رواية آصرة العزايزة الفصل الثالث والعشرون 23 بقلم نهال مصطفي

رواية آصرة العزايزة الفصل الثالث والعشرون بقلم نهال مصطفي

قد يحدث و يعف المرء قلبه عن داء الحُب ويحشو قلبه بذخائر الحياة ومتاعبهـا كي لا يلتفت له أبدًا ولا يدع له منفذًا ليتسرب داخل جسده ؛ولكنـه شعور مكار كأنه جاء من نسل الثعالب قد يتسلل إليك نظرة نظرة ؛ بل قطرة قطرة .. حتى يملأ خزان قلبك كله وفجأة وبدون أي رغبة منك ينقلب صدرك لسِربَ عصافير تُحلق في مُدن الحُب وتظل تتساءل دومًا ؛ أي ريح عاتية أتت بك لهنـا ؟!
والحقيقة أن سفن الحُب تسير بما لا يشتهي المرء منـا !! ألا أخبرك بأنه شعور مخادع !!
#نهال_مصطفى .
#آصرة_العزايزة.
#من_يعيد_لي_قلبي .ج١
••••••••••••
قيل :
‏«تشعر أحيانًا أنّ كل ما تحتاجه هو أن تنظر الى كل شيء بالقياس الربّاني، في الخير الذي يصيبك، في الأذى، في الانتظار والانكسار والفشل؛ هذا هو الشيء الوحيد القادر على أن ينتشلك، أن يرمّمك، أن يجعلك أدنى للصواب وأنأى عن الخطأ.»
-أول مرة أشوفك بتضحك كده من قلبك يا هاشم !! حصل أيه وأنا معرفهوش ؟
كانت رغد تعانقـه على شط البحـر ويتبادلان الرقص على كلمات الأغنية الأجنبية التي يستمع لهـا الثنائي ، ضم خصرها إليه أكثر ليعلن امتلاكها له ولقلبه مدى الحياة و جاوبها وهو يغوص في لمعة هذه الأعين التي جعلته يتمرد على الأعراف ويظفر بها قائلًا :
-لأني قررت هروح سفرية سينا وهرجع أجازة وهجيب أخواتي واتقدم لك !
قفلت جفونها باستغراب :
-هاشم ، حبيبي أحنا أصلًا متجوزين !!
أجابها بلكنته الصعيدية :
-طب وأيه يعني ، نتچوزوا من أول وچديد ونعملوا أكبر فرح في مندرة الحچ خليفـة ، وفستان چديد وو
ثم ضمها بغتة لترتمي بحضنه شاهقة وأكمل :
-وكله يبقى چديد في چديد ..
رسى كفها على سفينة قلبـه النابضة ببحر الحب الذي يملأه لتخاطب عينيه :
-للدرجة دي بتحبني يا هاشم .. !!
-وأنتِ لسه چاية تسألي !! رغد أنا شفتك مرتين صدفة شقلبتي كياني !! فاكرة ؟
تدللت عليه بغنج :
-لا مش فاكرة …
همس بأذانهـا وهو يتمايل معها على لحن الغناء :
-فستانك الأبيض ولفة الشال البدوي والكحل اللي عمري ما شوفت واحدة عاملاه .. قولت بس هدفع نص عمري واتچوز البت دي !!
ثم غاص في تفاصيل شعرها وأكمل بنفس النظرة :
-والنص التاني عشان أعيشه معاها !!
ثم استرد نبرته الأجشه ونصب قامته قائلًا :
-ألا فين الغترة والكحل !! من يوم ما اتجوزنا ماشوفتش يعني !! ولا دول كانوا لأجل صيد الحوت وخلاص جات رجلي وادبست ..
عاتبته بلطف :
-هاشم حبيبي ، أنت بتجي كام ساعة وتمشي ومش بلحق أعمل أيه ولا ايه ، لأجل بس الكام يوم دول أنتَ راضي عني وو
ثم شهقت برقة :
-يعني أنت حبيت العترة والكحل وأنا لا !! يعني خدت بالظاهر مش بالجوهر !!
أطلق هاشم ضحكته الهادئة وهو يقول بحب :
-أنا واحد بتاع مظاهر ياستي نقطة ضعفي الست الحلوة ، وأول ما عيني شافت الجمال البدوي وقعت ومحدش سمى عليا .. نسيت أنا مين وفين كل اللي شغلني أن الحلوة دي تكون في حضني آخر الليل !!
لجأت لوصف حالته باللهجة البدوية وهي تقول بخفة :
– «الشوش ماشوش والخزق مبوش»
ثم داعبت وجنته بلطفٍ :
-يابني يابني مش معقولة كده !! أنت خدت قلة الأدب دي كلها لوحدك..
أشاد معجبًا بلهجتها التي نادرًا ما تستخدمها ليقول مغرمًا بلهجته الصعيدي :
-ياوعدي، اشچيني بالبدوي اللي طير عقلي مني .. بس يعني أيه ؟! ترجمي اللي قولتيه حالًا .
طوقت عنقه بكفيها تاركة خصرها المنحوت فريسة لحبه وقالت :
-يعني اللي يشوفك يتخدع فيك كده ويقول عليك راجل زي الكتاب ماقال ، وميعرفوش أن تحت السواهي دواهي …يجوا يسألوني أنا بقا ..
ضاقت عينيه وهو يحاول تذكر المثل :
-كل ده شرح المشمش في الممشوش !! عظيم كملي ؛ قوليلي وبيقولوا أيه كمان عندكم !!
استقرت على شطي عينيه المدججة بحُبه الفائض لتقول بنبرة يخالطها الحزن :
– بيقولوا «اللي زلمتها مطاوعها بتدير القمر بأصبعها»
ثم تنهدت بأسف :
-وأنا ملكت الدنيا كلها بيك ، وجودك عوضني عن أهلي .. وعن صحابي وعن الدنيا كلها ، أنا اكتفيت بيك يا هاشم ونفسي حبنا يفضل مكمل لآخر عمري ..
أمسك بكفها ليقبله وقال مستفسرًا :
-سامية سابت ليه البدو وجات تعيش هنا !!
-حياتهم صعبـة ، مستحملتش تعيش هناك خاصة أنها غريبة ، وجينا عشنا هنا جمب خالو .. ومستنية اليوم اللي نعرفهم أني اتجوزت أعظم راجل في الدنيا ..
ثم اغرورقت عينيها بخوف من الغد وهي تغلغل أصابعها بفراغات يده وتترجاه بعينيها المحمرة :
-أنا وأنتَ هنا وربنا وحده شاهد علينا ، عايزة أقولك إني والله حبيتك وعمري ما اتخيلت إني هحب راجل زي حبي ليك .. ممكن توعدني أنك مش هتسيبني مهما حصل ؛ عاقبني براحتك بس بلاش تحرمني منك يا هاشم .. أنا ممكن أموت فيها .
فاضت الأعين بالأسرار ولكن الألسن مازالت صماء ، طالعها بكل لهفته ليقول :
-بكرة لما تعرفي أنا حاربت أيه عشانك ساعتها هتعرفي حبي أد أيه !!
ألقت حمولها بين يديه وهو تحضنه لتدفن صوت بكاءها بكتفه فتلاطمت صوت الأمواج وكأنها تصرخ شاهدة على حبهما .. فسألته بخفوت لتلطف الجو وتشتت حزنها :
-صفية هتحبني زي بنتها ولا هتعمل عليا شغل الحموات وتطلع عيني !!
انحني ليحمل بين يديه متجهًا نحو سيارته المصفوفة وقال بمزاحٍ :
-لا طبعا دي هتطلع عينك وعيني وعين سامية !! بس متقلقيش أحلام هتحبك قوي ..
-وأنت بتحب مين أكتر ، أحلام ولا صفية ؟!
