رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثانى والعشرون بقلم سيلا وليد
يا ليلَ شظايا القلوبِ المُحترقةْ
في صمتِها أسرارُ روحٍ مُرهقةْ
حُبٌّ توارى خلفَ ظلالِ الجراحْ
يروي الحنينَ بحبرِ دمعٍ وألمْ أفراحْ
على جدارِ الذكرى نقشتْ أمانينا
ورسمنا العمرَ بيدينا وخيباتْنا
تاهت بنا الطرقاتُ في زيفِ الوصالْ
وضاعَ الصدقُ في مَوجاتِ الاحتيالْ
لكنَّ النارَ، وإن أحرقتِ الجسدْ
ففي رمادها وميضُ الأملِ للأبدْ
يا قارئاً في طيّاتِ "شظايا القلوبْ"
ستجدُ أنَّ الحبَّ لا يخشى الذنوبْ
فاجمع شظايا القلبِ من رمادهْ
وامضِ إلى حياةٍ تُشرقُ من سوادهْ!
توقف إلياس وهو يستمع إلى حديث
شريف، يردد بينه وبين نفسه
-ممكن يكون جمال، اخيه، لقد حفرَ الحزنُ ثقوبًا داخلَ قلبه، ممَّا شعرَ برجفةٍ تعتري جسدهِ وهو يتحرَّكُ متَّجهًا إلى المكانِ الذي أخبرهُ به ذاك الضابط..مرَّ الوقتُ سريعًا إلى أن دلفَ إلى تلك العيادة، نظرَ إلى اللافتةِ التي تعلقُ على بابِ الشقة"كريم عادل الأسواني"
دلفَ للداخلِ إلى أن وصلَ لتلك الفتاة التي تجلسُ تدوِّنُ بعض الأسماء..
-حضرتك كشف ولَّا استشارة..تساءلت بها..ارتفعت دقَّاتهِ بعنفٍ حتى شعرَ بجفافِ حلقه، ورغم برودهِ وشخصيتهِ القويةِ إلا أنَّ داخله اهتزَّ وطالعها بعيونٍ شاردةٍ وكأنَّ لسانه رُبطَ ولم يعد للحروفِ مخرج، لحظاتٍ وهي تحادثه:
-ياأستاذ بسأل حضرتك، كشف ولَّا استشارة..ابتلع غصَّتهِ وأردفَ بهمسٍ خافت:
-الدكتور موجود، ولَّا لسة ماوصلش؟..
نظرت لساعةِ يدها وردَّت:
-على وصول..طيب أنا عايز أقابله ضروري، مش عايز كشف.
صمتت للحظاتٍ بدخولِ كريم ملقيًا السلام، ودلفَ للداخلِ مع ركضها خلفهِ بدفترها، بينما توقَّفَ إلياس ونظراتهِ على ذاك الشاب الذي دلفَ ولم يستطع رؤيتهِ للحدِّ المسموح.
خرجت تشيرُ إليه:
-اتفضل الدكتور مُنتظر حضرتك، بس بسرعة حضرتك شايف العيادة مليانة،
أومأ لها وأردفَ يشكرها:
-شكرًا..دلف للداخلِ يخطو بخطواتٍ متعثرةٍ وكأنَّ ساقيهِ تلتفُّ حول بعضها البعض، توقَّفَ يسحبُ نفسًا ينظرُ لبابِ الغرفةِ المغلق، كأنَّهُ بابَ إعدامه..دلفَ بعدما طرقَ البابَ وسمحَ إليه للدخول.
كان ينظرُ بجهازه، بينما نظراتُ إلياس ترسمه، رفعَ رأسهِ ينظرُ له:
-اتفضل الممرضة قالت لي إنَّك عايزني، خطا إلى جلوسه، توقَّفَ أمامهِ وعينيهِ تحاصرُ جلوسه، مما جعل كريم يهزُّ رأسه:
-سامعك..انحنى يتعمَّقُ بالنظرِ لعينيهِ ثمَّ قالَ بنبرةٍ هادئة:
-إلياس السيوفي
ضيَّقَ كريم عينيهِ متسائلًا:
-مش فاهم حضرتك..اعتدلَ إلياس يجذبُ المقعدَ وجلس بمقابلتهِ بعدما تسللَّ الشكَّ بداخله:
-مش إنتَ بدوَّر على إلياس السيوفي ومدام فريدة، أنا جيت لحدِّ عندك، اسأل وأنا أجاوبك بدل ماتلفِّ وتدور..
ابتلعَ كريم ريقهِ بصعوبة، وشعر بدوارٍ يضربُ رأسه، ليتراجعَ للخلفِ وعينيهِ تتهرُّبُ بكافةِ الاتجاهات..
كان يتابعُ تعابيرَ وجهه، صمتٌ مميت بالغرفةِ ولم يشعر بتعرُّقِ كريم من وجودهِ بذلك المأزق، لا يعلم بماذا سيجيبه، حمحمَ متَّجهًا إليه بنظراتهِ وارتبكَ بحديثه، ليردفَ بتقطُّع:
-مش فاهم حضرتك؟..
