رواية شظايا قلوب محترقة الفصل السادس عشر
لقد بَكيتُ كثيرًا ، أكثرَ مِمَّا يجبُ ، أكثر مِن كميةِ الدموع المُخصصة لِحياتي .
دقيقةٌ واحدةٌ استغرقها راجح في تشتُّته، ليقتربَ أكثر ويحتضنه، متمتمًا بنبرةٍ خبيثةٍ كالحرباء:
-ابني حبيبي من ريحة أخويا الغالي..
أحسَّ بالأرضِ تدورُ به وكأنَّهُ تلقَّى ضربةً قويةً بعصا غليظة، وكأنَّ الأرضَ تبدَّلت غيرَ الأرض، والزمان غير الزمان، هل هو بإحدى كوابيسه، أم هذا الشيطان يتلاعبُ به..
ابتعدَ عنهُ كالملدوغ، ورفع عينيهِ التي تحوَّلت إلى لهيبٍ من قاعِ جهنم، وهو يردفُ من بين أسنانهِ بنبرةٍ مشمئزَّة:
-هعمل نفسي مسمعتش حاجة، وأقسم بربِّ العزة لو حاولت تستفزِّني لأفرَّغ سلاحي في راسك، تاريخك الو..سخ كلُّه عندي، وعارف كلِّ بلاويك، دنا إلياس بخطوةٍ منهُ وحدجهُ بنظرةٍ يريد أن يحرقهُ ويحوِّلهُ إلى شظايا محترقة؛ وبلحظةٍ أطبقَ على عنقهِ يهمسُ بفحيح:
-هتقرَّب منِّي ومن مراتي هدفنك حي، ألعابك القذرة دي تلعب بيها بعيد عن محيط إلياس السيوفي..اقتربَ منهما البودي جاردات ووجَّهوا السلاح على رأس إلياس، لم يكترث إليهم وظلَّ يضغطُ عليهِ وعينيهِ تطلقُ نظراتٍ نارية، لم يتذكَّر سوى حديثهِ الذي ألقاهُ كالسمِّ الذي سرى ببدنه، دفعَ رجلا إلياس ووضعَ السلاحَ برأسه، مما جعلها تترجَّلُ من السيارةِ تهرولُ إليهِ وتدفعُ الرجلَ بعيدًا عنه:
-إلياس سيبه علشان خاطري، إلياس هيموت في إيدك..
جذبَ الرجلَ ميرال وأردفَ بنبرةٍ تهديدية:
-هنموِّتها، اختنقَ راجح وتحوَّلَ وجههِ للشحوبِ حتى كاد أن يلفظَ أنفاسهِ الأخيرة، بكت ميرال تستعطفهُ وهي ترى أنَّهُ يتلفظَ أنفاسهِ الأخيرة، ليدفعهُ بعيدًا عنهُ كالعدوى، ولم يكتفِ بذلك بل لكمةٌ قويةٌ بصدرهِ اخترقت عظامهِ وهو يسعلُ بقوَّة..
التفتَ إلى الرجلِ الذي يحتجزُ ميرال ولم يفكِّر كثيرًا، إذ جذبَ سلاحهِ بقدمهِ من فوقِ الأرضِ ورفعهُ لتنطلقَ الطلقة تخترقُ رأسه..
حدثَ هرجٌ ومرجٌ بالمكانِ والكلُّ يقتربُ منهُ بأسلحتهم مع وصولِ حراسةِ إلياس، ليتوقَّفَ بالمنتصف بين راجح وحراسه:
-خلِّي كلب واحد يقرَّب منِّي أو من حدِّ من عيلتي، وأنا أحرقك وأحرق بيتك كلُّه..أمالَ بجسدهِ لمستواه:
-احفر قبرك ياراجح علشان راجعلَك قريب، مش علشان الهبل اللي قولته، لا علشان وقفت قدَّام عربية إلياس السيوفي وخوَّفت مراتي اللي هي بنت أخوك..قالها يشيرُ إلى حرسه:
-خدوا المدام على العربية ..تحرَّكت بصمتٍ متجهةً إلى السيارة وعيناها على راجح الملقى على الأرض، تعلَّقت عيناهُ بعيونِ الألم التي ألقاها بها، ثمَّ صاحَ بصوتٍ مرتفع:
-مروة وحياة وجعي عليكي السنين دي كلَّها لأحرق قلب فريدة وولادها الاتنين..
نهضَ منتصبًا يقفُ أمام إلياس وهتفَ مزمجرًا:
-ماهو إنتَ لو متربِّي مكنتش عملت كدا في عمَّك..اقتربَ منهُ يشيرُ إلى ميرال التي جلست بالسيارةِ وعيناها عليهما:
-بنتي هخدها منَّك يابنِ جمال، وأمَّك هجبها راكعة لعندي، واللي معملتوش زمان هعمله دلوقتي ، وصَّل لفريدة الكلمتين دول يابنِ جمال..قالها واستدارَ إلى سيارتهِ وخلفهِ حرسه، بينما ذاك الذي توقَّفَ على كلماتهِ التي سقطت فوق مسامعهِ كسقوطِ نيزك، يهزُّ رأسهِ ينفي مااستمعَ إليهِ هامسًا:
-بيحرق دمِّي علشان ميرال، لا أنا ابنِ مصطفى السيوفي الراجل دا حقير ياإلياس..لا لا..ظلَّ يردِّدها وعينيهِ على سيارتهِ التي اقتربت من وقوفهِ ليخرجَ رأسهِ قائلًا:
-مش موَّتك النهاردة ضعف منِّي يابنِ جمال، لا..أنا سايبك علشان تجيب حقِّي من أمَّك الحقيرة اللي باعتك إنتَ وأخوك، عايزك تقتلها زي ماقتلت سمعة أبوك في تربته..قالها وأشارَ للسائقِ بالتحرُّكِ سريعًا، وهو يطلقُ ضحكةً خشنةً ساخرةً بعدما وجدَ حالته..
رجفةٌ كهربائيةٌ تسرَّبت إلى جسده، ولم يشعر بدمعتهِ الخائنة التي انساقت على وجنتيهِ يتمتم:
-مستحيل يعملوا كدا، بابا مستحيل يكون مزوِّر وحقير، وفريدة..همسَ بها بتقطُّعٍ وآااه حارقة ألهبت حواسِّهِ يهزُّ رأسهِ كالمجنون ..نارٌ سوداءٌ داخلهِ تهتزُّ لها القلوب، من يراهُ الآن يزعمُ أنَّهُ ماردٌ من نار..
خطى بخطواتٍ مترنِّحةٍ كالمخمور، إلى أن وصلَ إلى السيارةِ وهوى على المقعد، يسحبُ نفسًا طويلًا يخرجُ على هيئةِ حممٍ بركانية.. ارتجفَ جسدها على إثرها..وضعت كفَّيها على كتفهِ بعدما وجدت حالته:
-إلياس الراجل دا قالَّك إيه مخلِّيك كدا؟..
طالعها بنظراتٍ جامدةٍ وشعورٌ بداخلهِ يريدُ أن يلقي نفسهِ بأحضانها ويخرجُ تلك الصرخة التي تطبقُ على عنقه..
أطبقَ على جفنيهِ وجسدهِ يرتجفُ كدقَّاتِ قلبهِ وحديثُ راجح كصدى عويل بأذنه، ممَّا جعلهُ يضعُ كفِّيهِ على أذنيهِ يغمضُ عينيهِ بألم، يهمسُ بخفوتٍ وهو يضعُ رأسهِ على مقودِ السيارة:
-دا شيطان أكيد شيطان، بيعمل كدا عايز يحرق فريدة وبس، أكيد شيطان.. ظلَّ يردِّدها كالذي فقدَ عقله..ضمَّت وجههِ بيديها واغروقت عيناها بالدموعِ على ماصار له..
-حبيبي إيه اللي حصل الراجل دا قالَّك إيه عمل فيك كدا..
حاولَ النطقَ وعينيهِ شاردةً عليها، توقَّفَ عقلهِ بالكامل ولم يدرك سوى بعض الحروف لينطقَ بها:
-انزلي للعربية التانية..استدارت بكاملِ جسدها إليهِ وجذبت عنقهِ تضمُّهُ بقوَّةٍ إلى أحضانها:
-أنا آسفة، أنا اللي وصلَّتك لعنده، مكنشِ قصدي والله..
دموعهِ هبطت بغزارةٍ بأحضانها، ولا يعلم لماذا تلك الدموع التي أيقنَ أنها عاصفةٌ ستأكلُ روحه، تراجعَ بجسدهِ ينظرُ من النافذةِ حتى لا ترى ضعفهِ وانكسارهِ وهتفَ بتقطُّع:
-انزلي روحي مع الحراسة عندي شغل، أو روحي شغلك زي ماكنتي مقرَّرة.
-مش هسيبَك كدا..همست بها بخفوت..
أزالَ دموعهِ ومازالت نظراتهِ الباردة من النافذة:
-رايح شغلي لو سمحتي ممكن تنزلي..
إلياس..قالتها ببكاءٍ ودموعٌ انذرفت على وجنتيها ندمًا ثمَّ أخرجت شهقةً تضعُ كفَّها على فمها متمتمةً بنبرةٍ متحشرجةٍ بالبكاء:
-آسفة معرفشِ مالي بقيت عصبية، وعايزة اهتمامك ورفضاه في نفسِ الوقت..
