رواية فوق جبال الهوان الفصل التاسع عشر 19 بقلم منال سالم


 رواية فوق جبال الهوان الفصل التاسع عشر 

صوته البغيض إلى قلبها أثار في نفسها المزيد من الكراهية والأحقاد تجاه من ساهما في قهــر والدها قبل أن يقضي نحبه حسرة وحزنًا على عجزه في الدفاع عن ابنته. لم تعرف "دليلة" على من تصب غضبها وحنقها تحديدًا، فاندفعت بلا تردد نحو أول من وقعت عليه عينيها، بعدما طرحت شقيقتها جانبًا لتصرخ في جنون، ووجهها ينضح بحمرته الغاضبة:
-هــــموتك يا مجرم!
واجهت "كرم" في اندفاعها الأهــوج، فرفعت السكين في وجهه لتطعنه بنصــله وصراخها يرج بين الجدران:
-مش هسيبك.
لم يبدُ مفزوعًا من رؤيتها تقبل عليه بعنفوانها الحانق، بل قام بثباتٍ من موضع جلوسه، وقبض على ذراعها بقوةٍ قبل أن يتمكن النصل من إصابة أي موضعٍ في جسده، ثبت رسغها المتشنج جيدًا في الهواء، فتلوت صارخة في التياعٍ أشد:
-إنت مجـــرم!
هنا صرخت "عيشة" في هلعٍ:
-بتعملي إيه يا "دليلة"؟ إنتي اتجننتي؟
بينما صاحت عمتها في ذعرٍ وهي تدق على صدرها فيما يشبه اللطمات:
-يا نصيبتي!
لم يحتج "كرم" أدنى مجهود لانتزاع السكين من يدها، أخذه ببساطةٍ من أصابعها القابضة عليه، ونظر إليها مرددًا باستخفافٍ:
-جرى إيه يا حلوة؟ جاية تموتيني بحتة البتاعة دي؟
فيما أسرع "زهير" بالتحرك صوبهما، لمنع شقيقه من التهور، وخاطبه في شيءٍ من التحيز:
-خلاص يا "كرم".
وكأنه لم يسمعه من الأساس، ظلت عيناه الناريتان مرتكزتين على وجه "دليلة" المشتعل، وواصل استهزائه السخيف بها:
-احنا بنسلك بيها أسنانا.
ثم تصنع الضحك قبل أن يضيف:
-على الأقل خشي عليا بساطور، حتى أعملك احترام.
مجددًا رجاه "زهير" بصبرٍ نافد:
-كفاية يا "كرم"، سيبها.
كانت لا ترى سواه، فلم تهابه أو تخشاه، لذا استمرت على عدائيتها ناحيته، فتوعدته وهي تحاول التلاحم معه يدويًا:
-هموتك، إنت مجرم.
دون عناءٍ يذكر نجح في صد محاولة هجومها الفاشلة، وقيد معصميها بقبضتيه قائلًا بشيءٍ من التفاخر:
-وأنا إيه غير كده؟
بضيقٍ أكبر تدخل "زهير" لفصله عنها هاتفًا:
-"كرم"، سيبها!
طالعه الأخير بنظرة غير مريحة قبل أن يخاطبه بنبرة موحية:
-هعملك اعتبار المرادي، وهقدر الظروف.
ثم أرخى أصابعه عنها ليسحبها "زهير" ناحيته قبل أن يتقدم خطوة ليغطيها بجسده، فيما انطلقت "إيمان" نحو "كرم" لتهاجمه هي الأخرى بقبضتيها وهي تصيح في انفعالٍ:
-إنت عايز إيه من أختي؟ ما تقربش منها.
بغير عناءٍ تمكن من الإمساك بها، فاشتدت قبضته على رسغها، قبل أن يلوي ذراعها خلف ظهرها ويضغط عليه، لتشعر بالعجز التام وهي مقيدة منه، لتلفح أنفاسه بشرتها وهو يحذرها من بين أسنانه:
-ما بلاش إنتي يا حلوة! ده أنا بقول عنك العاقلة.
تأوهت من الألم الصارخ الذي عصف بذراعها، فهرعت إليها "عيشة" لتنجدها من بين براثنه في توسلٍ باكٍ:
-كفاية يا معلم، أبوس إيدك، احنا ولايا، وبناتي زعلانين على أبوهم، من فضلك أعذرهم.
بينما صاحت "إيمان" في صوتٍ متألم:
-سيب دراعي، هيتكسر.