عقد ملامحه وهو يواصل سيره مفكرًا :
-سؤال تعلبي !! بس هقول لك ، دايما مقتنع أن الأم هي اللي ربت مش اللي ولدت .. أحلام علمتنا كيف نحبوا ، كيف نسمعوا صوت قلوبنا ، أحلام وهي أحلام فعلًا كل كلامها يفصلك عن الواقع كأنك في حلم جميل مش عاوزاه يخلص ..
ثم دللها براحتي يده كمن يلاعب طفلة صغيرة وأكمل :
-لكن صفيـة دي معندهاش فلتر اللي في قلبها على لسانها .. عصبية شويتين بس قلبها طيب ومفيش أطيب منه ، بس أحنا تملي بنميل للقلوب الحنينة ..
-يعني كفة أحلام هي اللي كسبت قلبك ؟!
ارتسم ابتسامة واسعة على محياه وهو يفتح باب السيارة ويجلسها برفق ثم شد حزام الأمان فوقها وضبط المقعد لتمدد قليلا وتراجع ليجلس على طرف مقعدها وساق تلامس الإطار وآخرى بالأرض متأهبًا لاغتنام غزالته الشاردة وهو يقول بصوت خافت رافضًا اعترافه صراحة بحبه لأحلام أكثر من أمه :
-مفيش غير كفتك الكسبانة في قلبـي ..
قال جملتـه وهو يكسو عنقها الريمي بهمس القُبل ونال وجهها الذي يضوي كنجم الثريا بفتيل الحب والتي فاضت من قلبـه لتروي أراضيها .. لم تتمرد كعادتها لم تحتج بالبحر والصحاري خشية من أن يراهم أحد ، أكتفت بإغلاق عينيـه وهي تقبض على ملابسه بأصابعـه مانعة هبوط دمعهـا الذي أوشك أن يودعـه .. ابتعد عنها بعد ما روي جزره القاحلة وسألها :
-نروح البيت ولا نتعشى في أي مكان !!
تراقصت جفونها بتردد وهي تراقبه ملامحها الساطعة بعشقها وتقول بهمس شفتيها :
-نروح بيتنا .. الوقت اتأخر ..
••••••••••••
~العزايزة ..
كانت تجلس في منتصف فراش ” أحلام ” عاقدة ساقيـها بعد ما اقترحت عليها السيدة العجوز أن تقوم بتسريح شعرها وتصنع لها ضفيـرة قبل أن تنام .. فوافقت بسعادة وكانت هذه أول سيدة تلامس شعرها بعد مربيتها الشخصيـة ، عقدت أحلام شعرها بضفيرة زادت من براءتها وبرزت زهو ملامحها أكثر ، ثم زينتها بالطوق الذي يتناسب مع لون بيجامتها الفضفاضة ذات أكمام طويلـة من خامة القطيفة باللون الزيتي .. قفزت ليلة لتطالع صوتها بالمرآة منبرة :
-واو تجنن يا أحلام !!
ثم عادت لها بامتنان لتقبلها برأسها وتضمها بحب :
-حقيقي أنتِ أجمل وأحن ست شوفتها بحياتي ..
إمراة خُلقت بغريزة الأمومة دونما تبقى أم ، فباتت مشاعرها الفائضة من نصيب كل من يقترب من جنتها .. ربتت أحلام على ذراعها بحب حتى جلست ليلة بجوارها فأخذت تتأمل ملامحها ونقاء بشرتها ، عينيها ذات الرسمة المميزة التي تميز نساءهم ، أخذت تمرر يدها المنكمشة فوق تضاريس وجهها و تقارن بينها وبين ملامح عمتها ( مُهرة ) وصديقة أحلام المقربة وابنة عمها والتي توفت منذ عشرة أعوام .. وهي تتساءل بعتب:
-أنا كيف مخدتش بالي !!
ابتسمت ليلة مجاملة بعد فهم:
-نعم يا طنت!! بتقولي ايه !!
غيرت أحلام مجرى شرودها وقالت مؤكدة :
-يعني الواد اللي مع الحچ خليفة قالك باقي لهم ساعة ويچوا إهنه ..
-مش سمعتي بنفسك وكمان هيثم راح يستناهم على المحطة وو
ثم قفزت فكرة برأسها :
-أفتكر مفيش حد صاحي غير أنا وأنت الساعة دي ، أيه رأيك أقوم أعملنا كوبيتين شاي وندردش سوا لحد عمو الحج ما يرجع ..
راقت لها الفكرة وهي تقول بهمس :
-طب أمشي على طراطيف صوابعك عشان محدش يحس بيكي وحطي لي ملعقة سكر في الشاي بس أوعي هارون يوعالك ..
أومأت بحماس وهي تقفز من مكانها حيث راقت لها الفكرة ولم تتزحزح خطوة ففوجئت بصوت طرق الباب وصوت حمحمة هارون مستئذنا للدخول ، نظرت لأحلام بعتب :
-بيجي على السيرة ؛ يالهوي عليه بجد …!!
شدتها أحلام عنوة لتجلس بجوارها وتنادي عليه :
-تعالى يا حبيبي !!
فتح الباب ووجهه بالأرض متلفحًا بعباءته الصعيدية فوق ملابسه الرياضية ، تعمدت ليلة ألا تطالعه أبدًا واحتجت بانشغالها بالهاتف وهي لا تعلم عما تفتش ولكنه الوسيلة الوحيدة التي تجذب انتباهها عنه .. أردف هارون بعد ما ألقى نظرته عليها وعلى تسريحتها الطفولية بإعجاب ليقول :
-چيت افكرك بدواكي يا أحلام ، خديته ؟!
انكمشت ملامح أحلام وهي تقول على سجيتها :
-خدته كله يا حبيبي متقلقش .. وو
احتدت نبرته وهو يحاور أحلام بعينيه لتتفهم مقصده وإنه لا يقصدها بل يقصد طائره العنيد الذي يتجاهل النظر إليـه :
-دواكي اللي قبل النوم يا أحلام خدتيه !!
أدركت أحلام مقصده وعلمت بإنه يقصد” ليلة ” فرفعت سبابتها بالنفي لتقول بتوجس :
-لا لسه يا حبيبي !!
زمجرت رياح غضبه بصوته المرعد وهو يأكلها بعينيه :
-يعني ايه لسه !!!متهزريش يا أحلام الچلع ديه ميرضنيش وو
دب الخوف بقلبها كي لا يفجر غضبه بوجهها ؛ بتلقائية إثر فزعها من نبرته القوية تركت الهاتف من يديها وهرولت نحو الأقراص التي وصفها لها الطبيب المعالج بواسطة عمار وبدون ما تنظر له وصلت للكمود الآخر و تناولت أقراصها بيدها المرتجفـة ثم جففت فمها من أثر الماء دون التطلع نحوه ولكنها اكتفت بشكر أحلام :
-مرسي يا أحلام فكرتيني بالدواء بتاعي .. هااا قوليلي بقا فين الدوا بتاعك أنتِ كمان عشان تاخديه ، عشان محدش يتعصب عليكي كل شوية .
ضحكت أحلام بدون صوت وهي تلقي نظرتها الماكرة على هارون وتقول بخبث :
-ليلة كانت هتعملنا كوبايتين شاي ، أيه رأيك تخليهم تلاتة وتقعد تتساير معانا ..
هبت ليلة معترضة وهي تتحاشى النظر إليه :
-أحلام من فضلك انا قولت لك هعمـل كوبايتين شاي ، أنا وأنت بس ؛ ولو حد تالت هيقعد معانا ، سوري أنا هرجع أوضتي و
قطع هارون نبرتها وهو يقول بشموخ :
-مش عاوز يا أحلام چيت بس أقول لك تصبحي على خير و ..
فقطعته بتمتمة :
-أحسن بردو ..
فتساءل متعمدًا إثارة استفزازها :
-بس أنتِ متوكدة أنها هتعرف تعمل لك الشاي بتاعك !! ولا هو إهدار موارد وربنا يعوض علينا ..