تنهَّدَ بمرارٍ فهو في حالةٍ لا يريدُ السماع إلى شيئ، يكفي ماشقَّ صدرهِ من غوغاءِ ذاك الشيطان ..رفع رأسهِ من فوق المقودِ وطالعها بأعينٍ خاوية، ورغم شدَّةِ آلامه:
-ميرال ممكن نتكلِّم بعدين، أنا ..قاطعتهُ تضعُ أناملها على شفتيهِ مقتربةً منه وسلَّطت عينيها بمقلتيهِ بقوَّةٍ هامسةً بنبرةٍ أثارتهُ لتخرجهُ ممَّا أثارَ ريبتهِ قائلة:
-محتاجة منَّك تحضنِّي أوي ياإلياس، مش عايزة غير حُضنك وبس، بجد أنا حاسة إنِّي ضايعة وبخبَّط في كلِّ حاجة، محتاجة حنانك وبس، طلبي صعب..
اهتزَّ داخلهِ بعنفٍ وعينيها تتوسَّلهُ بضعف، تنهَّدَ بأنفاسٍ لفحت وجهها ثمَّ جذبها لأحضانهِ متناسيًا كلَّ مايؤذي روحه..دفنت رأسها بصدرهِ وارتفعَ صوتُ بكاءها حتى ارتجفَ جسدها بأحضانه، ذُهلَ من حالتها، ربتَ على ظهرها، وحاولَ سحبَ مايؤذيها قائلًا:
-إيه دا بقى، هغيَّر فكرتي عنِّك وأقول البتِّ كبرت وبقت بتحس، عارف إنِّك زعلانة علشان أنا زعلان منِّك مش كدا؟..
رفعت رأسها إليهِ ولم تكترث لشيئٍ غير أن تحتضنَ خاصته، لا تعلم مابها وماهذا الذي تفعله، تريدُ أن تبكي وتضحك، تريدُ وتريد..مشاعرَ متخبطة بحالةٍ من الجهلِ لما تشعرُ به
تجاوبَ معها بقبلتها بل تمادى إلى أن فقدَ سيطرته، كأنَّهُ يبتعدُ عن كلِّ خواطرهِ التي تتأجَّجَ بذهنه..فصلَ قبلتهِ يضمُّ وجهها بين راحتيهِ قائلًا:
-خايف عليكي أكتر من تحكُّمي فيك، عمري ما فكَّرت أتحكِّم فيكي قدِّ ما فكَّرت إنِّي أخبيكي جوَّا قلبي..
ابتسامةٌ لمعت بعينيها بخطٍّ من الدموعِ لتهمسَ بخفوت:
-أنا بحبَّك أوي ياإلياس ودايمًا عقلي بيوسوس بحاجات مخيفة، معرفشِ ليه..
سحبَ نفسًا وزفره:
-استعيذي بالله ياميرو، متخليش الشيطان يأثَّر عليكي، وفيه أصعب من الشيطان بمراحل..نفسنا، النفس أمارة بالسوء، دايمًا تاخدنا للشيطان، حبيبتي عايزك تهتمِّي بأمور دينك وسيبك من المظاهر الكدَّابة دي..
طبعت قبلةً على وجنتيهِ وألقت نفسها بأحضانهِ تدفنُ نفسها تريدُ أن تختفي بين ذراعيه..حاوطها بحنانِ ذراعيهِ ولسانَ حالهِ يردِّدُ مبتسمًا:
-هدخل بسببِك مستشفى المجانين..
قامت بتشغيلِ السيارة، تضعُ يدها على كفِّه:
-اخطفني النهاردة مش عايزة حاجة غير إنَّك تخطفني..
رفعَ حاجبهِ ساخرًا من طريقتها الطفولية:
-أخطفك، وبعد كدا فريدة هانم تولول عليكي..لكزتهُ بصدرهِ ثمَّ عانقتهُ تداعبُ أنفه:
-ميهمنيش بدل هكون معاك ميهمنيش حاجة..انحنى مقبلًا عليها بثورةٍ من القبلاتِ وهو يروي روحهِ التي تسلَّلت من جسدهِ منذ فترة،
ابتسمت برضا بعدما أخرجتهُ من حالتهِ تشيرُ إلى الطريق:
-ياله اخطفني بقى علشان كدا لو حدِّ مسكنا ممكن يعملونا قضية آداب..
أفلتَ ضحكةً رجوليةً وكأنَّ الذي يضحكُ ليس الذي كان يحترقُ منذ قليل..قادَ السيارةَ بذراعٍ وضمَّها بالآخرِ يستندُ برأسهِ فوق رأسها..رفعت رأسها متسائلة:
-نفسك في بنت ولَّا ولد؟..رفرفَ قلبهِ بالسعادةِ من تلفُّظها لذاك السؤال، ممَّا جعلهُ يعتدلَ وهو يوزِّعُ نظراتهِ بين الطريق وبينها، ولم يشعر بكفِّهِ وهو يمرِّرهُ على أحشائها مبتسمًا:
-أيِّ حاجة مش هتفرق، بابا عندي تكفِّيني وبس، على ماأظن مفيش اختلاف بين الجنسين..
داعبت وجنتيهِ وهي تستندُ على كتفهِ بذراعها وناظرتهُ بتفحُّص:
-نفسي في ولد ويكون شبهَك بجد..
توقَّفت السيارةُ أمامَ منزلهما ليغلقها ثمَّ استدارَ إليها يستمعُ إلى أمنياتها،
دنا يطبعُ قبلةً على وجنتيها:
-كلِّ اللي يجيبه ربِّنا كويس ياميرو، المهم تقوميلي بالسلامة، وتربيه كويس سواء بنت ولَّا ولد مش فارقة معايا أهمَّ حاجة عندي إنِّك تكوني أمُّه..
قشعريرةٌ لذيذةٌ دبَّت بسائرِ جسدها من كلماتهِ الندية:
-ربِّنا مايحرمني منَّك حبيبي..
فتحَ بابَ السيارةِ يشيرُ إليها بالنزول، مع ارتفاعِ رنينِ هاتفه، أشارَ إليها لتقتربَ منهُ يحاوطها تحتَ ذراعيهِ يجيبُ على هاتفه:
-إلياس اتأخَّرت ليه ؟! تساءلَ بها شريف..
تحرَّكَ وهو يضمُّها مجيبًا:
هجي بعد الضهر..توقَّفت معترضة، ابتسمَ وهو يجذبها مرَّةً أخرى وتحرَّكَ للداخلِ ومازال يتحدَّثُ بهاتفه:
-معلش ياشريف، عارف تقَّلت عليك بقالك أسبوعين شايل الشغل لوحدك..
توقَّفَ شريف من مقعدهِ مبتعدًا عن الذي يجلسُ بمقابلتهِ وأجابهُ بصوتٍ خافت:
-سيادة العقيد إسحاق الجارحي منتظرك في المكتب، أنا خبَّرته إنَّك في الطريق...توقَّفَ قائلًا:
-عايزني أنا ليه، فيه حاجة؟!..
-معرفشِ..إيه هتيجي ولَّا..قاطعهُ ينظرُ إلى ميرال التي عقدت ذراعيها فوق صدرها ثمَّ أردف:
-عشر دقايق وأكون عندك..قالها وأغلقَ الهاتفَ يضعهُ بجيبه، واقتربَ يحاوطها بين ذراعيه:
-آسف لازم أروح الشغل، إحنا بقالنا أسبوعين مع بعض، وشريف شايل الشغل، غير فيه حدِّ مهمّ منتظرني..إيه رأيك نتعشى برَّة لمَّا أرجع؟..
أومأت بعينيها مبتسمة، هي كانت تريدُ أن تسيطرَ على غضبهِ الذي تجلَّى عليه بعد حديثهِ مع راجح وقد نجحت بذلك، ضمَّت نفسها إليه:
-انا كمان هروح اخلص شغل متعلق، وهستناك متتأخَّرش، هنتعشى في بيتنا مش برَّة..
طبعَ قبلةً على جبينها واستدارَ إلى سيارتهِ يشيرُ إلى حراسته:
-خلِّيكم مع المدام ممنوع حدِّ يدخل من غير ماأعرف..قالها واستقلَّ السيارةَ متجهًا إلى عمله..
بمنزلِ زين الرفاعي:
نهضت من مكانها بجسدٍ ضعيفٍ تأوَّهت حينما شعرت بالترنُّح، دارت بعينيها بالغرفة، تتنهدُ بألمٍ فمنذ مجيئها بالأمسِ وهي تغلقُ البابَ على نفسها؛ ولا تريدُ أن ترى أحدًا وخاصةً ذاكَ الذي وهبتهُ حياتها ولكنَّهُ سلبها دون حق..
استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة، أذنت بالدخول، دلفت الخادمةُ تحملُ طعامها:
-جبتلِك الغدا يادكتورة، اقتربت منها حينما وجدت ضعفها، وساعدتها بالجلوس:
-ارتاحي يابنتي شكلك دايخ، احتضنت رأسها قائلة:
-عندي صداع يادادة ممكن تعمليلي قهوة..ربتت على كتفها وهدَّأت من وجعها حينما ضمَّت رأسها بين راحتيها تردِّدُ آياتٍ من الذكرِ الحكيمِ ثمَّ أردفت:
-بلاش قهوة في أوَّل حملك حبيبتي، هعملِّك كوباية حليب دافية كمان شوية المهم تاكلي من إمبارح مأكلتيش حاجة..
