رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الخامس عشر 15 بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الخامس عشر بقلم سيلا وليد


"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "


"وكانت تناديه حين يُبكيها : يا ندبة القلب، يا جُرحي الذي لن يندمل، وحين يُضحكها : يا لون السماء إذا أتىٰ ربيعها، وبهجة الأرض بالمطر! كان رجلاً واحداً؛ وتحوَّلت في حبِّه لأكثر من امرأة كي تجاريه، كي تحتمل وتستقبل سعادتها به وحزنها منه في آنٍ واحد..

فـ كم هي قاسية التراكمات التي تجعلنا نقسو رغمَ  حنانِنا وننطوي على أنفسنا رغمَ حاجتنا للآخرين ونصمُت رغمَ تَكَدُّس الكلمات في صدورنا

‏كم هي قاسية التراكمات التي تُجبرنا على أن نبدو  غير  حقيقتنا


لا عُذرَ يقنعُني ... بأنّك … مُجبَرٌ

في الحُبِّ لا تجدي معي الأعذارُ


دارت بنا الدُنيا وأنت تركتني

وغـداً بها تتـبدل ...  الأدوار


رفرفت بأهدابها الكثيفة، ثمَّ فتحت عيناها بتمهُّل، لتقعَ على وجههِ القريب وهو يغفو بنومهِ الثابت، كالذي لم ينم منذ فترةٍ طويلة..ظلَّت تطالعهُ لبعضِ الوقتِ وذكرياتُ ليلةِ الأمسِ تمرُّ أمامَ عيناها..ابتسامةٌ خجلةٌ حينما تذكَّرت تحرُّرهِ لأوَّلِ مرَّةٍ معها ليظهرَ الشخصُ العاشقُ الذي تمنَّتهُ منذُ سنوات..رفعت أناملها تمرِّرُها على وجههِ بهدوء، وكأنَّها نحَّاتٌ ليرسمَ ملامحه..دنت تستنشقُ رائحةَ أنفاسهِ بتلذُّذٍ مغمضةَ العينين. 

فتحَ عينيهِ حينما شعرَ بحركةِ أناملها فوقَ وجهه، ابتسامةٌ أنارت وجهه، ليمرَّرَ أناملهِ على جسدها، تراجعت فزعةً مع قهقهاتٍ وهو يجذبها لأحضانه:

-إيه دا ياإلياس خضِّتني..قرَّبها إليهِ بحنانِ ذراعيه:

-سلامة قلبك من الخضَّة ياميرو.

لمعت عيناها بالسعادةِ تتمتم:

-أوَّل مرَّة من وقتِ مااتجوِّزنا، يبقى صباحنا حلو كدا، تعرف اتمنِّيت تكون كدا من وقتِ مااتجوِّزنا، أصحى من النوم وتقولِّي صباحك ورد ياحبيبي. 


مرَّرت أناملها على وجههِ وتابعت حديثها:

-عايزة ولد يكون شبهك..ابتسمَ على مداعبتها وأردفَ مجيبًا:

-مابلاش شبهي، علشان لمَّا يكبر مايلقيش اللي يزهَّقه في عيشته، وكلِّ شوية تتنطَّط عليه وخصوصًا لو كانت حلوة زيك.. 

جملةٌ أشعلت قلبها بعشقه، ليزدادَ النبضُ داخلَ صدرها، دنت منهُ ودفنت رأسها بأحضانهِ تتمتم:

-حرام عليك ياإلياس بجد، ليه تعمل فيَّا دا كلُّه، يعني أقول فيك إيه دلوقتي مش قادرة أزعل منَّك..سنين عذاب وفراق وبس ليه علشان حضرتَك قرَّرت تعاقبني وتعاقب نفسك لأوهام في عقلك..لو بس إدِّيت لقلبك فرصة وجيت ووقفت قدَّامي وسألتني، حتى لو مسألتش، لو بصيت في عيوني كنت عرفت قدِّ إيه بموت من نظراتك اللي بتقهرني، لو كان بإيدي كنت رميت نفسي في حضنك وقولتلَك كفاية وجع وفراق..

مسَّدَ على ظهرها فلقد فتحت كلماتها أبوابَ قلبهِ الموصدة التي أتقنَ بإخفائها لسنوات.. 

-ميرال عندي أسبابي، وبعدين كنت إتجوزي حد قالِّك تستني دا كلُّه.. 

اتسعَ بؤبؤُ عينيها، وشعرت بصقيعٍ بكافةِ أجزاءِ جسدها.. 

-بجد يعني مكنشِ هيفرق معاك؟!.. 

-يفرق معايا، ليه..واحدة كلِّ شوية تتنطَّط من هنا لهنا مع واحد شكل، أزعل عليها ليه وهي دايسة بالقوي..


رفعت رأسها واغروقت عينيها بماءِ الندمِ قائلة:

-مكنتش قاصدة أزعَّلك أو أقلِّ منَّك أبدًا، أنا كنت طالبة منَّك تديني أهمية حتى لو بسيطة، بس إنتَ كنت قاسي أوي، وكلِّ اللي عليك إنِّي متخلفة ومبفهمش، تعبت أوي وتعبتني معاك،  

كنت مفكَّرة لمَّا أعمل كدا أحرَّك قلبك، بس كنت غلطانة.. 


اعتدلَ على الفراشِ يجذبُ ثيابهِ ورمقها بنظرةٍ جانبية:

-ميرال إنتِ جاية تتكلِّمي في الماضي ليه، إحنا اتجوزنا دلوقتي، وإنتِ حامل، ادفني الماضي، علشان لو فتحته هضايقِك صدَّقيني وهتطلعي خسرانة، مش عايز أفتكر غير إنِّك مراتي وحبيبتي وبس دلوقتي..نهضَ من فوق الفراشِ واتَّجهَ إلى الحمامِ قائلًا وهو يواليها ظهره:

-قومي اجهزي علشان هنخرج..

تنهيدةٌ عميقةٌ أخرجتها بحزن، فمهما يحدث سيظلُّ كما هو، وضعت كفَّيها على أحشائها تكلِّمُ جنينها:

-شوفت بابي دايمًا قاسي على مامي، يمكن لمَّا تيجي قلبه يحنِّ شوية.. 

استمعَ إلى حديثها بابتسامةٍ عريضة، ليلتفتَ ينظرُ إليها وهي تكلِّمُ جنينهما، هزَّ رأسهِ ومازالت ابتسامةٌ تُرسمُ على محيَّاه، تحرَّكَ دون حديث.. 


بعدَ فترةٍ انتهت من ارتداءِ ثيابها، دلفَ يبحثُ عنها وجدها ترتدي حذاءها، أوقفها وهو يحملُ صندوقٌ ورقيٌّ مزيَّن،  

ضيَّقت عينيها متسائلة: 

-إيه دا..سحبَ كفَّها واتَّجهَ بها إلى المقعد: 

-اقعدي علشان أشوفه كدا ..نظرَت للذي بيديهِ وهو يقومُ بفتحها، دقيقةٌ وانتهى من فتحها ليخرجَ حذاءً رياضيًا خفيفًا، جلسَ أمامها على عقبيه، ثمَّ رفعَ قدمها وألبسها إياهُ وسطَ ذهولها..رفعَ رأسهِ مبتسمًا:

-شكله حلو على رجلك، بلاش من الكعب علشان ميتعبكيش في الحمل..

استندت على كتفه، للحظات ثم توقَّفت تنظرُ إلي خطواتها تضحكُ بصوتٍ مرتفع، وأشارت على نفسها:

-ألبس أرضي، عمري ما فكَّرت فيها.. 

مطَّ شفتيهِ يطالعها بنزق، ثمَّ اقتربَ يجذبها من خصرها:

-مش عايز تريقة، كعب مش هتلبسيه، ممكن يتعبك أو توقعي وإنتِ ماشاء الله عارف حركاتك الهبلة.. 

ابتعدت عن أحضانهِ وزفرت بغيظ من كلماتهِ وأردفت ممتعضة:

-لا متخافش على ابنك هحميه ومش هأذيه أكيد، الأرضي دا معرفشِ أمشي بيه ومتحاولشِ تقنعني.. 

اتَّجهَ إلى نظارتهِ وهاتفهِ وسحب َكفَّها متَّجهًا للخارج: 

-مين قالِّك إنِّي بقنعك، أنا بقولِّك البسيه، مش باخد رأيك..توقّّفت تسحبُ يديها، وحرَّرت نفسًا ناعمًا، وهي متخصِّرة: 

-وبعدهالك ياإلياس، إنتَ كدا هتكرَّهني في الحمل، لسة يادوب عرفت إمبارح، وبدأت تحطّ قوانين أومال لمَّا يعدي كام شهر هتعمل إيه، أنا مش عايزة أغيَّر حياتي علشان الحمل.. 


انعقدَ لسانهِ من حديثها، فاستدارَ متحرِّكًا للخارجِ قائلًا:

-مش هنتظر كتير، العربية وصلت برَّة، ياإما نرجع مصر، توقَّفَ واستدارَ إليها: 

-متخلنيش أندم على حبِّك ياميرال، وأنا مستحيل أذيكي، ومفيش حدِّ هيخاف عليكي قدِّي، ياريت تفهمي دا..


وصلَ إلى السيارة يتوقَّفُ مع الرجل الذي قامَ باستئجارها له..استقلَّها وجلسَ ينتظرها، فتحت البابَ وجلست بجوارهِ دون حديث، وصلَ إلى أحدِ المطاعمِ المشهورةِ بذاك المكان لتناولِ الطعام، ثمَّ توقَّف: 

-قومي نتجوَّل شوية فيه أماكن كتير حلوة هنا، وشلالات هتغيَّر مزاجك.. 

