رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الواحد والعشرون 21 بقلم شمس بكري


رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل الواحد والعشرون 


كلما ذهبت لها في حزني عدت بفرحٍ إذا قُسم على العالم أجمع لأكفاه و فاض ما يُحييني

_______________________


لم أرى في حياتي يومًا اعتدال، فإذا كانت الحياة خليطٌ من الألوان فليشهد العالم أنني عشتُ في ألوانها الداكنة و كلما حاولت الخروج حتى أنعم بألوانها فوجئت باللون الاسود بعدها يُخيم عليَّ، و ها أنا كعادتي أقف لا أدري ماذا أفعل، فلا البكاء يُجدي و لا الشكوى تُفيد، حتمًا ستكتب لي حياة أخرى أخوضها و لكن هل الشقاء مرافقًا لي من جديد؟.


"مــــامــــا"

تلك الصرخة المدوية التي خرجت من «جميلة» بقهرٍ حينما رآت «مشيرة» تسقط أرضًا تزامنًا مع نزول جسد «وليد» خلفها بعدما أرتمت هي عليه، كان الوضع كصاعقةً نزلت على رؤوسهم حتى «ابراهيم» نفسه الذي وقف بالسكين تقطر الدماء في يده، بينما هي بين غفوتها و واقعها رفعت كفها الواهن الملطخ بدماءها تلمس وجنته وهي تقول بصوتٍ متقطع من بين ألمها و تمزق روحها:

"حــ....حقك.....عـلـ..يا... يا وليد"


صرخ هو في وجهها:

"لأ قومي علشان خاطري متقوليش كدا، قومي و متكسرنيش كدا، أنا مش حمل حاجة زي دي"


ركضت «جميلة» نحوهما تقول بصراخ بعدما عارضت جسدها الذي أبى التحرك و كأن ما حدث شل حركتها بالكامل:

"قومي يا ماما علشان خاطري، قومي و احنا هنعمل اللي أنتِ عاوزاه، قـــومـــي"


ابتسمت هي بوهنٍ بعدما رآت خوف ابنتها عليها وهي تغلق جفونها فوق حدقتيها المتشوشتين، طالع «ياسين» الوضع حوله فوجد البكاء و الخوف يحتلان ذلك التجمع، طالع زوجته فوجدها تحرك رأسها نفيًا وهي تبكي بقوة ة كأنها في عالمٍ آخر، لذلك كان الأسرع بين الجميع حينما حمل «مشيرة» على يده يركض بها، و قبل أن يلحظ أيًا من الموجودين حاول «ابراهيم» الفرار و لكن «رياض» كان الأسرع حينما قام بامساكه من الخلف وهو يقول بنبرةٍ بثت الرعب بداخله:

"على فين بقى؟ دا أنتَ وقعت في إيدي"


اقترب منه «ياسين» وهي على ذراعيه يقول بخوفٍ:

"بابا لسه فيها النبض، أنا هروح على المستشفى اللي فيها ياسر و أنتَ اتصرف معاه بمعرفتك"


كانت العائلة بأجمعها تركض خلفه و الدموع تسيل على وجوههم، بينما «حسن» اقترب من «رياض» وهو يقول مُقررًا:

"أنا هاجي مع حضرتك علشان متروحش معاه لوحدك، و بعدها نطلع على المستشفى"


أومأ له موافقًا فقام «حسن» بلكم «ابراهيم» في وجهه حتى ترنح جسده للخلف و أتى خلفه «وئام» و «طارق» يُكملان عليه بغلٍ واضح على كل أفعاله، بعدما رآى «رياض» وضعهما، صرخ منفعلًا:

"خلاص كفاية كدا دا مش في مصلحتنا، يلا يا أستاذ تعالى معايا علشان نسلمه"


أومأ له «حسن» موافقًا ثم قام بعدل وقفته فوجد «راشد» يقترب منه وهو يقول بنبرةٍ مقررةٍ:

"أنا هاجي معاكم علشان أشهد، أظن أنا ابنه و دي حاجة كفاية"


بعدها كان الوضع كالآتي «ياسين» وضعها في سيارته و معها «وليد» يحتضنها بقوة وهو يبكي، و «حسان» بجانب «ياسين» في الأمام، ثم التفت يمسك كفها وهو يبكي هو الآخر يخشى فراقها، تحرك «ياسين» بسيارته بسرعةٍ كبرى حتىٰ أصدرت صريرًا قويًا نتيجة احتكاكها بالأرض الأسفلتية، و من بعدها تحركت السيارات تباعًا بأفراد العائلة بأكملها بفتياتها و رجالها حتى أقاربهم تحركوا معهم، بينما «رياض» ركب مع «حسن» و معهما «ابراهيم» الملقى على الأريكة و وجهه ينزف بقوة و «راشد» بجانبه يمسكه حتى لا يستطع الفرار و السكين قام «رياض» بوضعها داخل أحد الأكياس حتى تكون دليلًا كافيًا ضده، نظر «حسن» في المرآة وهو يقول بنبرةٍ جامدة لمن يجلس في الخلف:

"عارف يا راشد لو حصل و هربته أنا هعمل فيك إيه؟ يمين بالله لأخليك مش نافع بعد كدا"


رد عليه الأخر منفعلًا:

"ياعم بقولك جاي أشهد معاكم، ههربه إزاي؟ ركز في السواقة خلينا نلحق احنا"


أومأ له «حسن» موافقًا ثم ضغط على مقود السيارة حتى يرفع سرعتها و كأنه في سباقٍ من بين السيارات.


أثناء قيادة «ياسين» هاتف صديقه «ياسر» حتى يقوم بمساعدتهم، فأخبره بإسم الطبيب المسئول عن تلك الحالات حتى يعود هو إليه من جديد، و بعد وقتًا قياسيًا وصل «ياسين» المشفى فوجد «وليد» يركض من السيارة و هي بين ذراعيه تنازع الألم بوهنٍ واضح، ركض بها نحو الداخل فوجد طاقم العمل يركضون نحوه بالفراش المتحرك الخاص بحمل المرضى، وضعها هو عليه ثم وقف تائهًا، فجأة وجد طبيبًا كبير في السن و يبدو عليه الهيبة و هو يقول لهم متلهفًا:

"دكتور ياسر كلمني و قالي، متقلقوش أنا متخصص الجراحة هنا، هندخل العمليات دلوقتي و خير إن شاء الله"


أومأ له الثلاثة بموافقةٍ، فقام هو بالتحرك و الطاقم خلفه يقومون بسحب الفراش حتى يتم توجيهها نحو غرفة العمليات، بينما «وليد» ارتمى على الأرض الرخامية يشعر بسيوف الهزائم تمزق روحه، لا يرى ما حوله سوى ظلامٍ يغرق به كعادته، ركض «حسان» خلف الطبيب حتى يجلس بجانب غرفة العمليات، بينما «ياسين» اقترب من «وليد» يجلس على ركبتيه وهو يقول بنبرةٍ متألمة على هيئته:

"مالك يا وليد عامل في نفسك كدا ليه؟ قوم و أقف على رجلك علشان عيلتك اللي جايين ورانا دول، و علشان بنتها، أنتَ راجل مش عيل صغير"


رد عليه هو بنبرةٍ تائهة و كأنه غرق في عالمٍ أخر:

"مشيرة فادتنا بنفسها يا ياسين، مُشيرة حَمتني و دافعت عني، لو ماتت أنا مش هسامح نفسي"


لاحظ «ياسين» تشتته و ضياعه من خلال نظرة عينيه الخاوية التي ينظر بها في الفراغ أمامه، لذلك أمسك كفه وهو يقول بنبرةٍ قوية حتى ينتبه له:

"فوق يا وليد و ركز معايا، هي مش هتموت و اللي حصل دا نصيب أنتَ ملكش دعوة بيه، قوم و ركز كدا علشان مش هينفع يشوفوك بمنظرك دا"


حينذاك دلفت أفراد العائلة تباعًا و معهم «ياسر» لذلك عبروا من بوابات المشفى على الرغم من كثرة عددهم، و أول من اقتربت منهما كانت «جميلة» تقول بنبرةٍ باكية متقطعة:

"ماما....ماما فين يا وليد، فين يا ياسين طمني عليها"


وقف «ياسين» يقول بارهاقٍ واضح:

"الدكتور خدها و دخل بيها أوضة العمليات اللي هناك دي، بس خير متخافيش هـ..."

قبل أن يُكمل جملته ركضت من أمامه حينما لاحظت والدها يقف أمام باب الغرفة يطل بعدسيته عليها من خلال تلك الدائرة الزجاجية الموضوعة فوق باب الغرفة، و تبعها «طارق» و بعض أفراد العائلة، و كانت أخرهم «خديجة» التي ارتمت بين ذراعيه تبكي بقوة و تجهش في بكاءٍ مَرير و كأن الماضي بأكمله تمكن بها، كل ما هي به فقط خوف مما سبق، وجدها هو تتشبث به بقوة تود الاحتماء به، رغم الدهشة التي تمكنت منه عند رؤيته لحالتها إلا أنه سار بها حتى اقترب من المقاعد الحديدية، أجلسها عليها ثم حرك رأسه يلتفت للخلف فوجد «عبلة» تجلس بجانب «وليد» الذي ظل كما هو تائهًا، زفر هو بقوة ثم نظر لها فوجدها تشخص ببصرها في اللاشيء و هي تبكي بقوة، فأمسك يدها وهو يقول بهدوء:

"ركزي معايا علشان أنتِ شكلك في عالم تاني، خديجة !! هي هتبقى كويسة و هتخرج تاني، أنا مسلمها للدكتور و النبض شغال الحمد لله، يعني أي حاجة في دماغك اطرديها و ادعي إنها تخرج بالسلامة"


رفعت رأسها تطالعه بحدقتيها الدامعتين وهي تقول بنبرةٍ باكية تشبه طريقة الأطفال:

"هي مش هتموت يا ياسين صح؟....مش هتعمل زي طنط فاطمة و تموت و أشيل ذنبها هي كمان، علشان خاطري قولي كدا"


كانت تتوسل له من بين عبراتها حتى يُطمئنها بحديثه بعدم حدوث ما تخشاه روحها، فوجدته يحدثها بنبرةٍ مؤكدة:

"مش هتموت بإذن الله، دي كانت بتفديني أنا و وليد، يعني الحمد لله الجرح مش هيبقى زي ما هي مقصودة، ادعيلها أنتِ بس و كل حاجة هتبقى تمام"


استمعت لحديثه فأجهشت من جديد في البكاء و هي تضغط على جفونها بشدة حتى تردع تلك الدموع عن الخروج من منبعها و لكن دون جدوى، بينما هو جلس بجانبها و ملابسه ملطخة بالدماء نتيجة حمله لها، ثم أخذها أسفل ذراعه فوجدها تبكي بقوةٍ أكثر، و للحق لم يستطع إيقافها بل تركها تبكي لعلها تُزيح ما يعتل به صدرها.


