتي، قولتي مش فاضية، وسمعتك وقتها بتنادي على حدِّ اسمه سمير وقولتي له هروح أشوف سمير لمَّا تخلَّص مكالمتك، اضَّيقت والدنيا اسودِّت في وشِّي، يعني أنا بفكَّر أتنازل عن الحلمِ علشان أرجع لك وإنتِ رافضة حتى تكلِّميني.. 

رجعَ بجسدهِ للخلفِ واستندَ على الجدارِ وتابعَ ذكرياتهِ المؤلمة، نهيت المكالمة مع كرم حتى لمَّا سألته ليه إيلين مش عايزة تكلِّمني، توَّهني عن الحديث، شكِّيت في الكلام اللي مرات أبوكي قالته، وقتها قرَّرت أكمِّل حلمي لنفسي، ودخلت المسابقة الأخيرة على أمل أتعيَّن في الجامعة، وكنت ضمنِ اتنين بس طبعًا عربي صعب ضدِّ بريطاني، في الوقتِ دا كنت متعرَّف على حنين، هيَّ أكبر منِّي بخمس سنين وكان ليها معارف كتير في الجامعة دي، وطبعًا باباها راجل له مكانة علميَّة هناك، غير أنُّه من أشهر كام عالم في مجاله، كانت بتتقرَّب منِّي بس أنا كنت رافض القرب دا، دخلت عليَّا بالحبِّ والحنان، منكرشِ انجذبت لها في وقتِ كانت جوايا حاجات كتيرة ماتت، قرَّبنا من بعض، حاولت أتقبَّلها في حياتي، لقيتها مرَّة جاية بترمي قدامي ظرف تعييني في الجامعة، وبتقولِّي مبروك.. 

أنا مكنتش مصدَّق، يعني اختاروني عن الشخصِ التاني إزاي، كنت فقدت الأمل، لقيتها بتقولِّي، بابا تدخَّل، وكمان أنا عندي معارف، رغم مكنشِ عاجبني الطريقة بس خلاص حصل.. 

زفرةٌ حارقةٌ أخرجها حينما شعرَ بأنَّها تحرقُ جوفهِ وأكمل: 
-لقيت نفسي بطلبها للجواز، ووافقت على طول، ووثَّقنا عقدِ جوازنا في السفارة، بس بعد ما كتبت عليها حسِّيت إحساس غريب مش قادر أتقبَّلها في حياتي، أسلوب حياتها غير أسلوب حياتي، شرطت عليها مش هنتمِّم جوازنا غير لمَّا أنزل مصر وأعرَّف بابا، وهيَّ كانت متقبِّلة الموضوع جدًا، وفضلت حياتنا سنتين عادية، اعتدلَ ينظرُ إليها: 
-عمرها ماحرَّكت مشاعري، رغم إنَّها حلوة، ولا عمري شوفت نفسي معاها، فضلت حياتنا زي ماهيّ،  لحدِّ ما رجعت مصر وبابا قالِّي لازم تتجوِّز بنتِ عمِّتك علشان الوضعِ كذا وكذا، صراخك وقتها ورفضك ليَّا أكدلي إنِّك بتحبِّي حدِّ تاني، حتى لمَّا قعدت معاكي قبلِ جوازنا، حاولت أشوف في عيونك حبِّ آدم القديم مشفتش غير عيون باردة، عيون معرفهاش، فكان لازم أدوس على نفسي وقلبي وأحاول أحافظ عليكي علشان مظلمشِ قلبك معايا، لحدِّ مامريم حكت لي كلِّ حاجة قبلِ سفرها بيوم، إحنا الاتنين ظلمنا بعض، حاولت كتير أحكي لك بس إنتِ مدتنيش فرصة، كلِّ كلامك كان هجوم وبس، إنتِ ظلمتيني ياإيلين وأنا ظلمتك، بس وحياة أوَّل دقّّة حب نبضت بقلبي عمري مانسيتك، ولا عمري فكَّرت أخون حبِّك، كلِّ اللي حصل قدر، دي الحقيقة عايزة تصدَّقي براحتك مش عايزة براحتك، ودلوقتي مستقبل حبِّنا بين إيديكي، وأنا هعمل اللي إنتِ عايزاه، وفي نفسِ الوقت هكون سندك وعمري ماهتخلَّى عنِّك.. 

رفعَ ذقنها ومسحَ دموعها التي أغرقت وجنتيها: 
-دموعك غالية وبتدبحني، إيلين من وقت ماهربتي من حضني وأنا ضايع، محستشِ باآدم ولا قلبي دق إلَّا وإنتِ في حضني، لو فعلًا عايزة تموِّتي آدم ابعدي، لو موتي هيريِّحك أنا موافق. 
قالها ونهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى الباب، وقامَ بفتحه، ثمَّ ألقى المفتاحَ إليها وتحرَّكَ للخارج.

بعد أسبوعٍ بالمشفى عند أرسلان، دلفَ إليهِ إسحاق، جذبَ المقعدَ وجلسَ بمقابلته، نهضت غرام من جواره: 
-هروح أشوف ماما صفية..أومأ لها دون حديث:
-عامل إيه دلوقتي؟..
-كويس..أخذَ نفسًا عميقًا وطردهُ بهدوءٍ  ثمَّ انحنى يمسِّدُ على رأسه:
-إنتَ عارف إنَّك قطعة من روحي.. 
-لا مش عارف ومش عايز أعرف، أنا دلوقتي مبقتشِ عارف أيِّ حاجة..
-أرسلان..
ظلَّت ملامحهِ متجمِّدةً إلى أن نطق: 
-عايز أنام، تعبان ومش قادر أتكلِّم. 
أومأ له ثمَّ نهضَ مستديرًا ليستمعَ إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة، يتبعهُ دخولُ فريدة وإلياس.. 

تقابلت نظراتُ إلياس مع إسحاق بصمت، إلى أن خرجَ من الغرفة، بينما اقتربَ إلياس يطلقُ صفيرًا:
-النهاردة الله أكبر حالتك كويسة، رسمَ ابتسامةً دون حديث، دنت فريدة منهُ ثمَّ انحنت تطبعُ قبلةً فوق جبينهِ تملِّسُ على وجهه:
-عامل إيه ياحبيبي؟..
ابتسمَ وأجابها: 
-الحمدُ لله..حمحمَ إلياس وأشارَ إليها على المقعد:
-اقعدي علشان مادخويش، ثمَّ اتَّجهَ إلى أرسلان: 
-مدام فريدة كانت تعبانة ورغم كدا جتلك إمبارح، أصرِّت إنَّها تشوفك بس كنت نايم.، 
-متشكِّر ياستِّ الكل..لمعت عينيها ترفعها إلى إلياس الذي أشارَ إليها بالسيطرةِ على دموعها، فاقتربَ منحنيًا  يستندُ على فراشه:
-الحادثة دي حصلت إزاي؟.. 