نهضت دون حديثٍ وتحرَّكت بجواره، ووجهها عبارةً عن لوحةٍ من الألمِ والحزن..حاوطَ جسدها يضمُّها إلى صدرهِ ثمَّ طبعَ قبلةً فوق رأسها: 

-متزعليش مني، بس أنا بعمل الصح، وتعرفي لبس الكعب اللي بيعمل صوت  حرام أصلًا، ..رفعت رأسها قائلة:

-إزاي يعني حرام، عادي دا بيكون للأناقة؟!.. 

ابتسمَ وضمَّها بقوَّةٍ قائلًا:

-حبيبي اللي مش عارف حاجة في دينه غير أنُّه مسلم بس، أعمل فيكي إيه، دا حتى لبس الحجاب جنِّنتي أبويا نفسه فيه. 

-واللهِ عمُّو مصطفى عاقل إنتَ اللي مجنون مش هوَّ.. 

قهقهَ بصوتٍ مرتفع، ونظرَ حولهِ يجذبُ رأسها إلى صدرهِ ولفَّ ذراعهِ حولها:

-واللهِ لو مش في الشارع كنت عرفت أحاسب لسانك العسل اللي بيضرب طوب دا..

لكمتهُ بصدرهِ بقوَّة: 

-أنا مضايقة منَّك بجد، وإنتَ بتضحك، شوية شوية هتلبِّسني ملحفة.. 

أخرجها من أحضانهِ ورفع ذقنها ينظرُ لعينيها:

-ياريت، واللهِ نفسي، وياسلام لو تسيبي الشغل وتقعدي تستنِّي جوزك كدا لمَّا يرجع من الشغل، دا هيكون أحسن خبر منِّك. 

رفعت حاجبها وطالعتهُ ساخرة:

-بتلفِّ على إيه يابنِ السيوفي، شغلي مش هسيبه، ومتخافشِ على ابنك، دا أغلى من روحي، مش علشان حضرتك أمرت، لا علشان إنتَ حبيبي ومتمنِّتشِ غير كدا..


نظر لعينيها التي قابلتهُ بعشقها الجارف الذي خُلقَ لها وبها، ليقرِّبَ جبينهِ فوق خاصَّتها وأظلمت عيناهُ برغبةٍ حارقةٍ لها وحدها، ولما لا وهي التي زلزلت كيانهِ وأخرجتهُ عن شخصيته، حتى أوصلتهُ إلى العجزِ أو البوحِ بكلماتٍ تعبِّرُ عن سردِ مشاعرهِ التي فاضَ بها قلبهِ لها.. 

لمست وجنتيهِ فضربت أنفاسهِ الحارَّة وجهها مما شعرت بإذابةِ ضلوعها وهو يلفُّ ذراعيهِ حولها بتملك؛ يريدُ أن يخبئها داخل ضلوعهِ لشدَّةِ طوفانِ عشقهِ الجارف.. 

-إلياس ..همست بها بصوتها الناعم،  بعدما انفلتت سيطرتهِ ليميلَ إلى ثغرها المترنِّمَ بعشقه، لينهلَ من شهدها ولم يهتمَّ لأحدٍ سوى تذوِّقه..قبلةً رقيقةً أروت روحهِ وروحها، ليبتعدَ عنها يسحبُ كفَّها ويتحرَّكَ بعدما فقدَ اتزانه..

وصلَ إلى أحدِ الأماكنِ المشهورةِ بتلك المنطقة التي تسمى سيردينيا..منطقة تتمتَّعُ بالجمالِ تجمعُ الكثيرَ من المظاهرِ الطبيعية..جلست كعادتها بأحضانهِ متمددةَ الساقين.. 

-إيه لسة مش مرتاحة بالشوز؟..

نظرت إليهِ تحرِّكُ ساقيها وابتسمت ترفعُ رأسها لتنظرَ إليهِ من فوقِ رأسها:

-معرفشِ إزاي الفكرة الجنونية دي جاتلك..

مين قال.. أنا كنت منتظرك تحملي، بعد مالبستي الحجاب فكَّرت في كدا. 

اعتدلت واستدارت إليه، سحبت نفسًا تحتضنُ كفَّيه: 

-إلياس بلاش تخنقني حبيبي لو سمحت..لحظاتٌ من الصمت بينهما ونظراتهما التي تعلَّقت ببعضهما البعض،  

ثمَّ رفعَ كفَّيها وقبَّلهما: 

-ميرو قلبي فيه حاجات مينفعشِ نتهاون فيها، طيِّب هقولِّك على حاجة وإنتِ قرَّري..مش إحنا مسلمين، الإسلام مش كلمة وخلاص، ولا إنِّك تصلي وتصومي وبس، لا فيه سنن لازم نعملها، حاجات مينفعشِ نتهاون فيها. 

ربِّنا أمر حبيبتي ينفع نتهاون بأمرِ ربِّنا 

يعني لمَّا يقول في كتابهِ العزيز:

قال تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ"

أنا ببقى في أوضتي وسامع صوت الشوز بتاعك، طيب ليه نلفت الأنظار، أنا بحبِّك وعايزك تفهميني، مبحترمشِ الستِّ اللي بتخرج بزينة أو أيِّ حاجة تلفت النظر، ربِّنا خلقكم ملكات ليه ترخَّصوا نفسكم.. 

طوَّقت عنقهِ تخبئُ محيَّاها في حناياه، متحاشيةً النظرَ إليهِ حتى لايصطدمَ النقاشَ بينهما، هي تتمنَّى أن تتغيرَ ولكنَّها متردِّدةً لا تعلم ماذا عليها فعله..أخرجها ينظرُ إلى الأماكنِ التي تحاوطهم يشيرُ إليها: 

-خدي نفس وغمَّضي عيونك، وشمِّي الريحة واسمعي صوت الميَّة كدا..

-ينفع أطلع فوق الجبل اللي هناك دا؟.. 

هزَّ رأسهِ بالرفض وهو يستمعُ إلى رنينِ هاتفه، أشارَ إليها: 

-هرد على الفون وراجعلك، استمتعي.. 

قشعريرةٌ اختلجت كيانها وإحساسًا صادقًا بنبضِ قلبها له، بعدما ابتعدَ وهي تحاصرهُ بعينيها، تنظرُ إلى بعضِ الفتياتِ اللاتي ينظرنَ إليه بنظراتِ إعجاب، ظلَّت نظراتها عليهِ حتى تحرَّكت إحداهنَّ إليهِ وهي تحملُ كوبينِ من العصير، وابتسامةً على وجهها مقتربةً تضعُ كفَّها على كتفهِ وهو يواليها ظهره، ظلَّ يتحدَّثُ بهاتفهِ دون أن يردعها عمَّا تفعله..نهضت بهدوءٍ متَّجهةً إليه..توقَّفت عاقدةً ذراعيها أمامهِ تشيرُ بعينيها على تلك اللزجة، اتَّجهَ بنظرهِ بعدما وجدها أمامه، ينظرُ لتلك التي تلتصقُ به..ابتعدَ عنها بعدما كان يظنُّها زوجته:

-عفوا..ابتعدي !!

قالها وهو يجذبُ ميرال التي تُلقيها بنظراتٍ كالسهامِ النارية، تحرَّكَ بجوارها ولم ينبت بحرف..ظلَّ يتجوَّلُ جوارها بصمت..توقَّفَ بعدما وجدَ صمتها: 

-مالك، إيه اللي حصل ؟!

-إزاي محستشِ بالبنت؟..

تحرَّكَ يدسُّ كفَّيهِ بجيبِ بنطاله: 

-حسيت، بس فكرَّتها إنتِ علشان كدا مهتمِّش..قالها وهو يركلُ الحصى بقدمه.. 

-ياسلام، يعني لو أنا مكانك كنت..توقَّفَ أمامها يليقها شزرًا، وتلاحقت أنفاسهِ الحارقةِ التي عصفت قلبهِ بنيرانٍ تريدُ أن تحرقها:

-إنتِ حامل، دا اللي شافعلك عندي دلوقتي، ومش معنى كدا هعدِّي كتير، بلاش ترمي الكلمة بكلمة، دنا منها وأطبقَ على فكَّيها يقرِّبها إلى وجههِ يتعمَّقُ بعينيها: 

-بحبِّك ويمكن بعشقك، بس دا ميمنعشِ إنِّي أدوس عليكي لو حاولتي تستضعفي رجولتي، وأنا لو جيت في وقت استضعفت حبِّك، أو نزلت بكرامتك دوسي عليَّا وإنتِ مغمَّضمة، تمام..أنا  مبكررشِ كلامي ياميرال، الحاجات دي مش تافهة علشان نهزَّر فيها..تراجعَ خطوةً وعانقَ ذراعها متحرِّكًا بجوارها وكأنَّهُ لم يفعل شيئًا.. 


وصلَ بعد قليلٍ إلى الشاليه، ألقى أشيائهِ بغضب، يفركُ وجههِ ودارَ حول نفسهِ من أفعالها.. 

دلفت خلفهِ بخطًا مرتعشة، وبملامح شاحبةٍ وروحٍ تبدو وكأنَّها سُلبت منها، وصلت إلى وقوفهِ متخصِّرًا:

-هتفضل حياتنا كدا، أنا مش مجبرة أتحمِّل عصبيتك الغير مبرَّرة دي، أنا بتكلِّم معاك بهدوء، إنتَ عملت منها مشكلة.. 


