رواية بحر ثائر الفصل الثالث3 بقلم اية العربي


 رواية بحر ثائر الفصل الثالث بقلم اية العربي

غريب مغرم بغربته، وحيد مولع بوحدته، هذا أنا…

مُحترِق، من كل ثقب من الألم مُخترَق، هذا قلبي….

بارد لا إحساس لا شعور، هذا أنا…..

مهزوم مخذول من الأمل محروم هذا قلبي…

وسيم، مشهور موهوب محبوب هذا أنا……

مسموم، مهموم ، مهزوم هذا قلبي

هناك في القمة، هذا انا…

وهناك في الخطر والغرق والموت و السقوط كان قلبي…

هذا أنا حاضرًا… وذاك قلبي ماضيًا

بقلم فيروزة ( صديقتي وقارئتي المميزة )

❈-❈-❈

لينة بطبيعتها ، تتبع مشاعرها بعدما تستأذن عقلها لذا فهي تقود خلفه دون اعتراض ، برغم أنها ليست بحاجة لتصليحه سيارتها ولكنها تتبعه ، هناك احتمالًا كبيرًا أن عمها علم بما حدث ولهذا أرادت أن تتأكد .

وجدته يدلف من منعطفات غير مألوفة بالنسبة لها ثم دلف شارعًا شعبيًا وهي خلفه ، على يمينها مقهى يحمل لافتة بعنوان قهوة السعادة لتتأمل هؤلاء الرجال الذين يجلسون يتبادلون أطراف الحديث ويحتسون الشاي .

على يسارها مطعم لبيع الأكلة المصرية الشهيرة ( الكشري) يقف أمامه عدة أفراد ينتظرون الحصول على طلبهم ، تحركت قليلًا لترى معصرة لصنع عصير القصب تجاورها مكتبة حولها أطفالًا يتحدثون ويعرضون أدواتهم المدرسية على بعضهم البعض .

أجواء لم تشاهدها في الشوارع الراقية ظاهريًا ، تلك الشوارع التي تشعر فيها بالصقيع ، هناك دفءٌ غريب توغلها منذ أن دلفت ، هذه الأجواء تناسبها وتعطيها شعور الأمان الذي افتقدته منذ وفاة والديها .

لم تشعر براحةٍ قط في منزل عمها منذ أن وطأته قدميها ، تعلم نواياه هو و زوجته والشيء الوحيد الذي يهون عليها الحياة معهما هو ماجد ابنهما والذي لا يشبههما بل أنه يدافع عنها دومًا بعدما اتفقا أن يكونا شقيقين .

توقف داغر أمام ورشة عمله لتتوقف بسمة خلفه بالتبعية تتطلع نحوه وهو يترجل فيهرول نحوه صبية ينادونه ب ( هندسة ) لتتساءل داخلها هل هو مهندس حقًا ؟

ترجلت حينما وجدت دينا تشير لها ليقف داغر قبالتها ويتحدث بنبرة رخيمة :

– اتفضلي يا آنسة ارتاحي لحد ما اخلصهالك .

كان يشير نحو مقعد داخل الورشة نظرت له بسمة ثم توترت وقالت وهي تنظر حولها :

– لاء عادي أنا هقف هنا ، الموضوع مش هيطول أكيد صح ؟

زفر داغر وتحدث بتريث موضحًا :

– الموضوع مش هيطول بس ماينفعش تقفي كدة قدام اللي رايح واللي جاي ، ادخلي جوة أو اطلعي مع دينا فوق عند أمي .

شهقت بصدمة ، ما هذه الألفة الزائدة ؟ استرسلت بتعجب وهي تتحرك للداخل :

– لاء اطلع فين ؟ خلاص هقعد هنا .

جلست على المقعد فتنهد داغر ونظر نحو دينا التي تقف قبالته تطالعه بثقب فحدثها وهو يشير لها نحو للأعلى :

– يالا اطلعي إنتِ يا دينا وشوية وهحصلك .

هزت رأسها برفضٍ وتحدثت بخفوت وهي تغمز له :

– لاء أنا هروح اقعد مع المزة قصدي الآنسة مايصحش نسيبها تقعد لوحدها .

قالتها وابتسمت بخبث على ملامحه وتحركت من أمامه نحو الداخل تسحب مقعدًا وتجاور بسمة التي تعجبت منها ، دينا لا تبدي مرحًا مع أي شخص بل تبدي انطباعًا جادًا مع الغرباء ولكن الوضع هنا يقترب من التعارف الجاد من قبل شقيقها لذا فهي تستعمل وسائلها في التعرف على شخصية بسمة .

تساءلت بنبرة متفحصة وابتسامة هادئة :

– ها قوليلي بقى اسمك إيه ؟ أنا دينا أخت الباش مهندس داغر اللي هناك ده .

قالتها وهي تشير على شقيقها الذي بدأ في التصليح لتتحمحم بسمة وتجيبها برزانة :

– أنا بسمة الراوي .

أومأت لها دينا مبتسمة وتمعنت فيها ، ثيابها راقية من ماركة مشهورة وساعة يدها حتى حذاءها وخصلاتها المهندمة ، ترتدي ثروة تساوي شهرية نصف رجال الحارة وهذا ما يدور في رأس دينا ، على ما يبدو أنها من عائلة ثرية .

أومأت دينا تقول بهدوء :

– أهلًا يا بسمة ، على فكرة عربيتك حلوة أوي ولونها حلو أوي .

– ميرسي .

أجابتها بهدوء وجلست تتطلع على داغر وهو يباشر عمله ويضحك ويتحدث مع الصبية الصغار بود وهم يبادلونه أطراف الحديث ، ابتسمت عليهم تحت أنظار دينا التي وضعت كفها أسفل ذقنها قائلة :

– لاء ده هيعجبك أوي .

انتبهت لها بسمة لتلتفت مسرعة تطالعها بجبين مقطب متسائلة عن مقصدها فتابعت بخبث :

– شغل داغر هيعجبك ، وأنا متأكدة إنك هتجيلنا تاني لو حصل أي عطل في العربية .