نظرت له باندفاع رافعة سبابتها بوجهه :
-على فكرة الشاي بتاعي حلو جدًا ولو دوقته مرة مش هتعرف تشرب غيره بعد كدع وو
ثم جلى حلقها متذكرة خصامه فنظرت لأحلام وهي تلوح بكفها وتتناول هاتفها :
-نسيت مش بكلمك !! طنت أحلام أنا ماشية .
منعتها أحلام:
-رايحة فين أنتِ هتباتي چاري الليلة ..
رفع حاجبه مستغربًا من لطف أحلام الزائد معها ، فأردفت ليلة بعفويـة :
-وعمو الحچ !! أنتِ نسيتي .. ؟!
-لا النهاردة ليـلة البت صفيـة ، خليكي واخدة بحسي أوضتك سقعة عليكي ..
قبلت على مضض وهي تقول لها بحماس وتغمر بطرف عينها متذكرة اتفاقهم :
-هروح أعمل لك الشاي ..
ثم دارت كالفراشة بخفة تحت أنظاره التي تحرق كل إنشٍ بها .. ألقت نحوه نظرة خاطفة ثم فرت من سطوه ، غادرت الغرفة بهدوئها الاعتيادي فأشارت أحلام لهارون أن يجلس بقربها ، تحمحم مستردًا جاهه وقوته :
-شكلك سهرانة !!
-ما أنت عارف عيني ما عتغمضش وأبوك مش فالبيت ..
جلس هارون بقربها يتساءل بمزاح :
-والله يا أحلام أبوي محظوظ بيكي ، ما تقوليلي ألقى واحدة زيك فين ؟!
-مسيرك هتلاقيها ؛ بس مش زينة ..
مسحت على رأسه وهي تتأمل ملامحه وقالت :
-أنتَ لساتك مُصر عليها يا هارون !!
-ليه عتقولي إكده !!
-حساك مش مبسوط ولا دي فرحة عريس ، وبعدين زينة مش علامك ولا تفكيرك ، ما تفكر تاني وتفكك من الچوازة دي ومن نغچ أمك .. قلبي مش مرتاحلها والله ..
رد بيأس :
-يا أحلام مافارقاش .. زينة ولا غيرها أهي چوازة والسـلام ..
سألته مشفقة على حاله :
-طب وقلبك ياحبيبي ، ماهو كمان له عليك حق .. اختارله اللي تونسه بقية عمره ..
رد بتلك النبرة التي يملأها الخزى :
-يعني بذمتك ٣٥ سنة فاتوا من العُمر ولسه هدور أحب واتحب ، يا أحلام خلينا نچيبوا عيلين في الدنيـا يسندونا لما نكبروا وخلاص ..
عارضته بإصرار :
-لا يا هارون متقولش إكده يا ولدي !! ومين قال لك الحب بيدوروا عليه !! الحب عارف صُحابه وعيچيلهم لحد عنديهم ، عيجيلك من غير اذن ، أنا مش عاوزاك تعيش عيشة أبوك وأمك .. أمك كانت لأبوك مكنة تخلف له عيال وبس .. لكنه كان يجي في حضني وينسى الدِنيا كلها ..
ثم وضعت كفها على قلبه اليأس من الحياة :
-أوعاك يا هارون تتچوز واحدة عشان الخِلفة .. اتچوز اللي تلاقي روحك معاها حتى ولو مش هتخلف لك يا ولدي .. لو لي غلاوة عندِك فكر في موضوع زينة دي تاني وو
قاطعها باستسلام :
-محدش هيقدر يكسـر كلمة للحچ خليفة ، النصيب غلاب خلاص .. وو
جاءت ليلة حاملة بيدها ثلاثـة أكواب من الشـاي ووضعتهم على طرف الكمود لتستمع لحديث أحلام مع هارون وهي تنصحه :
-الچواز ياحبيبي اللي وصانا بيه ربنا هو ما كَفا وما عَفا وما وفَا وما رَق بهِ القَلبُ واكتَفى ..
اتسعت الأعين نحو مدرسة الحُب التي تُنير دروب قلوبهم الحائرة لتقول ليلة بإعجاب شديد وهي تعبر عن حالتها :
-الله .. حلوة أوي .. أنا قشعرت بجد ..
فما جذب انتباهه ملامحها التي أشرقت فجأة وهي تمدح حديث أحلام ولا يعلم أن قلبـه حركة بوصلة مشاعره نحو من ترافقه وتؤنسه سنوات عمره .. فتنهد بصوت منخفض والتفت لأحلام التي تشكو منه إليها بكناية :
-يرضيكي يا بتي واحد يتچوز واحدة مش رايدها قلبه !! ده ربنا خلق حواء لآدم عشان تونسه في الچنة مش عشان يخلفوا !!
عاتب أحلام همسًا وهو يحك ذقنه :
-بقيتي تطلعي أسرارنا بره يا أحلام !!
رد ليلة بعفوية وهي تقاوم بألا تنظر له :
-لا طبعًا ، كده بيظلم نفسه وبيظلم الشخص اللي معاه .. حرام عليه بجد .
فـ رد متعمدًا إثارة غضبها :
-مش يمكن لما اتچوزها قلبي يحبها ؟!
فسألته أحلام على الفور :
-ولو محبتهاش !! أيه الحل ..
رد ببرود :
-اتچوز التانية والتالتة والرابعـة لغاية …
فقاطعته ليلة بضيق :
-لغاية ما يجننوك إن شاء الله ..
بلل شفته التي جفت من سخريتها فردت أحلام مسرعة لتؤيدها :
-بتتكلم صُح على فكرة ..
أخذت ليلة كوب الشاي الخاص بها ودارت حول السرير لتجلس في الجهة الآخرى وهي تقول :
-أحلام أنا عملت ٣ شاي عشان لو حابة تعزمي على ضيوفك .. كوبايتك اللي على اليمين ..
نظرت أحلام لهارون الذي يستشيط غضبًا من تجاهلها وقال بفظاظة :
-تشكري يا أحلام ؛ بس يارب يكيفني ..
صعدت فوق الفراش لتعقد قدميها وتجلس بقرب أحلام وهي تتأفف بضيق وترتشف كوبها وتتمتم في سرها بكلمات غير مفهومة ، مد ذراعه ليعطي أحلام كوبها ثم أخذ كوبه ليرتشف منه رشفـة خفيفة وبتلقائية تلصصت النظر لعنده لتعرف رده بفضول ، فـ بدّ الإعجاب على ملامحه وهو يرفع كلا حاجبيه مستلذًا بمذاقه وما أن جاء ليطالعها فصرفت نظرها عنه بسرعة وترتشف رشفة أخرى ، أشادت أحلام بمذاق شايها :
-أحلى كوباية شاي اشربها في حياتي .. تسلـم يدك يا بتي ..
ثم نظرت لهارون بخبث لتسأله :
-ماتقول رأيك يا هارون !!
رد بجمود :
-عادي .. أهو شاي ..
حملقت ليلة بأحلام التي طايبت خاطرها بنظرة ثم قالت محاولة تهدئة نفسها :
-مش هتعصبني لا ..
ساد الصمت لدقائق قليـلة حتى ارتشف هارون كاسته لأخرها ، ارتسمت الضحكة بتلقائية على وجهها وهي تلحظه يضع الكوب من يده ، فقالت بتمرد :
-أنتِ تعرفي يا أحلام أن الأسطورة بتقول ..بس الأول هحكي لك القصة ..
قاطعها بنظرة ثاقبة ممزوجـة بابتسامة خفيفة تُحس ولا تُرى ، فتجاهلت وجوده تمامًا ودارت نحو أحلام وهي تروي لها تفاصيل الأسطورة وتقول :
-قبل اكتشاف الشاي ، كان زمان في أمير صيني بطنـه كانت بتوجعه وصداع مستمر مش مبطل ، لدرجة أن باباه الملك جابله كل الأطباء على مستوى العالم محدش عرف يعالجـه ، فأخرج فرمان وقال الطبيبة اللي هتقدر تعالج ابني هتكون هي زوجته والملكة المستقبلية للحكم .. والطبيب اللي هيقدر يعالجـه هيمسك منصب كبير في الدولة .. المهم بقا جات طبيبة عربية اسمها صوفيـا .. وقالت أنها مستعدة تعالج الملك ..
