رواية شظايا قلوب محترقة الفصل العشرون 20 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل العشرون  بقلم سيلا وليد   


‏وكم تمنيت لو أنّ الحياة اختبرت صبري في أشياء أخرى غير قلبي ..

وكم تمنيت لو أنك ترى ذلك الجدال المكتوم في عيناي ، وتقطع شك الكلام بيقين الفعل..

         ............

إليكِ كم تمنيت أن تضع لي السبعين عذرًا ثم تضاعفهنّ حتى ابقى بأجمل صورة في عينك..

ف ليتك فهمت الكلمة المحذوفة في حديثي..

فإني والله أحبك بقدر المسافات التي تفصل بيننا ...

فكم تمنيت ..وكل هذا تمني


#ميرال_الشافعي


بعدما استمع وشاهد الفيديو..تخلَّلت كلماتها فتيلَ نيرانه، وكأنَّها قيَّدت عنقهِ بقيودٍ حديديةٍ من النيران، كيف تقبلُ أن تفعلَ ذلك بابنه، أنفاسًا مرتفعةً بنيرانِ روحهِ التي كادت أن تُزهقَ مع كلماتِ ذاك البغيض، ظلَّ للحظاتٍ وهو ينظرُ لتلك الشاشةِ وهو يشعرُ بالاختناق.. وكأنَّ الهواءَ انسحبَ من حوله، لتتحوَّلَ عيناهُ حمراءَ حادةً وعروقهِ بارزةً، وكأنَّ الشيطانَ يروادهُ على فعلِ جريمةٍ شنعاء، أطبقَ على الهاتفِ وهو يرى ذاك الطبيبَ البغيض يقتربُ منها ويدسُّ يديهِ الغليظةَ أسفلَ ثيابها وهو يشيرُ إليهِ بآلةٍ حادةٍ تساعدهُ على فتحِ بطنها.. 

وآه وآه أخرجها كنيرانٍ يريدُ أن يحرقَ بها كل مايقابله، هرولَ للخارجِ بعدما أغلقَ هاتفه، وهو يهمسُ بهسيسٍ مرعب:

-أقسم باللهِ لأموِّتك ياراجح، هرولت فريدة بأقدامها الحافيةِ خلفه، بعدما أخبرها مصطفى ببعضِ الكلمات، لتهرولَ فزعةً تتشبَّثُ بذراعه:

-علشان خاطري ياحبيبي، متروحلوش هوَّ عايزك إنت..


تراجعَ بعدما شيَّعها بنظرةٍ عميقةٍ ممزوجةٍ بكمِّ الألمِ الذي يحرقُ روحه: 

-ابني ومراتي، لو عايز يقتلني خليه يموِّتني، بس مستحيل أسيبه يعمل كدا في ابني ومراتي..

نيران نشبت بضلوعها مما جعلها تهزُّ رأسها بهستيريا:

-مستحيل أسيبك تروح له، فتحَ باب سيارتهِ يشيرُ إلى حرسه:

-دخَّلوا مدام فريدة جوَّا، جذبها الحارس من أكتافها مع وصولِ مصطفى وهي تصرخُ بجنونٍ بعدما شعرت بذهابَ عقلها: 

-هيقتله يامصطفى أنا عارفة أنُّه عايز يقتله..

تخبَّطَ بقلقٍ يروادُ عقلهِ محاولًا الثباتَ يجيبُ بتردُّدٍ تجلَّى بعينيه:

-ابنك راجل يافريدة، إحنا مربيين راجل لوقتِ المحن، سبيه يتصرَّف..

دفعتهُ صارخةً وبدت تهزي بتخبُّطِ مشاعرَ الأمومة، فأصبحَ القلقُ والخوفُ كأشواكٍ تغرزُ بفطرةِ أمومتها، ناهيكَ على الفزعِ من افتقادهِ الذي أصبح سيدها الأوَّل:

-طيب خلِّي إسلام مكانه كدا، عايزة أشوف برودك وقتها زيه كدا.. 

كلماتٌ قاسيةٌ اخترقت قلبه، ليشعرَ برجفةٍ أصابت جسدهِ بالكامل، رفعَ عينيهِ التي تحوَّلت لسحبٍ مغيَّمةٍ كالأمطار: 

-وإيه الفرق يافريدة بين الاتنين، دنا منها وتعمَّقَ بعينيها الشاردةِ لينطقَ بقسوةٍ لأوَّلِ مرَّةٍ منذُ سنواتٍ لها:

-إيه الفرق بين إسلام وبين إلياس، دول ولادي الاتنين، دا إلياس السيوفي يامدام فريدة يعني مالكيش فيه قد ماليَّا فيه، بلاش تعملي فيها أم بتخاف على ابنها أكتر منِّي..قالها واستدارَ للداخلِ يأكلُ الأرضَ بخطواتهِ الذي جعلت الأرضَ تهتزُّ تحت قدميهِ من شدَّةِ غضبهِ وثورانِ عنفه. 


هوت على درجِ المنزلِ وانفجرت عيناها ببكاءٍ كزخات ٍمطر سقطت فوق نهر، ولم تستطع توقُّفها كأنَّها لم تبكِ منذ فترة، شعرت بأحدٍ بجوارها، استدارت لليدِ الحانيةِ التي تربتُ على كتفها:

-هيرجع صدَّقيني وهيرجَّع ميرال، متزعليش من بابا..

حاوطت جسدها الصغيرَ لتضعَ رأسها فوق رأسِ غادة ومازالت شهقاتها بالارتفاع، تتذكَّرُ منذ يومينِ بعد اتصالِ راجح لها..

فلاش قبل يومين:

أغلقت الهاتفَ وبدأت تدورُ بالغرفةِ كالمجنونة، ماذا عليها فعله..هل تتصلَ بزوجها، أم أنَّ ذاكَ المختلَّ سيضرُّ ابنته..هنا تذكَّرت حديثه، لتحدِّثَ نفسها كالمجنونة:

-المتخلِّف دا بيشك في ميرال متكنشِ بنته، متخلِّف ياراجح، ياترى يارانيا عملتي إيه علشان الحيوان دا يقول كدا..هرولت إلى ملابسها لتقومَ باستبدالها سريعًا، ثمَّ اتَّجهت إلى خزانةِ مصطفى لتجذبَ سلاحهِ وتضعهُ بحقيبتها تهمسُ لنفسها:

-هموتك ياراجح إنتَ ورانيا، شياطين على الأرضِ مالكُمش الحياة في الدنيا دي..


وصلت بعد قليلٍ إلى فيلَّا راجح، لتدلفَ للداخل، توقَّفَ الرجل أمامها ثم أشارَ إليها بعدما علمَ بهوِّيتها، لتستقلَّ سيارةً تجلبُ مستلزمات الفيلا من خضرواتٍ وفواكه، نظرت لتلك السيارةِ متسائلة:

-راجح فين؟..

أشارَ الرجلُ إليها بالصعودِ قائلًا:

-حتعرفي بعد شوية، تحرَّكت السيارةُ فتوقَّفَ الرجلُ بمنتصفِ الطريقِ يجذبُ حقيبتها ويلقيها بالطريق: 

-آسف يامدام، دي أوامر الباشا.

صاحت هادرةً به بغضبٍ أعمى:

-إنتَ إزاي تتجرَّأ ياحيوان وترمي شنطتي، لم يجب على حديثها، وظلَّ يتحرَّكُ لمدةِ ساعةٍ إلى أن وصلَ إلى إحدى المناطقَ النائيةِ بمحافظةِ القاهرة، ترجَّلت تتلفُّتُ حولها، منزل ريفي يحاوطهُ الكثيرُ من الأراضي الزراعية، دلفت بعدما أشارَ إليها الرجلَ بعدما قامَ بتفتيشها، خطت للداخلِ وجدت راجح ناصبًا عودهِ وبيدهِ كوبًا من الخمرِ يطلقُ صفيرًا:

-أووه مدام فريدة الشافعي في بيتي يادي الهنا والسرور، اقتربت توزِّعُ نظراتها حولها ثمَّ نطقت متسائلة:

-فين ميرال ياراجح؟..

تجرَّعَ الكأسَ مرَّةً واحدة، ثمَّ أطلقَ من فمهِ صوتًا مشمئزًّا مقتربًا منها ليهمسَ بهسيسٍ مرعب: 

-مستعجلة ليه يافري، بنتك جوَّا، بس لازم أرحَّب بيكي الأوَّل..قالها مقتربًا ليقبِّلها إلَّا أنَّها لطمتهُ على وجههِ بقوَّة، ليتراجعَ ينظرُ إليها بذهول: 

-بتمدِّي إيدك عليَّا يافريدة، طب يافريدة الصبر حلو، والقلم دا هدفَّعك تمنه كتير أوي، اصبري عليا، الأيام بينا، وإنتِ مجرَّبة راجح كان بيعمل إيه..

