رواية بحر ثائر الفصل السابع 7 بقلم اية العربي

رواية بحر ثائر الفصل السابع بقلم اية العربي

 


لن أثور لأنك مسحت دمعتها 

لن أثور لأنك شخص مختلف معها 

لن أثور لأنك أمسكت يدها وقبلتها

بل...... 

لآلام منذ ثمان سنين أتحملها سأثور....... 

لتلك العلامات الحزينة في جسدي سأثور 

وربما... 

لقلبي ودموع أغرقت مخدتي

لتلك السجينة البريئة داخلي منذ ثمان سنين

سأثور.... 

وربما...... 

لأني أنثى قلبها مختلف

قلب يبكي ينهار ينزف لكنه أبدا لن يعترف 

سأثور..... 

وربما لأنك رجل كل مافيك مزيف 

سأثور......


( بقلم فيروزة  ) 


❈-❈-❈


ليتني أستطيع احتضان نفسي حتى تهدأ  ، ليتني أستطيع احتواءها حتى تطمئن  ، ليتها تبكي داخلي حتى تنبت بذور الأمل من جديد بعدما اقتلعوها بقسوتهم   .


فتحت عيناها تنظر حولها بذهولٍ كلي ولم تستطع تحريك جسدها كأنها مقيدة بالأصفاد  .


لم تستوعب شيئًا حولها إلا بعد دقيقتين حيث أدركت أنها كانت تحلم وما رأته في منامها هو مجرد نسجًا من عقلها الباطن وأن حدوثه ضربًا من ضروب المستحيل  .


لقد رأت ذلك الشاب الميكانيكي يقبلها  ؟  أي هراءٍ هذا هو لم يخطر على عقلها حتى  !


تنفست بقوة ثم نهضت تخطو نحو الحمام وتغسل وجهها لتعود تنظر حولها وتسحب شهيقًا قويًا بضيق  ، منذ أن سافر عمها مع زوجته وابنه وهي تمكث وحيدة  . 


ابتسمت ساخرة فهي وحيدة حتى وهم حولها ولكن على أقل تقدير كانت تتحدث مع ماجد ويخترق وحدتها هذه إلا أنها منذ أيام لم تجد من يؤنس وحدتها ليلًا فتتراكم فوقها حطام الذكريات  . 


اتجهت تتسطح على فراشها وتستعيد تفاصيل حلمها متعجبة  ،  لما حلمت به وكيف لعقلها أن يصور لها حلمًا كهذا  ؟ 


استلت هاتفها من جوارها وعبثت به ليظهر أمامها رقمه الذي سجلته باسم ميكانيكي  ،  اعتصرت عقلها تتذكر اسمه ليستنير فجأة حينما تذكرت نداء الصبي له آنذاك  ،  يدعى داغر  . 


زفرت بضيق مما يحدث معها ثم نهرت نفسها تردف بصوتٍ مسموع كأنها تتحدث مع غريمتها  : 


- إنتِ مالك ومال اسمه  ؟  وتحلمي بيه ليه أساسًا  ؟  تعرفيه منين ده يا بسمة  ؟  يظهر إنك اتجننتي  . 


اعتصرت عينيها لتنام ولكن عقلها أعاد عليها قبلته لها فنفضت رأسها بقوة كادت أن تنزعها وهي تحاول ألا تتذكرها معللة أن هذا الحلم نسج من تناولها لعشاءٍ دسم بالرغم من أنها لم تتناول سوى قضمة من شطيرة الجبن  . 


❈-❈-❈


حينما يشعر بالغضب يذهب ليمارس الملاكمة  ،  لذا فها هو يقف في حلبة المصارعة ويصارع خصمه القوي ويتابعهما من بعيد توماس آور ليان الذي لا تفوته مبارياته  ،  يسعى ليضمه إليه بأي شكلٍ كان فهو يعلم مدى قوته العقلية والجسدية ومدى تأثيره على شريحة كبيرة من المجتمع الفرنسي وخاصةً الشباب  . 


كان يلاكمه وعقله منشغلًا بابنه معاذ  ، و بوالدته التي كانت تبكي اليوم حنينًا له  ،  بما تعرض له منذ سنوات وبالسمعة التي لحقت به  . 


هجمت عليها الذكريات واحدة تلو الأخرى دون هوادة وهو يتذكر الماضي كأنه حاضر لذا كانت قبضته قاسية لم يتحملها خصمه فسقط أرضًا مستسلمًا ليعلن عن فوز ثائر ذو الفقار  . 


مجددًا تجهمت ملامح توماس ولكنه أظهر ابتسامة إعجاب وتحرك من مكانه يتجه نحو ثائر الذي غادر الحلبة حتى وقف أمامه وهو يجفف تعرقه ويلاحظه فتحدث الأول بترقب  : 


- كالعادة تبهرني ثائر  ،  ولكن حان دوري لأبهرك  ،  جئت إليك بأخبار لا مثيل لها  . 


تمعن ثائر في عينيه بقوة يستشف مغزى جملته لينحني توماس نحوه ويهمس بالقرب من أذنه  : 


- وأخيرًا وبعد عناء علمت عنك كل شيء  ،  الآن علمت لماذا تركت بلدك وجئت إلى فرنسا  ،  تاريخك الأسود أصبح في قبضة يدي  ،  قلعتك التي شيدتها بعقلك ورزانتك ستنهار فور أن أخبر الجميع عنك وعن فعلتك الحقيرة  . 


ابتعد ليجد ملامح ثائر متحفزة يحدق به بعيون قاتمة ليبتسم الآخر على نجاحه في إثارة غضبه لذا استطرد بنبرة مساومة  : 


- لا تخف لن أفشي سرك ولن أحطم مكانتك ككاتب ولكن تعلم جيدًا المقابل  ،  لا أريد منك سوى العمل معي  ،  لنضع يدنا سويًا ونغزو عالم المراهنات وأعدك ستمتلك فرنسا بمن فيها  ،  فكر جيدًا  . 


ابتسم أكثر حينما وجده عاجزًا عن ردعه والغضب يتراقص على تقاسيم وجهه لذا لوح له بيده والتفت يغادر تاركًا خلفه بحرًا يحاول ألا يثور حتى لا يغرق الجميع  . 


❈-❈-❈


بعد عدة أيام  . 


اعتادا ألا يديرا ظهريهما لبعضهمها مهما حدث بينهما ومهما اشتدت الخلافات  ،  ولكنها هذه المرة تشعر بحزنه برغم أنه يتعامل معها بشكل اعتيادي  ،  تشعر أنها كسرت داخله شيئًا ما لا تدرك ماهيته  . 