لم يلتفت إليها بل جذبَ سجائرهِ وتحرَّكَ إلى الشرفة، وكأنَّها هوى لم يشعر بها..جلست مكانها فلقد فاضَ بها غرورهِ القاسي، جلست تنظرُ بجمودٍ بأنحاءِ الغرفةِ لدقائق، ثمَّ نهضت متَّجهةً إلى بارئها ليزيلَ همومَ قلبها من زوجها القاسي..

ظلَّ بالشرفةِ ينفثُ رمادَ سجائرهِ بغضب، حتى فاقَ الغضبُ ليشعلَ صدره، لينهضَ من مكانهِ متَّجهًا إليها ومازالت كلماتها تحرقُ أذنه، وكأنَّها ألقتهُ بصوتِ رعدٍ أصابَه، دفعَ البابَ بقوَّةِ غضبهِ منها ومن نفسهِ الضعيفة أمامَ حبَّها، توقَّفَ لدى الباب بعدما وجدها تسجدُ ويهتزُّ جسدها بالبكاء، زفرةٌ بقوَّةٍ وتراجعَ للخارج، قامَ بنزعِ ثيابهِ متَّجهًا للمرحاضِ علَّهُ يزيلُ كتلةَ غضبهِ الناريًَّة.. 


خرجَ بعد دقائقَ معدودة، ودلفَ إليها بعدما وجدها مازالت بالداخل.. كما هي جالسةٌ على سجادةِ الصلاةِ تحتضنُ ركبتيها وتستندُ برأسها عليها، انحنى وحملها بين ذراعيهِ متَّجهًا بها إلى فراشهما، نزعَ إسدالَ صلاتها وجذبَ تلك المنامةِ التي تُوضعُ على الفراش وألبسها إياها، وعينيهِ تراقبُ خجلها منه، لم تتوَّقع منهُ ذلك، لملمَ خصلاتها وجمعها بربطةِ شعرها مبتسمًا بعدما أنهى فعلته:

-على آخرِ الزمن إلياس يجمع شعرك ويغيَّرلكِ الهدوم، ولا عمري فكَّرت فيها، 

ناقص تعملي فيَّا إيه ياستِّ الصحفية.. 


كانت متجمِّدةً بوقوفها، فالقلبُ مازال يئنُّ من أفعاله، سحبها وجلسَ يجذبها لأحضانهِ بعدما وجدَ جمودها: 

-ممكن أعرف إنتِ زعلانة ليه، إيه اللي عملته يدعو لنكد مدام ميرال.. 


استدارت ترمقهُ بعينانٍ جريحتان وأردفت:

-أنا زي ماإنتَ قولت بحبَّك أه بس مستحيل أقبل على نفسي الإهانة، أنا عدِّيت موضوع رؤى ياإلياس علشان عرفت أنُّه عقاب على اللي حصل بينا، مع إنِّ مفيش عقاب بين الستِّ والراجل يوصل للجواز، بس إهانة تانية ليَّا مش هسكت، حتى لو بعدت واتنازلت عن قلبي دا، الحبِّ اللي يكسرنا بلاش منه ياإلياس صح ولَّا إيه؟..


تجمَّدَ جسدهِ وصمتَ بطريقةٍ مقلقةٍ لقلبها، حتى تسلَّلَ الانهيارُ إلى قلبها الذي ينهرُها بما تفوَّهت بهِ إليه، تيقَّنت من صمتهِ أنَّهُ لن يمرِّرَهُ مرورَ الكرام.. 

تراجعَ بعدما كان يحاوطها بذراعه، ورفعَ هاتفه، يطلبُ طعامَهم، ثمَّ نهضَ متَّجهًا إلى خزانةِ الملابسِ ليرتدي ثيابه، ارتعشت شفتيها وهي تحاوطهُ بنظراتها متسائلة:

-إيه هنرجع مصر؟!..

أغلقَ زرَّ قميصه، واقتربَ منها فمهما بلغت قسوةُ الرجلَ للعقاب، ولكن يظلُّ ذاكَ النبضُ ينبضُ لمن يعشق.. 

-أنا طلبت الأكل، شوية ويجي، أنا خارج قدَّامي ساعتين عندي مشوار مهم..قالها وانحنى طابعًا قبلةً فوق جبينها ورسمَ ابتسامةً وهمَّ بالمغادرةِ إلَّا أنَّها أوقفتهُ متمتمة: 

-هستناك لحدِّ ما ترجع..أومأ برأسهِ وهو يواليها ظهرهِ قائلًا:

-براحتك، مش هغصب عليكي.

أحيانًا تعجزُ الكلماتُ عن الردِّ بما يؤلمُ داخلنا..تحرَّكَ سريعًا من أمامها حتى لا يحدثَ بينهما مالايُحمدُ عواقبه.. 


عندَ أرسلان قبلَ يومين: 

جلسَ بجوارها يحتضنُ كفَّيها وهي تغفو بنعيمٍ بأحضانه، ربتَ على خصلاتها برفقِ وحنانِ أناملهِ مرَّرها على وجهها منحنيًا يطبعُ قبلةً مطوَّلةً على وجنتيها..فتحت عينيها بتململ، ثمَّ همست بصوتٍ حاني:

-أرسلان إنتَ لسة منمتش؟..ابتسمَ ممسِّدًا على خصلاتها راسمًا ابتسامة: 

-حبيبتي المهم إنِّك نمتي ومرتاحة، أنا مجاليش نوم، دسَّت نفسها بحنانِ أحضانهِ تهمسُ بخفوت:

-حبيبي متزعلشِِ أكيد ربِّنا هيعوَّض علينا المهم تكون جنبي.. 

تمدَّدَ يجذبها إلى صدره، وحاوطها بذراعه: 

-مش زعلان، المهمِّ إنِّك بخير وسلامة، بس ليه مقولتليش ياغرام؟.. 

استندت بذقنها على صدره، ورفعت كفَّيها لوجههِ تنظرُ إليهِ بملامحها التي شحبت:

-كنت هقولَّك بس وقتها إنتَ خرجت لمَّا كنَّا في الفيلا، ولقيتك اتَّصلت وقولت إنَّك مسافر وخلِّيكي في الفيلا لمَّا ترجع، مكنشِ ينفع خبر زي دا يتقال في التليفون، كنت عايزة أفرَّح حبيب قلبي بس محصلشِ نصيب..قالتها بدموعِ الألمِ التي أنهكت روحها.. 

انحنى ملتقطًا ثغرها لبعضِ اللحظاتِ إلى أن خطفَ أنفاسها، لا يعلمُ لماذا يقبِّلها بتلك الطريقةِ الموجعة، هل بسببِ مايشعرُ بما يعتري قلبه، أم أنَّهُ يُخرجُ طاقتهِ المؤذيةِ حتى لا يُخرجَ أذيتهِ لأحدٍ بعدما علمَ من الطبيبِ أنَّ هناكَ جسمًا غريبًا بدمائها، ليصل به الشك أنَّ لها يدًا بعد إخفائها خبرَ حملها..

ابتعدَ منتفضًا بعدما تذوَّقَ دموعها واتَّجهَ للخارجِ سريعًا، وامتلأت عيناهُ بنيرانِ الغضبِ التي لو اقتربت من أحدهما لأحرقته.. 

هوى على الأريكةِ ومازالت النيرانُ تأكلُ أحشائه، بالداخلِ ظلَّت دموعها تنسابُ على خدَّيها لفترةٍ من الوقت، ثمَّ اعتدلت تجذبُ روبها وخطت إليه بالخارج ..وجدتهُ جالسًا ينفثُ سيجارتهِ بطريقةٍ انتقاميةٍ حتى اختفى خلف رمادها..اقتربت بخطواتٍ بطيئةٍ وهي تسعلُ من رائحةِ الدخان، رفعَ عينيهِ الحزينةِ التي خطَّها دموعُ الألم فلماذا يطعنهُ أحدهم بتلك الطريقةِ البشعة، وصلت إلى جلوسهِ وألقت نفسها بأحضانهِ تبكي بشهقاتٍ مرتفعة، بكاءًا بدموعِ الألمِ التي حاولت أن تخفيها حتى لا تحزنه، ولكنَّ الألمَ فاقَ قوَّةَ الاحتمالِ لتنفجرَ بركَ عينيها..

حاوطها بذراعيهِ يربتُ على ظهرها:

-اهدي أنا آسف مكنشِ قصدي أوجعك..

وضعت كفَّها على فمه: 

-مش زعلانة منَّك، أنا بس موجوعة.. 


طالعها لدقائقَ بصمتٍ وهي تختفي بأحضانهِ كأنَّها تريدُ الهروبَ ممَّا يحيطها، رفعَ ذقنها يلمسُ وجنتيها: 

-قومي إلبسي هنسافر. 

هزَّت رأسها بالموافقةِ ليتوقَّف يسحبُ كفَّيها متجهًا للداخل..


عندَ آدم دلفَ إلى القاعة..صمتٌ تام بين الحضورِ بعد إلقاءهِ تحيَّةَ الصباح..


ذهبَ ببصرهِ إلى جلوسها الساكن وهي تمرِّرُ أوراقها تنظرُ بدفترها ولم تكترث لدلوفه..رفعت عينيها إليهِ بعدما تحدَّثَ قائلًا:

-فيه كام كورس هنراجع عليهم سريعًا علشان الناس اللي مش فاهمة أو اللي محضرتش، قبلِ الاختبارات.. 


طالعتهُ بنظراتها التي تحكي الكثير، وكأنَّها تحاورهُ بعينيها، كنتَ الشخص الذي أحببتهُ وتعلَّقتُ به حتى عشقتهُ حدَّ الوجع، كيف أغفرُ لقلبك الذي أشعرني بالخذلان، قلبكَ الذي غدرَ بقلبي الضعيف ليصلَ الحزنَ والألمَ إلى الشريان.. 