على الجهة الأخرى عند «وليد» كان كما هو جالسًا على الأرض يطالع ما حوله بأعين خاوية لا هي تبكي و لا هي صافية، بل بها خيوطٌ حمراء إذا أحدق أحدهم النظر بها لرأى سهام الغِل تندفع منها، ولكنه تائهًا، فوجدها هي تمسك وجهه وهي تقول بنبرةٍ باكية على حالته تلك:

"وليد !! مالك بس، علشان خاطري بصلي و متسرحش كدا، هي هتبقى كويسة و الله"


حرك رأسه نحوها يطالعها بنظرٍ شارد لا ينتبه لها، فوجدها تقول من جديد بنبرةٍ مؤكدة:

"كله هيبقى كويس و الله، متخافش عليها، دي مشيرة يا وليد، ياما افتكرنا إنها جابت أخرها و فاجئتنا من جديد"


اذدرد لُعابه بخوفٍ ثم ارجع رأسه للخلف و هو يفكر في حالة عمته، اليوم أفدته هي بروحها و جسدها حتى سقطت بين يديه غارقةً في الدماء، بسبب من؟ بسببه هو، هو سبب كل الأذى المُلحق بالجميع، تعاطيه للمخدرات كان بسببه و تعرض حياة «ياسين» و أخوته للخطر كان بسببه، مجيء «ابراهيم» نحو بيته كان بسببه، إصابة عمته و إزهاق روحها كان بسببه، بكاء «عبلة» و ألم قلبها كان بسببه، إذن هو المذنب الوحيد في حياة الجميع، لذلك هب منتفضًا يركض نحو غرفة العمليات حتى دفع الجميع عن طريقه، ثم وقف هو يطالع الغرفة بعدستيه الدامعتين، و حينما رآى الطبيب يحاول هو و الطاقم أغمض جفنيه بألمٍ شديد، ثم حرك رأسه للجهة الأخرى فوجد «جميلة» تبكي بين ذراعي والدها، و مع التقاء وجهيهما طالعته بنظرةٍ لم تستطع إنكارها، و التقطها هو على الفور و كأنها تتهمه بما حدث لوالدتها، لم تتحدث بلسانها و لكن عينيها قالت أفصح ما يُقال من اللسان، حينها انسحب من امام الجميع حتى اصطدم بها تسأله بشفقة على حالته:

"طب أنتَ تايه كدا و رايح فين؟"


دفعها عنه وهو يقول بصراخ في وجهها:

"ابـــعـــدي عـــنــي، خليكي بعيد"


اتسعت حدقتيها و هي تطالعه بدهشة فوجدته يتركها و يذهب من أمامها و هو كما هو، و قبل أن تركض له وجدت «ياسين» يقول وهو جالسٌ خلفها:

"سيبيه لوحده علشان يعرف يخرج من الدوامة دي، وجودك معاه هيخليه يحس بالذنب"


اقتربت منهما تجلس و هي تبكي حلى هيئته و حالته فوجدت «خديجة» تخرج من ذراعيه ثم أخذتها بين ذراعيها تحتضنها و كلتاهما تبكي مع الأخرى بنحيبٍ، جعله يطالع وضعهن بشفقةٍ على العائلة بأكملها.

_______________________


أمام غرفة العمليات كانت «هدى» تجلس و هي تبكي تتذكر يوم وفاة والدتها و بجانبها زوجها و «طارق» و «هدير» تجلس مقابلةً لهم، و فجأة اقتربت من شقيقتها تجلس على ركبتيها وهي تقول بنبرةٍ متوسلة:

"هدى علشان خاطري بطلي عياط كدا هيجرالك حاجة، علشان اللي في بطنك حتى"


أيدها «وئام» بقوله:

"هدير معاها حق يا هدى، كفاية عياط كدا عيونك باشت، حرام عليكي اللي أنتِ عملاه في نفسك دا، بطلي عياط بقى"


أومأت له ثم ألقت رأسها على كتفه وهي تبكي ثم وضعت كفها على فمها حتى تكتم شهقتها القوية، بينما «هدير» طالعت الوضع حولها بخوفٍ و هي تخشى فراق والدتها الثانية، تلك التي راعتها في كنفها و عاملتها كما لو أنها ابنتها، فمهما صار لن تستطع انكار أن «مشيرة» ذات يومٍ كانت أقرب لها من والدتها، بكت هي رغمًا عنها حينما استشعرت بفراقها، و بحثت عنه بعدستيها حتى تشاركه ما تشعر به، فوجدت «وئام» يقول بقلة حيلة:

"بتعيطي ليه يا هدير؟ أنا مسكت هدى بالعافية ألاقيكي أنتِ بتعيطي؟ وحدي الله و ادعيلها كدا"


أومأت له موافقة ثم مسحت تلك الدموع العالقة بأهدابها، بينما «طارق» حرك رأسه يبحث عنها فوجدها تبكي بين أحضان والدها و هو الأخر يتشبث بها و كأنها الأمل له في عودة والدتها.


وقف أشقاؤها الأربعة بجانب بعضهم على مقربةٍ من غرفة العمليات و لكن أكثرهم حزنًا كان «طه» الذي وقف يبكي على توأم روحه كما كانا في صغرهما، «مشيرة» تلك التي عاملها كما لو أنها ابنته حتى تدللها كان بسببه هو، تلك التي تسببت في تصدع علاقته بأسرته نتيجة حبه لها حتى تبدل الحال و قاطعها هو، لكن لماذا يبكي الآن، ألم يتمنى في السابق خروجها من البيت و حياته بأكملها؟ الآن يتضرع بقلبه قبل لسانه حتى تنجو و تخرج له سالمة؟ هكذا كان يفكر و رغمًا عنه وجد نفسه يبكي، فربتت زوجته على كتفه و هي تقول بنبرةٍ هادئة:

"هتقوم يا طه، مشيرة قوية و جامدة و هتقوم منها، و هترجع تاني أحسن من الأول"


رد عليها هو بنبرةٍ مختنقة:

"ترجع بس يا زينب، ترجع بس و تخرج منها، دي كانت بتفدي وليد و ياسين، يعني أكيد دي مشيرة تانية... يا رب....يا رب خرجها بالسلامة"


و لم يختلف حال البقية عن حاله كثيرًا، فكلًا منهم يبكي عليها و على ما عاشته هي، فعلى الرغم من ذلك لن يستطع أيًا مهم إنكار تعرضها للأذى و للظلم حتى تبدلت حتى أصبحت على ما كانت عليه، و لكن من بين الجميع كانت «مروة» تبكي بقوة وهي تتذكر الموقف و أنها كانت على وشك فقدان صغيرها، و الفضل الآن لـ «مشيرة»؟ هي من أهدته روحها حتى تحميه من الغدر، فجأة أجهشت في البكاء فوجدت زوجها يربت عليها وهو يومأ و كأنه بذلك يطمئنها.


أتى«ياسر» من الخارج بعدما أنهى الإجراءات اللازمة لحالتها، ثم اقترب من «ياسين» وهو يقول بنبرةٍ خافتة:

"ياسين أنا خلصت كل حاجة مع المستشفى، بس عددهم كبير و الإدارة مش هتسمح بكدا، أنا هديك مفتاح أوضة تحت فاضية تقعدوا فيها علشان الطُرقة المليانة دي، و علشان محدش يتكلم معاكم، بس أنا هقف هنا دلوقتي"


أومأ له موافقًا ثم قال بامتنانٍ:

"ألف شكر على تعبك يا ياسر، مش عارف أقولك إيه و الله"


طالعه يضيقٍ وهو يقول بهمسٍ خافت:

"متخلنيش أخليك تجرب الحاجات اللي تتحس و متتقالش يا ياسين، هو من إمتى فيه شكرًا بينا؟"


أومأ له موافقًا فوجد «خالد» و «عامر» يركضا نحوهما، قطب جبينه فقال «ياسر» مفسرًا:

"أنا اللي عرفتهم علشان ميزعلوش"

حينذاك اقتربا كلاهما و «عامر» يقول بلهفةٍ:

"ياسين أنتَ كويس !! حصلك حاجة أو جه جنبك؟"


رد عليه هو بارهاقٍ واضح:

"أنا كويس يا عامر متخافش، هو كان عاوزني أنا أو وليد، لكن هي فدتنا بنفسها"


تدخل «خالد» يقول بشفقةٍ:

"لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ربنا يخرجها بالسلامة، الحمد لله إنكم بخير"


طالع «عامر» الوضع حوله فوجد المكان خاليًا من «وليد» فقال مستفسرًا بهمسٍ:

"وليد فين يا ياسين؟ أنا مش شايفه"


زفر «ياسين» بقوة ثم جاوبه متشدقًا بنبرةٍ هامسة:

"وليد مصدوم يا عامر، طلع يجري دلوقتي و أنا سايبه شوية كدا علشان لما أروحله يكون جاب أخره"


تمكن الحزن منهم لأجل صديقهم الجديد الذي من الواضح أمامهم معانته في حياته، بينما «خالد» رفع يده بالحقيبة التي يحملها وهو يقول بهدوء:

"طب دي هدوم أنا جبتها ليك و لوليد علشان هدومكم اللي كلها دم دي، ياسر قالي إنكم متبهدلين بالدم"


أومأ له «ياسين» ثم قال بنبرةٍ متأثرة:

"ربنا يخليكم ليا، من غيركم هفضل تايه و مليش مكان"


رد عليه «عامر» بضيق:

"يا سيدي مش وقته روح غير هدومك دي، خده يا ياسر يغير علشان نشوف وليد هو كمان"


انسحب «ياسين» من بينهم ثم اقترب منها يقول هامسًا:

"خديجة، أنا هروح أغير الهدوم اللي كلها دم دي، علشان أعرف اتحرك، هينفع تخليكي هنا لحد ما أرجعلك تاني؟"


أومأت له موافقة فوجدته يربت على رأسه و «عبلة» كما هي بين ذراعيها تبكي، حرك «طه» رأسه فوجد «ياسين» يتحرك بهم تاركها على المقعد، لذلك تحرك هو حتى جلس بجانبها فوجدها تربت على جسد «عبلة» وهي تبكي بصمتٍ، حينها ألمه مظهرها و هي تبكي بخوف لم يخفى عليه، حينها تذكر «خديجة» القديمة التي كانت تصرخ بداخل الغرفة طالبةً للعون منهم، دموعها و أهدابها التي تتحرك هربًا من نظراته حينما جلس بجانبها_ رعشة كفها_ ارتجافة جسدها_ جميعها أشياءًا كانت تعاني منها هي حتى تخمد ثورتها بالنوم في الغرفة المظلمة، حينها خطفها بين ذراعيه يبكي بقوة و على الرغم من دهشتها بفعلته تلك، إلا أنها شاركته البكاء فوجدته يربت على ظهرها وهو يقول بنبرةٍ باكية:

"حقك عليا...بس متفضليش خايفة كدا يا خديجة، علشان خاطري متعيطيش منظرك كدا تاعبني"


أومأت له هي بموافقةٍ و لكن عبراتها كان لها رأيًا آخر، فأبت الخضوع لرغبتها في التوقف و نزلت كما هي في تدفقٍ، بعدها أبتعدت عنه ثم أخذت «عبلة» بين ذراعيها من جديد حتى لا تتركها في حيرتها و خوفها، ففي تلك اللحظات هي أدرى بالخوف و أوصله سبيلًا.

