بحر ثائر الفصل الخامس
صدقا لا أعرف لماذا تقتحم خيالي….
رغم المسافات….
بيننا ما لا يفهمه الجميع
ليس الورد في الباقات
ولا الهدايا ولا اللقاءات
بيننا ما لا يفهمه الجميع
بيننا خيط من الكلمات
فيعجبني ذاك الغضب من حروفي في حروفك…
وتحيرني جسارة اختبأت من واقع حياة
وظهرت في كلماتك في حروف من خيال
بقلم فيروزة ❤
❈-❈-❈
عادةً ما يكون النوم العميق من نصيب العقول الراقية والخالية ، التي لا يشغلها شيئًا والتي تخلو من الأحداث .
ولكن أحيانًا يتخذ الإنسان من النوم مهربًا من الحزن والضيق والألم والوحدة ولكنها خدعة ، احذر جيدًا فالنوم ليس مهربًا بل هو اجتماع مغلق بين عقلك الباطن وأفكارك والخاسر في كلتا الحالتين هو أنت ، عليك أن تستيقظ وتواجه أو تثور وإلا سيأتي يومًا ولا تستيقظ أبدًا .
لم يوقظها رنين هاتفه العالي ، لم تهتز بها خصلة حينما نهض من فراشه ليجيب على الاتصال .
ولكنها أبصرت حينما اخترق أذنها صوته وهو يجيب بنبرة متحشرجة :
– صباح الخير آنسة إلوا .
قالها وهو يتحرك نحو المطبخ ويستمع لحديث إلوا ويجيبها بهدوء ولكن هناك عينان لن تهدآ بعد الآن .
المكر الذي تُزين به ملامحها حينما تقف أمامه تبدل بملامح قاتمة عدائية لا ترحب قط بأي زائرة تدخل حياته .
نهضت تمسك برأسها حينما راودها الدوار ولكنها تحاملت واتجهت تجلس على الأريكة الموضوعة أمام المطبخ ، تطالعه وهو يعد الفطور بعدما أغلق المكالمة وعقلها يدور في فلك مظلم انتقامي لذا لم تحتمل أكثر وتساءلت دون مراوغة :
– ماذا تريد منك تلك المدعوة إلوا ؟
– لقاءً صحفيًا .
بثبات متناهٍ أجابها وهو يواليها ظهره لتظل نظراتها مصوبة عليه وعضلاته تهتزر نظرًا لتقطيعه للخضروات .
استكملت استجوابها :
– وهل ستذهب !
التفت بجذعه يطالعها بترقب ثم أجابها باستفهام :
– ما رأيك ؟
عاد يتابع عمله ونهضت تتجه إليه ثم وقفت خلفه ثم مدت يديها تعانقه من خصره وتضع رأسها على ظهره العريض مردفة بنعومة أفعوانية :
– يمكنني أن أقوم أنا به ، أو يمكنني بسهولة أن أحضر لك مجموعة صحفيين هنا ، قم بالإشارة فقط .
التفت لها فابتعدت عنه تطالعه وهو يحدق بها ويكمل عنها :
– ولكن ابتعد عن إلوا ، تلك الصحفية العشرينية التي تريد مقابلتي لأنني كاتبها المفضل ، أليس كذلك ؟
– دائمًا تفهمني .
قالتها وهي تتحسس وشمه بأصابعها وكأنها تريد إزالته ، لا تحب أبدًا النظر في عيون هذه المرأة الملثمة .
– توقفي مارتينا .
توقفت عن لمس وشمه وأطرقت ذراعها بإحباط تقول باستفاضة وتجهم :
– تعلم أنني لا أحبه ثائر .
– أنا لا أتحدث عن الوشم ، أتحدث عن تحكمكِ في حياتي ، أعلم جيدًا العواقب التي ستطول تلك الفتاة المسكينة لأنها فقط أعجبت بكتاباتي ، تبالغين كثيرًا وهذا ما يزيد الحواجز بيني وبينك .
1
استولت عليها نوبة جنون هستيرية وهي تصرخ في وجهه باندفاع :
– أتريدني أن أتركك تتعرف على إحداهن وتعجب بها وتواعدها ؟ هل أنا معتوهة أمامك لأجلس في الزاوية أبكي وأنت تمرح مع النساء ؟ هل تظنني غبية لأترك شيئًا يعود لي ولن يكون يومًا لغيري ؟
1
مد يده يتلمس خصلاتها فهدأت على الفور كحية سامة ناداها مروضَا محترفًا ليتابع بنبرة تحمل في طياتها تهديدًا غير مباشر وهو يردف بثبات وثقة :
– أنا ثائر ماترينا ، ثائر ذو الفقار ، لست شيئًا يعود لكِ ، أنا ملك نفسي فقط ، فهمتِ ؟
أغمضت عينيها إثر لمسته ونبرته ثم أبصرت وتحدثت بضعفٍ توغلها :
– أنت تعلم أنني أحبك كثيرًا وأغار كثيرًا ، لِم تفعل بي هذا ؟ هل أنحني وأقبل قدمك لنعود ؟ أنا مستعدة لفعلها .
شرد لثوانٍ يطالعها ثم استرسل بغموض :
– وأنا لست مستعدًا لأي شيء الآن سوى اللقاء الصحفي مع إلوا ، ومن بعدها يمكنني التفكير في عرضك ، لذا إياكِ وأذيتها مارتينا .
عاد يلتفت ويحضر الشطائر والقهوة وتركها تطالعه بنظرة جمعت مكر العالم ، هل تهديده سيجعلها ترضخ لدخول أنثى أخرى في حياته ، خاصةً لو كانت معجبة به وبكتاباته ؟
لقد دلف حياتها ليجعلها تجن أكثر ، غموضه وهيبته والهالة المحيطة به جعلتها تجن إن اقتربت منه أنثى أو أعجبت به ، يكفيها هؤلاء اللاتي يعجبن بكتاباته ولحسن حظهن وحظه أنها لا تفضل القراءة وإلا كانت احتلت جميع كتبه وكلماته لها .
❈-❈-❈
المرأة التي يشتهيها الشخص المؤذي ليست تلك الضعيفة ولا التي تتسم بالليونة والتسامح ، لا يشتهي المرأة العفوية .
تلك التي تتخذ من حنانها وضحكاتها قاربًا للنجاة ، هذه لن تشبع رغباته ومتطلباته وسماته النرجسية .
بل أنه يشتهي تلك التي تفوقه إيذاءً وقسوة ، التي لا تهتم بالمشاعر ولا تعترف بالتضحيات ، إن أحب نفسه شطرًا أحبت نفسها أضعافًا ، التي تشبه تمامًا الحلوى نشتهيها ونأكلها بشراهة وكل ما تفعله بنا هو تدمير صحتنا والاختيار في النهاية لنا .
دهشة ظهرت على وجهه من جرأتها وملاحظتها لذا ضحكت بتباهٍ وتحدثت دون شعور بالخجل :
– أصل يعني إنت اللي فتحت لي الباب ووشك كان باين عليه إنك لسة صاحي ، وكمان السرير اللي هناك ده شكله مش مترتب وده المفروض للعرض ، بس تصدق السرير ده شكله حلو ومريح ، بكام ده !
2
نطقتها وهي تشير على السرير المنشود وتتلاعب بالنظرات والابتسامات ليتحمحم ويقول بجدية ظاهرية بينما عقله يحتله التعجب من جرأتها :
– شوفي اللي إنتِ عايزاه وهنعملك تخفيض ، قولتيلي عنوانك فين ؟
سألها ليتهرب من سؤالها ولكنها استرسلت بغنج :
– ماقولتش لسة ، بس هقول ، علشان تيجي تشوف العفش وتشتريه ، وبعدين نبقى نشوف السرير والتخفيض اللي قلت عليه .
