رواية دموع شيطانة الفصل السادس6 بقلم چنا ابراهيم


 رواية دموع شيطانة الفصل السادس بقلم چنا ابراهيم


"الكراهية سهم مسموم أطلقتَه من قوس قلبك صوبي. لِمَ اخترتنِي غايةً؟ لِمَ لم أستطع دَفْعَ أسهمك؟ أم كنتُ مجردَ قطعة شطرنجٍ تتحرك بها كيف شئتَ؟ أين العدلُ فيما جرى؟ أريدُ أن أعرف لِمَ؟ ولكن هل سأجدُ جوابًا؟ كيف سمحتَ لنفسك أن تستأصلني من جذوري؟ لِمَ لم أضع حداً لمعاناتي بيدي؟ من أنا لك؟ وماذا أكون في قلبك؟ إن كان الموتُ مصيري، فاقتلني ببطء."



وفي النهاية أتمنى لكم قراءة طيبة.

❀❀❀

عندما يضيع الإنسان في متاهاته الذهنية، ويصبح غريباً على نفسه، ويحدق في جدران غرفته بعيون فارغة لا تستعيد أي ذكرى من الماضي، حينها يدرك أن حياته قد دمرت.

ويقول لنفسه بغضب: أين كنت عندما كنت أتلاشى حتى لم يبقَ مني شيء؟ كيف سمحت لنفسي بأن أصبح هكذا؟

على الرغم من الفراغ المتزايد في صدري، وعلى الرغم من أن البعد عن ذكرياتي وماضيي وعالمي الداخلي الذي يجعلني أنا قد شلَّ حواسي، إلا أنني كنت أسقط في مستنقع من الفوضى العاطفية التي لا توصف. كنت لا أعرف ما يجب أن أشعر به، وهذه كانت المشكلة الحقيقية؛ فالشعور لا يُحاكم، بل يُشعر به ويُعبَّر عنه كرد فعل، ولكنني لم أعد أشعر بأي شيء تلقائيًا. كنت أضطر إلى التوقف والتفكير فيما يجب أن أشعر به، وأزن كل حدث وكل كلمة وكل فعل ارتكب ضدّي في ذهني، ثم أتبنى الشعور الذي أعتقد أنه الأنسب، وأحاول التكيف معه. لقد أصبحت معطوبة، وكأن جسدي وعقلي ومشاعري قد فقدت وظائفها ولم تعد قادرة على القيام بأي شيء من تلقاء نفسها. كنت مثل لعبة كهربائية تسربت إليها المياه، وانقطعت دوائرها، وكل ما أفعله هو الاهتزاز وإصدار الأصوات، ولكن دون أن أتمكن من تغيير أي شيء.

بقيتُ في الغرفة منذ الصباح، وحيدة، ملتفة حول نفسي على السرير، أتأمل قطرات المطر التي تضرب النافذة بتثاقل. ونمت بضع ساعات مع صوت المطر الذي اشتدّ تدريجياً مع ظلام السماء.

رأيتُ حلماً.

أو بالأحرى، كابوساً.

أتذكر أنني كنت أسير في مكان يشبه لوحة مائية باهتة، بين ضربات فرشاة عشوائية. كان صوت المطر الذي يضرب الأرض بعيداً جداً الآن. بينما كان صليل الريح القادم من أعماق الغابة، والذي يلعب بالعقل، لطيفاً كالموسيقى ولكنه بلا إيقاع، يتجول بين الأوراق والفروع والأعشاب، ويقترب برشاقة من المنزل، ويدخل من النافذة المفتوحة، ويرفع الستائر مثل عباءة محارب على ظهر جواد.

وأنا بطل هذا الفيلم المرعب، أسير عبر الغرف المشوهة، وأشعر بأن الألوان على الأرضيات الخشبية تلتصق بباطن قدمي العارية، لكنني أستطيع رغم تشوهها التعرف على الممرات المألوفة.

هناك باب، وأصابعي تمتد إلى المقبض، ويفتح الباب بصوت صرير ليُكشف عن غرفة مظلمة لدرجة أنني لا أستطيع رؤية شيء تقريباً، سوى ما يضيئه الضوء القادم من الممر والذي ينعكس عني خلفاً ليرمي بي ظلاً ضخماً كظل وحش على الأرض.

هناك مكتبة، وأنا أعرف تماماً أي كتاب سآخذه من بين كل تلك الكتب؛ غلاف أخضر داكن من ورق سميك، وصفحات صفراء قديمة وثقيلة. أفتح الكتاب، وظهرى متجه نحو الظلام، ولا أفهم ما هو مكتوب فيه. وكأن شخصاً ما كتب حروفاً عشوائية، أو بالأحرى، ليسوا حروفاً بل فوضى، لغز.

يشوش رأسي كل هذا، وأريد أن أخرج قليلاً إلى النور معتقداً أن كل هذا مجرد لعبة ظلال، ولكن ظلًا آخر يرتفع من الممر، ويمتد طويلاً على طول الممر ويغرق كل ما يمر به في الظلام. أغلق الغطاء بقوة شديدة لدرجة أن الغبار يتطاير من بين الصفحات. وأنا أنتظر بقلق هجوماً من الباب، وخطواتي تتراجع تلقائياً، ولكن الهجوم الذي أ انتظره لا يأتي من الخارج، من جهة النور، بل من خلفي، من الظلام الذي يتسلق كتفي.

يشلني ثقل، وأذناي تصفرا، وأرتجف كأنني مصابة بحمى شديدة، وأشعر بأصابع ملتفة كالأفعى تتسلّق ظهري بدءاً من أسفل، ثم تلتف حول رقبتي. أحسّ بوجود شيء ما على كتفي، ولكنني لا أستطيع أن أدير رأسي، وقدمي عالقة في مكانها، وأنا في حالة من الذهول لا أستطيع حتى أن أرمش.

يبدأ صوت بالتكلم، وينطق بكلمات غريبة تردد في ذهني بصوت خافت.

"გრძნობთ სინანულს?''
"هل تشعري بالندم؟"

لا أفهم، ورأسي يدور وأنا أشعر بالذعر لدرجة أن قلبي سينفجر، وجسدي مشدود. ماذا يقول؟ هل هي مجرد همهمات لا معنى لها أم أنني أخطئ في السماع؟ أريد أن يكررها، أريد أن أستمع بعناية أكبر هذه المرة، ولكنني أفتح عيني فجأة وانا أتصبب بالعرق وأترك ذلك العالم خلفي.