سحبَ بصرهِ بعيدًا عنهُ قائلًا:
-مش فاكر، محستشِ بنفسي غير والعربية بتتقلب..
-أمم..هعمل عبيط وأصدَّقك، المهمِّ لازم تفوق بسرعة علشان عندي مفاجأة هتعجبك أوي.. 
-مفاجاة منَّك، وتعجبني..قهقهَ إلياس يشيرُ إلى والدته:
-كدا أنا اطَّمنت عليه، لا وبيقولوا مضروب في راسه.. 
أفلتَ ضحكةً مما شعرَ بتألُّمهِ ليضعَ يدهِ على رأسه، هبَّت فريدة بتلهُّف: 
-حبيبي راسك لسة بتوجعك؟..رفعت عينيها إلى إلياس ونطقت بنبرةٍ منزعجة: 
-شوف الدكتور يجي يشوف أخوك، هوَّ سايبه كدا ليه؟.. 
قالتها مع أنفاسها الهادرة، ليقتربَ منها ويساعدها بالجلوس: 
-حبيبتي ممكن تهدي، إحنا ماصدَّقنا الضغط اتظبط، قالها بمغذى، لتجلسَ مضطرَّةً تفركُ جبينها ومازالت أنفاسها سريعة..
جلسَ إلياس بجواره: 
-الدكتور قالَّك إيه على وجع راسك، طبيعي من الحادثة، ولَّا فيه حاجة تانية، يعني عملت إشاعات وكلِّ حاجة تمام؟..قاطعهم دخولُ ملك وصفية.. 
توقَّفت فريدة، اقتربت منها صفية: 
-إزيك يامدام فريدة.. 
الحمدُلله..حمدالله على سلامته وعلى سلامة فاروق بيه.. 
-شكرًا..قالتها واستدارت بنظرها إلى أرسلان: 
-عامل إيه ياحبيبي؟.. 
-الحمدُلله، با..بترَ الكلمةَ وابتعدَ بنظرهِ عنها، اغروقت عيناها بالدموع، فمنذ أن أفاقَ وهو لم يتحدَّث مع أحد، انتهزت فرصةَ وجودِ فريدة وإلياس لتحدُّثِ معهُ قليلًا..

بعد فترةٍ خرجَ بجوارِ والدته، صعدَ إلى سيارته: 
-هوصَّلك على بيتي، تشوفي ميرال، بقالها فترة لوحدها، مش عايز أقرَّب منها علشان متفكرشِ حاجة تانية. 
زمَّت شفتيها تهزُّ رأسها باعتراضٍ تجلَّى بعينيها، وأردفت موبِّخةً إياه:
-وبعدين هتفضلوا كدا، مراتك حامل، ومحتجاك أكتر من أيِّ وقت..
-ممكن ماتدخَّليش في الموضوع دا لو سمحتي، أنا مطلبتش منها تمشي، هيَّ اللي قالت ننفصل، مش عايز أيِّ تدخُّل من حد، وياريت ماتضغطيش عليها.. 

أطرقت برأسها ونطقت بنبرةٍ منزعجة: 
-بضيَّعوا أجمل أيام عمركم، هيَّ بتهوُّرها وإنتَ ببرودك..
أظلمت عيناهُ بأسى وأجابها بصوتٍ عميقٍ رغم مايشعرُ به:
-أنا مقصَّرتش معاها، مش عايز مراتي يكون فيها أيِّ حاجة من أهلها، لازم تكون عارفة هيَّ مين ومتجوزة مين.. 
-يابني البنت بتمر بظروف صعبة غير حملها، بلاش إنتَ كمان تضغط عليها.. 
لم تهتز عضلةٌ من ملامحه، وتحرَّكَ بالسيارةِ دون حديث، وصلَ بعد فترة، 

كانت بالأعلى تعملُ على جهازها على أحدِ اللقاءاتِ التي أرسلتها صديقتها، استمعت إلى صوتِ سيارته، نهضت من مكانها تنظرُ من الشرفة، شاهدت نزولُ فريدة من السيارةِ بينما هو تحرَّكَ مغادرًا..اهتزَّ داخلها حتى شعرت برعشةٍ يتخلَّلها الحزن، لتجلسَ على مقعدها مرَّةً أخرى تحتضنُ جنينها:
-وآدي أسبوع كامل وباباك مقاطعنا، زي مايكون ماصدَّق يرمينا، تفتكر هوَّ مابقاش عايزنا، أنا تعبانة أوي ومحتاجة حضنه، استمعت إلى طرقاتِ الباب، أزالت دموعها ونهضت تقابلُ فريدة..

بمنزل راجح وخاصة بغرفة مكتبه
-شوف ياراجح، احنا صبرنا عليك، انت بقيت كارت محروق وجدًا، والشرطة عيناها عليك، لازم تنفذ اخر مهمة، دا لو عايز تعيش
توقف واتجه إلى جلوسه
-ازاي بس دلوقتي، اصبروا شوية لما الدنيا تهدى
-ولا يوم ياراجح، شوف هتعمل ايه
قالها ونهض من مكانه، ثم ألقى الصورة أمامه 
-البنت دي مبقاش ينفع السكوت عليها، دي وصلت لحد مهم وانت عارف النهاية ايه، موتك قصاد موتها ..
كانت تتنصت عليهم بالخارج، ابتعدت عن الباب سريعًا، قبل أن يراها احدًا، ثم صعدت إلى غرفتها، تدور حول نفسها 
-أكيد مش هيقتل بنته، لا لا، راجح ميعملهاش..دلف إليها ورسم ابتسامة 
-حابسة نفسك هنا ليه، اجهزي ورانا مشوار

بمنزل إلياس 
قبل قليل ترجلت من سيارته، واتجه للداخل، توقفت على رنين هاتفها
-لو عايز اقتله كنت قتلته، دي بس قرصة ودن، بنت رانيا يافريدة قصاد ولادك الاتنين، يااما دكتور في المستشفى يموت حضرة الظابط المريض.....
❤️❤️❤️

أشياء كثيرة 
.... تغيّرت فينا ....
لا الصوت صوتنا 
و لا الضحكات ضحكاتنا 
ولامشاعرنا بقِيَت كما كانت 
ياليتها   ....   ياااليتها  ....  بقِيَت كما كانت

غرباء 
صرنا عن أنفسنا 
ما عُدنا نجدُ أنفسنا  فى أنفسنا 
و لم  يعد بامكاننا  ان نلتقينا 

                ما أبعدَنا اليوم عنّا    ........    و ما أقرَب الأمس مِنّا

وصلت فريدة إلى غرفتها،عاملة إيه حبيبة مامي..ابتلعت مرارةَ آلامها وابتسمت لوالدتها:
-كويسة حبيبة قلبي، أرسلان عامل إيه النهاردة..نزعت حجابها وجلست على الأريكةِ مصدرةً تنهيدةً عميقة: 
-تعبان لسة، الحادثة كانت قوية، المهم سيبك إنتِ من أرسلان وقوليلي مش ناوية ترجعي البيت بقى، مش هينفع كدا إنتِ في مكان وجوزك في مكان.. 

جاهدت في إخفاءِ دموعها ورسمت ابتسامةً متَّجهةً إلى جهازها وتصنَّعت انشغالها، لتردفَ متسائلة:
-ماما عندي مؤتمر مهم أوي في شرم، إيه رأيك تكلِّمي إلياس وتقنعيه أحضره، ممكن يسمع منِّك.. 