نهض من مكانه واتجه نحوها ثم دنا يقبل رأسها مردفًا بهدوء  : 


- محتاجة حاجة  ؟ 


قبل أن يرحل أمسكت بيده ثم نهضت تنظر في عينيه وتساءلت بما لم تستطع عليه صبرًا  : 


- دياب إنت زعلان مني  ؟  حساك متغير معايا  . 


حدق بها لثانيتين ثم ابتسم يخفي ما يعتليه مجيبًا بنبرة دافئة  : 


- لا يا حبيبتي ماقدرش ازعل منك  ، أنا بس مخنوق من الشغل شوية  . 


اقتربت منه بل التصقت به تتساءل بترقب  : 


- طب إيه رأيك لو تاخد أجازة ونسافر كام يوم نغير جو  ؟ 


راوده شكًا من اقتراحها وكاد أن يسأل ليتراجع سريعًا ويقرر أن يراوغها بدلًا عن ذلك لذا قال بتروٍ  : 


- مش هينفع الفترة دي يا يسرا  ،  أحمد زميلي آخد أجازة وأنا اللي موجود مكانه  ،  خليها لما يرجع  . 


تنبهت لتتساءل بفضول غريب  : 


- وأحمد أخد أجازة ليه  ؟ 


حدق بها وأجابها متفحصًا نظراتها  : 


- مراته حامل وتعبانة وهو قاعد معاها  . 


سافرت أفكارها في رحلة طويلة بحثًا عن أمنيتها الوحيدة لتسقط طائرتها متهشمة على أرض الواقع لذا ابتسمت بتكلف تجيبه بنبرة لا تحمل ضغينة بل تحمل حزنًا على حالتهما  : 


- ربنا يتمم لها على خير  ،  خلاص تمام خلي بالك من نفسك وأنا هكلم ديما لو فاضية ممكن نخرج شوية  . 


لم يحتمل ما تشعر به خاصةً وهو يفهمها جيدًا لذا مد يده يحتضن وجهها ويملس عليه ثم ابتسم يجيب  : 


- تمام يا حبيبتي ، خلي بالك من نفسك . 


ودعته وغادر وأغلقت الباب ثم خطت نحو السفرة تنتشل هاتفها وتهاتف ديما التي كانت تنظف بيتها بالمكنسة الكهربائية . 


ركض الصغير نحوها يردف وهو يحمل هاتفها في يده قائلًا بصوتٍ عالٍ لتسمعه  : 


- ماما طنط يسرا بترن عليكِ  . 


تناولت منه الهاتف وأوقفت المكنسة تلتقط أنفاسها ثم فتحت تجيب بابتسامة تنعش من يراها عدا زوجها  : 


- ياسو  ،  عاملة إيه يا قلبي  ؟ 


أجابتها الأخرى بهدوء مبتسمة  : 


- الحمد لله يا دمدومة  ،  إنتِ عاملة إيه  ؟  يارب يكون أستاذ كمال مزاجه كويس ويوافق نخرج سوا شوية  ،  محتاجة اتكلم معاكِ جدًا  . 


ابتلعت لعابها وتنفست بقوة تفكر هل يمكن أن يقبل  ؟  إن كانت يسرا تود الحديث معها قيراطًا فهي تود ذلك أربعة وعشرين   . 


زفرت بقوة وأجابتها بترقب  : 


- وأنا كمان نفسي أوي  ،  خلاص خليني أكلمه واسأله ولو وافق نخرج طبعًا  ،  الولاد هيفرحوا جدًا  . 


تحمست يسرا حيث سترى الصغيران التي اشتاقت إليهما كثيرًا لذا قالت بتلهف  : 


- تمام يالا كلميه الأول وعرفيني  . 


أغلقت معها واتجهت ديما تجلس في ركنها المفضل خلف باب منزلها وقامت بالاتصال عليه  . 


كان في هذا الوقت يجلس في منزل زينة بعدما قرر زيارتها بعد إلحاحٍ منها  ،  أتى يحمل بين يديه كل ما لذ وطاب للدرجة التي جعلت والدتها تستقبله بحماس مفرط  . 


بدت في كامل زينتها وهي تجاوره وتتحدث معه بغنجها  ،  أما هو فبرغم اقتناعه أنها تحتاج إليه كبنكٍ متحرك إلا أنه ينجذب إليها طواعيةً بل وبات يركض في الدرب الذي أوقفته على بدايته  . 


رن هاتفه فانتشله ليجدها زوجته  ،  تهاتفه على غير عادة  . 


توتر قليلًا فتساءلت زينة وهي تحدق في الهاتف  : 


- خير عايزاك في إيه  ؟ 


انزعج قليلًا من تدخلها ولكنه لم يبدِ ذلك بل نظر لها وتحدث بليونة لا تشبهه  : 


- معلش يا زينة هرد عليها برا  . 


لوت شفتيها تومئ له فنهض يتجه نحو الخارج تحت أنظارها المبتسمة بانتصار وأجاب يتساءل  : 


- خير  ؟ 


نبرته تحرقها كأنها تتسول منه الود لذا تنفست بقوة وتساءلت مباشرةً  : 


- ينفع أخرج مع يسرا شوية  ؟ 


كاد أن يرفض ولكنه فكر قليلًا  ،  من مصلحته ألا تشعر بما هو مقدمٌ عليه  ،  من مصلحته أن يعطيها مخدرًا ليتسنى له المرح بأريحية لذا تحمحم يجيب  : 


- وهتعملي زي آخر مرة بقى وأرن عليكِ ماترديش  ؟ 


ابتلعت لعابها بمرارة وأجابته بمجاراة حتى يقبل  : 


- لاء يا كمال الموبايل هيكون في ايدي ماتقلقش  . 


- تمام  ،  روحي بس هما ساعتين وترجعي علطول  . 


أجابها بعجالة حينما ظهرت زينة تشير له بالشاي الذي أحضرته فأومأت لها وأغلق الهاتف وتقدم يبتسم بتناقض تام مردفًا  : 


- تسلم إيدك  . 


- مش لما تدوقه الأول  ؟ 


- أي حاجة هتعمليها هتبقى حلوة  . 


ضحكت بجرأة ليعود معها مأخوذًا بأفعالها التي يفتقد إليها في زوجته ديما  . 


وهكذا هو الشخص السام لا يبخ سمه سوى على من تربت عليه  ، أما من تسقيه الوهم فهو يتجرعه ويصب لها السم مصلًا في كاسات  . 


❈-❈-❈


وقفت في المصنع التابع لعائلتها والتي تملك جزءًا كبيرًا منه ولكن الحال لا يسرها على الإطلاق حيث وقفت في المكتب تتمعن في التقارير وأمامها عددًا لا بأس به من العمال والمهندس الذي يباشر عملهم  .