بصقت بوجههِ وندَّدت بحقارتهِ قائلةً بلهيبٍ انبثقَ من عينيها:

-كان كلب حيوان، شوفت الكلاب بتعمل إيه في الميتين، إنتَ كنت كدا ياراجح، كلب حقير بتسضعفني، دنت ولم تكترث لاقترابهِ ونظرت بلهيبِ عينيها المشتعلِ ونطقت بنبرةٍ قويَّة:

-بس الكلب بيجي له وقت وبيموت ذليل في أيِّ قذارة، ووعد من فريدة السيوفي ياراجح لتترمي زي الكلب في قذارة،

لكزتهُ بصدرهِ وتحوَّلت لشرسةٍ غير معهودةٍ لم تعلم كيف اكتسبت تلك القوَّة، لتردفَ بقوة:

-أوعى تفكَّر مجيِّي هنا ضعف وخوف، لا ياراجح، أنا جاية علشان أعرَّفك إن فريدة السيوفي عندها قوَّة تقدر تدوس عليك، ومتأكدة من رجالتي هيهرسوك ياقذر، اقعد واتفرج ياراجح وشوف مصطفى لمَّا يعرف إنَّك جبتني هنا هيعمل إيه، رفعت نفسها ودنت وكأنَّها تهمسُ له:

-إلياس هيحرقك ياراجح، الولد عرف كلِّ قذارتك، تخيَّل لمَّا يعرف إنَّك خاطف مراته وأمُّه هيعمل إيه.. 

قهقهَ بصوتٍ مرتفعٍ وكأنَّها ألقت عليهِ بعض الكلماتِ المزاحية،ليضربَ كفَّيهِ ببعضهما ثمَّ بسطَ ذراعيه: 

-أنا أهووو، تعالَ يابنِ جمال علشان أموِّتك، ماهي رانيا غبية معرفتشِ تستخدم عقلها كويس، لو بس كانت قالت لي كنت رميته في البحرِ للسمك، 

انحنى مقتربًا من وجهها وعينيهِ الخبيثة تتجوَّلُ على وجهِ فريدة: 

-مش عايز أيِّ ذكرى لراجل تاني يافريدة، ذكرياتك تكون لراجح وبس، ووعد، ابنك هبعته لأبوه، أمَّا مصطفى اللي بتنفخي نفسك عليَّا بيه، رصاصة على ابنه بس وشوفي هيعمل إيه، هيطلَّقك بالتلاتة، وخصوصًا لمَّا يشوف فيديو حلو وإنتِ بترضي راجح يافريدة..فركَ يديهِ يشيرُ إليها بالدخول: 

-ودلوقتي أهلًا بيكي في جنتنا الصغيرة يافريدة.،

نظرت لبابِ المنزلِ وارتعدت مفاصلها، كادت أن تصرخَ ولكنَّ صوتها لم يخرج وكأنَّها بقبر، غيَّمت عيناها بدموعِ الحسرة، لتدلفَ بساقينِ مرتعشتينِ تنظرُ بأرجاءِ المنزل، أشارَ على غرفةِ ميرال: 

-سلِّمي على بنتك قبل ماأرجَّعها لجوزها، شوفتي أنا راجل معاكي إزاي.

دفعت البابَ سريعًا، لتجدَ ميرال غافيةً على الفراش، وكأنَّها غائبةً عن الوعي، انفجرت عيناها بالدموعِ وهي تلمسُ وجنتيها: 

-ميرو عملوا فيكي إيه ياعمري، ظلت تربتُ على وجهها علَّها تستفيقُ من تلك الغيبوبةِ ولكنَّ كأنَّ حياتها سُرقت ولم تشعر بشيئ، مرَّت دقائقُ كالسيفِ عليها وهي عاجزةٌ عن التفكير، قطعَ تفكيرها فتحُ راجح البابَ ثمَّ سكبَ كوبًا من الماءِ المثلجِ على وجهِ ميرال، لتدفعهُ فريدة غاضبةً وبدأت تلكمهُ بصدرهِ وتصرخُ بجنون..دقائقَ معدودةً بدأت تتململُ بنومها، تفتحُ عينيها رويدًا رويدًا وضوءُ الغرفةِ يضربها بقوَّةٍ لتغلقَ عينيها وتضعُ أناملها عليها من انزعاجها من إضاءةِ الغرفة، عادت مرَّةً أخرى تفتحها ببطئٍ لتقعَ عينيها على فريدة التي بحوزةِ راجح، فتحت عينيها وأغلقتها عدَّةَ مرَّاتٍ لتتأكَّدَ أنَّها ليست بكابوس، لتهبَّ فزعةً تنظرُ إليهما بذهولٍ أصابَ عقلها بالجنون، وهو يجذبُ فريدة من عنقها: 

-مفاجأة يابنتي مش كدا، جبت لك ماما أهو إيه رأيك، شوفتي أنا بحبِّك قد إيه..


هزَّت راسها رافضةً مايصيرُ رغم قلقها البائنَ على وجهها من هجومهِ المتوحش، شعورٌ بالعجزِ لديها وهو يشيرُ إليها: 

-ايه رأيك تختاري أيِّهما أفضل لك، ماما الحلوة ولَّا جوزك المتقنعر اللي عامل ديك البرابر؟..

احتجزت الدموعَ بعينيها وارتجفت شفتيها قائلة: 

-إنتَ مستحيل تكون بني آدم أنا بكرهك وياريتك تموت..وصلَ إليها بخطوةٍ وهو يجذبها من حجابها بقوَّة، لتسرعَ فريدة تلتقطُ تلك الفازة وتضربهُ على رأسه، ليترنَّحَ بجسدهِ مستديرًا إليها: 

-عايزة تموِّتيني يافريدة علشان بنتِ الحرام دي..ركضت ميرال اتِّجاهَ فريدة تحتضنها بفزع: 

-ماما فريدة خديني من هنا، مش عايزة الراجل دا.،

أشارت إلى الباب: 

-ياله حبيبتي لازم نمشي من هنا، نهضَ من مكانهِ وهو يترنَّحُ بجسدهِ يصرخُ بهما:

-دا موتك يافريدة، لو مشيتي من هنا هتمشي على قبرك، صرخَ على أحدِ رجالهِ الذي هرولَ إليه، فأشارَ إلى ميرال: 

-البتِّ دي ودِّيها المكان التاني وإياك رانيا تعرف إنتَ أخدتها فين، استدارَ إلى فريدة يجذبها بقوَّة: 

-أما إنتِ يافريدة، هنلعب مع بعض..مش إنتِ بتحبِّي الضرب واللعب، وأنا بحبُّه وخصوصًا من ستِّ ناعمة زيك.. 


دفعت ميرال الرجلَ بقدمها، وهرولت إلى فريدة وبدأت تصلُ  إلى وجههِ بأظافرها تسبُّهُ..تريدُ أن تخنقهُ فكلَّما تذكَّرت أنَّ ذاكَ والدها يصيبها الجنون.. 

دفعها بقدمهِ بقوَّةٍ حتى سقطت على الأرضِ متأوِّهةً وهي تحاوطُ أحشاءها لتصرخَ فريدة عليها: 

-ميرال..نظرَ راجح إلى يديها التي تحتضنُ جنينها ليرتفعَ صوتَ ضحكاته: 

-الله الله كمان حامل، دا إنتَ أمَّك داعية عليك بالقوي يابنِ جمال، اقتربَ منها يدفعها بقدمهِ لتصرخَ فريدة به: 

-خلاص ياراجح أنا موافقة آجي معاك بس ابعد عن البنت وأوعدني إنَّك ترجَّعها لجوزها، ووعد هروح معاك.. 

توقَّفَ يرفعُ رأسهِ إليها ثمَّ اعتدلَ يحكُّ ذقنه: 

-موافقة على أيِّ حاجة..هزَّت رأسها سريعًا وهي تنظرُ بدموعٍ إلى ميرال التي تهزُّ رأسها بعنفٍ رافضةً ماتقوله واستطردت: 

-ابعت البنت لبيت جوزها ياراجح، وأنا من إيدك دي لإيدك دي.

أشارَ للرجلِ قائلًا:

-رجَّعها يابني..التفتَ إلى فريدة: 

-علشان تعرفي أنا كريم وبحبِّك قد إيه.،

توقَّفت ميرال واقتربت منها: 

-وأنا مش موافقة، مستحيل أسيبك هنا لو على جثتي.، 

ضمتها باكية وهي تترجاها

-ارجعي حبيبتي لإلياس بدل مايتجنِّن، إنتِِ أهمِّ منِّي، ياله متنسيش ابنك، أنا هتصرَّف.. 

اتَّجهت بأنظارٍ جحيميةٍ إلى راجح؟ وطالعتهُ بنظراتٍ قاسيةٍ تريدُ أن تضعهُ بين فكَّيها صارخة:

-إنتَ أقذر انسان شوفته، وإلياس عنده حق أنُّه يموِّتك حي..أشارَ بيدهِ للرجل: 

-خدها بدل ماأفضِّي طبنجتك في راسها..ركضت من أمامهِ متَّجهةً إلى فريدة الذي جذبها راجح إلى الغرفة، بعدما أشارَ للرجلِ بعينيهِ ليدركَ مايفعله..دفعَ فريدة للداخلِ وأغلقَ البابَ عليها متَّجهًا إلى ميرال يسحبها بقوَّةٍ إلى سيارته: 

-تعالي معايا يابنتِ فريدة علشان أنا خلقي ضيَّق، استقلَّ سيارتهِ ليستمعَ إلى رنينِ هاتفه:

-الحق ياباشا، إلياس السيوفي اقتحم البيت من البابِ الداخلي..توقَّفَ كالمشلول، كيف علمَ بمكانهم، التفتَ بنظرهِ سريعًا إلى ميرال التي فقدت وعيها بعدما دفعها بقوَّةٍ لترتطمَ رأسها ببابِ السيارة، شغَّلَ المحرِّكَ وخرجَ سريعًا بها من البابِ الآخر.. 