– إن شاء الله .

هكذا أجابتها بهدوء بعدما لاحظت مكرًا يلوح في عيني دينا برغم أنها أحبت الأجواء هنا .

❈-❈-❈

الذي يرى نفسه محقًا في كل شيء هو في الحقيقة لا يفقه شيئًا ، الذي ينتشل من الناس سعادتها دون أن يهبهم أي شيء ما هو إلا أناني .

الذي يتخذ من الدين ما يروق له ويترك حقًا يؤرقه ما هو إلا منافق ، والذي يظن أن واجباته فضل ومنة ورحمة منه على شريكه ما هو إلا غليظ القلب لا يعرف عن الحب شيئًا . (بقلم آية العربي )

دلف بيته يحمل في يده كيسًا ورقيًا يترقب السمع ، كان يخطو بحذر حتى لا تعلم والدته بعودته .

كان ينتظر أن يرى ديما تتصفح هاتفها كي يبدأ جولة لاذعة من النقد ولكنها أحبطت مخطته بمكوثها في المطبخ إلى الآن .

صوت قهقهاتها يملأ المكان لذا ترك ما في يده جانبًا وتحرك نحو المطبخ حتى توقف على عتبته يشهق بفزع ويصرخ متناسيًا أمر والدته قائلًا :

– إيه اللي إنتوا عاملينه ده ؟

انتفضت رؤية على صوته بينما تصنم مالك يطالعه بخوف لتلتفت له ديما متسائلة بتعجب :

– فيه إيه بتزعق ليه ؟

تحرك نحو الرخامة حيث تجلس صغيرته فالتقطها وأنزلها أرضًا ثم صفع مالك على مؤخرة رأسه قائلًا بنبرة معنفة :

– إيه اللي إنتوا عاملينه ده ؟ بتلعبو بالنعمة ؟ الغلط على الهانم الكبيرة اللي واقفة بتشجعكو وتضحك بدل ما تعرفكو إن كدة غلط .

ابتلعت لعابها وزفرت بقوة ثم اتجهت تحتضن صغيريها بحماية وتردف مدافعة وهي تقف أمامه بشموخ يضاهيه خوفها :

– كمال وطي صوتك الولاد خايفين ، كنت بعملهم كيكة والدقيق وقع من رؤية من غير قصد وهزرنا شوية ، ماتكبرش الموضوع .

جحظت عيناه كأنه على وشك الفتك بهم واسترسل بغضب :

– أيوة مانتو هتشيلو هم إيه ؟ كل طلباتكم بتجيلكم لحد عندكم وانتو قاعدين مرتاحين ، غيركو بياكل من الزبالة وأنا يطلع ميتين أمي علشانكم وانتو هنا تلعبو بالنعمة ؟ بدل ماتفهميهم يا هانم إن كدة غلط وحرام بتضحكيلهم ؟ ماهما كدة هيكبرو على قلة الأدب وقلة تقدير النعمة ، أنا من صغري أمي علمتني ماهنش النعمة ولا اقل منها ، صوني النعمة تصونك يا هانم يابنت الحسب والنسب .

نطق الأخيرة ساخرًا ومقللًا من شأنها فتظاهرت باللا مبالاة ووقفت أمامه تطالعه ببرود وقررت الصمت ، إن تفوهت بحرف الآن ستبكي وهي منذ زمن تخلت عن البكاء ، وقفت تطالعه وهو يصب باقي كلماته المشتعلة على جليد ملامحها ، الجليد الخارجي لبيتٍ أحرقته كلماته وهدمت أركانه دون رأفة .

انتهى من نوبة غضبه والتفت يغادر المطبخ قائلًا وهو يلوح بيديه :

– منكم لله حرقتو دمي .

اندفع بعدها يغادر من حيث أتى متجاهلًا صرخات أمه باسمه ونداءها المتكرر عليه .

انحنت تحتضن صغيريها وتداري وجهها بينهما قائلة بنبرة انتشلت فيها قطرات من الأمان :

– ماتخافوش هو متعصب بس شوية ، هيهدى ويبقى كويس .

تحرر مالك من قبضتها يطالعها ويطمئن عليها أولًا ليمد يده يمسح أسفل عينيها برغم أنها لم تسقط دمعة واحدة ولكنه قال بحنان :

– ماتزعليش يا ماما .

قبلته قبلة قوية وضحكت له تردف مؤكدة :

– مش زعلانة يا روح ماما .

فعلت رؤية مثله فقبلتها أيضًا ونهضت تردف وهي تلتفت حينما شعرت أن دموعها ستتآمر عليها :

– يالا روحو العبو برا وانا هخلص المطبخ واجيلكو .

ركض الاثنان نحو الخارج ووقفت تتنفس بعمق وقد أيقنت أنها لن تذهب مع يسرا إلى أي مكان لتومئ محفزة نفسها وتردد بهمس ويدها تملس على صدرها التي تستشعر وخزاته :

– اهدي يا ديما ، اهدي وكل حاجة هتبقى تمام ، هيرجع بليل وهتتكلمي معاه ، معلش يمكن متعصب من حاجة .

هكذا كانت تقنع الجزء الذي أبى أن يقتنع بهذا الحديث ، ولكنه اعتاد .

❈-❈-❈

شاردة كعادتها تفكر في أولادها ، مجبرة على تلك الزيارة المتجهة إليها الآن مع زوجها ولكنه ترجاها ولم تعتد رفض طلبٍ له .

لقد كان ومازال مراعيًا لمشاعرها وتقلباتها حتى عصبيتها يحتويها ، نعم إنه خير سند وأنس لعمرها الذي سيبدو أنه سينتهي دون أن تقر عينيها وتشبع روحها بعناق صغيرها الغالي ثائر وابنه .