أخرجَ إلياس سيجارته، حينما تأكَّدَ أنَّهُ ليس أخاه، وبدأ يخرجُ دخانهِ بهدوء وعينيهِ الباردة تخترقُ جلوسه، دقيقة اثنتان وهو ينظرُ بصمتٍ مميتٍ إليه حتى فقدَ كريم اتِّزانهِ ليهتفَ قائلًا:
-مش أنا اللي سألت، أه الضابط صديق ليا وفهِّمته الموضوع يخصُّني بس مش أنا.،
ضيَّقَ إلياس عينيهِ منتظرًا باقي حديثه، ليتوقَّفَ كريم متَّجهًا إلى المقعدِ الذي يقابلهُ واستطرد:
-صديق مقرَّب ليا، بيدوَّر على مدام فريدة، مش عليك أبدًا، بس دي أسرار مقدرشِ أقولها لك، بس لو حضرتك مصرّ ممكن أقولَّك عنوانه، لكن سامحني لازم أستأذنه..
مطَّ شفتيهِ ينقرُ على المكتبِ ولاحت على وجههِ ابتسامةٍ ساخرة، حتى هربت الدموية من وجهِ كريم ليحمحم:
-ليه بتحسِّسني إنَّك مش مصدَّقني؟..
استدارَ إليهِ بنظرهِ واقتربَ بجسده:
-مطلوب منِّي أصدَّقك في إيه، وإنتَ بتدوَّر ورايا وورا أمي، لا وجاي بكلِّ بجاحة وتقولِّي أستأذن منه، دا إيه الهزار دا، هوَّ أنا جاي بطلب إيده منَّك..
ضربَ على سطحِ المكتب وهبَّ من مكانهِ وانحنى بجسدهِ يمسكهُ من تلابيبه:
-أنتوا تبع مين، وعايزين منِّنا إيه؟..
ابتلعَ ريقهِ يهزُّ رأسهِ محاولًا الحديثَ إلَّا أنَّ إلياس لم يعطهِ فرصةً للحديث، ليدفعهُ بقوَّةٍ حتى هوى على المقعدِ ودارَ حولَ المقعدِ هادرًا بحدَّة:
-اتِّصل بيه حالًا، لازم أعرف أنتوا مين..
-آسف مش هتَّصل..لم يكمل كلمته، حتى قبضَ على عنقهِ يهمسُ بهسيسٍ مرعب:
-أنا مش بهزَّر، وربِّي أدفنك هنا، دي أمي اللي بتنخوروا وراها، عارف يعني إيه أمي، يعني أولَّع فيك وفي الفاشل المتخبِّي وراك، هتتصل بيه ولَّا أموِّتك؟..
اغروقت عينيهِ بالدموعِ من اختناقهِ، مع ارتفاعِ رنينِ هاتفهِ الذي التقطهُ إلياس ثمَّ تركهُ ونظرَ إلى الهاتف..
-كريم أنا مسافر مع راحيل، مش هوصِّيك على إيمان ومعاذ، بس من بعيد ياعريس، إياك تقرَّب من البنت في غيابي، خلِّيك راجل يالا زي مااتعوِّدت عليك..أنا في المطار وآسف معرفتش أعدِّي عليك، معرفتش أسيب رحيل لوحدها..
-كريم سامعني..نظرَ إليهِ ليجيبه..
حمحمَ كريم وهو يجيبه:
-سامعك يايزن بعدين نتكلِّم علشان عندي حالة كشف دلوقتي..
-ماشي يادوك، على العموم أنا مفهِّم إيمان بس برضو مش ضامن ظروفي، وعلى فكرة عايز أشكرك ياكوكو، قابلت مدام فريدة الصبح، شكرًا شكرًا على كلِّ حاجة.
أغلقَ إلياس الهاتفَ وألقاهُ على المكتب يدورُ بالغرفة، بعدما علمَ بهويةِ المتحدِّث، ثمَّ استدارَ إلى الباب، توقَّفَ مستديرًا إليه:
-يزن السوهاجي مش كدا؟..
أومأ له مبتعدًا عنهُ بنظراته، تحرَّكَ مغادرًا المكانَ يقطعُ الأرضَ بخطاويهِ يهمسُ لنفسه:
-ياترى مخبية عليَّا إيه يامدام فريدة، وإيه علاقة يزن السوهاجي بيكي؟..
آه يا دماغك ياإلياس، دماغك هتفرقع..
ظلَّ يجوبُ الشوارعَ دون هدى، حتى وصلَ إلى منزلهِ الذي تقطنُ به ميرال، ترجَّلَ من السيارةِ ودلفَ للداخلِ يشعرُ وكأنَّهُ يحملُ فوق أكتافهِ ثقلَ الجبال، قابلتهُ الخادمة:
_أهلًا بحضرتك ياباشا، دلفَ لداخلِ غرفةِ مكتبه، ثمَّ اتَّجهَ إلى الأريكةِ ونزع سترتهِ وهوى بجسدهِ عليها بعدما أغلقَ هاتفه، لايريدُ شيئًا سوى الاختلاءِ بنفسهِ فقط..
بالأعلى أنهت استحمامها، وخرجت تجلسُ أمام المرآةِ تجفِّفُ خصلاتها، استمعت إلى رنينِ هاتفها فالتقطتهُ تنظرُ للرقمِ الغيرُ مدوَّن، فتحت الخطّ وانتظرت الحديث:
-مروة حبيبتي عاملة إيه حبيبة ماما؟..
-إنتِ عايزة إيه؟..أنا مش بنتك، ولاعمري هكون بنتك، ابعدي عنِّي إنتِ والراجل المجرم..