ثم ترنحت في جلستها بدلال انثوي غير مبتذل أمامه وأكملت بنفس الشغف :
-طبعا الملك كان قلقان وحس بالخيانة .. وبعد ما أخد العهد عليها أن حياتها قصاد فشلها .. دخلت الطبيبة وعملت مشروب الشاي للأمير وشربه والغريب انه حاله اتحسن بعد كام ساعة مع أول كاس .. واتعافي الأمير وحب اوي الشاي ده. وأمر بزراعته في كل البلد واتجوز من الطبيبة صوفيا واتعملهم أكبر فرح فالمملكة ..
ثم لوحت بكفوفها بطريقة روي الحكايات وأتبعت :
-ومن هنا جات الأسطورة تقول ؛ أن كوباية الشاي هي رمز الجواز ، فـ أي شاب يعجبـه شاي حبيبته أعرفي أنها إشارة أنهم هيتجوزوا ويكونوا لبعض .
تمتم هارون بهُزئ:
-حتى الشاي صعبتوه علينا !!!
ثم رمقت هارون المستمتع بحوارها مع أحلام وقالت :
-والحمد لله طبيعي الشاي بتاعي مش يعجبه ولا حاجة .. بس شاي زينة آكيد بيعجبه !!
ثم نظرت له بخبث بريئ:
-مش كده !!
راقت له لعبتها الجنونية ليقول متعمدًا استفزازها :
-اومال !! مفيش أحلى من شاي البت زينة ، دي كفاية نفسها فيه .. يخربيتها معرفش عتعملوا كيف ! -ثم دندن سرًا وهو يحك ذقنه -مايتشربش ، آكيد برجليها ..
أول مرة نظرت له أحلام كوب هارون الذي ارتشفه لآخره لتقول بخبث :
-وأنا أقول الحچ خليفة مكنش يشرب غير من يدي الشاي ليه !!
تعلقت ليلة في قشـة صدق اسطورتها:
-شوفتي .. يعني الأسطورة مكذبتش !! عشان أنتي مراته وحبيبته الشاي بتاعك بيطلع مميز بالنسبة له ما يعرفش يشربه من حد غيرك ..هو وسام الحُب ما بينكم عشان لونه أحمر بلون قلوبنا اللي بنحب بيها .
طالعته أحلام بإعجاب وهي تقول:
-عتقول كلام حِلو قـوي يا هارون .. اسمع واتعلم
رد ساخرًا :
-ماهو ديه اللي فالحة فيه ، الحواديت وكلام ميسواش تلاتة تعريفة ..
زفرت ليلة بضيق وبدون أي نية منها تمتمت جملته بعفوية وهي تنشغل بهاتفها :
-يا صبر الصـبر ..
اندهشت أحلام :
-ايه !! هو علمهالك !! ألحق يا هارون ..
ولت نحوه بصدمـة غير مصدقة ما قالته لترتطم بملامحه الفظة بداء الغرور وهو يقول :
-سيبيها تاكل عيش يا أحلام …
-مستفز …
~بالخارج ..
لقـد عاد هلال بصُحبـة رقية من المدافن بعد إصرارها بزيارة أمها في الليـل ، فلبى طلبها وأخذها ومرت أصعب لحظات عليها وهي تراقب أحبتها يحضنهم التراب بدل من ذراعيها ، لم يخلٌ لقاءهم بنصائحه وبمحاولات تهدئتها وحثها على الإيمان خيره وشره وهذا هو أمر الله .. دلف الاثنان من سيارته ، فـ كانت خطواتها ثقيـلة وبطيئة تتبع مسار سيره بهدوء ..
لاحظ هلال إشعال نور غرفة أحلام وصدى صوت منها ينبعث ، فتطلع نحوها قائلًا بنبرة حنـونة :
-أحلام لساتها منمتش ، تيچي تسلمي عليهـا ..
رفعت جفونها عن الأرض لتُرمقه بحزن وخيم وبتردد :
-مش چادرة .. أي حاچة ..
ابتسم بخفوت وهو يتبع السير نحو الغرفة :
-لقاءها لم يرهقك بشيء ..
وصل هلال لأعتاب الغرفة فوجد ثرثرة أصواتهم عاليـة والخلافات والكثير من ضحك أحلام التي لم يراها بهذه البشاشة منذ زمن ، ألقى تحيته :
-السلام عليكـم ورحمة الله ..
توجهت النظرات ناحية هلال الذي يقف على الباب وخلفه فتـاة في ثوبها الأسود ، امتدت أعين ليلة بفضول تتساءل عن هويتها الحقيقة ، ولكن قطع هلال فضولها قائلًا :
-رقية چاية تسلم عليكِ يا أحلام ..
رفعت أحلام الغطاء من عنها وهو تقوم لترحب بضيفتها :
-يا مرحب يابتي .. نورتي بيتك .
ثم ضمتها بحضنه بحنان أم وهي تربت على كتفها :
-تعالى في حضني ، أمك راحت لكن ربنا رزقك بأمين غيرها ، أنا وعمتك صفية ، ولو مشالتكيش الأرض أشيلك چوة عيني يا حبيبتي ..
انفجرت رقية في البكاء مع أول ضمة ، فكان المشهد مثير لألف فضول يطغوا على جيش الكبرياء ، مالت نحو هارون متناسية خصامهما لتسأله بلعفك :
-هي مين دي ؟! هاه ؟! مين؟!
وشوش لها بصوت يحترم فيه حزن زوجة أخيه وأخيه ليُجيبها :
-مراة هلال !!
تثاوبت ليلة إثر بدء مفعول الدواء :
-أحيه !! هو اتجوز امتى ؟!
رد بتلقائية والبسمة لا تفارقه :
-الصبح !!
عقدت حاجبيها بذهول :
-الصبح !! أنتوا كلكم مجانين كده !! قصدي ازاي يعني الصبح انا متعزمتش على الفرح !! وو
قاطعها مستفزًا وهو يغمز لها :
-متزعليش ، هابقى أعزمك أنا على فرحي ..
سكب دلو مثلج فوق رأسها جعلت ملامحها تتجمد لتتراجع للوراء وتتشبث بالغطاء وهي تراقبه بسخط :
-أحيه !! أنا مش بكلمك أصلا !! لو سمحت متكلمنيش تاني واحترم اتفاقنا الله !! ولا هو اتفاق عيال يعني!!
لم يعلم سبب تسرب الضحكات لروحه وهو يستلذ بالنظر إليها ، تجاهل سجيتها ووثب بجوار أخيـه ليتهامس معه :
-عاوزك ..
فأوقفهما حديث أحلام وهي تخبره :
-هلال ، سيبها نايمة في حضني الليلة دي ، البت يا حبة عيني تقطع القلب !
رد بثبات وبدون أي ملامح وهو يقول :
-حضن زوجها أولى بها وبحزنها يا أحلام .. ولا أيه !!
فرت الضحكة المكتومة من على وجه هارون لترسو على وجنة” ليلة ” التي تمدد ثغرها ثملًا بالضحكة ، كل منهما أرسل نظرة سريعة للأخر ، فوشوش له هارون بنفاذ صبر :
-عقولك عاوزك ..
-صبرًا ..
تأفف :
-ديه ياصبر الصبر ..
ثم ربت على كتف رقية التي تجهش بصدر أحلام قائلًا :
-رقية .. هيا على غرفتنا ..
ابتعدت عن أحلام وهي تكفكف عبرات ، فمسحت العجوز على رأسها :
-حبيبتي هوني على روحك ، اطلعي افرطي جسمك والصبح تعالي أقعدي معاي .