تحدث أمجد وهو يقود قاطعًا هذا الصمت الذي لا يفضله :

– مالك يا علياء ؟ بردو زعلانة علشان طلبت منك تيجي معايا ؟

زفرت تعتدل في جلستها وتحدثت بصدق :

– لا أبدًا يا أمجد مش زعلانة ، زيارة المريض واجب ، بس أنا بحس إن وائل مش بيحب ثائر .

تنهد بقوة يستنشق ذكرياتٍ مضت ويتابع مبررًا :

– لا إحساسك غلط على فكرة ، هو بس وائل أخويا طول عمره ناشف شوية وأسلوبه صارم ، طبيعة شغله بقى وحبه لبلده مخليينه متعصب شوية .

التفتت تطالعه بعتاب وتحدثت باندفاع :

– وهو ابني كان عمل إيه يا أمجد ؟ كل ده علشان قال كلمتين بيعبر فيهم عن رأيه ؟ يستاهل كل الظلم اللي حصل معاه ده ؟

زفر بقوة وتحدث بنبرة مقنعة :

– يا علياء وضعنا غير أي حد في البلد وطبيعة شغلنا تحتم علينا واجبات كتير أوي ثائر مالتزمش بيها ، وبعدين الحمد لله إنها جت على أد كدة ولولا تدخلي كان زمانك حتى مش عارفة تكلميه ، وخلاص بقى قفلي ع الموضوع ده علشان وصلنا .

توقف بسيارته أمام فيلا شقيقه وانتظر الحرس وهم يهمون بفتح البوابة له ويرحبون به وبزوجته .

دلف فكان يقف في استقبالهم ابن شقيقه الضابط مهاب ذو الفقار يبتسم لهما ويرحب بحفاوة قائلًا :

– ده إيه النور ده يا سيادة اللوا ، اتفضلو يا مرحب .

ابتسمت علياء وحل عنها العبوس خاصةً وأنها تحب مهاب كثيرًا وسعدت باستقباله لهما لذا تحدثت بود وبشاشة :

– تسلم يا مهاب ، وكويس إنك هنا .

ابتسم واتجه يتأبط ذراعها ويتحدث معها باستفاضة وود :

– طبعًا لازم آجي يا طنط لإني متأكد لو ماجتش مش هتضحكي كدة .

– صح .

قالتها وهي تومئ وتتحرك معه للداخل ويجاورها أمجد يهز رأسه عليهما وينتظر لقاء شقيقه وزوجته .

❈-❈-❈

توقعت كل ردود الأفعال الواردة منه على مدار سنوات إلا أن يعود للمنزل بعد عدة دقائق حيث أنه لم يغادره بل صعد للشقة العلوية ، لذا حينما فتح ودلف يطالعها وهي تجلس في ركنها تتصفح هاتفها انتفضت بتوترٍ ونهضت تطالعه بعدما تركت الهاتف بإهمال على الأريكة فاتجه إليها ووقف قبالتها يتحدث وعينيه تدور حولها كأنه كسر كوب ماء وليس خاطرها :

– معلش بقى اتعصبت عليكي وعلى العيال بس إنتِ عارفة كويس الحاجات اللي بتضايقني خصوصًا لو لقيت الدنيا مقلوبة ومش نظيفة ، ده غير اللعب بالنعمة ، بخاف تزول مننا .

صدمتها في نبرته واعتذاره جعلتها تحدق به كما لو كانت تتوهم ، كأنها تحلم بهذه المعاملة منه لذا تساءلت بترقب وملامحها مشبعة بالصدمة :

– يعني إيه ؟ إنت بتعتذر !

تملكه التعالى ونطق مصححًا وهو يشير بسبابته :

– لاء مش اعتذار ، اعتذار ده لو غلطت إنما رد الفعل كان زايد شوية وأنا أصلًا كنت راجع مزاجي رايق ومبسوط وجايبلك هدية وناوي نقعد أنا وإنتِ قاعدة حلوة بعد الغدا .

زفر يلتفت ناظرًا نحو غرفة والدته التي هدأت ولمح صغيريه يلعبان معها لذا عاد ينظر نحو ديما واسترسل يهمس وهو يلكزها في كتفها ليحصل على ما يريده :

– بس لو تبعتي العيال عند أمك يبقى حلو أوي .

تناقض اجتاحها فجأة بين فرحة وضيق ، جعلها تواجه عاصفة من الحيرة والصمت وتفكر أتجاريه في رغباته أم تثور ؟ أترضخ بعد ما فعله وتدفع سفينتها الغارقة في الوحل أم تتخذ من الوحل أسلوب حياة معه ؟

ولأنها لم تعتد اتخاذ مواقف قوية أمام اعتذار أحدهم ، ولأنها أحيانًا تحزن على امتلاكها قلبًا عفوًا متسامحًا ومتغاضيًا عن أخطائه في حقها لذا كان قرارها هو القبول ، أومأت له بملامح حزينة وعينين لامعتين يختبئ خلفهما فيضانًا من الدموع أقسمت ألا ينهار سدهما أمامه أبدًا لذا رسمت ابتسامة تميزت بها وأردفت تتصيد استغلالًا لنفسها متذكرة كلمات يسرا :

– تمام يا كمال هكلم دينا تيجي تاخدهم دلوقتي ، بس ليا عندك طلب .

وضع كفيه على بعضهما ووقف يطالعها بعيون ضيقة وترقب فتابعت بتوتر :

– هنزل بليل أنا ويسرا نشتري شوية طلبات ، هنروح المول وبالمرة اشتري حاجات الحضانة لمالك .

– ماتجبيش بقى حجتك في حاجات الحضانة ، قولي إن صحبتك عايزاكي تخرجي معاها وخلاص .

نطقها بنبرة متجهمة ومتباهية بذكائه في كشفها لتومئ له مسترسلة :

– تمام بس فعلًا كنت هشتري حاجات مالك بالمرة ، ومش هتأخر .