توقَّفت فريدة واتَّجهت إلى جلوسها، ثمَّ انحنت تستندُ على الطاولةِ بكفَّيها تحدجها بنظراتٍ معاتبة:
-اسمعيني كويس ياميرو، مهما يحصل بينك وبين جوزك متخليش حدِّ يدخل بينكم حتى لو أنا، أنا مش عاجبني قعدتك في مكان وهوَّ في مكان، قولتي هتبعدي يومين ترتاحي، وكان حقِّك تهدي، بس دلوقتي ليه قاعدة بعيد عن جوزك، حبيبتي اللي بتعمليه غلط ..رفعت عينيها لوالدتها وجاهدت بإخفاءِ تمزُّقِ قلبها رغم ادِّعائها القوَّة إلَّا  أنَّ داخلها هش، هشٌ جدًا.
-ماما أنا خايفة، خايفة من بكرة أوي، خايفة من حياتي اللي جاية، إحساس جوايا وحش، مبقتشِ عارفة أتكلِّم مع حدِّ من صحابي، تخيَّلي المقالات اللي بهاجم بيها الناس، يطلع منهم راجل بحمل دمُّه، أنا تعبانة أوي ياماما أوي، 
ومش عايزة ضغط من إلياس. 
-ميرال خلِّيكي كدا لحدِّ ماجوزك يزهق منِّك.. 
صُعقت من حديثها المؤذي الذي شقَّ قلبها، كيف لها أن تتحمَّلَ فكرةَ أن تمتلكهُ غيرها، وخزاتٌ تنخزُ قلبها من مجرَّدِ كلمات..ثواني صامتة تقاومُ غلالةَ دموعٍ أحرقت مقلتيها، لتهبَّ من مكانها متَّجهةً إلى حمَّامها دون حديث، هوت على أرضيةِ الحمَّام تمنعُ بكاءها الذي جفَّ حلقها، لقد توجَّعت أكثرُ ممَّا تستحق، أغمضت عينيها وتمنَّت موتها لا محالة..شعرت بها لتدلفَ خلفها ترفعها من فوقِ أرضيةِ الحمَّام:
-قومي وبطَّلي ضعفك دا حبيبتي، أنا خايفة عليكي، ومستحيل أتخلَّى عنِّك، وهرجع أقولِّك للمرَّة المليون ميرال إنتِ بنتي وبس، مش عايزة موضوع راجح يكسرك، وثقي إلياس عمره ماهياخدك بذنبهم.. 

تعاقبت الأيام واحدًا تلوَ الآخر وبدأت حالةُ أرسلان بالاستقرار، وحُدِّدَ يومَ خروجهِ من المشفى، دلفَ إسحاق إليه: 
-صباح الخير حبيبي.. 
-صباح الخير..نطقها وهو يعتدلُ فوقِ فراشه، أمالَ يضعُ وسادةً خلفه: 
-أحسن النهاردة؟.. 
-الحمدُلله..دلفَ شخصٌ ما.
-أهلًا بحضرتك إسحاق باشا..دقَّقَ النظرَ إليهِ ثمَّ التفتَ إلى إرسلان: 
-فيه حاجة ولَّا إيه؟..
-عمُّو ممكن تسبني شوية مع عمرو، عايزه في حاجة مهمَّة.
قابلَ حديثهِ بصمتٍ دام لدقائقَ ثمَّ انحنى يهمسُ بجوارِ أذنه:
-إنتَ ابني يالا، واحترم نفسك بدل ما تشوف وشِّ إسحاق التاني، هسيبك وأروح أشوف مراتي اللي حتى مش هان عليك تسأل عنَّها..
-ليه مالها؟!..تحرَّك إسحاق إلى أن وصلَ إلى الباب: 
-باباك فاق وكلِّ شوية يسأل عليك،ياريت تقوم تتمشَّى وتروح تشوفه، يابنِ فاروق..قالها وخرجَ مغلقًا الباب.. 
أشارَ إلى الرجل؛ 
-عملت إيه؟!..وضعَ أمامهِ بعض الصور..
-دول العيال، اللي حضرتك تخيَّلتهم، اتأكِّد كدا.. 
قلَّبَ الصورَ من بينِ يديه، وشردَ بيومِ حادثته، بعدما عرقلت إحدى السياراتِ طريقه، لتنقلبَ السيارةَ رأسًا على عقب، مرَّرَ أناملهِ على أحدِ الصور، محاولًا التذكُّر، ثمَّ رفعَ الصور إليه:
-عايز الواد دا، وممنوع إسحاق يعرف حاجة، اخترع أيِّ حاجة.. 
-تمام ياباشا، فيه أيِّ أوامر تانية؟.، 
أومأ له ثمَّ أردف؛
-عايز شركة أمن موثوق فيها..قطعَ حديثهما دلوفُ ملك، فأشارَ إليهِ بالخروج..
-أرسو حبيبي عامل إيه؟.. 
-ابتسمَ لها، اقتربت منه، فأشارَ بيدهِ أن تبتعدَ قائلًا:
-معلش حبيبتي تعبان وخايف أعديكي، 
جلست بجوارهِ تسحبُ كفَّيه، ثمَّ انحنت تقبِّلهما وانسابت دموعها: 
-مستعدة آخد آلامك كلَّها بس تفوق لأختك، مش هقدر أعيش من غيرك ياأرسلان..

أطبقَ على جفنيهِ يقاومُ الرجفةَ التي تحرقُ داخله، فلقد طعنتهُ كلماتها، يودُّ أن يصرخَ من أعماقِ قلبهِ ليشعرَ به الآخرين، فلا أحد يعلمُ بأنَّهُ يبذلُ قصارى جهدهِ حتى لا يفقدَ اتِّزانهِ أمامَ الجميع، يحاولُ الكثيرَ والكثيرَ حتى لا يضعفَ أمامَ تلك العاصفة..

رفعَ ذراعهِ يجذبها بحنانِ أحضانه بعدما شهقت ببكاء:
-تعالي ياملاكي، وأنا مقدرشِ أبعد عن ملاكي الشقي، مسحت رأسها بصدرهِ وأردفت بنبرةٍ باكية:
-إنتَ مابقتشِ بتحبِّني ياأرسلان من وقتِ مااتجوِّزت، أنا حاسة إنَّك بعيد عنِّي، لو عملت حاجة تزعلَّك قولِّي وأنا واللهِ آسفة المهمِّ ماتبعدشِ عنِّي..
أخرجَ رأسها وطبعَ قبلةً فوق جبينها:
-ملوكة عمري ماأزعل منِّك ياروحي، فيه حدِّ يزعل من ملاكه برضو، المهم بابا عامل إيه؟..وماما ماشفتهاش النهاردة.. 
هزَّت كتفها بعدمِ معرفة وأجابته: 
-أنا جيت مع غرام، هيَّ قالت لي هتشوف بابا وتيجي، وأنا جيت هنا إنتَ كنت واحشني أوي.. 
ابتسمَ يداعبُ وجنتيها: 
-حبيبة قلبي، دلفت غرام متَّجهةً إليهما تسيرُ باستحياءٍ من نظراتهِ العاشقةِ لها: 
-صباح الخير، عامل إيه دلوقتي؟.. 
بسطَ يديهِ إليها: 
-تعالي هنا علشان أعاقبك قدَّام ملوكة، إزاي أصحى من النوم مالقكيش في حضني.
تورَّدت وجنتاها تبتعدُ بنظراتها عنه، هتفت ملك: 
-أقولَّك أنا ياأبيه، غرام أنا كلَّمتها علشان ماما رفضت ترجع البيت وأنا خوفت أرجع لوحدي، فعمُّو إسحاق غصب علينا نرجع نبات وهيَّ اتكسفت تقولُّه لأ، بس طول الليل رايحة جاية عايزة تطير لعندك،  
كانت نظراتهِ عليها وحدها، ليهمسَ بخفوت:
-ماهي دي غرامي ياملوكة، مينفعشِ تنام وحبيبها بعيد عنَّها.. 