ما كان ذلك؟

كنت ألهث بشدة وأنا أستقيم من الفراش، واستغرقت بضع دقائق طويلة حتى أتمكن من الهدوء والتأكد من أنني لم أعد في تلك الكابوس. على الرغم من أن الأمر بدا وكأنه مجرد كابوس بسيط، إلا أن تلك الأجواء، وتلك المشاعر، والكلمات التي تمتمت في أذني ولم أستطع تمييزها، كلها تركت أثراً عميقاً في جسدي وأشعرني بقشعريرة.

نهضت فوراً من الفراش، لا أدري كم ساعة كنت أنام، لكن الخارج كان مظلماً تماماً، وكانت قطرات المطر تدق على النافذة، ولم يكن هناك صوت. لم أرغب في البقاء بمفردي هنا، فقد شعرت بأن الفراش سيجذبني مرة أخرى إلى نفس الكابوس، لذلك أردت النزول والانضمام إلى الآخرين، وتركت الغرفة.

كان الممر مظلماً، لكن ضوء الموقد في الطابق السفلي كان ينعكس على درجات السلم، كنت سأتبعه وأنتقل إلى الجانب المضيء، لكن في تلك اللحظة، في تلك الثانية، توقفت قدمي تلقائياً عن اتخاذ خطوة أخرى في الممر. لم ألحظ ذلك بسبب خوفي من الكابوس، لكن الممر الذي رأيته هناك يشبه الممر هنا. كان نسخة أكثر سريالية ومضادة للمثل الأعلى، وكأنه مشهد من فيلم لـتيم بيرتون، ولكن عندما وقفت في بداية الممر، ظننت مرة أخرى أنني في بداية الكابوس.

كنت أتقدم في الكابوس، وألتفت إلى اليمين، الغرفة المغلقة، حسناً، كنت أعرف منذ البداية أن هناك شيئاً مهماً هناك، لكن كتاباً؟ كنت أتخيل هذا المكان كمكان مليء بالأشياء المشوهة المستوحاة من الخيال الجنسي، وأساليب التعذيب الوحشية، حيث يسود الخوف والرعب، وكنت أضع في ذهني أكثر السيناريوهات إزعاجاً يمكن تخيلها، لكنني لم أفكر أبداً في وجود كتاب هناك.

كان هذا كتاباً أضاءه اللاوعي في تلك الغرفة المظلمة تماماً، وجعله هو وحده واضحاً لي، وكأنه حجب كل شيء آخر عني. لا يمكنني أن أدعي أن هذا الأمر ليس مهماً، أو أن هذا الكتاب لا يحمل قيمة حيوية بالنسبة لي، فهذا ليس اعتقاداً باطنياً بل حقيقة نفسية تتعلق بعمق اللاوعي. يبدو أن هذا كان تفصيلاً هاماً عرفته ميرا قبل أن تفقد ذاكرتها، وعقلي يذكرني بذلك، بل يرشدني إليه.

ولكن كيف يمكن لكتاب أن يكون مهماً هكذا؟

ماذا يمكن أن يكون مكتوباً فيه لإنقاذي؟ إنه ليس كتاباً سحرياً في النهاية! أتذكر أنه كان رواية عادية، لم أستطع فقط فهم حروفها، أو ربما بسبب غرابة الحلم لم أتمكن من تمييز الكلمات، لكنه كان رواية بكل معنى الكلمة، بغلافه الورقي وأوراقه الرقيقة. على الرغم من أنني لم أستطع التعرف على الحروف، إلا أن الخط كان طباعيًا، لذلك لا يمكن أن يكون يوميات. إذن، كانت رواية، وكان هناك شيء حيوي مكتوب فيها. شيء يمكن أن يهزم تميم، مهما كان ذلك.

لم أستطع السيطرة على نفسي، ولم يكن هناك صوت يأتي من الأسفل، واثقة من هدوء المكان، اتخذت خطوتي الأولى نحو الظلام، وتبعتها الخطوات الأخرى. في نهاية الممر كانت هناك غرفتان متقابلتان، الغرفة اليمنى كانت مغلقة، وحاولت فتحها مرة أخرى لكن دون جدوى، أما الغرفة اليسرى فكانت لغرفة تميم وكان بابها مغلقاً، لكن بحذر أمسكت بالمقبض وفتحت الباب. كان تميم قد قال إنه لا يريد أبواباً مغلقة في المنزل، وفي الحقيقة لم يكن هناك أي أقفال في أي مكان باستثناء تلك الغرفة الغامضة. كان هذا سيئاً بالطبع، أي عدم وجود قفل على باب تميم يعني أنه ليس لديه ما يخفيه في هذه الغرفة، لكنني دخلت على الرغم من ذلك.

كانت غرفة عادية كما رأيتها من قبل، من الواضح أنه لا يستخدمها إلا للنوم؛ سرير كبير - مرتب بالطبع - وخزانة ملابس وكمودينو صغير. أولويتي كانت الذهاب إلى الخزانة، أردت أن أنظر خلف الأبواب المغلقة وفتحتها. كانت جميع ملابسه إما سوداء أو بيضاء أو زرقاء بحرية؛ تتكون معظمها من قمصان وبناطيل عادية وسترات ليست سميكة جدًا. كان لديه أسلوب بسيط وجذاب ورسمي، حتى في المنزل كان يرتدي ملابس غير رسمية على عكس. كل شيء كان مرتباً للغاية ومكويًا بشكل مفرط.

فتشت كل شيء في الخزانة، الملابس، الأدراج، الجيوب، حتى الملابس الداخلية، لكني لم أجد أي شيء. توجهت إلى سريره، كان هناك طاولة صغيرة منخفضة بجواره، عليها كتب. كانت هناك ثلاثة كتب بالضبط، موضوعة فوق بعضها البعض، لابد أنه كان يقرأها قبل النوم وكان هناك فاصل بين كتاب واحد فقط. أردت أولاً أن ألق نظرة عامة عليها، أخذتها واحدة تلو الأخرى في يدي وبدأت في قراءة أسماء الكتب السميكة:

"نداء كُثولو".

"مصنع الدبور".

"ميريديان الدم".