وكأنَّ كلمةِ حامل فتحت أبوابَ الجحيمِ على قلبها الذي بدأ يتعافى رويدًا رويدًا..طافت عيناها بالمكانِ تبتعدُ عن نظراتِ الدادة متسائلةً بخفوت:
-حرام عليَّا لو نزَّلتوا يادادة؟..
ضربت على صدرها مع خروجِ شهقةٍ اعتراضيةٍ من فمها تضمُّها إلى أحضانها:
-بعدِ الشَّر عليه يابنتي، ليه ياحبيبتي تعملي كدا، دي نعمة غيرك بيحفر بالتراب علشان ينولها، أوعي تقولي كدا تاني..
هربَ اللفظُ من بين شفتيها وهي تنظرُ إليها بعيونٍ مكدَّسةٍ بالدموع، تهزُّ أكتافها بعجزٍ وبلحظةٍ لا إراديَّةٍ منها أفلتت شهقةً مليئةً بالأسى:
-بس أنا مش عايزاه، أنا مش عايزة ولد يربطني بآدم ..
وقفَ متجمِّدًا على بابِ الغرفةِ يستمعُ إلى حديثها الذي زرعَ أشباحًا سوداءَ على نبضِ قلبهِ المتعذِّبَ بعشقها..
دلفَ إليها بخطًا مرتعشةً من قسوةِ حديثها، ونظرةٌ خاليةٌ من أيِّ مشاعر، تفحَّصها وهو يهتفُ للدادة:
-انزلي يادادة بابا عايز قهوة..أومأت متفهِّمةً فخرجت بعدما رمقتها بنظرةٍ جانبية..اقتربَ وجلسَ بجوارِها..
التفتت بنظرها إلى الشرفةِ بملامحَ شاحبةٍ وروحٌ كأنَّها قُتلت ودُفنت بالقبور..
-عايزة تقتلي ابني ياإيلين..هكذا ردَّدها بلسانٍ مرتجفٍ لتجيبهُ بانكسارِ روحها:
-وعايز منِّي أتقبَّله إزاي وأنا مش متقبِّلة فكرة إزاي جه..دي مكنتشِ حالة حب يادكتور، دي كانت حالة من ضعفِ قلبي لانتظارك لسنوات وفي الآخر راجع بكلِّ جبروت تدفنه..استدارت تحدجهُ بنظرةِ خالية من أي مشاعر، واستطردت معاتبة:
-استغلِّيت ضعفي يادكتور، لتاني مرَّة زي مااستغلِّيت قذارة مرات أبويا في دعوى الحماية، ودلوقتي أنتوا الاتنين للأسف في خانة واحدة، هي بحقارتها وإنتَ بغدرك..الولد دا مش عايزاه ياآدم ودا آخر كلام.
قبضةٌ مميتةٌ اعتصرت فؤادهِ ولم يستطع كبحَ دموعهِ التي انسابت على خدَّيه، ليتمتمَ بخفوت:
-مقدرشِ أشيل ذنب في قتلِ روح..قالها وتوقَّفَ ومازالت نظراتهِ عليها حتى استدارَ للمغادرةِ إلَّا أنَّها أوقفته:
-أوعى تفكَّر إنِّي هتنازل عن الطلاق، حتى لو الولد دا جه، أنا هتنازلَّك عنُّه مش عايزاه، بس مستحيل فيه حاجة تربطني بيك غيره سوى اسمك في شهادة الميلاد.
خطى بخطواتٍ سريعةٍ يأكلُ الأرضَ ليشعرَ بتزلزلها تحتَ قدميه..ليتوقف بعدما استمع إلى رنين هاتفه
-آدم فينك، أنا وصلت المطار، ألتفت سريعًا إلى غرفة إيلين ثم استدار مبتعدًا يجيبها:
-خليكي عندك انا جايلك ..
بمنزلِ أرسلان:
أنهت تجهيزَ طاولةَ الطعامِ واتَّجهت إلى نومه، اقتربت منهُ تمرِّرُ أناملها على وجههِ ثمَّ انحنت تطبعُ قبلةً على وجنتيهِ تهمسُ بجوارِ أذنه:
-حبيبي ياله، هتفضل نايم، فتحَ عينيهِ بتململ، وضعت ذقنها على صدرهِ تبتسمُ على هدوئهِ إلى أن فتحَ عينيهِ كاملًا:
-الساعة كام حبيبتي..رفعت عينيها للساعةِ مردفة:
-الساعة عشرة، قوم بقى الأكل هيبرد..ابتسمَ يجذبها لأحضانهِ يرفعُ خصلاتها من فوقِ وجهها:
-الأكل هيبرد..بردو وقفتي في المطبخ، مش قولت هنشوف طباخ وسُفرجي علشان غرامي ترتاح..
حاوطتهُ بذراعيها تضعُ رأسها على صدره:
-بكون فرحانة وأنا بعملَّك الأكل بنفسي، أرسلان مالوش لازمة الطباخ..
رفعَ ذقنها من فوقِ حضنه، ثمَّ جذبَ عنقها ليتذوَّقَ شهدَ عسلها وينثرَ قبلاتهِ على كرزيتها..لحظات بل دقائقَ يهمسُ إليها بعض الكلمات، لتختفي بأحضانهِ خجلًا من حديثه، تهمسُ له بخفوت:
- عيب وقوم علشان ناكل أكلِ البني أدمين مش أكلك اللي مابيشبَّعشِ دا..
قهقهَ بصوتٍ مرتفعٍ معتدلًا وهو يحملُها غامزًا:
-كدا بتعيِّبي في الصقرِ ياستِّ البنات، والصقر زعلان، لازم يخرَّج حتة دهب من المحيط..هزَّت ساقيها وهو يحملُها متَّجهًا إلى غرفتهما:
-أرسلان بس بقى نزِّلني..قالتها بضحكاتٍ مرتفعةٍ بعدما دفعَ البابَ بقدمه:
-واللهِ لازم تصالحي الصقر، أصل زعلُه وحش..
بعدَ فترةٍ على طاولةِ الطعام، كان يتناولُ طعامهِ بصمت، رفعت عينيها:
-أرسلان..اتَّجهَ إليها بأنظارهِ منتظرًا حديثها:
-إيه مش هنروح الفيلا النهاردة، دا تالت أسبوع منعزلين عنُّهم..
تركَ طعامه، ورفعَ محرمتهِ يمسحُ فمهِ مجيبًا:
-لا ..عندي شغل وهرجع متأخَّر وبكون تعبان، اجهزي أعدِّيكي على والدك وأنا راجع أخدك..
نهضَ من مكانه، تشبَّثت بكفِّهِ ترفعُ رأسها إليه:
-إنتَ مخبِّي عليَّا حاجة، يعني زعلان مع والدتك أو والدك؟..
انحنى لاثمًا جبينها ثمَّ رسمَ ابتسامةً قائلًا:
-حبيبتي مفيش زعل ولا حاجة، بس أنا بين هنا وهناك بكون تعبان، والأيام دي فيه شغل كتير في النادي وكمان الشركة، وأنا دماغي وجعاني من دوشةِ الفيلا..
توقَّفت بمقابلتهِ وتعمَّقت بالنظرِ إليه:
-يعني مش علشان عمِّتك استقرِّت عندكوا هيَّ وتمارا؟..
تراجعَ للخلفِ بعدما نزعَ يدهِ بهدوءٍ واستدارَ للداخلِ مردفًا:
-منكرشِ إنَّها سبب، بس مش الوحيد، المهم اجهزي علشان لازم أكون في النادي الساعة اتناشر.
قالها ودلفَ للداخلِ يزفرُ بهدوءٍ محاولًا السيطرةَ على أعصابه، كلَّما تذكَّرَ حديثَ عمِّهِ وإجبارهِ بالرضوخِ لوجودِ عمَّتهِ وابنتها بمنزلِ والدهِ يُصاب بالجنون، رفعَ هاتفه:
-صباح الخير ياعمُّو..
-أهلًا حبيبي، معدتشِ عليَّا إمبارح ليه؟..
مسحَ على خصلاتهِ يدورُ حول نفسهِ بالغرفةِ متسائلًا:
-عملت إيه في الموضوع اللي قولتلَك عليه؟..
أشعلَ إسحاق سيجارتهِ ينظرُ لشريف الجالسَ بمقابلتهِ ثمَّ أجابه:
-أنا في المكتب عند إلياس، لمَّا أقابلك نتكلِّم..سلام دلوقتي.
قالها وأغلقَ الهاتفَ بدخولِ إلياس ..
-صباح الخير معالي الباشا، وأنا بقول المكتب والجهاز كلُّه منوَّر ليه..
ابتسمَ إسحاق متوقِّفًا يحييه:
-أهلًا ياحضرةِ الظابط..
أهلًا بيك ياسيادةِ العقيد، ليَّا الشرف طبعًا بنورِ حضرتك، اتَّجهَ إلى شريف متسائلًا:
-ضيَّفت سيادةِ العقيد يابني ولا يقول علينا بخلة..
أفلتَ ضحكةً خشنةً يهزُّ رأسهِ قائلًا:
-صاحب واجب ياإلياس باشا والله..
خلعَ جاكيتهِ يضعهُ على ظهرِ مقعدهِ مع ثني أكمامهِ بدلوفِ الساعي بقهوتهما،
مرَّرَ نظراتهِ على إسحاق ونطقَ بنبرةٍ رجولية:
-كلِّي آذانٌ صاغية ياباشا، وجودك هنا كبير مش من فراغ..