توسَّعت عيناها ترمقهُ بنظراتٍ خجلةٍ من حديثهِ أمامَ ملك، قهقهَ عليها يشيرُ إلى ملك قائلًا:
-شوفتي اتكسفت إزاي..دلفت صفية وعينيها تحتضنه: 
-صباح الخير ياحبيبي..بترَ ضحكاتهِ ثمَّ أومأ يشيرُ إلى ملك وغرام: 
-سبوني مع صفية هانم شوية.. 

مرَّت دقائق والصمتُ سيِّدُ الغرفة، سوى من نظراتِ أرسلان إلى صفية، سحبَ نفسًا عميقًا ثمَّ نطقَ بنبرةٍ هادئةٍ رغم مايشعرُ به:
-أنا لقيط، ولَّا يتيم ولَّا..وضعت كفَّها على فمهِ وتدحرجت دموعها بكثرةٍ تغرقُ وجهها، لقد حانَ الوقتُ لتمزيقَ القلوب، فمهما مرَّت الأيامَ والسنون، إلَّا أنَّ الحقَّ سيعودُ حتمًا لأصحابه

نظرت لعينيهِ بروحٍ تأن، وقلبٍ ممزَّق: 
-من خمسة وتلاتين سنة وقفت أحلام وأصرِّت على فاروق يتجوِّز ويطلَّقني، انا كنت من عيلة بسيطة أبويا موظف، أحلام محبتش ارتباطنا، فاروق كان أستاذي في الجامعة، حبِّبني في مادة القانون أوي، وكنت أقعد أتناقش معاه طول المحاضرة، طالبة أخدت أستاذها قدوة لها، أربع سنين وهوَّ بيدرَّسني، لحدِّ ما خلَّصت جامعة وعلاقتي بيه طالبة وأستاذها، لحدِّ مانتيجتي ظهرت، سمعت بابا بيقولِّي صفية الدكتور بتاعك اتَّصل بيا وباركلي وقالِّي إنِّك من العشرة الأوائل على الدفعة، فرحت أوي، طموحي اتحقَّق، وتاني يوم رحت زي ماهو اتفق مع بابا، لقيته منتظرني في مكتبه، أوَّل ما دخلت له شوفت في عيونه نظرة غير نظرة أستاذ لطالبته، ورغم كدا عدِّيت الموضوع ودخلت بقولُّه: 
-حضرتك طلبتني، وقف وقالِّي وحشتيني أوي ياصفية، يوميها معرفتش أرد توهت من كلمة، قرَّب منِّي وقالي صفية أنا جبتك النهاردة مش علشان النتيجة؛ أنا جبتك علشان أقولِّك إنِّك عجباني وعايز أتجوزك.
أنا رفضت من قبلِ مايكمِّل كلامه، لأنِّي عارفة صعب أتجوِّزه، هوَّ كان من عيلة غنية أوي، وكان معاه دكاترة بيتمنُّوا منه نظرة بس، سبته ومشيت وماردِّتش، عدَّى شهرين وحالتي تدهورت وبابا زعل عليَّا علشان رفضت.. اتعيِّن في الجامعة ودا كان حلم حياتي، اضطريت أقبل علشان بابا وبس.. 

مجرد مانزلت شغلي لقيته اتقدملي وبابا كان فرحان، ومخبيش عليك أنا كمان فرحت بيه أوي، بس طبعًا مدام أحلام رفضت علاقتنا، والجواز عامة.. 

بس فاروق اتمسَّك بيَّا وأصرّ على الجواز، وأبو فاروق ساعدنا واتجوِّزنا، سنة بعد سنة وأحلام بضيَّق عليَّا لحدِّ مامر تلات سنين على جوازنا ومفيش ولاد، روحت كشفت وكانت هنا الصدمة اللي حرقت قلبي، لمَّا الدكتور قالِّي فيه ورم في الرحم ولازم يتشال، حياتي هنا انهارت وطلبت الطلاق من والدك، في الوقتِ دا أحلام اطلَّقت من عمِّي وسافرت مع جوزها الجديد، فاروق رفض الطلاق، وقال دا مكتوب علينا، كفاية أنا مبسوط معاكي، وعندي إسحاق بعتبره ابني مش أخويا، عدَّى اول خمس سنين بجوازنا وحياتنا إلى حدٍ ما هادية بس جوايا نار ومش قادرة أتكلِّم، رجعت أحلام بعد وفاة عمِّي وطبعاًا خمس سنين جواز ومفيش ولاد اتجنِّنت وأمرت فاروق بطلاقي هيَّ أصلًا مكنتش متقبلاني، لحدِّ مافي يوم فاروق دخل عليَّا بطفل صغنن، ومش مبطَّل عياط، حطَّك في حضني وقالِّي: 
شوفتي ربنا بعتلنا إيه، دا دليل إنِّك قدري ومستحيل أطلَّقك أو أبعد عنِّك، انسي ياصفية، ولو وصلت أتنازل عن كلِّ أملاكي، انا فكرت في حل هيرضي الكل، والولد دا بشارة خير، هو كان بيفكر يتبنى طفل اصلا، قالي ياله اجهزي هنسافر، محستش بأيِّ حاجة غير قلبي اللي كان بعيَّط على عياطك، ضمِّيتك لحضني، وقومت عملت لك ميَّة وسكر، كنت جعان أوي، لهفتك على الميَّة في الوقتِ دا بكَّاني، ضمِّيتك لصدري وبكيت أوي أوي ياأرسلان، لقيت فاروق بعد شوية داخل عليَّا بعلبة لبن وبيقولِّي 
صفية أكِّلي ابنك، كرَّرت الكلمة ابني، اتجنِّنت من الكلمة، وقولت له بس دا ممكن يكون مخطوف.. 
رد عليَّا وقالي مهما كان، أنا هتابع لو لقينا حدِّ سأل عليه صدَّقيني هرجَّعه، المهم دلوقتي لازم نسافر قبلِ ماأمي ترجع من شرم، مرَّت شهور وفاروق بيراقب كلِّ مراكز الشرطة على أساس حدِّ يسأل عنَّك، مفيش حد، لحدِّ سنة..كمِّلت سنة وفاروق كتبك بعدها باسمه، ونزلنا مصر على اني عملت حقن مجهري برة وخلفت، وكان في الوقت دا عملت استئصال رحم كمان، علشان فضلت فترة اتعالج دون عملية ومنجحتش للأسف

-يعني أنا ماليش نسب، مش معروف ابنِ مين..قاطعهم دلوفُ تمارا ووالدتها.. 