دلفَ إلياس بمصاحبةِ أرسلان وشريف، 

تجوَّلَ بالمنزلِ يبحثُ كالمجنون، إلى أن وصلَ الغرفةَ التي كانت يحتجزُ بها ميرال، استنشقَ رائحتها ليقفَ عاجزًا حائرًا..وقلبهِ يوحي له أنَّها بالقرب، استمعَ إلى صوتِ أرسلان: 

-إلياس مدام فريدة هنا، خرجَ سريعًا وجدَ فريدة بأحضانِ أرسلان تبكي بشهقاتٍ متقطِّعةٍ، وحالُ لسانها يردِّدُ باسمِ ميرال ثمَّ سقطت بين ذراعيهِ فاقدةَ الوعي.. 


بعد فترةٍ بالمشفى فتحت عينيها وجدت مصطفى بجوارها يحتضنُ كفَّها:

-عاملة إيه دلوقتي..اعتدلت تتحرَّكُ بجسدها للخلفِ تنطقُ اسمَ ميرال، ثمَّ تجوَّلت بعينيها متسائلة: 

-فين إلياس؟..

ظلَّت نظراتهِ تحاوطها بصمتٍ إلى أن توقَّفَ قائلًا:

-راح يدوَّر على ميرال، لو عرَّفتينا مكنشِ دا حصل، إلياس بيقول ميرال كانت موجودة هناك، بس فين دلوقتي منعرفش..

نزلت بساقيها من فوقِ الفراش: 

-هيموَّتها يامصطفى، دا مجنون ومفكَّر البنت مش بنته، التفتَ إليها سريعًا، ينظرُ إليها بذهول، هنا تذكَّرَ ما فعلهُ منذ ذهابها إلى راجح ومعرفتهِ بحقيقةِ ميرال، ممَّا جعلهُ يراقب راجح لفترةٍ إلى أن تقابلت رانيا بها، ظلَّ يراقبهما حتى علمَ أنَّهما يقومان بتحليلِ DNA،

وتدخَّلَ بتغييرِ النتيجةِ حتى يصلَ إليهم أنَّها ليست ابنتهم ولم يتوقَّع أن يصلَ تفكير راجح لذاكَ الأمر.. 


هنا استوطنَ القلقُ ملامحه، مما جعلهُ يهزُّ رأسهِ بتأنيبٍ على مافعله، هو أرادَ أن يبعدها عن طريقهم ولم يكن يعلم وصولهم لتلك المعضلة..زفرَ باختناقٍ وهو يدورُ بالغرفةِ بتفكُّرٍ تجلَّى على جميعِ خلاياه، كيف يخرجُ من ذاك المأزقَ دون إصابةِ ميرال بشيئ. 


قاطعهم دلوفُ إلياس، خطى للداخلِ يطالعُ فريدة بصمت، إلى أن توقَّفَ أمامها، ظلَّت النظراتُ المتألِّمةُ بينهما إلى أن تساءل:

-ميرال كانت هناك؟..

هزَّت رأسها بالإيجاب، وانسابت دموعها تردِّدُ بنحيب:

-كان بيقول هيرَّجعها، معرفشِ ودَّاها فين، هوَّ كان عايز..صمتت ولم تكمل حديثها حينما اقتربَ مصطفى ينتظرُ بقيةِ حديثها، انحنى إلياس بعيونٍ متلهفة:

-احكي لي عمل إيه، وليه روحتي هناك من غير ماتعرَّفيني؟..دا وعدك ليَّا، أعمل إيه دلوقتي، طيب أنا كنت هوصلِّك حتى لو كنتي تحت الأرض، أما هيَّ ماتوقعتش أنُّه يضربني فيها، دي بنته ماتخيلتِش أنُّه يعمل كدا، رغم كذبي على نفسي، كنت مخلِّي الحرس يلازمها، وأهو خطفها من وسطهم، أنا هتجنِّن عايز منها إيه..

بكت بشهقاتٍ مرتفعةٍ وتابعت: 

-عايزني أنا، قالِّي تعالي وأنا هرجَّعها بس معرفشِ مرجَّعهاش ليه.. 

-لأنُّه بيضحك عليكي يامدام، قالها مصطفى وهو يرمقها بنظراتٍ نارية، دنا منها يهزُّ رأسهِ بغضب: 

-كان عقلك فين وإنتِ رايحة لحيوان زي دا يافريدة!..قوليلي أعمل فيكي إيه دلوقتي؟..

قالها بأعصابٍ مشدودةٍ وغيرتهِ العمياء سيطرت عليهِ، ليقتربَ منها متناسيًا مامرَّت به:

-يعني إيه عايزك دي يامدام، نسيتي نفسك إنِّك متجوِّزة، إيه يافريدة معندكيش راجل يعرف يوقف لحيوان زي دا، للدرجة دي معتبراني ماليش لازمة؟!.. 

رفعت عينيها الباكيةِ الممزوجةِ بدموعِ الألمِ وهتفت بنبرةٍ تتجرَّعُ الوجعَ أضعافَ مايشعرُ به:

-بنتي كانت بين إيديه يامصطفى وهدِّدني هيفتح بطنها ويبعت حفيدي، كنت منتظر منِّي إيه..

آاااااه..أخرجها إلياس وهو يلكمُ الجدار، حينما تملَّكَ منه شعورُ العجزِ والقهرِ ممَّا يمرُّ به..رفعَ كفَّيهِ على خصلاتهِ يرجعها بعنفٍ وكأنَّهُ يريدُ أن يقتلعها: 

-أقسم بالله مش هرحمك ياراجح، استدارَ إلى فريدة واقتربَ منها: 

-افتكري أيِّ حاجة كلِّم حد قال أيِّ حاجة ، حاولي تساعديني علشان أوصل لمراتي ياماما لو سمحتي.. 


طالعتهُ بدموعٍ تجري على وجنتيها كالأنهارِ تهزُّ رأسها بالنفي..

لم يقوَ على الصمود، ليشعرَ بوحوشٍ ضاريةٍ كمن تلبَّسهُ شيطانًا ليوسوسَ لهُ بارتكابِ أبشعِ الجرائم، ليتحرَّكَ مغادرًا المكانَ وهو يهدِّدُ بما سيفعلهُ به:


-شريف شوفلي طارق فين، هاتوه من تحتِ الأرض، وعايزك تجبلي الستِّ اللي اسمها سمية دي..

-تمام خلال ساعة هكلِّمك، بس مفيش جديد ولَّا إيه..تذكَّرَ المنزلَ فأردف: 

-هروح البيت تاني يمكن أوصل لخيط يوصَّلني لحاجة..


استفاقت من شرودها على صوتِ غادة:

-ماما فريدة قومي ندخل جوا مينفعشِ تفضلي كدا، نهضت تسحبُ كفَّيها تساعدها على الوقوف، بينما فريدة عيناها كانت شاردةً تجاهَ البوابةِ التي خرجَ منها إلياس...

مرَّت الساعاتُ كالسيفِ على العنق وهو يدورُ كالمجنون بكلِّ الأماكنِ المرتبطةِ براجح إلى أن توصَّلَ إلى طارق. 


قبلَ عدَّةِ ساعاتٍ جالسًا بمكتبهِ يتواصلُ مع فريقهِ البحثي، تحدَّثَ شريف: 

-وصلنا لطارق ياإلياس، إيه أجيبه الجهاز ولَّا..قاطعهُ وهو يحملُ سترتهِ قائلًا:

-أيوة هاته على الجهاز، وعايز خبر القبضِ عليه في كلِّ المواقع.. 

-تمام نصِّ ساعة والكلِّ يعرف..تحرَّكَ سريعًا للأسفلِ مع وقوفِ مصطفى مع أحدِ الرجال: 

-عايز مين يابني؟..

نظرَ الرجلُ بالورقةِ قائلًا: 

-إلياس السيوفي مراته رافعة دعوة طلاق، اتفضل امضي هنا..


