"للظلم جولة و للحق جولات، وعلى الباغي تدور الدوائر."
- عبد الرحمن منيف ।
•••••••••••••••••
لقـد سربت "ليلة" لحقل فكره عودًا من الكبريت المشتعل الذي لم يتوقف عن الإحتراق أبدًا ، حمل دخان حيرته بين التمرد على تلك الأعراف القاسية و التي تعهد على حمايتها بما تحمـله من مظالم لآخر عمره ، أم كيف سيخمد بركان الضمير الذي أشعلته تلك الفتـاة برأسـه !! فأكثر الأشياء التي قد تدهشك حد الحيرة حينمـا تنساق وراء عُرف محتقرًا لآلام الآخرين ، أعراف وضعت بزمـان ربما كانت حينها تتناسب معه ولكن و مع دوران ساقية العصـر واختلاف مطالبه ؛ أ هل عدلًا أن نأسر قلوبنا في قوقعة السلف !!!
غادر "هارون" غرفتـه محتجًا بأنه في حاجة لإشعال لفافة من التبغ .. أو على الأقرب ربما يريد حرق كل الأفكار التي تتسابـق بعقله ، تركت له الحيرة حد التمرد على عقله وأعرافهم وترك لها التمرد حد الحيـرة حول أمر قلبها المتعاطف دومًا مع الجميع وثقتها الكبيرة بحكمته !!
خلت الغُرفـة من طيف وجوده وقفل عليهـا الباب كي لا يتسبب أحد بإزعاجها ، ما أن ذهب عنها أحست بالخلاء يحيطها ، خلاء لا تدرك معناه حقًا إلا بغروبه عنـها وعن أي مكان يجمعهمـا معًا ، تمرد القلب الذي احتج ببقاءه بالمكان للإطلاع على الكُتب لـ التفتيش حول متعلقاته الشخصية.. فتحت تلك الخزانة الخشبية الصغيرة المتكونة من ضلفتين ناحية معلق بها عباءته الصعيدية وبجوارها عدد قليـل من الملابس الشبابية والعصرية ذات الماركات المميزة ، توقفت عينيها على ذاك " البلوڤر" المميز المختبئ بين ثيابه المُعلقـة وأخذت تعاينه بإعجاب لتقول لنفسها:
-واو ، واضح أن ذوقه حلو في كل حاجة إلا الستات !!
ثم رجعتـه مكانه وقفلت تلك الضلفة لتفتـح الأخرى المكونة من عدة رفوف فوق بعضها ، بدأ من ملابسه القطنيـة لـلرياضيـة لكسوته الصعيدية المكونة من عدة عباءات مصفوفة ومرتبة بطريقة مميزة للغايـة فوق بعضها البعض .. عاينت ماركة ملابسـه نوع نوع .. حتى مقاساته لم تنجٌ من حبل فضولها الممتد نحو خصوصياته ، تناولت يدها زجاجة العطر والتي يجاورها زجاجة من المسـك ذو الرائحة الخلابة ، أمسكت بعطره ونفثت القليـل على معصم يدها لتتنفسه بحبور يحضره بذاكرتها على الفور ؛ فالعطر من أخطر الأسلحة على ذاكرة المُغرميـن .. طيف من احتضانه لها مر على شريط فكرها للحظة أحدث رعشة قوية بجسدها جعلها تترك ما بيدها بسرعة وهي تقفل الضلفة وتعاتب نفسها وتتذكر جملة أمها التي كانت تقولها كل ما تعبث هذه الطفلة بأشيائها :
-عيب يا ليلة عيب ؛ ما تبقيش نوتي وتفتشي في حاجـة مش بتاعتك ..
حاولت أن تُشتت فكرها عنـه بانشغالها بأي أمر آخر.. ولكن كيف السبيل وكل ركن هنا يحمل جزءًا منه ، تقع تحت سقف مملكته وعن أي نجاة تبحث هذه الحمقاء !! فكرت للحظات في رقيـة وما وقع على تلك المسكينـة وكيف عانت ، وكيف الوحدة قطمت قلبها كما فعلت بكِ لسنوات متواصلة يا ليـلة !! نوبة من البكاء هجمت على مُقلتيهـا استقبلتهم برفض قاطع وهي تراقص جفونها وتهش على أوجاعها بيدها كي لا تفتح بابًا للحزن الموصد :
-ليـلة ، ليـلة مش هنعيط ؛ أهدي كده …
تناولت بعض الحبوب التي لا تُفارق جيبها ثم قفزت الفكرة برأسها وهي تمسك هاتفهـا لتشتت انتباهها عن الحزن ، وهي تقول:
-نشوف حكاية هاشم ده كمـان ، والله قلبي كان حاسس إنه مش سالك أبدًا !! نشوف كده يمكـن أكون غلطانة فـ الرقم ولا حاجة !!
سجلت الرقم ودخلت إلى تطبيق " الواتس آب " ، إذًا بصورتـه الشخصية موجودة على الرقم المُسجل ، رفعت حاجبها باندهاش :
-الله!!! ياابن اللعيبة ما الرقم صحيح أهو .. معقولة يكون متجـوز بجد ولا البنت دي بتكذب !! أممم بس هعرف ..
قطع حبـل أفكارها رنين رفقتها اللاتي لم تتعرف عليهن إلا من أربعة سنوات فقط حتى أصبحن كل حياتها كي تعوض فراغ غياب أبيها .. فتحت " الڤيديـو كول" وهي تعبث بشعرها وتقول بملل :
-وحشتـوني على فكرة ..
ملأت شاشـة هاتفها بصورهن وكل واحدة تعبر عن مدى اشتياقهـا للأخرى وعن عملهم والمواقف اللاتي مررن بها الأيام السابقـة ، حتى جاءت "علا" لتردف بفضول :
-ليـلة مالك سرحانة مش موجودة معانا خالص !!
وضعت قبضة يدها تحت خدها بملل :
-البلد هنا كلهـا أحداث وحاجات تخوف ، كل يوم عندهم جديد مش زينا ، عادي الأيام تتكرر وتعدي كده من غير أي حاجة مهمة .. لكن هما لا تحسي حياتهم فيلم سينمائي مش عارفة نهايته .. هما بيجروا وبيسابقوا الحياة بالظبط
انتبهن الثلاثة لحديثها ، فأدرفت "جوري" متسائلة بفضول :
-هارون تاني صح ؟! عمل ايه ؟!