عند إلياس: 
خرجَ من عملهِ متَّجهًا إلى منزله، وصلَ إلى المنزلِ ثمَّ رفعَ هاتفه:
-انزلي تحت أنا مستنيكي علشان نروح للدكتور..
وصلت إليه بعد فترةٍ قليلة، صعدت السيارةَ بجواره، التفتت إليه: 
-ليه الدكتور النهاردة مش ميعادنا بعد يومين؟.. 
تحرَّكَ بالسيارةِ قائلًا:
-مش هكون موجود، أومأت دون حديث تنظرُ أمامها بصمت، تمنَّت أن يجذبها لأحضانهِ اشتياقًا، فلقد غمرت رائحته رئتيها، حاولت الصمود أمامه ولكن كيف الصمود بحضرته، وضعت رأسها على نافذة السيارة تنظر للخارج حتى تنشغل عنه..بعد عدَّةِ ساعاتٍ عادت إلى منزلها، ترجَّلت من السيارةِ تطالعهُ منتظرةً نزوله، أشارَ إليها بالدخولِ مع رنينِ هاتفه، اكتفت بتنهيدةٍ مرتجفةٍ أخرجتها بكمِّ اشتياقها إليه..خطت للداخلِ والحزنُ واضحًا  بعينيها، لقد أُضرمت نيرانُ الاشتياق وفقدت الصمود، لتنهارَ قلعتها أمام حصونهِ المهلكة، وتلتفَّ متراجعةً إلى وقوفه..ظلَّّت متوقفةً إلى أن أنهى مكالمته..
رفعَ عينيهِ منتظرًا حديثها: 
-انزل بات معايا الليلة حاسة إنِّي تعبانة. 

طالعها بإيماءةٍ بسيطة، وعيونٍ ممزوجةٍ بالعتاب، كتمت سعادتها من موافقته، وهربت من أمامه، بعد فترةٍ جلست بمقابلتهِ تتناولُ طعامها بصمت، قطعت الصمتَ متسائلة: 
-هتقول لأرسلان إمتى إنَّك أخوه؟.. 
مضغَ طعامهِ بهدوء، ثمَّ أجابها: 
-لمَّا يفوق من الحادثة، أنا اتكلِّمت مع الدكتور، رفض علشان ألم دماغه، ممكن الصدمة تأثَّر عليه وخصوصًا لسة خارج من عملية كبيرة .. 

أومأت موافقة:
-أنا فعلًا كنت شايفة دا حلّ كويس، وخصوصًا أنُّه مسألشِ في حاجة زي ماإسحاق قال.. 
أنهت طعامها لتتوقَّفَ قائلة:
-شبعت إيه رأيك نقعد شوية في الجنينة برَّة..
-اطلعي ارتاحي، أنا عندي شغل مش فاضي، لو عايزة تقعدي برَّة خدي هناء معاكي.  
-لا هطلع أرتاح..قالتها وتحركت تضغط على شفتيها حتى لا تبكي

بعد فترةٍ صعدَ إلى غرفتهِ التفت إلى غرفتها ينظرُ إليها لدقائق، ثمَّ ساقتهُ قدميهِ إليها، فتحَ البابَ ودلفَ للداخلِ وجدها مستغرقةً بنومها وهي جالسةً وبيديها كتاب، سحبهُ من بين يديها قرأ  عنوانه"كيف تكونين أمٍّ ناجحة"
أعدلَ نومها ودثَّرها يمسِّدُ على خصلاتها ثمَّ طبعَ قبلةً حنونةً فوق جبينها، فتحت عينيها: 
-إلياس ..

جلسَ بجوارها يطالعها بنظراتٍ بعثت قشعريرةً لجسدها، نظراتهِ تضعفُ ثباتها، تريدهُ فقط، أغمضت عينيها مرَّةً أخرى هروبًا من تسلُّطه، فكيف تشكو منهُ إليه..
-جيت أطِّمن عليكي قبلِ ما أنام محتاجة حاجة؟..رفرفت بأهدابها تهزُّ رأسها بالإيجاب، فليس من السهلِ أن تقتلَ ذاك الخفقَ الذي يخصُّه، جذبت كفَّيهِ ونطقت بنبرةٍ مترجيَّة:
-عايزة أنام في حضنك..حاصرها بنظراتهِ لفترةٍ فكانت هادئةً على غيرِ عادتها، نظراتها المستعطفة، ونبرةُ الألمِ التي شعرَ بها بصوتها جعله يومئ  موافقًا..تمدَّدَ بجوارها يضعُ كفَّيهِ تحت رأسهِ ينظرُ لسقفِ الغرفةِ بصمت، متذكِّرًا حديثَ فريدة عن اتصالِ راجح وتهديدهِ لها، أغمضَ عيناهُ وعقلهِ يعملُ بكافَّةِ الأرجاء، التفتت تنظرُ إلى سكونه، ظنَّت أنَّهُ غفا، فاقتربت منه 
والتصقت به تضعُ رأسها على صدره،  وجذبت ذراعيهِ من تحت رأسهِ بهدوء، تلفُّها حول جسدها، شعرَ بها، فاستدارَ معتدلًا يجذبها إليهِ بقوَّة، دافنًا رأسهِ بعنقها..ارتجفَ جسدها من قوَّةِ المشاعرِ التي أحسَّت بها، حتى لاحت ابتسامةٌ على وجهها، مطبقةَ الجفنينِ تحمدُ اللهَ بسريرتها على رجوعه.. 

رفعت رأسها بعدما وجدت صمته، وملَّست على وجههِ بعشق، فتحَ عينيهِ لتحتضنَ العيونُ بعضها البعض بصمتٍ لفترةٍ من الزمن، مما جعلها ترفعُ أناملها وتحرِّكها على وجهه، مقتربةً منهُ تدفنُ رأسها بعنقهِ تهمسُ بخفوت: 
-وحشتني أوي.. 
حاولَ السيطرةَ على دقَّاتِ قلبهِ العنيفة، يقسمُ أنَّها اخترقت ضلوعهِ من قربها فقط، ورغم ذلك نطقَ قائلًا:
-وحشتك إزاي وإنتِ عايزة تنفصلي، ولَّا مفكَّراني ضعيف وبتحاولي تتنازلي علشان ظروفي؟..اعتدلَ جالسًا والتفتَ يجذبُ سجائره وأشعلَ واحدة منها، مبتعدًا بنظراتهِ عنها واستأنفَ حديثه:
-أنا موافقتش أبات هنا إلَّا لمَّا إنتِ طلبتي دا، وكمان لقيتها فرصة كويسة أبعد عن عيون أمِّي الحزينة وبس، مش قادر أبص في عيونها بعد اللي حصل لأرسلان، وإصرارها أنُّه يعرف في أقرب وقت..قالها ونهضَ من مكانه..بينما هي تجمَّدَ جسدها وشحبت روحها تتمتمُ بخفوت:
-إنتَ شايف بعمل كدا علشان حاجة..توقَّفَ ينظرُ للخارجِ من النافذة
ونطقَ بنبرةٍ غلبَ عليها قسوته:
-مش مهم أنا شايف إنتِ بتعملي كدا ليه، المهم إنتِ قولتي إيه علشان تيجي هنا، ويوم ماروحتي المستشفى طلبت منِّك ترجعي البيت علشان راجح معرفشِ ناوي يعمل إيه، لكن إنتِ أصرِّيتي تيجي هنا، ولسة مصرَّة على الانفصال، التفتَ يطالعها بنظراتٍ توحي الكثير، واستطردَ بإبانة:
-مش أنا اللي مراتي كلِّ شوية تهدِّدني بالطلاق، خطا إليها بخطواتٍ متمهِّلة،  وعينيهِ تحاصرُ عيناها إلى أن اقترب من جلوسها، ونطقَ بنبرةٍ هادئةٍ رغم مايشعرُ به:
-أنا بحبِّك أه، ويمكن بحبِّك أوي كمان، بس أسلوبك يموِّت أيِّ حبّ جوايا، الراجل لو الستِّ داست على رجولته أو كرامته يدوس عليها حتى لو روحه فيها..