بمنزلِ يزن قبل أيام: 

ألقى كلماتهِ القاسيةِ عليها ثمَّ دلفَ إلى غرفته، ظلَّ يدورُ حول نفسهِ ونيرانًا مشتعلةً بداخلهِ على ما فعلتهُ تلك الشمطاء، كيف نسي أمرها، جلس بعدما شعرَ بانفلاتِ أعصابهِ عن حدَّها المسموح، وبدأ يمسحُ على وجههِ بغضب، رفع عينيهِ بدخولِ إيمان تطالعهُ بتخبُّطٍ على حالتهِ التي لأوَّلِ مرةٍ تراهُ بها، ظلُّت النظراتُ العتابيةِ بينهما، ممَّا جعلهُ يتوقَّفُ يجمعُ أشيائهِ ونطقَ بكلماتٍ حادةٍ على غيرِ عادته:

-مش عايز مواعظ من عيِّلة، روحي شوفي مذاكرتك، قالها وتحرَّكَ للخارجِ سريعًا، وقعت عيناهُ على تلك المنكمشةِ على الأريكةِ تنظرُ بشرودٍ بنقطةٍ وهمية، جسدًا خاويًا من الروح، تحرَّكَ سريعًا من أمامها بعدما رفعت عينيها المتلألئةِ بالدموعِ تنظرُ إليه بخيبةِ أمل، وصلَ إلى بابِ شقته، فهبَّت من مكانها: 

-استنى عندك..توقَّفَ يواليها ظهره، اقتربت منهُ وهي تسألهُ باستنكارٍ وعيونٍ مليئةٍ بالدموع:

-إنت عملت فيا كدا؟!..لم يجيبها وظل كما هو

-طلَّقني…

كوَّرَ قبضتهِ بعنفٍ مع اهتزازِ فكه، عندما ألقت كلماتها عليه، يريد أن يهدأ اولًا، فلا يستطيعُ الانجرافَ وراء طلبها بهذا الوقت، استدارَ برأسهِ قائلًا:

-عندي مشوار لمَّا أرجع نتكلِّم.


ثارت كرامتها تحرقُ داخلها لتهتفَ مستنكرةً إجابته:

-مفيش خروج إلا لما تطلقني، مش محتاجة وقوفك معايا، وزي ماقولت أنا مش مراتك، يبقى ماليش حق أقعد هنا، خليك راجل للآخر وطلَّقني وكدا كدا كلِّ حاجة ضاعت.. 

فتحَ البابَ وخرجَ يغلقهُ بقوةٍ خلفهِ وحديثها لم يعيرهُ أهمية..

احترقَ داخلها من فعلتهِ لتفتحَ البابَ وتركضَ خلفهِ تردِّدُ بصوتٍ عالٍ إلى حدٍّ ما:

-مش هنتظر لرجوعك ياباش مهندس، استقلَّ دراجتهِ البخاريةِ وارتدى خوذتهِ يشيرُ بعينيهِ إلى دخولها:

-ادخلي وهنتحاسب لمَّا أرجع على صوتك العالي وخروجك بالشكلِ دا، إنتِ قاعدة هنا في حارة مش فيلا بابي ومامي..


قالها وقادَ دراجتهِ وتحرَّكَ سريعًا من أمامها حتى لا يُخرجَ غضبهِ بها، ظلَّت لدقائقَ متوقِّفةً بجسدٍ متصلِّب، مذهولةً لا تصدِّقُ ما فعلهُ وقاله، خرجت إيمان تنظرُ إليها بحزن: 

-رحيل ادخلي حبيبتي مينفعشِ وقوفك في الشارع كدا، التفتت إليها تردِّدُ بعجز:

-شوفتي أخوكي عمل إيه، هوَّ كان كدا وأنا كنت عمية؟!. 

هزَّت رأسها بالنفي وتحرَّكت إلى وقوفها تجذبها للداخل: 

-لا حبيبتي هوَّ مش كدا أبدًا، دا يزن كلُّه رجولة وأصول واللهِ بس الزمن اللي قلبه، تعالي معايا بس..


تحرَّكت سريعًا للداخلِ تجمعُ أشياءها وتلملمُ كرامتها التي بعثرها بكلِّ جبروت، انتهت من جمعِ ملابسها وكلَّ مايربطها بهذا المنزلِ ثمَّ سحبت حقيبتها: 

-أنا ماشية وخلي أخوكي يبعت لي ورقة طلاقي، ومش معنى أنا وافقت على الجواز منه يبقى ضعيفة، أبدًا أنا يمكن أقوى منه، أنا وافقت علشان حسيت برجولته بس بعدِ اللي حصل الليلة أثبت لي أنه إنسان انتهازي، انتهز حاجتي لمسائل شخصية. 


اتَّجهت إيمان إليها تنظرُ إلى حقيبتها بعدمِ رضا، مستنكرةً ماتفعله، حاولت سحبَ الحقيبةِ إلا أنَّها تراجعت تجذبها وتحرَّكُت مغادرةً المكانَ بالكامل.. 


بعد عدَّةِ ساعاتٍ عادَ إلى منزلهِ وعلمَ بما فعلته، اهتزَّ داخلهِ من فعلتها، نظرَ إلى ساعتهِ وجدها تخطَّت الثانيةَ عشر رفعَ هاتفهِ وحاولَ مهاتفتها ولكنَّ هاتفها مغلق ..استمعَ إلى رنينِ هاتفهِ أجاب سريعًا ظنًّا أنَّها هي..

-مدام فريدة مرات مصطفى السيوفي دا لواء شرطة، عندها ثلاثة أولاد يايزن، منهم ظابط أمنِ دولة واتنين في الجامعة، لو عايز العنوان أبعتهولك..

-ابعته ياكريم،  متعرفشِ الولاد دول ولادها ولا ولاد جوزها؟.. 

-مش فاهم تقصد إيه؟!

كنيتهم إيه ياكريم؟..

-إلياس السيوفي يعني ابنِ مصطفى السيوفي والتوأم نفس الكنية..

دسَّ أناملهِ بخصلاتهِ يرجعها للخلفِ بعنف وأردف: 

-يعني ولادها لسة ماوصلتشِ ليهم، طيب ياكريم هتعبك معايا، فيها حاجة تعرف تسأل الظابط دا عن واحدة اسمها سمية العلايلي الستِّ دي كانت ممرضة وشغالة في السويس، بس نقلت القاهرة من عشرين سنة، وكان عندها بنت وولد، ياريت تعرف توصلَّها ضروري.. 


استمعَ كريم إليهِ باهتمام: 

-تقصد إيه وليه الستِّ دي تقرب لك؟!. 

سحبَ نفسًا وزفرهُ على مهل:

-الستِّ دي كان راجح متجوزها، عايز أعرف ماتت ولَّا لسة عايشة، وبنتها وابنها فين، ولو طارق وهيثم ولاد رانيا فين بنتها اللي ماما قالت عليها، دماغي مبقتشِ قادر أفكَّر، الراجل دا بلاويه كتيرة، لازم أجمع اخواتي ياكريم وقبل دا كلُّه لازم أقابل طنط فريدة.. 

-صوتك ماله يايزن؟!

-مفيش، يمكن مرهق وعايز أنام، ياله نتكلِّم بعدين..قالها وأغلقَ الهاتف، واتَّجهَ إلى أحدِ الحرسِ بالمشفى: 

-أيوة يابني مدام راحيل في المستشفى؟،، 

أجابهُ الرجلَ بهدوء:

-أيوة يابشهمندس، جت من ساعة ولسة جوا..هزَّ رأسهِ يفركُ جبينهِ وأردف: 

-لو خرجت عرَّفني، وخلِّي حد معاها.. 

-تمام ..زفرةٌ حادةٌ خرجت من جوفهِ يعاتبُ نفسهِ على ما فعلهُ بها..


مرَّ عدَّةِ أيامٍ والحالُ كما هو، عادت رحيل إلى الفيلا الخاصة بها، رغم محاولتهِ معها بعودتها منزلهِ إلا أنَّها رفضت قائلة:

-أنا مش مراتك علشان أقعد في مكان إنتَ فيه. 

دنا منها يجزُّ على أسنانهِ وتمتمَ بنبرةٍ حادة:

-رحيل بلاش تخرَّجي منِّي إنسان يئذيكي..

عقدت ذراعيها على صدرها وطالعتهُ بتهكُّم:

-متهمِّنيش ياباشمهندس، ليه أطلَّع منَّك إنسان وإنتَ جوَّاك الإنسان دا..

جذبها بقوَّةٍ ولفَّ ذراعهِ حولَ خصرها بتحكُّمٍ وتقابلت عيناهُ السوداءَ بعينيها الزيتونية، يضغطُ بقوَّةٍ على خصرها:

-الإنسان دا عرفته لمَّا قرَّبتِ منِّك، حاولت الفكاكَ من قبضتهِ الفولاذية وتمتمت غاضبة:

-يزن ابعد عيب كدا إنتَ اتجننت..ظلَّ يتجوَّلُ بنظراتهِ على وجهها الملائكي إلى أن احمرَّت وجنتيها من أنفاسه ِاللاهبة،  التي بدأت تضربُ عنقها، حينما دنا برأسه يهمسُ لها:

-إنتِ مراتي ياآنسة، قالها مبتسمًا بسخرية، ثمَّ رفعَ أناملهِ يمرِّرها على وجنتيها وغابَ بزيتونتها ليتخدَّرَ جسدها من لمستهِ؛ إلى أن نسي كلاهما ماحولهما ليدنو للحدِّ الغيرِ مسموح يضعُ شفتيهِ على ثغرها لتشعرَ بماسِ كهربائيٍ ورعشةٍ بجسدها، أغمضت عينيها بضعفٍ منها ليقطفَ أوَّلَ قبلةٍ له متذوِّقًا عسلها المذاب على ثغرها، ابتعدت كالملسوعة، حينما شعرت بشفتيهِ الساخنةِ على ثغرها، بلعت ريقها بصعوبة، ولكنَّ رجفةَ جسدها جعلت سيقانها هلاميتين فلم تقوَ على الوقوفِ مما جعلها تستندُ على المقعدِ بجوارها تهربُ من نظراتهِ الخارقةِ لها، لم يرحم ضعفها ليدنو منها حتى التصقَ بجسدها، رفعت عينيها المرتجفةِ إليه:

-يزن عايز توصل لإيه؟..