تطلعت عليهم تردف بنبرة شامخة موبخة لما رأته  :


- يعني إيه التقارير دي  ؟ ويعني إيه الإنتاج يقل عن السنة اللي فاتت  ؟ ليه إن شاء الله ده المفروض يزيد بعد الأجهزة المتطورة اللي جبناها ودفعنا فيها ملايين  ؟ ممكن أفهم إيه اللي بيحصل هنا بالضبط يا باش مهندس  ؟ 


توتر المهندس وشعر بالضيق منها ومن تسلطها ومراقبتها للأوضاع التي لم يهتم بها أحد بعد موت والدها لذا أجابها بفتور  :


- يا بسمة هانم إحنا بنعمل اللي علينا والعمال مش مقصرين بس الرواتب مش محفزة   .


قطبت جبينها تطالعه باستنكار واستياء مردفة  :


- يعني إيه مش محفزة  ؟ هو مش مرتباتكم زي اللي مكتوب قدامي ده ولا بتاخدوا أقل من كدة  ؟


تحمحم المهندس يجيب بتطاول وطمع اعتاده  :


- ايوة هي كدة بس احنا المفروض مرتباتنا تزيد كل 6 شهور وإلا الإنتاج هيقل زي ما شوفتي  .


تفاجأت من نبرته وتطاوله عليها لذا ابتسمت وأجابته بثقة وعملية  :


- أه ده لوي دراع مثلًا  ؟  طب والعمال موافقين على كلام الباش مهندس  ولا تحبوا تلتزموا بشغلكوا  ؟


لم يجبها عامل واحد بل جميعهم غلف الطمع أعينهم خاصة وأن المال المتروك يعلم السرقة لذا أومأت ونظرت لمحاميها الذي يجاورها ثم استطردت بنبرة عالية شامخة لا تقبل نقاش  :


- أستاذ ياريت تدفع لهم راتب 3 شهور لقدام  .


حالة مم الهرج والمرج عمت المكتب وانشرحت ملامح المهندس وشعر بالتباهي ولكنها استرسلت متشفية  :


- علشان مش هييجوا المصنع تاني  ، كلكم مرفودين  ، والراتب ده هعتبره كرم مني ليكم مع إن المفروض أرفع عليهم قضية إهمال بس أنا هطلع كريمة  ، ماشوفش حد منكم في المصنع بعد النهاردة  .


انقلبت فرحتهم وهاجوا يصيحون باعتراض ليردف المهندس باستنكار وغضب  :


- يعني إيه الكلام ده يا آنسة بسمة  ؟  إحنا لينا عقود عمل هنا ومش ببساطة كدة ترفدينا  ،  إنتِ عايزة تقفلي المصنع  ؟  هتجيبي عمال منين يشتغلوا  ؟ احنا مش هنمشي من هنا غير لما نبيل بيه هو اللي يمشينا  . 


باغتته بنظرة قوية برغم قلقها منه ومن هجومهم ولكنها أردفت بصمود  : 


- أنا لآخر لحظة براعي أنكم رد فعل على تقصيرنا في المصنع مع إن ده ميشفعش لإهمالكم وطمعكم بس التقارير اللي قدامي دي لو أستاذ محمود قدمها للنيابة كلكم هيتحقق معاكم  ،  وكفاية أوي لحد كدة  ،  اختاروا اللي إنتوا عايزينه  ؛  نفتح تحقيق ولا تسيبوا المصنع  ؟ 


يدركون جيدًا أنهم أهملوا عملهم كثيرًا عن ذي قبل وعمى الطمع أعينهم خاصة وأن المصنع لم يراقبه أحد منذ فترة طويلة لذا نظروا لبعضهم ثم قرروا مغادرة المكان قبل أن يحدث مالا يحمدوا عقباه  . 


نظر لها المهندس نظرات وتوعد يومئ متتاليًا ثم اندفع يغادر خلفهم وتركها تقف مع السيد محمود المحامي الذي أردف معترضًا  : 


- كدة مش صح يا آنسة بسمة  ،  المصنع هيقف تمامًا ودي خسارة كبيرة  . 


زفرت بقوة ترتد على مقعدها تفكر ثم استرسلت بشرود  : 


- إن شاء الله هيكون هنا عمال جديدة بعد بكرة  ،  أنا مش مهم عندي الخسارة اد ما مهم يكون شغال معايا ناس مخلصة وعندها ضمير يا أستاذ محمود  . 


أومأ مقتنعًا بحديثها برغم خوفه مما سيحدث خاصة رد فعل نبيل على ما فعلته  . 


❈-❈-❈


تجلس تباشر عملها باندماج وسط زملاءها  ، منذ أن بدأت عملها هنا وقد عُرفت بالالتزام والجدية  .


لا تشبه فرح التي تثرثر كثيرًا  ، ولا تشبه مايسة التي تتسم بالبرودة  ، هي فقط تحمل توازن والتزام أُعجب بهما زميلها شريف الذي لاحظ طاقة مرحٍ تدخرها داخلها وقد رأى منها القليل خارج جدران هذه الشركة حينما لمحها تتحدث مع شقيقها قبل أن يغادرا  . 


أعجب بملامحها الشرقية وشعرها الكيرلي الذي يعطيها مظهرًا جذابًا لذا فهو دومًا يختلس النظرات إليها وقد لاحظت هذا هي وزميلتيها ولكنها تتجاهله  . 


فجأة دلف مكتبهم مدير الشركة الصيني يرحب بالعربية ويجاوره شابًا من نفس جنسيته ينظر لوجوه الجميع حتى استقر عندها  ،  دقق النظر فيها وابتسم فهي نفسها ذات البنت التي قابلها هنا من قبل وتدعى  ...  دينا  ؟ 


هكذا تساءل بها بنبرة عالية أثارت دهشتهم فسأله المدير مستفسرًا بلغتهم الصينية  : 


- هل تعرفها سيد لو تشو  ؟ 


أومأ الشاب يوضح وعينيه مصوبة نحوها حيث وقفت ترحب به مثل زملائها  : 


- نعم  ،  تقابلنا صدفة هنا في آخر زيارة لي  ،  كيف حالكِ دينا  ؟ 


توترت حينما تذكرها لتجيبه بلغته بتلعثم  : 


- بخير  ،  شكرًا لك  . 


وزع المدير نظراته بينهما ثم توقف عند الشاب يهمس بترقب  : 


- ما رأيك أن تكون هي مرشدتك هنا في الشركة  ؟  هي موظفة جيدة وملتزمة  . 