____________________


ركض هو هاربًا من نظرات الجميع و من الذنب، حتى وجد نفسه في مكانًا مظلمًا خلف المشفى يشبه الاماكن الخاصة بالمخازن الطبية، على الرغم من صعوبة المنظر و وحشته إلا أن خوفه و وحشته كانا أكبر من ما حوله، وقف مشوشًا لا يدري ماذا يفعل، تسبب في جراح كل من هم حوله، حتى «خديجة» كانت على وشك فقدان حياتها التي تتمثل في «ياسين»، عمته الآن تنازع حتى تتمسك بالحياة، والدته دومًا تعاني منه، لم يرى في تلك اللحظة سوى نسخةً منه سوداء الثياب، و فجأة وجد الجميع حوله يطالعونه باشمئزازٍ و لومٍ و كأنه هو المخطئ الوحيد، التفت حوله، فوجد النظرات كما هي و هو يدور يطالع وجوه الجميع فحرك رأسه نفيًا بيأسٍ، ليمر أمام نظره شريط عمره السابق المُحمل بالخيبات، بدايةً من معانته في بيت عائلته بسبب مسئولية «خديجة» حتى إدمانه و معالجته بالمصحة مرورًا برفض «عبلة» له حتى ظهور «ابراهيم» من جديد و تسببه في خوفه و آلامه و ندمه، ارتمى على ركبتيه بكتفين متهدلين بخيبة و حينها ظهر أمامه «وليد» الصغير ببراءته الهاربة منه يضحك له فمد له هو ذراعه حتى يتمسك به فوجده يفر كما فرار السراب، حينها تتابعت خيباته السابقة فوق رأسه و أمام عدستيه من جديد، هزائم ساحقة لو كانت سقطت على جبلٍ لهزته و لو نزلت على أرضٍ لحركتها، حينها صرخ بملء صوته صرخةً مدوية أخفاها منذ زمنًا طويلًا حتى وصلت به لتلك المرحلة، و تبعها بقوله الباكٍ المتألم من ألم روحه:

"أنــا تـــعــبـت....الــلــي بــيــحــصل فــيـا دا كــتـير....أنا أضعف من أني أتحمل كل دا و أصغر من أني أعيش فيه.... و معنديش طاقة أصلحه....و الله تعبت....لو الموت هيريحني خدني و ريحني.....بس والله أنا مستاهلش كل دا....و الله جبت أخري...."


بكى بحرقة بعد حديثه اليأس، كدماتٍ صدمت روحه تركها هو و تجاهل علاجها حتى تراكمت و مع تتابع الهزائم و الخيبات فوق صدره وجد نفسه ينفجر مثل البركان الثائر التي لم تخمد نيرانه بعد، فإما يترك أثره، أو يحرق روحه وفي النهاية هو من يعاني، ارتمى على الأرضية بكامل جسده وهو يتمنى فراق روحه لتلك الحياة المظلمة.

_______________________


في داخل المشفى بدل «ياسين» ثيابه ثم عاد من جديد برفقة «ياسر» بينما «خالد» وقف مع الشباب يطمئن على حالتها، نظر «ياسين» حوله فوجد المكان خاليًا من «عامر» هو الآخر، و قبل أن يستفسر وجده يعود و في يده أشياءًا للجميع، طالعه بتعجبٍ فوجده يقترب منه ثم قال مفسرًا لما يحمله:

"دي عصاير و حاجات علشانهم و علشان الستات اللي هنا، خد اديها ليهم و أكل مراتك اللي وشها أصفر دي"


أومأ له موافقًا و قبل أن يتحدث وجد حركة الجميع تندفع نحو الأمام كإشارةٍ على خروج الطبيب، ركض هو الآخر، فوجد الطبيب يقول معتذرًا:

"احنا للأسف بنحاول بس وضعها صعب و ضغطها مش مساعد و حاليًا عاوزين دم ليها علشان نزفت كتير"


رد عليه «طه» بتلهفٍ:

"احنا كتير هنا شوف حضرتك عاوز أنهي فصيلة"


رد عليه الطبيب بنبرةٍ عملية:

"هي فصيلتها AB موجب، أكيد فيكم حد فصيلته كدا"


في تلك اللحظة اندفعت «خديجة» تقول بنفس اللهفة:

"أنا...و ماما زيي، بس أنا اللي هتبرع ليها، أنا الحمد لله مش عندي أي حاجة"


أومأ لها موافقًا ثم قال لمساعده:

"جهز الأوضة للآنسة يا معتز"


ردت عليه هي بخجلٍ:

"أنا مدام مش آنسة، أنا متجوزة"


سألها هو مستفسرًا:

"طب فيه حمل أو أعراض ليه؟"


حركت رأسها نفيًا ثم قالت بنبرةٍ هادئة:

"أنا لسه عروسة جديدة، مفيش أي أعراض أو حاجة"


رد عليها هو بنفس النبرة المقررة:

"تمام هنتأكد برضه و ساعتها تتبرعي براحتك ليها"


أومأت له موافقة، فدلف هو من جديد، بينما هي اقتربت منها الممرضة وهي تقول بطريقةٍ مهذبة:

"اتفضلي معايا علشان نشوف التحليل و نتأكد و بعدها نشوف التبرع" 

اقترب منها «ياسين» يقول بنبرةٍ خافتة:

"أنتِ متأكدة إنك هتقدري يا خديجة؟ علشان متتعبيش"


ردت عليه هي مقررةٍ:

"طبعًا متأكدة و لو هتعب مفيهاش حاجة يعني، أنا لايمكن أنسى إنها كانت بتفاديك أنتَ و وليد"

أومأ لها موافقًا ثم دلف مع غرفة الفحص التي بها ستتبرع بالدم لعمتها، لعلها ترد ولو جزءًا بسيطًا مما أقدمت عليه لأجلها.


قامت احدى الطبيبات بفحصها و الكشف عليها، و طمأنتها أنها بحالة جيدة كما أنها حرة بدون حمل، و بالطبع تسطتع التبرع بالدم كما تريد، جلست هي على الفراش المفرود ثم مدت ذراعها للمساعدة حتى تغرز به الإبرة الطبية، بينما هو جلس بجانبها على مقعدٍ صغير يمسك ذراعها الأخر و يحتضن كفها بقوة، أما هي فحركت رأسها نحوه تبتسم له بخفوت و كم أثار ذلك دهشته، ألا تخشى الإبر الطبية و الدماء؟ كيف تتحمل دون أن تخرج رد فعل قوي معارض، فوجدها تقول بهدوء:

"مبخافش من الحقن و لا الحاجات دي، أنا خوفي من حاجات تانية"

ربت هو على يدها المُحتضنة بين كفيه وهو يبادلها البسمة بمثيلتها.

______________________


في الخارج انسحب «أحمد» من بين الجميع بعدما طلبه «حسن» بالعودة للبيت حتى يتم فحصه من قبل الشرطة، فامتثل لطلبه و ركض له نحو البيت، بينما الشباب وقفوا معًا بعدما قام «ياسر» بنقل البعض لمكانٍ أخر، و ترك فقط «طه» و «حسان» و «جميلة» و البقيةِ بعيدًا عنهم، بينما الشباب جميعهم بما فيهم «رامي» وقفوا في الاستقبال في الخارج مع «ياسر» بما أنه يعمل في تلك المشفى، و بعد مرور ما يقرب النصف ساعة خرج «ياسين» من الغرفة بعدما تبرعت هي بالدم و هي تستند على ذراعه، حتى أجلسها على أحد المقاعد ثم سألها باهتمام بالغ:

"أنتِ كويسة ؟؟ فيه حاجة بتوجعك طيب؟"


ردت عليه هي بنبرةٍ واهنة:

"أنا كويسة الحمد لله، بس دايخة شوية، اطمن"


حينها اقترب منهما «عامر» ثم أخرج علبة عصير و معها كعكًا صغير الحجم مُعلب ثم قال بنبرة هادئة:

"خد خليها تاكل يا ياسين، علشان الدم اللي اتبرعت بيه دا، و خليك وراها لحد ما تاكل"


أومأ له موافقًا ثم جلس بجانبها و هو يقول بنبرةٍ حنونة:

"كلي يلا يا خديجة علشان متوقعيش من طولك، و أشربي العصير و لا أشربك أنا بنفسي"


ابتسمت بنفس الوهن ثم مدت كفها المرتعش حتى تمسك ما بيده، فوجدته يقول بإصرارٍ:

"لأ أنا اللي هشربك، أنتِ عمالة تترعشي خالص و وشك أصفر"


حينذاك دار «عامر» على الجميع و معه «ياسر» حتى يعطيهم ما جلبه لهم و مع إصراره و معاندته لم يستطع أيًا منهم الرفض، بل أخذوا منه ما قدمه لهم، و فعل المثل عند النساء بمساعدة «خلود» التي خرجت تجلس بجانب شقيقتها، تابعها «رامي» بنظره فوجدها تتنهد بقوة و هي تخفي عبراتها و ألمها، ثم اقترب يقف على مقربةً منها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:

"أنتِ كويسة يا خلود؟ تحبي تروحي ترتاحي أو أجبلك دوا"


طالعته هي بجمودٍ وهي تقول:

"لأ شكرًا مش عاوزة حاجة، أنا كويسة الحمد لله وزي الفل"