-نتمِّم جوازنا يارحيل، أنا مش هطلَّقك ودا قرار نهائي، ومالكيش رأي عندي، هنرجع من السفر بعد عملية باباكي، وهنعمل فرح ونتمِّم جوازنا زي أيِّ اتنين متجوزين، أنا مش هطلَّق، رفعَ أناملهِ يبعدُ خصلاتها عن عينيها واستطردَ حديثهِ وعينيهِ تخترق زيتونها: 

-بس ممكن أتجوِّز تاني عادي، لو اتعوجتي ومشكرتيش ربنا عليَّا، قاطعهم دخول زين: 

-رحيل ...التفتت إليهِ سريعًا ثمَّ ركضت إليه:

-خالو حبيبي..


بمنزلِ أرسلان:

بداخلِ مكتبه، كان جالسًا يعملُ على جهازهِ وهو يرتدي نظارتهِ الطبيةِ يتابعُ بهمةٍ ونشاطٍ آخر ماتوصَّل إليه، دلفت بقهوتهِ بعدما طرقت الباب، خطت بخطواتها الهادئةِ تضعُ قهوتهِ على مكتبه، ظلَّت تطالعهُ لبعضِ الوقتِ دون حديث..

-مطلبتش قهوة، عايز كوباية عصير لو مش هتعبك معايا، قالها ولم يرفع عينيهِ من فوقِ جهازه.. 

-حاضر..نطقت بها ثمَّ دنت من جلوسه: 

-أرسلان عايزة أرجع شغلي، وأتمنَّى ماترفضش..رفعَ عينيهِ إليها سريعًا، ثمَّ أشارَ إلى بابِ مكتبه:

-روحي اعمليلي عصير يامدام ومش عايز كلام كتير..

-أرسلان..خلعَ نظارتهِ ونهضَ قائلًا:

-على ماأعتقد اتكلِّمنا في الموضوع دا قبلِ كدا، شغل مفيش مش مرات أرسلان الجارحي اللي تشتغل، ليه ناقصك حاجة؟.. 


سحبت نفسًا بمحاولةٍ منها أن تهدأ ثمَّ اقتربت حتى حاوطتهُ بذراعيها:

-أرسلان لو سمحت أنا بزهق من القعدة، وإنتَ بتسافر أكتر مابتقعد في الشقة، والشغل مش احتياج بس..

حاوطَ أكتافها وتحرَّكَ بها إلى الأريكة، جلسَ وأجلسها بأحضانهِ محاوطها بحنانِ ذراعيهِ ثمَّ أردف: 

-عارف اليومين اللي فاتوا ضغط عليكي، بس دا من غلطك، قبل كدا فهَّمتك حياتنا تمشي إزاي، ومينفعشِ تخرجي من بابِ الشقة من غير علمي، أومال لو متعرفيش طبيعة شغلي، تخيَّلي لو حد عرف شغلي الرئيسي حياتك هتكون في خطر، فلازم أعمل حساب لخطواتنا، احتضنَ وجهها بين راحتيهِ وسبحَ بجمال سوداويتها مردِّدًا: 

-ممكن حبيبتي تسمع الكلام، ووعد هفكَّر في موضوعِ الشغل دا، بس مش شغلك القديم، ممكن نشوف شغل مريح وقريب من هنا إيه رأيك؟..

دفنت رأسها بعنقهِ تحاوطُ خصره:

-أنا بحبَّك أوي ياأرسلان، وآسفة إنِّي ضيقتك، بس حقيقي بقيت أتخنق من القعدة لوحدي. 

سحقها بين أحضانهِ مطبقَ الجفنين، مستمتعًا بحديثها الذي أروى قلبهِ المتصحِّر، ليتمتمَ بنبرةٍ مبحوحةٍ من كثرةِ مايشعرُ به في حضرتها:

-وأرسلان بيعشقك ياغرامي، أخرجها من أحضانهِ وتابعَ حديثه:

-غرام إنتِ مش مجرَّد واحدة عرفتها واتجوزتها، إنتِ هدية كبيرة ربنا أنعم بيا عليها، ربنا يكمِّلك بعقلك حبيبتي ويباركلي فيكي، قومي هاتيلي العصير حاسس الضغط عالي من قربك المضني اللي ببلاش دا ولازم أنزِّله.. 

لكمتهُ بصدرهِ بخفَّة، وتورَّدت وجنتيها من مغذى حديثه:

-بس بقى إيه الكلام دا..

غمزَ بعينيهِ يمرِّرُ أناملهِ على وجنتيها:

-مش دي الحقيقة؟..طيب قولي إنتِ إزاي أقعد زي الكرسي والجميلة معايا.. 

استنكرت حديثهِ قائلة:

-متقولشِ كدا، إيه زي الكرسي دي، إنتَ مش كدا دا إنتَ كلِّ جسمك شغَّال نفسي تدِّيني حاجة منهم.. 

قهقهَ عليها بصوتٍ مرتفعٍ يضمُّها بقوَّةٍ قائلًا:

-يالهوي البتِّ بتحسد جوزها..رفعت إحدى حاجبيها وأجابت ساخرة:

-وإنت َتتحسد ليه ياروحي؟.  

-لا والله يعني جوزك مش حلو وأمور والبنات هتموت عليه؟.. 

لكمتهُ بقوَّةٍ ونهضت من أحضانهِ وهدرت به بحدَّة:

-مين ضحك عليك وقال عليك أمور، إنتَ مغرور وبارد وو ..ضربت قدمها بالأرضِ كالأطفالِ وركضت من أمامه، قهقهَ عليها يضربُ كفَّيهِ ببعضهما: 

-واللهِ أمور والبنات هيموتوا عليَّا حتى اسألي الكاتبة..

قاطعهُ رنينَ هاتفه، رفعه: 

-أيوة ياعمُّو؟.. 

-ليه ماقولتش ياحيوان إنَّك مع إلياس بتدوَّر على مراته؟..

أجابهُ بنبرةٍ باردة:

-زي ماحضرتك ماقولتش إنِّ جدتي محجوزة في المستشفى، وليه مصطفى السيوفي استقال بعد زيارته.. 

بص ياإسحاق علاقتي بإلياس زي علاقتي بيك، أتمنَّى تعرف أنُّه مهم ليا جدًا، ليه معرفشِ ومتسألش، لأنِّي قرَّرت وانتهى الموضوع هتقولِّي أختار هزعل منَّك وإنتَ عارف زعلي وحش وممكن توصَّلني لطريق مسدود ومتعرفشِ توصلِّي، فخليك دايمًا معايا العاقل الرزين وبلاش فكرةِ الغباء اللي بتحاول توصَّلها لي، فيه سر وهعرفُه قريب، بس لو السرِّ دا متعلِّق بيا صدَّقني هزعل منَّك وهتكون آخر علاقتنا، أرسلان راجل ويتحمِّل أي حاجة ياعمُّو..

-هبعتلك عنوان مرات إلياس ياأرسلان، مش قدَّامك كتير، علشان عرفت فيه دكتور نسا دخل المكان، أظن إنتَ عارف قصدي إيه.. 

جذبَ مفاتيحهِ وغادرَ سريعًا قائلًا:

-بسرعة لو سمحت ياعمُّو، إلياس هيتجنِّن..جذبَ سترتهِ فوق ملابسهِ البيتيةِ وصاحَ باسمِ زوجته:

-غرام..عندي شغل مهم حبيبتي شوية وراجع..قالها وخرجَ سريعًا قبلَ ردَّها.


عندَ آدم:

خرجَ من قاعةِ المحاضراتِ متَّجهًا إلى مكتبه، أنهت محاضرتها واتَّجهت إليه، طرقت البابَ ودلفت قائلة:

-ممكن أدخل يادكتور..رفعَ عينيهِ إليها يشير لها بالدخول، اقتربت من مكتبهِ وجلست بمقابلته: 

-إزاي رجَّعتني وإنتَ مطلَّقني عند المأذون ياآدم؟..أكيد مرجَّعتنيش وخالو قال كدا علشان مرات أبويا مش كدا؟..

رجعَ بجسدهِ وطالعها بهدوء:

-أنا مطلَّقتكيش ياإيلين، رميت عليكي اليمين وبس.