وضعت كفَّيها على وجهها بعدما فقدت سيطرتها على دموعها فلقد خانتها رغمًا عنها،  وانزلقت تتدحرجُ بكمِّ ماتشعر به.


انفرجت شفتيهِ يضغطُ عليهما بعدما شعرَ بنغزةِ قلبه وبمغادرتهِ من بين ضلوعهِ على وضعها، تمنَّى لو يصلَ إليها ويسحقَ ضلوعها حتى يذيبها بين ذراعيه..لحظاتٌ ربما دقائق والنظراتُ بينهما تحكي الكثيرَ من الخذلانِ والعتاب.. 

سحبَ بصرهِ إلى كافةِ القاعةِ ولم ينظر إليها، رسمَ قناعًا باردًا فوق ملامحه،  

وبدأ يشرحُ بطريقتهِ السلسة كعادتهِ ولكن ليس ككلِّ مرَّة، روحٌ غائبةٌ وملامحَ شاحبة، حاول الابتعادَ بنظرهِ عنها طيلةِ المحاضرةِ إلى أن انتهى وبدأت الطالباتُ بالتوجُّهِ إليهِ لمناقشتهِ ببعضِ النقاط، ظلَّت كما هي..ربتت خديجة على ذراعها: 

-هتفضلي قاعدة كدا..نظرت إليها بشرودٍ وتمتمت:

-أااه، توقَّفت خديجة تسحبُ كفَّها:

-ياله حبيبتي، قولتلك بلاش تحضري بس إنتِ اللي أصرِّيتي..

-كان لازم أحضر ياخديجة، لازم أتعوِّد، هفضل لحدِّ إمتى هربانة اللي حصل حصل..قالتها والألمُ يحرقُ ضلوعها..رفعت ذراعها تساعدها على الوقوف: 

-طب ياله حبيبتي الكلِّ بيبص علينا، ياله علشان كدا بيكون ضعف ليكي.. 


نهضت بتخبُّطٍ متحرِّكةٍ بروحها الضائعة، سارت بخطواتٍ واهنةٍ إلى أن وصلت إلى وقوفه..اعتذرَ وهمَّ بالمغادرة: 

-بعد إذنكم ..قالها وتحرَّكَ إليها، اقتربَ منها وتوقَّفَ أمامها: 

-عاملة إيه يابنتِ عمتي؟.. 

-كويسة..أجابتهُ بشفتينِ مرتجفتين..اقتربَ منهما بعضُ الطالباتِ ينظرن إلى توقفُهما بأعينٍ متسائلةٍ 

ليستمعوا الى حديثه:

-لو احتجتي حاجة أكيد ابنِ خالك موجود..شهقةٌ من بعضِ الفتياتِ يطالعوهما، تسائلت إحداهنَّ:

-إيلين دكتور آدم قريبك ومخبية..رفرفت بأهدابها الكثيفة، تطالعهُ بأسفٍ على مانطقَ به أمام الطالبات، سحبَ كفَّها بعدما شاهدَ دموعها المتحجِّرة تحتَ جفنيها قائلًا:

-تعالي أوصَّلك في طريقي..تحرَّكت بهدوءٍ بجوارهِ بعدما فهمت لعبته، لقد كشفَ قرابتهما أمامَ الطلبة حتى يفعلُ ما يحلو له..وصلت إلى سيارتهِ وتوقَّفت متمتمةً بخفوت:

-مش مسموح لك تلمسني بعد كدا ولو مفكَّر إنِّي مشيت معاك برضايَ تبقى غلطان، أنا مشيت مضطرة يادكتور..


قالتها والخذلانُ يتفجَّرُ من عينيها كرصاصاتٍ مصوَّبةٍ إليه.. 

فتحَ بابَ السيارةِ يشيرُ إليها بعينيهِ ثمَّ أردف:

-اركبي، بدل ماأقول للكلِّ قرابتنا الأهم..

خطت إليهِ حتى لم يفصلَ بينهما سوى خطوةً ورفعت سبَّابتها تشيرُ إليه بتهديد:

-اسمعني كويس يادكتور، أنا مابتهدِّدش، وهقول حقيقة جوازنا، أنا مش طيقاك أصلًا، وأنا لو مكانك أتكسف، إزاي ليك عين توقف قدامي وتتبجَّح، إيه نسيت إنَّك خاين.. 


جذبها بقوَّةٍ لترتطمَ بصدرهِ في حالةٍ من الذهولِ أصابتها تتلفَّتُ حولها بخوف، انحنى يهمسُ بجوارِ أذنها ولم يكترث لرجفةِ جسدها:

-بس لمَّا كنتي بين إيديَّا محستشِ بكدا، احمدي ربنا إنِّنا في الجامعة، متفكَّريش ورقة الطلاق هترحمك منِّي، بالعكس صعَّبتيها أكتر وأكتر ياإيلين آدم الرفاعي، اقعدي ردِّدي الاسم دا علشان مش هتخلَّى عنُّه..

توسَّعت حدقتها وانحبست أنفاسها داخلَ صدرها بعدما طغى برائحتهِ الرجوليةِ عليها، حتى تسلَّلَ إليها شعورُ استنشاقِ رائحتهِ أكثر وأكثر.. 


تراجعَ بعدما استمعَ لإحدهن: 

-إيلين!!..ابتعدت بجسدٍ ينتفض، وكأنَّهُ كان يحاوطها بدفءِ ذراعيه، تحرَّكت بخطواتٍ واهنة، وعيناها تدفعُ الدمعَ بالدمع، ووجهها الذي سطرَ الحزنَ ملامحه..

فتحت بابَ سيارةِ رؤى برعشةِ يديها، ثمَّ أردفت بتقطُّعٍ وشهقاتٍ مرتفعة:

-رؤى ابعديني عن هنا بسرعة، بكاءًا  مرتفعًا حتى شعرت رؤى أنَّها أصيبت الجنون..ظلَّت تتحرَّكُ بها إلى أن وصلت مكانًا هادئًا على النيل، لتتوقَّفَ بالسيارة، استدارت تلقي نفسها بأحضانها وتبكي بصوت مرتفع متمتة بتقطع

"هموت ، انا هموت يارؤى، آدم بيقتلني بكل حاجة، لا بعده مريحني ولا قربه مريحني 

ربتت على ظهرها وحاولت تهدئتها: 

-طب اهدي حبيبتي كلِّ حاجة وليها حل، حاولت أفهِّمك ياإيلين إنِّك مش هتقدري تعيشي بعيد عنُّه.. 

هزَّت رأسها تضربُ على صدرها بقوَّة:

-لازم أحرق دا، ليه لسة مصر يحبُّه بعد اللي عمله ليه يارؤى… 

آااااااه صرخت بها تضربُ على صدرها بقوَّة، حاولت رؤى أن تخفِّفَ من آلامها ولكن كيف لقلبٍ أن يهدأ من احتراقِ حبيبه.. 


عندَ يزن:

خرجَ من منزلهِ وهو يُخرجُ دراجتهِ البخارية، استمعَ إلى صوتِ مها خلفه: 

-يزن أنا كلِّمت طارق وقالِّي هيجي من السفر بكرة وكلُّه ينتهي، ارتدى خوذتهِ يهزُّ رأسهِ ثمَّ قامَ بتشغيلِ محرِّكِ الدراجة: 

-لمَّا يجي هقولِّك تقوليلُه إيه، لازم أمشي دلوقتي عندي شغل..اقتربت من الدراجةِ ووضعت أناملها على كفِّهِ الذي يتشبثُ بالدراجة: 

-إنتَ مش اتفقت معايا إنَّك هتسيب الشركة، ليه رايح هناك، بتضحك عليَّا.. 


ابتسمَ يسحبُ كفِّهِ ثمَّ رفعهُ فوق رأسها يغازلها بعينيه:

-إنتِ أمرتي يامها، ولازم أعمل اللي طلبتيه، هعدِّي أجيب حاجتي، وأعدي على عمِّي إبراهيم علشان نتحاسب على إيرادات الورشة وأشوف الدنيا.. 


اقتربت منهُ حدَّ الالتصاقِ تحتضنُ ذراعه:

-طيب مش هتعزمني على الغدا، أو نخرج نروح السينما.. 

حدجها بنظرةٍ مميتةٍ ثمَّ أردف: 

-عايزة تخرجي معايا وإنتِ لسة لابسة دبلة غيري، ليه حدِّ قالِّك عليَّا إنِّي مش راجل وقليل الأصل..وبعدين كنَّا رحنا سينما قبلِ كدا علشان نروح دلوقتي.. 

قالها وقامَ بتشغيلِ دراجتهِ وتحرَّكَ سريعًا..استمعت إلى حوارهما إيمان فهرولت سريعًا ترفعُ هاتفها: 

-دكتور كريم إيه اللي يزن ناوي عليه، وإياك تضحك عليَّا، أنا مش عيِّلة، أخويا بيغرَّق نفسه بالانتقام.. 

نهضَ من مكانهِ مبتعدًا عن أصدقائه:

-مش فاهم قصدك؟..بكت بالهاتف: 

-يزن بقى متوحِّش وأنا مستحيل أقعد أتفرَّج عليه، علشان خاطري ياكريم فوَّق يزن قبلِ مايخسر نفسه، لو فعلًا صاحبه وبتحبُّه فوَّقه.. 

-طيب ممكن تهدي وتقوليلي إيه اللي حصل؟..صرخت بالهاتف: 

-بقولَّك أخويا بيخسر نفسه، قالتها وأغلقت الهاتفَ تجلسُ على الأرضِ تبكي بصوتٍ مرتفعٍ تتمتم:

-ليه يايزن، ليه تعمل في نفسك كدا.. 