أومأ له بالموافقة فنظر المدير نحو دينا يسترسل بنبرة آمرة  : 


- حسنًا دينا سوف تكونين أنتِ مرشدة السيد لو تشو هنا  ،  ستعرفينه على كل ما يحتاجه  ،  وبالمناسبة السيد لو تشو هو مدير القسم الجديد  ،  رحبوا به  . 


انحنوا بالترحاب الصيني فبادلهم الشاب وتوقف عند دينا يردف بنبرة ثاقبة  : 


- حسنًا دينا دعينا نبدأ غدًا  ،  وجهزي لي تقريرًا عن آخر أعمال القسم  . 


- كما تريد سيد لو تشو  . 


هكذا أجابته فأومأ مبتسمًا وودع البقية وغادر مع المدير من حيث أتى لتردف فرح بعدها بنبرة تلقائية تحمل حقدًا تخفيه بابتسامتها  : 


- يا بختك يا ست دينا  ،  دايمًا بتجيلك على طبق من دهب  . 


ابتسمت دينا بتكلف وأجابتها بجدية  : 


- على إيه يعني  ؟  الموضوع عادي  . 


تحدث شريف بنبرة مندفعة نسبة لغضبه  : 


- كان المفروض مستر يو هين يختار شاب زيه يبقى معاه  . 


باغتته بنظرة غاضبة وأجابته بشموخ  : 


- أومال إحنا بنشتغل ليه هنا ليه يا شريف  ؟  كلنا هنا زي بعض وبينا حدود ماينفعش نتخطاها  . 


هكذا أوقفته عن تخطي حدوده بالحديث معها فهي من النساء اللاتي تفضلن استقلاليتهن بنفسهن وإثبات هويتهن بعيدًا عن الحب والعواطف . 


❈-❈-❈


يمارس عمله بشرود حيث أن عقله منشغلًا بصالح الذي لم يأتِ بعد  . 


حاول الوصول إليه ومهاتفته ولكن دون جدوى  . 


زفر بقلق ثم أردف بانزعاج  : 


- واد يا بلية أنت تعرف المكان اللي قاعد فيه صالح فين بالضبط  ؟ 


ركض بلية أمامه وأردف بإيماءة وحماس  : 


- أيوة يا هندسة عارفه  ، أروح أشوفه   ؟ 


أومأ يحثه مسترسلًا  : 


- أيوة روح بص عليه ولو مالقتهوش اسأل الجيران عنه  . 


أسرع بلية يركض ويلبي الطلب بينما وقف داغر يحاول مجددًا الوصول إليه ويدعو الله أن تكون العواقب سليمة  ،  انفرجت ملامحه حينما أجاب صالح ولكن نبرته كانت حزينة مهمومة وهو يجيب  : 


- أيوا يا باش مهندس  ،  معلش الموبايل كان بعيد عني  . 


تساءل باهتمام وترقب  : 


- مش مشكلة بس إنت كويس  ؟  قلقتني عليك  . 


زفر صالح واسترسل وعينيه منكبة على والده الذي يرقد في المشفى يصارع الألم  : 


- أنا منيح الحمد لله بس والدي تعبان شوية  ،  ماقدرتش أتركه اليوم  ،  معلش اعذرني  . 


- طب انت فين  ؟ 


سألها داغر وهو يتحرك نحو الخارج متجاهلًا كلماته ليزفر صالح ويجيبه بحرج  : 


- أنا معاه في المستشفى  ،  خليك زي مانت وأنا هطمن عليه وآجي  . 


- طب اقفل يا صالح أنا جاي لك  . 


أغلق معه وتحرك ليراه وهو يشعر بالمسؤولية تجاهه  ،  يقطن داخله حبًا لهذا الشاب خاصةً وأنه من البلد التي تصدّر للعالم العزة  . 


❈-❈-❈


في المبنى التجاري  . 


تجلس ديما تستمع إلى هموم صديقتها ويجاورهما الصغيران يلعبان في الألعاب حيث الركن الخاص بهما  . 


انتهت يسرا من سرد ما حدث معها عند الطبيب الألماني وعن ردة فعلها وعن حزن دياب لتزفر ديما بقوة وتطالعها بنظرة معاتبة ولكنها لم ترد زيادة وضع الحمل عليها لذا تحدثت بنبرة لينة  : 


- يمكن إنتِ بالغتي شوية يا يسرا  ،  دياب بيحبك بجد وأكيد زعله على أد محبته  ،  وبعدين إنتِ إزاي مش عارفة تصالحيه  ؟  أنا اللي هقولك بردو  ؟ 


نطقتها بنبرة معنية لتبتسم يسرا متنهدة ثم تردف موضحة بحزن  : 


- مش قصة مش عارفة يا ديما  ،  بس أنا بحس إن دياب أحيانًا مش بيفهم اللي جوايا  ،  هو حرام يا ديما لما أحاول ألاقي حلول  ؟  حرام إني نفسي أكون أم لطفل منه ويجمعني بيه رابط قوي  ؟  أنا جوايا دايمًا خوف إن دياب هيبعد عني وده مش بيخليني عارفة أنام  .


نهضت ديما من مقعدها واتجهت تجاورها وتحتضنها بدعمٍ وحزنٍ لأجلها مردفة  :


- ليه بس كدة يا يسرا ده شيطان يا حبيبتي  ، دياب بيحبك جدًا ومايقدرش يبعد عنك  ، وموضوع الخلفة ده سيبيه على ربنا لإن بصراحة أنا شايفة إنك اللي علطول بتفتحيه  .


هزت رأسها بالرفض وهجمت عليها مخاوفها تردف بملامح منزعجة :


- بس إحساسي غير كدة يا ديما  ، هو أكيد نفسه يكون أب حتى لو مش بيبين  ، مين في الدنيا دي مش عايز أطفال  ؟ 


ابتلعت لعابها بخوفٍ كلي وتابعت  :


- وبصراحة أنا كنت مطمنة أكتر لما دكتور محب قال إن دياب عنده مشاكل  ،  إنما كلام الدكتور اللي روحناله ده خوفني  ،  أنا خايفة أوي يا ديما دياب يبعد عني  ،  مع إني أنا اللي صممت نروح له على أساس نلاقي حل بس اللي حصل العكس وحاسة إنها بتتعقد أكتر  ،  أنا مش عارفة أعمل إيه  ؟ 


أدركت ديما أن صديقتها تعاني  ،  تعاني كثيرًا وتحتاج لمساندة لذا نظرت لها بقوة تردف بتحذير  : 


- يسرا بلاش تمشي ورا تفكيرك ده بجد  ، خوفك ده هو عدوك الأول لازم تتحكمي فيه  ،  هو علشان خايفة دياب يبعد عنك تقومي تفرحي إن عنده مشكلة وتزعلي لما يبقى سليم  ؟  لا يا يسرا كدة مش صح أبدًا  ،  خليكي زي ما كنتِ دايمًا وخلي حبك لدياب يبعد عن الأنانية علشان هتتعبي  . 