-وحياة ابنك اللي في بطنك ماتقفلي في وشِّي يابنتي، اعذريني حبيبتي واعذري أبوكي، هوَّ لو يعرف إنِّك حامل مكنَّاش خطفناكي، هوَّ خطفك أه علشان من حقِّنا حبيبتي شوفتي ابنِ فريدة لمَّا عرف أنُّه ابنها مسبهاش، وباباكي راح له وهدِّده لو قرَّب منِّك هيقتله، بابا خاف عليكي ليقتلك زي ماقتل هيثم أخوكي، ماهو كان حابس أخوكي ظلم، لمَّا عرف أنُّه ابنِ راجح..
فضل يعذِّب فيه لحدِّ مامات، خايفةعليكي ياحبيبتي، وخصوصًا لمَّا باباكي كلِّمه وقالُّه عايز بنتي أشبع منها، رفض مكنشِ قدَّامه غير أنُّه يهدِّده بالطلاق..كلِّ اللي عمله علشانك حبيبتي، أوعي تفكَّري أنُّه كان هيسقَّطك لو فعلًا كان عايز ماكان سقَّطك من وقتِ ماأخدناكي، والدليل على كدا جاب فريدة علشان يتِّفق معاها بس جوزك اختار أمُّه ورماكي، وقالُّه هخدها منَّك وأحسَّرك عليها وبنتك بتحبِّني وبتسمع كلامي،علشان كدا بابا اتغاظ وحب يحرق دمُّه وطلب منِّك تتصلي بيه..
_خلَّصتي كلامك يارانيا هانم، انسيني وكأنِّي مش موجودة، قالتها وأغلقت الهاتفَ تلقيهِ بعنفٍ على التخت، ارتفعت دقَّاتها لتشعرَ بقلبها المتوجِّع، فرَّت دمعةً من عينيها، التفتت تنظرُ في المرآة لنفسها وتزاحمت دموعها تنسابُ بقوة على مامرَّت به، وبدأت تحدِّثُ نفسها، هل هي تشبهُ رانيا، أم تشبهُ والدها، مرَّرت أناملها على وجهها تهزُّ رأسها تنفي ذلك الشعور الذي سيطرَ عليها، لتشعرَ بوخزٍ حادٍّ يفتكُ بصدرها تتذكَّرُ ذلك اليوم..
فلاش باك:
دلفَ راجح إلى غرفتها بعد علمهِ بحصولِ إلياس على فريدة، دنا منها وعينيهِ تنطلقُ منها شرارات، اقتربَ يجذبها من خصلاتها:
-ابنِ السيوفي عايز ياخد كلِّ حاجة بس وحياة أمِّك فريدة لأوجع قلبه..
تراجعت بذعرٍ من حالتهِ الشيطانية، لتهدرَ بعنف:
-أنا بكرهك أتمنَّى أموت ولا يكون ليَّا أب زيك..لطمةٌ قويةٌ على وجهها، لتسقطَ على أثرها أرضًا، انحنى يرفعها من خصلاتها يهزُّها بعنف، وهمسَ بفحيحٍ أعمى:
_اسمعيني يابنتِ رانيا، جوزك هموِّته هموِّته، سواء النهاردة بكرة هموِّته، بس الصبر حلو، انسابت عبراتها تهزُّ رأسها والخوف تجلَّى على ملامحها ليقهقهَ بصوتٍ مزعجٍ وتابعَ فحيحه:
-شكلك بتحبِّيه، وأكيد بتحبِّي الستِّ ماما، شوفي عندك اختيار واحد ومفيش غيره، عايزة تنقذي ماما فريدة تطلبي منُّه الطلاق، ومش بس طلاق مش عايز سلالة لجمال، يعني ابنه اللي في بطنك تنزِّليه، ياأمَّا..
دفعتهُ بقوَّةٍ وتراجعت تحتضنُ بطنها وصاحت بصوتٍ باكي:
-على جثتي، موِّتني ولا إنِّي أنزِّل ابني، أنا مستعدة أموت، ويكون في علمك، موتي أهون من إنَّك تكون أبويا، أنا بكرهك بكرهك..قالتها بصراخٍ حتى ارتعبَ من حالتها الهستيرية ورغم ذلك اقتربَ منها يرمقها شزرًا، وأشارَ بيديه:
-يبقى الأوضة اللي جنبك هموِّت فريدة بحسرتها، وبدل الفيديو اللي هبعته عن طلاقك وإجهادك، هبعتله فيديو بمعرفتي وأمُّه في حضني، ومش بس كدا، هخلِّيها جارية، علشان دي اللي تكسره..فعلًا عندك حق، إجهاض إيه وطلاق إيه...قالها واستدارَ وعلى وجههِ ابتسامةُ نصر وهي تصرخُ به:
-استنى أنا موافقة، بس مش هتحرَّك من الأوضة إلَّا لما ماما فريدة تروح وأكلِّمها وأشوفها..
استدارَ إليها ورسمَ الحزنَ على وجهه:
-فريدة متهمنيش أنا بعمل كدا علشانِك إنت، وصدَّقيني معرفشِ إنِّك حامل، وإنتِ شوفتي صدمتي، بس هو عاند وقالي أمِّي وبس، اضَّيقت مش من حقِّ أبوكي يخاف عليكي، دا أهمِّ حاجة عنده أمُّه وبس..
أغمضت عينيها وابتعدت بنظراتها عنه:
-ميهمنيش رأيك فيه إيه، المهمِّ عندي دلوقتي أمِّي تمشي من هنا، وإياك تقرَّب منُّه، دا شرطي..
دنا منها ورفعَ يديهِ إليها:
-تعالي في حضنِ أبوكي ياحبيبتي..