جاوبت ليلة :
-مش هارون لوحده ، أخواته أهله قرايبهم بلدهم دي .. كله كله كده غريب ، فعلا دول لو اتعمل عليهم حلقة فالـTV هتكسر الدنيا .. المهم سيبكم من كُل ده ؛ بنات أنا عرفت حاجة خطيرة جدًا ..
ثم فارقت مقعدها الخشبي لتجلس على طرف تخته بارتياح كإنه ينتمى لها وتُكمل لهم :
-هاشـم أخوه طلع متجـوز فالسـر واحدة في البلد اللي بيشتغل فيها .. عارفين يعني ايه !! استنوا ده المفروض أنهم خاطبين له نغم !! ايه دا ؟!كل دي عُقد !!
ردت لميس بجهل :
-طيب وفين المشكلة في واحد متجوز ؟!
بررت لها عُلا :
-أنتِ مكنتيش معانا آخر مكالمة ، العيلة دي جوازها قائم على الدم ، بمعني لازم يتجوزوا يكون قرايب بعض !!
فأتبعت لميس :
-الجهل ده لسه موجود !! معقولة ؟! طيب وأنتِ عرفتي ازاي يا لي لي ..
كفت ليلة عن العبث بخصلات شعرها وهي تروي لهم ما حدث مع أحلام التي توسلت لها أن تطمئن على ابنها وقالت :
-لسه بقول ألو ، ردت عليا واحدة وبتقـول لي أنها مراته ، وأنا من غبائي بكرر الجملة ، وهارون .. قصدي هارون بيه العمدة كان واقف قصادي ومعرفش سمع ولا لا ؛ بس هو حاول ياخد مني الموبايل لما عرف إني بتكلم مع أخوه وأنا رفضت ..
تدخلت جوزي معبرة عن إعجابها بهاشم :
-أوووه ؛ شكلي هحب هاشم .. يعني ده ضرب بأعرافهم المتخلفة دي في عرض الحيط وراح اتجوز وعايش حياته !! لا جامد .
فأكملت " عُلا" بنصح :
-لي لي .. خلي بالك أوعي لسانك يقول كلمة كده ولا كده ، عدي اليومين الباقيـن يا ستي في هدوء وارجعي ..
ردت بخيبة أمل :
-هعمل كده فعلا ..
فهبت لميس مقترحـة بحماس :
-ندخل في المفيـد ؛ أنا عايزة أشوف أشكال الناس اللي بننم عليهم دول ..
أيدهن الباقية بضحك ومزاح حتى طاحت ليلة بوجههم :
-خلاص اسكتوا بقا .. لقيت صورة هاشـم وو
ثم وقعت عينيها على الإطار الموضـوع فوق الكُمود الذي بداخله صورة هارون والتي رسمت الضحكة على محياها وهي تقول بنبرة هائمة :
-وهارون كمان .. استنوا ..
سرقت الصورة الشخصية لهاشم ومن بعدها قامت بالتقاط صورة هارون بيدها التي ارتعشت وهي تلتقها .. لم تتردد للحظة وهي ترسل لهم صورة هاشم ، ولكن عند هارون صدح قلبها بصوت الملكيـة الذي كان يريد أن يمنعها في أن يتغزلن الفتيات بصورته .. تجاهلت نداء قلبها الغامض والمبهم وقامت بارسال الصورة أيضا ، ذاع صوت الفتيات وهن يشاهدن الصور وكل واحدة منهم مبهورة بالزي العسكري لهاشم اللاتي أعجبن بكونه ضابط حربي .. ومنهن من أشادت بوسامة هارون وجديتـه .. تفوهت جوري التي وقعت بحب هاشم :
-ايه المُز الجامـد ده !!
فأتبعت لميس :
-واحد جامد والتاني أجمد !! ينفع اتجوز الاتنين ؟!
فردت عُلا :
-لي لي أنا لو منك مش هرجع غير وأنا متجوزة واحد منهم …
فأتبعت جوري :
-حاسة الصورة دي قديمة لهارون ، لو صورة جديدة كان هيفوز بحبي عن هاشم الباد بوي ده ..
فتغزلت لميس بهارون مما سرب شعور الغيرة لقلب ليلة :
-بس جامد عنده هيبة بنت ستين في سبعين أنا اتخضيت … لي لي هارون ده فظيع بجد !! هو كده فعلًا في الحقيقة ؟!
فنادت علا على ليلة الشاردة :
-وأنتِ يا ليلة ؛ مين أحلى ؟!
ردت بشرود تائه في بحره وهي تستحضر ذكريات لقاءها بالمدعو هارون وتقول :
-هاشم جامد ولذيذ بس مشدنيش ، لكن هارون زي ما قالت لميس ، عنده هيبة تخض يخلي عندك فضول بيسحبك شوية بشوية لعنده عشان تتعرفي عليه أكتر وأكتر ..
ثم ذابت في سحر صورته بين يديها وأكملت بتمنى يزهو بمقلتيها :
-راجل مختلف عمري ما هقابل زيـه في حياتي ..
ثم هبت مذعورة وهي تعيد صورته لمكانها وتقول :
-مامي بتتصل .. باي باي أنتـوا …
••••••••••••••••
~بسيارة هارون ..
والتي حكم بجلوس "أحلام" بالمقعد المجاور له وبالخلف صفية وزيـنة التي يمتد غضبها لملامحها المنكمشة .. تفوهت صفيـة بضيق :
-هارون يا ولدي ، ساعة ونعاودوا .. أنا عندي مصالحي ..دي واحدة خاطية خسارة نعزوها حتى.
-البت معملتش حاچة تعيبها ياما ..
ثم عير مجرى العتب و أكمل بمـلل :
-ربك يسهل الأمور ياما ..
فتدخلت زينـة بكهن :
-إلا قول لي يا هارون ؛ بكرة هيكتبوا على البت دي والواد وِلد عمها ..
زفر باختناق :
-معارفش ..