أدركت ذلك عندما أخذتها وفحصتها، كان هناك بعض الآثار المحروقة على حواف بعضها، آثار بنية داكنة ومحترقة امتدت إلى داخل الكتاب. لم يكن هناك أي تلف كبير في أي منها لكني وجدت الأمر غريبًا. فحصت الأغلفة والأسماء مرة أخرى وحاولت مقارنتها بما رأيته في كابوسي لكنها كانت مختلفة تمامًا، لم أستطع إيجاد أي صلة. ومع ذلك فتحتها وبدأت في تقليب الصفحات بسرعة، وكأنني أنتظر أن يسقط شيء منها، لكن الثلاثة كانت فارغة، كتب عادية.

كنت على وشك إرجاع الكتاب الأخير إلى مكانه بضيق، عندما ظهرت تفصيلة أمام عيني في اللحظة الأخيرة. لقد قمت بمسح الصفحات التي طويتها بسرعة من قبل ببطء، وأدركت أخيرًا أن التفصيلة التي لفتت نظري ليست مجرد وهم. كانت هناك فقرة مسطرة بقلم رصاص في الكتاب.

ميريديان الدم.

هذا كان اسم الكتاب، وليس الكتاب الذي رأيته في كابوسي، لكن شعورًا بالقلق انتشر في قلبي. بدأت في قراءة الفقرة المسطرة بفضول كبير، وكأن كل الأسرار مخبأة هنا:

قال: "الحقيقة حول العالم هي أن كل شيء ممكن. لو لم تر كل شيء منذ الولادة، وبالتالي نزفت من غرابته، لظهر لك كما يظهر لنا؛ خدعة سحرية في عرض، حلم ساخن، حالة من النشوة مليئة بالأوهام التي لا مثيل لها ولا نظير لها، كرنفال متنقل، عرض خيمة متجول بعد العديد من الملاعب الموحلة، هدفه النهائي غير قابل للوصف ويتجاوز الحساب."

خدعة سحرية؟ عرض خيمة؟ ربما بسبب المرض، أو ربما بسبب الغباء ببساطة، لا أعرف، لكن هل من الطبيعي ألا أفهم شيئًا مما قُرئ؟ والأهم من ذلك، لا يبدو أن هذه كتابة مهمة للغاية، فلماذا تم تسطيرها؟ لماذا سطر تميم فقط هذه الفقرة في الكتاب بأكمله؟

أردت أن أقرأها مرة أخرى، ربما كنت متسرعة جدًا وسمحت للألغاز اللغوية بأن تربكني، لكن قبل أن أتمكن من التركيز مرة أخرى، قفزت من مكاني بسبب صوت ارتفع فجأة من خلفي.

"هل تبحثين في أغراضي؟"

كادت لساني أن تلتصق بحدقي، أسقطت الكتاب من يدي باندفاع والتفت إلى تميم الذي كان يقف خلفى وكأنه خرج من فيلم رعب. بما أن الأضواء لم تكن مضاءة وكان المصدر الوحيد للضوء في الداخل هو ضوء القمر الذي يدخل من النافذة، لم أستطع رؤيته بوضوح. كان هذا يثير شعورًا مزعجًا بداخلي، كانت الظلال التي سقطت على ملامح وجهه معاكسة للغاية، وكأنها مشهد من فيلم رعب، مشهد مصمم بعناية.

لقد تم القبض علي، كنت منغمسة جدًا ولم أكن منتبهة، وبدلاً من محاولة إنقاذ الموقف بالأكاذيب، أردت أن أركز على الكتب، أخذت نفسًا عميقًا وكنت سأسأله "هذا الكتاب-" لكنه قاطعني مرة أخرى، وكأنه منزعج من عدم إجابتي على سؤاله، وأصر قائلاً: "هل تبحثين في أغراضي، ميرا؟"

تحركت بارتباك، وتجنبت النظر إليه، وقلت: "لم أستطع النوم"، "رأيت الكتب وأثناء تجوالي أردت أن أنظر إليها."

كان هادئًا، يا ليت الأمر لم يكن كذلك، فهدوءه كان أكثر إزعاجًا. حرك رأسه ببطء ونظر من فوق كتفه إلى الخزانة التي كنت أفتش فيها لتوي، كنت قد نسيت إغلاق بابها. قلت على الفور: "أعجبني ذوقك"، لا أدري لماذا قلت ذلك، ربما كنت مرتبكة، "كنت سآخذ سترة فقط". بالطبع، حتى الكلب لن يصدق هذا، لكن عندما عادت عيناه إلي، لم يبدو غاضبًا، وهذا كان مؤشرًا جيدًا. كان علي الاستفادة من هذا الموقف على الفور، وقبل أن ينتهي الأمر، قلت: "لقد ارتبكت"، وأخذت الكتاب الذي أسقطته للتو. ميريديان الدم. وتهت بالكلمات التي قرأتها قبل مجيئه: "أرقام السحر، وعروض الخيام، والعروض الطبية..."

أقسم لكم أنه ينظر إلى وجهي وإلى أعماق عيناي بطريقة غريبة... أو بالأحرى، لا أنظر بل يغوس، فإنه يستحوذ علي؛ إنها نوع من الصراع الداخلي بيننا، أشعر فيه أنني الخاسرة، وأنني سأقع في قبضته، وأنني سأكون الضحية. وهو ينظر إلى وجهي بطريقة مختلفة تمامًا عن نظراته إلى عيناي، فهو لا ينظر إلي بنفس المعنى ولا بنفس المشاعر أبدًا. عندما ينظر إلى وجهي، يبدو وكأنه يحاول التعرف علي فقط. وكأنه التقى بي للتو ولا يعرف كيف أبدو، ويريد الآن حفظه ملامحي، ينظر إلي طويلاً وبدقة، وكأنه غريب، بعيد عني كالغريب، لكن عينيه تتألق بشغف يجعله يبدو قريبًا جدًا مني.

أما عندما ينظر إلى عيناي، فينظر إليهما بمعنى أعمق وأكثر ألفة، وكأنه يغرق في ذكريات الماضي التي لا أتذكرها والتي لم ينسها أبدًا.

كان يفعل ذلك بإتقان، أليس كذلك؟ لم يشعر بي بأي تعاطف.

أخيرًا، انقطع عن تحديقي في وجهي، وكأنه يحاول تذكر من أنا، وركزت عيناه على الكتاب الذي بيدي. قال ببطء وبصوت هادئ ومريح، وكأنه يقرأ كتابًا في ليلة مطيرة بجانب مدفأة دافئة: "العروض الطبية، كانت عروضًا متنقلة تجوب البلاد لبيع الأدوية المعجزة قديماً."