أومأ هو لها ثم تحرك من جديد يعود لموضعه بجانب الشباب، بينما هي احضنت شقيقتها ثم ربتت عليها كما لو أنها تربت على ابنتها الصغرى، فانسحب «ياسين» من جانبهن ثم ذهب لأخوته، حينها تحدث «خالد» بقلقٍ واضح:

"وليد لسه مظهرش يا ياسين، أنا قلقان يكون حصله حاجة ولا وقع من طوله، أنا عمال أدور عليه بس مش بلاقيه"


تدخل «ياسر» يقول مقترحًا:

"المكان اللي هو خرج منه بيطلع على المخازن ممكن يكون هناك لوحده أو دخل الجامع اللي هناك"


رد عليه «ياسين» متلهفًا:

"طب تعالى ورينا المكان دا بسرعة، أكيد هنلاقيه قريب من هناك"


بعد جملته انسحبوا خلف بعضهم حتى يذهبون له، ركضوا بقوة حتى وصلوا على مقربة منه، و حينها لمحوا جسده مُلقيًا على الأرض الخضراء وسط الزرع، ركضوا له من جديد و زادت دهشتهم حينما وجدوا جفونه مفتوحة مما يدل على وعيه، و لكن هيهات هو الآن مجرد جثة فقط و الروح احترقت حتى و إن كانت حية، قاموا بعدله حتى أخذه «ياسين» بين ذراعيه و البقية حوله، ربت على وجنته بقوة وهو يقول متوسلًا:

"فوق علشان خاطري و متعملش كدا في نفسك و تسيب الموج يخبطك، قوم يا وليد علشان خاطري"

تدخل «عامر» يقول متأثرًا:

"فوق يا وليد احنا هنا معاك أهوه و مش هنسيبك، فوق الدكتور طمننا عليها"


بدأ يتسعيد وعيه رويدًا رويدًا بعد هزهم له و حديثهم، و حينما حرك رأسه وقع بصره على «ياسين» بملامحه القلقة و الخوف و اللهفة كل تلك المشاعر وجدها تطل على وجهه، حينها احتضنه بقوة و هو يبكي بكاءًا مريرًا جعلهم يشعرون بالشفقة عليه، عدا «ياسين» الذي بكى معه هو الآخر و هو يحتضنه بقوة و كأن «وليد» صغيره و هو والده الذي يقف له سدًا منيعًا، قام «خالد» بإبعادهما عن بعضهما ثم قال بنبرةٍ جامدة:

"عيب عليك أنتَ وهو كدا، فوقوا و قوم يا وليد شوف الكل زي ما أنتَ علطول، عيب عليك لما تتهزم كدا"


اعتدل «وليد» في جلسته ثم أخذ نفسًا عميقًا زفره على مهلٍ تبعه بقوله المشتت:

"أنا تعبت من كل حاجة، كل ما أقول فيه حاجة هتتظبط تيجي حاجة تانية تدمرني، دلوقتي أنا مذنب و شخص مؤذي، أذيت نفسي و أذيت كل اللي حواليا، تعبت و تعبتهم معايا....تقدر تقولي لو ياسين كان حصله حاجة أنا كنت هعمل إيه؟"


رد عليه «ياسين» متدخلًا بنبرةٍ جامدة:

"ملكش دعوة بيا، أنا زي الفل و محصلش حاجة ليا، و هو كان هيأذيك أنتَ كمان، يعني هو اللي مؤذي مش أنتَ، و عمتك عملت كدا و فديتك بروحها علشان أنتَ رجعتلها بنتها و جوزها و رجعت ليها حياتها من تاني، الدنيا هي اللي مؤذية معاك إنما أنتَ مفيش عليك أي ذنب، علشان أصحاب الذنب الحقيقيين مش واخدين بالهم إنهم مذنبين أصلًا"


رفع كفيه يمسح وجهه فوجد «ياسر» يقول بنبرةٍ هادئة:

"احنا مجرد أدوات بتتحرك يا وليد، كل واحد فينا ليه طريق يتحرك فيه، و علشان كدا مينفعش نسيب طرقنا دي و نخرج براها، مجبورين عليها يبقى نمشيها و خلاص، و أنتَ طريقك فيه تعب كتير، يبقى نهايته راحة أكبر، صدقني أنتَ مش وحش، دنيتك هي اللي معاندة معاك علشان تجيب أخرك، هات أنتَ أخرها بقى"


أومأ له موافقًا وهو يستشعر كل كلمة تحدث بها فوجد «عامر» يضيف بطريقةٍ جادة:

"هقولك حكمة من مثلي الأعلى و دي أكتر حكمة أنا بؤمن بيها لأنها فعلًا مش كدب"


طالعه الجميع باهتمام و «وليد» أيضًا فاقترب هو منه يقول بنفس الملامح الجادة:

"الطبخ للجميع، دي أكتر حكمة أنا بؤمن بيها في حياتي، أسمع مني، كل مشكلة و ليها اوردر أكل يحلها، أطلبلك إيه بقى؟"


نظروا لبعضهم البعض و ما لبثوا ثوانٍ حتى انفجروا في الضحك من هيئته التي لا تنم على المزاح، حتى «وليد» الذي ابتسم بيأسٍ منه، فوجده يحتضنه وهو يقول بمرحٍ:

"الحمد لله ضحكته يا جماعة، اطلبولي أنا بقى الأكل علشان ضحكته ليكم"


ابتعد عنه «وليد» وهو يقول بنبرةٍ هادئة:

"و دي عمرها ما حصلت خلي بالك، طول عمري لما بزعل بفضل أيام بعدها مقفل و مكشر حوالي ٥ أيام كدا"


تدخل «خالد» يقول بسخريةٍ:

"مع عامر لو زادوا عن خمس دقايق تعالى عاتبني بقى"


تحدث «ياسين» يقول بهدوء:

"طب يلا علشان نقوم نشوفهم جوة و علشان تغير هدومك اللي كلها دم دي و تغسل وشك"


رد عليه بعدما زفر بقوة بنبرةٍ متحشرجة:

"بس أنا مش معايا هدوم و بعدين هغير فين؟"


رد عليه «ياسين» مردفًا:

"عيب تقول كدا و أخواتك معاك يا وليد، جابولك هدوم و ياسر هيديك مفتاح أوضته اللي هنا فيها حمام تغير فيها براحتك و تتعقم و تخرج براحتك"


طالعهم هو بامتنانٍ حقيقي وهو يقول بنبرةٍ متأثرة:

"دا انتو طلعتوا طوق النجاة بجد مش كلام زي ما بسمع بقى؟"


طالعوه بتعجبٍ ممتزج بالاستفسار طالبين التوضيح أكثر، فأضاف هو يُردف بنبرةٍ هائمة:

"طول عمري أسمع إن الصحاب سند لبعض، عيلة تانية في ضهرك زي الحيطة عمرها ما تميل، و أنا شكلي كدا لقيت الحيطة اللي هتسند عليها"


ابتسموا له جميعًا ففتح هو ذراعيه وهو يقول بنبرةٍ يشوبها مرحٍ طفيف على الرغم من كونها متألمة:

"يلا حضن خماسي كدا بما إنكم بقيتوا أخواتي يعني"


اجتمعوا سويًا مع بعضهم في عناقٍ أخوي، استشعر «وليد» فيه بحياةٍ جديدة و حينها خطر بباله تلك المقولة وهي:

"تشبه الدنيا البحر الهائج بطلاتم موجاته و أنتَ بها مثل جسدٍ رخو كلما قذفك الموج نحو الصخر تفتتت أحشاؤك، و بين كل هذا يكفيك الاصدقاء ليكونوا طوق النجاة، فتنجو منها سالمًا بعد أن أوشكت على الموت غارقًا"

 بعدها ابتعدوا عن بعضهم يساندوه حتى وقف هو و بعدها توجهوا نحو الداخل و قبل الاقتراب من الجميع أوقفه «ياسين» قائلًا بثباتْ:

"مش هينفع تدخل كدا و أنتَ مبهدل و تعبان، روح غير مع ياسر و صلح شكلك دا و تعالى لينا تاني علشان ميقلقوش عليك"


أومأ له موافقًا ثم سار مع «ياسر» نحو غرفته، بينما الثلاثة اقتربوا من الجميع يقفوا بجانبهم، طالعته «خديجة» باستفسارٍ حينما لاحظت تبدل ملامحه، فوجدته يومأ لها موافقًا، حينها، اقترب منهم «حسن» و «أحمد» و «رياض» و «راشد» و عدة أشخاص من قسم الشرطة بعدما قاموا بفحص البيت و أخذ الكاميرات المحاوطة للطابق الأول و التي ساهمت في الاحتفاظ بجزءًا كبيرًا من الواقعة، اقتربوا معًا نحو الغرفة، فخرج لهم أحد الأطباء يقول بنبرةٍ عملية بعدما أخبره مساعده بقدومهم:

"معلش يا فندم أي حاجة حاليًا مش هنقدر نقوم بيها لأن لسه الحالة صعبة"


أومأ له موافقًا ثم قال:

"أنا فاهم كل دا، أنا بس عاوز تقرير عن حالة المريضة علشان الإجراءات القانونية اللازمة"


أومأ له موافقًا ثم انسحب من أمامه، بعدها وقف «رياض» يتابع مع المشفى حتى يخرج لهم الطبيب بالخبر اليقين، أبان ذلك كان الضابط يتحدث مع كل فردٍ على حِدة، و لكن بطريقة غير رسمية، كان الحديث وديًا إلى درجةً كبرى مراعاةً لما عايشه الجميع من قلقٍ و خوف، و بعد مرور بعض الوقت الذي مر على الجميع كأنه دهرًا كاملًا، اقترب «وليد» منهم برفقة صديقه تزامنًا مع خروج الطبيب المسئول من غرفة العمليات، حينها عارضته قدميه و توقفت عن السير، خوفًا من القادم، بينما الجميع اقتربوا من الطبيب، الذي قال بنبرةٍ عملية:

"الحمد لله عدينا مرحلة الخطر، و الأنسجة محصلش ليها تلف، رغم إنها شايلة الرحم قبل كدا و كان شكله جرح كبير من زمان، بس ربنا كتبلها عمر جديد"


ها هي صدمة جديدة تقع عليهم الليلة، مشيرة فقدت رحمها منذ فترة؟ كيف حدث ذلك و متى و كيف صار بدون علمهم، كانوا ينظرون لبعضهم البعض بدهشة، فقال الطبيب متعجبًا:

"هو حضراتكم متعرفوش إنها شايلة الرحم قبل كدا؟ شكلها شايلاه من فترة علشان كدا الضغط بيحصله مشاكل كتير"