فتدخلت صفية لتقلي سؤالها على مسامعـه :
-الواد راح المجلس يطلبها ولا لسه يا هارون .
انكر معرفته بكل شيء كي يقفـل أي بوابة للجدال بخصوص هذا الأمر الذي أشعلتـه ليلة بقلبه وبرأسه :
-معنديش خبر ..
أخذت زينة تخوض في تفاصيل الأمر مع عمتها :
-شوف الحرباية ، أمها في المستشفى ورايحة تمشي على حل شعرها ؛ دي بنات متربتش يا عمة ، وبدل ما يچوزوها يروحوا يدفنوها بالحيا ..
كان حديث زينة النقيض تمامًا عن ليلة التي رأفت بقلب تلك المسكينـة على مسامع هارون فأعقبت صفية :
-دي بت چليلة الترباية ، عاوزة قصف رقبتها .. انا من رأيي موتها ولا عارها .. البت اللي تتكشف على راجل مش حلالها متستلهش تعيش.
وضعت زينة أناملها على شدقها وهي تقول مسددة النظر لهارون:
-يا مري يا عمتي .. لا ربنا يبعدنا عن الحرام والفضايح ، وهو في أحلى من حلال ربنا يوعدنا بيـه ..
لم يرق موضع الحديث بالنسبة " لأحلام " التي ربتت على كتف هارون متولية أمر دفاعها عن تلك الفتاة التي يجلدها الجميع بدون سبب .. نظرت للخلف وهي تنهرهم :
-ما تكتمي أنتِ وهي ، أيه عاوزين جنازة وماتشبعوش فيها لطم !! عرض الولاية بقا سهل !! مسكتوا حكم الدنيا أنتوا و أحنا مش عارفين !! اتقي الله يا صفية عندك بنات والبت دي مش خاطية البت اتاخدت غدر ..
تفوهت زينة باعتراض :
-غدر ولا مش غدر اسمها لامؤاخذة انكشفت على راجل وماينفعش تتكشف على غيره بعد إكده .
ألجمها صوت هارون المعارض لجهلها :
-ولا كلمة زيادة يا زينة ومش عاوز اسمع صوتك لحدت ما نوصلوا .
-ليـه بس يا
قاطعها بإصرار وهو يبرق لها بالمرآة :
-ولا كلمة قلت …
لكزتها عمتها التي انكمشت بالمقعد كي تصمت ، كي لا تُجادله .. ربتت أحلام على كتفه وهي تقول :
-هدي روحك ياحبيبي ، عيلة مفهماش حاجة وعرفت غلطها ..
شتان بين صوت الضمير وصوت الحميـر ، شتان بين إمرأة تجلس ببساتين الحياة فكل ما يخرج من فاهها زهور في صورة كلمات ، وبين إمراة ترعرعت في حظيـرة كل ما تقوله مدنس بالحماقـة .. استحضرت أعينه وجه" ليلة "التي تتوسله أن يقف بجوار فتاة لم تعرفها وتترجاه أن يقيم العدل لأجلها ويرحمها ، وتلك التي تجلس خلفه وستكون يومًا ما زوجته وهي لا تعرف للرحمة لون … ما هذا النفور الذي قفز بقلـبه لمجرد تخيله للفكرة !!
قطع فكره المتواصل رنين هيثم الذي اتاه صوته المتقطع بأنفاس التعب :
-هارون ، رقية جات عزا أمها ؟!
-أنا لسه في الطريق !! في ايه ؟!
-مش لاقينها يا هارون !! فص ملح وداب .
••••••••••
أغرق بالحب كيفما شئت ولكن عليك بالحذر ، أن تبقى أعينك مفتوحة دومًا .. هذه هي قوانين البحار لا يموت سمك مقفول العينين وتلك أشارة لك أيها العاشق .. فلا تبقى عاشق وأحمق بآنٍ واحد .. يكفيك سُم العشق فالقلب سيشفع لك ، ولكن سُم الحماقة فلا يرحمك العقل وقتها ..
قبل ساعات وبالأخص حينما كانت تخفي رغد آثار جريمتها الشنيعة وتقوم بحذف رقم" ليلة" من هاتفه توقفت عند رقمها قليلا وقامت بالتقاط صورة الشاشة وأرسلت الرقم لنفسها رغبة ما بنفسها قادتها أن تحتفظ برقم "ليلة"ثم تابعت إخفاء باقي جريمتها بعجل وغادرت الحمام بحذر شديد وفي لحظة قربها منه لتضع الهاتف بمكانه تأرجحت جفونه حتى أوشكت أن تنفضح أمامه فاضطرت أن تلجا لدهائها الأنثوية لتشتت تساؤلاته وهي تبادر بقبلة رقيقة نالت ملامحه هامسة له :
-سبتك تنام كتير .. مش كفاية بقا ؟!بتوحشني .
عادت من غفلتها على صوت فرقعة حبات الفشار بالطنجرة فاستردت وعيها على الفور وهي تجهز الإناء البلاستيكي لتكمل سهرتها الرومانسية معه بمنزلهم .. غسلت وجهها بالماء لتمحو من فوقه أثار الفكر واخذت نفسا عميقا لتهدأ ثم عادت لتفرغ الفشار بالطبق وتعود له ..
كان جالسًا في أجواء رومانسية يعمها الإضاءة الخافتــة والفيلم الأجنبي المفضل لهما حول الكثير من المقرمشات والعصائر للتسلية .. كانت ترتدي منامة شتوية بحمالات تصل لركبتها وجوارب شتوية تكسو قدمها لأعلي فدنت منه وهي تسأله :
-الفيلم ابتدا؟!
ترك الهاتف من يده وهو يجذبها لحضنه برفق :
-أهو هيبدأ .. وبعدين أنتٍ جايبة لنا فيلم رومانسي ليه ؟! أنا بحب الأكشن ..
-وأنا بحب الرومانتك ..
أصدر صوتًا نافية وهو يرفع حمالة كتفها المتدلية ويقول :
-كله كلام فارغ بيضحكو بيه على الهبل اللي زيكم .. مفيش بعد الأكشن وحلاوته ؟!
رمت حبة فشار بفاهه وهي تمازحه :
-ياسلام !! زي ما ضحكت عليــا كدا بالظبط ؟!أنت ناسي عملت أيه عشان تخليني أحبك !!