رجته "عيشة" بإلحاحٍ وهي تحاول فك قبضته عن ابنتها:
-علشان خاطري يا ابني.
فيما صرخت "دليلة" وهي تحاول المرور وتجاوز "زهير" لتصل إليه وتتشاجر معه مجددًا:
-ابعد عن "إيمان".
تدخلت العمة هي الأخرى لوقف تصعيد الأمور، واستعطفته:
-بالله عليك يا ابني تهدى، أعذرهم، هما مش في وعيهم.
أمام رجاوات المرأتين حررها رغمًا عنه مرددًا في تحذيرٍ صريح:
-علشان خاطرك بس يا حماة أخويا، غير كده كنت شحنتلك الجوز على بيت "توحيدة"، وهما هناك عارفين يتعاملوا إزاي.
تساءلت العمة في تحيرٍ:
-مين دي كمان؟
استعادت "عيشة" ابنتيها في حضنها، وطوقت بذراعيها الاثنتين لتوبخهما في حدةٍ:
-لموا الدور بقى، وكفاينا فضايح.
رفع "كرم" إصبعه في وجه ثلاثتهن مهددًا:
-بعد ما العزاء يخلص، لينا كلام تاني...
ليوجه بعدها أمره إلى شقيقه وهو يتحرك صوب باب المنزل:
-يالا يا "زهير".
قبل أن يغادر الأخير، التفت مخاطبًا حماته في لهجةٍ شبه ناصحة رغم كون نبرته قد بدت مشدودة نسبيًا:
-مافيش داعي تظهروا قدامه تاني، لأنه مش هيفوت اللي حصل منكم على خير.
لم ينتظر الرد وانصرف، لتصيح "عيشة" في هياج مواصلة تأنيب ابنتيها على تصرفهما الخاطئ:
-إياك واحدة فيكم تتنقل من جمبي، وخشوا جوا على الأوضة، هو احنا ناقصين نصايب.
انسلت "دليلة" من أسفل ذراع والدتها لتواجهها هادرة في انفعالٍ مبرر:
-هما دول بقوا عيلتنا خلاص؟ هما دول اللي هيقفوا قصاد الناس، وياخدوا عزا أبونا؟
نكست "عيشة" رأسها في حزنٍ وانكسار، فهي لا تملك القوة أو المقدرة على مواجهة أمثالهما، لتتحدث العمة برثاءٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، بالراحة يا بنتي، كلنا موجوعين لموت أخويا، بس العمل إيه؟
ظلت على عنادها هادرة بتحدٍ، والدموع تطفر من عينيها بغزارةٍ:
-أنا استحالة أقبل بإن شوية البلطجية دول ياخدوا عزا أبويا، سامعين، أنا هقفلهم، حتى لو كنت لوحدي، وكان فيها موتي!!
...................................................
في نفس الأثناء، كان "راغب" قد صف سيارته على مقربة من البناية، نظرًا لكون المقدمة انشغلت بمن ينصبون سرادق العزاء. ترجل منها وهرول نحو المدخل بعدما تأكد من إغلاقها عن طريق جهاز القفل الإلكتروني، ليتجمد في موضعه حينما رأى "كرم" في مواجهته عند المدخل. هربت الدماء من وجهه، وحدق فيه بتوترٍ، بينما رماه الأخير بنظرة استحقارٍ هازئة، ليدنو منه متسائلًا في تهكمٍ صارخ:
-أخيرًا هل هلالك يا سبع البرومبة.
كان آخر من يتوقع اللقاء به هنا، ولم يحبذ رؤيته مطلقًا، لذا حفظًا لماء وجهه حاول "راغب" الرد بحدةٍ طفيفة، ورغم هذا ظهرت نبرته مرتعشة إلى حدٍ ما:
-من فضلك، مش وقت تريقة سخيفة، وخليني أطلع لمراتي والجماعة فوق.
حاول المرور بلا صدام معه؛ لكنه لم يسمح له بذلك، واعترض طريقه عن قصدٍ مانعًا إياه من الصعود، ليرفع كفه للأعلى رابتًا على كتفه بقوةٍ قبل أن يردد ساخرًا:
-أهــا، مراتك، قولتلي..
شعر "راغب" بقبضته تشتد على كتفه، كأنما يعتصر عظمة الترقوة، ليسأله في نبرة تحمل تلميحات مسيئة في طياتها:
-صحيح ماشوفنكش وقت العزا، كنت فين؟ مقضيها ولا إيه النظام؟
استحقاره الدائم له على الدوام جعله متحفزًا للغاية، فنفض قبضته عنه صائحًا بغيظٍ:
-احترم نفسك، أنا لحد دلوقت بتعامل معاك بأدب.