رفع يده يملس على وجنتها وقد قرر القبول كثمنٍ لما يريد أن يحصل عليه وابتسم يقترب منها حد الالتصاق يسترسل برغبة وهمس :

– خلاص موافق بس يالا ابعتي لاختك تيجي تاخد العيال ، جايبلك حاجة أول ماشفتها اتخيلتك فيها ، شوفتيها ولا لاء ؟

قطبت جبيتها ثم تذكرت أمر الكيس الذي رأته هنا منذ قليل وأدخلته الغرفة دون شغف لرؤيته لذا نطقت متذكرة :

– أه قصدك الشنطة اللي كانت هنا؟ لا لسة ماشفتهاش .

غمزها وقال بمغزى وقح يشعرها بالصد الذي يحاوط قلبها ومشاعرها عنه :

– طب يالا خلصي وتعالي ، وماتعرفيش أمي إني جيت خالص .

أومأت له وتركته يتجه نحو غرفته ، دومًا ما تخبره عند عودته إلى المنزل أن يتجه أولًا ليغتسل من أثر العمل ولكنه لا يهتم برغم أنه مهووس بالترتيب ونظافة المكان من حوله ليصبح بعد كل هذه السنوات مجهولًا بالنسبة لها لا تستطيع تفسير شخصيته التي تحمل عجائب وغرائب الصفات . (بقلم آية العربي)

تنفست بقوة ثم اتجهت لتهاتف شقيقتها كي تطلب منها أن تأتي لتأخذ الصغار كما يريد .

❈-❈-❈

جلست علياء تفرك كفيها وتطرق رأسها بصمتٍ بعدما لاحظت ملامح وداد المتجهمة ، كعادتها لا تفضل التعامل معها .

كان أمجد يتحدث مع وائل شقيقه ويسأله عن النظام الجديد في العمل خاصةً وإنه قد أصبح متقاعدًا وقد اندمج معهما مهاب .

بين الفينة والأخرى كان وائل يسعل ويتنفس بقوة بعدما أصيب بوعكة صحية ولكن حالته ليست سيئة لذا كانوا يصمتون قليلًا كي لا يتعب أكثر .

وحينما عم الصمت لثوانٍ قطعته وداد وهي تنظر في عين علياء ونطقت بنبرة استفزازية متعمدة :

– شوفتو آخر بوست ثائر ناشره ؟

تنبهت حواس علياء لذا رفعت رأسها تنظر في عين وداد نظرة ثاقبة ليتذكر وائل ذلك المنشور الذي عرضته زوجته عليه منذ بضع ساعات لذا تابع بنبرة مستنكرة وهو ينظر لشقيقه :

– لا زودها أوي ، مش لدرجة إن يتريق علينا ، أنا مش قادر أصدق إن ده ابن أخويا وابن عيلة ذو الفقار ، أنا أسف يا أمجد بس بقيت بستعر منه .

زفر أمجد بضيق وعلم أن الرد سيأتي من جواره حيث اندفعت علياء تجيب بنبرة ثابتة وهي تنظر إلى وجه وداد :

– وإنتِ ليه مهتمة بمنشورات ثائر يا وداد ؟ مش بتستعرو منه يبقى الأفضل تعملوله بلوك وتبعدو عنه .

تجهمت ملامح وداد فوق تجهمها وجابهتها باستفزاز خبيث :

– ده اللي حصل فعلًا ، بس قرايبنا بيبعتولي منشوراته خصوصًا إنه دايمًا بيتعمد يثير الجدل ، بيقولولي شوفي قريبك بيقول إيه .

نهضت علياء تقف وتحمل حقيبتها وتحدثت بمشاعر الغضب التي أفرزتها غريزتها الأمومية :

– رأيه وهو حر فيه ، واللي مش عاجبه كلامه يعديه يا وداد ، وشكرًا على المقابلة اللطيفة دي يا مهاب ، وسلامتك يا سيادة المستشار ، عن اذنكو .

اندفعت تغادر ليقف أمجد يتبعها بقلة حيلة وهو يعلم جيدًا أن هذا ما سيحدث عندما يتعلق الأمر بثائر .

أما مهاب نهض خلفها ليحاول تهدئتها والاعتذار منها بينما نظر وائل لزوجته بحيرة لا يعلم أيعاتبها أم يشتكي لها اندفاع علياء ولكنه بكل تأكيد يدعمها في حديثها عن ثائر .

❈-❈-❈

كلما جلست في المنزل بمفردها هبت عليها رياح الذكريات من كل حدبٍ وصوب لتشعر بالوحدة الداخلية والفراغ العاطفي الذي لن يملؤه رجلًا آخر ، لقد أحبته حتى فاض الحب حبًا وكان الجميع يضرب بحبهما المثل ولكن ما فعله بعد سنوات صبرها ودعمها ومساندتها له هو الزواج عليها بأخرى ، مكافئة عظيمة أودت بها في جوف الأرض وتركتها كالصحراء القاحلة لا سبيل ولا مياه ولا ظل .

وقفت في مطبخها تجلي الصحون وتفكر في الذكريات التي قضتها معه قبل أن يتبدل ويصبح أنانيًا مستبدًا ، لا تعلم أكان هكذا من قبل وقد أعماها حبه عن رؤية ظلامه أم أن هذه طباع جديدة اكتسبها من الأيام .

تتذكر لقبها الذي كان يناديها به ( سلطانة ) لا يناديها باسمها قط إلا حينما يكون غاضبًا ، ابتسمت وهي تتذكر مغازلته لها ، وتألمت حينما هجمت على عقلها فكرة تغزله بالأخرى بنفس الطريقة ، إلى الآن النار والآه في صدرها لم تنطفئ ، تزوج وعاش حياته وتركها تعيش مدمرة على بقايا ذكريات لم تزدها إلا دمارًا .

رنين هاتفها أخرجها من هذه الأفكار لتحمد ربها عليه لذا جففت يدها سريعًا واتجهت تلتقطه لتجيب ولكنها جحظت ودبت الرعشة فيها حينما وجدته هو ، تحفظ رقمه عن ظهر قلب ولكن … لِم يهاتفها ؟

ظلت متجمدة تنظر لشاشة هاتفها غير مستوعبة أنه هو ، يتصل بها ، إن ضغطت على هذا الزر ستسمع صوته .