كانت تستمعُ إليهِ وشعورُ الألمِ والتخبُّطِ يسيطرُ عليها، لتتوقَّفَ متَّجهةً إلى وقوفه:
-إيه اللي بتقوله دا، أنا دوست على رجولتك وكرامتك؟!..
-ميرال أنا مش كلِّ مرَّة هقعد أعلِّم فيكي، وأقولِّك إنِّك كبيرة ومش صغيرة لتهوِّرك، أشارَ إلى المنزلِ وأردفَ بحدِّة:
-عايز أعرف ورا وجودك في البيت دا إيه، ليه جاية هنا لو إنتِ فعلًا بتحبِّيني وعايزة نكمِّل حياتنا، دنا حتى اختلطت أنفاسهما وتابع: 
-قولتي هننفصل بعد الولادة ولَّا لأ، قولتي مش قادرة تعيشي مع أسلوبي ولَّا لأ..إنتِ كمان مبقتيش تهمِّيني، عايزة تطلَّقي بعد الولادة عيوني، هو أنا أقدر أزعَّلك، دا إنتِ الوحيدة اللي من غبائي بضعف قدَّامها وبرجع في كلامي..
بسطت كفَّيها واحتضنت كفَّيهِ مع دموعِ عيناها: 
-خايفة ياالياس، خايفة في يوم تعايرني بأمُّي وأبويا 

صرخةٌ جنونيةٌ بوجهها وهو يطبقُ على أكتافها:
-أبوكي وأمِّك أحسن ناس في الدنيا، إنتِ بنتِ فريدة وبس، وأبوكي جمال الدين، زي ماطول حياتك عايشة بيه، الناس التانية دي منعرفهاش، وحذَّرتك قبلِ كدا مش عايزك تربطي علاقتك بحدِّ غيري وبس. 
-ابتلعت غصَّةً مؤلمةً وتسرَّبَ بداخلها ألمٌ يمزِّقُ جسدها هاتفة:
-بس أنا بنتهم، متكذبشِ على نفسك زي ماإنتَ يوسف جمال أنا ميرال راجح.. 
حروفٌ بسيطةٌ كانت كوقودٍ ناريةٍ أشعلت فتيلَ غضبه، ليجذبها بقوَّةٍ متناسيًا حملها: 
-إنتِ هتفضلي ميرال جمال الدين، وأنا هفضل إلياس السيوفي، غير كدا مسمعشِ صوتك، سمعتيني، واحمدي ربِّنا إنِّك حامل..

تآذرت آلامها تهزُّ رأسها رافضة حديثه، بدموعٍ تزحفُ على وجنتيها: 
-دا اللي خايفة منُّه، أفضل في نظرك بنتِ المجرم اللي خلَّاك إلياس السيوفي..

ميرال اخرسي، أنا مش ناقص..تعالت شهقاتها متراجعةً للفراشِ وهي تحتضنُ بطنها متألِّمةً عاجزةً عن وصفِ الألمِ الذي يحرقها، هوت على الفراشِ وتمدَّدت تواليهِ ظهرها تبكي بصمت.

جلسَ حاملًا خوفهِ عليها بداخله، انحنى يجذبها إليه: 
-ممكن أعرف إنتِ عايزة إيه بالظبط؟.. ميرال أنا تعبان متشيلينيش فوق طاقتي..
التمعت مقلتيها بوميضِ الأسف وردَّت: 
-آسفة ياإلياس، أنا عارفة إنَّك شايل فوق طاقتك، بس أنا محتجاك أوي خايفة ياإلياس، خايفة من كلِّ حاجة. 

جذبها وأجلسها بأحضانهِ بعدما شعرَ بالأسى والعطفِ عليها: 
-خايفة من إيه بس، رفعَ شعرها من فوق عينيها وتعمَّقَ بهما: 
-خايفة وأنا جنبك، خايفة وأنا جوزك، إنتِ كدا بتعترفي إنِّي مش راجل.. 
هزَّت رأسها بالنفي واقتربت تدفنُ رأسها بصدره:
-خايفة أتحرم منَّك ومن ماما فريدة، إحنا في موقف ضعف ياإلياس متنكرشِ دا، هوَّ قالِّي ممكن أبلَّغ في فريدة وأعملَّها قضية.. 

أخرجها من أحضانهِ يحتوي وجهها بين راحتيه:
-ولا حد يقدر يقرَّب منِّك سمعاني، ولا من أمي، هوَّ اللي يخاف، هوَّ وبس، اصبري بس موضوع أرسلان يعدِّي على خير وبعدها هعرَّفك هعمل فيه إيه، المهم أطَّمن على أرسلان، الدكتور بيقول الحادثة كانت قوية ودماغه متأثَّرة جدًا، وكويس أنُّه مفقدشِ الذاكرة، بس خايف يحصل نزيف داخلي، علشان كدا مش عايز أقولُّه حاجة دلوقتي لازم يتعافى كويس، ونرجع نعمل فحوصات تانية..وضعَ كفَّيهِ على أحشائها واستأنفَ حديثه:
-المهمّ إنِّك تفكَّري في ابننا وبس، ومالكيش دعوة براجح ولا كأنُّه عدَّى عليكي أصلًا، تمام؟.. 
-تمام ..قالتها بنبرةٍ هادئةٍ وعيونٍ لامعةٍ بالعشق، لتقضي على كلِّ خليةِ صبرٍ لديه، قربها إليه يحتضنَ كرزيتها بينَ خاصَّتهِ يعزفُ لحنهِ الأثيرَ لها وحدها، طالت القبلةُ لتصلَ لمشاعرَ أخرى، لتخبرها عن العشقِ المتغلغلِ بأركانِ قلبه، وهي بداخل حضنهِ وهو يتجرَّعُ من عسلها المذاب، لتهيجَ الروحُ وتصدرُ ألحانًا تخصُّها وحدها، مرَّ وقتٌ لم يشعر بما يدارُ حولهما..