قالتها ونهضت تقف وتطالعه بنظراتٍ ماكرة واسترسلت بجرأة أثارت انتباهه أكثر :
– قوم هاتلك ساندوتشين واطلب كوباية شاي ولا حاجة علشان تفوق قبل ما العمال ييجوا ويعرفوا إنك نايم هنا ، مايصحش بردو دي أسرار بيوت مهما كان .
ابتسمت وانحنت قليلًا تلتقط قلمًا وورقةً من فوق المكتب ثم دونت رقمها وعنوانها واعتدلت تناوله إياها مستطردة :
– شوف الوقت اللي يناسبك علشان تيجي تشوفهم ورن عليا .
لوحت بيدها مودعة والتفتت تغادر وتركت خلفها رجلًا يشتهي هذه الأفعال ، محرومًا من التحايل والتلاعب ، حياته كئيبة عبارة عن صدقٍ ووضوح .
واعتدنا في قانون الحياة العادل أن من يشتهي شيئًا يجب أن يحصل عليه .
❈-❈-❈
( لا ترحل ، لا تدير ظهرك للمشكلات وتمضي قدمًا ، إن كانت بحاجتك لا تتركها ، حتى وإن آلمتك لا تغادر ، لا تصفع الباب وتمضي وتنصر غضبك عليها وإلا فاحذر لأنك لن تستطيع العودة مجددًا أو ستعود غريبًا )
استوقفتها هذه النصيحة التي يقدمها ثائر في كتابه الذي إلى الآن لا تفهم من يقصد ، هل يقصد الرجل أم المرأة أم الغربة أم الأم أم يتحدث عن المواقف عامةً ؟!
كتاباته تحمل غموضًا مشفرًا لا يحتاج سواه كي يشرحه ولكنها اتخذت نصائحه بشكلٍ عام .
كانت تتكئ على رخامة المطبخ وتقرأ إلى أن ينتهي نضج الطعام ، زفرت بقوة وأغلقت الكتاب والتفتت لترى الموقد وعقلها يفكر فيه .
برغم أنها المتضررة إلا أن قلبها يمتلك من العاطفة ما يجعلها تفكر أين هو وأين نام وماذا أكل وكيف حاله ؟
ترى هل سيأتي لتناول غداءه ، وكيف ستستقبله بعدما انفجرت به أمس .
انفجارها نتج عن ضغطٍ وصمتٍ طال أمدهما ولكنها كانت تتمنى لو لم تنفجر قط ، ليتها ظلت كما هي الصامتة التي اعتادت الكتمان فهي تعلم جيدًا نتيجة ما حدث ، سيهجرها ويهجر طفليه ويعاملها كشيء غير ملموس وهذا أكثر ما تبغضه ، تبغض تكبره ودلاله في خصومته ، تبغض تسلطه وتعمده لاستفزازها بأي شكل ولا يهتم بنفسية أطفاله ولا بسكينة البيت .
زفرت بقوة وأطفأت الموقد واتجهت لترى صغيريها حيث كانا يلعبان في غرفة جدتهما والأخرى تحدثهما كاثنين عاقلين يدركان حديثها .
وقفت على حافة الباب وابتسمت لهما ثم تساءلت بترقب :
– اجيبلكوا تتغدوا يا ولاد ؟
أومأ مالك وفعلت رؤية مثله بينما تحدثت حماتها مثلهما :
– أيوة هاتلنا ناكل يالا يا عايدة .
– حاضر .
قالتها وتحركت عائدة لتحضر الطعام لهما ودقائق عدة حتى عادت تحمل صينية الطعام لصغيريها ثم وضعتها على الطاولة الجانبية وأردفت وهي تسحب لهما المقاعد :
– يالا تعالوا .
اتجه الطفلان نحو الطاولة يجلسان عليها بحماس بينما توغل العبوس وجه حماتها ونظرت لها بحزن متسائلة :
– وأنا ماجبتليش ليه ؟
– حالًا يا ماما هجيب الأكل وجيالك .
اتجهت تحضر طعام السيدة ثم عادت تجلس أمامها وتضع الصينية فوق ساقيها قائلة وهي تنفض منشفة قطنية لتضعها على صدر حماتها التي بدأت تعبث بالطعام لتوقفها ديما بانزعاج :
– ثواني يا ماما أنا اللي هأكلك .
لم تتوقف السيدة بل استمرت في عبثها بالطعام لتزفر ديما بضيق وهي تمسك بكفها وتبعده ثم طالعتها بنظرة ثاقبة وأردفت بجدية :
– استني ، كدة غلط .
توقفت السيدة عن العبث بالطعام وعبست ملامحها فبدأت ديما تطعمها والأخرى تأكل منها وهي مشيحة بوجهها عنها إلى أن انتهت .
جففت لها فمها ثم نهضت تحمل الصينية واستعدت لتخطو ولكن السيدة أوقفتها وهي تمسك بمعصمها فطالعتها ديما بترقب لتردف الأخرى بنظرة مترجية :
– اقعدي عايزاكي .
تعجبت ديما ولكنها وضعت الصينية على الكومود وعادت تجلس أمامها فتابعت السيدة بنبرة تحمل غموضًا لم تره من قبل :
– إنتِ زعلانة مني ؟
سؤالها يبدو سطحيًا ولكنها أعاد ديما لسنوات الحطام ، أعادها للدمار الذي حل على زهرة حياتها ، لا تعلم هل تسأل هذا السؤال لأنها عبثت بالطعام الآن أم لأنها عبثت بحياتها منذ أن تزوجت ونتج عن ذلك العبث زوجًا قاسيًا متعجرفًا لا يرى سوى نفسه .
لها النصيب الأكبر فيما وصل إليه كمال ، لقد توفي والده منذ الصغر بعدما طلقها وهي من زرعت فيه الخصال الذكورية والأنانية ، دومًا أخبرته أنه رجل والرجل لا يعتذر بل يُعتذر منه ، الرجل لا يراضي بل يُطلب رضاه ، الرجل لا يلين بل القسوة سمة أساسية ليكن شامخًا متعاليًا كالجبل ، أنبتته على أحقيته في التحكم بالزوجة وأحقيته في اتخاذ القرارات بدلًا عنها وإجبارها على تنفيذها دون جدال أو نقاش ، روَته بالأنانية والانفراد وتنفس حب الذات حتى بات لا يرى مشاعر من حوله من كثرة علو جبال الـ أنا لديه .
ربما لهذا السبب تلتمس له العذر أحيانًا ، ربما تحاول معه كثيرًا لتصلح ما أفسدته هذه السيدة ولكنها مخطئة ، فأثناء محاولاتها إصلاحه دهستها طباعه فباتت تحتاج لإصلاحٍ داخلي يعيد إليها الحياة ، لا يمكن إصلاح زرعة برعمها فاسد وكان يجب أن تعلم ذلك جيدًا .
– سامحيني يا ديما .
أجفلتها بجملتها التي أضاعت أي ذكرى وجعلتها تحدق بها ولا تصدق ما تفوهت به لتوها ، أتطلب منها السماح ؟ هذه المتكبرة التي سقتها كؤوسًا من المُر وأطعمتها أطنانًا من المعاناة تطلب منها السماح ؟ وهل تمتلك المقدرة لتسامح ؟
1
والأهم كيف نطقتها ونطقت اسمها ؟ لقد نسيت اسمها منذ فترة وتناديها دومًا بـ عايدة ؟ هل اقتربت النهاية ؟
ظلت جاحظة تطالعها بصمت وصدمة أما الأخرى فالتفتت لتنام على جنبها الأيسر ومدت يدها تحك ظهرها فلم تستطع الوصول إليه لذا عادت تنطق :
– اهرشيلي هنا يا عايدة .
التفتت ديما تنظر إلى صغيريها فوجدتهما ملتهيان بطعامهما لذا عادت تبتلع لعابها وتزفر زفرة خرجت من أعماقها ثم مدت يدها تملس على ظهر السيدة بهدوء وعقلها يصارع الماضي والحاضر ولا تصدق إلى الآن أنها طلبت منها السماح .