"ثم ماذا؟"

أجاب وهو يتابع رد فعلي باهتمام: "يقارن الكاتب العالم بعرض متجول، ويزعم أن "النظام الإبداعي" الذي تراه هو مجرد خدعة سحرية رخيصة تخفي فوضى كوننا اللانهائي والمتنوع."

تخيلت الفقرة في ذهني وتهتأت: "خدعة سحرية"، همهمت لنفسي.

قال: "نعم، أي أنه يقول أن كل شيء وهم، مجرد وهم بصري."

تجنبت النظر إليه ورفعت رأسي، ربما بدا عليّ التردد، فقلت متظاهرة باللامبالاة: "لقد قمت بوضع علامة هنا."

ساد الصمت للحظة، وكانت عيناه تراقبانني بنظرة ثابتة كالفولاذ. قال: "لم أكن أنا من وضع العلامة"، ورفعت حاجبي تلقائيًا. أضاف: "أنتِ من وضعتها، يا ميرا."

نظرت إليه للحظة بدهشة وتساؤل، ثم التفت إلى الكتب الموجودة على الكمودينو. لم أكن أعرف ماذا أقول، فما الفرق إذا كانت هذه الكتب لي؟ لكن الأمر تغير بطريقة ما، ولم أجد الكلمات المناسبة للتعبير عن ذلك، واعترفت بأنني ضللت في خضم تلك الفقرات، فقلت: "لم أفهم شيئًا."

لم أكن متأكدة مما إذا كان ذلك مجرد وهم أم حقيقة، لكني لاحظت ابتسامة خفيفة على شفتيه. قال: "إنه كتابك المفضل، ميرا، كتاب ميريديان الدم." ترددت، وحاولت استخلاص معنى من كلامه، لكن ذهني كان فارغًا، وتذكرت فقط أنه يعرف عني أكثر مما أعرف عن نفسي، فشعرت بالقلق وتحركت بضيق.

كتابي المفضل... ميريديان الدم. عندما نظرت إلى الكتب مرة أخرى، تذكرت أولاً أنها كانت محروقة. "لماذا... هي محترقه؟"

قال ببساطة شديدة: "لقد أحرقت منزلك"، وأضاف: "كان لديكِ مكتبة كبيرة، أحضرت بعض الكتب التي لم تحترق إلى هنا بعد ذلك."

على الرغم من أنه قال ذلك ببساطة، إلا أنني صُدمت بكلامه. قلت له مباشرة: "انتظر، هل تقصد أنك أحرقت منزلي؟"

هز كتفيه وقال: "لتدمير الأدلة."

شعرت بالذهول، ولم أستطع حتى الغضب منه، وتراجعت خطوة إلى الخلف دون أن أشعر. ربما كنت أفعل ذلك للابتعاد عنه، وكأنني أعتقد أنني سأحمي نفسي من الخطر الذي يشكله إذا ابتعدت عنه، لكنها كانت محاولة بائسة. وكررت كلماته لنفسي: "أحرقت منزلك."

ابتسم ابتسامة جانبية وقال: "استغرق الأمر ثلاث فرق إطفاء لإخماد الحريق"، بدا سعيدًا برد فعلي، وكان هناك بالتأكيد جانب سادي في ذلك.

"أحرقت... منزلك..."

تحرك وأمال رأسه إلى جانب واحد على كتفيه العريضتين. قال بصوت هادئ: "لم تتفاعلي بهذه الطريقة عندما قتلت والديك." رفعت عيني إليه بصدمة، وشعرت برغبة شديدة في ضربه، لكني تمالكت نفسي و قبضت على يدي.

حاولت إخفاء دموعي فحرفت النظر وقلت: "إذاً، أنا لست أفتش في أغراضك." ثم أضفت: "إنها أغراضي بالفعل."

ظهرت على وجهه ابتسامة خبيثة، وقال: "كل ما يخصك يخصني أيضًا." أصر على النظر إلى عيني، لكنني تجنبت ذلك.

سألته: "هل يمكنني أخذ الكتاب؟ أريد قراءته."

لاحظت تغيرًا في تعابيره، وأغبض عينيه قليلاً. قال: "خذيه، أتساءل إن كنتِ ستحبينه."

أثار هذا الأمر فضولي، فقد قال إنه كتابي المفضل، وأنا لم أختبر أي شيء مفضل في حياتي لأنني ولدت حديثًا، فشعرت بمزيج من المشاعر. تساءلت: "هل ما كنت أحبه في الماضي أحبه الآن؟ هل ما زلت أتصرف بنفس الطريقة؟"

مرة أخرى ألقى عليّ تلك النظرة، نظرة طويلة ودقيقة على وجهي، كأنه يحاول التعرف عليّ، تذكّري، وكأنه غريب ولكنه ليس كذلك تمامًا. قال "لا"، ولم يقلها على عجل، بل بدا وكأنه فكر حقًا في هذا الجواب، وكأنه هو نفسه تفاجأ به. قال "أنتِ مختلفة".

سألتُ "ما الذي في هذا الكتاب؟" لماذا ينظر إليّ هكذا؟

قال "لا شيء".

قلت "إذن؟"

قال "تستهينين باللاشيء".

كنت أغضب بالطبع من إخفاء كل شيء بهذه الطريقة السرية، علاوة على وقوفه أمامي، مجرد وجوده كان كافيًا. حذرته قائلة "هذه الأشياء لا تفيدني، أردت أن أعرف".

ارتفع حاجبه الواحد تأثرًا بالفضول. قال "ما هي هذه الأشياء؟"

قلت "محاولات التخويف"، بثقة زائدة عن اللزوم لسبب ما.

بدا وكأن كلامي أسعده، وسأل "هل تعتقدين أنني أحاول تخويفك؟"

قلت "نعم".

اقترب خطوة أخرى نحوي، ولم أتراجع هذه المرة. ظهر تعبير استفساري على وجهه، وقال "هل تعتقدين لو أردت تخويفك لوقفتِ أمامي هكذا؟" أثار هذا الشعورًا غريبًا بداخلي. قال "هل كنتِ لتتمكنين من الوقوف أمامي بهذه الهدوء، دون أن ترتعش ركبتيكِ، ودون أن تتلعثمي، ودون أن يغمى عليكِ؟"

لم أكن متأكدة مما إذا كانت هناك مسافة بين وجهينا بعد الخطوة الأخيرة التي اتخذها نحوي بينما كنت أحاول جاهدًا عدم فقدان هدوئي، كنت أحبس أنفاسي فقط، كنت أنتظر انتهاء هذه المعركة والرحيل، لكني أيضاً لم أكن أريد أن أكون أول من يهرب. "ما الذي يمكنك خسارته أكثر؟" تمنحني شجاعة حمقاء من ناحية، وفي الوقت نفسه تحولني إلى جبانة أكثر مما أنا عليه بالفعل "هل ستخسر؟"، لذلك أعتقد أنني أردت إثبات لنفسي أنني أستطيع الوقوف بثبات ولو قليلاً.