هذا ما تسعى لتعود إليه وأتت كلمات ديما تحذرها من الانقياد خلف هذه الهواجز لذا زفرت بقوة تومئ بملامح حزينة لتأتي رؤية الصغيرة تلتصق بها قائلة بحبٍ ورجاء طفولي  : 


- طنط يسرا تعالي العبي معانا  . 


انتعشت يسرا من التصاق الصغيرة بها لذا نهضت تحملها قائلة بنبرة تناقض ما كانت عليه  : 


- من عيوني يا عيوني  ،  يالا نلعب  . 


ابتسمت ديما لها ونهضت تردف بترقب  : 


- طيب العبي معاهم وأنا هروح المحل ده اشتري كتب وارجع لكم علطول  . 


- تمام يا باش كاتبة روحي  ،  ومش هتنازل عن إنك تعملي قصة حياتي رواية  . 


قالتها يسرا بنبرة مرحة وتحركت مع الصغيرة تتجه نحو شقيقها وتلعب معهما والصغيران يصرخان بمرح وسعادة  . 


أما ديما التي توجهت نحو محل بيع الكتب لتنتقي مجموعة أخرى تقرأها بالرغم من أنها لم تنهِ كتاب بحر ثائر بعد  أو تخشى أن تنهيه فتفقد المشاعر التي تعيشها عند قراءته بالرغم من أنها ألغت متابعته منذ أيام  ،  حينها شعرت أنها متناقضة مثله  ،  كيف لها أن تحب كتاباته وتكره شخصيته التي يظهر بها عبر الانستجرام  . 


هو أيضًا متناقضًا بشكلٍ يثير الفضول  ،  من يقرأ بحره يظنه طفلًا يشتهي العودة لأمه ومن يقرأ منشوراته يظنه خائنًا يشتهي أحضان الغرباء  . 


سارت بين أرفف الكتب تنتقي كتابًا عن علم النفس وآخرًا عن العلاقات الأسرية حتى وقفت عند رفٍ يحمل كتبه  ،  تفحصتهم بعينيها حتى استقرت عند أحدهم بعنوان  ( رحلة عبر الداخل  )  . 


كتاب باللون الوردي غلافه جريء بعض الشيء لتجد بين قوسين ( أسرار العلاقة الزوجية  ) وتدرك أنه يتحدث عن شيءٍ لمسها لذا استلته دون تردد وكأن فضولها هو من أخذه  . 


منذ أيام وهي تبحث عن إجابة لخيانة زوجها الملحوظة  ،  تتساءل هل هي المسؤولة عن هذا الخيانة أم أنها الضحية  ؟ 


هل حقًا أهملته وأهملت حقوقه الشرعية كما يحاول إقناعها أم أن طاقتها معه نفذت بفضل أفعاله  ؟ 


ولهذا ستقرأ هذا الكتاب ربما وجدت فيه إجابة ما تبحث عنها  . 


❈-❈-❈


ذهب يلبي دعوة العشاء التي دُعيَ إليها عند حماه  . 


برغم تعجبه من تلك الدعوة إلا أنه لم يرفض مثلما كان يفعل  ،  ربما لأن موضوع توماس يؤرقه  ،  أو ربما لأنه لم يرد إحزان معاذ  . 


جلس على الطاولة أمام السيد وليام ارتوا يملس على رأس صغيره الذي يجاوره ويضحك ويتحدث إليه  . 


لم يحيد وليام نظره عنهما  ،  منذ أن عرفه وتزوج ابنته وهو يراه مريبًا  ،  حينما ينظر إلى عينيه لا يصدق الهدوء الذي يُظهره  وما علمه عنه كان كافيًا ليؤكد شكوكه حوله ولكن أتى تصميم ابنته عليه ليُرضخه للقبول  . 


ولكن علاقته بابنه تثير تعجبه  ،  هو يحب حفيده ولكن ليس أغلى من حبه لابنته ولهذا لا يستطيع التعرض له بأي أذى بل جعله تحت أنظاره دومًا خاصةً وأنه عربي ومسلم وكاتب  .


لا يحبه ويعترف أنه يكرهه ولكنه لا ينكر إعجابه به وبشخصيته التي تناقض ابنته تمامًا  ،  لو كان يمتلك ابنًا مثله لكان الآن يمتلك قوة عظيمة ولهذا هو يسعى ليستقطب معاذ نحوه حتى يجد فيه الأمل المفقود حينما يكبر وحينما  ... ينهي حياة ثائر  . 


ابتسم على أفكاره الخبيثة وتحدث بنبرة تماثل أفكاره  : 


- أرى أن حالتك المزاجية تبدلت يا صغيري  ،  يبدو أن ضحكاتك جميعها من نصيب والدك فقط  ،  أتبخل على جدك المسن يا ولد بهذه الابتسامة الرائعة  ؟ 


نظر معاذ لوالده الذي هدأ ثم عاد يحدق في جده وأردف موضحًا بفطنة  : 


- أنا أحب أبي كثيرًا يا جدي  ،  هو يسمعني جيدًا ويعلم ما يحزنني ولا يفعله  ،  تعلم أنني أحبك أيضًا ولكنك دومًا تستجوبني وهذا يحزنني كأنني أخفي عنك شيئًا  . 


تجهمت ملامحه وبدا الانزعاج جليًّا عليه ليجيبه باستنكار  : 


- أنا  !  بالطبع لا يا صغير  ،  أنا فقط أشعر بالقلق حيالك لذا يجب علي أن أؤمنك جيدًا فأنت حفيد وليام ارتوا وليس أي فتىً عاديًا يجب أن تعلم ذلك  . 


باغته ثائر بنظرة ثاقبة وأردف بثبات مع ابتسامة باردة يظهرهما حينما يتعلق الأمر بطفله  : 


- حماية ابني مسؤولية على عاتقي سيد وليام  ،  لا تقلق حيال ذلك  . 