عندَ راجح: 

-البنت لسة محبوسة ياباشا، الواد الظابط دا شخصيُّته صعبة، معرفشِ ليه عمل كدا، بس وأنا بتجسِّس كدا، عرفت إنِّ جوازه بيها إجباري، وكمان كان هيتجوِّز بنت قريبته والبنت دي ضربت نفسها بالنار..

هبَّ من مكانهِ وتساءلَ بفحيح:

-هوَّ فين دلوقتي؟.. 

هزَّ رأسهِ بالنفي قائلًا: 

-منعرفشِ ياباشا، محدِّش بيعرفلُه اتجاه سير..

أشارَ إليهِ بغضب:

-عايزك تجبلي قراره، والبتِّ اللي كان عايز يتجوِّزها دي موِّتوها وارموها قدَّامه، علشان يعرف إزاي يتجوِّز على بنتِ راجح الشافعي، ولو هوَّ لحمه مر أنا لحمي علقم، استنى مني إشارة ..قالها وأشار إليه بالخروج 

-كدا انت لسة متعرفش انك ابن جمال، تمام يابن جمال وعلى الموعد نلتقي 


عندَ إسحاق فتحَ بابَ شقةٍ صغيرةٍ وأشارَ إليها بالدخول ..دلفت بساقينِِ مرتعشتينِ تردفُ بتقطُّع:

إسحاق إنتَ جايبني هنا علشان تموِّتني، هتموِّت أمَّك ياإسحاق!.. 

اتَّجهَ إلى مقعدٍ قديمٍ والغبارُ يملأه، ثمَّ قامَ بمسحهِ بمحرمتهِ وجلسَ عليهِ يضعُ ساقًا فوقَ الأخرى: 

-دا بيتِك ياأحلام هانم إيه نستيه، بيت أبو أحلام هانم اللي اتربِّت فيه، هتعيشي فيه بعد كدا.. 

اندفعت إليه  وصرخت بوجهه:

-إنتَ شكلك اتجنِّنت يالا، إنتَ نسيت نفسك ولَّا إيه، دا أنا..نفث سيجارتهِ يهزُّ رأسهِ يشيرُ بيديه:

-أيوة كمِّلي إنتِ ايه..أه نسيت آسف ماهو حضرتِك تقولي للشيطان ارتاح وأنا أقعد مكانك..أخرجَ بعضَ الأوراقِ وألقاها على الأرضِ المتربة: 

-أوَّل ورقة طلاقِك من رجل الأعمال اللي أصغر منِّك بعشر سنين، تاني ورقة تنازلك عن كلِّ حقوقك له حتى بنتك، تالت ورقة ودي الأهم..


تنازلِك عن كلِّ ماأخدتيه منِّي ومن فاروق، وكمان نصيبك في أملاك بابا، نصبَ عودهِ وتوقَّفَ ورسمَ ابتسامةٍ ساخرةٍ بعدما تحوَّلَ وجهها للشحوبِ تهزُّ رأسها بالنفي: 

-مستحيل، أنا مش موافقة..اقتربَ منها وانحنى لمستواها:

-هوَّ أنا باخد رأيك ياأحلام هانم، كلِّ حاجة اتمضت واتكتبت باسمِ مين؟..ظلَّ يدورُ حولها حتى أرعبَ جسدها، ثمَّ انحنى يهمسُ بجوارِ أذنها: 

أرسلان فاروق الجارحي، أووووه أوبس مدام أحلام كلِّ ثروتك اللي بالمليارات اتكتبت باسمِ أرسلان الجارحي، علشان إيه ياترى ياإسحاق، تراجعَ إلى المقعدِ وجلسَ يضعُ ساقًا فوقَ الأخرى مشبكًا أناملهِ يطالعها بنظرةٍ مستحقرةٍ واسترسل:

-كان نفسي أموِّتك وأريح الناس من شرِّك، بس أعمل إيه اسمك متنيِّل جنبِ اسمي في شهادةِ الميلاد، أشارَ بسبباتهِ عليها مستخِّفًا:

-تخيَّلي اللي رحمك منِّي وعدي لفاروق، وكمان اسمي اللي مرتبط بواحدة زيك، وأنا مضطر أعصر على نفسي مزرعة ليمون وأتقبِّلك قدَّام الناس، هبَّ من مكانهِ وتحوَّلت ملامحهِ حتى نفرت عروقهِ مقتربًا منها متناسيًا أنَّها والدته: 

-فرصك خلصت من زمان، وأنا اللي أستاهل العذاب دا كلُّه، بس وعد من إسحاق الجارحي لأدفَّعك القديم والجديد ياأحلام هانم..

تحرَّكَ خطوةً يشيرُ إلى الشقة: 

-هتعيشي هنا ولولا خايف من الفضايح كنت رميتك في أقلِّ دار مسنين، بس ياله كلُّه علشان خاطر أرسلان، أمالَ بجسدهِ وغرزَ عينيهِ بمقلتيها: 

-لو أرسلان مات كلِّ أملاكه هتروح للجمعيات الخيرية، وخُدي أكبر قلم لأحلام هانم، فاروق اتنازل عن كلِّ أملاكه لأرسلان، ومش بس هوَّ وأنا كمان بس بعد طبعًا ماكنت كتبت حقِّ ابني اللي حاولتي تموِّتيه، أوعي تفتكري لعبتك إنتِ ودينا دخلت عليَّا، أنا إسحاق الجارحي لو نسيتي أفكَّرك يا هانم..أي أذى هتحاولي توصَّليه لأرسلان، الله في سماه هدفنك حية، ماهو إنتِ عملتيها قبلِ كدا، وابنِ البطة عوَّام ولَّا إيه ياستِّ أحلام.. 


تراجعت للخلفِ تبكي وحاولت استعطافه:

-بلاش ياإسحاق مقدرشِ أعيش هنا.. 

قهقهاتٌ مرتفعةٌ يضربُ كفَّيهِ ببعضهما: 

-يااااه أخيرًا دموعك نزلت..أشارَ على الشقةِ بالكامل يطالعها بنظرات غامضة واردف بنبرة جافة: 

-مفيش خدامة هتيجي غير يوم واحد بس، ودا علشان صلة الرحم مش أكتر، عايزة حاجات، السوق تحتِ البيت تنزلي تشتري حاجاتك بنفسك، في آخرِ الشارع عربية فول وطعمية جرَّبيها هتنفع صحتِك وتخلِّيكي تعرفي تنضَّفي الشقة حلو..

توسَّعت عيناها بذعرٍ تنظرُ إلى المكانِ لتشهقَ قائلة:

-لا ياإسحاق مش هتعمل في أمَّك كدا، أنا معرفشِ أعمل حاجة.. 

ارتدى نظارتهِ وجذبَ مفاتيحَ سيارتهِ وأجابها متهكِّمًا:

-اتعلمي ياأحلام هانم، دي كانت حياتك في الأوَّل والمفروض تشكريني علشان هخلِّيكي تموتي هنا..

فتحَ بابَ الشقةِ واستدارَ برأسهِ إليها: 

-متحاوليش تهربي علشان أنا مش عبيط، ياله مش عايز أعطَّلك علشان تلحقي تخلَّصي اللي وراكي..تشاو يامدام ..قالها وأغلقَ البابَ لتهرولَ إلى البابِ وتفتحهُ تصرخُ به:

-مش هتقدر تسيبني هنا وتمشي ياإسحاق سمعتني..لو سمعت صوتِك هبعت ظابط يحبسِك وأكيد عارفة ليه، وبدل المرَّة مرتين ..ادخلي واقفلي الباب وتأكدي خروجك من الباب دا لمكانين بس السجن والقبر..قالها وتحرَّكَ سريعًا..




القسم الثاني من الفصل الخامس عشر 

بعدَ أسبوعٍ هادئٍ على بعضِ أبطالنا، 

دلفَ يزن إلى الشركة وصعدَ إلى غرفةِ مكتبها، طرقَ على بابِ المكتبِ وفتحَ بعضه:

-ممكن أدخل ولَّا ألفِّ وأرجع ..

هزَّت رأسها تشيرُ بيديها: 

-أكيد مش قليلة ذوق ياباشمهندس، هتيجي وأرجَّعك..

خطا وهو يدسُّ كفَّيهِ بجيبِ بنطاله:

-عاملة إيه؟!

خلعت نظارتها الطبيَّة وأغلقت جهازها تستدعي السكرتارية: 

-قهوة الباشمهندس، وقهوتي.

-تحتِ أمرك ياأستاذة..تراجعت على المقعدِ قائلة:

-سمعاك، أكيد بدل جيت يبقى حاجة مرتبطة بأسهمك في الشركة.. 

ظلَّت عيناهُ متعلقةً لهيئتها، لا يعلم لماذا ارتجفَ قلبهِ من ملامحها الحزينة، أفاقَ على صوتها: 

-يزن!! ابتعدَ عن ناظريها وكأنَّ نطقها لاسمهِ بتلك الطريقةِ أخرجت ذاك النبضَ الذي دُفن..

-إنتَ جاي علشان تقعد وتسكت، أنا عندي شغل.

وضعٌ بغيضٌ شعرَ به وهو يستمعُ إلى نبرتها الحزينة.. 

-أنا آسف مكنشِ قصدي أزعَّلك منِّي، أو..

أشارت بيدها وتوقَّفت متَّجهةً إليه، جلست بمقابلتهِ تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى ونظراتها تحاصره:

-وياترى أسفك دا أنا المفروض أقبله، لا ياباشمهندس، مش من حقِّي تتأسفلي، ممكن أكون غلطت لأنِّي اعتمدت على الشخصِ الغلط.. 