أومأت بخفوت ثم نظرت لهلال تعلن رحيلها .. سار خلفها وهو بتبع خطواتها ، فأتبعهم هارون الذي يراقب أخيه كي يودع ظهر زوجته بالنظرات مع كل خطوة تخطيها ، وقف أمام أحد درجات السُلم كي يحرسها بأنظاره ويطمئن أنها وصلت لغرفتـهما .. ضيف الحب أن حلَ لابد من أنه يرسم بيده الضحك على جميع الوجوه حتى وأن اقتحم موطن عزاء ، حك هارون ذقنه ليخفي ضحكته قائلًا :
-يا صبر الصبر !!
أما عن ليـلة التي استقبلت أحلام بفضولها :
-أحلام ، احكي لي كل حاجة ، أنا مش فاهمة حاجـة .. !!
عاد هلال لأخيـه ليرى ما الأمر الذي يحتاجه به ، أخذ الأخوة يتحاوران حول موضوع المجلس وخبر عزلهم لهلال ، وآيضا جاءت سيرة شريف أبو العلا الذي بات ثأره مع هلال وهارون الاثنان معًا .. مرت قرابة النصف ساعة على حديثهم حتى نهض هلال قائلًا :
-كل شيء سيبقى على ما يرام !!
غادر أخيـه ليصعد لغرفته التي زُينت بزهرة الحُب وأصبح بها من يؤنس لياليه ، وآيضا تحرك هارون عائدًا نحو غرفة أحلام ليخبرها بأنه سينتظر أبيه بالخارج ثم ينام ، ولكن لفت انتباهه غرق ” ليلة ” في النوم العميق على فخذها ، فنادته طالبة :
-تعالى ساعدني يا هارون نعدلوها .. كانت بتحدتني وفجاة لقيتها نامت ..
وضح لها هارون الأمر قائلًا :
-العلاچ لازمًا ينومها ؛ ديه زين أنها قادرة تكلمنا وتتحرك .. وو
حاولت أحلام أن ترفع رأس ليلة ولكن لضعفها وكبر سنها عجزت عن فعل ذلك .. مال هارون ليزيح خصلات الشعر المبعثرة عن ملامحها ويضع كفه تحت كتفيها ويحركها فوقه ليريح رأسها على الوسادة ، فأشفقت أحلام عليها وهي تشد الغطاء فوقها وتقول بحزن :
-بت زي توب القماش الأبيض ، مفيهاش ذرة خبث ولا مكر ، قلبها بفتة بيضة ..
ظل يتأمل ملامحها الهادئة وهي تنام بهدوء ليقول :
-والله ما عارف يا أحلام ! البت دي وراها سر غريب ولازمًا أعرفه !!
تسرب القلق لعقل أحلام :
-كييف يا هارون !!
شد عباءته فوق كتفيه وقال بتردد :
-ليها فترة عتاخد علاچ غلط ، والفكرة أن أمها اللي مديها العلاچ دي !! علاچ يموتها ما ينفعاش !! كيف أمها دكتورة وتغلط الغلط ديه !!
ندبت أحلام على صدرها ثم نظرت لوجهها الملائكي وأخذت تمسح على شعرها:
-يا ضنايا يا بتي !! اسم الله عليكِ ..
ثم رنت جملته الأخيرة بآذانها متذكرة الطبيبة التي ذهب لها زوجها :
-أمها داكتورة !!
همس لأحلام بحذر :
-أحلام أوعاكي تجيبي لها سيرة لغاية ما أتاگد .. خلي بالك منيها وأنا هفوت عليـك الصبح ..
~بغُرفة هلال ..
لقد فرغ هلال من تأدية صلاة قيام الليـل بعد ما أقنع رقية أن تصلي معـه .. ألقى التحية على يمينـه ثم واصل ذكر الله ثم الصلاة على الحبيب ، حتى دار لينظر إليها فوجدها ما زالت ساجدة وتبكي بصوتٍ مكتوم .. تمزق قلبه حزنًا على حالتهـا خاصة إنه لن يود فرض نفسه عليها ، ففارق سجادة الصلاة وشغل سورة “مريم” على جهازه ، ثم عاد لها وجثى على ركبتيه قائلًا :
-للعلم بكاءك يعذبني ويعذب أمك .. ألا تشفقن علينـا !!
رفعت وجهها عن سجادة الصلاة وكفكفت دموعها وهي تدكر للتو أنهما بغرفة واحدة معًا .. زاد توترها وهي تنكمش حول نفسها لتقول له :
-أنا عاوزة أروح أنام في أوضة هاجر ..
حاورها بالفصحى لغة القلوب لانه دومًا ما يرى أن الحديث العامي لا يليق بالأحبة :
-وغرفتك ! ألا تُعجبك ؟!
حكت كفوفها ببعضهما :
-وأنتَ ؟!
أشار نحو تخته وقال :
-ستنامين هنا ، ولا تحملين همي .. سأدبر أمري ..
أبت بحرج وتوتر ملحوظ :
-كيف !! لا أنا قصدي مش هينفع نباتو في الأوضة لوحدينا وو ..
أمسك بكفها كي يمنع ذهابها وهو يقول :
-لِمَ تصعبين الأمر عليكِ ، لابد أن تعتادي هذه غُرفتنا ..
طالعته بخوف من عقاب الله وهي تسأله :
-شيخ هلال ؛ أنت متأكد أن چوازتنا صحيح أنا حاسة بالحرمانية ؟!
مسح على لحيته وأحمر وجهه وهو يتطلع لها بنظرته التي تربكـها كثيرًا وقال :
-حاسة !! والدين بالأدلة القاطعة وأراء الفقهاء وليس بأحاسسنا !!
ثم دنى منها خطوة وهو يتجرأ ليحوط ذراعيها بكفوفه ويقول متسائلًا :
-تقصدين العدة !!
رفعت جفونها له لترى عيني مقمرتين تفحصها بـ مشاعر غريبة ، أومأت بالإيجاب وهي تلقي نظـرة على موضع يديـه ليقول بحكمة :
-حسب رأي الشافعية والحنفيـة ؛ لا عدة عليكِ .. ولا يوجد أي صلة تربطـك بهذا الحقيـر لأنك الأطباء دبروا الأمر ..
ثم تعلق بأهدابها المبللة وأتبع :
-وحسب آراء المالكية والحنابلة ؛ تقع علي من في حالتك العدة وهي ثلاثة قروء ..
ثم أطال النظر بعينيها وهو يتبع :
-ورأي ثالث ؛ تبرئ المرأة بحيضة واحدة ..
ثم أمسك بذقنها ليرفع وجهها إليه وأكمل بصوته المُريح للنفس :
-زواجنـا صحيح وقائم على الإشهار والشهود وبالسنة النبوية ، وأنا لم ألزمك بشق تمرة من واجبك كزوجة ، نحن اتفقنـا إنك هنا مثل هاجر ..-ليكمل ملاطفًا- بل تزيدين درجة أو درجتين ، كوني أمينة للسر ولا تُخبريها ..
شبح ابتسامة خفيفة ركض على ملامحها يوحي بأمانها له ولكن بلغ التوتر ذروته بقلبها وهي تحت رحمته ونور عينيه وفي ظل الإضاءة الخافتة لتقول بصوت متهدج :
-بس أنا مش هقدر أنام معاك في أوضة واحدة ..
عض على شفته السُفلية محترمًا رغبتهـا وهو يسحبها من كفها لتخته ويجلسها برفق:
-تمام ، نامي بمكانك .. وأنا سأرحل .. هياا ..
لبت طلبه بطاعة وهي لا تعلم أين ذهبت رقية المتمردة التي كانت تناطحه دومًا ، مددت على جنبها غير مكترثة لوقوفه ، شد الغطاء فوقها وهو يقول ناصحًا:
-على جانبك الأيمن كما أوصانا النبي ..
رق قلبه بجرس السلام النفسي الذي حل فوقهما وهي تعتدل على جانبها الأيمن .. وتقفل جفونها سريعًا .. شد اللحاف حد ذقنه وقال :
-تصبحين على الخير كله ..