- كيف حمايته على عاتقك وأنت متورط مع أعدائك ثائر  ؟  سمعت أن هناك من يتربص لك ولكتاباتك المثيرة  ،  ماذا إن حاول الانتقام منك في معاذ  ؟ 


نبرته كانت مستفزة جعلت ثائر يتقلب بين الغضب والصمت لتأتي مارتينا من الأعلى وتردف بتوبيخ خاص بوالدها بعدما سمعت ما قاله له  : 


- ماذا أبي هل دعوته على العشاء لتسد شهيته  ؟  أنت تعلم جيدًا أن ثائر لن يسمح لأي أحدٍ أن يمس معاذ بسوء دعه وشأنه  . 


انحنت على ثائر تقبله من وجنته وسحبت مقعدًا مجاورًا له وجلست تستطرد بابتسامات توزعها على الجانبين ونظرات ذات مغزى  :  


- لا تفسد هذه اللحظة أبي  ،  أنا ومعاذ نحب أن نراكما في تصالح دائم  ،  ليتك تثق في ثائر وتتخذه ابنًا لك  ،  هو يستحق ذلك  . 


نطقتها وهي تتفرس ملامح ثائر القريبة منها حتى استقرت عند شفتيه تتخيل تقبيلهما ليزفر ثائر وينظر نحو ابنه مبتسمًا بينما أردف وليام يغيظٍ مكظوم وبنبرة ساخرة   : 


- لو اعتبرته ابنًا لي إذا حينها لا يجب أن تطالبي بالعودة له  ، حينها ستكونان أشقاء  . 


أردف ثائر بثقل ونبرة ملطفة حينما لاحظ الأجواء تحتد  : 


- أوه أنا ومارتينا أشقاء  ؟  هذا مزعج جدًا  . 


ضحكت عاليًا ودنت منه تهمس بجرأة عند أذنه  : 


- نعم مزعج جدًا ثائر  ،  كيف لك أن تكون شقيقي وأنا أشتهي تقبيلك الآن  . 


ابتعد قليلًا ولم يجبها بينما علق وليام ساخرًا على وضع ابنته  : 


- هيا تناولي طعامكِ مارتينا  ،  الوضع أصبح مملًا  . 


زفرت بضيق وبدأت تتناول طعامها وجلس ثائر يأكل ويولي اهتمامه إلى ابنه وعقله منشغلٌ بحديث وليام عن أعدائه  . 


❈-❈-❈


جلست ليلًا في ركنها الهادئ تحمل بين يدها كتابه بعدما قررت فصل شخصيته عن كتبه  ،  ستتعامل مع كلماته فقط بعدما راق لها بحره . 


زفرت بقوة ثم تحسست الكتاب بيدها وفتحته تقرأ مقدمته حيث دوّن في الصفحة الأولى  : 


- أعيدي كتابي إلى ركنهِ إذا  .. 

*أتيتِ من أسفل حطام انتقاده لكِ  . 

*اكتشفتِ خيانته وتسعين لاستعادته  . 

*أَحَبّكِ في السراء وسخر منكِ في الضراء  . 

*يوهمكِ دومًا بأنكِ سبب نرجسيته  . 

أعيديه وإلا ستتألمين  . 


وقفت بعقلها أمام تحذيراته لها  ، كأنه وصل لأعمق مستوى داخل مشاعرها لتبتسم بسخرية مؤلمة  . 


يحذرها بألا تقرأ كتابه وإلا ستتألم  !  يبدو أنها وقعت معاهدة سلامٍ مع الألم برغم أنه عدوها اللدود لذا مدت يدها تقلب هذه الصفحة وتقرأ التالية حيث كُتب  : 


- قبل التعمق في القراءة واستكشاف داخلكِ ونقاط متعتكِ يجب أن تدركي أنكِ لا تشبهين الرجل عزيزتي  ،  الذكر لا تؤثر على متطلباته الجنسية أي تأثيرات نفسية فيمكنه بسهولة دفن زوجته نهارًا وإقامة علاقة مع أخرى ليلًا  . 


أما أنتِ  .. يكفيكي فخرًا بأن الله أعطاكِ عطلة شهرية لأنه أفضل من يعلم دواخلكِ  ،  لا يمكننا قطع الحبل المتصل بين نفسيتكِ ومتعتكِ الجسدية وإلا  ...  أصبح الحبل مشنقة  . 


ابتلت الورقة بدموعها التي سقطت على كلماته  ،  كان محقًا حينما نصحها ألا تقرأ  ،  كان محقًا حينما أخبرها أنها ستتألم  . 


إن كانت بداية الكتاب آلمت روحها هكذا فماذا إن تعمقت فيه لذا أغلقته  ،  كاذبة إن قالت أنها والألم باتا صديقين  ،  هما عدوان للأبد  .


❈-❈-❈


بعد مرور عدة أيام . 


لم تعد تحتمل الصبر أكثر من ذلك ، لقد مر وقتًا طويلًا وإلى الآن لم تصل إلى هدفها ... لذا. 


تهيأت وتجملت واتجهت لتراه في محل عمله ، اليوم ستحسم أمرهما وترى هل سيتزوجها أم سيتزوجها فلا يوجد لديه خيارًا آخر . 


وصلت إلى المحل ودلفت تباغته بنظرة معاتبة ومتلاعبة في آنٍ وهي تتقدم منه حتى وقفت أمامه وبنبرة يشوبها الحزن والبكاء الماكر قالت : 


- أنا جاية النهاردة ومش ناوية أمشي غير وانت مرسيني على بر ، ولا انت كنت بتلعب بيا ؟ 


التفت ينظر حوله يتأكد من العمال الذين يعلمون بالأمر من البداية ولكنهم يلتزمون الصمت خوفًا من قطع رزقهم ، ليقف يخطو نحوها ويقبض على ذراعها يجلسها بنظرة تحذيرية وبنبرة مهيمنة ينفش شخصيته بها قال وهو ينحني نحوها : 


- قلتلك بلاش تيجي هنا وأنا اللي هجيلك ، وبعدين إيه بلعب بيكِ والكلام الأهبل ده ؟ شيفاني عيل قدامك ؟ 


اقتربت منه وتغنجت في حركتها ونبرتها تجيبه : 


- فشر ، دانت سيد الرجالة كلهم ، بس إنت سايبني لعقلي يودي ويجيب ومش مرسيني على بر وانت عارف إني بحبك ومابقتش اقدر ابعد عنك ، فكرك يعني سهل عليا احب واتعلق بواحد متجوز وعنده عيلين ؟ بس اعمل إيه في قلبي اللي اتعلق بيك أول ما شافك . 


كطفلٍ صغيرٍ أبله استقطبته ساحرة بتفاحتها المسموسة وكم كان محرومًا لتذوقها كأنه مل من تناول الشهد لذا ... جلس في المقعد المقابل لها ومد يده يمسك بكفيها وينحني عليها مجيبًا بنبرة مأخوذة بما قالته : 


- طب اهدي بس وانا هعملك اللي انتِ عايزاه ، أنا بس بدور على شقة كدة تكون على قدنا واضبطها ونتجوز . 