حكَّ إسحاق ذقنهِ وعينيهِ تفترسُ جلوسَ إلياس، فأشار إلى ذراعهِ ضاحكًا:
-قعدتك دي بتخلُّوهم يظنُّوا بيكم السوء ياجدع..
قهقهَ إلياس متراجعًا بجسده:
-ودا المطلوب ياباشا..
أممم..أخرجَ ورقةً ووضعها أمامه:
-عايز المطلوب هنا..
رفعَ الورقةَ ينظرُ إليها ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ متسائلًا:
-هو حضرتك مش عقيد شرطة برضو ولَّا معلوماتي غلط؟..
ابتسامةٌ عابثةٌ يحدجهُ قائلًا:
-سمعت إنَّك ذكي، وتفهمها وهيَّ طايرة..
-أه يبقى معلوماتي ناقصة مش غلط..
دقَّقَ النظرَ إليه:
-محبِّتشِ أبعت حد وجتلك لمَّا عرفت إنَّك المسؤول الأوَّل..
-بس دا خطر ياإسحاق باشا، يعني لازم طلب رسمي..
لم تتحرَّك عضلة من وجههِ ومازالت نظراتهِ تخترقهُ متمتمًا:
-واعتبر جيِّتي طلب رسمي، مش كفاية؟..
توقَّفَ إلياس واستدارَ متَّجهًا إلى المقعدِ الذي يقابله:
-جيِّتك على راسي طبعًا، وأنول الشرف، لكن أعذرني الموضوع دا مينفعشِ يخرج إلَّا بإذنِ رسمي، متزعلشِ منِّي ياباشا دا أمنِ بلد وإنتَ أكتر العارفين..
هزَّ رأسهِ وتابعَ مستطردًا:
-أتمنَّى تتفهَّم الوضع ..نهضَ من مكانهِ يغلقُ حلَّتهِ وبسطَ كفِّهِ يصافحه:
-أكيد طبعًا، بالليل الطلب هيكون عندك، بس أتمنَّى الموضوع يمشي سري ميخرجشِ برَّة المكتب..
-ولا كأنِّي شوفت حضرتك.
عندَ أرسلان بعد إغلاقه، أنهى تجهيزهِ بدخولِ غرام إليه:
-خلَّصت لو هنمشي، أومأ بصمت.. اقتربت منهُ بعدما وجدت صمته:
-بقالي فترة حاسة إنَّك مخبِّي عليَّا حاجة، أرسلان أنا مراتك يعني المفروض تشاركني في كلِّ أسرارك..
ضمَّ أكتافها ثمَّ رفعَ كفَّها وطبعَ قبلةً رقيقةً بداخله:
-حبيبتي إرهاق من الشغل مش أكتر، مضغوط ياغرام من كلِّ الجهات، غير عندي سفرية مهمَّة وهغيب فيها أسبوعين على الأقل ودماغي مشغولة بيها.
حاوطت عنقهِ ورفعت أناملها تتلاعبُ بزرِّ قميصه:
-أوعى تكون ناوي تتجوِّز علشان تعرف تدخل حفلة من حفلاتك الغامضة دي..
داعبَ أنفها مقهقهًا وأردفَ غامزًا:
- لا ياحبيبي كلِّ مرَّة بغيَّر الفكرة، يعني ممكن أتجوِّز بس بطريقة تانية..
لكزتهُ بجنبهِ وأشارت بسبباتها تهدرُ معنِّفةً إياه:
-طيِّب يبقى إعملها وشوف هعمل فيك إيه..هاجت بغضبٍ واقتربت تلكمهُ بقوَّةٍ حتى شعرت بتجمُّعِ الدموعِ بعينيها كلَّما خُيِّلَ لها تلك الفكرة الهوجاء..جذبها يضمُّها لأحضانه:
-إشش اهدي، أنا بهزَّر، تفتكري ممكن أعمل كدا..عانقتهُ وأردفت ببكاء:
-مهووسة أوي ياأرسلان، عايزة أخرَّج الأفكار الشيطانية دي بس مش قادرة، كلِّ سفرية بتجنِّن..عارفة أنُّه شغل وشغل مهمّ بس..قاطعها يضعُ أناملهِ على شفتيها:
-غرام إيه اللي بتقوليه دا، مش معنى إنِّنا اتجوِّزنا بالطريقة دي يبقى كلِّ شغلي جواز، أبدًا دي كانت فكرة من الأفكار وبيكون فيه كذا بديل..
تأجَّجَ صدرهِ من بكائها وحزنها، شدَّدَ من احتضانها وأضافَ بنبرةٍ عاشقة:
-من حسنِ حظي وقتها مفكَّرتش ببديل علشان أحبِّك وأتمسِّك بيكي، نزلَ بجبينهِ لجبينها يردفُ بنبرةٍ أثارت دواخلها:
-ثقي في حبيبك إنِّك عنده أغلى وأجمل حاجة في الدنيا ومستحيل أتنازل عنها..قبلةٌ بجانبِ شفتيها:
-إنتِ غرامي، عايزك تترجمي الكلمة دي لأنَّها تعني الكثير ياحبيبي..ربتَ على كتفها يشيرُ إلى حقيبتها:
-ياله علشان اتأخَّرنا.
بمنزلِ يزن نهضَ من نومهِ على صوتِ طرقاتٍ قوَّيةٍ على بابِ منزله، انتفضَ الجميعُ فاتَّجهَ إلى البابِ يفتحه..دفعَ طارق البابَ دالفًا إلى الداخلِ يجاورهُ أحدِ الظباط، وصل إلى الغرف كالمجنون، يردد
-هي فين، فزعت ايمان صارخة، مما ألهبت مشاعر يزن بغضب ودفعه ليتراجعَ خطوةً، جن جنونه متَّجهَا إليه:
-فين رحيل يالا، الكاميرا لقطتك وإنتَ بتخطفها بالعربية..أنزلَ يديهِ بقوَّةٍ يدفعهُ بعيدًا عنه:
-إنتَ إزاي تتهجِّم على بيتي، وتدخل بالطريقة دي وتنتهِك حُرمة بيتي، استدارَ للظابطِ وأردفَ بصوتٍ قوِّي:
-مش من حقِّ حدّ يهجم على بيوتِ الناس المحترمة كدا ياحضرةِ الظابط، أنا مش متَّهم وممكن أرفع قضية سبّ وقذف وهجوم كمان، بأيِّ حق تدخلوا بالطريقة دي وبيتي فيه بنات…
اقتربَ طارق كالمجنون وحاولَ ضربهِ إلَّا أنَّ الضابطَ توقَّفَ بينهما:
-اهدى ياطارق، استدارَ يطالعُ يزن باستخفافٍ وأردفَ ساخرًا:
-تعمل إيه ياحيلة أمَّك ترفع قضية سبّ وقذف..دفعهُ بقوَّةٍ يشيرُ بيده:
-ماتتظبَّط ياله وتعرف بتتكلِّم مع مين، فين رحيل العامري اللي خطفتها..
هاجت عيناهُ بالغضبِ المحموم، وهو يرمقُ الضابط:
-معاك أمر بالتفتيش والهجوم على بيتي كدا؟..
-ولا..فوق بدل ماأخلِّيهم يفوَّقوك بالسجن..اقتربَ يزن وغرزَ عيناهُ بمقلةِ الضابط:
-الشرطة في خدمةِ الشعب ياباشا، مش في سحلِ الشعب..علشان واحد مايساويش ربعِ راجل له واسطة توقف وتتِّهمني وتهجم على حرمة بيتي، بلاش نصدَّق اللي بيتقال ياباشا علشان في نماذج كتيرة محترمة، وفيه نماذج..
رفعَ الضابطُ سلاحهِ يجزُّ على أسنانه:
-دا أنا أدفنك هنا يالا قدَّام حرمة بيتك اللي قارفني بيهم، صرخت إيمان وهرولت تقفُ أمامَ أخيها تبكي قائلةً بشهقات:
-سامحه ياباشا والنبي ماتئذيه..
جذبها يزن بقوَّةٍ وأبعدها ينظرُ إليها بعتابِ ثمَّ اتَّجهَ إلى الضابط:
-اقتلني أنا واقف أهو، خرجت رحيل وتوقَّفت أمامَ الضابط:
-أنا اللي هعرَّفك إزاي تهاجم على بيوتِ الناس مستغلّ سُلطتك ياحضرةِ الظابط..
جُنَّ طارق يشيرُ إليها:
-شوفت أهي عنده، كنت عارف أنُّه واطي وهو اللي خطفها..
طالعَ يزن وارتفعَ جانبَ وجههِ ساخرًا:
-وعملِّي فيها محامي وصوتك وهعمل وإنتَ مخبِّيها جوَّا، ثمَّ ألقى نظرةً على رحيل واستطرد:
-وإنتِ يارحيل خايفة منُّه ليه ماسك عليكي إيه ولَّا مهدِّدك بإيه؟..أشارَ للشرطي:
-هاتوا الواد دا ..اتَّجهت إلى الضابطِ تحدجهُ بغضبٍ وهدرت بهِ بنبرةٍ عنيفة:
-هوَّ فيه حد بيخطف مراته ياحضرةِ الظابط..