❈-❈-❈
الحزن في عينيكِ لا يمكنكِ إخفاؤه عن ثلاث
أمًا يشعر قلبها بكِ دومًا
وحبيبًا تمناكِ في يقظته وأحلامه
وأخًا تعهد بحمايتكِ مدى الحياة . ( بقلم آية العربي )
اتجه داغر إلى متجر كمال كي يراه ويتحدث معه أو يحذره ، لم تغب عنه دموع شقيقته المعلقة في عينيها ، لم تخفَ عنه ابتسامتها الباهتة وملامحها الحزينة ، لم يواجه كل تلك الصعوبات في حياته والتحديات لأجلهن وبعد ذلك يسمح لرجلٍ لا يمت للرجولة بصلة أن يحزنهن .
اتخذهن كنزه وتعهد أن يحافظ عليهن ثلاثتهن ، ربما لم يكن قويًا كفاية حينما تزوجت ديما بهذا الكمال الناقص ولكنه الآن يمتلك القوة الكافية ليوقفه عند حده .
دلف المتجر يلقي السلام فردوا عليه العمال عاداه .
اتجه يجلس أمامه وتحدث بثبات ودون مقدمات لا تسمن ولا تغني من جوع :
– لو اختي غلطت في حقك وزعلتك تعالى لي ونتفاهم ولو ليك حق تاخده ع العين والراس ، إنما تزعلها بعد كل اللي شافته معاك يبقى كدة إنت عداك العيب وأنا كمان عداني .
تكتف كمال وطالعه بعدم اكتراث ثم قال ساخرًا :
– يا راجل ؟ هو حد قالك إني ضربتها ولا رنيتها علقة وأنا مش واخد بالي ؟ ولا هي اشتكتلك من جوزها اللي معيشها في جحيم ؟
استشعر داغر سخريته التي زادت من غضبه وأردف باندفاع :
– ولا اشتكت لي ولا هتشتكي ، ولو لفيت الدنيا كعب داير على واحدة زي اختي مش هتلاقي ، ومش ديما أخت داغر اللي تتضرب عارف ليه يا كمال يا وراق ؟
تنفس بتباهٍ ثم استرسل بعيون محذرة :
– علشان أختي ست الستات ، واحدة صاينة بيتها وأولادها وجوزها وحماتها ولا بتطلب ولا بتشتكي ، يعني نصيحة مني اعرف قيمة النعمة اللي في إيدك بدل ماتزول منك وساعتها هتبكي بدل الدموع دم ومش هتعرف ترجعها لو سفيت التراب .
نهض بعدها يحدجه بنظرات مشتعلة ثم التفت يغادر من حيث أتى والغضب يلتهمه وهذا يعد أسوأ ما فيه ، يغضب سريعًا ولكنه يمتلك قلبًا مثل الجواهر .
ظل الآخر ينظر إلى أثره والضيق والغرور اجتمعا على الانتقام ، سيريه من سيندم ، يتباهى بشقيقته التي لا تفعل سوى واجباتها ويخبره أنه سيندم ؟ ألا يعلم من هو كمال الذي تتمناه أي امرأة ؟
يشتري الهدايا والعطور ويوفر لها المسكن والملبس والطعام الجيد كما أنها ترتدي أفخم الثياب وتمتلك هاتفًا تتمناه الكثيرات ، حسنًا سنرى من سيبكي بدل الدموع دمًا يا داغر يا ابن محسن الصابر .
❈-❈-❈
حل الليل ولم يأتِ
دومًا يجعلها بين شقي الرحى وتتساءل برغم يقينها بالحقيقة هل هي أخطأت في حقه ؟
حسنًا ربما رحلت المشاعر بينهما كزوجين ولكنه سيظل والد طفليها لذا فهي تريد الاطمئنان دون أن تبادر باتصال تعلم جيدًا أنه لن يجيب عليه .
كانت تجلس في الصالة تقرأ في بحر ثائر ولكن ليس بالتركيز الذي تفضله بل عقلها منشغل به ، توغل إليها صوتًا خافتًا يأتي من الخارج فتركت الكتاب ونهضت تفتح الباب لتتفاجأ به يصعد للطابق الثالث فنادته بتعجب :
– كمال !
لم يجبها بل أكمل صعوده متجاهلًا إياها فوقفت تتعجب لما يفعله وانتظرت قليلًا ربما سيحضر غرضًا ما وسيعود ولكنه لم يعد .
زفرت بقوة وقررت الصعود لتراه وبالفعل ارتدت خفها وصعدت تطرق الباب فلم يجب ولكنها وجدت المفتاح في فوهته ففتحت ودلفت تنظر حولها فوجدته يجلس على الأريكة التي تتوسط المكان ويفرد ظهره وذراعيه ويرفع رأسه للأعلى فاتجهت تناديه بتوتر :
– كمال إنت قاعد هنا ليه ؟
– انزلي تحت .
نطقها دون النظر إليها بل كان مغمض العينين لتتنفس وتبتلع أمره دون تنفيذ بل أردفت بهدوء :
– تمام هنزل بس مش هينفع تفضل هنا ، الولاد سألوا عليك وماما طول اليوم بتصرخ وعايزة تشوفك ، ماتخليش اللي حصل بينا يأثر عليهم .
أعاد رأسه ينظر لها ثم بصق سؤاله متجاهلًا كلماتها :
– انتِ قولتي حاجة لاخوكي ؟
قطبت جبينها وتيقنت أن داغر تحدث إليه لذا تنهدت وأجابته بصدق :
– إنت عارف إني مش بقول ، بس هو جه لإنه رن عليا والموبايل كان مقفول ، واداني موبايله .
– هيرجع .
نطقها بحدة أجفلتها لتطالعه بنظرة انكسار وصمت بينما هو اعتدل يكمل :
– علشان كدة جاي يكلمني وشايف نفسه أوي عليا ، رجعيله الموبايل وأدبًا ليكي هتفضلي من غير موبايل لحد ما مزاجي يروق ، ويالا خدي بعضك وانزلي وبعد كدة تطلعيلي الأكل هنا وملكوش دعوة بيا نهائي .
هل تثور مجددًا الآن وتنهي هذه المعاناة ؟ هل تهدم سدها وتفيض بمخزون السنوات والأيام ؟ أم تعتد الصمت والتجاهل ، التجاهل الذي لا يريحها ولكن يجنبها معارك جديدة معه فهو لن يفهمها أبدًا لذا استعملت مخزون الأوكسجين الموجود في المكان واسترسلت بهدوء شديد :
– تمام .
التفتت تغادر من حيث أتت ولم تعد تندم على فعلٍ قامت به ، لن تندم على صعودها خلفه فكلما تقدمت منه خطوة أبعدها عنه أميال وهذا ما تريده وتتعمده حتى يكتمل مخزون ثورتها .
1
❈-❈-❈
في اليوم التالي صباحًا .
في مقر إحدى المجلات الفرنسية المعروفة .
اتجه ثائر في تمام الساعة الحادية عشر ليقابل تلك المدعوة إلوا وليجري معها اللقاء الصحفي .
كانت تقف في استقباله تبتسم بسعادة لا تصدق أنها حققت إحدى أمنياتها برؤيته ، تعشق القراءة له وتحب جميع كتبه بل وخصصت مكتبة باسمه في منزلها .
مدت يدها تسلم عليه فبادلها برصانة وابتسم يقول :
– كيف حالكِ آنسة إلوا ؟
– الآن أنا بخير جدًا .
قالتها بسعادة وهي تتجه معه إلى الردهة المؤدية للغرفة التي سيتم بها اللقاء ، لم يرد إجراء اللقاء في مكان عام أو في منزله بل أراده في المجلة ذاتها لذا فقد رحبت كثيرًا به .
اتجه يجلس على مقعد رتيب واتجهت تجلس قبالته متسائلة بلهفة وحماس وابتسامة مزينة :
– بماذا نضايفك ؟
– شكرًا لكِ ، دعينا نبدأ .