-رحيل..أمالت تنظرُ إلى مقلتيه: 

-أستاذة رحيل ياباشمهندس، أستاذة رحيل اللي رمتها أسبوع وهيَّ كانت في أمسِّ الحاجة، دلوقتي جيِّتك مالهاش داعي..قاطعهم دلوفُ الساعي يضعُ مشروباتهم.. 


اصطدمَ بعينيهِا المحدَّقتينِ به قائلًا:

-الكلام دا ليَّا، رفعت قهوتها ترتشفُ بعضها ثمَّ أشارت على الغرفة:

-هوَّ فيه حدّ غيرك موجود في المكتب..

زمَّت شفتيها ومرَّت بعينيها على ملامحهِ المصدومة ثمَّ نطقت بصوتٍ هادئٍ كعمقِ البحر قائلة:

-نوَّرت الشركة ياباشهمندس..قاطعهم دلوفَ طارق كالأسدِ المفترس: 

-إيه اللي عملتيه دا، إنتِ اتجنِّنتي، إزاي تحذفيني من مجلسِ الإدارة، لا فوقي أنا طارق الشافعي محدِّش له يشيلني.. 


توقَّفت متَّجهةً إلى مكتبها إلَّا أنَّهُ عرقلَ تحرُّكها يطبقُ على ذراعها بقوَّة:

-لمَّا أكلِّمك توقفي..دفعتهُ وأشارت بكفِّها تهدرُ بتهديد:

-احترم نفسك، إيه نسيت إنَّك بعت أسهم من بتوعك، مبقاش ليك كلمة، رمقت يزن قائلة:

-اتساويت بالباشهمندس يزن، أنتوا الاتنين شوية الأسهم بتاعتكم مالهاش إنَّها تحضروا الاجتماعات.. 

ثارت جيوشُ غضبهِ واقتربَ كالمجنونِ إلَّا أنَّ يزن أوقفهُ بدفعهِ بعيدًا عنها: 

-مش عيب تمدِّ إيدك على بنت، ولَّا أبوك مش علَّمك العيب..

قست عيناهُ وهو يطبقُ على تلابيبه:

-إنتَ مين يالا علشان تمسكني كدا، حاولَ دفعهِ إلَّا أن يزن دفعهُ بقوَّةٍ حتى  هوى على الأرض..شهقةٌ خرجت من فمها محاولةً الفصلَ بينهما، ليرتجفَ جسدها بعد اقترابِ طارق منهُ وعيناهُ كالجمرتينِ الحارقتين:

-هموِّتك ياحيوان..توقَّفت أمامَ يزن واحتُجزت الدموع تحتَ أهدابها: 

-ابعد عنُّه علشان خاطري..ثمَّ استدارت إلى طارق:

-وإنتَ امشي اطلع برَّة بدل مااتصل بالأمنِ يطلَّعوك..

يطلَّعوا مين يابت، دي كلَّها أملاكي اتجنِّنتي ولَّا إيه..دارت معركةٌ عنيفةٌ بينهما لتتَّصلَ بالأمنِ لفضِّ الاشتباك مع دخولِ راجح ليتوقَّفَ بين يزن وطارق.. 

لطمةٌ قويةٌ على وجهِ يزن حينما وجدهُ يكيلُ الضربات إلى طارق.. 

توقَّفَ متسمرًا يضعُ كفِّه على خدِّه..دفعهُ راجح يشيرُ إلى الأمن: 

-الواد ارموه للشرطة، قولوا اتهجِّم على صاحبها علشان السرقة وأنتو شاهدين ياله..

-عمُّو راجح إيه اللي بتقوله دا؟!..

-اخرسي أنا استحملت دلعك كتير، بالليل هكتب كتابك على طارق ودا آخر كلام ..أشارَ إلى طارق بالخروج: 

-روح جهِّز نفسك..اقتربَ منها: 

-إيه ناوية على إيه يابنتِ مالك بعد ماأبوكي عجِّز ..اسمعيني علشان مبقاش فيه وقت للدلع أنا اتكلِّمت مع مالك وبالليل كتب الكتاب ومبقاش ليكي مكان هنا ..ثمَّ استدارَ يصرخُ بالأمن: 

-الواد دا لسة واقف هنا ليه، صرخَ بها بقوَّة..رفعَ حاجبهِ بترفُّعٍ متظاهرًا بالقوَّة:

-بالراحة على نفسك ياباشا، سرقة إيه ياراجل، مش لمَّا أشوف ابنك راجل علشان أسرقه، دفعَ رجلَ الأمنِ واقتربَ من راجح وحدجهُ بنظراتٍ مشمئزة:

-أنا قدرك الحلو بس حضرتك مش واخد بالك، رفعَ نظرهِ إلى رحيل التي تكوَّرت الدموعُ بعينيها ثمَّ اتَّجهَ إلى راجح: 

-هدفَّعك تمن القلمين غاليين أوي، ووعد من يزن السوهاجي..قالها وهو يدفعُ رجلَ الأمنِ وتحرَّكَ للخارجِ متمتمًا: اللي هيقرَّب منِّي هموته..

التفتَ راجح إلى رحيل:

-شوفتي مصايبك، علشان تروحي تلملمي من الشوارع...توقَّفَ يزن بعدما استمعَ إلى حديثهِ واستدارَ إليهِ بكاملِ جسده:

-الحق مش عليك، الحق على أبويا اللي ربَّاني أحترم الناس الواطية...قالها وتحرَّكَ مغادرًا المكانَ بالكامل.. 

رفعَ هاتفهِ وقامَ بمهاتفةِ مها:

-عملتي إيه يامها...كانت متوقِّفةً أمامَ خزانتها تقيسُ بعض الفساتين..

-خلاص الراجل اللي اشترى الأسهم هيقابلنا بعد نصِّ ساعة علشان يسلمهالك ..هقابلك فين؟.  

توقَّفَ وابتسامةُ انتصارٍ على وجهه:

-برافو مها، بعد مااستلم الأسهم ليكي غدا في أيِّ مكان تطلبيه، وكمان هنروح سينما.. 

توقَّفت تدورُ حولَ نفسها: 

-بجد يايزن..نظرَ أمامهِ بجمودٍ مردِّدًا: 

-بجد ياروح يزن.. 


عندَ أرسلان: 

-سؤال واحد وعايز إجابته، سبتَك وقت كافي، مدام فريدة السيوفي كانت عايزة إيه وليه بتبعدني عنهم؟.. 

أشارَ إليهِ بالمغادرة:

-أرسلان بعدين صدَّقني أنا تعبان ومش قادر أتكلم..

جذبَ المقعدَ وجلسَ بجواره: 

-عمُّو إنتَ مخبي عليَّا إيه، انا مش هقدر أبعد عن إلياس حاولت بس مقدرتش.. 

رفعَ رأسهِ ينظرُ إليهِ بصمت: 

-حتى لو خيَّرتك بيني وبينه؟..

صدمهُ حديثهِ وكأنَّهُ ألقاهُ برصاصةٍ بصدرهِ ليردف:

-للدرجة دي وصلت إنَّك تُحط نفسك في خانة مقابلة لحد!.. 

-أرسلان أنا وإلياس واختار إنتَ..نهضَ من مكانهِ يهزُّ رأسهِ بجمودٍ من عينيهِ ثمَّ استدارَ يخطو كالطفل الذي يتعلمُ السير، ماذا يحدث، هل جُنَّ إسحاق بما يقوله، لم يفعلها طيلة حياته..

-أرسلان ...ردَّدها إسحاق ليتوقَّفَ بملامح جامدةٍ وأعينٍ أظلمت بالأسى..

نهضَ من مكانهِ واقتربَ منه يربتُ على ظهرهِ ولكنَّهُ ابتعدَ وكأنَّ كفِّهِ أشواكٌ تغرزُ بلحمه، استدار مغادرًا بخطواتٍ ناريةٍ تحرقُ قدميه ولم يعرف لماذا كلَّ ذلك من مشاعرهِ الممزوجةِ بالخوفِ والألم.. 


عندَ آدم وخاصةً بمعاملِ إحدى الفرق الطبية، حاوطَ الطلابُ جثةً وضِعت أمامهم ليقوموا بالتدريبِ عليها، بعد عدَّةِ فحوصاتٍ لبعضِ الحيواناتِ والطيورِ ليصلَ بهم نهايةَ المطاف إلى جثةِ انسان ..توقَّفت إيلين مترنحةً تشعرُ بألمٍ يغزو جسدها، وتقلُّبٍ بمعدتها.. 

توقَّفَ آدم بينهم وخاصةً بجوارِ إيلين التي حاولت الابتعادَ عنه، ولكنَّها لم تستطع، تسلَّلت رائحتهِ إلى رئتيها هدأت قليلًا ظلَّت متوقفةً بجواره، وداخلها شعورٌ بالاقترابِ منه، نفرت من نفسها على ذاك الشعور، بدأ يشرحُ إليهم كيف يتعاملونَ مع الفحصِ التشريحي، كانت تتابعه بصمت وألمًا بجسدها إلى أن شعرت بدورانٍ وغمامةٍ تدورُ بها ولكنَّها تماسكت، تنظرُ إلى يديهِ وهو يتعاملُ مع الجثة، تلاشت الرؤيةُ ولم تعد ترى يديه، تشبثت بذراعهِ تهمسُ اسمه، قفزَ قلبهِ من ضلوعهِ ورغمَ همسها الضعيف إلا أنَّهُ اخترق قلبه قبلَ أذنه، ليلتفتَ إليها سريعًا وهي تترنَّحُ وكادت أن تسقطَ لولا ذراعيهِ التي تلقفتها بلهفةٍ يردِّدُ اسمها بفزع: 

-إيلين..تراجعَ الطلابُ ظنَّا من خوفها من الجثة التي توضعُ أمامهم، رفعها وضمَّها إلى صدرهِ متحرِّكًا بها سريعًا من المعمل، إلى أن وصلَ إلى غرفةِ الكشف، ارتجفَ جسدهِ ولم يعد لديه القدرة للتماسك،  كلَّما تذكَّرَ همسها باسمه، أمسكَ يدها ليقيسَ ضغطها، ولكنَّهُ توقَّفَ يردِّدُ بلسانٍ ثقيل:

-حامل ..معقول!..هبَّ من مكانهِ سريعًا متَّجهًا إلى طبيبةِ النساءِ الموجودةِ بالكليةِ قبل إفاقتها.. 