من صدمتها وقفت مذهولة حتى انتهى الرنين ولكنه لم يتوقف بل أعاد الكرة مرة أخرى ولكن تلك المرة استقبلتها بصدمة أقل لذا مدت يدها المتيبسة تفتح الخط وترفعه إلى أذنها تترقب السمع فتحدث هو أولًا بنبرة هادئة :

– ألو ؟

لم تجبه سريعًا بل نطقت بعد ثوانٍ :

– أيوة ، مين ؟

ادعت عدم معرفته ولكنه علم جيدًا أنها عرفته ، يعلم أنها ضعيفة أمام سطوة أفعاله لذا تابع بنبرة مسترخية :

– أزيك يا منال ، عاملة إيه ؟

– إنت مين ؟

نطقتها بصوتٍ منزعج تخفي به كل ما مر على عقلها منذ قليل ليشعر بالضيق من نبرتها ويجيب بزفرة عبرت عن ضيقه :

– أنا محسن يا منال ، عاملة إيه ؟

تمالكت نفسها بصعوبة ولكنها فعلت ، تلك الغريمة القابعة داخلها والتي تريد الثأر لكرامتها فعلت لذا أجابته بجمود :

– وإنت مالك ، وبتتصل بيا ليه ؟

شعر بالضيق والغضب ولكنه غلفهما بنبرة هادئة كي يحصل على مبتغاه :

– مش أول مرة اكلمك بس إنتِ مش بتردي عليا ، كذا مرة حاولت ولما لقيتك مش عايزة تردي قلت خلاص .

ترقبت نبرته وأدركت أن هذه المكالمة خلفها مغزى آخر لذا تساءلت دون مراوغة :

– خير عايز إيه ؟

حاول أن يتلاعب على وتر مشاعرها تجاهه لذا نطق بعبثية خبيثة :

– بطمن عليكِ وعلى الأولاد ، أنا بكلم ديما اطمن عليها وقلت اطمن عليكو انتو كمان .

– لا اطمن ومالوش لزوم تشغل نفسك بينا ، خليك في حياتك بعيد عننا .

استشف من جوابها التجاوب حتى لو لم تُظهِر لذا ابتسم وتابع وهو يعتدل في جلسته في محله التجاري :

– مهو انتو جزء من حياتي بردو يا منال ، ولآخر لحظة أنا كنت متمسك بيكي لولا قضية الطلاق اللي رفعتيها .

ابتسمت بألم وسخرية ونطقت لتنهي هذا الجدال العقيم :

– ماتقول يا محسن عايز إيه وخلصني !

تحمحم وتابع بترقب ليبصق ما في جوفه وليحدث ما يحدث :

– طول عمرك بتفهميني ، بس المرة دي بجد فيه موضوع كدة كنت هكلم داغر فيه بس جبته حجة علشان اسمع صوتك ، ع العموم كنت محتاج من داغر ٥٠ ألف جنيه سلف وهردهمله علطول ، بس لو تكلميه إنتِ كدة وتجسي ميته .

ها هو يسدل الستار عن حقارته المرئية بوضوح للجميع ، لذا لم تحتمل ما سمعته وبصقت الكلمات باندفاع :

– دا إنت راجل ماعندكش ريحة الدم ، داغر مين اللي يسلفك ؟ بأمارة إيه أصلًا ، روح ياخويا دور على حد من حبايبك واستلف منه ولا من أهل حرمك المصون .

أغلقت الخط في وجهه وجلست تسبه بهمس وتسب تلك الغريمة الخائبة التي تختبئ الآن في جوفها خوفًا من الظهور أمام طوفان غضبها .

ظلت تتنفس بصخب إلا أنهت سمعت صوت الباب يفتح ويندفع منه الصغيرين اللذان أتيا مع دينا ، ركضا نحوها يرددان بسعادة :

– تيتاااااااا .

انحنت تلتقفهما وتعانقهما بتعجب وترحب بهما بعدما تركت ما حدث جانبًا لتعتدل وتنظر نحو دينا التي ارتمت على الأريكة في الصالة فسألتها :

– أولاد اختك جايين منين ؟

تعجبها هذا نابع من عدم رؤيتها لهما باستمرار لذا أجابتها دينا وهي تفرد ظهرها وتستريح :

– من بيتهم يا ماما ديما كلمتني وأنا في الورشة مع داغر وطلبت مني أروح أجيبهم يقعدوا معانا شوية .

ابتسمت لهما بفرحة الجدة المعهودة ثم تحدثت وهي تحتضنهما وتقبلهما :

– وحشتوني أوي ، داغر هيفرح أوي لما يشوفكم .

❈-❈-❈

وقفت أمام مرآتها تنظر لهيأتها بشرود ، ملامحها بهتت قليلًا برغم انتفاخ أوداجها ، ولكن عينيها تحمل حكايات جميعها تصنف ضمن قسم المعاناة .

ارتدت ما جاء به ، قميصًا قصيرًا بتفصيلة تعجبه هو ، نثرت من العطر ذو الرائحة النفاذة الذي يعجبه هو .

وقفت تتأمل نفسها وتنتظر مجيئه بجسدٍ مستنكر أفعالها ، اضطر للذهاب إلى والدته التي كانت تصرخ باسمه حتى وصل صوتها إلى الجيران .

جاء من عندها بعدما نامت ليكور فمه ويزفر بقوة كأنه بذل مجهودًا مضاعفًا ولكن رسم على ملامحه الانبهار وأطلق صافرة وهو يتطلع عليها ويغلق باب غرفتهما قائلًا بتباهٍ يمدح نفسه :

– اوووووو ، كنت متأكد إن اللون ده هيطلع تحفة عليكِ ، اختياراتي دايمًا صح ، بس تخنتي شويتين .