قالها بنبرة رخيمة فأومأت وبدأت تجهز أدواتها والمسجل الخاص بها ثم أردفت بعيون لامعة :
– من المؤكد أن شخصًا مثلك غني عن التعريف ومع ذلك فأتمنى أن تعرفنا عن نفسك بشكلٍ مميز .
فرد نفسه على المقعد وسلط أنظاره عليها يجيبها بثبات وغموض يشرح من هو ولا يشرح :
– أنا ثائر ذو الفقار ، الرجل الذي يفعل ما يريده بطريقة لا يريدها ، كاتب عمري اثنين وأربعين عامًا اسمي لا يعبر عني ولكنه يعبر عن عيني ، ابن وأب ولكنني لست زوجًا .
نطق الأخيرة بنوعٍ من المرح الذي لا يمت له بصلة وبغمزة من عينيه قالها لتضحك إلوا وتجيبه بعيون متعسة :
– أوه هذا مثير للاهتمام .
ابتسم فزفرت إلوا وتابعت بترقب :
– حسنًا الآن سأسألك عدة أسئلة وأعطني الجواب بكلمة واحدة أو جملة صغيرة ومعك فقط حق الاستفاضة والتوضيح لسؤال واحد منهم .
أومأ بثبات فبدأت أولى أسألتها :
– أي من كتاباتك يعبر عنك ؟
– بحر ثائر
– كنت أعلم
نطقتها بسعادة وحماس وعادت لهدوئها تسأل سؤالها الثاني :
– لمَ تكره العرب وخاصة النساء بالرغم من أنك عربي الأصل ؟
– كلما ابتعدت رأيت بوضوح .
1
أثار دهشتها بجوابه فعلقت متسائلة بفضول :
– كيف هذا ؟
– طلبتِ إجابة مختصرة .
قالها بذكاء فأومأت لتتساءل بالتالي :
– هل لديك عائلة في بلدك الأم ؟
– نعم
– وكيف علاقتك بهم ؟
– على تواصل منقطع .
وكيف علاقتك بابنك ؟
– ممتازة
وبطليقتك ؟
– جيدة
– لمَ تفضل الكتابات الغامضة؟
– لأنني أُفضل الكتابات الغامضة .
رفعت نظرها إليه فوجدته يعاود الغمز لها لذا ابتسمت وعادت تنظر في ورقة الأسئلة التي دونتها ثم تساءلت :
– هل تحب فرنسا ؟
– كثيرًا .
– ومصر ؟
توقف بعدما كان يجيب سريعًا ، دقق النظر بها ثم سبح للبعيد وتحدث مستفيضًا :
– أحب التقدير ، أحب من يعطيني مكانتي ويقدر أهميتي ، أحب من يفضلني عن الغرباء ويحتويني مهما كانت الصعاب ، لذا اتخذت من الكتب موطنًا لي ومن القلم مسْكنًا ومن كلماتي مُسَكّنًا ولم أعد أهتم بشيء بعد ذلك .
2
رفعت بصرها له مجددًا تلاحظ تبدل ملامحه ، لم يعد المرح مرتسمًا فوق محياه بل التجهم لذا تحمحمت وابتلعت لعابها تكمل سريعًا :
– لأي بلد تحب السفر ؟
– فرنسا ومدنها فقط .
هل تفكر بالارتباط مجددًا ؟
– ربما يومًا .
اذكر صفة تحبها في النساء
– السلام .
صفة تحبها في شريكة حياتك
– أن تبتسم دومًا .
هل ترى نفسك غامضًا ؟
– لا أعلم لماذا يراني الجميع غامضًا ؟ جميعهم لهم أسرارًا وخبايا أما أنا فأحب الصمت ولكن كتبي تشرح كل شيء عني .
عادت تطالعه بتعجب ، لقد ظنت أنه سيجيب بنعم دون جدال ولكن جوابه يعد غموضًا في حد ذاته لذا ابتسمت تجيبه :
– مخادع .
ابتسم بثقل وتحدث وعينيه مصوبة عليها :
– ليس بعد .
ضحكت وهزت منكبيها تغلق دفترها قائلة :
– لقد ظننت أنني سأكتشفك بعد هذا اللقاء ولكن تعقدت الأمور أكثر سيد ثائر ، يبدو أنك تتقن فن الرد ، ما رأيك هل نكمل الأسئلة الآن أم نتواعد غدًا لشرب القهوة ؟
زفر لثوانٍ ثم أجاب بهدوء مبطن بالغموض :
– الأفضل لا ، دعينا لا نلتقي مجددًا ، ومع ذلك هذا اللقاء كان من دواعي سروري آنسة إلوا .
نهض يغلق زر بدلته ويودعها فاتجهت معه تتساءل بتعجب :
– لمَ لا إذا كان اللقاء من دواعي سرورك ؟
التفت يطالعها ويجيبها قبل أن يغادر المقر :
– لأنني أقدر حماسك وليس شيئًا آخر ، طاب يومكِ .
ودعها واستقل سيارته وغادر وترك خلفه قلبًا تعلق به أكثر وعقلًا تعجب من أفعاله .
أما هو فقد أتى لشيء في نفسه ليس إلا ، هو ليس بحاجة لقاء صحفي ولكنه أراد توصيل رسالة مشفرة إلى توماس آو ليان … وغيره .
1
❈-❈-❈
بعد يومين .
برغم أنها مسالمة لا تحب الخصام إلا أن هجره لها ومكوثه في الطابق العلوي عاد عليها بالراحة والهدوء ، جعلها تمارس عملها وهوايتها دون نقدٍ أو صراعات .
تحسن مزاجها فباتت مرحة أكثر مع أطفالها في هذين اليومين وأوشكت على إنهاء قراءة كتاب بحر ثائر .
قرأت الكثير من الكتب خاصة في مرحلة الثانوية ، قرأت عن الأدب الفرنسي وتعلقت باللغة الفرنسية وقرأت لكتُاب كُثر مشهورين ومؤخرًا باتت تقرأ روايات رومانسية على موقع إلكتروني ولكن بحياتها لم يثِر كتابًا فضولها وتساؤلاتها كما فعل هذا البحر ، غموضه جعلها تريد معرفة ماضي هذا الرجل وما أوصله لتلك الحالة وكيف يكون تارةً حكيمًا وتارةً أخرى متقلبًا عاصفًا مخيفًا .
استلهمت منه بعض التدوينات التي حددتها لتدونها عبر الانستجرام الخاص بها ، لم تعِد الهاتف لشقيقها كما أمرها زوجها بل قررت الاحتفاظ به وإخفاؤه عنه .
1
استيقظت وبدأت يومها بتحضير الفطور لوالدة زوجها أولًا بسبب أدويتها .
اتجهت إليها تضع الصينية جانبًا وتوقظها ولكن السيدة كانت تنام بعمق وصوت أنفاسها عاليًا بشكلٍ أثار تعجبها .
حاولت إيقاظها ولكنها فشلت فزاد تعجبها وقررت أن تنادي زوجها من الأعلى ليرى ما بها ربما كانت مريضة .
اتجهت تناديه وحينما وجدها أمامه كاد أن ينفعل ولكنها أسرعت تقول :
– كمال ماما نايمة وعمالة أصحيها مش راضية تقوم وفيه صوت شخير جامد .
قطب جبينه وأبعدها ثم نزل الدرج مسرعًا ودلف الشقة يتجه إلى غرفة والدته ليراها فوجدها تنام على ظهرها وصوت أنفاسها حادًا فاقترب يناديها بحذر ويدنو بأذنه من فمها قائلًا :
– ماما ؟ فوقي يالا .
سمع همهمات منها فزفر براحة يبتعد ثم نظر بجمود نحو ديما التي لحقته وأردف :
– نايمة ، سبيها تنام براحتها إنتِ عارفة إن بقالها كتير أوي مانمتش .
اندفع يغادر وتركها تقف تطالعها بشرود وتعجب ، هل هذا نومًا ؟
❈-❈-❈
يقف في شرفته يحتسي قهوته الصباحية وفي يده هاتفه يتصفحه ويقرأ اللقاء الصحفي الذي عُرض صباحًا وخلفه التلفاز يبث أخبار اليوم الفرنسية .