ضربت قدمها بالأرض تضعُ كفَّيها أمامهِ باشمئزاز:
-متقربشِ منِّي، أنا مش بنتك سمعتني..
خرجت من شرودها على طرقاتِ الباب، دلفت الخادمةُ إليها:
-مدام أحضَّر السفرة، وأعمل حساب الباشا ولَّا حضرتك بس اللي هتتغدي؟..
-باشا مين؟!..
-إلياس باشا تحت جه من ساعة تقريبًا.
لمعت عيناها بالسعادة، فسألتها بلهفة:
-تحت فين؟.،
-في المكتب..أومأت تشيرُ إليها بالخروج:
-هنزل أسأله..ولَّا أقولِّك استني..
-عاملة إيه على الغدا؟..
-سي فود ياهانم، مدام فريدة اتَّصلت وقالت أعملِّك سي فود علشان مفيد للحمل
سي فود..ردَّدتها بابتسامة، فأشارت إليها:
-طيب روحي إنتِ وأنا هشوفه هيتغدى ولَّا إيه..نهضت متَّجهةً إلى خزانتها، وبدأت تفتِّشُ بثيابها تبحثُ عن شيئٍ تنتقيهِ بعناية، إلى وقعت عيناها على قميصٍ حريري باللونِ البني، يصلُ الى فوق الركبة ،جذبتهُ وارتدتهُ مع عطرها المميَّز، مع وضعِ لمساتها التجميليةِ الخفيفة، جذبت روبها الشفاف وارتدتهُ وهبطت إلى الأسفل، دلفت إلى غرفةِ مكتبهِ ظنَّا أنَّهُ يعمل ولكنَّها لم تجدهُ في المكتب، جالت عيناها بالغرفةِ ذات الأثاثِ الراقي، إلى أن وقعت عيناها على نومه، أغلقت البابَ بهدوء، وخطت إليهِ مع دقَّاتِ قلبها التي تهدرُ بعنفٍ وكادت أن تخرجَ من بين ضلوعها، جلست بجوارهِ تهمسُ اسمهِ بخفوت:
-إلياس..ولكنَّهُ كان مستغرقًا بنومهِ كالطفلِ الوديع..جثت بركبتيها بجوارِ الأريكةِ بعدما علمت بنومهِ العميق، دسَّت أناملها بخصلاتهِ السوداء تحرِّكها بهدوء، تسلَّلت رائحتهِ إلى رئتيها، لتدنو منه تستنشقُ رائحتهِ الرجوليةِ الممزوجةِ بتبغهِ حتى فقدت اتِّزانها، لتقومَ بنزعِ روبها وتدثِّرَ نفسها بأحضانهِ..دفنت رأسها بعنقهِ تستنشقُ رائحتهِ بوله، كالمدمنِ المنقطعِ منذُ فترةٍ عمَّا يدمنه، تململَ بنومهِ لتهمسَ اسمهِ بخفوت، فتحَ عينيهِ بابتسامة،وكأنَّهُ يحلمُ بها..رفعت رأسها تنظرُ إليهِ وتمرِّرُ أناملها على وجهه، ليردف:
-نايمة في حضني ليه؟..
داعبت عنقهِ بأنفها مجيبة:
-لأنُّه مكاني، ودا غصب عنَّك، حاوطَ جسدها ليجذبها لأحضانهِ ومازال بغيبوبةِ نومه، ابتسمت برضا على حنانِ ذراعهِ الذي يحاوطها..قبَّلت تفاحةَ آدم لديه وتابعت خفوتها:
-عارفة إنَّك مضَّايق منِّي، بس أنا زعلانة منَّك ومضايقة برضو، مكنتشِ محتاجة غير الحضنِ دا، نفسي تعرف إنَّك أغلى حاجة عندي، أغلى واحد في الكون..قالتها بدموعها، كان نائمًا ولم يستمع لما تقوله، ظلَّت بأحضانهِِ وكأنَّها تشعرُ أنَّهُ آخرَ أحضانهما، علمت من نومهِ العميق أنَّهُ لم يشعر بها، يبدو أنهُ بحالةٍ ليست على مايرام..
ظلَّت ترسمُ ملامحهِ بحنو، تأمَّلت كلَّ إنشٍ به كالأمِّ التي تتأمَّلُ رضيعها بحبٍّ وحنان، مرَّرت أناملها على ملامحهِ بالكاملِ إلى أن توقَّفت على شفتيه، لتدنو منهُ وتطبعُ قبلةً عليهما، مع دمعةٍ من عينيها، ثمَّ نهضت من مكانها بهدوء، لتجذبَ سترتهِ تستنشقها ثمَّ وضعتها بمكانها وغادرت الغرفةَ بهدوئها كما دلفت، دقائقَ ليفتحَ عينيهِ يضعُ كفِّه على رأسهِ من ألمِ رأسهِ الفتًَّاك..نظرَ حولهِ وتذكَّرَ وصولهِ إلى منزله، اعتدلَ يمسحُ على وجههِ ثمَّ جذبَ ساعتهِ لينظرَ بها:
-خمسة!..معقول نمت دا كلُّه، نهضَ من مكانهِ متَّجهًا إلى الحمَّامِ الملحقِ بالمكتب، قامَ بفتحِ المياهِ ينظرُ لنفسهِ بالمرآة، وقعت عيناهُ على أزرارِ قميصهِ الأولى المفتوحة، وأثرُ أحمرِ الشفاهِ الموجودِ على عنقه، مرَّرَ أناملهِ على شفتيهِ متذكِّرًا حلمه، ليستديرَ يحدِّثُ نفسه:
-يعني مكنتش بحلم، قالها وتحرَّكَ بعدما قامَ بغسلِ وجهه، ثمَّ قام بالاتصالِ على الخادمة، لتصلَ إليهِ خلال دقيقة:
-أفندم ياباشا..