وقفت تبتلع لعابها وهو يقترب منها حتى التصق بها وحاوطها بذراعه ينحني نحو رقبتها ويشمها مستمتعًا ومتمتمًا يكمل تباهيه بنفسه :

– البرفان ريحته تحفة ، لا بجد تسلم إيدي .

أبعدته عنها قليلًا تنظر له بضيق ولم تحتمل استهتاره بلقائهما لذا قالت :

– كمال ممكن تدخل تستحمى وتغير هدومك دي الأول ؟

نظر لهيأته فوجدها محقة ، هو لم يبدل ثياب عمله منذ أن عاد وتلك النقطة تحديدًا يبغضها في نفسه خاصةً حينما تذكره هي بها لذا أومأ وتجهمت ملامحه يقول بتبرير كاذب بعدما ابتعد :

– أنا كنت رايح فعلًا استحمى بس لما شوفتك نسيت نفسي ، هروح وراجعلك .

فتح الباب واتجه نحو الحمام فالتفتت تنظر مجددًا نحو المرآة وتلك المرة تستكشف نفسها وتتساءل هل حقًا زاد وزنها ؟ أومأت حينما وجدت انتفاخًا أكثر من المعتاد ظاهرًا عند بطنها لذا تنهدت بضيق ورفعت نظرها تحدق بنفسها وتقول بنبرة تشجيعية :

– ده جوزك يا ديما ، بلاش شعور الخنقة والنفور ده ، مهما كان ده جوزك .

❈-❈-❈

أثار فضولها في تلك المدة البسيطة التي جلست تحدق بها في طريقته وأداءه وحديثه مع الصبية .

انتهى ونهض يمسح يده في قطعة قماش قطنية معبأة الشحوم والزيوت واتجه إليها يقول بأثر ابتسامة علقت على شفتيه :

– كله تمام يا آنسة والعربية بتاعتك ولا كإن حصل فيها أي حاجة .

نهضت ثم فتحت حقيبتها ومدت يدها تنتشل عملات ورقية بعددٍ معين ثم مدتهم إليه ورفعت نظرها تطالعه قائلة بامتنان وابتسامة هادئة :

– شكرًا يا باش مهندس اتفضل .

نظر للنقود في يدها ثم رفع نظره يحدق في عينيها ولأول مرة يُمعن النظر فيهما لتأخذه عينيها إلى مسرح الحكايات التي تخفيها لذا توترت نظرتها سريعًا وأخفضتها وحركت يدها مسترسلة :

– اتفضل ده حقك ، إنت تعبت فيها وكمان علشان خاطر الشباب اللي تعبو معاك .

تحمحم ولف بجذعه ينظر للصبية ويتساءل بغمزة من عينيه فهمو مغزاها :

– انتو تعبتو يا شباب ؟

– لا يا هندسة مافيش أي تعب .

قالها ثلاثتهم ليلتفت لها ويتابع بنبرة مرحة :

– بيقولوا لاء أهو أومال فيه إيه بقى ؟

نظرت له بثبات فاسترسل بنبرة جدية لا تقبل نقاش :

– عيني الفلوس يا آنسة محدش هنا تعب ، وبعدين اعتبرينا بنجر رجل الزبون لورشتنا تاني ، بس المرة الجاية هنتعب أنا والشباب .

ابتسمت على مقصده وعادت تضع النقود في حقيبتها وأردفت بملامح مشرقة :

– تمام يا باش مهندس ، يبقى تتعوض ، وميرسي على اللي عملته .

– قصدك الخبطة ولا تصليحها ؟

نطقها بمشاكسة غير متعمدة ولكن رؤيته لابتسامتها الساطعة جعلته يشاكسها ليراها تبتسم ولكنها ارتدت قناع الجدية وتحدثت بثبات أحبطه :

– الاتنين .

– احنا في الخدمة .

نطقها بجدية مماثلة فهو لم يعتد التنازل عن مثقال ذرة من كرامته لتودعه برتابة وتتجه تستقل سيارتها وتغادر بهدوء ولكنها ودت لو تعيش هنا في هذا المكان وبين هذه الأسرة التي استشعرت الدفء بها .

زفر بقوة والتفت ينظر للصبية ويتحدث وهو يستعد لمغادرة الورشة :

– تعالى معايا يا بلية يالا علشان ابعت معاك الغدا .

أسرع بلية يركض خلفه ويتجهان نحو منزله القابع في آخر الشارع ليأتي بالطعام له ولزميليه والآخر يخطو معه يفكر في هذه الآنسة وما قصتها .

❈-❈-❈

مكوثها في مطعم عام أمام زوجها وأولادها لم يشفع لهم لتترك هاتفها ، لقد جاء بها إلى هنا كي يتناولوا وجبة الغداء كأسرة ولكنها كالعادة تلتهي بهذا الجهاز عنهم . ( بقلم آية العربي )

قضم أحمد قطعة اللحم المعلقة في شوكته ثم اعتدل يلوكها ويطالعها بضيق إلى أن ابتلعها ثم تحدث باعتراض :

– مش تسيبي الموبايل بقى وتاكلي .

لم تعطِ أهمية لحديثه بل استلت حديثًا أكثر أهمية بالنسبة لها وهي تقول وعينيها منكبة على الهاتف :

– شوفت ثائر أخوك كاتب إيه ؟

قلب وجه للجهة الأخرى وتعكر صفوه مستغفرًا ثم نظر لولديه اللذان يتناولان وجبتهما بصمت فعاد إليها يقول من بين أسنانه بضيق :

– إيه اللي يخليكي تدخلي على أكونت ثائر يا سها ؟

هزت كتفيها بلا مبالاة وتحدثت بنبرة اعتيادية :

– مادخلتش هو ظهر قدامي لإني I follow him .