بملامح ثابتة لا تعبر عن أي شيء ، وضع الهاتف على حافة النافذة وشرد ينظر أمامه ويفكر ، حياته باتت عبارة عن لغز كبير ولقاء مع تلك الفتاة جعله يستعيد ذكريات كثيرة ، ذكريات مرت عليها سنوات ولكنه توقف عندها لذا قرر التحدث مع والده .
عاد يمسك بهاتفه ويهاتف والده مكالمة مرئية .
في هذه الأثناء كان أمجد ينام حينما اهتز هاتفه لذا استيقظ بسهولة يلتفت يلتقطه وينظر له فظهر له اسم ابنه فنهض ينظر لزوجته النائمة ثم تحرك يغادر الغرفة ويتجه نحو غرفة مكتبه .
أغلق بابه وفتح المكالمة يطالعه بملامح هادئة ثم ابتسم قائلًا بنبرة مبهمة :
– تقريبًا كدة حلمت بيا ، مهو مش معقول بتكلمني عادي كدة .
تعمق في ملامح والده التي يشوبها النعاس ثم أجابه بهدوء ينافي ضجيج أفكاره :
– أجل رأيتك في أحلامي فقلت أطمئن عليك ، كيف الحال ؟
تنفس أمجد بقوة وقرر مبادلته الحديث بالفرنسية لعلمه أن ابنه تخلى عن العربية منذ زمن :
– بخير ، ولكن والدتك ليست ، تريد أن تراك بأي وسيلة ، باتت لا تحتمل بعدك وكلما مر الوقت ازداد الأمر صعوبة وأنا بالكاد أطمئنها ، ما رأيك لو ترتب أمورك وتذهب إلى دبي ونقابلك هناك ، دعها تراك يا ثائر .
1
– لا ، لا يمكنني مغادرة فرنسا الآن ، هيا يا سيد أمجد استخدم سطوتك عليها أم أنك بت لا تعرف كيف تحتويها .
قالها ثائر مشاكسًا لوالده الذي يعلم جيدًا أنه يحب والدته ، يحبها ويقدرها ويدللها لذا أجابه أمجد بنبرة مماثلة :
– ومن الذي احتواها كل تلك السنوات أيها العاق ، ليتها أنجبت إناثًا بدلًا عنكما ، أنت لا تبالي وشقيقك أوشك على التبري منا .
بدأ أمجد مازحًا ثم أنهى جملته بملامح حزينة حينما تذكر ابنه ليقول ثائر وهو يتجه يجلس على الأريكة :
– لا أحمد لن يفعلها اطمئن ، حتمًا سيعود ، وبالنسبة لي فأنت تعلم أسبابي ، لا تمزح أبدًا في الأمر الذي يؤرقني ، أتركني أقاوم أبي .
1
شعر أمجد أنه زادها عليه لذا زفر بقوة وقال وهو يستريح منفردًا على مقعده :
– كيف حال معاذ ، هل هو بخير في ذلك المنزل ؟ أرجو ألا ينشأ على طباعهم ثائر .
كان قد انتبه ثائر لشيءٍ آخر ، شيئـا يعرض أمامه على شاشة التلفاز ، سيارة يتم انتشالها من النهر بعدما وقعت به وأرفق في شريط العنوان أن السيارة تعود لفتاة عشرينية تعمل صحفية عثر عليها داخلها وكانت جثة هامدة ، تدعى إلوا إيفريا .
تجلت الصدمة معالم وجهه وأبعد الهاتف يعاود قراءة الخبر ويشاهد السيارة التي وضعوها على جانب الطريق وبدأوا بفحصها ليتبين لهم كفحص أولي عدم وجود مكابح .
خرج من شروده على نداء والده لذا طالعه فتساءل الأول :
– ماذا هناك ثائر ؟
– مارتينا .
نطقها بملامح متجهمة وهو يحدق في والده ثم أغلق معه ونهض يرتدي ثيابه على الفور .
❈-❈-❈
أحيانًا تخطو نحو نهاية سعادتك بقدميك وبإرادتك الكاملة ودون أن يرف لك جفن ، بل أن غباءك صور لك أنك تعبر من بوابة الكآبة إلى الجنة . ( بقلم آية العربي )
وصل إلى العنوان المنشود بعدما هاتف تلك المدعوة زينة ، منذ يومين وهما يتحدثان عبر الهاتف ليذهب ويرى ما تود بيعه لتخبره أن ينتظر قليلًا فوالدتها متعبة ولكنها حدثته ليلًا كأنها تعرفه منذ أمد .
1
تشتكي له القهر الذي تعرضت له وتخبره بمزاياها التي لم يقدرها طليقها ليستفيض ويبدأ إخبارها أيضًا عن مشاكله مع زوجته التي لا تطيعه ودومًا تكون سببًا لافتعال المشاكل .
مكوثه في الشقة العلوية لم يكن هباءً بل لينفرد بمكالمات ليلية بينه وبينها وكلٍ منهما يشتكي للآخر عن كم الظلم الذي تعرض له من شريكه .
هي تخبره بمعاناتها خلال شهرين فقط من زواجها ، تخبره كم أهملها زوجها وكيف كان بخيلًا بل شديد البخل للدرجة التي كان يتركها فيها دون طعام .
وهو يخبرها بمعاناته مع زوجته التي لا تشعر بكم النعيم والبذخ اللذان تتقلب فيهما ، سرد لها تفاصيل عن حياته ، وتفاصيل أخرى يجملها عن شخصيته وتفاصيل كاذبة ليسيىء إلى زوجته .
والحقيقة أن الأمانة عبئا عليه ، الأمانة التي أبت أن تحملها الجبال وحملها الإنسان لم يكن بمقدوره حملها .
1
طرق الباب ففتحت له بابتسامة مزينة كحال وجهها وهي ترحب به وتبتعد عن طريقه قائلة :
– أهلًا اتفضل يا كمال نورت .
ابتسم لها ودلف ينظر حوله حيث المكان عبارة عن منزل رديء ، تجلس والدتها على أريكة جانبية تطالعه بتفحص ثم تحدثت بترحاب :
– أهلًا أهلًا يابني اتفضل .
أشارت جانبها ليجاورها فجلس يتطلع على زينة التي جلست أمامه ترحب به بحفاوة وتركت والدتها تسرد له سبب بيعها للأغراض .
❈-❈-❈
انهت ديما الغداء وحملته واتجهت لتوقظ حماتها وتطعمها وحينما وصلت إلى غرفتها لم تسمع صوت أنفاسها لذا وضعت الصينية جانبًا واتجهت تهزها ولكنها تفاجأت بتصلب جسدها .
اتسعت عينيها وهي تحاول لفها لتصدم من التفاف السيدة معها ، بوجهٍ بارد وشاحب مفارق للحياة .
شهقة قوية ودموعًا انهمرت كالشلال ويدان مرتعشتان وضعتهما على فمها وهي ترى أمامها جثة حماتها .
لا تصدق ما رأته وقد شل عقلها عن التفكير ليأتي من خلفها مالك يتمسك بقميصها ويهزه متسائلًا بطفولية :
– ماما في إيه ؟
انتبهت لطفلها والتفتت تطالعه بجحوظ وبكاء ثم عادت تقترب من السيدة وتردف بترجٍ ونشيج :
– ماما افتحي عيونك لو سمحتِ ، لاء مش ممكن لاء .
بكى الصغير وهو يرى والدته تبكي لتأتي على صوتهما رؤية وتعانقهما وتبكي أيضًا دون أن تعلم السبب .
حاولت التحامل وتمسكت بصغيريها تحتضنهما وتهدهدهما مردفة بحزنٍ شديد :
– إنا لله وإنا إليه راجعون ، لا حول ولا قوة إلا بالله .