آه ... كان يعرف جيدًا ما يدور في ذهني، كان هناك كما لو أن لديه ملاحظات لا واعية بين يديه؛ عندما كان يتجول بعينيه بين السطور، كان ينظر بنفس الطريقة الطويلة، ويبتسم كصياد شم رائحة الخوف، وكان يحولني إلى لعبة بوقاحة معرفته بأسرارى.

ثم رفع يده، وتابعت أصابعه متجه. مسافة خطيرة جدًا، مادة قابلة للاشتعال خطيرة جدًا، اقتربت، اقتربت، ولمست أطراف أصابعه خديّ. تحولت إلى ثلج، على الرغم من أن أصابعه كانت تحترق. بدأت أضغط على فكي دون أن أشعر، أردت فقط نزع ذراعه، لكنني لم أتحرك من مكاني لسبب ما. وقد استمد منها الشجاعة واقترب أكثر، وانحنى نحو أذني؛ كنت أشعر بنفسه الساخن يصطدم بجلدي ويترك آثار حروق عميقة في الأماكن التي يمر بها.

همس في أذني قائلاً "عندما تضيع الأغنام في الجبال، إنها تبكي يا ميرا. أحيانًا تأتي الأم، وأحيانًا يأتي الذئب".

عندما تراجع خطوة للخلف ونظر في أعماقي وكأنه يقيس رد فعلي، ابتلعت ريقي، وكاد التردد الذي بداخلي أن ينعكس على صوتي، فسألت متفاجئةً: "ماذا؟"

قال مبتسماً بزوايا شفتيه: "هذا. مقتبس من كتاب."

كنت سأسأله أي كتاب، فلم يكن في ذهني أي كتاب، وعندما وقعت عيناه على الكتاب الذي أضغط عليه بإحكام بين أصابعي أدركت ذلك للتو. ابتسم مجددًا وكأنه بريء، وكأنه يتحدث فقط عن اقتباس، وكأنه لا يعلم شيئًا.

ثم تراجع خطوة للوراء وقال: "تفضلِ"، لكنني لم أستطع أن أتحرك. تجمدت في مكاني وكأنني أشعر بشيء.

"عندما تضيع الخراف في الجبل تبكي. أحيانًا تأتي الأم وأحيانًا يأتي الذئب."

ترن هذه الكلمات في ذهني، وتفاجئني، وتتسلل إلى أعماق عقلي كطفيلي خبيث. لقد سمعت هذه الكلمات من قبل...

لم أستطع تجاهلها على أنها مجرد كلمات، فقد أشعلت شرارة من القلق في داخلي، وبالنظر إلى أنني لا أتذكر أي شيء، فإن هذا التفاعل الذي أظهره عقلي لا يمكن أن يكون عاديًا. هناك شيء ما يحدث، ويعلم تميم ذلك، حتى الآن، بينما ينظر في أعماقي، فهو متأكد تمامًا من تأثير كلماته علي؛ وكأنه هو من أعد كل شيء، وربط الذكريات بيديه، وحملها إلى عقلي، وكأنه على دراية بكل شعور يمر بي حرفًا حرفًا. إنه يعرف ما يفعله بي، ويشعر بالمتعة التامة من ذلك.

غابة، فستان أبيض، قليل من الدماء، وجملة "عندما تضيع الخراف في الجبل تبكي. أحيانًا تأتي الأم وأحيانًا يأتي الذئب". من بطل الفيلم؟ نحن على الأرجح، لكنني لا أستطيع أن أرى، قليل من الهواء وقليل من الخضرة. مشهد صغير، بلا معنى، بين الوجود والعدم، باهت كالحلم في الأسفل، لكن عيني قد امتلأت بالدموع بالفعل. حتى لو لم أفهم، فإن هناك من يفهم بداخلي، حزين، مرعوب، وكان يسيطر على قلبي ويضغط بذاكرته على غرفتي الصغيرة. ماذا يحدث؟

لا أستطيع أن أكون خروفًا. لا يجب أن أكون.

عندما رفعت عيني ونظرت إلى تميم، سقطت دمعة واحدة على خدي، وتدحرجت نحو ذقني، ولا أعرف كيف بدوت بائسة. لقد ضللت الطريق، وكأنني أطلب منه أن يأتي ويجدني، وأنظر إليه متوسلةً لتفسير. لكنه كان الرجل الذي كان يحاول أن يضيعني منذ البداية، لم يسرق مني كل شيء من أجل لا شيء، بل سيستمر في ذلك حتى أفنى. كان طلب المساعدة منه، والتمسك به للحظة من الذهول، خطأ، بل عار كبير، إهانة كبيرة لي. خرجت على الفور من حالة التوهم التي كنت فيها، ومسحت دموعي بسرعة، ورحلت عنه بخطوات سريعة دون أن أقول كلمة.

لا أستطيع أن أكون خروفًا. لا أستطيع أن أكون خروفًا أحمق!

❀❀❀

انا انتهيت.

لقد تجاوزت وقت العشاء بالتأكيد، ولم يطلبني تميم لتناول الطعام، حتى أنه لم يعطني دوائي. وبالنظر إلى أنه شخص دقيق وملتزم بالروتين، فإن هذا الأمر غريب بعض الشيء. ربما اختار ألا يتعامل معي الليلة بسبب التأثير المدمر للذكريات الأولى التي بدأت أستعيدها. ومع ذلك، بدأ القلق يتسلل إلى داخلي، فنهضت من مكاني وخرجت من الغرفة.

قبل بضع ساعات، كنت أسير في نفس الممر ودخلت غرفته، لكنني الآن عدت وتوجهت نحو الدرج، ونهلت الدرجات ببطء، ورأيت الثنائي يجلسان على الأرائك أمام المدفأة. كان هناك طبق من المكسرات المالحة وكأس عميق من العنب وفواكه أخرى على طاولة منخفضة من الزجاج بينهما، وبالطبع كان هناك مشروب؛ كانوا يتحدثون. كان وهج اللهب ينعكس على انحناءات أكواب الكريستال، وكان هناك سيجارتان تدخان في دواخين منفصلتين.