رفع حمالة سترته مرة أخرى وهو يتأمل ملامحها البدوية بإعجاب :
-في الأول كنت بتفرج عليه عشان أعرف أضحك عليكي بس ..
-ياسلام ؟! ودلوقتٍ خلاص بقا ضحكت عليا وجبتني في بيتك .. فـ خلاص كدا !!
تحمحم هاشم بخفوت وهو يغازلها بأنفاسه القريبة منها أرنبة أنفها :
-لا يا عبيطة هفضل أعلم فيكِ لأمتى .. فيلم رومانسي لزوم الشغل والأكشن لزوم ضبط الشغل ..
ثنت قدمها فوق ركبته المثنية وقالت بدلال بعد ما وضعت القليل المقرمشات بفمه :
-أزاي بقى ياهاشم بيه ؟!
رد بعفوية :
-عندك مثلا التكسير والحركات والخبط والرزع كلها حاجات لزوم الحاجات ؟! فاهمة حاجة ؟!
هزت رأسها وهي غارقة بالضحك :
-لا !!
فتحه فاهه ممازحا :
-ارمي ارمي فشار .. مفيش فايدة فيكي .
غمزت له بطرف عينها وهي تٌمسك بغلة الفشار وتسأل بخبث :
-فشار بس ؟!
-عندك حاجة تاني تتحدف جوة ؟!
جثت على ركبتيها لترمي قبلة أشبة لقطف الورود من خد البستان وقالت :
-حبة كده وحبة كده ...
-سيبك من كده وخلينا في كده ..
أنهى جملته بغمزة من طرف عينيه وتحمحم متحمسًا بعد ما ألقت رحيق بيادر الحب بقلبه وهو يجذبها عنوة إليه فانسكب إناء الفشار فوقهم لتصيح صارخة باسمه وتعاتبه :
-تصدق مامي ليها حق تطردنا بالعلاقة الهمجية دي ؟! لم معايا كده ..
-استنى في حاجات تاني هتتلم بالمرة !
قطع حبل نواياه الخبيثة صوت رنين هاتفها ففرت من تحت قبضته كالغزالة لترد على الهاتف قائلا :
-شكلها سامية بتيجي على السيرة ؟! وهي اللي باصة لي في أم الجوازة دي ..
ألقت نظرة بهاتفها :
-اه هي .. اسكت بقا متعملش صوت ..
ثم فتحت الهاتف لترد على أمها :
-هيي يامامي .. بنت حلال لسه أنا وهاشم كُنا في سيرتك ..
جاءتها نبرة صوت أمها الجادة :
-رغد .. أبعدي عن هاشم وكلميني ..
استأذنت منه بلغة الإشارة لتحضر ماء وهي تقول :
-معاكي يا مامي ..اتفضلي .
بتلك النبرة الخائفة حذرتها أمها :
-رغد أقفلي موبايلك لحد جوزك ما يمشي .. ممدوح الشيمي بيحاول يوصلك وأنا قولتله أنك مسافرة كندا عند خالك ..
ثم أشعلت تلك العجوز لفافة من التبغ الملقاة بفاهها :
-رغد .. أبوكي لو ظهر في حياتك تبقي تنسي علاقتك بهاشم للأبد ...
انخرطت العبرات من طرف عينيها :
-يعني أيه يامامي .. هو مش كفاية اللي عمله .. راجع تاني يدمرلنا حياتنا ؟!!!!
••••••••••••••
~نجع العزايـزة .
نُصب الصوان ببيت الحج ( أبو الفضل العزايزي) لتلحق به زوجته ورفيقة دربه اللذان عانان كثيرًا في الإنجاب حتى رُزقان "برقية " وباتت رُقيهم بالدنيا وبالآخرة .. عندما حققت حلم أبيها بدخولها كلية الصيدلة وبرت بأمها حتى رحلت وراء أبيها وتركوا معذبتهم لدروب الحياة لوحدها .. احتشد الجميع لتأدية واجب العزاء بعد ما دفنت السيدة صفاء ووقفوا أهلها والمقربين لأخذ طقوس العزاء ..
وصل نائب العمدة "هارون العزايزي " وأهل بيته للعزاء ووقف في أول صفوف أخذ العزاء من أهل قبيلته بنفسه .. انضم لهم هلال وهيثم الذين يبحثون عن رقية في كل مكان .. تساءل هثيم بقلق :
-هارون رقية ملهاش وجود ..
فتدخلت هاجر الباكية وهي تلهث من الخوف :
-هارون اتصرف .. عشان خاطري يا أخوي لتعمل في روحها حاجة .. أنا خايفـة عليهـا ..
لأول مرة يتخلى هلال عن زيه الأزهري وطاقيته .. يقف قابضا على جمر الألم والخوف بقلة حيلة .. قال هارون لأخته :
-خشي دوري عليها في البيت جوة ..لتكون قاعدة في مكان في البيت ..
ثم التفت لسؤال هلال المختنق الذي يكظم غضب وما أدراك وما كظم غضب الرجال وقال لإيقاع أخيه حول إيجاده لبكر أم لا ليقتص منه :
-هارون ليكون الندل خدها وهرب ..
أدرك هارون فخ أخيه الذي يحترق غضبا لدينه ودنيته كظن هارون الذي لا يعلم أن أخيه غارق بلهب الحُب ، نجا هارون من الوقوع في فخ سؤاله مستنكرًا علمه بأي شيء يخص المدعو بكر :
-رجالتي قالبين البلد .. متعتلش هم هجيبوا ومفيش مخلوق هيطلع من العزايزة من غير علمي ..
انفجر هيثم بنفاذ صبر ليجذب صوته انتباه الحاضرين :
-أنت ايه الهدوء بتاعك !!عقولك بت ملهاش ذنب أدبحت ومش لاقينها .. وواحد خسيس هربان وو
رمق أخيه بنظرته الحادة إثر رفع صوته عليه لأول مرة ولكن منعه من الرد صوت رنين هاتفه :
-أيوة يا جابر ؟!