-اعمليلي قهوة سادة، قالها ثمَّ صمتَ يطالعها متسائلًا:
-هيَّ المدام فوق، تعرف أنا موجود؟..
-أيوة ياباشا، هناء قالت لها ونزلت لحضرتك..
أشارَ لها بالمغادرة، مسحَ على وجههِ بعنف:
-وبعدهالك ياميرال، عايزة إيه بالظبط، دلفت الخادمة إليهِ مرَّةً أخرى:
-حضرتك هتتغدَّى، أعمل حسابك مع المدام؟..
-أنا طلبت قهوة مش غدا، ياله غوري من وشي..
بالأعلى قبل قليل:
دلفت إلى غرفتها ودموعها تسبقُ خطواتها، تمدَّدت على الفراش تحتضنُ نفسها كالجنين، ثمَّ مرَّرت أناملها تحاكي طفلها:
-بابا جه تحت، بس عارفة ومتأكدة أنُّه مش جاي علشاني، ياترى إيه اللي حصل معاه وصَّله للمرحلة دي، أقولَّك سر، هوَّ وحشني أوي، مش عارفة مجرَّد ساعات ووحشني كدا، أومال هبعد عنُّه إزاي، ماما بتتعذِّب أوي حبيبي، لازم أعمل كدا علشان أحافظ عليك وعليه، مقدرشِ أشوف حدِّ فيكم بيتئذي..ظلّّت تمرِّرُ يديها مع حديثها إلى أن غفت بنومها، مرَّ أكثرُ من ساعةٍ إلى أن نهضَ من مكانهِ بعدما أنهى عملهِ واتَّجهَ إلى كاميراتِ المنزل، وقامَ بتشغيلها، ذهبَ إلى غرفتها أولًا، ليجدها تغفو وهي تحتضنُ جنينها، جالت عيناهُ بالغرفة، حتى وقعت على شيئٍ لينهضَ من مكانهِ متَّجهًا للأعلى، وصلَ الغرفةَ يدفعُ الباب، ثمَّ جذبَ ذاك المصباح، ونزعهُ ينظرُ لذلك الجهاز، كوَّرَ قبضتهِ بعنفٍ وهو يهمس:
-بيتي، وصلت لبيتي..تململت بنومها ثمَّ اعتدلت تردِّدُ اسمه:
-إلياس..إنتَ بتعمل إيه؟!..التفتَ إليها ينظرُ لهيئتها، أقسمَ بداخلهِ أنَّها فقط من اهتزَّ لها القلب، رعشةٌ أصابت قلبهِ لأوَّلِ مرَّةٍ من طلَّتها، ليطالعها كالمسحور، بدءً من خصلاتها العشوائيةِ التي تتناثرُ حول وجهها، مع جسدها الفتَّان الذي ظهر بوضوحٍ من تلك المنامةِ التي أخرجتهُ عن صمتهِ ليقتربَ منه، ثمَّ انحنى بصمتٍ يجذبُ رأسها ويمتصُّ رحيقَ شفتيها بين خاصَّته، ناسيًا كلَّ ماصارَ بينهما، لحظات بل دقائقَ وهو بجنَّةِ عشقه، ثمَّ اعتدلَ ليتركها قائلًا:
-جيت أمسح لك الروج كله، مش كنتي تقوليلي عايزة تجرَّبيه..قالها وتحرَّكَ للخارجِ وكأنَّهُ لم يفعل شيئـا..
اعتدلت تنظرُ لخروجهِ بصمت، تراجعَ مرَّةً أخرى، وظلَّ يجولُ بنظراتهِ بالغرفةِ بأكملها وكأنَّهُ يبحثُ عن شيئ، نهضت تجذبُ روبها وترتديهِ مقتربةً منه:
-بتعمل إيه هنا، بدوَّر على حاجة، وليه كنت نايم تحت، حصل معاك حاجة؟.
أخرجَ شيئًا آخر، ولم يكترث لحديثها، ثمَّ اتَّجهَ إلى هاتفهِ ونظرَ به ليصلَ لشيئٍ ما، أمسكت ذراعه:
-إلياس فيه إيه؟!
رمقها بنظرةٍ حادة، وأشارَ برأسه:
-متلمسنيش، وإيه جاي ليه دي، ناسية دا بيتي، آجي وقت ماأحب، مالكيش دعوة بحاجة تخصِّني سمعتي ولا لأ..
أشارَ على جسدها وهدرَ بها:
-إياكي تنزلي تحت بشكلك دا، معاكي خدم وحراسة في البيت، استمعَ إلى رنينِ هاتفها، وقعت عيناهُ على الرقمِ دون اسم، رفعهُ وفتحهُ دون حديث، استمعَ إلى حديثِ رانيا:
-حبيبتي ليه شوفتي الرسالة وماردتيش على ماما، عايزة أشوفك ياحبيبتي، اسمعيني وبعد كدا قرَّري، بصِّي أنا عرفت إنِّ ابنِ السيوفي طردك من البيت، بعتِّلك حاجة هتوصلِّك خلال دقايق، وأتمنِّى يامروة تسمعي كلام مامي اللي بتحبِّك.