سحبتهما وخرجت من الغرفة تبحث عن هاتفها ، تركتهما في الصالة وانتشلت الهاتف من فوق السفرة بيدٍ مرتعشة ودموعٍ لم تتوقف وصوت نشيجها يعلو تحاول الاتصال بزوجها
❈-❈-❈
كانت قد انتهت السيدة من إخباره بالحديث الذي زاده عبوسًا لتتحدث زينة بغنج حينما لاحظت ضيقه :
– ها تحب تشرب إيه يا كمال ؟
بنظرة ذات مغزى أجابها :
– لا شكرًا ، خلينا نشوف بس الحاجة اللي قولتي عليها .
ابتسمت وأشارت له ليتبعها فنهض واتجه خلفها حيث تحركت نحو غرفة فتحت بابها وأشعلت إضاءتها ليظهر له أثاثًا وأدواتًا منزلية مكومة فوق بعضها ، تعجب ونظر لها بصمت فأردفت موضحة بتغافل عن نظراته :
– هما متكومين على بعض كدة علشان الأوضة ضيقة بس ماتقلقش كل حاجة سليمة وجديدة .
أومأ لها ثم أردف بهدوء بعدما شعر بالاستغلال يلوح من عينيها :
– طيب ماشي أنا هروح المحل وأبعتلك حد من العمال ييجي ياخدهم في عربية وهناك هعرف أشوفهم كويس .
تحرك خطوة ولكنه توقف حينما نادته وحينها رن هاتفه ليلتفت لها وينتشل هاتفه في نفس اللحظة .
كانت تبتسم وتقترب منه بخبث لذا فتح الخط يجيب مسرعًا على زوجته :
– أيوة يا ديما ؟
– الحقني يا كمال ، تعالى بسرعة ماما مش بتنطق .
❈-❈-❈
كعادته يباشر عمله في ورشته وسط الصبية .
كان يجلس يحتسي كوبًا من الشاي الذي أحضره له دقدق من المقهى ، يستريح قليلًا ويفكر بشرود في حاله وحال عائلته ومتطلبات الحياة التي لا تنتهي ، يسعى ليطمئن عليهن وخاصةً شقيقته الصغرى ويسلمها لرجلٍ يحبها بصدق ويراعيها ليس كما حدث مع شقيقته الكبرى .
زفر بقوة وعاد يرتشف الشاي ليتفاجأ بظهور شاب أمامه يطالعه ويلقي السلام قائلًا بملامح شامخة :
– السلام عليكم ، يعطيك العافية يا باش مهندس ، أنا جايلك بعد ماناس كتير دلوني عليك .
قطب داغر جبينه حينما استمع للكنة الشاب ونهض يتقدم منه متسائلًا بشك :
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، اتفضل خير ؟ إنت منين ؟
تمعن الشاب فيه وبعزة نفسٍ تعد جزءًا لا يتجزأ منه قال وفيه عينيه ألف رواية حزينة :
– أنا فلسطيني ، من غزة .
لم تمر لحظات حتى أسرع داغر يرحب به بحبور وتجلت على ملامحه الفرحة :
– أهلًا يابن البلد الطيبة ، نورت ياخويا اتفضل .
سحبه معه للداخل واستل له مقعدًا ثم جلس وحثه على الجلوس ونادى على الصبي يردف :
– حاجة ساقعة يا دقدق بسرعة .
ركض دقدق يحضر طلبه بينما تعامل داغر مع الشاب الذي لم يسعه الشكر لذا أردف :
– شكرًا يا باش مهندس تسلم ، أنا اسمي محمود ، بقالي شهرين هان بمصر ، كنت چاي أدور على شغل والناس دلوني عليك .
بالرغم من كونه كان يفكر منذ قليل في كيفية سد متطلبات الحياة إلا أنه أومأ دون تردد يردف بلطف :
– تمام بسيطة ومحلولة يا حودة ، أؤمر وأنا عنيا ليك مش هتأخر .
– تسلم يا باش مهندس ، انت فعلا زي ما الناس حكت عنك .
ربت داغر على كتفه يردد برصانة :
– سيبها على الله ربنا يصلح حالنا جميعًا ، المهم قول لي إنت عامل إيه ؟ ووصلت مصر إزاي ؟
تنهد الشاب وبدأ يسرد قصته موضحًا :
– أنا كنت أدرس هانا بالأزهر تخصص هندسة ميكانيكا ورجعت ع غزة واشتغلت مع عيلتي في المصنع تبعنا بس للأسف كل شيء راح وأهلي واخواتي استشهدوا وما ضل غير أنا وابويا اللي اتصاوب واصابته كانت خطيرة فأجينا على مصر علشان اعالجوا وقلت أدور على شغل هانا .
تمعن داغر فيه وانفطر قلبه على حال الشاب الذي يبدو أن الرفاهية نالت من حياته ما نالت ولكن الألم والحزن كان له نصيبًا أكبر لذا زفر بقوة يومئ مجيبًا :
– ربنا يرحمهم جميعًا ويشفي والدك ، ماتحملش هم زي ما قلتلك محلولة .
❈-❈-❈
ابتعاده عنها لم يكن نفورًا أو كرهًا بل ابتعد لأنها باتت حملًا عليه بعدما كانت حملًا له .
إهماله لها لم يكن عن عمدٍ بل لأنه لم يعتد تحمل مسؤولياته
انزعاجه منها لم يكن ثقلًا بل كان من تصرفاتها التي لا تروق له .
لذا كان يركض ويتعثر وصوت أنفاسه تتلاحق حتى وصل بيته ليندفع إلى غرفة والدته حيث زوجته تبكي وتجلس جوارها تمسك بكفها وتتلو آيات القرآن .
انعكست الصورة في عينيه وهو يقترب ثم سقط أرضًا عند رأسها يصرخ بصوت باكٍ يقطع أنياط القلوب :
– مامــــــــــا ، قومي يالا قومـــــــــي ، قومــــــــي أنا جيت أهــــــو .
1
جلست ديما بجواره تبكي وتواسيه وتنظر لحماتها نظرة وداع ومازالت لا تستوعب أن ماتعيشه حقيقة .
ليحني رأسه بانهيار، يصرخ ويهتز ويهزها بهستيرية ، ماتت جيشه الوحيد ولم يعد له أحد ، ماتت من كانت قوته ، حتى في نومتها كانت تمده بالقوة ومن الآن وصاعدًا لن تكون موجودة لذا فعليه أن يبحث عن ركنٍ جديد يمتص منه قوته .
1
❈-❈-❈
القتل بالنسبة له أصبح أمرًا اعتاديًا بات يمر عليه مرور الكرام ولكن أن تقتل فتاة عشرينية كل ذنبها أنها أجرت معه لقاءً صحفيًا ؟ هذا مالم يتحمله .
وصل أمام فيلتها وترجل من سيارته يسيطر على اندفاعه بخطوات هادئة متزنة ثم وقف أمام الباب يطرقه لم ينتظر كثيرًا حيث فتحت له العاملة ترحب به فسألها دون إطالة :
– أين مارتينا ؟
– إنها في الداخل سيد ثائر تأخذ حمامًا ، تفضل .
زفر بقوة وألقى لفافة تبغه يدعسها بقدمه قبل أن يلج وتتبعه العاملة حتى وقف في البهو يتطلع على المكان من حوله ثم تساءل بترقب :
– هل السيد جيلر موجود ؟
– إنه على وصول .
– حسنًا سوف أصعد لها .
قالها وتحرك يصعد غرفتها قبل أن يراه ابنه الذي يعلم جيدًا أنه بغرفته .
وصل الغرفة وفتح الباب يندفع للداخل يبحث بعينيه فسمع صوت المياه المتدفقة لذا اتجه يقف أمام مؤخرة السرير ويتكئ عليه وعينيه مسلطة على الباب منتظرًا خروجها .
لم تطل كثيرًا حيث مر حوالي ثلاثة دقائق وخرجت ترتدي مئزرها وتجفف خصلاتها .