أول من لاحظني تميم، وألقى نظرة سائلة من فوق كتفه، وكأنه يقول: "ماذا تفعلين هنا؟" لكنه لم يتحدث، بل شاهدني اقترب منه بصمت. أما داوود فلم يعجبه كثيرًا على ما يبدو، فقد نظر إلي بنظرة باهتة وكأني أتيت ودمرت ليلته. بالطبع لن أذهب وأجلس بجانبه، فقد بدا وكأنه سيأخذني ويلقي بي في النار في أي لحظة، لذلك اضطررت للجلوس بجانب تميم.

بدا غريبًا أنني أتيت وجلست بجانبه تميم. قلت: "أردت الانضمام إليكم".

داوود بدى كما لو أنه لم يرتح لطلبي، فقال "نحن نتحدث بين الرجال هنا"، قلت "أستطيع أن أتكيف"، وراقبت داوود وهو يمدد نفسه على الأريكة. لقد مد ذراعيه على جانبيه واستند إلى مسند الرأس ويشرب مشروبه في وضعية مريحة.

في هذه الأثناء، شعرت بنظرات تميم عليّ؛ كنا نجلس على أريكة مزدوجة، وقريبين من بعضنا البعض، ولو تحرك قليلاً لربما لمس كتفي، لكنني لم أنظر إليه. حتى عندما كانت هناك مسافة بيننا، كان من الصعب أن أبادل نظراته، فكيف أتحمل ذلك وهو قريب مني هكذا؟ كان سيكون جرعة قاتلة بالنسبة لي.

قال داوود في النهاية، "على أي حال، سأذهب غداً"،

أجاب تميم بصوت هادئ، "يمكنك البقاء". أصبحت غير مرئية مرة أخرى.

"ماذا هناك؟" ظهرت ابتسامة ساخرة على وجهه وهو يأخذ نفسًا جديدًا من سجارته. "هل اشتقت إلي؟"

هزّ كتفيه. "لقد مرت فترة طويلة".

"ومع ذلك، سيكون من الأفضل لو لم أبق. أنت تعرف أنني لا أحبها كثيرًا".

إنه يتحدث عني... ما مشكلته معي؟ آه... لو كان تميم ليس بجواري، لربما استطعت التحدث بحرية مع هذا الرأس، لكن للأسف، اضطررت إلى إغلاق فمي والاستماع إليهما بصمت.

في الحقيقة، عندما أتيت إلى هنا، كنت أعتزم الاستماع إلى كل ما يقولونه حتى النهاية واستخلاص نتيجة مما سمعته، لكنهم لم يتحدثوا عن أشياء مهمة كما كنت أتوقع. لقد انتقلوا إلى الحديث عن العمل. كان الأمر مملًا بشكل لا يصدق، سألت نفسي كيف سأنام على الأريكة وهم يتحدثون عن رجل أعمال ألماني سيأتي، وعن اجتماعات ستعقد مع أشخاص معينين، وعن صفقات تمتد إلى أجل غير مسمى، لكنني لم أرحل مع ذلك. كنت أشعر بأن شيئًا مهمًا سيحدث بمجرد أن أغادر من هنا، ولم أرغب في تركهم وحدهم ولو للحظة، لذلك صبرت.

في مرحلة ما، وحتى أجعل كل شيء أكثر قابلية للتحمل، نهضت من المكان الذي كنت مستندة إليه واتخذت قرارًا مفاجئًا بأن أحضر لنفسي مشروبًا، لكني لم أتمكن حتى من الوصول إلى زجاجة الخمر حتى تدخل تميم، الذي كنت أعتقد أن كل انتباهه مركز على داوود طوال الوقت، وقال "لا"، وأضاف "أنتِ تتناولين دواء".

في الحقيقة، كنت أريد أن أفتح موضوع الدواء. قلت "لم أشرب أي دواء الليلة"، وأضفت "لا بأس".

عقد حاجبيه وقال "قلت لا، ما الذي تفهمينه عن الشرب؟".

تجهمت وجهي بسبب ما قاله. قلت "لا أعرف الآن ما الذي أفهمه وما لا أفهمه بفضلك يا تميم، سأجرب بنفسي لأرى".

صمت عندما أخذت زجاجة الخمر التي وضعها بعيدًا عني على الطاولة وفتحتها بعناية. كنت أعتقد أنه سيتجاهل إصراري، لكنني كنت أشعر بنظرات تميم غير الموافقة عليّ. قال "على الأقل لا تشربي هذا"، وعقد وجهه. "هذا كونياك، سيتسبب في غثيانك، إنه ثقيل جدًا..." نظرت إليه وفتحت الفلين ووضعت الكوب الذي كان يشرب فيه الويسكي للتو، والذي كان فارغًا بالفعل، أمامي. حاول أن يتدخل فوراً قائلًا "لا تشربي في هذا الكوب-" لكنني كنت قد سكبت المشروب بالفعل، فخفض ذراعه التي رفعها وزفر تنهيدة مستاءة من بين شفتيه. "على أي حال، لن أمسح شعرك عندما تتقيأي".

كان داوود يتابعني بنظرة غير راضية، وكأنت أرى فيه أنه يعتقد أنني أرتكب مجزرة. همس قائلاً: "هذه الفتاة ليس لديها أي أدب"، فرد تميم بنبرة تحذيرية: "داوود". رفع داوود يديه متظاهراً بالبراءة وقال: "كنت أتحدث عن أدب الشرب"، وبدا بريئاً. بالطبع كنت تتحدث عن أدب الشرب يا داوود...

رفعت عينيّ ونظرت إلى داوود في تلك اللحظة، شعرت بمسافة كبيرة بيننا فجأة. قلت له بنبرة بلا روح: "أنت تكرهني بشدة".

أجابني مبتسماً، لكن ابتسامته بدت مخيفة على ملامحه القاسية: "أحاول ألا أظهر ذلك".

همهمت بسخرية: "بالتأكيد لا تحاول". وبدون تفكير، شربت كل ما في الكأس دفعة واحدة. ثم توقفت، أعتقد أنني دخلت في حالة صدمة لبضع ثوانٍ.