بعد فترةٍ دلفت إليهِ تحملُ كوبينِ من الشاي الأخضر، وضعتهما على طاولةٍ دائريةٍ قائلة:
-عملت لك شاي أخضر، كفاية قهوة طول اليوم..بسطَ كفَّيهِ إليها، احتضنت كفَّيهِ ليجذبها إليه تجلسُ بأحضانه، ثمَّ قامَ بتشغيلِ إحدى المقطوعاتِ الموسيقيةِ لقيصرِ الغناءِ العربي.. 
تراجعت بجسدها عليه تلفُّ ذراعيهِ حولها: 
-لسة بتحبِّ كاظم..
-أمم، مطرب المرأة ..قالها ببساطة، اعتدلت ترفعُ رأسها إليه: 
-أنهي إمرأة ياسيِّدِ النساء؟..ابتسمَ لها ابتسامةً لعوب ثمَّ داعبَ أنفها بسبابته:
-أنا سيِّد امرأة واحدة بس ياميرو..استدارت إليهِ بكامل جسدها : 
-هتفضل معايا كدا دائمًا ياإلياس، مش هتتغير أبدًا؟.. 
أدركَ ما تشعرُ به، لينحني يقطفُ قبلةً من ثغرها ثمَّ تراجعَ برأسهِ ينظرُ لوجهها:
-إنتِ مراتي ياميرال، عارفة يعني إيه مراتي؟.. 
-بس أنا مش عايزة أكون مراتك بس.. 
ضمَّ رأسها إلى صدره وتمتم : 
-كلِّ حاجة صدَّقيني، إنتِ لإلياس كلِّ حاجة..أغمضت عينيها تستمتعُ لحديثه، الذي جعلَ قلبها معزوفةً موسيقيةً لتهمسَ له:
-وإنتَ أغلى من روحي والله، ولمَّا طلبت آجي هنا علشان ماحسش إنِّي بقيت عبء عليك، بتنفِّس حبًَك ياإلياس، إزاي أقدر أبعد عنَّك..

ضمَّها بقوةٍ لأحضانه، وبركانِ أشواقهِ وعشقهِ إليها يزداد، لا يعلمُ ماذا به اليوم، هل حديثُ فريدة أخافهُ بابتعادها عنه، أم أنَّ عشقهِ إليها هو الذي يحرِّكه..

استمعَ إلى رنينِ هاتفه: 
-أيوة يارؤى..
-إلياس هترجع إمتى، استنيتك ومرجعتش..ابتعدت عن أحضانهِ غاضبة، ابتسمَ وتابعَ حديثهِ إلى رؤى:
-أنا مش هرجع، لأنِّي في بيتي مع مراتي، عرَّفي ماما علشان ماتقلقش..
-إنتَ عند ميرال، انحنى يجذها ويرجعها إلى أحضانهِ مرةً أخرى:
-لا ..قصدك أنا في ببيتي، قالها وأغلقَ الهاتفَ يهمسُ لها: 
"ومراتي في حضني"
داعبت وجههِ بأناملها متمتمة:
-معقول إنتَ إلياس..أوعى أكون بحلم وتصحِّيني على كابوس..بترَ حديثها بطريقتهِ للحظاتٍ ثم ابتعد عنها:
-طيب بما أنُّه أنا راجل شرقي ومن حقِّي مراتي ترقصلي، وكمان بدلة رقص مش عايز أشوف فيها حتة قماشة ملمومة، توسعت عيناها وفتحت فاهها للردِّ إلَّا أنَّه استأنف، أنا بس سمعت مشفتش لسة بيقولوا بتطلع فوق التربيزات وبتلبس في إيدها بتاع بيشخلع، وفي رجليها بتاع بيرُن، فأنا قرَّرت أشوف مش أسمع.. 

لكمتهُ بصدرهِ تطلقُ ضحكاتٍ ناعمة، زلزلت قلبهِ ليضمُّها متراجعًا على الشيزلونج وهي بجانبه:
-طيب تنكري، واللهِ كنت عايز أحط الكلبشات في رجلك يوميها.. 
تمسَّحت بصدرهِ كقطةٍ أليفة تضحك:
-بس بقى علشان وقتها كنت هقع من فوق الترابيزة.. 
رفعَ ذقنها ينظرُ لعينيها متمتمًا:
-كنتي بضيِّقيني صح؟..أومأت بالإيجاب تضحكُ قائلة:
-الصراحة فرستني والبتِّ غادة دي مجنونة، وقاومتني عليك وحمَّستني أوي..
-طيب ماتقومي كدا وأنا أحمِّسك أكتر من غادة.. 
جحظت عيناها تطالعهُ بذهول، ثمَّ أشارت عليه:
-إيه دا إلياس والرقص، لا لا..اعتدلت جالسهً ترفعُ يديها: 
-افرحي ياميرال وارقصي ياطيور، ونوَّري يانجوم، إلياس السيوفي بيقولِّي ارقصي..
ارتفعت ضحكاتهِ الرجوليةِ لتصدحَ بالمكانِ يداعبُ شعرها: 
-واللهِ أنا ليَّا الجنة منِّك يابنت..اعتدلت على ركبتيها: 
-يابنتِ إيه، كمِّل..
زوى مابين حاجبيهِ وتصنع التفكير ومازالت ضحكاتهِ ترتسمُ على وجهه، ثمَّ اقتربَ منها: 
-بنتِ قلبي وعصفورة روحي ياسيَّدةِ النساء.
قالها وانحنى يحملها متَّجهًا إلى نعيمِ جنتهم.. 

بعد اسبوعٍ آخر 

بغرفة دينا بالمشفى، فاقت من غيبوبتها بعد دوام شهرٍ، امال بجسده يمسد على شعرها 
-حمد الله على السلامة 
وضعت كفيها على بطنها تهمس بضعف
-ابني..طبع قبلة فوق جبينها 
-ابننا كويس، شوية هيجبوه..تراجع بعد دلوف صفية
-حمد الله على السلامة يادينا ..اجابتها بضعف 
-الله يسلمك..أشار إلى صفية
-خليكي معاها هشوف الدكتور، وراجع 

خرج متجهًا إلى فاروق، اقترب منه 
-عامل ايه دلوقتي 
-فين ارسلان يااسحاق، انا مش هدخل عمليات غير لما اشوف ارسلان .
-فاروق سيبه شوية، اللي مر بيه مش سهل، هيرجع لوحده صدقني، المهم دلوقتي تفكر في صحتك، ارسلان خرج الصبح، كان المفروض يخرج من اسبوع بس أنا رفضت علشان اطمن اكتر
امسك يد اسحاق 
-لو مخرجتش من العملية، وصيتي لازم تتنفذ يااسحاق، سمعتني، هنتقابل يوم القيامة واسألك عليها، ملك أمانة عندك، وخلي ارسلان يسامحني
انحنى يقبل رأسه
-هتخرج بالسلامة يافاروق، ومفيش وصية سمعتني، وبنتك انت اللي هتجوزها للي يستاهلها، فكر بس بصحتك 

-بفيلا السيوفي 
وضع أمامها صندوقًا، يشير إليها 
-افتحيه..قامت بفتحه بهدوء، لتستخرج منه بعض الأوراق والصور، اتجهت ببصرها لإلياس، الذي اومئ لها بعينيه
-جبت الحاجات دي منين يامصطفى 
-دا ورق بيتك يافريدة، وصورك انت وجوزك وابنك، كل حاجة كانت متعلقة بجمال الله يرحمه، انا رجعتها من زمان، بس مردتش أقولك علشان متسبنيش، بس حافظت عليهم وكنت ناوي اعرفك قبل مااواجه رب كريم 