ابتسمت ساخرةً ونطقت بتهكُّم:

-لعبتو عليَّا ياآدم إنتَ وخالي، هوَّ قالِّي قسيمة طلاقك عندي، وإنتَ تقولِّي طلَّقتك..اومال ليه دخلت للمأذون، وخرجت وقولت طلقتك

-السؤال دا لخالك مش ليَّا، ودلوقتي ممكن تسبيني أشوف شغلي، نظرَ بساعتهِ وأردف:

-عندك محاضرة دلوقتي ولا مش ناوية تحضيرها؟. 

تلألأت الدموعُ بعينيها: 

-طيب أنا عايزة أطلَّق ياآدم لو سمحت، حاسة جوازنا طوق بيخنقني..

نهضَ يجمعُ أشيائهِ بعدما فقدَ برودهِ الذي حاولَ استخدامهِ معها وأردفَ دون النظرَ إليها: 

-إحنا مطلَّقين ياإيلين، بس كورقة مينفعشِ وخاصةً بعد كلام باباكي ليَّا امبارح، ووجودك مع صاحبتك بناءً على موافقتي، رفعَ عينيهِ إليها وتابعَ حديثهِ المدمي لقلبها:

-مفيش بينا غير ورقة ودا وصية عمِّتي لبابا، وقت ماتخلَّصي كُليِّتك وتشتغلي هطلَّقك، غير كدا مالكيش حاجة عندي..

هبَّت مقتربةً منهُ كالمجنونة:

-أكيد اتجنِّنت أنا مستحيل أوافق على المهزلة دي.،

حملَ حقيبتهِ وأجابها:

-بس أنا موافق، انحنى بجسدهِ ينظرُ لرماديتها:

-إيلين متلعبيش بمشاعرنا، علشان مقلبشِ عليكي، وعيوني عليكي أيِّ غلط منِّك وحياة قلبي اللي اتحكِّمتي فيه وخلِّتيه لعبة في إيدك ماهرحمك، إنتِ مراتي سواء رضيتي  ولَّا لأ، ولو مش عاجبك الكلام اشربي من البحر. 


قالها وتحرَّكَ من أمامها وكأنَّهُ لم يقل شيئا، لتهتفَ بحدَّة:

-وأنا عندي أموت ولا أكون زوجة تانية.. 

توقَّفَ مبتسمًا حتى لمعت عيناهُ بعشقها، ليضعطَ على حقيبتهِ يمنعُ ابتسامتهِ واستدارَ برأسه إليها: 

-وأنا متجوِّزتش غيرك، ولا عيوني شافت غيرك يابنتِ عمتي، ولو قصدك على جوازي من حنين كان مصلحة وبس، بدليل سنتين ومتمِّمتش جوازنا، استدارَ بكاملِ جسدهِ وتعمَّقَ بعينيها المتلألئةِ بالدموعِ وأكمل:

-بس إنتِ مقدرتش أتحكِّم في مشاعري حتى أربع شهور، وربِّنا حب يقرَّب بينا بجنين، بس للأسف مالناش نصيب فيه، بس أكيد المرَّة الجاية هيكون نصيبنا أحسن ياحبيبي، أنا داخل المحاضرة وهقفل الباب مبحبِّش الطالب اللي يدخل بعدي، وخاصةً لو كانت حلوة وتاخد العقل زي مراتي العسل دي ...قالها غامزًا بطرفِ عينهِ وتحرَّكَ من أمامها، تطلَّعت إليهِ بذهولٍ تشيرُ على مكانِ تحرُّكه:

-إيه الراجل البارد دا، طيِّب واللهِ لألعب لك في الأزرق يابنِ خالي..اصبر عليَّا كنت بتعامل معاك باحترام، واللهِ ياآدم لأكرَّهك في نفسك..


بمنزل دينا 

دلف للداخل يبحث عنها، سأل الخادمة 

-فين المدام؟!..أشارت إلى الحديقة وأجابته

-لسة خارجة من شوية...تحرك إلى جلوسها وجدها تجلس على حافة المسبح، انحنى وطبع قبلة على رأسها

-وحشتيني!!

ابتعدت بنظرها عنه ولم تكترث لوجوده..جلس بجوارها ثم جذبها إلى أحضانه

-عارف مقصر معاكي، فاروق تعبان عنده جلطة، وارسلان ميعرفش كمان 

رفعت رأسها تسأله

-وليه مخبي على ابنه، ليه دايما قرارتك لنفسك يااسحاق 


سحب نفسًا وزفره ببطئ مغير الحديث

-عاملة ايه والبيبي عامل ايه 

تنهدت بعدما علمت بهروبه فأومأت برأسها

-كويسة والبيبي كويسة، عايزة اروح للدكتور نطمن عليه، خلاص داخلة على السابع لازم اعرف المفروض هتعامل ازاي الفترة الجاية 


خلل أنامله بأناملها ودنى يضع رأسه فوق كتفها 

-لو فاروق فاق هنعمل حفلة ونعلن جوازنا، مبقاش ينفع اخبي، ابني لازم يجي للنور يادينا 

ابتسمت حتى لمعت عيناها بالدموع 

-حقيقي يااسحاق ...ملس على خصلاتها واعادها بعيدا عن وجهها

-أنا خايف عليكوا يادينا مش مخبي علشان حاجة

-طيب ومدام احلام هتوافق 

نهض من مكانه يضع كفوفه بجيب بنطاله ينظر للبعيد 

-دي حياتي يادينا انا مكنتش خايف من مدام احلام 

قاطعه رنين هاتفه رفعه سريعا بعدما وجده حرسه الخاص

-أيوة يابني 

-ألحق ياباشا، فاروق باشا صحي وركب العربية وهو بيقول ارسلان ومقدرناش نوقفه

ركض سريعًا إلى سيارته يصرخ به

-ازاي ياحيوان تخليه يطلع لوحده، دا مريض، اوعى تقولي ركب العربية وساقها لوحده

-رفض ياباشا حد مننا 

ااااه صرخ بها وهو يستقل السيارة بسرعة جنونية، توقفت تنظر إلى خروجه

-استر يارب، ياترى مخبي ايه يااسحاق قالب حالك كدا 


عند فاروق ظل يقود السيارة بجسد واهن وكلمات مصطفى تتردد بذهنه، رفع هاتفه وحاول مهاتفة ارسلان ولكن  لم يجيب، تلاشت الرؤية أمامه رويدا رويدا حتى فقد الرؤية ولم يستمع سوى بارتطدام السيارة 


عندَ إلياس وصلَ إلى المكانِ الذي يحتجزُ به طارق: 

-كلِّم أبوك وخلِّيه يجي يطلَّعك ياله..

-ويطلَّعني ليه، هوَّ أنا عملت حاجة، عايز أعرف أنا هنا ليه؟.. 

لطمةٌ قويةٌ حتى شعرَ بأنَّ رأسهِ التفتَ للجانبِ الآخرِ من قوَّتها، وكأنَّهُ تحوَّلَ إلى شيطان، ليمسكهُ من تلابيبهِ يضربُ رأسهِ بالحائطِ وصورةِ زوجتهِ تمرُّ أمامَ عينيه، ظل يضربهُ حتى تلاشى جسدهِ وهوى على الارضية، انحنى يجذبهُ يجرُّهُ إلى أن تدخَّلَ شريف محاولًا السيطرةَ على غضبِ إلياس: 

-إلياس اتحكِّم في نفسك شوية، الولد ممكن يموت، دفعَ شريف بعيدًا عنهُ وأطبقَ على عنقه: 

-فين أبوك ياله، حاولَ الحديث، إلَّا أنَّهُ خطفَ هاتفهِ ودفعهُ بقوَّةٍ وبدأ يقلِّبُ فيه إلى أن وصلَ إلى رقمٍ يدوَّنُ بالهاتفِ بحروف، أمسكَ الهاتفَ واتَّصلَ على تلك الحروف، أجابَ راجح سريعًا:

-طارق إيه اللي بيحصل عندك، قضية إيه اللي اتمسكت فيها؟..أشارَ لشريف لمراقبةِ المكالمة حتى يتوصًَّلوا إلى مكانه، وضعَ الهاتفَ على أذنِ طارق وأشارَ بيدهِ أن يتحدَّث:

-بابا مسكوني في الشقة، ومعرفشِ جابوني هنا ليه، تعالَ طلَّعني..

-مين اللي مسكك ابنِ السيوفي؟..نظرَ إلى إلياس وهزَّ رأسهِ بالنفي مجيبًا: 

-لا دا ظابط تاني..

يعني إيه ياله..أغلقَ إلياس الهاتفَ بعدما أشارَ إليهِ شريف بمعرفةِ المكان، دفعهُ إلياس بقدمهِ قائلًا:

-برافوو عليك ياطاروقة، أمَّا أبوك دا حسابه تقل معايا..قالها وجذبَ سلاحهِ متحرِّكًا سريعًا مع رنينِ هاتفهِ برقمِ أرسلان:

-إلياس عرفت مكان راجح، أنا في الطريق هبعتلك اللوكيشن..