نزعت يدها من يده وطالعته بتعجب تستطرد : 


- بتدور على شقة ؟ ليه إن شاء الله مانت عندك البيت كذا دور ؟ 


توترت نظرته قلقًا حينما تذكر ديما ليتحمحم مسترسلًا بتوضيح : 


- أيوة بس مراتي والعيال وكدة ، مش عايزهم يعرفوا ، أنا مش ناقص دوشة . 


اعتدلت وتجهمت ملامحها وصاحت باستنكار : 


- يعني إيه الكلام ده يا كمال ؟ لتكون ناوي تتجوزني في السر ياخويا ؟ لا يا حبيبي إنت لا بتعمل حاجة عيب ولا حرام ده جواز على سنة الله ورسوله وحقك ، مش إنت بردو قلتلي إنها مش بتديلك حقوقك ومقصرة معاك ؟ 


ابتلع لعابه وعاد ينظر حوله ثم استقر عليها يردف بنبرة راجية : 


- وطي صوتك العمال حوالينا اللاه ، واهدي كدة واصبري لما اشوف هعمل إيه؟ وبعدين بلاش تيجي هنا تاني أنا مابحبش الأسلوب ده . 


عادت تقترب منه ورفعت كفها تربت على صدره مسترسلة بهمس وغنج : 


- حاضر ، إنت تؤمر يا كمولتي ولما أشوف هتعمل إيه علشاني ، أنا هستنى منك خبر قريب . 


نهضت بعدها تطالعه بعيون يتلألأ فيها المكر واستطردت قبل أن تغادر : 


- يالا سلام . 


غادرت من حيث أتت وجلس يتابعها حتى اختفت ليطلق سراح أنفاسه ويملس على صدره باستمتاع كأنه تناول وجبة دسمة لتوه ، يشتهيها بكلماتها وحركاتها وطريقتها التي تناسبه كما لو كانت فُصّلت على قياسه . 


❈-❈-❈


تفعل المستحيل لتعود زوجته من جديد ، بحثت ونقبت عن جميع الخطط والألاعيب التي يمكنها استعادته بها وجميعها باءت بالفشل معه ، حتى ابنهما استغلته ولكن خاب ظنها . 


هي لا تستطيع فعل شيء سوى معاقبة كل من تقترب منه ، إذا كان اختار البعد عنها فليبتعد عن أي أنثى تمشي على هذه الأرض وإلا رأى الجنون على أصوله . 


ولكنها تتآكل كلما استعادت ذكرياتها معه ، أسلوبه وغموضه وشخصيته ، لمساته لها ، أحيانًا تصبح على وشك الانفجار اشتياقًا له ولذا .. ها هي تقرر اللعب على أوتار شخصيته ولتستمتع قليلًا معه فلم تعد تجد سبيلًا آخرًا للوصول إليه . 


تناولت الكأس الذي لم تعد تعلم عدده وجلست بين الجميع تتمايل وتغني بصخب لا يضاهي صخب المكان من حولها . 


ترتدي فستانًا التصق بجسدها فباتت تشبه الحية إلى حدٍ كبير خاصة بنقوشه التي تشبه جلد الثعبان ، أحمر شفاهها القاني التصق بالكأس الذي تجرعته دفعة واحدة لذا ارتعشت وانكمشت ملامحها ثم وضعت الكأس على الطاولة واقتربت من النادل تناوله هاتفها قائلة بنبرة مهتزة مترنحة : 


- خذ هذا وهاتف زوجي أخبره أن يأتي ليصطحبني فأنا على وشك السقوط . 


نهضت بعدها تترنح وتخطو نحو حلبة الرقص بين الرجال والنساء ثم خلعت نعليها وبدأت تتمايل على أنغام الموسيقى باستمتاع وتنتظر مجيئه وتعلم جيدًا أنه سيعاقبها وهذا ما تسعى له . 


وبالفعل هاتف النادل ثائر الذي كان يجلس مع شخصٍ ما في مكانٍ ما فأجابها متسائلًا بترقب : 


- ماذا هناك مارتينا ؟ 


- سيدي هل يمكن أن تأتي إلى ملهى المدينة ؟ زوجتك هنا وهي ليست في حالة جيدة. 


اغمض عينيه يزفر ويدرك جيدًا إلام تسعى ليجيبه بجمود : 


- حسنًا أنا قادم . 


❈-❈-❈


كمبنى هدمت أعمدته الداخلية ولم يتبقَ سوى الهيكل الخارجي الذي يأبى الاستسلام . 


دلف منزله يفكر باستمرار منذ أن زارته ديما ، يبحث عن سببٍ لفعلته القادمة ، باستطاعته أن يستل من الشرع ما يساعده ولكنه يسعى للبحث عن اتهامٍ لها وكأن فعلته نتيجة تصرفاتها . 


كالعادة المنزل هادئ ، صغيراه ناما مبكرًا والسكون يعم الأرجاء ، سكون دومًا ما أجبرها عليه ولكنه الآن يستنفره ، يشعره بالكآبة ، حتى هذه الرائحة العطرة التي تفوح من أركان البيت تخنقه وكأن عقله تهيأ لاستقبال حياة جديدة . 


بحث عنها في ركنها المعتاد فلم يجدها لذا تحرك نحو غرفته ليراها فلم يرها لذا زفر وارتد على الفراش يفكر مجددًا ويبحث في كومة عقله عن سببٍ مقنعٍ ليناوله شيطانه ما يريد . 


كانت في الحمام تنظر لساقيها اللتان امتلأتا ببقع الدماء المتجلطة ، حزينة على نفسها ولكنها راضية ، صابرة ومحتسبة ، يكفيها أن صغيريها بخير وصحة جيدة وحياة كريمة . 


أنزلت قميصها الأبيض الدانتيل المكون من عدة طبقات ثم نظرت لوجهها في المرآة المعلقة تتمعن النظر في ملامحها الجميلة ، تحتفظ برونقها ولكن عينينها تحملان حزنًا مضاعفًا برغم ابتساماتها التي توزعها جيئةً ورواحًا . 


غسلت وجهها وجففته ثم تحركت نحو الخارج لتستمع لصوت هاتفه يتصفحه لذا تنفست بقوة وتحركت نحو غرفتها . 