-كارثة يا جناب العمدة .. البت راحت النُقطة بلغت والقوات جاية وو
هنا أقتحم صوت عربات الشرطة الأذان ودار نحوها الجميع .. تلك أول مرة تجرؤ الحكومة على دخول نجع العزايزة .. اتسعت الأعين وانفرجت الأفواه .. لم يكن الوقت متاحا لهلال أن يستفسر بل ركض نحو العربة التي هبطت منها رقية متجاهلا الجميع ليقف أمامها مهزوزا وبنبرته المنتفضة :
-أنتٍ بخير ؟!
قفلت جفونها وتحاشت النظر إليه متجاهلة الرد على سؤاله وربما فقدت قدرتها على التطلع له .. فباتت الجسور بينهما محطمة تماما .. كيف ستواجه رجل مثله منارة في العلم والخُلق ..رجل كانت تتحداه رأسا برأس وتناطحه بدل الكلمة بعشرة .. كيف ستواجهه الآن وهي فاقدة كل شيء وتحاول النجاة بحطام ما تبقى من روحها .. دخلت من بوابة البيت فهرولت لعندها هاجر وضمتها بهلفة لتقول معاتبة :
-موت من الخوف عليكي ..
كانت عبارة عن جسد راسخ فقد كل وظائفه الآدمية .. شلت الحركة بكل جسدها ما عدا عينيها باتت تتطوف وتتجول المكان حولها .. تسرب الخوف لقلبها وهي تراقب الوجوه وتسألها :
-هي أمي ناصبة صوان ليه ؟! أنا زينة وحقي راجع وو
ثم جلى حلقها برقت تلك الأعين المحمرة :
-تعالى معاي يا هاجر أقولها أن بتك شريفة ووالله والله هو اللي عذر بيّ .. أنا كنت هرمي نفسي وو
ظلت تمسح على وجه رفيقتها وتترجاه :
-اهدي يا حبيبتي .. أهدي أهدي .. أنتٍ زي الفل ومحدش يقدر يقول فيحقك كلمة واحدة وو أهدي عشان خاطري ..
انسكبت العبرات من مقلتيها بغزارة وهي تقول بترجي :
-طب تعالى تعالى نفهموا أمي .. هي عارفة تربية بيتها .. تعالى خليكي جاري عاوزة اترمي في حضنها وابكي و أقولها رقية أدبحت ياما ...
كفكفت هاجر دموع رفيقتها ثم ضمتها لحضنها وهي تصرخ باكية لتلقي جمر الخبر على مسامعها :
-صفاء سابتنا ومشت يا نور عيني .. قلبها حس بيكي مستحملش ووقف ..
بللت رقية حلقها الذي جف وهي تحت تأثير صدمتها :
-تعالي أقولها إني مش هسيبه غير لما يتعدم .. حقي راجع ياما ..
ثم كفكفت عبراتها وسيل أنفها المتقطر :
-هي خدت دواها ولا نسيته .. تعالي ياهاجر جوه نشوفوها يلا أنا غايبة عنيها من إمبارح ..
توقفت هاجر أمامها لتعوق خطاها وهي تتشبث بذراعيها :
-حبيبتي فوقي مش جوة .. صفاء مشت عند اللي خلقها ..
ثم أتاها صوت أحلام التي جاءت من الخلف وهي تربت على كتف تلك الصغيرة :
-رقية يابتي انتي مؤمنة بالله صح وده قدر ومكتوب .. صعبة عارفة بس أنا جارك ومش هسيبك وو
قفلت جفونها للحظة محاولة استيعاب ما قالت هاجر وهي تسألها:
-هي يعني لساتها في المستشفى طب يلا نروحولها ..
ثم تجول عينيها لتراقب الوجوه حولها بعدما استوعبت خبر رحيل صفاء عنها ، وبتلك النبرة التي رجت الجدران قبل القلوب أطلقتها رقيـه صارخة وهي تجثو على ركبتيها كأن صخور الحزن تحطمت على كتفها لوحدها :
-أمـــي …….
لم يتحمل "هلال" هول الموقف الذي هُزت لأجله الجبال وما عليها .. فر من مرارة الحشد المهين ليجد مكانا يفرغ به تراكمات روحه التي لم يعد قادرا لتحملها .. وعلى الجهة الأخرى يقف هارون مع هيثم أمام شريف الذي انتشروا رجاله والطب الشرعي بالمكان .. فأخبره هارون بهدوء :
-خد رجالتك يا شريف بيه وأمشي من إهنه ده واجب وعزا ومش عاوزين فيه عوچ.. أحنا هنحلو مشاكلنا ؟!
رمقه شريف بسخرية :
-أنت من أول ما ركبت العمدية والمشاكل مابتتحلش .. سيبني أحلهالك أنا .. وأعترفوا بدور الحكومة هي مش غابة يا عزايزة ..
رد عليه هارون بشموخ :
-والأرض إهنه أرض العزايزة ويبقي القانون بتاعهم وبس ..واللي يقف عليها يحترموا غصبًا عن عين اللي خلفوه .
فأتبع هيثم :
-فرد العضلات دهوت روح أعمله في أي حتة بعيد عن إهنه ..العزايزة لسه بقوتها وكلمتها سايرة على الكل .
أشعل شريف سيجارته وهو يطالع هارون بتحد بأنه لا يتراجع أبدا :
-بكر فين يا عمدة ؟!
مال ثغر هارون بضحكة خبيثة وهو يحك أنفه بسبابته :
-ديه شغلتكم مش شغلتي يا حكومة !
جهر شريف بوجهه كمن أعلن عليه الحرب :
-أنت كده بتقف ضدنا وأنا متأكد إنك عارفه فين .. هات معايا سكة وخلينا نساعدو بعض بدل ما ..
قطعه هارون بثقة :
-أه أنت تترقى وتعلق نجمة زيادة وأنا اتفضح وتبقى سيرتي على كل لسان .. ألعب غيرها يا شريف بيه .. العزايزة مستغنيين عن خدماتك .
ثم دنى هارون منه خطوة أخرى وما زال محافظا على شموخه وأكمل بسخرية :
-وهو عدم اللامؤاخذة .. القانون بتاعك هيعمل ايه زيادة عننا ؟؟! ما هو الواد لو وقف وقال هتجوزها هيتجوزها .. ونبقي منبناش غير الحديت الماسخ والفرهدة !!سيب مشاكل العزايزة للعزايزة وكل عيش بعيد عنهم.