-وأنا كمان نتقابل هناك، قالها وأغلقَ الهاتفَ وقادَ سيارتهِ بسرعتهِ الجنونية، بتحرُّكِ شريف خلفهِ يسبُّه: 

-واللهِ نهاية وظيفتي على إيدك ياابنِ السيوفي، وصلَ بعد قليلٍ إلى المكانِ الذي يحتجزُ به ميرال، دفعَ البابَ مع تبادلِ الأعيرةِ الناريةِ بكافةِ الأرجاء.. 

تمكَّنَ إلياس بمعاونةِ أرسلان وشريف من اقتحامِ المنزلِ يبحثُ بلهفةٍ والفزعُ يجعلُ قلبهِ يتقاذفُ بأنينٍ مكتوم، يتلفَّتُ يبحثُ عنها بنبضِ قلبهِ الذي يهمسُ بحروفها، دفعَ البابَ بقدمه، ليُفتحَ على مصراعيه..هزةٌ عنيفةٌ كزلازلٍ قويٍّ وهو يراها متمدِّدةً بوجهٍ شاحبٍ على الفراشِ كالتي فارقت الروحُ الجسد، واشتعلَت داخلهِ وصلةُ جنونٍ وهو يقتربُ منها يرفعُ جسدها بين ذراعيهِ بعيونٍ ترقرقت سحبها، لتنسابَ دمعةٌ غائرةٌ حارقةٌ على وجنتيه، ضمَّها وخرجَ بها سريعًا متَّجهًا إلى سيارته، وصلَ إلى السيارةِ مع ركوبِ أرسلان وتحرُّكهما سريعًا متَّجهينَ للمشفى، ساعاتٍ عصيبةٍ وكأنَّ دقائقها خنجرٌ يشحذُ صدره، وهو يتوقَّفُ أمام النافذةِ ينظرُ إلى سكونِ جسدها، أين تلك التي كانت تتحرَّكُ كالطفلةِ برشاقة، هل هذه زوجتهِ التي أشعلت لهيبَ قلبهِ بعشقها..


استمعَ إلى صوتِ والدهِ خلفه:

-حبيبي أقعد شوية، والحمدُللهِ إنَّك لحقتها في الوقتِ المناسب، استندَ بظهرهِ على الجدارِ ينظرُ لمصطفى بصمت،  لم يقوَ على النطق، فلقد انطفأت عيناهُ 


أغمضَ عينيهِ متراجعًا برأسهِ يستندُ على الجدار، كلما تخيلَ ماصارَ لزوجتهِ 

يشعرُ بنزيفِ روحه، وداخلهِ نيرانٌ ملتهبةٌ تحرقهُ بقسوة، ولا تبرِّدها سوى القبضَ على عنقِ راجح ولا يتركهُ إلا وهو يلفظُ أنفاسهِ الأخيرة.

ربتَ مصطفى على كتفه: 

-إن شاء الله هتكون كويسة حبيبي، والجنين هيكون كويس.

فتحَ عينيهِ يطالعهُ بتيه: 

-هوَّ فيه حد طبيعي يابابا يعمل كدا؟. استدارَ مصطفى يواليهِ ظهرهِ قائلًا:

-أنا آسف كنت مفكَّر لما أغيَّر التحليل هيبعد عنها، مكنشِ في بالي أبدًا أنه يعمل فيها كدا..

التفتَ إليهِ واستطردَ قائلًا:

-وهوَّ فين الحيوان دا، التفتَ إلى النافذةِ ينظرُ إلى زوجتهِ وأجابه:

-معرفشِ ومش عايز أعرف دلوقتي، دا أحسن له، حقير لعبها بمهارة، بس ورحمة أبويا ماحدِّ هيرحمه من نارِ قلبي..خد ماما وارجع على البيت، شكلها تعبان ومايطمنش..

بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ فتحت عينيها تهمسُ بخفوتٍ اسمَ زوجها، نهضَ من مكانهِ مقتربًا منها:

-حمدالله على السلامة، اتَّجهت بعينيها إلى الصوت، ارتعشَ جسدها وانسابت دموعها بأنين: 

-إلياس..تجوَّلت بأنظارها على الغرفة، وابتسامةٍ من بين دموعها:

-أنا فين!! دسَّ كفوفهِ بجيبِ بنطالهِ مردفًا:

-إنتِ في أمان، وضعت كفَّيها على بطنها تتساءلُ بلهفة:

-ابني فين؟! نزِّله، تراجعَ إلى النافذةِ ينظرُ للخارج: 

-ابنك كويس وإنتِ كويسة، احمدي ربنا.. 

أغمضت عينيها تحمدُ ربها: 

-الحمدُ لله، الحمدُ لله يارب، اتَّجهت بنظرها إلى وقوفه: 

-إنتَ أنقذتني قبل مايجهض البيبي، دلفت الممرضةُ ووصلت إليها: 

-حمدَ الله على سلامتك يامدام..أومأت وحاولت الاعتدال ولكنها شعرت بألمٍ ببطنها، حرَّكت كفَّيها تنظرُ إلى إلياس بذهول:

-إيه دا!..أشارَ للممرضة: 

-لو كويسة جهِّزيها علشان هنخرج..

-هبعت الدكتور تشيِّك عليها وتشوف إن كان ينفع تخرج ولا لأ؟..قالها إلياس وتحرك سريعًا من أمامها


باليومِ التالي بفيلَّا الشافعي: 

نهضت بكسلٍ من نومها تنظرُ إلى نومها الثقيل، احتضنت رأسها عندما شعرت بالألمِ محاولةً التذكُّر، هبَّت سريعًا تحاول تذكر ماصار، ولكن ألم رأسها جعلها غير متوازنة 

فلاش قبل وصول إلياس بساعة إلى ميرال

وصلت إلى المنزلِ الذي يحتجزُ به ميرال، دلفت للداخل: 

-إيه ياراجح، خلَّصت لازم نمشي قبل ماابنِ السيوفي يوصلِّنا..


رفعَ ساقيهِ على المكتب، ونفثَ تبغهِ قائلًا:

-لا خلاص مش هنسافر، ومتخافيش من ابنِ السيوفي علشان هو هيطلَّقها ومالوش علاقة بيها. 

اقتربت منهُ متسائلةً يعني إيه، البنتِ حامل ، إزاي هيوافق كدا، نهضَ من مكانهِ واقتربَ منها ومازال ينفثُ سيجارته:

- لا ماهو مبقاش فيه ولد، كلُّه بح، الدكتور جوا، والفيديو وصل لابنِ السيوفي ومش بس كدا، ودعوة الطلاق كمان، علشان يعرف هوَّ واقف قصاد مين..

-اتجنِّنت ياراجح عايز تموِّت البنت، دفعتهُ وتحرَّكت سريعًا وجدت الطبيبَ يقوم بعمله لفتح بطنها

-استنى إنتَ بتعمل إيه؟،،نظرت إلى ميرال المتمدِّدةِ على الفراشِ لا حول لها ولا قوَّة لتصرخَ بالطبيب: 

-برَّة يامجنون، دلفَ راجح بعدما أشارَ للطبيب ِبالخروج: 

-اتجنِّنتي يارانيا، عايزة البنت تجيب الولد!..

وصلت إليها وانحنت تقبِّلها بحنانٍ أمومي..تنظر لذاك الجرح السطحي

-حبيبة ماما، آسفة يابنتي..

-رانيا ..صاحَ بها راجح لترفعَ نظرها إليه: 

-خليه يجي يداوي الجرح دا ياراجح، والله اموتك سمعت

-متجننيش أنا مستحيل أوافق على كدا، إنتَ قولت هنسافر إيه اللي خلاك تغيَّر رأيك، مش قولت استوليت على شركةِ العمري والدنيا بقت تمام ليه رجعت في كلامك؟.. 


وصلَ يجذبها من ذراعها: 

-تعالي معايا يارانيا..دفعتهُ صارخة:

-راجح متخلِّنيش أقلب عليك، إياك تقرَّب من البنت، والولد اللي عايز تنزِّله دا ياغبي هو اللي هيكوِّش على كلِّ حاجة، اعقل ياراجح ومتخليش غضبك من فريدة وابنها تموِّت بنتنا الوحيدة.. 

ابتعدَ يحكُّ ذقنهِ بتفكيرٍ ثمَّ أجابها ببرودٍ مهلكٍ قائلًا:

-سبيني أفكَّر يارانيا، أشوف الولد دا فعلًا هيكوِّش على العيلة ولا هيكون جهنم ..

ضغطت على شفتيها بعنفٍ وهدرت به:

-بنتي مش هتقرَّب منها ياراجح..

-ماهو علشان بنتك يارانيا لازم أخلص من الولد.

-يعني إيه؟..تساءلت بها بغضب..

اقتربَ يسحبُ ذراعها وخرجَ بها من الغرفة: 

-حاضر يارانيا، مش هعمل فيها حاجة، تعالي معايا علشان أقولِّك كلمة سر 

ابتعدت عنهُ تطالعهُ بغموض: 

-مفكَّرني عبيطة ياراجح، قالتها واقتربت تترجاهُ محافظةً على هدوئها البارد حتى تخرجَ بابنتها، حاوطت عنقهِ واستخدمت أساليبها: 

-رجوحة حبيبي مش كفاية اتحرمنا من هيثم، مابقاش عندي إلا ميرال، علشان خاطري حبيبي متعملشِ حاجة، ووعد هخلِّيها تبعد عن ابنِ السيوفي علشان عارفة إنَّك خايف على شغلنا، أنا فاهمة وعارفة تفكيرك، بس وحياتي ياراجح بلاش تئذي بنتك..