تعجب من نبرتها العادية ليردف بانزعاج :

– ومن امتى إن شاء الله ؟ ما انتِ علطول مش طيقاه ؟

زفرت بتجهم ووضعت الهاتف على الطاولة بعنف ثم تابعت وهي تطالع زوجها وتبدأ بإمساك الشوكة والسكين :

– دايمًا تسيب المواضيع المهمة وتمسك في الحاجات التافهة ، المفروض تنتبه للي اخوك بينزله لإنه ممكن يضرنا .

بدهاء تميزت به استطاعت إعطاءه سببًا أقنعه ليتساءل بترقب :

– يضرنا ؟

تمسكت بالشوكة بين أصبعيها ورفعتها نحو فمها وتحدثت قبل أن تأكلها بابتسامة لعوب :

– طبعًا ، إنت هنا مدير شركة معروفة واسمك معروف وأكيد واضح جدًا إن أخوك يبقى هو نفسه الكاتب الفرنسي ثائر ذو الفقار المعروف واللي معظم مقالاته مثيرة للجدل ضد العرب .

وضعت قطعة اللحم في فمها تلوكها وتركته يصارع أفكاره ، دومًا هكذا تنأى بنفسها من بحر الشكوك وتتركه يواجه عواصف الصراعات مفرده .

بالطبع ليس كارهًا لأخيه ولكنه يحمل له الاستنكار والغضب مما فعله منذ سنوات ومما مستمر هو في فعله ، خاصةً وإنه يلاحظ جيدًا في أي جهة تميل مشاعر والديه وتؤكد له سها ملاحظته لذا قرر الابتعاد عن أي شيء يخص ثائر بعدما كان هو الأقرب له على الإطلاق ، والآخر لم يعترض ولا يسعَ للتقرب من أخيه .

❈-❈-❈

حل المساء

تقود يسرا سيارتها بسعادة استحوذت عليها وهي تتحدث مع طفلا ديما التي تجاورها بابتسامة والأخرى تتساءل بملامح منفرجة ضاحكة :

– ها يا ولاد تحبو تروحو فين ؟

– الملاهي .

نطقها مالك لتنطقها رؤية مقلدة شقيقها فأومأت يسرا تجيب بانتعاش :

– حالًا .

تحدثت ديما بسعادة ظاهرية بعدما ألقت بأحزانها داخل منزلها قبل أن تخرج :

– خالتو يسرا هتعملنا كل اللي احنا عازينه ، عاوزين نستغلها أسوء استغلال .

ضحكت يسرا على صديقتها وأجابتها وعينيها على الطريق :

– على قلبي زي العسل .

زفرت ديما ثم استرسلت بجدية :

– لاء بصي بجد بقى خلينا نروح المول الأول نشتري طلباتك وبعدين لو فيه وقت نبقى نوديهم الملاهي أنا معايا ساعتين بس .

أردفت يسرا مطمئنة :

– أصلًا الملاهي في المول نفسه يعني اطمني خالص وأوعدك مش هنتأخر .

أومأت ديما باطمئنان وقادت يسرا مسرعة حتى تصلا إلى المول وتقضي مع صديقتها وطفليها بعض الوقت السعيد .

❈-❈-❈

ليالي باريس عُرفت بسحرها ورومانسيتها ، يضرب بها المثل بين العشاق متلألأة كأن الشمس مدعوة لديها على حفلة عشاء .

ولكنه كلما حل الليل لا يشعر سوى بالظلام ، بالوحدة ، بالسكون الذي يتوغل صخب أفكاره لذا فهو اعتاد ممارسة الملاكمة ليلًا كي يدوس على وحش الندم الذي يراوده أحيانًا نسبةً للضريبة القاسية التي مازال يدفعها .

ترجل من سيارته بعدما صفها جوار بيته يخطو بخطواتٍ هادئة تنافي عينيه التي تسلطت على تلك السيارة التي تنتظره أمام باب منزله مباشرةً .

كور فمه يزفر بقوة وضيق ثم اتجه نحوها ووقف يخترق الزجاج بنظراته ليجد مارتينا تحمل في يدها زجاجة نبيذ تتجرع منها وتشير بإصبعها محذرة كأنها تتحدث مع أحدهم .

بئس الأمر الذي وضعه في تلك الحالة التي جعلته يطرق على الزجاج فانتبهت له لتبتسم وتفتح الباب فابتعد حينما ترجلت تتمايل بثمالة قائلة وهي تلقي بنفسها عليه باكية :

– لِمَ تأخرت ؟ انتظرك هنا منذ وقت طويل ، حتى أنني قمت بفتح هذه الزجاجة وشربت منها وأنا التي أحضرتها لنشرب سويًا ، ولكن لا تقلق بقى فيها القليل .

كانت تتحدث وهي تلوح بالزجاجة التي تتمسك بها ليحاول إيقافها ويقول بانزعاج واضح :

– لمَ أنتِ هنا في هذا الوقت مارتينا ؟ وما هذه الحالة ؟

تعلقت به كالعلكة الملتصقة فلم يستطع إبعادها وهي تجيبه بحروفٍ مبعثرة :

– تعاركنا أنا وأبي وقام بطردي وكل هذا بسببك أنت ، هو يريدني أن أبتعد عنك وأنا جن جنوني عندما تفوه بها ، كدت أن أضربه .

اعتصر عينيه ثم استطرد بهدوء أقرب للبرود :

– حسنًا هيا لأوصلكِ .

قالها وهو يحاول إزاحتها لتبتعد عنه بالفعل ولكنها اتجهت نحو باب منزله والتصقت به تردف برفضٍ قاطع :

– لا لن أعود إليه ، هيا افتح هذا الباب سأنام معك الليلة .

حدق بها بنظراتٍ جليدية ثم تحرك إليها حتى توقف أمامها واسترسل :

– وماذا عن معاذ ؟ كيف سيظل هناك بدونكِ .

ضحكت وهزت كتفيها وأجابته وهى تشير بزجاجة المشروب :

– حتى هو لا يهتم بي ، أخبرته أن يأتي معي ولكنه رفض ، هيا أرجوك ثائر أنا متعبة والصداع يكاد أن يفجر رأسي .