أغلقَ الهاتفَ وهو يضغطُ عليه بقوَّة، جزَّ على أسنانهِ وتحوَّلت حالته، التفتَ إليها بنظراتٍ لو تقتل لأوقعتها صريعة..
-رانيا بتِّتصل بيكي ليه، إزاي اتجرَّأت تعمل كدا، تواصلتي معاها بعد ماجيتي هنا؟..
اتَّسعت حدقتها، تطالعهُ بذهولٍ ثمَّ دنت منه:
-إنتَ بتقول إيه، معقول تفكَّر فيا كدا
وليه أتصل بواحدة زي دي!..
ابتسمَ ساخرًا وتمتمَ كلماتٍ شقَّت صدرها:
-ليه مش بنتها..
لوت شفتيها بألمٍ وانبثقت دمعةُ غائرةُ تسيلُ عبر وجنتيها، لتزيلها بسرعةٍ ثمَّ استدارت هاتفة:
-اطلع برة، عايزة أرتاح..
قاطعهم طرقاتُ الخادمة:
-مدام الغدا جهز..دلفت إلى غرفةِ ثيابها قائلة:
-مش عايزة أتغدى..قالتها وأغلقت البابَ خلفها بقوة..
قابلَ كلامها بالصمت وتحرَّكَ للخادمة:
-جهِّزيه أنا نازل..قالها بصوتٍ مرتفعٍ ليصل صوتهِ إليها..جلست لبعضِ الوقت تنظرُ حولها بتشتُّت يبدو أنَّها ستظلُّ بعينهم ابنة الذين فرَّقوا شملهم، نظراتٌ مشتَّتةٌ كحالتها التي شعرت بها، ماذا تفعل، هل تهرب من الجميع، أم تظلُّ وترضى بواقعها المرير..
بالأسفلِ جلسَ يتناولُ غدائه، وعينيهِ على الدرج، منتظرًا نزولها، ولكنَّها خيَّبت آمالهِ كما ظن، ظلَّ لبعضِ الوقت جالسًا ينتظرُ هبوطها إلى أن ارتفعت أنفاسه، فتوقَّفَ متَّجهًا إلى مكتبه، ظلَّ لبعضِ الوقتِ مع فحصهِ لكاملِ المنزل، وصلت إليهِ الخادمة:
-حضرتك طلبتني...أشارَ إلى الرجلِ الذي ولجَ للداخل:
-ارميها في أيِّ مكان، وشوفلي مين وراها، وعايز تشوف الأمن كويس..
-معملتش حاجة ياباشا..أشارَ بكفِّهِ للرجلِ بالخروجِ دون حديث، ليجذبها بقوَّةٍ متحرِّكًا مع صرخاتها، ثمَّ جذبَ جهازهِ مرَّةً أخرى..
بالأعلى نهضت من مكانها وهبطت إلى غرفةِ الرياضة، نظرت للأجهزة، ثمَّ وضعت كفَّيها على بطنها، وتحرَّكت إلى المسبح، جلست على حافتهِ لبعضِ الوقت..شعرت بالملل، وقعت عيناها على غرفةِ الساونا والجاكوزي، ابتسمت على معشوقِ قلبها، لم يترك شيئًا تحبُّهُ إلَّا وفعلهُ لها، نهضت بهدوءٍ وتحرَّكت إليها كالطفلةِ المتوجِّهةِ إلى ألعابها، وذكرياتٌ تضربُ عقلها معه، فتحت البابَ وطافت بعينيها على أحدثِ الأجهزة، وقعت عيناها على ذاكَ الحوض، اتَّسعت ابتسامتها متناسيةً ماشعرت بهِ من قسوةِ كلماته، وتحرَّكت إلى الحوض..نزعت روبها ودلفت إلى غرفةِ الجاكوزي، جلست لبعضِ الوقتِ مغلقةَ العينينِ لعلَّها تزيلُ إرهاقَ اليوم ..تردِّدُ حديثهِ بأذنها مرَّةً أخرى لينزعَ خلوتها التي أشعرتها ببعضِ الراحة، لتشعرَ بنزيفِ قلبها، قامت برفعِ حرارتهِ بعدما شعرت بالبرودةِ تتسلَّلُ إلى جسدها ولم تعلم أنَّ تلك البرودة ماهي إلَّا برودةِ حياتها التي أصابتها..انزلقت دمعةٌ عبر وجنتيها كلَّما تذكَّرت ما فعلهُ منذ قليل، ازدادَ حزنُ قلبها ولم تشعر بضغطها على جهازِ التحكُّمِ لتتخطَّى درجةَ الحرارة الأربعين، ظلَّت فترةً ليست بقليلةٍ فقدت الحركة حتى شعرت بانسحابِ أنفاسها وهي تهمسُ اسمهِ حينما أتاها الدوار، حاولت الوصولَ لجهازِ التحكُّمِ ولكن لم تقوَ كأنَّ جسدها أُصيبَ بشللٍ كامل، ظلت تردِّدُ اسمهِ وهي تحاوطُ بطنها..
بالأعلى انتهى من عمله وعلمهِ لتسلُّلِ أحدهم جهازَ أمنه، نظرَ لصورةِ راجح ، وألقاها بعينينٍ مليئةٍ بالحقدِ والكرهِ ليهمسَ بينهِ وبين نفسه:
-لو كرهت بنتك هموِّتك ياراجح، لو بإيدي أنضَّف جسمها من دمَّك الملوَّث، إزاي تتحسب بني آدم، بحاول أفكرلك بموتة تريَّحك منِّي، بس في نفسِ الوقت مستخسر فيك الموت، النهاردة وقفت بيني وبين البنتِ اللي دفنت حبَّها جوايا، لسة هتوصل لحدِّ فين ياراجح، ظلَّ يتحدَّثُ مع الصورةِ وكأنَّهُ يحدِّثُ راجح إلى أن نهضَ من مكانهِ ينظرُ بساعته، ثمَّ توقَّفَ متَّجهًا للخارج.