حسناً، كان تميم على حق، لكن لم تكن هناك حاجة ليعرف ذلك.

وضعت الكأس مرة أخرى بحذر، محاولة تجنب أي تعبيرات وجهية، وحاولت تجاهل أعضائي التي كانت تذوب بداخلي. بالطبع، لم يصدق تميم ذلك، فتنفس بعمق وبدا متعبًا وقال: "توقفي عن التمثيل و اذهبي إلى الحمام"، وأضاف: "سأأتي معك".

رفعت يدي لأوقفه. "لا بأس، ليس بـ... سيئ للغاية." أغمضت عيني بإحكام واضطررت إلى شد عضلات مؤخرتي كي لا أتقيأ. "ليس سيئاً للغاية." من فضلك، ليأخذ أحدهم هذا من معدتي! لا بد أن هذا سم، سم أخضر مقزز يتصاعد من قدر ساحرة، يجب أن يعلقوا تحذيراً عليه. لو لم يضع تميم شيئاً مالحاً أمامي لاستمر هذا العذاب.

بعد تناول الوجبات الخفيفة المالحة، قلّت المرارة في فمي وأصبحت محتملة أكثر. حسناً، لم يكن سيئاً للغاية. في الواقع، بدأت أحب هذا الشعور بالنعاس إلى حد ما، فرفعت الكأس مرة أخرى. كنت أشعر بنظرات تميم السلبيه عليّ، ويجب أن أعترف بأن تلك النظرات كانت تزعجني، لكنني حاولت تجاهله و ملأت كأسى مرة أخرى.

قلت: "علّي أن أشرب احتفالاً بقدرتي على تذكر بعض الذكريات الغامضة عن ماضي". وعندما قلت ذلك، تذكرت فجأة حالتي الليلة الماضية وتلك الصور التي نسيتها للحظة. شعرت وكأن جسدي وعقلي سينهاران، وكأن هناك عبئاً ثقيلاً من المشاعر.

شربت الكأس دفعة واحدة.

المذاق مرّ، لكن ليس بقدر ما في رأسي.

حتى التفكير في ذلك جعل سحباً سوداء تغطي ذهني مرة أخرى، ورغبت في ملء كأس آخر على الفور للاستفادة من تأثيره السريع على الرغم من كرهي لمذاقه، لكن يداً امتدت من الجانب ولمست كتفي وأمسكت بالكأس. رفعت رأسي بصعوبة ونظرت إلى تميم، وكأنني أراه لأول مرة.

"كفى"، قال، وكانت تعابيره جدية هذه المرة، هو دائماً كذلك في الحقيقة، لكن هناك مراحل، والآن هو في مرحلة الجدية التي ظهرت على وجهه.

أما أنا، فبدا أنني أمتلك موهبة خاصة في تجاوز الحدود، همست وأنا أبتسم: "أنا أشرب أفضل منه، هذا الأصلع الباكي". قلت ذلك فقط لأثير غضب داوود، أردت إثارة الفوضى قليلاً وقياس ردود أفعاله.

كما توقعت، انفجر داوود غضباً وقال: "اخرسي! أنا لست أصلع". كان ثمل أيضاً، فلم يستطع فتح عينيه إلا إلى النصف، وكان ينظر إليّ بنظرة غاضبة وتعابير وجهه سخيفة.

وبخ تميم داوود قائلاً: "داوود!". سكتنا للحظة بسبب هذا الانفجار المفاجئ. استندت إلى الوراء، بينما تنفس داوود سيجارته بتمعن وقال بصوت هادئ: "لقد قالت لي أصلع".

قلت بسخرية: "ثلاثة مليمترات"، وواصلت الابتسام إليه.

"لا يهمك"، قال.

"تبدو قبيحًا"، كنت أتصرف معه كطفلة عدوانية ومشاكسة، بدلاً من تجاهلي أو عدم الرد، كان يأخذني على محمل الجد ويغضب، وهذا ما كان يضحكني.

قال: "إنها مجرد قصة شعر قصيرة، لا يهمني رأيك".

قلت: "بالطبع يهمني".

قال: "شقراء حمقاء".

همست بسخرية: "ساقط أحمق"، على الرغم من أنني كنت أبتسم.

قال تميم في النهاية: "توقف عن هذا".

قال داوود بغضب: "يجب أن تتوقف هي أولاً".

وبعد ذلك، التفت إلى تميم وقلت: "أتساءل من أين وجدت هذا الشخص". وأضفت: "هل جمعته من الشارع؟ انظر إليه، إنه مهمل، وعيناه حمراوان من تدخين الحشيش طوال الوقت، يشبه أولئك المتشردين القذرين الذين يضربون أمهاتهم للحصول على معاشها التقاعدي". وبدأت أضحك بشدة، فقفز داوود من مكانه بغضب وحاول الاقتراب مني، لكن تميم وقف وأبعده.

"كلاكما!" صاح بصوت عالٍ يهز المنزل، فعبست. "قلت لكم أن تتوقفوا!"

لكنني أعتقد أنني لم أسكت بسبب تأثير الكحول بقدر ما هو بسبب عدم قدرتي على تفريغ غضبي على أي شخص آخر، فكنت سعيدة فقط لأنني تمكنت من لمس نقطة حساسة، وأردت أن أتحدث بتهور. أردت السخرية، والاستمتاع بغضب داوود، وخاصة ذلك التعبير المزعج على وجهه.

قلت وأنا أفحص داوود من رأسه إلى قدميه: "الوشوم، الجروح..." وكنت أضحك رغم الدوار الذي أشعر به. "تبدو رائعاً حقاً، هل انت رجل خطير، لقد كدت أخاف". لم يكن من الصعب التظاهر بأنني جادة بسبب الجرأة التي منحني إياها الكحول. كنت أشعر بالاشمئزاز منهما وكليهما، واستمتعت بفرصة إظهار ذلك. قلت: "هل عملت بجد لخلق ندوبك فقط لتبدو رائعة، قل الحقيقة؟"، وراقبت تعبير وجهه.

"سأقتلك!" شاهدت تلك اللحظة التي تلاشى فيها الضباب المخدر عن عينيه، وبدأ يستعيد وعيه وغضبه، وحاول دفع تميم أمامه ليصل إلي.

لكن تميم دفعه بقوة مرة أخرى، فارتطم عدة خطوات للخلف. قال تميم محذراً: "داوود!" وقف تميم بيننا، ولم يسمح لـ داوود حتى بالنظر إلي، وسأله: "ماذا اتفقنا؟ إذا لم تستطع الالتزام بالقواعد، ارحل!"

كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها تميم يتحدث بهذه الطريقة. يجب أن يكون غاضباً حقاً، لكن من غير المعقول أن يغضب كلاهما فقط بسبب ما قلته، هل سيحاول داوود قتلي لمجرد أنني سخرته قليلاً؟ على الرغم من أنني لا أعرفه جيداً، إلا أنه كان واضحاً أن هناك شيئاً ما تغير في عينيه، وأن هناك أفكاراً أخرى تدور في ذهنه. كان هدفي هو المزاح فقط، لكن يبدو أنني ضربت نقطة حساسة. ومع ذلك، لم أتراجع، واستمتعت برؤية داوود عاجزاً عن الاقتراب مني.

بالكاد تمكن تميم من تهدئته، وقال له أن يخرج ويستنشق الهواء النقي، بل وأجبره على ذلك. كان داوود ثملًا، وكان يفقد توازنه عندما دفعه تميم، وفي النهاية استسلم وقال بغضب وهو يتجه نحو الباب الخارجي: "اللعنة علي هذه".

شاهدت داوود وهو يخرج ويصدم الباب بقوة، ثم أمسك بي فجأة وسحبني من مكاني وكأنني دمية، وقال: "تعالي أنتِ أيضاً". عادةً ما كنت أغضب وأرد عليه، أو على الأقل أعبّر عن استغرابي، لكنني ضحكت هذه المرة.

قلت وأنا أستمتع: "أفسدت أمسيتكما؟" وكنا نصعد الدرج، أو بالأحرى كان هو يصعد ويسحبني خلفه.

سمعتُه وهو يهمس: "كنت أعرف أنه لا يجب أن أسمح لكِ بالشرب". وبمجرد أن وصلنا إلى آخر درجات السلم، تمسكت بشدة بدرابزين السلم الخشبي، مما أجبره على التوقف. وعندما طلب مني أن أتركه، قمت بشد قبضتي عليه.

قلت وأنا لا أستطيع إخفاء ابتسامتي: "لم أكن مخطئًا عندما قلت أصلع يبكي". في الحقيقة، لم أكن أستمتع حقًا، بل كانت مجرد طريقة لإخفاء آلامي. لا أعرف، لقد بدأت للتو في التعرف على ميرا أيضًا. وأضفت: "كنت أمرح فقط، وأنتم من بالغتم الأمر".

"ميرا!" حاولت أن أبعده عني لكنه تجاوزني، لفترة وجيزة غطى جسدي كله، شعرت بصدره يلامس ظهري وعبيره يملأ أنفي. أمسك معصمي بقوة، وضغط بأصابعه كأنما يريد أن يكسر عظمي، أجبرني على ترك الدرابزين. "توقفي عن اللعب!"

"آه!" كدت أدفعه بغضب لكنه رفعني كطفلة صغير وسحبني إلى الغرفة في لمح البصر. دفعني إلى السرير دون أن يشعل النور. تساقط شعري على وجهي وفقدت كل تلك المرح الزائفة، وظهرت الفتاة اليائسة التي بداخلي.

يائسة. يبدو أن تميم سئم من سحقك، ألا تشعرين بالملل من أن تكوني دائماً ضحيته؟

لم أخطط لذلك، خرجت الكلمات تلقائياً من شفتي: "أخذت مني كل شيء"، بينما كان يستعد للمغادرة سمعت خطواته تتوقف. رفعت خصلات شعري خلف أذني قبل أن أرتفع. "عائلتي، حياتي، صحتي، ماضيي، مستقبلي..."

تحتاج رئتي إلى نفس عميق قبل أن أنظر إليه. كان هناك، في الظلام، كظل لوحش في كابوسي.

"إذا كنت ستقتُلني، فاقتُلني"، قلتُ وهو لا يزال صامتًا يقف أمامي. "إذا كنت ستعذبني، فسأكون لك طوال الليل، وإذا كان لديك أي شيء آخر تريد أخذه، خذه الآن، فقط انتهي من كل شيء، يا تميم".

كنتُ خائفة، فحتى اللحظة القصيرة التي رأيته فيها اليوم خلقت في داخلي خوفًا شديدًا من ما سيأتي. أردت أن أتلقى كل الأذى دفعة واحدة قبل أن يدمرني تميم ببطء، ثم أرحل من هنا.

"أعرف كيف تنظر إلي"، قلتُ، "كيف تستطيع أن تعتقد أنني أستحق كل هذا؟ خذ ما تريد مني، أرجوك، فقط أنهي كل شيء في ليلة واحدة. افعل ما تشاء، لا تتردد".

في تلك اللحظة، لم أكن أعرف ما يدور في ذهن تميم، ولم أرغب في معرفة ذلك. كنتُ أريد فقط أن ينتهي هذا العذاب. بينما كان جسده يرتفع أمامي، حجب رؤيتي، شعرتُ بتنميل، لم أكن متحمسة؛ ربما كان ذلك بسبب الكحول الذي ما زال يجري في عروقي، أو ربما لأنني اعتقدت أنني لا أستطيع أن أتعرض لأذى أكبر، وأنني وصلت إلى حدودي، بطريقة ما تمكنت من كبت خوفي. لم يبقَ في داخلي سوى الكراهية، سائل آخر يجري في عروقي إلى جانب الكحول، كنتُ أشربه بشراهة حتى امتلأت به.

الكراهية.

أكثر من مجرد كلمة. ليست فقط للأشياء التي فقدتها، بل أيضًا للجروح التي لم أكتشفها بعد؛ لما عجزت عن حمايتهم، ولمن أحبوني ولمن أحببتهم ذات يوم...

الكراهية. فقط الكراهية. ثماني أحرف فقط ولكنها تحمل آلاف الندم.

لماذا دخلت حياتي؟

لماذا وثقت بك؟

لماذا لم أستطع إيقافك وأنت تدمر حياتي؟

لماذا لم أقتلك قبل أن تقتُلني؟

لماذا؟

لماذا؟

"قل شيئًا"، قلتُ بصعوبة، وشفاهي ترتعش وأنا أكبت بكائي.

لابد أن انعكس حزني في عيني، فقال "تصبحين على خير"، ثم توقف ونظر في عيني نظرة أخيرة، وقال "ميرا".

ثم التفت وغادر الغرفة.

الفصل السابع من هنا

تعليقات



×