أطلق "كرم" ضحكة قصيرة هازئة به قبل أن يتحداه في ثقةٍ:
-نفسي أشوف قلة أدبك معايا.
وقف "زهير" ورائه ليطلب منه بانزعاجٍ:
-"كرم" مش هنتخانق مع كل من هب ودب، ورانا حاجات عايزين نخلصها.
دون أن يشيح بناظريه عن وجه "راغب" تكلم شقيقه الأكبر في صوتٍ أجش:
-على رأيك، خسارة أضيع وقتي مع فسل زي ده.
استشاط "راغب" غضبًا مجددًا لإهانته المتواصلة، وكز على أسنانه مدمدمًا:
-إنت آ...
قبل أن يفوه بشيءٍ يندم عليه لاحقًا، حذره "كرم" بهدوءٍ:
-خد بالك ليطقلك عرق، وإنت سفيف مش هتستحمل زقة مني!
وليثبت جديته دفعة بخشونةٍ نحو الجدار، فارتد "راغب" للخلف ليرتطم بالكتل الإسمنتية الباردة، أطلق تأويهةٍ خافتة، فيما مضى "كرم" في طريقه مخاطبًا شقيقه الذي تبعه بتعجلٍ:
-بينا يا "زهير" نشوف الرجالة خلصوا الصوان، ولا لسه.
انتظر "راغب" ذهابه ليستقيم واقفًا، فرك موضع الألم بكف يده مغمغمًا في استياءٍ عارم:
-مش ممكن، حيوان!
ليكمل بعدها صعوده للطابق العلوي، وهو يلعن اليوم الذي اضطر فيه للتعامل مع عينة هؤلاء الأوغـــاد.
......................................
بمجرد أن أصبح كلاهما منفردين، وقبل أن يصلا إلى موضع إقامة سرادق العزاء الذي أوشك العمال على الانتهاء من إعداده، توقف "كرم" عن المسير، والتفت ليخاطب شقيقه الأصغر في نبرة تحذيرية:
-شوف أنا سكت عن اللي حصل فوق علشان عامل لكلمتك اعتبار، مش علشان حد تاني، غير كده قسمًا بالله كنت ربيتهم.
رد عليه مبررًا ما حدث من توترٍ:
-برضوه معذروين يا "كرم"، اللي حصل مش سهل، وبعدين هما غيرنا، وطباعهم مختلفة عننا.
التوى ثغره بغير رضا، وتابع مستطردًا وهو يطالعه بهذه النظرة المتشككة:
-بدأت تتغير يا "زهير"، خد بالك.
رد عليه مؤكدًا:
-أنا زي ما أنا، مافيش حاجة اتغيرت فيا، بس بقدر الظروف.
ابتسم بسخافةٍ، وكأنه لا يبدو مقتنعًا بذلك، ليلكزه في جانب ذراعه قائلًا:
-ماشي يا عم الحساس.
قبل أن يتجها نحو إحدى السيارات التابعة لهما، أتى إليهما أحدهم هاتفًا بصوتٍ شبه لاهث:
-يا كبيرنا، الصوان اتنصب خلاص، وكله في التمام.
استدار "كرم" تجاهه ورد باقتضابٍ:
-ما أنا شايف.
حمحم تابعه مضيفًا في ترددٍ:
-بس في حاجة تانية.
قطب جبينه متسائلًا:
-إيه؟
ابتلع ريقه، وأجابه في احترازٍ:
-رجالة "العِترة" موجودين.
انقبضت قسمات وجهه، بينما استطرد "زهير" متسائلًا بتحفزٍ:
-جايين في واجب ولا مناوشة؟
هز كتفيه معقبًا:
-مش عارفين لسه.
أصدر "كرم" تعليماته بوضوحٍ:
-طب خلي الكل يجهز، مافيش حاجة مضمونة.
-أوامرك يا ريسنا.
....................................
قبل أن يدق على الباب، راح يرتب أفكاره في رأسه، وينتقي من العبارات ما يبرر غيابه غير الطبيعي في يومٍ عصيبٍ كهذا، بالطبع لن تنفع أي حجج أو أعذار واهية؛ لكنه سيلجأ لســــلاح العاطفة للتأثير عليها، فهذا ما ينجح دومًا معها. تنفس "راغب" بعمقٍ، وقرع الجرس لتفتح له عمتها، فقدم لها التعزية، قبل أن يهرع إلى غرفة أبيها الراحل، حيث تجلس بجوار شقيقتها على فراشه. استأذن بالدخول قائلًا بصوتٍ رخيم:
-ممكن يا "دليلة" تسيبني مع مراتي شوية.