سأله «حسان» متلهفًا:

"طب بعد اذنك هي وضعها إيه طيب دلوقتي؟ يعني هتفضل فين؟"


جاوبه الطبيب مفسرًا:

"هتتحط تحت الملاحظة يومين إن شاء الله و بعدها تتنقل أوضة عادية، حمدًا لله على سلامتها، عن إذنكم"


أومأ له الجميع بموافقةٍ، بينما «وليد» حينما اقترب منه الطبيب أمسكه من مرفقه وهو يقول متوسلًا بنبرةٍ مهتزة:

"هي كويسة بجد مفيهاش حاجة؟....عايشة يعني؟"


ابتسم له الطبيب حتى يطمئنه ثم قال بهدوء:

"اطمن عليها، هي بقت الحمد لله كويسة و لسه هنعرف كمان بعد ما تتحط تحت الملاحظة، عن أذنك"


تركه وهو يزفر بقوة حتى يشعر ببعض الراحة، ثم ارتمى على المقعد المجاور له، بينما «ياسر» جلس بجانبه ثم ربت على ظهره وهو يقول بمرحٍ طفيف:

"شوفت جت سليمة إزاي؟ الحمد لله ربنا كرمكم و خرجت منها على خير، شكلها ماشاء الله معافرة"


رد عليه «وليد» بحزنٍ دفين لأجلها:

"طول عمرها معافرة و حمالة أسية، شافت كتير و على قد ما شافت على قد ما أدت، مشيرة دي الضحية اللي العالم قسي عليها لحد ما قساها بجد، و رغم كدا مش عارفة تضيع الطيبة منها".

_______________________


بعدها خرجت من غرفة العمليات على السرير المتحرك الخاص بنقل المرضى، و في يدها الإبرة الطبية المغروزة في أحد المحاليل، و منها تم نقلها لغرفةٍ خاصة بأمرٍ من أحد المسئولين بعد علمهم بقرابتها من

 «رياض الشيخ»، بعدها تم إبعاد الجميع عن الغرفة عدا «وليد» الذي أوشك على المشاجرة مع من عارضوه و «جميلة» التي بكت بحرقةٍ حتى تجلس بجانب والدتها، و أمام إصرارهما تم تركهما معها، و البقية في الخارج حتى تحدث «ياسر» قائلًا:

"معلش يا جماعة علشان الوقت اتأخر، دلوقتي كلكم هتمشوا و الأوضة بيكون فيها مرافق واحد مع الممرضة وهي بنتها، و وليد و جوزها في أوضة تانية و غير كدا مش مسموح، حضراتكم تروحوا ترتاحوا و أنا بنفسي هتابع حالتها و أطمنكم"


أومأ له الجميع بموافقةٍ ممتزجة بقلة حيلتهم، فحقًا عددهم كبير جدًا كما أنهم شعروا بالتعب و الوهن يسيطر عليهم، لذلك انسحبوا من جديد نحو البيت، عدا الثلاثة التي سبق و تم ذكرهم، حتى «طارق» لم يستطع البقاء مع زوجته مع إصرار «وليد» و الذي أوشك على الدخول في مرحلة الجنون حتى «عبلة» التي صرخ في وجهها طالبًا منها الرحيل.


في غرفة «مشيرة» تم توصيلها على عدة أجهزة لتكون عونًا لجسدها في ممارسة وظائفه، بينما الكف الآخر تُرك حُرًا، فاقترب هو يجلس على أحد المقاعد بعدما جذبه نحو الفراش ثم أمسك كفها الحر، حينها زفر بقوة ثم تحدث بنبرةٍ مهتزة و كأنه تسمعه:

"أخر حاجة كنت أتوقع انها تحصل هو إنك تموتي نفسك و تضحي بروحك علشاني أنا و ياسين....طول عمري كنت بشوف فيكي حاجة غريبة غيرهم كلهم....دلوقتي عرفت أن جبروتك دا كان قشرة علشان تعاندي بيها الدنيا بعد اللي حصلك....لا أنا قادر أعاتبك ولا قادر ألومك على اللي فات، الزمن لف و دار و خلاني مديون ليكي بروحي يا مشيرة....أنا النهاردة ظهرت ضعفي قدام الغُرب بسببك....لتاني مرة أحس بالهزيمة بس المرة دي هزيمة تقيلة أوي و بايخة"


أنهى حديثه بصوتٍ متهدج أشبه بالبكاء الذي يحاول جاهدًا إيقافه، بعدها وضع رأسه على الفراش ولا زال كفه يعانق كفها، وهو يتابع بعينيه الدامعتين سكونها و ملامحها المرتخية و هي داخل العالم الآخر، و لأول مرةٍ يطلب منها الاستيقاظ.

________________________


في الغرفة المجاورة لها كانت «جميلة» على الأريكة و لكن بعدما تبدل حالها كثيرًا، انتظرت حتى أنهى والدها صلاته، ثم وقفت هي تأخذ السجادة من يده حتى تسجد للخالق سبحانه و تعالى و تشكره و تحمد فضله على خروج والدتها لها سالمةً من تلك الحادث، و قبل أن تبدأ صلاتها أوقفها والدها بقوله المهتز:

"مسمحاها يا جميلة؟ و مسمحاني أنا كمان ولا لسه؟"


اقتربت منه هي تقول بخجلٍ:

"المهم أنتو متزعلوش مني، لو كنت أعرف إن فيه حاجة زي دي ممكن تحصل كنت حنيت من زمان و روحت قولتلها إن حضنها هو كل اللي أنا عاوزاه، كنت قولتلها إن هي أمي و روحي و إن اللي عملته معاها دا كان عقاب مش أكتر، بس أنا غبية، علشان المفروض أفهم إن العمر دا لحظات لو راحت مش بترجع تاني، و أنا ضيعت كتير من غيرها و معنديش استعداد أضيع اللي جاي كمان"


سألها هو مستفسرًا:

"يعني إيه يا جميلة؟"


ردت عليه هي مقررة:

"يعني هترجعوا شقتكم القديمة و ماما هترجع بيتها تاني، أظن خلاص كدا، كل واحد حياته ارتاحت من غيرها، و هي قدمت حياتها علشان تفديهم ، دا كله يخليهم يشفعوا ليها، علشان كدا كل حاجة هتتصلح بعد خروجها من هنا"

_____________________


في بيت آلـ «الرشيد» داخل غرفة «خديجة» جلست على الفراش تبكي بين ذراعيه بقوة، وهو يربت عليها كما لو أنه يعامل ابنته، و حينما طال بكاءها، سألها هو بسخريةٍ:

"بتعيطي ليه طيب؟ مش الدكتور دلوقتي كلمناه و قال إنها كويسة؟ و ياسر بنفسه خلى الممرضة تكلمك؟ مالك بس يا ست الكل"


ردت عليه هي بنبرةٍ باكية:

"أنا بعيط علشان حاجات كتير، علشانها و علشان وليد اللي شكله مخوفني و أول مرة أشوفه كدا، و علشانك و اللي كان هيحصل النهاردة كنت هخسرك فيه"


ابتسم هو عليها لذلك ربت على ظهرها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:

"و أنا الحمد لله ربنا نجدني و نجد وليد، و نجد عمتك معانا، و ابراهيم دا هيتعلق من رجله، بس علشان خاطري بطلي عياط"


حركت رأسها موافقةٍ فوجدته يشدد عناقه لها ثم قال بنبرةٍ حنونة:

"عارفة يا خديجة، لو كل واحد في الدنيا حس بالذنب زيك كدا بعد كل حاجة بتحصل، كان زماننا عايشين في مكان أحسن، أحساسك بالذنب دا حلو بس مش في محله، عمتك ربنا يخرجها بالسلامة دا نصيبها، أنتِ و وليد مش سبب في حاجة، و دا اللي أنا عاوزكم تعرفوه، مش معنى إن كل اللي حواليك وحشين يبقى أنتَ كمان وحش، ساعات بتكون أنضف منهم بس علشان أصولك أنتَ مش بتتكلم"


ردت عليه هي بنبرةٍ تائهة:

"أنا عمالة أحمل نفسي فوق طاقتها يا ياسين، عمالة أقول أنا السبب، بس برضه بفتكر زمان و اللي حصل و أرجع أقول غصب عني مش هقدر أسامح و أصلح اللي حصل، بس هي أثبتتلي إن ينفع أسامح عادي، مش هقدر أنكر إنها رحعتلي روحي النهاردة، سواء أنتَ أو وليد فأنا روحي كانت هتخرج ورا واحد فيكم، دلوقتي أنا مستحيل أعاملها زي الأول"


رد عليها هو مؤيدًا حديثها:

"عارفة لما كنت بزعل من حد بعمل إيه؟ بدعيله، متستغربيش كدا، احنا بنعيش في الدنيا دي و غصب عننا بنبتلى بأمراض القلب"


طالعته باستنكارٍ تود منه التفسير، فوجدته يقول بهدوء:

"أمراض القلب مش مقصود بيها التعب العضوي، بس مقصود بيها التعب النفسي، سواء غيرة أو حقد أو غل، علشان تخلصي قلبك من الأمراض دي ادعي لغيرك كتير، لما يجي حد يضايقك بقى أو يزعلك ادعيله ساعتها بس هتعرفي يعني إيه إنسانية و يعني إيه قيم و مبادئ لازم نتمسك بيها، إحنا أحن و أجمل من إننا نرد الأذى بأذى يا خديجة، لو لسه حاسة إن قلبك شايل من عمتك يبقى أدعيلها و كلمي ربنا علشانها، تفتكري في شخص وحش أو قاسي ممكن يعمل كدا؟ مستحيل، بس اللي قلبه جميل زي قلبك كدا و منور هيعمل كدا عادي"


رفعت رأسها تطالعه بعدة مشاعر مختلطة وهي تسأله بنبرةٍ متعجبة:

"هما ليه كلهم مش زيك؟ ليه الناس مش كدا يا ياسين؟ ليه عايشين في صراع و جري و هروب و خوف، كلامك بسيط بس صح، فيها إيه لو كل واحد زعل من التاني دعاله؟ و طلب من ربنا يكرمه و يهديه"


حرك كتفيه ببساطة وهو يجاوبها:

"يمكن علشان هما بشر مثلًا؟ بصي كل واحد فينا بتيجي عليه فترة انتقالية لازم في الفترة دي يخسر حاجة، كدا كدا هتتربى، و كدا كدا هتعامل الناس، يبقى عامل كما تحب أن تُعامل، يعني ربي نفسك على الخير و على كل حاجة حلوة، علشان زرعتك تطلع حلوة"


حركت رأسها تضعها على صدره وهي تقول بنبرةٍ خافتة ممتزجة بالبكاء:

"و أنتَ أكيد زرعتك حلوة علشان تطلع كدا، مش قادرة أصدق أني كنت هخسرك يا ياسين"


ربت عليها وهو يقول بمرحٍ:

"و أنا مش قادر أصدق إنك عندك الدموع دي كلها، دي مش قنوات دمعية لأ، دي شلالات فيكتوريا"


ابتسمت هي بوهنٍ وهي تتمسك به بقدر ما سمح لها آلم ذراعها مكان اللاصق الطبي، ثم غاصت في ثباتٍ عميق، بينما هو تنهد بعمقٍ ثم طبع قبلةً هادئة فوق رأسها وهو يرفع الغطاء عليها يدثرها به وهو جالسٌ على الفراش، و حينما أمعن النظر في وجهها وجد نفسه يبتسم تلقائيًا على سرعتها في النوم، بعدها ربت على ظهرها وهو يفكر كيف يجعلها تتخلص من ذلك الشعور خاصةً أن عمتها فعلت ذلك لأجلها و لأجل «وليد».