ثم تناول منبهه الرقمي ، وعباءته الثقيلة ومسبحته تاركًا محموله يدوي صوت القران ثم قال لها :
-هنام في البلكونة ولو حبيتي تطمني أكتر قومي أقفليها من چوة .. لكن أوصيكي خيرًا ؛ ألا تفوتني صلاة الفجر أن دق الجرس أخبريني..
فزغت من مكانها رافضة فكرة نومه في هذه الأجواء الباردة ، قرأ الرفض بعينيها فاستقبلها بابتسامة رضا :
-كي تكونين بحريتك …
أومأت متقبـلة الأمر لتنهض من فراشها وتتبع خُطاه ، ثم وقفت على أعتاب الشرفة وهو يضع كرسين مقابل بعضهما البعض ، فشدت جرار الشُرفة وأحكمت غلق الباب عليه بقلب يرفض تصرفها قطعًا وعقلًا يؤيدها ويُحييها كي تكون بأمان أكثر ..
•••••••••••••
بعد ما جاء الحج خليفة واطمئن قلـب أحلام بإنه وصل سالمًا غانمًا لبيتـه وبدون خوض في أي تفاصيل طلبت منه أن يصعد كي يستريح بغُرفته ليرتاح من مشقة السفر ..وسيؤجلان حديثهما للغد..
ثم عادت لغرفتها لتلقي نظرة على كاسة الشاي التي ارتشفها هارون فوجـدتها قد جفت تمامًا عن باقية الأكواب وكأن لعنة الاساطير أصابت قلبـه ، ففرغت السائل بقلبـه لـ يلين و امتصت جفاءه بدلًا عنه .. قفلت نور الأباجورة ونامت بجوار ليلة التي تتأملها بعيون أم مشفقة على حالتـها وهي تمسح على شعرها وتدعو لها من كل قلبـها …
انفلق الصبـاح وغازلت أشعة الشمس جفون هلال النائم بالشرفة والذي ولأول مرة يضيع صلاة الفجـر ، فزع من نومه كالملدوغ وهو يلتفت حوله كمن فقد عقله ، محاولًا استيعاب حقيقة استيقاظ بعد صلاة الفجر ، طالع قرص الشمس بالسماء وهو يردد بندمٍ :
-يالله !!
ثم التفت للوراء وحاول فتح الباب ، فوجده مقفـولًا ، ظل يهذي بالاستغفار وهو لا يعرف كيف يتصرف في تلك الورطة وخاصة غضبه الشديد الذي عشش في قلبه إثر تضيعه لصلاة الفجر فلا تلومن قلبًا تعلق قلبه بالمساجد أن أضاع فرضًا كأنه ضيع عامًا من عمره بالهواء عبثًا ، نزع عباءته الثقيلة ووضعها على سور الشرفة و التي كانت تدفئه وشرع بطقوس التيمم ليلحق صلاة الضحى ويكفر عن غفوته ،ولسوء حظه لمحه هيثم من أسفل ليمازحه :
-وعلى إكده نومة البلكونة مريحة يا هِلو !!
عض هلال على شفته السفلية متمالكًا غضبـه :
-أخفض صوتك يا أحمق..
عانده هيثم ممسكًا بأذنه :
-عتقول أيه مش سامعك ،أنت عتوشوش روحك عليِّ صوتك وخلي اللي مشافش يسمع .
توعد له :
-بس انزلك يا هيثم الـ ..
داهمه ساخرًا :
-ما تنزل ولا مقفول عليك ..!! ياعيني عليك ؟! شكلك إكده مصلتش الفچر ! واعرة قوي دي يا شيخنا ..
ثم قوس يده على جانب فمه وأكمل :
-ألحق اتاوى قبل صفية ما توعاك ..
جاءت صفية من الداخله لتلوم هيثم قائلة :
-عتكلم مين على الصبح .. ؟!
طالع أخيه صارخًا بصوت مرتفع ليوعيه ولكنه جاء ليفضحه أكثر :
-صفية چات ، عقولك صفية چات !! ادارى ..
ثم ركض نحو أمه ممازحًا ليشغلها عن أمر أخيه :
-صباحك مصفي يا صفصف .. لساتك زعلانة !!.
-الود ودي أسيبهالكم وأهج ومحدش يعرف لي طريق .. أبوك بس يصحى ولازمًا يشوف حل فالچوازة دي !! ويا أنا يا هي ..
-مين ؟! چوازة هِلال أخوي !! قولي حاچة غير إكده ياما ، معندناش طلاچ هو أنا اللي هفكرك .. هلال لبس …
-ماهو لازمًا يكون فيه حل !! البت دي متقعدش في بيتي دِلوق حريم النجع ياكلو في سيرتنا زي اللبانة ..
~بالداخل ..
كانت ليلة خارجة من المطبخ وبيدها مائدة الشاي والكيك بناءً على رغبة أحلام ، حيث أنها كانت تسير ببطء كي لا تقع الصنية من يدها حتى وقف هارون أمامها بجسده الصخري يمنع خُطاها .. قطعت خطوة نحو اليمين فقطع مثلها .. ثم آخرى نحو اليسار فوجدته أمامها ، وقفت بمكانها متأففة :
-عديني لو سمحت !!
تفقد المائدة التي تحملها ثم تناول قطعة من الكيك فعارضته :
-ايه ده !! بتاخد من حاجتي ليه وعلى أدي أنا وأحلام وبس ! اف ؟
-صباح الخير يا أهل الخير ..
أبت أن ترد عليه تحيـة الصباح وامتد نظرها لبعيد خاصة نحو هيثم الذي يقترب منهم ، فتجاهلت وجود هارون تمامًا لتخطو نحو هيثم مرحبة :
-صباح الخير يا هيثم .. !! لو لسه مفطرتش تعالى أفطر معايا أنا وأحلام .. أنا جايبة كيك كتير !
اندفع هيثم مهللًا بها :
-صباح اللي يغني مواويل على عيون ست الحلوين ..
شد هارون عباءته المُلقاه على كتفه متحمحًا بضيق :
-ما تصطبح !!
-مالك يا عمدة !! مضايق ليه ..
تدخلت ليلة متعمدة تجاهلها :
-هيثم سيبك منه ؛ وتعالى اشرب معانا الشاي قبل ما يبرد ..
هب بوجهها :
-ايه سيبك منه ! عيل صغير أنا علعب معاكم !!
ثم هب بوجه هيثم والغيرة تلتهم ملامحه :
-عندك مقابلة في البنك اللي هتشتغل فيه بكرة ، وتنزل دِلوق تشرف على مصنع السكر ، مش فاضيين أحنا للچلع ديه !
تدخل هيثم ملاطفًا :
-مالك يا هِرن !! دي ليلة مش قصدها حاچة ، ولا ايه يا ليلة ؛ ما تقوليلو ..
نظرت لهيثم بملامحها المنكمشة :
-مش بكلمه ..
حك هيثم رأسه مصدرًا إيماءة قوية ويتذكر اتفاقهما بالأمس ، فقال :
-معلش يا عمدة ، عندي أشغال آخرى لازمًا أخلصها ، تقضي ليلة مُصلحتها ومرمطني كيف ما تحب .. رقبتي ليك !
فتحمست ليلة بفرحة متجاهلة زمجرة غضبه التي لا تخفى عن الأعمى :
-بجد يا هيثم !! هنروح فين ؟
تأرجحت عيني هيثم بحيرة وهو يطالع أخيه كي يلحقه من ذلك المأزق :
-مش عارف بس آكيد هعرف ..
جاءت زينـة من الخلف ركضًا وهي تصبح على فردوس لتهلل وتلوح بيديها :
-يا صباح النور على البنور ، صباحك هنا وزهور يا عمدة ..
مال هيثم على مسامع ليلة قائلًا بمزاح :
-أهي أم قويق چات !!
ثم جهر :
-أيه النور ديه يا زينة ، دخلتك ولا زينة العيد ، أؤمرينا ياما أنتَ هتنطيلنا كل صبح إهنه !! إكده كتير وهنتكهربو من كتر الأنوار !!
ثم برر مسرعًا :
-قصدي ادي فرصة للراجل طب يتوحشك ..