قابلتهُ إحدى الخدمِ المسؤولين عن ميرال:
-أنا خارج وإياكي تغلطي تاني، أكل المدام تدوقيه قبل مايوصلَّها، ولازم تاكل، عيوني عليكي، والبنت لو فتحتي لها الباب صدَّقيني طلقة واحدة وهخلص منِّك، امشي من قدامي..
-هزَّت رأسها سريعًا متمتمة:
-شكرًا ياباشا ربنا يسعدك يارب.
تناولَ هاتفهِ وتحرَّكَ إلى سيارتهِ يهاتفُ أحدهم:
-الواد دا ممنوع يشوف نور ربِّنا ياشريف مش عايز هزار، يعني إيه زيارة..
-إلياس اسمعني..
-أنا مبسمعش، واقفل دلوقتي بدل مااسمَّعك كلام يزعَّلك، صعدَ إلى سيارتهِ وصلَ إليه أحدُ أمنه..
-هتتحاسبوا كلُّكم بس أرجع، المدام ممنوع تخرج من البيت، وممنوع أيِّ حد غريب يدخل البيت..
-تحت أمرك ياباشا..تحرَّكَ بالسيارةِ مغادرًا المكان ...استمعَ إلى هاتفه:
-سامعك..
-المدام نزلت الجاكوزي ورفضت الأكل ياباشا، ومن إمبارح ماأكلتش..
-طيب..قالها وأغلقَ الهاتفَ ثمَّ رفعهُ وهاتفها، ظلَّ يهاتفها ولكن لا يوجد رد، سبَّها بداخله:
-أغلاطك بتكبر لحدِّ ماهتجيبي أخرك معايا، تمام يابنتِ راجح مفكَّرة هموت عليكي، لو ماأكلتيش ماتكليش، الجعان هياكل، خلِّيكي مترديش، عارف بتعملي كدا علشان أطلع لك وأتحايل عليكي، وقت الدلع خلص..وحياة أبوكي لأكرَّهك في اليوم اللي اتجوِّزتيني فيه...
عندَ ميرال حاولت الوقوفَ ولكن دارت الأرضُ بها وهوت عليها بقوةٍ وسطَ البخارِ الذي حجبَ الرؤية..
وصلَ إلى مكتبه، مع رنينِ هاتفه:
-أيوة..
-الحق ياباشا المدام مغمى عليها في الجاكوزي وقاطعة النفس..
توقَّفَ قلبهِ من حديثها، ليستديرَ سريعًا إلى سيارته، يسير كعاصفةٍ تتعثَّرُ برياحها الهوجاء، تحرَّكَ بالسيارةِ يقطعُ المسافةَ بسرعةٍ جنونيةٍ والخوفُ يلتهمُ قلبهِ، كما تلتهمُ النيرانُ سنابلَ القمح، ودقَّاتهِ التي أصبحت تتلاشى شيئا فشيئًا، كالناي الحزين، دقائقَ معدودة، ولكنه شعر بأنها امدً طويلًا، كأنها بأبعد نقطة ببقاع الأرض، وصلَ إلى المنزلِ رغم المسافةِ الطويلة، ترجَّلَ سريعًا متَّجهًا إليها، شهقَ رغمًا عنه وهو يراها بتلك الحالةِ كالجثَّةِ التي خرجت روحها لبارئها، ارتعشت ملامحهِ وهو يحملها بين يديه، بعدما ابتعدت بعض الخادمات، تجمَّعت دموعهِ تحت أهدابهِ وهو يحملها بعدما نزعَ سترتهِ وحاوطَ جسدها بها، وخرجَ سريعًا بها للأعلى، وضعها بهدوءٍ على الفراش، كقطعةٍ نادرة، ورفعَ نصفَ جسدها، يشيرُ للخادمة:
-هاتي أيِّ حاجة أفوَّقها بيها بسرعة، كنتوا فين لمَّا وصلت للحالة دي؟..
-واللهِ ياباشا أنا روحت لها بعد ماحضرتك أمرت على طول لقيتها كدا، والأوضة كلَّها بخار، وقَّفت الجهاز وخرَّجتها برَّة واتصلنا بحضرتك..
-اطلعي برَّة..قالها صارخًا، مع ضمِّهِ إليها:
-ميرال..ردَّدها بقلبٍ متلهِّفٍ وهو يحرِّكُ كفَّيهِ على وجهها، ميرو حبيبتي افتحي عيونك ياقلبي، ظلَّ يكرِّرها مع اسعافاتهِ الأوليةِ لها، نزعَ إحدى ثيابها وساعدها بارتدائها مع دعواتهِ بصوتهِ المكتوم بالدموع، قبلةً طويلةً وكأنَّها قبلةُ الحياة لترفرفَ بأهدابها مع وصولِ الطبيب، رفعها يضمُّها لصدرهِ ليشعرَ بروحهِ التي عادت له بعدما فقدها لدقائقَ وبأنَّ حياتهِ سُلبت منه..