انتفضت حينما وجدته أمامها ولكنها أسرعت تبتسم وتقترب منه وهي تلقي المنشفة أرضًا ثم وقفت أمامه قائلة بعيون ماكرة وملامح سعيدة يختبئ خلف ستارها الجنون :
– ثائر ! ما هذه المفاجأة السارة ؟
– أنتِ قتلتِ إلوا !
أومأت واتسعت ابتسامتها تجيبه بفخر :
– نعم فعلت ، وسأفعلها مع كل من تقترب منك .
فارت دماؤه لذا رفع كفه يقبض على عنقها فجحظت وفرغ فاهها وهو يحركها حتى اصطدمت بالجدار المقابل وحاصرها ينطق بنبرة يختبئ الغضب في رحالها :
– أنتِ مكانكِ ليس هنا بل في مشفى الأمراض العقلية ، وسأعمل على ذلك مارتينا .
حاولت الإفلات منه ولكن قبضته كانت متعمدة ، قوية وليست مميتة لذا استرسل بملامح قاسية :
– ما ذنب تلك الفتاة أيتها الحقيرة ؟ ما ذنبها ؟
نطق الأخيرة وهو ينفضها ويبتعد عنها لتتعثر وتسكن قليلًا تلتقط أنفاسها ثم اعتدلت تطالعه بنظرات حادة وقد توحشت ملامحها ثم نظرت حولها لتعبر عن جزءٍ من غضبها والذي كان من نصيب تلك المزهرية البائسة وهي تقبض عليها وتلقيها نحوه بجنون فتفاداها ينحني فبدأ جنونها وهي تصرخ وتثور بهجمية وتهشم كل ما تطوله يديها :
– أنا الحقيرة ؟ تنعتني أنا بالحقيرة لأجل فتاة تحبك وكانت تريد منك مواعدة ؟ هل أغرمت بها ؟ هل أعجبتك ؟
1
وقف أمام جنونها مقيدًا ، هذا الجنون الذي دومًا ما يعجزه ويقيد حريته ، ابتسمت بتلاعب حينما لاحظت شروده وقلقه حيال نوباتها لذا اتجهت نحو مرآتها تنتشل كل ما فوقها وتهشمه إما أرضًا أو في الجدار لذا رفع يديه يحاول السيطرة على نوبة جنونها مردفًا بهدوء يحمل وعيدًا :
– اهدئي مارتينا .
ثارت أكثر وهي تتابع بصريخ :
– لست مجنونة ، لا تطلب مني أن أهدأ ، أنا أعشقك أيها الغبي .
أغمض عينيه ثم بسرعة بديهية فكر ، ربما اعتاد ابنه على جنونها وتكسيرها لذا فهو لن يهتم ولكن والدها على وشك القدوم وإن علم أن نوبتها هذه بسببه فسيحدث مالا يحمد عقباه لذا تقدم منها يخطو فوق زجاجات العطور وأدوات التجميل المهشمة فرفعت إحدى الزجاجات للأعلى تردف بتحذير :
1
– إياك أن تقترب .
لم يبالِ بل تقدم حتى وصل إليها ولم تستطع ردعه بل هذا ما أرادته ، مد يده يلتقط منها الزجاجة فباتت تهتز بين يديه بعنف وتدعي دفعه ظاهريًا ولكنها تسعى للالتصاق به مردفة بصراخ حاد :
1
– ابتعد عنــــــــــــــــــــــي ، إيـــاك ولمســــــــــــي .
حاول تقييدها فتلوت بين يديه لذا دفعها نحو الجدار واتجه يقيدها بجسده ويردف بعيون تحذيرية :
– اخرسي ، كفي عن الصراخ .
كشرت عن أنيابها لتحصل على ما تريده وتعالى صراخها وهي تجيبه :
– لن أتوقف ، هيا قل لي ، هل أعجبتك تلك ال** ، هل كنت ستواعدها ؟
كانا ملتصقان بالشرفة لذا سمع صوت سيارة والدها فمال ينظر سريعًا من خلف الستار فوجده يدلف الفيلا لذا عاد يطالعها ويردف بخفوت ونظرة ثاقبة :
– قلت أخرسي ، أنتِ مجرمة .
اتسعت عينيها وهي تبتسم وتومئ له بتوعد ثم أفرغت فاهها لتعاود الصراخ فهجم عليها يكمم فمها بشفتيه ليعطيها ما تريده ، يعلم جيدًا نواياها ويعلم ما تسعى إليه ولكنه مقيدٌ بجنونها الذي سيقلب الأمور رأسًا على عقب ، لم يُسمح له بالثورة بعد بل أنه يحتاج عشقها هذا لذا قبلها لتبادله سريعًا باحتراف ومهارة وباتت تحاول فك أزرار ثيابه ولكنه قبض على يديها ثم ابتعد إنشًا وهمس :
1
– توقفي .
ابتعد خطوة يطالعها فوجدها تتلوى احتياجًا له لذا زفر بقوة ثم أردف :
– لم ينتهِ حديثنا .
فتحت عينيها تطالعه بمكر يتلاعب على محيّاها ثم حاولت الاقتراب وهى تقول بنبرة هادئة تنافي تمامًا ما كانت عليه بعدما امتصت قبلته جنونها :
– دعنا لا ننهيه ثائر ، فلتخرسني مجددًا .
وقف يطالعها بثبات فابتسمت وامتدت يدها تحل عقدة رباط مئزرها وأسقطته أمامه تردف بإغواء :
– ألم تشتاق؟
عهدها جريئة بل تتصدر قائمة الوقاحة لذا لم تهتز به شعرة حتى وإن تحركت غرائزه ولكنه بارع في التخفي لذا رفع سبابته قبل أن تلتصق به وعاد خطوة للخلف وهو يسترسل بنبرة مبهمة :
– توقفي الآن ، أخبرتكِ ألا تخطئي وفعلتِ لذا ستعاقبين ، هذه المرة ليست كغيرها مارتينا ، أنتِ قتلتِ فتاة بريئة .
هزت كتفيها تردف بابتسامة خبيثة :
– لا أهتم ، وإن كان العقاب منك سأفرح ، واعلم أنني سأفعلها دومًا وسأقتل أي أنثى تقترب منك .
– أنتِ تكثرين من وضع الحواجز بيننا ، بعد كل تلك السنوات لم تعرفيني بعد .
– لطالما كانت هذه رغبتك ، أنت لا تسمح لأحدٍ بالغوص في بحرك ثائر ولهذا قتلت تلك الفتاة ، فأنا لا أعلم هل ستحبها أم لا ولن أجلس بهدوء وعقلي يهيئ لي أنك ربما تفكر بها أو تعجب بها .
قالتها وانحنت تلتقط مئزرها وترتديه أمامه ثم أردفت بثقة وتباهٍ وعينيها عليه وهي تغلق رباطها :
– لا تقلق ، لن يعاقبني على مافعلته أحد سواك ، مازال هناك شيئًا مميزًا انتفع به من والدي وهي نفوذه ، لذا اطمئن ، هيا لنخرج ونرى معاذ سيفرح حينما يرانا سويًا .
وقف يتأملها لبرهة ، لم تكن قط تلك المرأة الهينة ، لم تكن يومًا مسالمة بل هي امرأة الخراب ذاته ، جنونها زاد من قوة الضغط عليه لسنوات وبرغم ذلك يكتم ثورته في أعماق بحره .
زفر بقوة ثم تحرك يغادر الغرفة وهي خلفه تبتسم بانتصار وهو أمامها عقله ملغمًا بالأفكار ولسان حاله يردد ؛ كيف ومتى ستكون ثورته .
❈-❈-❈
عملها في الشركة الصينية مع زميلتيها وزميلها قد أفادها كثيرًا لتتخطى الرهاب الإجتماعي الذي كانت تشعر به ، ربما لا تظهر بطبيعتها وعفويتها سوى مع عائلتها وخاصة شقيقها ولكنها اعتادت على زملاء عملها بل أحبتهم خاصةً مايسة قليلة الكلام .