قامت الطبيبةُ بالكشفِ عليها، ابتسمت له لأنَّها تعلمُ بزواجهِ منها:

-مبرووك يادوك، مبدئيًا فيه حمل، بس لازم شوية فحوصات علشان نتأكد أنُّه في مكانه السليم..

كانت نظراتهِ عليها، يفترسها بعينيه، بدأت تتململُ وترفرفُ بأهدابها.. اقتربَ منها بعدما أومأ للطبيبة،وحملها متَّجهًا بها للخارجِ وقلبهِ ينبضُ بعنفٍ من السعادةِ التي حاوطته..


بفيلَّا السيوفي: 

الجميعُ يلتفُّون حولَ طاولةِ العشاء، مسَّدَ إلياس على خصلاتِ غادة وابتسمَ قائلًا:

-عندي خبر حلو لدودي..ظلَّت عيناهُ متعلقةً بأعينِ أختهِ مرَّةً وبأعينِ إسلام مرَّة ثمَّ هتف:

-غادة هتكوني أجمل عمِّتو في الدنيا، وإسلام عمُّو إسلام الحنين

سقطت الشوكةُ من يدِ فريدة ثمَّ رفعت عينيها التي تزيَّنت بطبقةٍ كرستالية:

-ميرال حامل!..قالتها وهي تستديرُ تنظرُ إلى ميرال التي نزلت بعينيها إلى طعامها خجلًا..حمحمَ إلياس وأومأ برأسه: 

-أيوة إن شاءالله ربنا يتمِّم حملها على خير وتجبلنا مصطفى الصغير، مش كدا يابابا..هنا أطبقت على جفنيها لتنسابَ عبرةً حارقةً لوجنتيها، حتى ارتجفت شفتيها تهمس: 

-هكون نانا..ابتلعَ مصطفى غصَّةً مريرةً بطعمِ العلقمِ من حالتها ليردفَ بصوتٍ خافتٍ كاد أن يصلَ للجميع: 

-مبرووك ياحبيبي، يتربَّى في عزَّك وبين إيدك..بسطَ كفِّهِ إلى فريدة التي شحبَ وجهها بالكامل وضمَّهُ ينظرُ لعينيها الباكية:

-مبرووك يانانا ...هتكوني أجمل نانا في الدنيا..ابتسامةٌ حزينةٌ لتهمسَ له: 

-يوسف ..يوسف هيكون أب يامصطفى باسمِ مش اسمه..هبَّ من مكانهِ وانحنى يحاوطُ جسدها: 

-تعالي معايا عايزك في موضوع مهم..

اتَّجهَ إلياس إلى ميرال: 

-مامتك مالها، رجعت تاني تقول كلام مش مفهوم ليه؟.. 

-إلياس ..تمتمت بها غادة بلسانٍ ثقيلٍ  ليلتفتَ إليها يومئُ لها برأسهِ منتظرًا حديثها:

-أيوة حبيبتي عايزة تقولي حاجة.. 

سمِّي البيبي يوسف، ابتسمَ بحنانٍ عليها ثمَّ رفع كفَّها يقبِّلهُ وأردفَ مازحًا:

-أوعي يابتِّ تكوني بتحبِّي حد اسمه يوسف ..ضمَّت ذراعهِ تدفنُ رأسها به:

-بحبُّه أوي أوي..

-نعم ياختي، متفكَّريش علشان إنِّك تعبانة هسكت لغلطك.. 

بترَ حديثهم إسلام وهو يهتفُ بسعادةٍ مرسومةٍ بإتقان:

-ألف مبروووك يا أبو يوسف، بدل غادة أمرت يبقى خلاص، لازم نسمِّيه يوسف، وعلى فكرة يوسف دا اسمِ طفل كان في الدار وجم ناس اتبنوه، وكان حلو أوي وغادة كانت متعلَّقة بيه مش كدا يادودي...أومأت برأسها مع بكاءِ عيناها.. 

ظلَّ يدقِّقُ النظرَ بينهما إلى أن توقَّفت ميرال: 

-هطلع أشوف ماما وأقعد أشتغل شوية، بعد إذنكم..

-ميرال اتصلي وخدي أجازة لحد الولادة علشان ماترهقيش نفسك

رمقتها بنظرات صامته، تعشقه حد الجنون ولكنه متملك حد القسوة، لا تنكر أنه أهداها حياة أبدية بالعشق والحنان، ولكنه يسرقها بتحكمه، ويقتل أحلامها التي تسعى تحقيقها، كيف وعدها بالسعادة، وهو يخنقها بتحكماته، تنهيدة مرتجفة افلتتها قائلة بخفوت

-مقدرش اسيب شغلي ياإلياس، ومتحاولش تقنعني..تمتمت بها وغادرت


عند رحيل خرجت من الشركة، وجدت أحدهم يقف أمامها

-استاذة رحيل الباشا قال لازم نوصلك لحد البيت، لو سمحتي اتفضلي على عربيتك ..توقفت تطالعه بذهول، فهدرت به غاضبة:


-انت اتجننت ..أشار إلى سيارتها 

-تحركي لو سمحتي بلاش اخد موقف انا عبد المأمور ..تحركت بأنفاس مرتفعة إلى أن فتحت باب السيارة، ليجذبها أحدهم قائلًا:

اربطي الحزام بسرعة، اومأت مبتسمة عندما وجدته بمكان القيادة، لحظات وهرول بالسيارة بسرعة جنونية مما جعل الاخرون يصرخون وهما يتجهون سريعًا إلى السيارة 

نظرت للخلف تنظر إليهم والسعادة لمعت بعيناها تضع كفوفها على صدرها:

-يااااه كابوس، شكرا بجد ..ظل يسير بالسيارة إلى أن توقف أمام أحد العقارات نظرت تقرأ مايدون فوق اللوحة الإلكترونية 

-ايه دا انت جايبني هنا ليه، أغلق السيارة وتوجه بجسده إليها 

-مفيش حل غيره، بس لو رافضة انسي أنا بحاول اساعدك ..نظرت إليه ثم إلى اللوحة واغمضت عيناها ولا تشعر بتلك الدمعة التي تدحرجت على وجنتيها، ليقترب يزيلها بابهامه

-خلاص انسي ولا كأننا جينا هنا، انا حاولت اساعدك وبس 


عند إلياس 

تحركت ميرال بعدما ألقت حديثها الذي اغضبه، ورغم ذلك ظلَّت نظراتهِ تتابعها إلى أن اختفت من أمامه، شعرَ بأناملِ غادة على ذراعه:

-إلياس ..التفتَ إليها ورسمَ ابتسامة:

-أيوة حبيبتي..وضعت رأسها على كتفهِ قائلة:

-ليه مزعَّل ميرال..رمقها من فوقِ كتفهِ ثمَّ حملَ كوبهِ يرتشفُ منه: 

-غادة من إمتى بتدَّخلي في حاجات خاصة، حياتي أنا وميرال خاصة بينا، نهضَ بعدما وضعَ فنجانهِ ينظرُ إلى إسلام الذي يتفحَّصُ هاتفه:

-عايزك في المكتب..

أومأ له فتحرَّكَ متَّجهًا إلى مكتبه، اقتربَ من غادة:

-حبيبتي متزعليش منُّه، هو عنده حق مينفعشِ ندَّخل في حياته الخاصة.. 

-أغمضت عينيها حتى لا تذرفَ دموعها تهزُّ رأسها..نهضَ وانحنى يقبُّلُ رأسها:

-قومي ارتاحي في أوضتك، وسيبي كلِّ حاجة ماشية زي ماهي، إلياس بيحبِّ ميرال متخافيش مش هيئذيها مهما حصل، وتأكدي عمره ماهيتخلَّى عنَّنا حتى بعد مايعرف الحقيقة، المهمِّ ياغادة إلياس يفضل أخوكي الكبير اللي له احترامه، أوعي تفكَّري علشان مطلعشِ أخونا يبقى نقلِّل من احترامه، أنا عن نفسي هيفضل أخويا الكبير لحدِّ ماأموت، ماشي حبيبتي.. 

أومأت مبتسمةً ثمَّ تساءلت: 

-ماما فريدة خلاص مش هتتطلَّق من بابا هي وعدتني مش هتسبنا..

نصبَ عودهِ ومسَّدَ على خصلاتها قائلًا:

-أكيد مش هتقدر تستغنى عننا، نهضت تتشبثُ بكفَّه:

-حقيقي أرسلان بيكون أخو إلياس الكلام دا حقيقي؟..

حاوطَ جسدها وتحرَّكَ معها إلى الأعلى: 

-دا موضوع كبير بس مينفعشِ نتكلِّم فيه، أوعديني متقوليش لحدِّ حاجة مهما حصل، عايزك تنسي اللي سمعتيه.. 