صدمةٌ أذهلت طارق حتى شعرَ بصاعقةٍ كهربائيةٍ تضربُ كاملَ جسده، تحرَّكت رحيل إلى يزن وتوقَّفت بجواره:
-أنا رحيل يزن السوهاجي اللي حضرتك دخلت بيتي وهجمت عليه حتى من غير إذنِ نيابة، ودلوقتي أنا اللي هرفع قضية عليكم ياحضرةِ الظابط إنتَ وابنِ خالتي المحترم…
كلمات، رغم أنَّها كلمات ولكنَّها أشعلت فتيلَ نيرانهِ ليقتربَ محاولًا جذبها ولكن، دفعةٌ قويةٌ من يزن ثمَّ انهالَ عليهِ باللكماتِ يُخرجُ كلَّ مايؤذي نيرانَ صدرهِ منه، لولا دخولِ الضابطِ لكان ألقاهُ صريعًا..
بعدَ قليلٍ ثارَ حولَ نفسهِ كالمجنون ثمَّ اتَّجهَ إلى الغرفةِ ورفع هاتفهِ دقيقةً واحدةً بعد محاولاتٍ من الرنينِ ليجيبَ راكان:
-أيوة..أجابهُ بأنفاسٍ لاهثة:
-سمعت عن حضرتك العدل ياباشا، لمَّا بيتي يتهاجم كالمجرمين وانتهاك لحرمة بيتي دا يكون إيه في عرفِ القانون؟.،
على الجانبِ الآخرِ ظلَّ يستمعُ إلى حديثه، ممَّا أثارَ غضبَ راكان:
-تمام ..تعالَ قدِّم شكوى وأنا هتصرَّف.
دلفت إليهِ رحيل:
-ممكن تهدى كنَّا متوقعين حاجة زي كدا..رفعَ بصرهِ إليها بعيونٍ كجمراتٍ نارية:
-لا متوقَعتش أنُّهم يهجموا على بيتي ويدخلوا على أختي وعليكي وأنتوا نايمين..كوَّرَ قبضتهِ يعضُّ عليها بغضب..دنت منهُ حتى لم يفصل بينهما سوى أنفاسهما ولمست وجنتيهِ لأوَّلِ مرَّة:
-ممكن تهدى، أنا آسفة إنِّي حطِّيتك في موقف زي دا..
أغمضَ عينيهِ محاولًا سحبَ أنفاسٍ منتظمةٍ بعدما شعرَ بنوبةِ غضبه..تراجعَ على الفراشِ وجلسَ يضمُّ رأسهِ بين راحتيه:
اتَّجهَ ببصرهِ إليها قائلًا:
-متخرُجيش من البيت لوحدك، هعمل مشوار سريع وآجي معاكي تزوري باباكي..خطت إلى جلوسهِ وجلست بجواره:
-عايزة أروح أشوف خالو زين، هوَّ الوحيد اللي يقدر يوقَّفهم..
اتَّقدَ الغضبُ كالنيرانِ بداخلهِ وثارت عيناهُ بثورةٍ غاضبة:
-ليه مش متجوِّزة راجل علشان تروحيهم يحموكي، توقَّفَ وهدرَ بصوتٍ مصبوغٍ بالقوَّة:
-لمَّا أموت يبقى روحي استنجدي بيهم، قالها ونهضَ متَّجهًا للخارج..
بفيلَّا الشافعي:
جلسَ بأريحيةٍ ينفثُ تبغهِ وعلامةُ انتصارٍ على وجههِ وهو يتحدَّثُ بفخر:
-كان نفسي تشوفي ملامحه لمَّا عرَّفته.،
نهضت من مكانها وجلست بجواره، تجذبُ سيجارةً ثمَّ سحبت نفسًا وزفرتهُ بوجههِ متحدثةً بغنج:
-ضربة معلِّم يارجحوتي، بس إيه اللي خلَّاك متأكِّد أنُّه مكنشِ يعرف، وليه شكِّيت في الظابط أنُّه ابنها.
قهقهاتٌ مرتفعةٌ ثمَّ توقَّفَ وعقَّبَ على حديثها:
-يوم ماجالي المكتب وهدِّدني، لفت نظري نظرات جمال، حسِّيت الواد دا فيه من جمال، بس قولت يمكن وجود فريدة فكَّرني بجمال وربطت بكدا، تاني مرَّة لمَّا اتقابلنا وهدِّدني ولهفة فريدة ونظراتها عليه؛ وكان من ضمنِ الكلام إلياس هينتقم، غير أنَّها قالت واحد ظابط أمن دولة، ربطت الأحداث بعمايل مصطفى فينا زمان عرفت إنِّ الولد دا ابنِ جمال، وكمان اللي أكِّدلي كلام عطوة أنُّه حطُّه في الملجأ، ولمَّا روحنا للملجأ عرفت أنُّه خاص بعيلةِ السيوفي، ولمَّا جماعتنا أصدروا أمر قتلِ مصطفى وطلبت منهم حياته كلَّها علشان أعرف نقطة ضعفه، عرفت أنُّه قعد خمس سنين متجوِّز من غير عيال، وفجأة بقاله ولد وبعد عشر سنين تانيين يجيب توأم، انحنى ينظرُ لمقلتيها:
-أخوه مش شبهه خالص يارانيا، لو شوفتي الاتنين تقولي واحد من الشمال وواحد من الجنوب..
توقَّفت ومازالت علاماتُ الاستفهام تبدو على وجهها لتلتفتَ متسائلة:
-بس الولد فعلًا مش شبه جمال، ولمَّا جه هنا وهدَّدنا ماشكِّتشِ أبدًا أنُّه شبه جمال..حكَّ ذقنهِ وذهبَ بشرودهِ متمتمًا:
-لأنُّه شبه أمُّه أوي، لو ركَّزتي فيه هتقولي أنُّه فريدة بس عايز اللي يتعمَّق في ملامحه..
افترت شفتيها ابتسامةٌ ساخرة، متَّجهةً إلى مقعدها تجلسُ عليهِ تضعُ ساقًا فوق الأخرى:
-لسة فريدة معلِّمة ياراجح، مش ناوي تعقل وتشيلها من دماغك، دا إنتَ اتجوِّزت بدل المرَّة أربعة، وبرضو مصرّ تقهرني..
رمقها بنظرةٍ حادَّةٍ وهدرَ من بينِ أسنانه:
-هتفتحي الموضوع تاني هندِّمك، قومي شوفي طارق عمل إيه مع الميكانيكي خلينا ننتهز فرصة مرض مالك قبلِ ما زين يعرف..
-إيه اللي حصل معاك ياطارق..تساءلت بها رانيا؟..
أجابها على الجانبِ الآخرِ وهو يصرخُ بهاتفهِ يقصُّ لها ماصار..
سقطَ الهاتفُ من يديها تنظرُ إلى راجح بذهول:
-الواد اتجوِّز البنت، دا أكيد اتجنِّن..هبَّ فزعًا وتمتمَ بهسيس:
-واللهِ حفر قبره بإيده المشحَّم دا..
قالها وهمَّ بالمغادرةِ وهو يهتفُ كالمجنون:
-بنت مالك الحقيرة عملتها واللهِ لأخلِّيها تبكي دم..
عندَ إلياس بعدَ فترةٍ من متابعةِ عمله، استندَ على مكتبهِ يحاوطُ رأسهِ بكفَّيه، وذهبً شاردًا بحديثِ راجح، نهضَ من مكانهِ يجمعُ أشيائهِ وغادرَ المكتبَ وهو يهاتفُ إسلام:
-إسلام إنتَ فين؟.
كان متوقِّفًا أمامَ كليَّتهِ بانتظارِ أختهِ فأردفَ مجيبًا.
-مروَّح منتظر غادة فيه حاجة..
-أه تعال ليَّ على المستشفى عايزك ضروري..
-مستشفى ليه إيه اللي حصل إنتَ تعبان..قالها سريعًا فأوقفهُ إلياس:
-لا ياحبيبي مفيش حاجة، Check عادي بس حاسس بدوخة وحبِّيت أطمِّن، خوفت مقدرشِ أرجع بالعربية..
-تمام هوصَّل غادة وأكون عندك..
-متعرَّفشِ حد وخصوصًا بابا علشان ميقلقشِ على الفاضي..
تمام حبيبي إدِّيني نص ساعة وأكون عندك إن شاءالله..
بعدَ فترةٍ وصلَ إليه وجدهُ جالسًا بانتظاره، خطى إلى جلوسه:
-إنتَ كويس ياأبيه..أومأ مبتسمًا، ثمَّ أشارَ إلى الممرضة:
-حجزتلَك إنتَ كمان علشان عارف إنَّك مهمل، أهو يا سيدي نطمِّن مع بعض..جلس مقهقهًا:
-ليه بتحسِّسني إنَّك ماما فريدة كلِّ ماتشوفني، يابني خاف على نفسك وبطَّل إهمال، فيه واحد بيلبس نص كُم في الشتا..
رسمَ ابتسامةً حزينةً يربتُ على كتفه:
-علشان بتحبَّك أكيد مش أنا اللي هقولَّك بتحبَّك أدِّ إيه..سحبت الممرضة عيِّنةً من الدماء، فرمقها إلياس بنظرةٍ علمت محتواها، ثمَّ اتَّجهت إلى الداخل..
نهضَ من مكانهِ يبسطُ كفِّه إليه:
-إيه مش هنمشي ولَّا عجبتك المستشفى، أنا اللي تعبان على فكرة..