غمز له شريف برفض قاطع مرحبا بقيام الحرب بينهما :
-انتو بقيتوا شغلتي خلاص..
ثم وضع الهاتف على أذنه وهو يرسل لهارون آخر نظراته متواريًا خلف العربة وهو يتحدث مع المتصل والذي يشتغل بالصحافة كي يضمن قبضتـه على جمر الموضوع بعيدًا عن ألاعيب هارون ، ويحوله لقضية رأي عام :
-"فوزي بيه ، خبـر لسه طازة عاوزو يقلب الإعلام والصحافة ويلف مصر كلها بيت بيت .. سجل عندك .. "
كل شيء بالحياة وله تاريخ صلاحيـة ، كُل المواقف في حاجـة لرد فعل مناسـب للحدث ذاته وفي وقته ، فبعض المواقف لا تقبل التأجيـل للرد عليهـا ، فما جدوى السيوف التي تُرفع بعد أن ضبت الحرب أوزارها ؟! الظلم يحتاج لصوتٍ يعارضـه ، لصوت يقف بوجهه .. الحزن بحاجة لبكاء يخفف الحمل من فوق القلب.. الضعيف يحتاج لمن يأخذ بيده ليقويه .. ترك لها قلبه ورحل .. وصل " هلال" لتحت إحدى الأشجار في الظلام الدامس كي لا يتيح لأحدٍ أن يرى دمع عينيه وهو واقف مغلول الأيدي يشاهد الظلم بعين حق متوارية .. يراقب تحطم فتاة ضعيفة ويود احتضانها ولكنـه عاجز لا يستطيع.. حتى البكاء لا يليق بهِ ، فعادات الرجال لا تُقطر عينيهم أبدًا يسيل الدم ولا يسيل الدمع ؛ ولكن ما الذي يخفف حمل القلوب المُثقلـة .. وقف تحت ستار الليـل الذي لا يختلف عن ستار الظلم إلا أن كلاهما سيسطع عليهما شمس الحق في يومٍ ما ، فتح كفوفه معلنـًا اعتراضـه وتبرئة ذمته عن كل ما يحدث ، يزأر تحت عرش الظلم القاتل لكل معالم الإنسانيـة وهو يستغيث برحمة ربـه ، اشتدت حبال صوته التي برزت عروق رقبته ويده المتشنجة بصوت ينافس زئير الأسود الجائعـة في غابة حُرقت كل أشجارها .. راجيًا أن يهدأ احتراق قلبـه الثائر وهو يفجر غضبه فـ كلمته :
-يــــالله !!!!!!!! يــــالله ..
•••••••••••••
~في التاسعـة مساءً ..
عاد هارون وعائلته إلى بيتهم ما عدا هاجر التي أصرت أن تبقى مع رفيقتها وتولت نغم مهمة أنسهم .. ووكل هارون هيثم واثنين من الرجال لبقاءهم خارج البيت لحارستهم .. كانت صفية تضرب كف على الآخر وهي تشكو همـها لزوجها الجالس على الاريكة الخشبية مستندًا على عكازه بوهن :
-حج خليفـة لازمًا تشوف لك صِرفة !! بتك هاجر عصت كلمتي وفضلت مع البت اللي ما تتسمى دي !! سُمعة البت يا حچ !!
جهر صوت هارون من الخلف :
-قولها اطمني تروح تنام يا حج خليفة ..
أخذ جملة ابنه على محمل الثقة :
-سمعتي يا صفية حديت ولدك ، اتقي الله ابو البت جمايله مغرقانا والبت ما ينفعش تتساب بروحها ..
أخذت صفية تسب حظها سرًا وعلنًا معترضة على أحكام ابنها وزوجها وهي تنوح وتندب بختها المائل على حسب وصفها ، اسندت هيام " أحلام" لغُرفتها بهدوء وهي تحكي معها حول ما حدث مشفقة على حال هذه الفتاة التي ذُبحت مرتين في نفس الليلة .. جلس هارون مع أبيها ليستفتيـه بالأمر متحيرًا :
-أيه رأيك يا أبوي ، المفروض أيه اللي يُحصل ؟!
نظر له ابيه نظرة حكيمة وبابتسامة لا تتناسب مع محتوى الحوار بينهم وقال :
-صوت قلبـك عيقول أيه !
عارضه هارون :
-ومن ميتى في القانون والعرف قلوبنا بيطلعلها صوت ياحج !!
عاتبه بهدوء :
-ومش معنى إنك حلفت اليمين إنك تحافظ عليهم ، يبقى تموت صوت قلبك ! لا يا هارون يا ولدي !!
قاطعه معتذرًا :
-بس أنا عمري ما شوفتك كسرت عُرف ولا قانون للعزايزة يا ابوي .. طول حياتك بتنفذ القانون لو على رقبتك !!
غرز أبيه سبابته بصدر ولده مشيرًا لقلبه بقوة :
-عشان اللي إهنه مخفي ، وعشان يتعمل لازم يبقى في الخفي ..
تحير حول حكمة أبيه التي لم يفهمها قط ، وسأله :
-طب ما ترسيني !! البت حرام تتچوز كلب زي ديه !! وحرام تتساب لروحها في الدنيـا !
هز الحج خليفـة رأسه بعد اقتناع :
-احكم في اللي تُملكه وبس ، أمر الدنيا بيده لوحده - وهو يُشير للسماء - أنا سايب لك المركب تسوقها لوحدك عشان متتخبطش زيي ..
ثم استند على عكازه متأهبًا للذهاب :
-على فين يا أبوي !!
-طالع أنام يا ولدي ، رايح بكرة اسكندرية ..
انكمشت ملامح وجهه باندهاش :
-ده ليه ؟! ملناش شغل حتى في اسكندرية!!
ابتسم ابيه بحكمة لا يعلمها غيره :
-حقوق عباد ولازم ترجع لصحابها ..-ثم عاد يشير لقلبه وأكمل -أهي دي الأمور الخفية اللي لازم القلب يحكمها .. خلي حكمك قوي لكن متموتش قلبك يا عمده ..