لأول مرة يعطي ردة فعل ويزفر وتعتلي ملامحه الضيق وهو يدس يده يلتقط المفتاح من جيبه ثم اتجه يفتح بابه لتندفع إلى الداخل حتى كادت أن تسقط لولا سنده لها لذا تعلقت به فتحرك بها حتى وصل إلى الأريكة يمددها عليها فارتدت فانحنى يلتقط منها زجاجة المشروب ويضعها على الطاولة المجاورة واعتدل يطالعها وهي تميل على الأريكة وعلى ما يبدو ستغفو .

تركها واتجه عائدًا للخارج يغلق سيارتها ثم دلف وأغلق باب منزله وتحرك نحو خزانته يلتقط ملابس نظيفة ويخطو نحو الحمام ليغتسل من أثر التعرق الناتج عن الملاكمة .

❈-❈-❈

ضحكات صغيريها كانت دواء سريع المفعول لها وليسرا أيضًا ، حينما كانتا تقفان تطالعان الصغيران اللذان يقفزان على لعبة الترمبولين بسعادة وقهقهات عالية تسببت في عدم سماعها لهاتفها القابع في حقيبتها .

انتهى رنين الهاتف وانتهى دور الجولة وخرج الصغار من اللعبة يلهثان ويضحكان ويسرا تشاركهما الضحكات وتتمسك بكفيهما قائلة بسعادة نُقشت على ملامحها :

– ديما تعالي نشتري كتب من المعرض ده .

نظرت حيث تشير يسرا برأسها فوجدت معرضًا للكتاب مزدحمًا بالقراء الذين يقتنون الكتب لذا تحمست وابتسمت تجيبها وهي تتمسك بمالك وتخطو معهم :

– تمام يالا بينا .

دخلوا المعرض وبدأت كلٍ منهما تبحث عن كتابٍ تقتنيه ، ديما تفضل القصص الرومانسية وقصص الغموض وكتب علم النفس لذا تحركت نحو الركن المخصص لما تريده وأخذت صغيرها مالك في يدها بينما ظلت رؤية مع يسرا في الجهة الأخرى من ركن كتب الجريمة والأكشن والفانتازيا .

دارت بعينيها تبحث عن كتابٍ يرضي فضولها بين مجموعة كتب لا تعد ولا تحصى للتتوقف فجأة أمام ركنٍ جمع عدة كتب كتب عليها اسم ثائر ذو الفقار .

شهقت بصدمة ولم تصدق أنها ستجد كتبه هنا لذا مدت يدها تنتشل كتابًا بعنوان ( ما لم نسعَ لمعرفته )

أومأت حينما أدركت أن هذا الكتاب هو الذي يهاجم فيه المرأة العربية والمسلمة على وجه الخصوص لذا وضعته مكانه بملامح منزعجة لتلاحظ كتابًا آخرًا باسمه عنوانه لفت انتباهها وجعلها تقف أمامه تحاول إدراكه ولكنها فشلت ، بغلافٍ عبارة عن بحرٍ ثائرٍ وبخطٍ أسودٍ عريض كتب ( بحرٌ ثائر ) .

تناولته تتأمله قليلًا ثم فتحت الغلاف الخارجي لتجد جملة كتبت بالفرنسية في نصف الصفحة الأولى البيضاء :

( écrit Il ne sait pas depuis Son adresse , écrit On dirait la mer Si tu veux Le connaissant Il devrait sur toi Plongée Dedans)

( كتابي لا يُعرف من عنوانه ، كتابي يشبه البحر إن أردت معرفته يجب عليك الغوص فيه )

رفعت حاجبيها بدهشة ثم قررت اقتناء هذا الكتاب تحديدًا لتعلم ما يحتويه لذا أخذته وتحركت مع صغيرها لتدفع ثمنه وتنادي على يسرا .

بعد دقيقتين خرجوا من المعرض وفتحت ديما حقيبتها لتضع الكتاب به ثم تحدثت وهي تلتقط هاتفها :

– يالا يا يسرا نجيب بقية حاجتنا قبل ما الساعتين يخلصوا .

كانت تنظر في الساعة ولكن اتسعت عينيها حينما وجدت ثلاث مكالمات فائتة من زوجها لتقول بتوترٍ وقلقٍ ملحوظ :

– يا خبر أبيض كمال رن تلت مرات وماسمعتش الموبايل .

حاولت يسرا تهدئتها قائلة بتريث :

– طيب اهدي وكلميه ممكن عايزك في حاجة .

قالتها والحزن ينهشها لحالة التوتر والزعر الذي ظهرت فجأة على ديما التي تعيد الاتصال بزوجها لجيب صارخًا بصوتٍ وصل إلى يسرا والصغار برغم أنها لم تشغل مكبر الصوت :

– إنتِ فــــــــــــــــــــــــين ؟

انتفضت من نبرته ولكنها أجابته بهدوء ينافي نبض قلبها :

– مانت عارف أنا فين يا كمال فيه إيه ؟

كانت والدته تصرخ في الغرفة المجاورة لهذا كان في أوج لحظات غضبه وهو يصرخ فيها عبر الهاتف قائلًا :

– بصي في موبايلك وإنتِ تعرفي ، حالًا تبقي قدامي ، على الله تتأخري يا ديما ، على الله .

مهما ادعت قوتها فهي هشة أمام نوبات جنونه لذا بعدما أغلق نظرت إلى يسرا واسترسلت بترجٍ وحرج وملامحها تتلون بالخوف :

– معلش يا يسرا مش هعرف أكمل معاكي أنا لازم أمشي حالًا ، مامت كمال بتصرخ وهو متعصب جدًا .

تمسكت بكفي صغارها وتحركت مسرعة لتلحق يسرا بها وتردف بحزن :

– استني هوصلك ماتقلقيش .

❈-❈-❈


الفصل الرابع من هنا

تعليقات



×