-حبيبتي حاسة بإيه..دوارٌ بجسدها لم تشعر بشيئٍ وصوتهِ الذي تسمعهُ وكأنَّهُ لمسافاتٍ طويلة، دلفت الخادمة:
-الدكتور يدخل ياباشا؟..أومأ لها بعدما دثَّرها جيدًا وطبعَ قبلةً معتذرًا بعينيه، نهضَ بدخولِ الطبيب، تشبَّثت بكفَّيهِ لتهمسَ بتقطُّع:
-متسبنيش، أنا مش عايزة غيرك..
قبلةٌ حانيةٌ يربتُ على كفِّها:
-أنا معاكي حبيبتي، الدكتور يطمِّني، مش هسيبك..أغمضت عينيها ليلتفتَ للطبيبِ يشيرُ إليه بفحصها..
بعد دقائقَ من فحصها، تحرَّكَ معه للخارج:
-الجلسات دي ضرورية النهادرة، وياريت جهاز التنفس ساعتين، المدام حامل ولازم الدقَّة بحالتها..
أومأ له يشيرُ للخادمة للتحرِّكِ معه، ثمَّ دلفَ إليها ينظرُ لجسدها الساكن، اقتربَ منها وجلسَ بجوارها يحتضنُ كفَّيها..
فتحت عينيها تهمسُ اسمه:
-إلياس..دنا منها قائلًا:
-ممكن ماتتكلِّميش خالص، علشان التنفُّس، كدا عايزة تموتي وتسبيني..
انزلقت دموعها تهزُّ رأسها بالنفي:
-محستشِ بحاجة والله متفكَّرش كنت عايزة انتحر، واللهِ لأ، أنا مش بنتِ راجح، تأكَّد من كدا..
رسمَ ابتسامةً يداعبُ وجنتيها قائلًا:
-متأكِّد من كدا ياروحي، المهمّ اهتمي بنفسك ياميرو، علشان ابننا يجي بالسلامة، ومتفكَّريش موافقتي إنِّك تيجي هنا يبقى هحلِّك منِّي، أمالَ بجسدهِ وطبعَ قبلةً على وجنتيها:
-مقدرشِ أعيش من غيرك حبيبي..
ابتسمت ولمعت عيناها بحبُّه، متمتمة:
-ولا أنا حبيبي..ملَّسَ على رأسها:
-ياله حاولي تنامي شوية، نظرَ للمحلول:
-دا فيه مخدِّر علشان تنامي كويس، تمام..أومأت بعينيها، لحظات وذهبت بنومها، ليتنفسَ بعمقٍ يغلقُ عينيهِ بهدوء، بعدما فقدَ كلَّ الاحاسيسَ سوى إحساسَ الألم، دقائقَ بجوارها، ثمَّ هبطَ للأسفلِ بدخولِ فريدة..
-إلياس!! طالعها باستفهامٍ على لهفةِ دخولها عليه بتلك الطريقة، وتورُّمِ عيناها..
-إنتِ كويسة؟؟
سحبت كفَّيهِ ودلفت به للداخل، وحاولت كبحَ دموعها، ولكن انهيارها كلما تذكَّرت ماسيقابلهُ ابنها يجعل داخلها يعتصر بعصارة آلامه
جلست وارتفعَ بكاؤها، ذُهلَ من حالتها وانتفضَ قلبهِ ظنًّا أنَّ والدهِ أصابهُ شيئًا:
-ماما فيه إيه؟!..بتخوِّفيني ليه..
ابتلعت غصَّتها التي شعرت وكأنَّها سيوفًا مدببة، وأردفت بتقطُّع:
-بقالي أكتر من خمس ساعات بحاول أوصلك، لحدِّ ما مصطفى عرف مكان عربيتك وإنَّك هنا..
جلسَ بجوارها حينما تسلَّلَ الرعبُ لقلبهِ من حالتها..
رفرفت أهدابها تزيلُ عبراتها المتعلِّقة بها، وسحبت نفسًا قويًا لتثبطَ نوبةَ البكاءِ التي فقدت السيطرة عليها..رفعت عينيها إليهِ ثمَّ سحبت كفَّيهِ وتعلَّقت بعينيه:
-حبيبي اسمعني للآخر وبعد كدا اتكلِّم..
هزَّ رأسهِ موافقًا، وانتظرَ حديثها بلهفة، بلعت ريقها ثمَّ أردفت بنبرةٍ خافتةٍ استمعَ اليها بصعوبة:
-جمال أخوك بيكون أرسلان الجارحي..قالتها ثمَّ سحبت بصرها بعيدًا عنه..
قبل عدة ساعات
عند ارسلان توقف يوزع نظراته بين الدكتور وبين اسحاق
-عمو الدكتور دا بيقولي انا مش ابن فاروق..
جذب ذراعه يرمق الطبيب بنظرات جحيمية
-تعالى حبيبي معايا، توقف كالمتصنم
-الدكتور دا بيقول انا مش ابن فاروق صح ولا لأ..وصل إلى الطبيب بخطوة واطبق على عنقه
-التحاليل دي مزورة ولا حقيقية
شُحب وجه الطبيب يقسم له بتقطع
-والله دي الحقيقة، تسلل من بين يديه بعدما شعر ببرودة تجتاح جسده بالكامل يردد
-"حقيقية"..قالها ليرفع عيناه إلى اسحاق نكس رأسه للأسفل دون حديث
تراجع للخلف
-يعني أنا ابن حرام..صاعقة نزلت على رأس اسحاق من كلماته
-ارسو اسمعني، هرول بتخبط من الغرفة،
-متقربش مني، اياك تقرب مني ..قالها وركض للخارج