_______________________


في شقة «محمود» بالأسفل دلفت «هدير» غرفتها وهو معها بعدما بدل ثيابه، فجلست هي على طرف الفراش ثم أمسكت الصورة الموضوعة بجانبه تطالعها بعدستيها الدامعتين، وهو يراقبها، و حينما رآت الصورة التي جمعتها بوالدتها و عمتها تحدثت تقول بنبرةٍ باكية:


"هي سابتني و مشيت يا عمتو، متفقناش على إنكم تعملوا فيا كدا، طول عمري كنت بستقوى بيكم على الدنيا كلها، دلوقتي أنا ضهري مكسور، صحيح أنا كنت زعلانة منكم بس غصب عني بحبكم، كنت شايفة نفسي على الكل أني عندي بدل الأم اتنين، و أهو واحدة مشيت و التانية هتحصلها، علشان خاطري متعمليش زيها و تمشي، خليكي أنتِ زي ما كنتي علطول تقوليلها هدير بنت بطنك أنتِ بس هي بنت قلبي أنا، أرجعي تاني و أنا مش هسيبك تاني"


شعر هو بالشفقة و الحزن عليها لذلك اقترب منها يجلس بجانبها ثم أخذ تلك الصورة يضعها في موضعها القديم، بعدها أخذها أسفل ذراعه فوجدها تبكي بحرقة، ربت هو على ظهرها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:

"لو عياطك و كلامك للصور هيرجع حاجة مكانش حد غِلب، كنا مشينا نكلم الصور و نحضنها كمان، بس يا هدير دا كله ملوش لازمة، أنتِ بس اللي بتخسري حتة من روحك، افتكري إن العالم مش ماشي بـ طاقتك، العالم كله هيمشي و يتحرك و يدور و أنتِ بس اللي حياتك بتقف، كلهم هيكونوا فرحانين و أنتِ لوحدك اللي الحزن هيخيم عندك، قومي دلوقتي صلي و أدعي و أنا معاكي علشان نطمن عليها و علشان ترجعي معاها أحسن من الأول"


ابتعدت عنه تطالعه بأعين دامعة وهي تقول بنبرةٍ تائهة:

"هو أنتَ كنت فين من بدري يا حسن؟"


رد عليها هو بنبرةٍ حائرة:

"أنا كنت بغير هدومي برة و قبلها كنت مع عمو رياض علشان نسلم ابراهيم"


ردت عليه هي مردفةً:

"أنا مش قصدي كدا، أنا قصدي في الدنيا عمومًا، كنت فين علشان أنا مقابلكش؟"


فهم هو مقصدها من السؤال لذلك جاوبها بمرحٍ:

"آه فهمتك، كنت بعضض حجارتي علشان أقدر أمشي مع العالم بشوية طاقة كدا"


ابتسمت هي رغمًا عنها على جملته المرحة فوجدته يحتضنها وهو يقول بنفس المرح:

"لو تفضلي في حضني كدا و تعيطي أنا مش ممانع على فكرة، حتى ممكن أعيط جنبك عادي"


سألته هي بنبرةٍ خافتة:

"عمتو هتخرج يا حسن صح؟"


ابتسم وهو يجاوبها بمرحٍ كعادته:

"شوفي يا هدير من خلال عشرتي ليكم هنا أحب أقولك إن مصر جابت ٣ ستات ميتخافش عليهم،هما غادة عبدالرازق، و رضوى الشربيني و مشيرة الرشيد"


ضحكت بقوة فوجدته يقول معنفًا لها بطريقةٍ جادة:

"بس يا بت عيب عمتو في المستشفى و أنتِ قاعدة تضحكي و تهزري مفيش دم"


طالعته بدهشةٍ فوجدته يضيف بخبثٍ:

"دا الدم نط في الوش الله أكبر، طلعنا بنتكسف و نحس أهوه، أول مرة شوفتك في الكافيه حسيت إنك عاوزة تتفي في وشي"


ابتعدت عنه تقول بحنقٍ طفيف:

"علشان كنت مستفز بجد، أنا قاعدة بعيط مع نفسي و بشم نفسي لقيتك جاي تعملي تحقيق و.....مين حبيبتك دي اللي كلمتها اليوم دا؟"


سألته هي بتشككٍ و استفسارٍ جعله يطالعها بريبةٍ حينما رآى تبدل وجهها، لذلك قال متعجبًا:

"بسم الله الرحمن الرحيم، أنتِ طلعتي بتقلبي ولا إيه؟ مين حبيبتي دي كمان؟"


ردت عليه هي تفسر بتريثٍ:

"ساعتها لما قعدت قصادي جالك تليفون و أنتَ رديت وقولت يا حبيبتي مين دي بقى إن شاء الله ؟"


تذكر هو ما حدث حينها لكنه آثر التجاهل ثم سألها بنبرةٍ خبيثة:

"دا أنتِ طلعتي مركزة معايا أهو من ساعتها، أومال عاملة نفسك من بنها ليه؟"


ردت عليه هي بضيقٍ حينما استشعرت حديثه الخبيث:


"على فكرة بقى أنا مش مركزة ولا حاجة، أنا بس كنت متضايقة علشان افتكرتك مرتبط و لا متجوز و جاي تشوف نفسك عليا، لكن هركز معاك ليه أنا؟"


أومأ لها موافقًا ثم قال بنبرةٍ غير مبالية:

"عادي يعني، بس علشان أطمنك يا ستي دي حنان أختي الكبيرة، ابنها في اسكندرية لسه طالب في الجامعة و بنتها متجوزة بتروح تقعد هناك معاهم لحد ما جوزها يرجع من السفر، بتتكلم بقى تطمن عليا و أنا بقولها يا حبيبتي، بس كدا"


تبدلت ملامحها إلى أخرى أكثر أريحية فوجدته يقول بخبثٍ:

"لأ واضح إنك مش مركزة خالص معايا، أومال الدموية ضربت في وشك كدا ليه لما عرفتي؟"


ردت عليه هي بتوترٍ:

"ها...لأ عادي يعني بس كل الحكاية أني مكنتش أعرفك....و علشان يعني خلاص....أنا هقوم اتوضى علشان أصلي"


هربت من أمامه و من سهامه الموجهة نحوه بتوترٍ و خجلٍ ظهر بوضوح على هيئتها، بينما هو نظر في أثرها بمرحٍ وهو يقول محدثًا نفسه:

"البت دي شكلها غيرانه عليا".

_____________________


في الأسفل في الطابق الأول اجتمت عائلة الراشد في شقةٍ واحدة بعد عودتهم من المشفى، فتحدث «إيهاب» يقول بخجلٍ:

"عجبك عمايل أبوك يا راشد؟ تقدر تقولي أخرتها إيه؟ الناس اللي أوينا في بيتهم و رجعوا حقنا نرفع عينا فيهم إزاي؟"


ردت عليه زوجته تقول بأسى:

"يا حبة عيني بنتها قطعت قلبي هي و وليد و خديجة و هدير و كلهم، منه لله ابراهيم علطول كاسر فرحة الكل و عمره ما قدر يتقبل إن غيره يكسب حاجة مش عنده، بس ربك كبير و أهو هيترمي في السجن رمية الكلاب و لسه لما تفوق و يحققوا معاها"


رد عليها «راشد» بنبرةٍ تائهة:

"شخص زي دا مفيش في قلبه رحمة خالص؟ لا رَحم غريب ولا رَحم قريب و لا حتى ابنه المريض ؟! أنا لحد دلوقتي مش قادر أصدق إنه كان هيقتل حد بجد؟ على كدا لو وليد كان معاه لوحده كان حصله إيه؟"


ردت عليه «شهد» بنبرةٍ حزينة:

"كان هيموته أكيد و قصادها كنت هتروح أنتَ أو أخوك، بس هو بياخد جزاءه دلوقتي ولو يموت في السجن يبقى أرحم"


كانت زوجته تستمع لهم ببكاء لم تقوى على الحديث، فأي حديثٍ يقال في تلك الأحداث، هي لو استطاعت حقًا لكانت خنقته بيدها معًا حتى أزهقت روحه و حضن جسده التراب، لكن مهلًا ها هي الحياة تدور حتى تصعقه تحت قدميها لِـ تخلص من ما فات وما هو آتٍ، بينما «رامي» تدخل يقول بحنقٍ:

"أنا لو جيت أطلب منهم إيد خلود هيوئدوني مكاني و حقهم بصراحة"


طالعته «شذى» بضجرٍ، بينما شقيقه قال منفعلًا:

أنتَ معدوم الدم ليه يا رامي؟ خلود مين دي اللي تتجوزها؟ شيل الموضوع من راسك خالص"

رد عليه هو بضجرٍ:

"أنتَ مالك يا راشد؟ أنا حر هو أنتَ اللي هتتجوزها؟ و بعدين مش يمكن لما أطلبها توافق؟"


ردت عليه «شهد» بنبرةٍ هادئة بعدما طالعت شقيقتها:

"اهدا يا رامي مش قفش هي، و بعدين أبوك كان هيموت أخوها و دلوقتي ضارب عمتها و عاوز تطلب إيد بنت من عندهم؟ بأي حق؟"


لوح لها بذراعه ثم قال بحنقٍ:

"أنا داخل أنام تصبحوا على خير لحد ما نغور من هنا"

نظر الجميع في أثره بتعجبٍ بينما «شذى» شقيقتها الصغيرة وهي تقول بنبرةٍ مهتزة:

"أنا هاخد شروق أنيمها علشان الخضة اللي هي شافتها دي و كانت عاوزة وليد بس هو مش فايق"


أومأ لها الجميع بموافقة، بينما شقيقتها الكبرى طالعتها بحزنٍ لأجلها و لأجل قلبها الحزين.