تغنجت زينة وهي تقترب من هارون متعمدة غيظ ليلة :
-أومال لو قولتلك أننا طول الليل مكالمات !! هتقول ايه ؟
رد هيثم بثقة وهو يطالع أخيه :
-هقول هارون أخوي من زمان وميعملهاش .. رغي التليفونات عيكهرب يده ..
-المرة هيكهرب قلبه ، طب حتى قوله يا هارون ..
رد هارون بضيق وهو يتأهب للذهاب :
-أقول حاچة محصلتش !!
بلعت ليلة طُعم كيد زينة ، فشدت وتر الغيرة وهي تنادي هيثم :
-هيثم انا هفطر مع أحلام ، واجهز نخرج سوا .. هكلمك ..
هتف هيثم بسعادة ليثير غضب أخيه أكثر :
-على رنات يا لوليتا ..
برق له أخيه بغضب وهو يبتعد عن زينة ليلحق بـ ليلة التي طيرت برجًا من عقله:
-هصبح على أحلام ..
فجاءت صفية من الخارج لتقول بضيق :
-وانت يا كبيرنا !! ناوي تچيب شبكة الغلبانة دي ميتى؟! البت خللت چارك !!
وقفت ليلة على أعتاب غرفة أحلام وقلبها ينتظر رده ، لا تعلم لماذا وربما فضول منها ، فـ رمى نظرة لعندها وهو يرد على أمه بملل وألف صوت يصدح بقلبه رافضًا :
-خديها وروحوا هاتو الشبكة النهاردة وهعدي على الچواهرجي أحاسبه ..
في غِصة النظرات دموع خفية لا يعلم حقيقتها إلا القلوب وأعين من أحبوا بصدق .. انتفض قلبها مثلما انتفض كفها الذي يحرك مقبض الباب وهي تتطلع له وكأنها تتوسله أن يراجع نفسه في قراره ، أن يأخذ بنصيحة أحلام .. أن يتوقف عن فعله مهما كانت العاقبة !! هللت زينة بالزغاريد ولم تراعٍ حزن أحد ، ففزعت رقية من نومهـا وأول ما بحثت عنه هو ذلك الرجل الذي قفلت عليـه باب الشرفة بالليل ، هرولت مفزوعـة من مرقدها لتفتح له الباب وهي تعتذر بجملة الاعتذارات :
-راحت عليّ نومة ، معرفش كيف ، والله فضلت صاحية للفچر مستنياه عشان أصحيك بس غصب عني نمت ، أنا مش عارفة أقولك أيه ، والله …
قاطعها برفع كف يده أن تكُف عن الاعتذارات ودلف الغرفة بمعالم وجهه التي تكظم الغضب ، فتح الخزانة ليتأهب لنزوله المعهد الأزهري يلقي محاضراته الأسبوعية في الفقـه .. تابعت خُطاه معتذرة وهي تترقرق بالدمع :
-حقـك عليّ ..
دار لها بغضب دفين وهو يراجع نفسه بحزن :
-رقيـة ، ليس لكِ ذنب ، هذا ذنبي ..
فأكمل مبررًا:
-ربما هذه عاقبة رفع صوتي على صفية .. سأحل أمرها الآن ..
أحست بالذنب أكثر وأنه وقف بوجه أمها لأجلها ، فانفجرت بالبكاء وهي تعتذر بشكل هستيري :
-أنا أسفة مكنتش عاوزة كل ديه يحصل ، خربطت لك حياتك ، ودنيتك .. وأنتَ مالكش ذنب .. هلال حقك عليّ ، كفاية وسيبني أمشي أنا عايشة غريبة إهنه .. سيبني وليّ رب يتولاني ..
فجر غضبه وهو يضرب باب الخزانه بيده البيضاء التي لُطخت بحُمرة الغضب وهو يزأر بوجهها ويأخذ نفسه بصعوبة لينجي عاقبة ضياع للفجـر لأخر اليوم :
-رقية .. يكفي ..
عاندته باكية وصدرها يعلو ويهبط وهي تتراجع للوراء :
-أنا ماليش عيش في البيت ده ولا معاك ، أنتَ مُصر تشيل حِمل مش حِملك ليه !!
أغرورقت عينيه بدمع الحزن عليها ليقول :
-أنتِ حِملي يا رقيـة ..
هزت رأسها رافضـة قراره :
-لا يا هلال .. أنا غلطت لما وافقت ، غلطت .. أنا واحدة مش هتفيدك بالعكس هضرك .. أنا معنديش حاچة أديهالك .. وأنت مش مُجبر تقضي عمرك مع واحدة زيي ..
رفع كفيه كي تهدئ وهو يترجاها :
-الكلام ديه مش وقته يا رقية ، من فضلك أهدي .. وأنا يا ستي راضي ومرحب شايلة همي ليـه !! رقية أنتِ أعقل من إكده .. قومي هنصـلو ركعتين لله وهتهدي ..
هزت رأسهـا رافضة :
-انزل شوف مصالحـك وهملني ، أنا زينة ..
احتدت نبرته قليلًا :
-رقية ، أمرنا منتهي وسواء أبيتِ أم شئت أنتِ الآن زوجتي وملك يدي ، فلا تعاندين ..
نبتت بذور رقية القديمـة بها وهي تستقبل جملته التي حركت كل ساكن بها ، فاكتفت بهز رأسهـا بالموافقة وتجاهلت وجوده وعصبيته واندست تحت لحافها وهي تعاود كُرة البكاء من جديد ، تبكي على أمها وحالها ومر أيامها التي عاشتها .. استعان هلال بالاستغفار كعادته وشغل سورة ” البقرة ” بصوت عالٍ وهو يراقبـها بصبر يطاهي ثقل الجِبال فرق كتفيه ، ليضرب كف على الآخر وكل ما فعله أنه أرسل رسالة لزميل له يبلغـه عن اعتذاره اليوم وتغيبه عن المعهد كي لا يتركها بمفردها في هذه الحالة …
•••••••••••
~بغُرفة هاجر ..
والتي استيقظت على صوت رنين هاتفها المتكرر لتجد اسم ” شريف ” الذي حسم مصير لعبتـه خاصة بعد عِلمه بنسب ليـلة للعزايزة ، فأراد أن يصنع جاسوسًا له منهما .. ردت هاجر بصوت مفعم بالنوم ويملأه الضيق :
-أيوة !!
-دكتورة رقية صحيتك ؟!
ردت باختناق :
-أنتَ شايف أيه !!
شد شريف مقعده الجلدي ليجلس فوقه وهو يقول :
-شايف أن حظي حلو أوي عشان اسمع الصوت الجامد ده وهو لسه صاحي من النوم !!
انتفضت هاجر من فراشها وهي توبخه :
-انت اتچننت ولا ايه !! شكل قعادك مع المبرشمين والشمامين لحس نافوخك زيهم .
استخدم نبرته الملونة بدهاء الثعالب :
-طيب اعتبريني مش في وعيي وعذري معايا وتسمحي لي أقول لك أنك مفارقتيش خيالي من إمبارح ؟! وأنك أجمـل واحدة أنا قابلتها ومنعت نفسي طول الليل أكلمك بالعافية . و
نهرته هاجر بحدة :
-و أنك محتاچ تفوق عشان تعرف أنتَ عتكلم مين !! أنا هاچر العزايزي بت في ضهرها أربع رچالة يسدوا عين الشمس لو مش ماليين عينك ، أنا هخليهم يقلعوهالك عشان ما تشوفش تاني ويبقى عذرك معاك صوح ..تمشي براحتك تخبط في بنات الناس ..
ثم قفلت المكالمة بوجهه وهي تسبه بسرها :
-عاوزة مني أيه الچدع ديه يا ربي !!! هي ناقصاه !! طب والله لأقول لهارون خليه يعلموا الأدب ..
•••••••••••••
~بغرفة أحلام..