نهضَ متحرِّكًا بجوارهِ لبعضِ الخطواتِ ثمَّ توقَّف:
-هوَّ إنتَ جايبني هنا ليه، علشان أعمل تحليل ولَّا إيه بالظبط!..
حاوطَ أكتافهِ وتحرَّكَ بجوارهِ وبدأ يقصُّ عليهِ مختلفَ الأحاديثِ حتى يُلهيهِ عمَّا فعل، إلى أن توقَّفَ قائلًا:
-ليَّا صديق أخوه تعب إمبارح واكتشفوا أنُّه مصاب بلوكيميا، من وقتها خوفت عليك وعلشان كدا سحبتك لهنا أطمِّن عليك، وبكرة كمان هجيب غادة بس أوعدني محدِّش يعرف حاجة، إنتَ عارف بابا وماما فريدة ممكن دماغهم تودِّي وتجيب..
كان ينظرُ إليهِ بنظراتِ اعجابٍ يحدِّثُ نفسه:
-كيف أنعمَ اللهُ عليهِ بأخٍ مثله، خرجَ من حديثهِ لنفسهِ على صوته:
-هبات في بيتي، عرَّفهم في البيت، وزي ماقولتلَك هعتمد على راجل..
أومأ مبتسمًا ثمَّ أجابه:
-وأنا أوعدك مستحيل أقول حاجة إنتَ طلبتها مني..ربتَ على كتفه:
-بكرة عليك تعمل مع غادة كدا، علشان بضعف قدَّامها وممكن تعيَّطني، فإنتَ راجل ولازم تتصرَّف علشان لو جه وقت أنا مش موجود فيه تلاقيك حماها وسندها..
دنا منه يطالعهُ بذهولٍ متمتمًا بنبرةٍ اعتراضية:
-أوعى تقول كدا تاني، إنتَ مش أخونا بس، إنتَ أبونا كمان ربِّنا ما يحرمنا منَّك ودايمًا تكون سندنا..
ارتدى نظارتهِ مربتًا على كتفه:
-ولا يحرمني منَّك ياحبيبي..ياله امشي زمان ميرال قلقانة..
وصلَ بعد قليلٍ إلى منزله، بحثَ عنها وجدها تقفُ بالمطبخِ تتحدَّثُ مع الخادمة:
-جهِّزي السفرة، زمان البيه على وصول، قالتها واستدارت وجدتهُ واقفًا بالقربِ منها..تحرَّكت إليهِ كالطفلةِ التي عادَ والدها من العمل، عانقته:
-حمدالله على السلامة..حاوطَ جسدها وتحرَّكَ بها للأعلى:
-مصرَّة متُخرجيش..قالها وهو يصعدُ بها إلى غرفتهما..
هزَّت أكتافها قائلة:
-ماليش مزاج، دلفت للداخلِ بجواره، وقعَ بصرهِ على أشيائها التي تُوضعُ فوقَ الفراش:
-إيه دا هو إنتِ مرحتيش الشغل ولَّا إيه..
جذبت جاكيتهِ تساعدهُ بخلعهِ وأردفت بابتسامةٍ بريئة:
-لا مروحتش ومتسألشِ ليه علشان مش هعرف أجاوبك..
انحنى لمستواها يتفحَّصُ وجهها، التقت بعينيهِ تطالعهُ بتساؤل:
-في إيه ؟!..
نظراتٌ فقط إليها متسائلةً عن تغيُّرها، تحرَّكَ حائرًا من تغييرها السريع قائلًا:
-أصلي طلبت منِّك تقعدي ورفضتي، ورغم معارضتي حضرتك خالفتي كلامي ونزلتي من غير إذني، وخلِّيتي واحد زبالة زي راجح ينزع يومي، وكان ممكن ينزع حياتي كلَّها..توقَّفَ يشيرُ إليها مستطردًا:
-الراجل دا تلغيه من حياتك ومش عايز أسمع كلمة عمِّي دي تاني مهما صار، إحنا منعرفوش، ومتفكَّريش أخدتك عنده قبل كدا علشان تتعرَّفي عليه، لا علشان أعرَّفه إنِّي مش هتهاون لو قرَّب منِّك
قالها واستدارَ متحرِّكًا إلى الحمام..
جلست متذكرة ذاك اليوم
وصل إلى فيلا الشافعي، ترجل وبسط كفيه إليها ، تشبست بكفيه وترجلت تتلفت حولها، ثم تحركت متسائلة
-أحنا فين؟!..تحرك دون حديث إلى أن وصل وتوقف يطالع رجل الأمن المسؤل عن فيلا الشافعي، تنقل ببصره ينظر بكافة الاتجاهات على كثرة الأمن المحاصر للفيلا..فتح الباب بخروج راجح الذي يطالعه بغموض
-شايف رجلك اخدت على الفيلا بتاعتي ياحضرة الظابط..دفعه بوهن ودلف للداخل بجواره ميرال، وصل لبهو الفيلا ومازالت نظراته تتجول بالمكان، جلس يشير إلى ميرال
- اقعدي حبيبتي ...احتضنت ذراعه تنظر إليه بحب، هل ناداها حبيبتي
-مش كنت تقول انك عايز تموتنا ياراجل
-أموتك انت بتقول ايه ياحضرة الظابط..اقترب وهو يضع كفيه على جرحه وغرز عيناه بمقلتيه:
-عايز ايه ياراجح، بتقلب في القديم ليه، جت لك قبل كدا واتكلمت معاك بالحسنى ومنفعش قولت لك هتقرب من ماما فريدة مش هسمح لك، وبرضو عمال تحفر وراها، ايه اللي عايزه منها، أشار على ميرال
-لو علشان دي تبقى غلطان، دي ميرال إلياس السيوفي، اللي يقرب منها مش هرحمه..
دقق النظر بميرال الواقفة تطالعه بتيه، فتسائل
-وأنا مالي ومال مراتك، ..دنى يهمس إليه
-مراتك بتراقب مراتي ليه ياراجح، لو مبعدتش عن مراتي ماتلومش نفسك
.انا جيت علشان اقطع عليك العابك القذرة، واقولك لو حاولت تقرب مني أو من مراتي هنسفك، والصراحة مش لسة هنسفك...عشر دقايق والاخبار الحلوة هتوصل لك، شركاتك كلها اتشمعت بالشمع الاحمر، والدولة اتحفظت على اموالك، ومن اين لك هذا، أيوة عارف شركائك بس متخفش هفضل وراك لحد ماألبسك الغوايش ...قالها وسحب كف ميرال التي مازالت تحت الصدمة وغادر المكان بالكامل
خرجت من شرودها متوقفة ثم اقتربت منه وأوقفتهُ تفركُ كفَّيها:
-إلياس ..استدارَ إليها كان يعلمُ أنَّ بها شيئًا، اقتربت منهُ قائلة:
-عايزة أعرف إيه اللي عمُّو قالوهلَك، وليه كنت مضَّايق وليه..وضعَ أناملهِ على كفَّيها وتعلَّقَت عيناهُ بنظراتها، يُطبقُ على ذراعيها بقوَّةٍ وحديثُ راجح يتردَّدُ بأذنه:
أنا لسه بقولِّك إيه، مش عايز أسمع حاجة عنُّه، عايزك تعرفي إنِّ الراجل دا أقذر مخلوق قابلته على وشِّ الكرة الأرضية، وإياكي ياميرال تتواصلي معاه، وقتها هرميكي للأبد من حياتي من غير ماأفتكرلِّك حاجة كويسة..
أغرورقت عيناها بالدموع من تحوُّلهِ المفاجئ:
-إلياس سيب إيدي..تراجعَ للخلفِ واستدارَ متحرِّكًا للحمَّام..
مرَّت الأيامُ سريعًا إلى أن جاءَ اليومُ الذي شطرَ القلوبَ وانطفأت الروحُ بأشباحِ الرماد..
استلمَ الظرفَ الذي به ستنقلبُ الحياةَ رأسًا على عقب..ألقاهُ ودقَّاتٌ عنيفةٌ بداخلِ صدرهِ حتى شعرَ بتوقُّفِ النبض.
ألقى نظرةً عليهِ وهو ملقىً على المقعد، ثمَّ قادَ السيارةَ وتحرَّكَ بها إلى مكانٍ هادئ، وصلَ بعد قليلٍ بمكانٍ بعيدٍ عن البشر، ظلَّ لعدَّةِ دقائقَ بسيارتهِ ساكنًا شاحبَ الملامح، ولكن هناك أنفاسًا كأجراسِ حرب، تخرجُ على هيئةِ نيرانٍ صديدة..رمشَ عدَّةِ مرَّاتٍ وبسطَ كفِّهِ يتناولُ الظرفَ بهدوءٍ مميت، حرَّكَ أناملهِ المرتجفة، ينظرُ إلى المدوَّنِ فوقه:
-إلياس مصطفى السيوفي..لا يعلم لماذا شعرَ بتلك القبضةِ التي اعتصرت فؤاده..
أخرجَ تلك الورقة التي اعتبرها شهادة وفاته..بعيونٍ كالشلَّالِ يقرأُ مابها..