ظن أن لجوئه لأبيه سيستدل منه على الحل ليطمئن فكره ولكنه أشعل وهجًا أخر من الحيرة برأسه حول ما السر او ما الأسرار التي يخفيها خليفة العزايزي وستدفن معه !! تدخل مقترحًا :
-لو عاوز تعرف حد في اسكندرية ممكن تسأل الاستاذة .. قصدي الضيفة ، آكيد لافة وعارفة كل حاچة في بلدها ..
لم يكترث للأمر اكتفى بهز رأسه قائلًا :
-كله على الله .. وديني عند أحلام ،ليّ ليلتين غايب عنها ..
تعكز أبيه على رسغه ، فمازحه هارون قائلًا :
-أهو مزاجك ماعيتظبطش غير عند أحلام .. هنيالك يا حج ..
ضحك ابيه بوقار وهو يعترف بحق زوجته الأولى :
-أحلام من الحريم اللي تريح الراس والقلب ، أما أمك دي تقلب الرأس قلب .. -ثم وشوش له - احفظ سر أبوك متودناش في حديد أمك لساتها بصحتها وأنا مش كَدها ..
لاطف أبيه باحترام :
-لا أحنا چامدين يا حچ ولا يفرقلنا !! داحنا نتعلموا منك ..
-عند أمك وهيفرق ،وطي حِسك بس مش ناقصين خوتة ..
وصل الاثنان لأعتاب غرفة أحلام والتي خرجت منها هيام للتـو ، فألتقت بأبيها وأخيها اللذان بادلتهما بابتسامة هادئة ، ترك الحج خليفة يد ولده مستردًا عافيته على باب الغرفة :
-أنتَ مسندني ليه يا وِلد !! شايفني كَبرت !!
داعبه هارون ملاطفًا بالحديث وهو يضع يده على كتفي أخته ويقول :
-مش بقولك يا حج داحنا نتعلموا منك ..
ثم وشوش لاخته ضاحكًا :
-أبوكي شكله ناوي يعملها ويجيبلنا الواد الخامس .. مش مرتاح له ..
ضحك الأخوة معًا وألتفتت له هيام بامتنان :
-تعرف إني عحبك قوي يا هارون ، أنتَ مش بس أخوي ؛ أنتَ كُل حاچة في حياتي..
-أنتِ تربية يدي يابت !! وأنا ليا مين غيركم ..
ثم ختم جُملته بقبلة رأسها وسألها :
-روحتي لـ ليلي ؟!
انكمشت ملامحها باستغراب :
-أنا ما شوفتهاش خالص ، افتكرتها راحت معاكم ؟!
ضجرت ملامحه باختناق مناديًا على فردوس التي جاءت ركضًا :
-فردوس مش أنا قولتلك أعمل غدا وشيعيه للأستاذة مع هيام !!
ضربت فردوس على رأسها تُعلن نسيانها :
-يقطعني يا هارون بيه ، اتشغلت في البيت ونسيـت وو
-يعني مأكلتش حاجة من صباحيـة ربنـا !!
حاولت تصلح موقفهـا معتذرة :
-حالًا حالًا .. هعملها صنية العشا ..
في تلك اللحظة انطفأت الأنوار إثر انقطاع الكهرباء عن بيتهم لعطـل مـا ، سب هارون ذلك الحدث وهو يشعل كشاف هاتفه طالبًا من أخته :
-روحي أقفي مع فردوس وأنا هروح أشوفها ، ازاي مخرجتش كل ده ؟!!
~بغرفة هارون الخشبية ..
مرعبة فكرة أن هذه هي حيـاتي للأبد .. أخشى أن يمر العُمر وأنا أتجاوز فترات مختلفة من الضغط والتعب والتفكير والتشتت والبكاء ، أخشى أن يمر ربيع شبابي دون أن أقول لنفسي ..
"أخيرًا لقد أنتهى كل شيء ".
قضت ليـلة ساعات طويلة سجينة غرفته وتفاصيـلها ورائحته وكتبـه وكل شيء ينتمي إليه لوحده ، أسهبت الفكر به للحد الذي أشغلها عن الالتفات إلى ذلك الصداع المُجرم الذي يصـدح برأسها ويضرب بجذوره بخلايـا جسدها .. ظلت تتمرد على التعب بتناولهـا جرعات زائدة من الدواء على معدة فارغة بناءً عن وصف أمها كلما يشتد وزر الألم فالمسكن سيحل الأمر ولكن تلك المرة بات الألم لا حد له فَجر وتفجر برأسها ، أصاب كيانها ورعشـة كفوفها التي تقلب الصفحات .. ثم تابعها ارتعاش عضلات وجهها وانتفاضة ساقيها بصورة مروعـة ، ظلت تئن تئن وهي تتحمل الوجع تتحمل تلك الدبابير التي تلهو برأسها ، ثم تلجأ لتناول المزيد والمزيد من تلك الأقراص الملعونة .. تمسكت بالهاتف كي تستغيث بأمها تلك السيدة التي تقتلها بسلاح بارد .. سقط الهاتف من يدها لقد تدهورت حالة أعصابها فلم تقاوم على حمل ريشة إثر حالة الذعر التي أصابتها ..