_______________________


بعد مرور ثلاثة أيام و ليلتين كانت الأوضاع كما هي في بيت آلـ «الرشيد» العائلة تقوم بتقسيم نفسها على زيارة «مشيرة» تباعًا وهي كما هي ساكنة الفراش، لم يتركها أيًا من زوجها و ابنتها و «وليد» الذي بقى بجوارها يحرسها ليلًا و يداويها نهارًا، فارقه النوم طوال الفترة السابقة، حتى هاتفه قام بإغلاقه حتى لا يكترث بمن هم في الخارج و أولهم من كُتب على قلبه حبها و ربط قلبها بعذابها، و في منتصف اليوم و قبل مجيء «ياسين» كعادته في ذلك الوقت، فتحت «مشيرة» عينيها على مضضٍ بقدر ما سمح لها الضوء النافذ لحدقتيها، حاولت مرارًا و تكرارًا حتى استطاعت في النهاية فتحهما كان هو بجانبها يرفع رأسها للأعلى و ابنتها في الخارج تصلي مع والدها، فحتى مهمة رعاية والدتها لم يتركها لها، و حينما سمع أنينًا خافتًا حرك رأسه مُسرعًا يطل عليها بحدقتيه فوجدها تحرك رأسها بتشوشٍ، اقترب منها بلهفةٍ وهو يقول بنبرةٍ مختنقة:

"مشيرة !! أنتِ بتفوقي؟ أوعي تكوني بتموتي هروح فيها رواكي، هجيب لمين دوا الضغط"


حركت رأسها نحو مصدر الصوت بوهنٍ فوجدته هو من يجلس بجانبها حينها تذكرت ما حدث فرفعت كفها بوهنٍ تلتمس وجهه و هي تبكي، فوجدته يقول معارضًا:

"بس متعيطيش أنا و أنتِ كويسين الحمد لله، هجبلك الدكتور و أجي"


ركض بعد جملته تلك في الرواق يبحث عن الطبيب، أبان ذلك كانت «جميلة» متوجهة نحو الغرفة حتى اصطدم هو بها لكنه تجاهلها و واصل سيره نحو مراده، بينما هي ركضت نحو الداخل حتى وجدت والدتها تبكي على الفراش، اقتربت منها تقول بنبرةٍ باكية:

"أنتِ فوقتي يا ماما !! الحمد لله يا رب، الحمد لله، الدنيا كلها نورت برجوعك تاني"


بكت «مشيرة» من جديد فوجدت «جميلة» تحتضنها بقوة و هي تصرخ بآلمٍ و ندمٍ على ما فات، شاركتها والدتها الشهقات و حينها دلف «وليد» و الطبيب و «حسان» و «طاقم» العمل، و حينما رآى الطبيب وضعهن، قال بلهجةٍ حادة:

"كدا مينفعش، المريضة لسه في حالة الإيفاقة و دا غلط علشان والدتك حتى"


اقترب «وليد» منها يرفعها من على الفراش بعدما ارتمت عليه تبكي بجانب والدتها، و حينها بكت بين ذراعيه بقوة فوجدته يربت عليها، و الطبيب يتفحصها و معه مساعديه، بعدها تحدث بنبرةٍ آملة:

"الحمد لله حالتها كويسة و كدا تمام، و كل الخطر عدى، أهم حاجة الجرح لازم يتحافظ عليه من الانفعال و التلوث لإنه كبير"


أومأ له الجميع بموافقةٍ فقال هو مبتسمًا:

"حمدًا لله على سلامتها، و ربنا يبارك في عمرها"


بعدها جلس «حسان» بجانبها يقول بهدوء:

"الحمد لله إنك رجعتيلي تاني يا مشيرة، الحمد لله إن ربنا كرمني بيكي تاني"


ردت عليه هي بسخريةٍ:

"قصدك تالت أو رابع، أنا شكلي قدرك بجد يا حسان"


رد عليها هو بحبٍ بالغ:

"و أحلى قدر يا مشيرة"


_"ما تلم نفسك يا عمو حسان، الست خارجة من ٣٠ غرزة، هو أنا مش مالي عينك؟"

تفوه بها «وليد» ردًا على حديث زوج عمته، فقام «حسان» ثم اقترب منه وهو يقول بضجرٍ:

"شوف علشان أنا جبت أخري منك، ابعد عني يا وليد علشان أنا مش ناقصني غيرك يكمل عليا، حِل عني يا بني، مش ناقصاك هي"

رد عليه «وليد» بوقاحته المعتادة:

"والله كل واحد أدرى باللي ناقصه، و بعدين مالك شادد حيلك كدا عليا زي ما تكون فادتني بروحك على الحدود، أنتَ كل يوم تيجي ترقي الأوضة و تمشي و أنا مش موجود، محسسني إن فيه جن بيحرسها"


رد عليه هو مردفًا:

"علشان أركز يا بني أدم، و بعدين أنتَ بتفضل قاعد في الأوضة مش عاوز تسيبها و دي مراتي، مش عارف حتى أطمن عليها و لا أعمل حاجة خالص"


_"هتعمل إيه يا شيخ حسان في وضعها دا؟ لو مسكت إيدها يبقى انجاز يحتسب ليك، و يوم ما تتعظم هتبوس راسها، اسكت بالله عليك"

بنفس وقاحته المعتادة رد على زوج عمته بذلك مما جعله يقول بحنقٍ:

"أنا هسيبلك الأوضة كلها و أروح أصلي يمكن ربنا يهديك يا بني"


رد عليه هو بمرحٍ:

"ادعيلي معاك يا عمو أصلي محسود، متدعيش عليا علشان الملايكة بترد الدعوة"

لوح له الآخر بذراعه وهو يخرج من الغرفة فوجده يرفع صوته قائلًا:

"سكتك خضرة يا عمو حسان" 


كانتا الاثنتين تتابعا ما يحدث بمرحٍ بعدما قامت «جميلة» بعدل وضعها، طالعتها والدتها بفرحةٍ ممتزجة بعدة أسئلة لم تقوى على التفوه بها، فوجدتها تمسك كفها وهي تقول بنبرةٍ حاولت صبغها بالمرح لكنها أبت و خرجت متأثرة بالبكاء:

"أنا مش عاوزاكي تسألي و لا تستفسري، كل حاجة عدت خلاص و دلوقتي هنبدأ من جديد أنا و أنتِ و بابا مع بعض، أنا مسامحة من قلبي و مش زعلانة منك، المهم أنتِ متكونيش زعلانة مني"


ردت عليها «مشيرة» ببكاء:

"أنا مش زعلانة منك، أنا زعلي كان من الدنيا كلها يا جميلة، لكن و الله كفاية كلامك دا و مش عاوزة حاجة تاني من الدنيا"


رفعت نفسها ثم طبعت قبلة فوق رأسها تبعتها بقولها:

"عاوزاكي تفضلي معايا علطول اللي جاي من عمري كله، أنا بحبك أوي يا ماما و الله بحبك أوي"


ابتسمت «مشيرة» بآلمٍ وهي تقول:

"ماما....الكلمة اللي عملت علشانها كل حاجة في حياتي و طلعت كل حاجة غلط"


مسحت عبرات والدتها ثم قالت بنبرةٍ حاولت صبغها بالمرح:

"أنا دلوقتي هروح أجيب مياه و أرجع تاني، و هخلي معاك وليد للأسف يعني"


طالعها هو بوجهٍ ممتعض وهو يراقب انسحابها من الغرفة ثم جلس على المقعد المجاور للفراش، راقبته هي بقلقٍ من تغير ملامحه فوجدته يقول بنبرةٍ هادئة:

"هو سؤال واحد علشان أرتاح، ليه يا مشيرة؟ تفدينا بنفسك ليه"


تنفست بعمقٍ ثم جاوبته متشدقةً بنذقٍ:

"هو كدا و خلاص"


ابتسم هو بسخرية ثم أضاف:

"جنان يعني؟ هو تان يا مشيرة بيتاخد كدا و خلاص؟ عملتي كدا ليه؟"


ردت عليه هي بنبرةٍ شبه منفعلة:

"و أنتَ لما بتعمل الحاجة علشاننا بتعملها ليه؟ لما بتموت نفسك علشان كل بيبقى ليه؟ أكيد علشان بتحبنا"


رد عليه هو بسخرية:

"وهو أنتِ بقى بتحبيني يا مشيرة لدرجة تخليكي تفديني أنا و ياسين، و لعلمك السكينة كانت أقرب لياسين و أنا كنت هزقه"


ردت عليه هي بجمودٍ:

"عارفة إنها كانت أقرب لياسين و عارفة أنتَ كنت هتعمل إيه، علشان كدا عملت كدا، خديجة متستاهلش قلبها يتوجع تاني عليكم"


صرخ في وجهها بطريقةٍ هيسترية:

"ولما أنتِ كدا حاربتينا ليه؟ كرهتينا فيكي ليه؟ عملتي حزب مع كل ولاد العيلة و خرجتينا ننه منه ليه؟ ردي عليا؟ ليه طلعتينا معقدين و مشوهين نفسيًا؟ احنا بسببك مش قادرين نصدق اننا ينفع نتحب"


بكت هي بقوة حينما رآت طريقته تلك و نبرته المتألمة، فوجدته يقول ببكاء:

"المصيبة أني معرفتش آزيكي، أنا طول عمري كنت مستني منك حضن زي اللي بتحضنيه لهدير و عبلة، كنت مستني أشوفك بتدافعي عني زيهم، صحيح أنا مش زي خديجة و أبويا مش طه، بس بسببك كبرت على أني مش اختيار لحد و بسببك أنا تعبت، حتى دلوقتي شايل ذنبك و تعبان"


مسحت دموعها المنسابة ثم طالعته وهي تقول بنبرةٍ جامدة:

"لما أنتَ وثقت في صحابك يا وليد و بقيت مدمن بسببهم و اتعالجت شهور ف مصحة، عملت إيه بعد ما عرفت باللي عملوه فيك؟"


طالعها بحيرةٍ فوجدها تقول:

"ها رد عليا، عملت فيهم بعدما وثقت فيهم"


رد عليها بنبرةٍ تائهة:

"روحت بلغت عنهم و عن المكان اللي بيجيبوا منه بعدما ما عرفته أنا على أساس أني هساعدهم، و سلمتهم للحكومة"