دموعٌ حارقةٌ أنزلها على تلك الورقة وكأنَّها حروفُ الألمِ والانهيار، يردِّدُ بشهقاتٍ وانهيارٍ بجوفه:
Nqegative
آااه خرجت من صدرهِ بصراخٍ متألِّمٍ يردِّدُ بهسيس:
-مش ابنه، يعني كلام راجح صح، يعني أنا ابنِ فريدة..نظرَ إلى تحليلهِ مع فريدة متذكِّراً حديثهِ لإسلام:
-حبيبي عايز منَّك كمان تشوف حالة ماما فريدة من غير ماتحس، بابا بيقول موضوع ضغط وأنا حاسس أنُّه مخبِّي حاجة، عايز أطمِّن ياإسلام، بس إنتَ عارف العلاقة بينا مش أحسن حاجة، إيه رأيك تاخد منها عيِّنة وتقولَّها إنَّك عايز تطمِّن عليها إنتَ وغادة، وكمان هيَّ مش هتقول حاجة لمَّا تعرف إنَّك هتعمل التحليل لغادة، بس أهمِّ حاجة إياك تعرَّفها أنا اللي طلبت..
-خلاص ياإلياس هعمل اللي إنتَ عايزه، بس خايف ترفض..
شردَ قائلًا:
-لا هتوافق لمَّا تشوفك مهتمِّ بيها..
خرجَ من شرودهِ ينظرُ إلى نتيجةِ التحليلِ مع فريدة..
فتحَ زرَّ قميصهِ وكأنَّهُ يختنق..نزلَ من السيارةِ مترنحًا، حتى هوى بجسدهِ على الأرضِ يضربُ عليها بقوَّة..وآااااه أخرجها من جوفهِ لتفزعَ الطيورَ من حوله..جلسَ على الأرضيةِ الترابيةِ يحاوطُ ركبتيهِ ودموعهِ خيرُ دليلٍ على مايشعرُ به ..لقد سُلبت حياتهِ بالكاملِ وهو يشعر بكمِّ الألمِ الذي يتفاقمُ بصدرهِ وكأنَّ أحدهم غرزهُ بسكينٍ باردٍ ليجعلهُ يتعذَّبُ بهذا الألم..
مرَّت ساعاتٌ وهو بمكانهِ لا يشعرُ بشيئٍ حوله، ارتفعَ رنينُ هاتفهِ عدَّةِ مراتٍ ولكنَّهُ كان الحاضرُ الغائب، وكأنَّهُ ليس بالمكان..ولجَ الليلُ بظلامهِ وقسوةِ برودتهِ الطاغيةِ بذاك الشهرِ الذي يمتازُ ببردهِ القارس..لقد دقَّت الثانيةَ عشر منتصفَ الليل ومازال بمكانهِ من يراهُ يظنُّ أنَّ روحهِ خرجت من جسدهِ لشحوبهِ وبرودةِ جسده، ناهيك عن سكونهِ كالجثة..مرَّت دقائقَ أخرى إلى أن وجدَ ضوءَ سيارةٍ يضربُ بعينيهِ التي ذبلت..ترجَّلَ أرسلان من سيارتهِ متَّجهًا إليه ..شهقةٌ خرجت من جوفهِ وهو يراهُ بتلك الحالة، هرولَ إليهِ حتى وصلَ بخطًا معدودة..
-إلياس!!ردَّدها جاحظَ الأعين..لم يرُّف جفنهِ وظلَّ كما هو ..جلس على ركبتيهِ أمامهِ يعدلهُ من فوقِ التراب:
-إلياس سامعني..حاولَ مساعدتهِ على الوقوفِ ولكنَّهُ كان صلبًا جامدًا كالجبل..
ضمَّ وجههِ يفركهُ بقوَّة:
-إلياس فوق..
عينان خاويتان وقلبٌ مفتَّتٌ بالألم، انصهرت دموعهِ مرَّةً أخرى يردِّد:
-أنا مين..أنا هنا !! لا أنا هناك، أنا كذبة
قالها وهو ينظرُ إلى أرسلان بضياع..
ارتفعَ رنينُ هاتفهِ مرَّةً أخرى لقد تجاوزت الواحدة صباحًا حتى شعرت بالضياعِ والخوفِ من عدمِ ردِّه، اتَّجهت إلى ارسلان تهاتفه لعله يبرد نيران قلبها المتأججة بغيابه، شعورها أن اصابه مكروه قد كان
أطالَ النظرَ بعينيهِ إلى أرسلان كالجندي الذي فقدَ وطنهِ وسُحبت قواهُ أمامَ العدو..
-إلياس فوق، عامل في نفسك كدا ليه!!
إلياس ..تتردَّدُ بداخلِ أذنهِ حتى شعرَ وكأنَّهُ صاعقة من السماء كصوت رعدٍ أصابهُ بالصمم، فأشعلَ النيرانُ الموصدة مرَّةً أخرى ليقفَ من مكانهِ وجسدهِ يأبى الثباتَ ليهوى مرَّةً أخرى..دقائقَ مرَّت عليهِ وهو فاقدُ الإحساس والشعورِ كالذي فارقت الروح جسده..توقَّفَ مذهولًا لما أصابه، اقتربَ يساعدهُ ولكنَّهُ دفعهُ بعيدًا عنهُ وزمجرَ بعنف:
-إياك تقرَّب منِّي ابعد عنِّي..لم يهتم لصراخهِ وحالتهِ المتدهورة، فاتَّجهَ مكتِّفًا ذراعهِ بقوَّة:
-اهدى معرفشِ إيه اللي حصل، ياله علشان الكلّ مشغول باله عليك..
طالعهُ بأعينٍ متسائلةٍ يتمتمُ بتقطُّع:
-الكل بيسأل عليَّا، مين أوعى تقولِّي مصطفى باشا السيوفي..
هنا ظنَّ أنَّ هناكَ خلافٌ بينهِ وبين والده، سحبهُ إلى سيارتهِ واتَّجهَ يقودها مع رنينِ هاتفه..تحرَّكَ إلى السيارةِ ليلتقطَ الهاتف، ولكن وقعت عيناهُ على ذاك الظرف، والأوراقُ المتناثرةُ بالسيارة، بسطَ كفِّهِ ليلتقطهُ ولكن ارتفعَ رنينُ هاتفِ إلياس مرَّةً أخرى..
-أيوة مدام ميرال، إلياس معايا وزي ماقولت لحضرتِك كان في مكان مفهوش شبكة، شوية ويرجع على البيت..قالها وأغلقَ الهاتف..
بعد فترةٍ وصلَ إلى فيلا السيوفي، استدارَ يساعدهُ بالنزول..كانت تنتظرهُ بشرفةِ غرفتها، ارتدت وشاحًا ثقيلًا وهرولت إليهِ بعدما وجدت سيارة أرسلان تدلف من البوابة الرئيسية ، ترجل يساعده..فتحت البابَ تنظرُ إليهِ بصدمة، وزَّعت نظرها بينهُ وبين إلياس:
-إيه اللي حصل؟!. سلَّط َعينيهِ على ميرال وكأنَّ صوتها أعادهُ لأرضِ الواقعِ ليبتعدَ عن أرسلان يشيرُ بيده:
-أنا كويس خلاص، شكرًا، قالها وخطا للداخلِ يستندُ على الجدار، كان يتابعهُ بأعينٍ حزينة، نغزهُ قلبهِ بشدَّةٍ عليه، تمنَّى لو يضمُّهُ ويهوِّنَ عليه، سحبَ بصرهِ من متابعتهِ عندما تحدَّثت ميرال:
-شكرًا لحضرتك، وآسفة إنِّي أزعجتك، بس هوَّ قالِّي هيعدِّي عليك وهتروحوا مشوار، الكلام دا من حداشر الصبح والساعة دلوقتي عدِّت واحدة بالليل..
هزَّ رأسهِ متفهِّمًا وحاولَ أن يهدئَ من روعها:
-هوَّ فعلًا كان معايا بس بعدها معرفشِ راح فين، هسيبك علشان الوقت متأخَّر وبكرة هطمِّن عليه..
أومأت لهُ فتحرَّكَ مغادرًا إلى سيارته، أمَّا هي فهرولت صاعدةً إليه..وجدتهُ واقفًا على بابِ الغرفة ينظر حوله بضياع
-إلياس!! استدارَ برأسهِ ينظرُ إليها لعدَّةِ لحظاتٍ إلى أن اقتربت منهُ تعانقُ ذراعه:
-كدا موِّتني خوف عليك، ينفع كدا تقلقني، طيِّب أنا دلوقتي لازم أعاقبك..
دفعَ البابَ وتحرَّكَ إلى الداخل، ألقى نفسهِ فوق الفراشِ ينامُ على ظهرهِ نصفهِ فوق الفراشِ وساقيهِ على الأرض.،
نظرت إلى ثيابهِ التي يملأها الغبار، ثمَّ تحرَّكت إليه..حاوطت جسدهِ بذراعيها:
- مالك إيه اللي حصل معاك مش هتحكيلي؟..
تعلَّقت عيناهُ بمقلتيها دون حديثٍ حتى دنت برأسها تقبلُه:
-وحشتني على فكرة..ظلَّ كما هو وكأنَّها لم تكن..تراجعت بعدما شعرت بأنَّهُ يعاني من شيئ، اتَّجهت إلى الخزانةِ وأحضرت ثيابهِ ثمَّ عادت تجذبهُ من ذراعيه:
-ياله علشان تاخد شاور وتنام..شكلك تعبان..رفعت رأسهِ لتصبحَ بأحضانها،
قامت بنزعِ قميصهِ وهو يطالعها بنظراتٍ جامدةٍ وكأنَّها عدوته، أغمضَ عينيهِ عندما سيطرَ عليهِ شيطانهِ فتوقَّفَ يشيرُ إليها:
-أنا هكمِّل..قالها وتحرَّكَ إلى الحمَّام..