دلفت تبتسم له قائلة بنبرة هادئة : 


- حمدالله ع السلامة ، احضرلك العشا ؟ 


لم يجبها بل ظل يتابع الفيديو عبر الهاتف فتنفست بقوة لتسيطر على ضيقها وقررت البوح ببعضٍ مما تشعر به فلن تنتظر حتى تصاب بجلطة رسمية لذا استرسلت بنبرة محتدة : 


- كمال أنا بكلمك . 


أبعد الهاتف يزفر بضيق ويطالعها مجيبًا : 


- عايزة إيه ؟ 


- مش عايزة حاجة ، بسألك لو هتتعشى . 


اعتدل في جلسته يحدجها بعيون التمعت فيهما القسوة وبدأ يلقي سهامه نحوها مسترسلًا : 


- مش عايز منك حاجة ، مش إنتِ عايزاني ابعد عنك ومش طايقاني وكل ما اقرب منك تطلعيلي بحجة شكل ؟ خلاص ابعدي عني بقى . 


كيف لها أن توضح لشخصٍ مثله ما تشعر به  ؟ كيف لها أن تقعنه أن أفعاله هي التي تعيقها عنه . 


لقد جفت ينابيع حبها وودها وصبرها ، جفت وتصحرت ولن تروي عطشه بقطرة حب بعد ذلك . 


زفرت وحاولت تدريب نفسها على ما قرأته في كتاب علم النفس الذي ابتاعته وقررت التحدث إليه لذا أردفت معبرة بتروٍ تحاول تجاهل ما علمته عن شخصيته النرجسية علها تصل معه إلى حلٍ يمكنه مساعدتها على التأقلم : 


- أنا غيرك يا كمال  ، وحـاول تركز كويس في كلامي وماتعملش زي كل مرة وتقلب عليا الترابيزة  وتطلعني أنا الغلط  ، مشاعري غير مشاعرك ، أنا محتاجة أحس إنك بتحبني ومراعي مشاعري ومهتم بيا ، أنا مش بشوف منك أي حاجة تدل على كدة وغصب عني بحس إني مش قادرة اتعامل في حقوقك الشرعية ، كل ما أحاول اتعامل مع الموضوع على إنه حق وواجب بحس إني مش قادرة  ، إنت حاطط حاجز بيني وبينك بمعاملتك ونقدك كل شوية واتهامك ليا بكل صغيرة وكبيرة بتحصل  ، فيه سد انت بنيته باستهتارك بأي حاجة بعملها وده على مدار سنيني معاك ، كل مرة كنت بحاول أوصل معاك لحل بتتهمني إني مملة ومدية المواضيع فوق حجمها لدرجة انك خلتني أشوفك بتمسح دموع واحدة تانية غيري وقلت لنفسي عادي بلاش تدي الموضوع فوق حجمه  ، إنت وصلتني لطريق مسدود في علاقتنا  ، غصب عني وانت السبب . 


كأنها نبشت عش الدبابير وقد كان ينتظرها لتنبشه ، بكل ما أوتي من غضبٍ هاجمها بكلماته المسمومة وهو ينهض يتجه نحو خزانة ملابسها ويفتحها ويصيح : 


- أنا السبب ؟ أنا راجل ماعنديش دم ، أنا مش بعرف اتعامل مع ستات . 


كان يتحدث وهو يلقي بملابسها الخاصة التي اشتراها لها أرضًا ليثبت لها أنه فعل ما بوسعه لها وظل يتابع : 


- أنا راجل ناقص مابفهمش ، مشاعرك ومشاعري إيـــــــــــه ؟ دانا ماخلتش هدوم وبرفانات وهدايا غير لما جبت ، دانا مافيش راجل في الدنيا كلها زيي ، وفي الآخر أنا السبب ؟ 


لطم الخزانة بعنفٍ واتجه نحو مرآة الزينة يلقي من فوقها العطور وأدوات التجميل التي ابتاعها لها ويسترسل بأسهمٍ حادة استهدفت روحها : 


- إنتِ اللي ست ناقمة ، بتتبتري ع العيشة اللي مافيش حد زيك عايشها ، دانتِ واهلك تحمدوا ربنا إني اتجوزتك ، دا أبوكي زهق منكوا ورماكوا وأنا اللي علمتك يعني إيه لبس وهدايا ، لاء فوقي . 


نطق الأخيرة وهو يرطم آخر زجاجة عطر في مرآة الزينة فتهشمت كما تهشم خاطرها ووقفت بين الفوضى وكلماته عاجزة عن الحركة ، دموعها أتت خوفًا عليها من الكتمان ، أتت لتعبر عن وجعٍ مقيدٍ فانهمرت من عينيها أمامه وباتت كلمة الطلاق على طرف لسانها تتأرجح ليمنعها من قولها صغيرها الذي استيقظ على صوت التكسير وصراخه وأسرع نحوها وحينما رأى هذه الفوضى استقرت عينيه على والدته التي لأول مرة لم تفتح ذراعيها لتستقبله وتطمئنه بل وقفت عاجزة تشتكي عجزها له لذا قرر تولي الأمر عنها وباغت والده بنظرة كريهة ليتحدث بجرأة تملكت منه لأول مرة : 


- ماتزعلش ماما ، ابعد عنها . 


خمدت نيرانه بعدما عمت الفوضى ووقف ينظر نحو ابنه بغيرة من حبه لأمه ولولا أنه اعتاد ألا يضربهم لكان تلقى منه ما يستحقه لذا اندفع يمر ويغادر الغرفة بل والشقة بأكملها وصعد لشقته العلوية تاركًا خلفه ابنه يحمل على عاتقه مسؤولية التخفيف عن والدته حيث اتجه نحوها وعانق خصرها يردف بحنان : 


- ماتزعليش يا ماما ، أنا هشيل الحاجات اللي كسرها ، اقعدي إنتِ . 


ولكنها هي التي انكسرت أيها الصغير ، هي التي تفككت إلى قطعٍ يصعب جمعها مجددًا لذا وقبل أن تتراجع فيما طرأ على عقلها ، ربتت على كتفه ثم تحدثت بنبرة تحمل قوةً وضعفًا : 


- مالك روح صحي اختك يالا علشان هنروح عند تيتا . 


ابتعد يطالعها وتجلت الفرحة في عينيه متسائلًا : 


- هنروح دلوقتي ؟ 


أومأت له ليتساءل بخوف : 


- طب وبابا ؟ 


زفرت بقوة وأردفت : 


- روح بس يالا صحيها وماتخافش . 


أومأ لها وأسرع الخطى عائدًا إلى غرفته كي يوقظ شقيقته بينما هي اتجهت تحضر حقيبة وتجمع بها أغراضهم لتغادر ولترى ماذا هي بفاعلة 

الفصل الثامن من هنا

تعليقات



×