أنهت ترجمة العقود من العربية إلى الصينية وجمعت الأوراق ثم نهضت لتطبعهم ولكن أوقفتها زميلتها فرح تسأل بنبرة فضولية :
– رايحة فين يا دينا ؟
التفتت تطالعها بنفاذ صبر فهي تثرثر منذ أن بدأ الدوام لذا أجابتها بنزق :
– هطبعهم يا فرح وراجعة مش مسافرة الصين أنا .
زفرت وغادرت المكتب فابتسمت عليها مايسة وسلطت أنظارها على حاسوبها دون إعطاء الأمر أهمية بينما كان شريف يختلس النظر إليها وفرح تلاحقهما بعينيها وتبتسم بمكر .
تحركت دينا في الردهة المؤدية للمطبعة الخاصة بالشركة وأثناء مرورها من أمام المصعد انفتح بابه وخرج منه شابًا بشكلٍ مفاجئ اصطدم بها فوقعت الأوراق من يدها .
شهقت ولم تنظر له بل تمتمت بتجهم وضيق :
– يووووه بقى ، مش ناقصة أنا صدف المسلسلات التركي دي .
انحنت تلملم الأوراق فوقف يتفحصها ثم تحدث باللغة الفصحى :
– أعتذر منكِ آنستي .
قطبت جبينها متعجبة من نطقه لذا رفعت أنظارها تطالعه لتجده شابًا صينيًا وخلفه يقف اثنان من الحراس .
فرغت فاهها ونهضت تطالعه لبرهة ثم تحمحمت وأردفت بهدوء يخفي تباهٍ بلغتها الصينية :
– 不 在你身上 ( لا عليك).
رفع حاجبيه بإعجاب ثم وضع كفيه في جيبيه وتابع بالصينية :
– 合法化 中国人 ( تتقنين الصينية )
– 一点 ( قليلًا)
نطقتها بابتسامة هادئة فأومأ ثم تحرك وتبعه حراسه والتفتت هي تكمل طريقها بأنفاسٍ متصاعدة من هيبته وهيأته ولكنه توقف عن السير يلتفت ويسألها بالفصحى :
– ما اسمك آنستي ؟
تجمدت لبرهة ثم التفتت تنظر له بتعجب ولكنها أجابته بنبرة مغلفة بالجدية :
– اسمي دينا .
أومأ له والتفت يكمل طريقه فعادت تلتقط أنفاسها وأكملت طريقها وهي تنسج قصصًا وخيالات وتبتسم على سذاجتها وخيالاتها .
❈-❈-❈
بعد مرور أسبوع .
استنفذ فيه كمال طاقته وقضاه في الحزن والعُزلة في غرفته ، عاملته ديما كما تعامل مالك ولكن بمشاعر مختلفة تمامًا ، بنوعٍ من الرأفة ساندته وواسته هي وأسرتها .
كان بعيدًا عن طباعه ، وديعًا مسالمًا وكأن موت والدته كان انهدام لقلعة جبروته .
على باب شقتها كانت تقف مع داغر الذي أتى ليعطيها أغراضًا ويطمئن عليها ، وقفت تلتقط منه الأغراض وتقول بامتنان وابتسامة محبة :
– تعبتك معايا الأسبوع ده يا داغر .
مد يده يلكم رأسها بخفة قائلًا :
– بقيتي مملة ، جوزك عامل إيه دلوقتي ؟
نطقها باهتمام من أجلها لا من أجله لذا أومأت تردف :
– بيتحسن يا داغر ، ماكنتش أتوقع إن موت مامته هيأثر عليه أوي كدة .
زفر يومئ ثم تابع يدعو بشك :
– يارب بس يكون دافع ويتغير للأحسن .
– يارب يا داغر .
سمعه ينادي لذا استرسل وهو يربت على ذراعها :
– يالا ادخلي إنتِ شوفيه ولو احتجتِ أي حاجة كلميني .
أومأت والتفت يغادر مسرعًا فأغلقت الباب بتنهيدة قوية وتحركت تضع الأكياس على مائدة الطعام ثم توجهت نحوه لتجده يجلس على فراشه ويشير لها أن تجاوره قائلًا :
– ديما تعالي عايزك .
اتجهت بترقب تجلس أمامه وتطالعه بعيون متسائلة لتجده فجأة يلقي بنفسه في حضنها ويبكي ، تصنمت تستوعب فعلته لتجده يهتز ويردف داخلها :
– مبقاش ليا حد يا ديما ، أمي ماتت وسابتني ، مابقاش ليا غيركوا .
1
بعاطفة لفت ذراعيها حوله تربت على ظهره وتسانده وتردف بنبرتها اللينة :
– اهدى يا كمال ، ماما ارتاحت وربنا رحمها ، إنت عارف إن وضعها كان بيسوء يوم عن يوم ، ادعيلها بالرحمة .
ابتعد عنها يومئ مرددًا :
– بدعيلها دايمًا .
رفع نظره يتعمق فيها ثم استرسل :
– إنتِ بنت أصول ، اتحملتي معايا مسؤوليتها ، ماقصرتيش معاها وشيلتيها في تعبها ، أنا عمري في حياتي ماهنسالك اللي عملتيه معاها .
1
صدقته ، صدقته لأنه يتحدث بهذه الطريقة للمرة الأولى لذا أردفت بصدق :
– أنا عملت ده لنفسي يا كمال ، سواء أسأت ليها لنفسي سواء أكرمتها لنفسي بردو ، أنا مؤمنة جدًا بالحكمة اللي بتقول افعل يابن آدم ما شئت فكما تدين تدان .
تأملها لبرهة شعر فيها بالخوف الذي تبخر سريعًا وهو يسترسل ويقتنع بأفكار نفسه :
– خلينا نبدأ صفحة جديدة مع بعض يا ديما ، أنا عارف إني عصبي وطباعي صعبة شوية بس أنا مابقاش ليا غيركوا ، وصدقيني أنا بحبك جدًا واللي في قلبي ليكي كبير أوي ، خلينا ننسى أي حاجة عملناها في بعض قبل كدة ونفتح صفحة جديدة ومن هنا ورايح في أي مشكلة تحصل بينا هنتناقش ونحلها ، المهم ماتبعدوش عني .
ابتلعت لعابها وشبح ابتسامة مر عليها وهي تجيبه بنبرة مبطنة بعدم الأمان :
– هنبعد عنك إزاي بس يا كمال ، إحنا معاك دايمًا وصدقني فترة صعبة وهنعديها سوا ، ومادام إنت نويت نبدأ من جديد هتلاقيني دايمًا إيدي ممدودة للصلح ، إنت عارف إني مش بحب أي خناقات بينا ولا بحب جو التوتر والمشاكل .
مد يده يتحسس وجنتها ويبتسم مردفًا بتأكيد :
– عارف طبعًا ، صحيح أوقات بتستفزيني بهدوءك بس أنا بحبك زي مانتِ كدة .
ابتسمت بتكلف ولم تناقشه فانحنى يقبلها فجأة فتهاوى قلبها وشعرت أنها تتنفس في قدميها فلم تستطع مبادلته بل تجمدت لثوانٍ لذا ابتعدت يحدق بها متسائلًا بملامح متجهمة لا تمت لحديثه بصلة :
– مالك يا ديما متخشبة كدة ليه ، ماوحشتكيش ولا إيه ؟
تحمحمت ورفعت كفها تعيد خصلاتها خلف أذنيها بتوتر تجيبه :
– لا أبدًا اتفاجئت .
زفر وعاد يقبلها فادعت الاستجابة وهي تتمنى لو استطاعت مبادلته بصدق ولكن لا تعلم ما الذي أصابها ، موجة من الصقيع اجتاحت مشاعرها نحوه هكذا فجأة .. أو على مراحل متعددة ولكن هبت على عقلها الآن رياح مقولة قرأتها في كتاب بحر ثائر والتي كانت .
( تظاهر أنك تصدقهم في كل مرة تشعر أنهم مخادعون ، تظاهر فقط ) .