تنهيدةٌ متألمةٌ وهي تنظرُ إليهِ تهمسُ بخفوت:
-ياترى إيه اللي حصلَّك ياإلياس..بعدَ فترةٍ خرجَ يلتفُّ بالمنشفة، ظلَّت تراقبُ تحرُّكهِ حتى دلفَ إلى غرفةِ الملابسِ ليخرجَ بعد دقائقَ معدودةٍ متَّجهًا إلى الفراشِ بصمت..تمدَّدَ على ظهرهِ يضعُ كفَّيهِ تحتَ رأسه، جلست بجواره، مستندةً على ذراعها، تمسِّدُ على وجنتيه:
-إلياس إيه اللي حصل حبيبي معاك؟..
استدارَ يواليها ظهره:
-اطفي النور عايز أنام، ولَّا أخرج.. !!
استندت بذقنها على كتفهِ وحاولت إخراجهِ من حالته:
-مش قبل ما تقولِّي إيه اللي حصل معاك..
-ميرال...أردفَ بها بخفوت ونبرة متعبة
-لو سمحتي عايز أنام..داعبت وجههِ بأنامِلها:
-هتنام وإنتَ مدِّيني ضهرك، يعني مش هتاخدني في حضنك..أطبقَ على جفنيهِ محاولًا السيطرةَ على نفسهِ حتى لا يغضبَ عليها..استدارَ إليها بصمت، فردت ذراعهِ وتوسَّدته، مرَّت أكثرَ من ساعةٍ وهو مستقيظ، وكأن جفاه النوم وحرم عليه، ظل مستيقظا يتقلب بالفراش وكأنه يتقلب على جمرات من نار، مرة ينظر إلى نومها ومرة أخرى ينظر إلى سقف الغرفة، إلى أن ارتفعَ أذانُ الفجر ، فنهضَ متَّجهًا إلى الصلاةِ دونَ حديث..
صباحٌ جديدٌ ينيرُ بضيائهِ أرزاقُ العباد… بغرفتهِ ظلَّ مستيقظًا وعينيهِ على تلك التي تغفو بجانبه..ظلَّت نظراتهِ مسلَّطةً عليها إلى أن تململت بنومها لتفتحَ عينيها ببطئ، وجدتهُ ينظرُ إليها بصمت..مرَّرت أناملها على وجهه:
-صباح الخير..اعتدلَ على الفراشِ يومئُ برأسهِ دون حديث، استمعَ الى رنينِ هاتفهِ التقطهُ مجيبًا:
-الستِّ جبتها ياإلياس، نهضَ من مكانهِ منتفضًا وخلالَ دقائقَ خرجَ من الغرفةِ متَّجهًا إلى وجهته..
تنهيدةٌ حزينةٌ أخرجتها بعدما أغلقَ الباب..مرَّت عدَّةِ ساعاتٍ إلى أن عادَ إلى المنزلِ وجدها تجلسُ على الفراشِ تعملُ على جهازها..ألقى بمفاتيحهِ ثمَّ طالعها بأعينٍ تبوحُ بكمِّ الألمِ الذي بداخله..أغلقت جهازها وأردفت:
-إلياس رجعت بدري ليه فيه حاجة؟..
-تعبان ياميرال..قالها وهو يتمدَّدُ على الفراشِ متَّخذًا ساقيها وسادته، وجسدهِ ينتفضُ كالذي أصابهُ حمَّى، لم تستطع كبحَ عبراتها، من حالته التي لأول مرة تراه بها، مسَّدت على خصلاتهِ الناعمة:
-إنتَ بردان، أجبلك حاجة تدفِّيك؟..
احتضنَ ساقيها وكأنَّهُ يستمدُّ منها الدفَء يهمسُ بصوتِ متقطِّع:
-أنا بغرق، بغرق ..ردَّدها عدَّةِ مرَّاتٍ
بعيونٍ تائهةٍ شاردة..انسابت عبراتها ولم تقوَ على ضعفهِ بتلك الطريقةِ لتهبطَ برأسها لمستوى نومه:
-إيه اللي حصل لدا كلُّه، من إمبارح وإنتَ متغيَّر، وحياتي عندك قولِّي إيه اللي حصل معاك حبيبي إحكيلي مش أنا مراتك حبيبتك..
احتضنَ كفَّها يضعهُ تحتَ خدِّهِ يبعدُ وساوسهِ التي تخترقُ أذنه..يهمسُ بخفوت:
-مالكيش ذنب، مستحيل..أنا في كابوس..لا دا كابوس، أنا في كابوس..
وضعت رأسها على رأسهِ تستمعُ إلى خفوتهِ وكم تتألَّمُ وجعًا على ما أصابه:
-كابوس إيه حبيبي، فيه حاجة حصلت معاك في الشغل، قولِّي إيه اللي حصل؟..
حاولَ السيطرةَ على رعشةِ قلبه، الذي أصبحَ ينزف..
-إلياس!!..ردَّدتها مرَّةً أخرى ليقطعها طرقاتُ الباب، تسمحُ بالدخول، دلفت فريدة تبحثُ عنهُ بلهفة:
-مالُه إلياس ياميرال، غادة بتقول شافته جاي تعبان..اعتدلَ برأسٍ ثقيلٍ كالمخمورِ يطالُعها بأعينٍ جامدة، ورغمَ جمودها إلَّا أنَّها عاصفةٌ بحممٍ بركانية..
ظلَّ ينظرُ إليها بصمت..إلى أن اقتربت منهُ تحاوطُ وجههِ بين راحتيها:
-حبيبي إيه اللي واجعك، مرَّرت بكفَّيها على جسدهِ بالكاملِ تتفحَّصهُ كالأمِّ التي تتفحَّصُ رضعيها، ولمَ لا وهو الذي سُلبَ من بين يديها عنوة...تابعَ لهفتها وشريطُ حياتهِ ومعاناتها معه..رفعَ كفَّيهِ على كفَّيها الذي وضعتهُ فوق رأسه:
-أهمِّك تعرفي مالي؟..
أومأت مؤكِّدةً دون أن تحيدَ ببصرها عن عينيهِ المتألمة، ثمَّ أردفت متسائلة:
-عندك شك إنَّك تهمِّني ياإلياس؟..
ابتسامةٌ ملتويةٌ بشراسةٍ ساخرةٍ وعينيهِ تخترقُ مقلتيها، ليردِّدَ بعجزٍ أصابَ قلبه:
-إلياس!! أنا ابنك صح مش أنا زي ابنك ياماما فريدة برضو ..ابتسمت بعيونٍ لامعةٍ بالعبرات:
-إنتَ روحي ياإلياس، عندك شك في حبِّي ليك يابني؟.،
بلحظةٍ أطلقَ ضحكةً صاخبةً متوقِّفًا يترنَّحُ بوقوفه:
- الصراحة كان نفسي أعرف الجواب دا من زمان، ليه بتعامليني كدا، رغم قسوتي معاكي بس كنتي دايمًا بتراعيني باهتمامك..
هزَّت رأسها بدموعٍ انسابت على وجنتيها قائلة:
-ومهما تعمل يابني لازم ...قاطعها متراجعًا للخلف:
-مش عايز أسمع حاجة ، سمعت مافيهِ الكفاية يامدام فريدة..
-إلياس اسمعني..
خنجرٌ غُرزَ بجدارِ روحهِ وكأنَّ صوتها واسمهِ يمزُّقهُ إربًا لشظايا، التفتَ إليها بعيونٍ كالحممِ البركانيةِ وهتفَ بشراسةٍ انتفضت على أثرها:
مين إلياس فريدة هانم، بتسألي عن مين ..أشارَ إلى نفسه:
-قصدك أنا..ثمَّ تحرَّكَ إلى ذاكَ المظروفِ وجذبهُ يرفعهُ بعينها:
-ولَّا دا..أنهي فيهم ...قالها وهو يلقي الورقَ أمامها مردِّدًا:
-إلياس مصطفى السيوفي، ولَّا إيه..
دارَ حولها وهزَّ رأسهِ وأصابتهُ نوبةً من الضحكِ المتواصلِ حتى توقَّفت أمامهِ تضغطُ على ذراعه:
-إلياس إنتَ اتجنِّنت !!
دلفَ مصطفى على صرخاتها..
-إيه اللي بيحصل، ماله إلياس؟..
تركَ فريدة واتَّجهَ إلى مصطفى:
-أهلًا بسيادةِ اللواء، المشترك مع المدام بدفني وأنا حي..
طالعتهُ بنظراتٍ مستفهمة، تحرَّكَ إلى ميرال الواقفةُ بصمتٍ ثمَّ جذبها من خصرها يوزِّعُ نظراتهِ بينهما:
-إيه ياحبيبي مش عايزة تعرفي جوزك حبيبك يقربلِك إيه، ولَّا مش عايزة تعرفي سبب جنان والدتك باسمِ يوسف، صمتَ قليلًا وعينيهِ تحرقُ وقوفُ فريدة ثمَّ أردفَ بصوتٍ زُلزلَ له جدران المنزل:
-آسف يابنتِ عمِّي أصلِ مرات عمِّك طلعت أكبر مزوِّر هيَّ وسيادةِ اللوا، ماهو نسيت أقولِّك أنُّهم سرقوا حياتك زيي..