تفاقمت الأزمة عليها في لحظة انقطاع الكهرباء عن المكان فلم تر إلا ظلام وذئاب وهمية تأكل بكيانها ، سقطت بالأرض فلم تعد أقدامها أن تسعفها حتى لمغادرة الغُرفـة ، وضعت كفوفها فوق آذانها وهي تصدح بالصراخ المكتوم وتضرب قدميهـا بكل شيء يقابلها وهي تزحف وتترتجع للوراء ، حالة الذعر خيمت على حالتها المرضية وهي تفتش بالظلام عن أيدي تمتد لها لتنقذها من هول المخاوف التي تحاصرها ، أغرورقت ملامحها بالدموع الذي بلل ملابسها وهي تفتش في ستائر الظلام عن ظل والدها الذي كان يضمها في أصعب لحظاتها ، مرت شرائط الوحدة البغيضة أمامها وهي تصرخ رافضة العودة للماضٍ خطوة واحدة ، لا تريد من الماضي إلا أبيها فقط ، سندت ظهرها على الحائط خلفها وضمت ساقيها لصدرها وهي ترتجف ، تصرخ ، تنحب بصوت هستيري مستسلمة للأسلاك الشائكة التي تضرب بأصولها حتى انفرجت زاوية الباب التي جاءت بالنور وبرجل مثله .. رجل مثل ما يعث حوله قلبها كان ينادي باسمها " ليلي " تارة وبلقبها طورًا و بهدوء كأن قلبه على علم بحالتهـا ويخشى ألا يؤذيها ، لم يسمع إلا صوت أنينها وهي تبكي بأحد الزوايا بصوتها المكتوم الذي تعالى تدريجيًا عندما أحست بوجوده بالمكان ، كل ما بها يرتجف ، يرتعش فقدت قدرتها على النطق .. قفز الهلع في قلبها وهو يفتش عنها بزوايا الغرفة بالإضاءة الخافتة ومع خطواته القلقة عليها يدنو منها حتى سقط عليها النور فوجدها متكورة حول نفسها وتراقبه بجفون متسعة تعلن عن حاجتها للونس للاطمئنان لعناق يخفف وطأة الألم.. حاجتها إليه ولا أحد يعلم لِم هو !!
تسمرت ملامحه التي تراقب تلك القطة التي تئن بالأرض وتصعق من نوبة الحزن والألم .. جثى على ركبتيه ليسائلها بتلك النبرة الخائفة :
-مالك ؟! في أيه ؟!
لم يمهلها فرصة للرد فأخذ يمسح على ملامحها بكفه الدافئ الذي احتضن تلك الملامح التي ترتجف من برد الخوف .. رفع شعرها عن وجهها بنفس اللهفة :
-انتِ سمعاني !!!
هزت رأسها تارك بالنفي ومرة آخرى بالإيجاب وهي لم تتوقف عن البكـاء ، كان يراقب ملامحهـا بنظرات مشفقة متشتته عاجزة على معالجتهـا كرر سؤاله :
-أيه وصلك للحالة دي !! ممكن تهدي أنا معاكِ أهو ..
كاد أن يتحرك ليحضر لها كاسة من الماء ولكنها باغتها متشبثـة بياقة جلبابه ملقية رأسها بحضه وهي تنتفض كالطير المذبـوح .. رفع كفوفه مستسلمًا كي لا يقع في فخ الذنـب ولكن تعلقها به كطفلة تعثرت في الحال بخطى أبيها .. اندست رأسها بصدره وقبضت كفوفها على جلبـابه وهي تهذي بكلمات غير مفهومة.. أطفأ نور الهاتف وكأنه تعمد قفل نور العقل متبعًا نور القلب الذي أجبره أن يمسح على رأسها بحنانه الذاخر وينصحه الا تبدد الوقت سدى يا أحمق!! ظل يمسح على رأسها وهو يطلب منها أن تهدأ .. ظلت متعلقة بثيابه فكانت تلك الانتفاضة بقلبه ، لست جسدها فقط ما كان يرتعش ..
ظلام دامس ورجل يضم لقلبه إمراة برقة نسيم الفجر يود مساعدها ولا يعرف كيف الطريق لذلك ، أدرك بأنها تعاني من لعنة فقد ما بحياتها وفي حاجة لحضن يسد فراغ الألم بها .. ولم يعلم أن الألم الحقيقي ينصب كله بقلبـه الآن ، قلبه الذي ضم رأسها المتفجرة بالوجع .. راق له أمر بقائها بقربه لهذا الحد ، تناسى الزمان والمكان وكل شيء وباتت القلوب تتحدث بلغتها الخاصـة .. أغرورقت ملابسـه بماء دموعها ولكن هنا بدأت اللعنة الجديدة ، فهبطت دموعها على أرض قلبه القاحلة لتنبت حبًا فريدًا من نوعه .. كان هدوءها تدريجي وكأن قلبها ورأسها اتفقا على وجود ما كانا يبحثان عنه .. وباتت المشاعر تتحرك في الظلام بدون إرادة من أصحابها ، هل من المنطق أن يمر الحب علينا دون أن يعرفنا عليه؟! أم جاء لهنا كي يختارنا ضحايا له !!
لاحظ سكينتها وانعدام بكاءها فدمدم بهمس :
-بقيتي أحسن ولا اطلب دكتور !!
لم يتلقى منها ردًا ولكن النور هنا جاء ليكشف عن تلك الحقيقة التي ولدت بالظلام ، تدلت جفونه ليفحص وجهها فوجدها غارقة بالنوم ولكن بقايا الانتفاض ما زال يعبث بجسدها ، لم يكرر سؤاله بل تحرك بعطف أب على صغيرته ليحملها بين يديه فوجدها تتعلق به أكثر تدفن وجهها بصدره متخيلة مجيء أبيها الذي أدى دوره ببراعة وبكل صدق :
-بابي متبعدش تاني ، ليلة من غيرك اتعذبت أوي ..
توقف بجوار السرير وهو يتأمل ملامحها النائمة والتي تهذي بدون وعي ، فـ رق قلبه لحالتهـا ، لم تمهله الفرصة لتأملها بسعة من الوقت، فباغتته وهي تردد حروف اسمه إثر تردده كثيرًا مع رفقتها :
-هـ ـا ر و ن !
اتسع بؤبؤ عينيه بتساؤل عن مدى أهميته لحروف اسمه كي تنطقها في تلك الحالة ، انحنى ووضعها برفق بمنتصف الفراش لتتفتح جفونها فتلتقي بيعينه التي تحتضنها فعاود سؤاله :
-أنت زينة ..؟!
لم تجبه بل عادت لقفل جفونها مرة آخرى لتسبح في نوم عميق .. شد الغطاء فوقها وهو يزفر بقوة كي يطرد كل ما تسرب إليه على سهوة ويستغفر ربـه ، وما كاد ليخطو خطوة فتعثرت قدمه بزجاجة الأقراص المرمية بالأرض ، انحنى للاطلاع عليها ثم قام بتصوريها و على الفور أرسلها لنجاة وكتب لها :
-نجاة اسالي أي دكتور عندك الدوا ده بتاع أيه ؟!!