-اسكت يامصطفى، متجبش سيرة الموت..ربت على كفيها ثم نهض من مكانه
-إلياس هيروح دلوقتي لأخوه، انا اتكلمت مع إسحاق، مش عايز حد يتحامل على اسحاق، اكتشفت ارسلان عندهم زي ماإلياس عندي..اتجه بنظره الى إلياس 
-أنا مستحيل أتنازل عنك، وزي ماقولتها لغادة الله يرحمها، الولد ابني لحد مااموت، اقترب منه وربط على أكتافه
-أنا ربيته علشان يشلني لما أكبر، مش علشان ينكر وجودي صح ياالياس 
ابتسم يحضنه قائلًا:
-وأنا وعدتك قبل كدا يابابا، هفضل ابنك لحد مااموت، بس ابويا له حق عليا اخد حقه
ضمه بحنان ابوي وتمتم 
-وأنا في ضهرك ياروح بابا، وحياة كلمة بابا اللي اول مرة اسمعها كانت منك، مستعد احرق اللي يقرب منكوا حتى لو التمن حياتي 

اقتربت فريدة تدفن نفسها بأحضانه
-إنت احسن عوض بعد صبري يامصطفى ربنا ما يحرمنا منك يارب ياابو إلياس 
لمعت عيناه بالسعادة ليحتضن وجهها ويطبع قبلة مطولة فوق جبينها 
-ولا منك يانَانَا فريدة 
حمحم إلياس متراجعًا للمقعد
-عايز أعرف ليه خبيتوا عليا أن رؤى اخت ميرال، وليه ماقولتيش لحد دلوقتي لميرال، ورؤى بنت مين بالظبط، بنت رانيا 
-لا ..اخت طارق، ويزن السوهاجي 
هب من مكانه يطالعها بذهول
-المهندس ..اومأت له 
-يزن أخو ميرال ورؤى بس مفيش حد منهم يعرف..التفت مصطفى إليه 
-دلوقتي الموضوع بقى اصعب من الاول ياالياس، لأن راجح مفكر ميرال مش بنته، غير حملة المقالات اللي ميرال بتشنها على الإرهابيين، انا بقول تكلمها بهدوء خليها تبعد شوية عن الحملة دي علشان مش يأذوها 
اومأ له وخطى للخارج وهو يهتف
-هي اصلا هتاخد إجازة النهاردة، كانت منتظرة تخلص الشهر الخامس من الحمل..توقف واستدار إليهما
-هروح لأرسلان، بس طبعًا مش هقوله كل حاجة مرة واحدة 

بالمشفى بألمانيا
ارتفعت صفارات الانذار لتعلن عن توقف القلب، هرول الأطباء إلى غرفة المريض، ليخرج أحدهم بعد قليل معلنا عن وفاة المريض، لتدور بها الأرض وتهوى فاقدة الوعي 

عند إلياس 
صعد إلى سيارته وقام بمهاتفها
-عصفورتي بتعمل ايه، توقفت مبتعدة عن الجمع، ودلفت إلى غرفة مكتبها تغلقها خلفها
-عصفورتك جعانة اوي، معرفش فيه ايه..أفلت ضحكة مرتفعة
-يابنتي مفيش حاجة وراكي غير الأكل 
تذمرت تمط شفتيها للأمام
-كدا ياالياس بتسكتر عليا الأكل ..نظر إلى السيارة التي تراقبه، فتوقف على جانب الطريق قائلًا
-لا ياحبيبي، بس خايف عليكي ياعصفورتي، وبعد كدا معرفش احبسك
-لا متخافش هتعرف تحبسني، ماهو انت مفتري ياروحي..قهقه عليها ورفع نظارته ينظر بالمرآة 
-خلصي شغل وعاملك مفاجأة هتخليكي متبعديش عن حضني طول الليل..ابتسمت ونطقت بحبور تجلى بنبرتها 
-اوكيه، ساعة بالكتير وأكون في البيت 

بمنزلِ أرسلان، جلس فوق فراشه، يدقق النظر بزوجته الغافية بأحضانه، خلل أنامله بشعرها، وتنهيدة عميقة أخرجها على مراحل يهمس لنفسه
-حياتي كلها اتهدت، ياترى لما تعرفي هتعملي ايه، فتحت عيناها وابتسمت قائلة
-نمت كتير..نظر بساعته يشير لها بالنفي
-مش أوي، المهم عايز اتكلم معاكي في موضوع مهم، اتعدلي وصحصحي معايا علشان الموضوع مابقاش ينفع اسكت عليه ..تراجعت بجسدها وبعينان متلهفة انتظرت حديثه، احتضن كفيها واردف:
- عارفة انا بحبك قد ايه، اومأت ومازالت تتابعه بعيناها منتظرة حديثه، رفع كفيها وقبل كل واحدٕ على حدة قائلًا:
-علشان كدا لازم ننفصل، فزعت منتفضة من حديثه، مع طرقات على باب المنزل، نهضت من مكانها على صوت الجرسِ،  فتحت الباب: 
-أهلًا حضرة الظابط، قالتها وبعيونًا متلألئة بالدموع..أومأ لها ثمَّ تساءل:
-أرسلان موجود؟..أشارت إليهِ بالدخول: 
-جوا ..اتفضل !!

خرجَ إليهِ بعد قليل، نهضَ من مكانهِ  يصافحهُ بحنان: 
-عامل إيه النهاردة؟.. 
-كويس الحمدُلله، أقعد، تشرب إيه؟..
أشارَ إليه: 
-لا مش عايز حاجة، أنا جاي لك في موضوع مهم ولازم تكون هادي وتسمعني للآخر.. 
-خير ليه بتخوِّفني..قاطعهم صوتُ هاتفه:
-الولد جبته ياأرسلان باشا، طلع شغَّال مع راجح الشافعي.

عندَ ميرال استمعت هناء إلى هاتفها فهرولت إلى ميرال: 
-مدام ميرال لازم أمشي، عرَّفي الباشا، شقتنا ولَّعت وأخويا الصغير فيها وأمُّي مش موجودة 
أومأت لها بالمغادرةِ قائلة:
-طيب يبقى طمِّنيني..تحرَّكت سريعًا، فاتَّجهت إلى مكتبها، وجمعت بعض الصورِ التي قامت المحرِّرة بالتقاطها، ثمَّ اتًَّجهت إلى المكتبِ لتستأنفَ عملها، استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ المكتبِ لتسمحَ بالدخول، كانت تنظرُ بشاشةِ جهازها، لتغلقهُ بعد أن استمعت إلى صوته:
"إنتِ مش بنتي من الآخر إنتِ بنت حرام، شوفي بقى ممكن أعمل فيكي إيه، بعد اللي عملته في اللي من دمِّي، نزل ببصرهِ على بطنها، وتابعت بنبرةٍ جحيمية:
-هتعملي اللي هقولِّك عليه، ولَّا اللي معملتوش قبلِ كدا هعمله حالًا، وقبل ماتحاولي الأمنِ كلُّه بح تحت، وجوزك عند أخوه، اللي بعد دقايق الشقة هتولَّع بيهم فخلِّيكي حكيمة زي أمِّك كدا واسمعيني..
أخرج سلاحهِ وأشار إليها: 
-اتِّصلي بجوزك، واعملي اللي هقولِّك عليه

تعليقات



×