ابتسمت هي بسخرية وهي تقول:

"يعني رد فعل للغدر، زيي بالظبط كنت رد فعل للغدر بس كان رايح للشخص اللي كنت فكراه غدار، ناس وثقت فيهم غدروا بيك و جرحوا قلبك و ساعتها أنتَ روحت بلغت عنهم، من غير ما تفكر ظروفهم إيه أو مجبورين ولا لأ؟ خدت حقك، أنا برضه خدت حقي، صحيت من النوم لقيت نفسي مش معايا حاجة خالص، بنتي و بيتي و جوزي كله فارقني، مطلوب مني قصاد كل دا أكمل عادي و أضحك في وشهم و أنا قلبي محروق؟ كداب اللي يقول آه، أنا انتقامي كان غلط في خديجة و زينب، و جه على دماغي في الأخر و دوقت المرار، و دلوقتي أنا كنت بكفر عن ذنبي ليها علشان تسامحني، و علشان أعرفها أني بحبها، لو الموت كان هياخد حد بيننا يبقى أنا أولى واحدة فيكم"


مسح عباراته ثم حرك رأسه موافقًا على حديثها المقنع، بعدها وجدها تفتح له ذراعها وهي تقول بنبرةٍ شبه باكية:

"ممكن بقى أجرب حضنك اللي لم العيلة كلها ماعدا أنا دا؟"


طالعها هو بدهشةٍ فوجدها تقول بنبرةٍ مهتزة:

"طول عمرك كان نفسك في حضن مني و ساعتها أنا رخمت عليك، دلوقتي أنا بقولك ينفع تحضني يا وليد علشان اتأكد إنك معايا؟"


أومأ لها موافقًا ثم اقترب منها يجلس على الفراش فوجدها تأخذه بين ذراعيها بقدر ما سمحت لها قوتها الواهية بسبب ألم جسدها، بينما هو وجد نفسه يبكي من جديد لا يدري لماذا، لكن عناقها له كان يتمناه دومًا، بعدها ابتعدت عنه فوجدها تحاول كتم شهقاتها، حينها رفع كفه ثم كفكف دموعها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:

"كفاية عياط بقى، و يلا قومي شدي حيلك كدا علشان البيت مستنيكي ترجعيله تاني"


أومأت له موافقة، فوجدته يقترب منها بتوترٍ ثم طبع قبلةً هادئة فوق رأسها، طالعته بدهشةٍ جلية بوضوحٍ فوجدته، يقول بمرحٍ:

"دي علشان روحك اللي فادتيني بيها متطمعيش في أكتر من كدا"

أبتسمت له من جديد، فوجدته يربت على كفها ثم انسحب من الغرفة تاركها خلفه تبتسم بفرحةٍ كبرى. 


بعدها علمت العائلة بأكملها بتحسنها و توالوا على زيارتها تباعًا، و كانت أخرهم «هدير» و معها زوجها، و لم تتحدث معها في أي شيء فقط اطمئنت عليها ثم تحركت مع «حسن»، لاحظت «مشيرة» أن هناك ثلاثة أشخاص لم يأتوا لها بعد، و للحق الثلاثة ذو أهميةٍ كبيرة وهم «خديجة_عبلة _ ياسين»، و يبدو أن روحها كانت على اتصال بروح أحدهم، لذلك رأت «ياسين» يقف أمامها وهو يبتسم لها، ابتسمت له هي الأخرى فوجدته يقول بمرحٍ طفيف:

"مش عارف بصراحة ممكن أقولك إيه في حاجة زي دي؟ بس أنا جاي أتطمن عليكي و أقولك شكرًا، اللي عملتيه علشاني كان كتير و مش أي حد يقدر يفدي حد بروحه غير لو بيحب فعلًا، هو أنتِ بتحبيني يا عمتو؟"


سألها سؤاله الأخير بمرحٍ جعلها تبتسم له ثم حركت رأسها موافقة، فاقترب يجلس بجانبها على المقعد المجاور للفراش وهو يقول بنبرةٍ هادئة:

"ليه تعملي في نفسك كدا؟ ليه تخليني أشيل ذنبك و ذنب بنتك كمان؟ مفكرتيش فيها و أنتِ بتعملي كدا؟"


ردت عليه هي مردفةً:

"أنا عملت كدا علشان خاطر بنتي، بس مش جميلة لأ خديجة، اللي كسرتها طول عمري، أنا آه كنت وحشة و مش عارفة أنا لسه كدا ولا لأ؟ بس خديجة أنضف من أنها تزعل عليك أو على وليد، أنا مش مشكلة، عيشت كتير و شوفت أكتر، لكن أنتو العمر قصادكم و لسه هتعيشوه، المهم انكم بخير"


رد عليها هو بهدوء:

"و الحمد لله إنك بخير معانا، صدقيني أنا معنديش أي عداء معاكي، أنا بس شخص مسالم أوي و بخاف من نفسي علشان كدا علطول بكون هادي، بس من ساعة ما خديجة دخلت حياتي و أنا اكتشفت حاجة غريبة إن اللي يزعلها ممكن أكله بسناني، علشان كدا أنا بعتذر عن أي اسلوب وحش مني ليكي، و ياريت لو تفتحي صفحة جديدة معايا و تعرفي فيها ياسين الشيخ بجد"


أبتسمت له بسمةً صافية وهي تقول بنبرةٍ مرحة:

"أنا شوفت كل حاجة على وش ابراهيم خلاص، ما شاء الله خديجة لو زعلتك مش هتاخد في إيدك حاجة"

رد عليها هو بحبٍ:

"هتصدقيني لو قولتلك إني معاها ضعيف و مقدرش حتى أزعلها؟ ازاي بس أعمل كدا و أنا معاهد نفسي أبقى أبوها قبل ما أكون جوزها؟ خديجة دي أول فرحتي زي ما بيقولوا كدا"


ابتسمت له بحبٍ وهي تقول بنبرةٍ متأثرة:

"ربنا يخليكم لبعض و تفرح بولادك منها، و يكونوا زي أمهم كدا"


قبل أن يرد عليها وجد الباب يُفتح بواسطة أحدهم ثم أشرأب برأسه وهو يقول بمرحٍ:

"عـــمـتو !! عاملة إيه دلوقتي"


طالعته هي بدهشةٍ فوجدت الباب يُفتح على وسعه بواسطة «خالد» وهو يقول بحنقٍ:

"يا أخي تعبتني بقى دخلني، هو عيد ميلاد؟"


حركت رأسها تنظر لـ «ياسين» فوجدته يقول بنبرةٍ ضاحكة:

"دول اخواتي و جايين يطمنوا عليكي، أكيد عارفاهم"


حركت رأسها موافقة فوجدت «ياسر» يقترب منها ثم وضع علبة مغلفة كهديةً لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:

"الحمد لله على سلامتك، و شكرًا علشان اللي عملتيه لياسين"


ردت عليه هي بتأثرٍ:

"الله يسلمك، بس أنا معملتش حاجة، هو اللي عمل كل حاجة علشان كدا يستاهل الخير"


ابتسم «ياسين» باتساعٍ، اقترب منها «خالد» يعطيها باقة ورد وهو يقول بنبرة هادئة:

"الحمد لله على سلامتك، و ربنا يطمننا عليكي"


أخذتها منه وهي تبتسم له، بعدها وجدت «عامر» يقترب منه يقول بمرحٍ:

"دول عيال خيخة و احد جابلك هدية و التاني بوكيه ورد، أنا جايبلك كرتونة عصير مستوردة أهيه، و معاها علبة بسكوت سادة، لحد ما تروحي بيتك هتلاقيني جايبلك فرختين بلدي و وجبة شوربة خضار، أكتر من كدا يبقى طمع و ممكن أعتبره مهرك عادي" 


ضحكت بقوة على طريقته فوجدت «ياسين» يقول معتذرًا:

"أنا آسف دا عامر أظن غني عن التعريف، هو كدا علطول"


ردت عليه هي بنبرةٍ ضاحكة:

"عارفاه طبعًا، بس دمه خفيف والله، ربنا يكرمكم و يبارك فيكم"


رد عليها «عامر» بمرحٍ و عفوية:

"أنا كنت هجيبلك فاكهة والله بس لقيت العنب فيه بذر و المانجا مستوية و احنا داخلين على شتا لسه مفيش برتقان، بس أوعدك في الشتا هجيلك بعصير برتقان، أصلك انقذتي ياسين برضه"


تدخل «خالد» يقول بضجرٍ:

"طب أنا بقول كفاية قلة ذوق كدا و يلا؟ علشان حتى هي ترتاح شوية؟"


أيده «ياسر» بقوله:

"أنا بقول كدا برضه، و قبل ما المستشفى تطردني"


وقف «ياسين» ثم قال بمرحٍ:

"طب نستأذن احنا بقى علشان الوقت ميتأخرش أكتر من كدا"

سألته هي بلهفةٍ:

"هي خديجة مجاتش ليه، هي لسه زعلانة مني؟"


ابتسم هو لها ثم قال:

"خديجة و عبلة هيجوا مع بعض علشانك و احتمال يباتوا، متخافيش"


أومأت له موافقة و في تلك اللحظة دلف «وليد» و حينما رآهم اقترب منهم يقول مرحبًا:

"يا هلا يا هلا، واقفين ليه اقعدوا"


رد عليه «خالد» بهدوء:

"احنا شوفناها و اتطمنا عليها و هنمشي، أنتَ عاوز حاجة؟"


أومأ له موافقًا ثم قال موجهًا حديثه لزوج أخته:

"بقولك عمو رياض عمل إيه مع ابراهيم؟"


رد عليه الأخر بضجرٍ:

"أهو مرمي في الحجز لحد ما يحققوا مع عمتو مشيرة و بعدها هيترحل للنيابة، بس برضه زي ما هو جبروت مفيش حاجة كسراه"


ابتسم له «وليد» بخبثٍ وهو يقول:

"لأ ماهو أنا عرفت هكسره إزاي؟ أنا هخلي ابراهيم يموت بحسرته"


_"إزاي"

تفوه بها الجميع فقال هو بعدما جلس بأريحيةٍ:

"عاوز بكرة مأذون و اتنين شهود"


سأله «ياسين» منفعلًا:

"و دا إسمه إيه بقى إن شاء الله؟"

ابتسم «وليد» باتساعٍ تزامنًا مع نظرة الخبث التي لمعت في حدقتيه وهو يقول:

"دا إسمه عودة وليد الرشيد"

الفصل الثاني والعشرون من هنا


تعليقات



×