سددت له نظرة دونية قبل أن تنهض من موضعها لتغادر، لينتظر بترقبٍ ابتعادها حتى يجثو على ركبته أمام زوجته معتذرًا من فوره، وبندمٍ مبالغ فيه، وهو يمد يديه ليحتضن كفها:
-حقك عليا يا "إيمان"، غصب عني والله، كنت مشغول.
لم تجد العزاء في كلماته الثقيلة، سرعان ما سحبت يدها من راحتيه قائلة بجمودٍ، وقد صارت ملامحها قاسية:
-معدتش تفرق.
شعر بالحرج من جلسته تلك، فنهض قائمًا ليضيف بعزمٍ متكلف:
-شوفي إيه ناقص وأنا جاهز أعمله يا حبيبتي، مش عايزك تشيلي هم حاجة.
ظلت تتجاهل النظر ناحيته، وردت بغير اكتراثٍ:
-مالوش لازمة تتعب نفسك...
بدت نبرتها إلى حدٍ ما موحية وهي تختتم جملتها:
-الغُرب قاموا باللي المفروض تعمله.
ثم نهضت بدورها لتترك الغرفة وتخرج للصالة، تبعها في استياءٍ، فالتقى بوالدتها شاكيًا في الحال:
-طب كلميها يا حماتي، حضرتك عارفة الوضع في البنك عندي عامل إزاي.
أخبرته بصوتٍ مهموم:
-سيبها يا ابني، الصدمة صعبة علينا كلنا.
تابع كلامه إليها في شيءٍ من الحرج:
-ده أنا لسه معرفتش ماما، دي هتزعل جدًا، إنتو ما تعرفوش هي كانت بتعزه أد إيه.
وكأن ما يفوه به بغير فائدة، فطاف ببصره عليهن متسائلًا:
-طب شوفوا إنتو عايزين إيه وأنا أعمله.
تباينت ردود أفعالهن، ما بين نظرات مستنكرة، ونظرات مزعوجة، ونظرات غير مبالية على الإطلاق.
...........................................
جلست بغنجٍ على الأريكة، ورفعت ساقها على المسند، لتهزها بحركة رتيبة في الهواء، وهي ترمي من تجلس قبالتها بنظرات استعلاء باردة، لتمسك بهاتفها المحمول وتلصقه بأذنها وبيدها الأخرى تداعب شعرها متسائلة في نبرة جاهدت لتبدو جادة:
-على كده إحنا المفروض نعمل الواجب مع الكوبارة ولا لأ يا سي "عباس".
جاء رده كالتأكيد:
-ده لازمًا، مش نسايبه.
سألته "وزة" وهي تتصعب بالعلكة التي تلوكها في فمها:
-وأجيب معايا نسوان البيت ولا لأ؟
أخبرها بجديةٍ:
-كله يجي، في أعدة للستات في خيمة صغيرة.
هزت كتفيها في تدللٍ، وأبدت طاعتها لأوامره:
-ماشي يا سيد الناس.
ثم أنهت المكالمة لتنهض من جلستها المسترخية صائحة فيمن حولها:
-يالا يا بت إنت وهي، سي "عباس" قال الكل يجهز علشان نروح العزا...
عادت لتنظر إلى من تحدجها بنظرات أشبه بالجمرات وهي تتابع:
-مش عايزين نسايبه يقولوا قصرنا معاه في حاجة.
ثم دنت منها متسائلة:
-جاية معانا يا "توحيدة"، ولا ملكيش في الحزن؟
وجدتها تنفجر صائحة فيها:
-أطلع على خرجتك قريب يا رب.
تركتها تغلي بنيران غيرتها، واتجهت إلى داخل غرفتها لتبدل ثيابها على الفور، فيما صاحت "توحيدة" في تابعتها المخلصة:
-بت يا "خضرة"، عملتي اللي قولتلك عليه؟
خفضت من نبرتها قائلة:
-أه يا أبلتي، كله تمام.
انعكس على تقاسيم وجهها ذلك التعبير العدائي الشرس وهي تخبرها:
-أما نشوف هتعدي منها إزاي ..................... !!!

تعليقات



×