صمت لبعض الوقت قائلًا:

-موافق يارانيا، 

-اشارت على ميرال:

خليه يدخل يداوي البنت لتموت من النزيف، البنت حامل حرام عليك 

سحبَ كفَّيها وتحرَّكَ للخارج: 

-طيب تعالي لازم نمضي عقودنا، قبلِ مابنتك تفوق، ولَّا عقود راجح مابقتشِ تنفع، أطلقت ضحكةً صاخبةً وتحرَّكت معهُ للخارجِ تنظرُ إلى الطبيب: 

-تدخل تدواي جرح بطنها، وإياك تقرَّب منها،  وامشي متنازلين عن خدماتك.. 

أومأ راجح بعدما غمزَ له بطرفِ عينهِ بعيدًا عن رانيا، ثمَّ اتَّجهَ إلى سيارتهِ يحاوطُ خصرها: 

-لمَّا الهانم تفوق هاتوها على فيلا المريوطية لازم نحتفل بوجودها مش كدا يارانيا؟. 

ابتسمت تهزُّ رأسها:

-كدا ياحبيبي، خلُّوا بالكم منها، مش عايزة حد يقرَّب منها، وانت اياك جرحها يكون فيه غلطة، وشوف دوا قوي يعالج الهباب اللي عملته..قالتها واستقلَّت السيارة، لتتحرَّكَ السيارة بعض الكيلومترات، وصلت إلى الفيلاَ وترجَّلت وهو بجوارها:

-ليه جينا هنا ياراجح مرحناش الفيلا ليه؟..

دلفَ للداخلِ وأجابها: 

-علشان ابنِ السيوفي زمانه قالب الدنيا بعد ماوصل لفريدة، وطبعًا بعد قضيةِ الطلاق لو لقاني هيولَّع فيا..

قهقهت تخلعُ حذائها: 

-نفسي أشوف وشِّ فريدة دلوقتي ، اتَّجهَ إلى أحدِ الباراتِ، وجذبَ كاسًا وسكبَ به بعضَ المحرَّماتِ والتفتَ إليها وجدها تتجوَّلُ بعينها بالفيلا متمتمة:

-حلوة الفيلا أوي ياراجح، إنتَ شاريها من زمان؟.. 

سكبَ مابداخلِ ذاك الكاس، وقامَ بتقليبهِ سريعًا متَّجهًا إليها وبسطَ كفيهِ إليها:

-بصحة الحبِّ اللي بينا ياروحي، أخذتهُ وتجرَّعتهُ ثمَّ اتَّجهت إلى هاتفها وقامت برفعِ صوت أغنيةٍ شعبيةٍ قائلة:

-الليلة فرحانة أوي، ولازم أسعدك معايا، هرقص لك زي زمان لحدِّ مابنتنا ترجع لنا واحصَّر فريدة عليها، قالتها وصعدت فوق الطاولة وبدأت تتمايلُ بجسدها إلى أن شعرت بالدوار، ليتلقَّفها بين ذراعيهِ هامسًا بفحيح:

-لولا ارتباط شغلنا مع بعض يارانيا كنت زماني دفنتك من زمان، بس أخلص من الناس الحقيرة دي وأعلِّمك إزاي تضحكي عليا يابنتِ الرفاعي.. 

استمع الى هاتفه

-ألحق ياباشا الظابط وصل واخد مراته، وقبضوا على الدكتور وهو بيعمل العملية

-الله يخربيتكوا كلكم، التفت إلى رانيا التي غفت 

-غبية كنت زماني خلصت، ازاي هعرف اجيبها تاني ياغبية، أه يافريدة مستحيل ارحمك 

بعد يومين من تحسن ميرال والأطمئنان عليها خرج بها من المشفى وصلَ إلى منزله، وضعها بهدوءٍ بالفراشِ ودثَّرها، دلفت فريدة إليها متلهفة: 

-عاملة إيه ياحبيبتي، كانت عيناها عليه، تعلمُ أنَّهُ لن يرحمها بما فعلتهُ وما قالته، استدارت إلى فريدة قائلة:

-أنا كويسة ياماما، بس عايزة أنام.. 

انحنت تطبعُ قبلةً عميقةً فوق جبينها: 

-دايمًا ياحبيبة ماما..احتضنت بطنها وبكت: 

-شوفتي عملوا إيه، فتحوا جزء من بطني ياماما، كان عايز يموِّت ابني.. 


تراجعَ إلياس إلى غرفةِ الملابس قائلًا:

-مش هم اللي كانوا عايزين يموِّتوا ابنك يامدام، توقَّفَ واستدارَ إليها: 

-إنتِ اللي كنتي عايزة تموِّتيه محدِّش غيرك، بلاش تحمِّلي ذنبك لغيرك، معلش العيب مش فيكي، العيب فيَّا إنِّي اخترت ست متستهلش تكون ام ولا تستاهل تكون مراتي، بس أوعدك قريبا اصلح غلطي 

هبَّت فريدة تطالعهُ بذهول: 

-إنتَ بتقول إيه ياإلياس، إنتَ اتجنِّنت.. 

-أيوة أنا فعلًا اتجنِّنت علشان رغم أغلاطها كنت بسامح وأعدي، البنت دي اللي بيربطني فيها ابني وبس، نظرَ لعينيها التي انفجرت بالبكاءِ وتابع: 

-إنسانة تافهة ماتنفعشِ تتحمِّل مسؤلية، متنفعشِ تشيل اسمِ إلياس السيوفي، هيَّ فعلًا أثبتت أنَّها بنتِ راجح بياعة، ممكن تبيع الغالي بالرخيص في أي وقت، واللهِ لولا إنِّك حامل كنت طلَّقتك بلا راجعة، علشان تفكَّري مليون مرَّة إزاي تتطاطي لواحد واطي..

دفعت الفراش وتوقفت متجهة إليه وهي تحتضن بطنها:

-وكان مطلوب مني ايه ياحضرة الظابط، قولي كان مطلوب مني ايه وهو بيخيرني بين البيبي وبين امي 


ركل الباب ودلف للداخل يصفعه خلفه بقوة، محاولًا ألا يخرج غضبه بها، خطت إليه توقفت فريدة أمامها 

-ميرال بلاش دلوقتي اللي مر به مش قليل..أزالت دموعها بعنف وتمتمت ببرود وانا كمان اللي مريت بيه مش هين ياماما وحضرتك شوفتي 

صاحت بصوت مرتفع حتى وصل إليه 

-مش قولتي له ليه كان عايز يموتك، مش قولتي ليه أنه ضربني في بطني وقال هيجيبه زاحف 

كور قبضته ونفرت عروقه بقوة من يراه يظن أنه سيفتعل جريمة لا محالة

دفعت الباب ودلفت إليه وانسابت دموعها كمجرى نهري 

-ايه قافل على نفسك ليه، خايف تموتني ياله أنا قدامك موتني، على الأقل ارتاح منك ومن الراجل دا، ولا اقولك ايه رأيك اموت انا نفسي، ماانا عملتها قبل كدا، ذهب ببصره سريعًا على سلاحه مع نظراتها ليصل إليها بخطوة واحدة ولكنها رفعت السلاح إليه 

-أنا مش عايزة الحياة دي ياالياس، ابويا مجرم وامي بتخون ابويا، انا سمعت ارسلان وهو بيقولك، انا خلاص تعبت مش عايزة حاجة من الدنيا دي 

-هاتي السلاح ياميرال 

-ابعد ياإلياس انا تعبت منكم كلكم، اعيش ليه والراجل دا ابويا..ظلت تلوح بالهاتف وتصرخ بدخول اسلام وغادة على صراخها، اقترب اسلام من الخلف محاولا السيطرة على حركاتها باقتراب إلياس يشير إلى اسلام بالابتعاد بعدما علم أنها لا تشعر بما تفعله استدارت مع اقتراب إلياس والتفاتها إليه مع ضغطها على الزناد 


بالمشفى عند ارسلان 

ابتعد اسحاق بعدما استمع إلى رنين هاتفه:

-اسحاق ألحقني، والدتك جت على الفيلا بناس معاها، أنا خايفة 

ركض سريعا إلى سيارته 

-دقايق وأكون عندك، روحي على الملحق، اوعي توصلك لحد مااوصلك

بعد قليل 

خرج الطبيب من غرفة العناية، فتوقف ارسلان مبتعدًا عن والدته، نظر إلى الطبيب منتظر حديثه فتحدث قائلًا

-هيدخل عمليات تاني ومحتاجين دم، زمرته مش موجودة بالمشفى للأسف، اقترب ارسلان قائلًا 

-أنا ابنه خد اللي انت عايزه 


الفصل الواحد والعشرون من هنا

تعليقات



×