مد لها هارون القرص العلاجي الذي من المفترض أن تأخذه بعد الأكل وناولها كأس الماء تحت عيني ليلة التي تتحدث بالهاتف مع أحدى رفيقاتها ، وما أن رأت اهتمام هارون بأدوية أحلام تحركت بخفة وتناولت قرصها الصباحي بهدوء كي لا تدخل بشجار آخر معه ، فأرسل لها نظرة خبيثة دون أن تلحظها ووجه حديثه لأحلام :
-نمتي زين ؟!!
لتردف على سجيتها :
-نمت يا حبيبي ، خدت البت السكر دي في حضني ونمت ومدرتش بالدنيـا ، نومها كيف الملايكة ؛ طول الليل نايمة على جنب واحد ما اتحركت يا ضنايا .. و
رمقها بنظرة مبطنة بالإعجاب :
-لأجل بس لسانها عاوز يتقص ..
لكزته أحلام معاتبة:
-متقولش إكده، دي سكر ولسانها عينقط سكر ..
ثم وشوشت له وهو تلقي نظرة على ليلة الواقفة على أعتاب الشرفة :
-عاوزاك تحكي لي علّى حوار أمها ديه ، بس لما تمشي ..
حدج أحلام بنظرة حادة متفهمًا مقصدها ثم لاحظ ليلة بأنها عادت لتأخذ نوع آخر من الدواء نسيته بعد ما انهت مكالمتها ، لينهض مفتعلًا أي حوار معها :
-ربنا يشفيكي …
تركت الأبريق من يدها بغيظ وهي تعاتبه بجزعٍ :
-ملاحظة أنك كُل مرة تبص لي كده وتقول ربنا يشفيكي وتمشي !! ممكن أفهم فـ أيه مش عاجبك فيـا ؟!
تحمحم بخفوت قاصدًا الإطمئنان على حالها :
-أنتِ زينـة ؟!
ردت بعفويتها المعهودة :
-لا انا مش زينة أنا ليلة !!
كز على فكيه بنفاذ صبر :
-يا صبـر الصـبر ..
ولى وجهه متأهبًا للرحيل فمنعته بثرثرتها :
-استنى استنى مش هسيبك غير لمـا افهم ! كل مرة تقول ربنا يشفيكي وتمشي ؟! شايفني مجنونة بشد في شعري !! ما تقولي حاجة يا أحلام !!
زفر بامتعاضٍ يطوى خلفه غضبه منها ومن تجاهلها له ؛ ليوضح :
-قصدي أسالك أنتِ زينة .. مليحة .. عتشكي من عييا !
تفهمت آخيرًا :
-اااه ، تقصد أنتِ كويسة !! اه يا سيدي كويسة وزي القـردة أهو قُدامك ! مش شوية دوخة كلنا عارفين سببهم اللي هتعمل عليهم حوار ، ولا عايز تراضي ضميرك وخلاص !!
ضرب كف عـ الآخر مغيرًا مجرى الحديث لينفي اهتمامه بحالتها الصحية نهائيًا وهو يتأمل خُضرة عينيها التي تتماشى مع منامتها :
-طالمـا أنتِ سليمـة .. ما تشوفي شيخ يرقيكي .. ولا أنا الـ جالي عمى ألوان ! ولا أنتِ أيه حكايتك يابت الناس ؟!
-شيخ !!
لوحت بكفها مستفهمة :
-استنى بس .. بالراحة عليـا ، عشان أنا مش فاهمة أي حاجة !
زفر بضيق وهو يتحرك مودعًا أحلام ، فلحقت بخطواته ركضًا وهي تقف أمامه عاقدة ذراعيها أمام صدرها :
-استنى هنا ، وبلاش اسلوبك الاستفزازي ده !!
رد على مضض يغلف به لذته في الحديث معها وقال متأففًا وهو يتعجب من ضحكة أحلام التي تشاهدهم بأعين لامعة :
-يا صبر الصبـر .. ماشي قبـل ما اتخوت على يدك ..
ضربت الأرض بقدميها وهي تعبر عن جزعها منه بنفس طريقته :
-كده بقا أنا الـ هتخوت على يـدك ! لما تقول جملة كملها للآخر !! ولا أنت مش عندك كلام وبتحاول تنكشني وخلاص !! كده مش هصالحك على فكرة ؛ فمتحاولش.
ثم بللت حلقها وأتبعت بسرعة وهي تشير بسبابتها ساخطة من نظراته الممتلئة انبهارًا بخفة روحها :
-أنتَ متعمد تجنني صح !! ده مش أسلوب .. اتفضل اشرح لي حالًا أيه مضايقك مني !فيـا أيه مش عاجبـك أنتَ بالذات ؟! ولا هو جر شكل وخلاص ! غريبة كل حاجة اعملها بتنتقدها !!
رد موضحًا حديثه الذي يخفي ورائه مواويل من الغزل قاصدًا استفزازها :
-ياستي مستغرب على حالك ! كل يوم عينك بـ لون شكل ، اسيبك لونهم زُرق ألقاهم تاني يوم خُضر … ما هو يا أما أنتِ عيانة ، يا ملبوسـة ؟! ما تثبتي على لون .
ردت بقنوط ممزوجًا بالسُخرية وهي تمسك رأسها منه :
-يعني مش ماشية معاك أنهم لينسيز مثلًا !! أنت جاي من أي عصر !!!
رد متفاخرًا وكأنه يذكر قلبه الذي رق لها بأعرافهم التي لا ترحم :
-أنا مخابرش غير عصر واحد وبس ، عصر العزايزة !
بثت شكواها لأحلام :
-شايفة طريقته يا أحلام !!
تدخلت أحلام الغارق بالضحك :
-ما تستهدوا بالله !! أنتوا مش عيال للمناقرة دي !! صل على النبي يا هارون ..
لوحت ليلة بكفها وهي تقعد بجوار أحلام لتشكو لها :
-أحلام قوليلو ميكلمنيش تاني ، أنا غلطانة إني رديت عليه أصلًا ..
ثم فتحت حِدقة عينيها وسألتها :
-لون عيني مش حِلو !!
-قمر واللي يقول غير إكده ما يوعى يشوفهم ..
تمتمت بخوف يحرك نبرتها :
-كلك ذوق يا أحلام وكلامك انتِ اللي قمر ، مش عارفة شكلك نسيتي تعلميه الآدامية في الكلام بدل ما هو ممم زي ما أنت شايفة مش محتاجة أقول لك …
ثم التفت لرنين هاتفها لتقول بعجلٍ:
-ده آكيد هيثم ..
فرغ دخان غضبه وغيرته بتنهيدة قوية وهو يتلصص السمع لمكالمتهم التي لم تخلٌ من الضحك حتى بلغت الغيرة أقصاها وهو يقول لأحلام بجزعٍ :
-خليها تخف مسخرة مع الزفت هيثم !!
•••••••••
خرجت ” نجاة ” من بيت أهل زوجها وهي تقفـل الباب ورائها مستعدة لذهابها للعمل بالوحدة الصحية ، ففوجئت برؤوف ينتظرها أمام البوابة بدون خوف ، فزعت من رؤيته وهي تتفقد المكان حولهـم خشية من أن يراهم أحد وتتراجاه :
-رؤوف ؛ أمشي من إهنه !! أنتَ أيه اللي چابك !! يا نهار مش فايت ؟
عقد ذراعيه أمام صدره وهو يقول :
-چاي أتقدم لك يا نجاة ، وأشوف صرفة معاهم ..
لطمت على وجهها وهي تترجاه :
-رؤوف بطل چنان ، أنا مش عاوزة اتچوزك ولا نيلة ، سيبني سيبني أربي ولدي من غير مشاكل .. أنا مش حِمل إنه يبعد عني ..
أمسك بمعصمها وهو يجذبها نحوه حاسمًا أمره بخصوصهم :
-نچاة خُلصت .. أنا مش هتچوز غيرك ولو السما انطبقت على الأرض ….
باغته طلق عيار ناري مر بجوارهم وصوت يصرخ من أعلى ويقول …

تعليقات



×