قبَّلتهُ على وجنته:

-أوعدك مش هقول لأيِّ مخلوق، أنا وعدت بابا كمان، بس برضو مش قادرة أتقبَّل إن إلياس مش أخونا.. 

تراجعَ خطوةً للخلفِ يهزُّ رأسهِ مستاءً وأجابها بنبرةٍ حادَّة:

-إلياس مصطفى السيوفي ياغادة، ياله بقى اطلعي أوضتك، عايز أنزل لأخوكي..

وصلَ بعد قليلٍ إلى غرفةِ المكتبِ وجدهُ متوقِّفًا أمامَ النافذةِ ينظرُ للخارج، وحديث ميرال يصم اذنه ..حمحمَ مقتربًا منه، استدارَ يشيرُ إليهِ بالجلوس، ثمَّ توجًَّهَ إلى مقعدهِ وجلسَ متراجعًا بظهرهِ وعينيهِ تخترقه:

-سامعك، قولِّي مخبِّي عليَّا إيه؟.. 

ضيَّقَ عينيهِ ورسمَ استنكارًا لعدمِ معرفته:

-مش فاهم حضرتك ياأبيه؟..اقتربَ مستندًا على المكتبِ وحدجهُ بنظرة: 

-إسلام معنديش طولة بال، ليه سبتِ البيت وليه غادة وصلت للحالة اللي كانت عليها قبلِ ماأسافر؟،،

اقتربَ مثلهِ وطالعهُ مجيبًا:

-أنا مسبتشِ البيت أنا كنت في تدريب عملي أسبوع مع فريقي، وكمان كان عندي تدريب في النهائي اللي حضرتك نسيته، أمَّا غادة عادي تكون حالتها متقلِّبة ياحضرةِ الظابط نسيت إنَّها بنوتة وعندها تغيُرات يعني ممكن حالة عاطفية، ممكن حالة صداقة فاشلة، أو حالة نفسية عادية.. 


تراجعَ ينظرُ إليهِ ساخرًا، وردَّدَ حديثهِ مستهزئًا:

-هعمل مصدَّق ياإسلام، بس لو عرفت غير كدا هزعل منَّك، ياله قوم شوف مذاكرتك..

نهضَ من مكانهِ وتحرَّكَ للخارجِ دون تعقيب..

ظلَّ لبعضِ الوقتِ يراجعُ على بعضِ أعماله، تراجعَ ينقرُ هامسًا:

-الواد دا فين بقاله فترة مش باين، رفعَ هاتفهِ وحاولَ الوصولَ إليهِ ولكن كالعادة الهاتفَ الذي تريدُ الوصولَ إليهِ ربما يكون مغلقًا..اتَّجهَ مرَّةً أخرى: 

-أهلًا بحضرتك ياأفندم..معاك إلياس السيوفي.. 

حمحمَ إسحاق: عارفك أكيد ياحضرةِ الظابط..توقَّفَ متراجعًا إلى الشرفة:

-بسأل عن أرسلان بقاله فترة مش باين.. 

-أرسلان برَّة في عمل، مضغوط في الشغل الأيام دي، لمَّا يفضى أكيد هيكلِّمك..

هزَّ رأسهِ متفهمًا:

-لا أنا كنت بطَّمن عليه، شكرًا لحضرتَك، وآسف لمعاليك.. 

-ولا يهمَّك، إن شاءالله يخلَّص شغله وأخلِّيه يتواصل معاك...

بعدَ فترةٍ صعدَ إلى غرفتهِ وجدها تستندُ على الفراشِ وكأنَّها تقرأ شيئًا، استمعَ إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة..أذنَ بالدخول، دلفت الخادمة بكوبٍ من اللبن..أشارَ إليها:

-حُطيه عند المدام ...اقتربت لتضعه، ولكنَّها أوقفتها:

-لا خديه مش هشربه، أنا مبحبِّش اللبن. 

أشارَ للخادمة: 

-حُطيه واطلعي...أومأت له:

-تؤمر بحاجة تانية؟..

-شكرًا..خرجت الخادمة، اقتربَ من جلوسها: 

-ميرال اشربي اللبن وهوَّ سخن، مفيد للحامل، وكمان ..قاطعتهُ بعدما ألقت مابيديها واتَّجهت بأنظارها إليه: 

-بس أنا مبحبوش، إيه هتغصب عليَّا في دي كمان..

نزعَ تيشرته، واتَّجهَ إلى غرفةِ الملابسِ هاتفًا:

-مش عايز دلع إنتِ مش طفلة علشان أغصب عليكي، اللبن يتشرِب صحتِك أهم ..

تعاظمَ الغضبُ بداخلها من ردوده، وهاجت كوحشٍ كاسر:

-بقولَّك إيه ياإلياس متخلِّنيش أكره حملي سيبني براحتي، عايزني أحبِّ حاجة وأنا مبحبهاش..ارتدى ثيابهِ واقتربَ منها: 

-إيه الهبل اللي بتقوليه دا، علشان خايف عليكي يبقى أخلَّيكي تكرهيه..

فوقي من حركاتِ العيال دي، مش كلِّ شوية هقولِّك إنتِ مش صغيرة، بعدِ كام شهر هيكون عندك طفل.. 

أشارَ بعينيهِ على كوبِ اللبن:

-دا أهمِّ حاجة في يومك، وعلى ماأظنّ مش هيموِّتك..

شعرت بنيرانٍ هوجاء بداخلها لتدفعَ الكوبَ بعنفٍ حتى هوى على الأرضية، بعدما تحوَّلَ غضبها لنيرانٍ حارقةٍ وهدرت بعنف: 

-أنا تعبت من حياةِ الأوامر بتعتك دي، مش علشان بحبَّك أستحمل أوامرك، لا فوق ياحضرةِ الظابط، حياتي وأنا حرَّة فيها..قالتها ونهضت من مكانها بعنفوان، وهمَّت بالمغادرةِ ولكنَّهُ أطبقَ على ذراعها بقوَّةٍ واشتبكت عيناهُ الناريةِ بعينيها:

-إيه اللي عملتيه دا..نزعت عينيها مبتعدةً عن أعينهِ الصقرية التي تحرقها ..ضغطَ بقوةٍ على ذراعيها حتى شعرت بآلامها وهتفَ يشدِّدُ على كلِّ حرفٍ ينطقهُ مع نظراتهِ القويَّة:

-مالكيش حياة لوحدك، حياتك هيَّ حياتي وبس، هتعيشي زي ماأنا عايز، بدل مابقلِّشِ منِّك وبتعامل معاكي بكلِّ ود ومحبة وواخدة حقِّك يبقى دي حياتك..

-حياتي!! هيَّ فين دي، كلِّ حاجة ضيَّعتها منِّي، مكان شغلي وحرمتني منُّه وأجبرتني على مكانِ تاني، لبسي كلُّه غيَّرته، خروج وأصحاب حرمتني منُّه، حتى التعبير عن رأيي في كتاباتي وحرمتني منه..اقتربت تغرزُ عيناها بمقلتيه:

-إنتَ موتني من يومِ مااتجوزتني ياإلياس، لغيت هويتي، رغم حاولت أتأقلم على عصبيتك، بس لحدِّ كدا وكفاية.. 

-يعني إيه...تساءلَ بها بجمودٍ بعدما تحرَّكَ مبتعدًا عنها: 

-يعني عايزة أرجع لحياتي ياإلياس، ابعد عنِّي مالكشِ دعوة بأيِّ حاجة، بدل مابدَّخلشِ بشغلك متدَّخلشِ بشغلي، مين 


-يبقى مفيش شغل ولا خروج ياميرال لحدِّ ماتولدي وبعد كدا هقرَّر أعمل إيه.. 

قالها ودلفَ إلى الغرفةِ الأخرى يصفعُ البابَ خلفهِ بقوَّة.. 


صدمها بردِّهِ العنيف، فنهضت متَّجهةً إليهِ بخطواتٍ مستاءة، دفعت البابَ ودلفت للداخلِ وجدتهُ يستعدُّ للنوم، توقَّفت تنظرُ إليهِ بذهول ..

-إيه جاية تكمِّلي خناق، أنا عايز أنام عندي شغل، لو جاية تتخانقي هطردك برَّة الجناح خالص وتروحي أوضتك، والمرة دي مش هرحمك سمعتيني، متفكريش علشان بحبك هعدي غلطك

في لحظة احرق قلبي حتى لو اضطريت انزعه من صدري


تأرجحت عيناها بالألمِ من قسوةِ حديثه، تحاورهُ بسيلٍ متدفقٍ من العتاب، ظلَّت بينهما حربُ النظراتِ التي تُدعى بالكبرياء، إلى أن استدارت وأغلقت الباب خلفها، كتمت دموعها تحتَ جفنيها، آااه  بكمِّ الألمِ الذي تشعرُ بهِ داخلَ صدره، من عادتهِ بعقابهِ كلَّما اختلفوا يلجأ إلى نفيها من حياته.. 


خطت مجبرةٌ إلى خارجِ الجناحِ متَّجهةً إلى غرفتها، دلفت تغلقُ البابَ خلفها، ثمَّ تحرَّكت إلى فراشها لتتمدَّدَ عليه تحتضنُ نفسها كالجنين.. 

مرَّت الليلةُ ثقيلةٌ على قلبها تنظرُ بالساعةِ مرَّةً والى البابِ مرَّةً أخرى ظنًّا أنَّهُ شعرَ بخروجها ولكن ابتسامةً حزينةً رسمتها على وجهها تهمسُ لنفسها:

-مش دا اللي حبيته ورخَّصتي نفسك بدل المرَّة عشرة اشربي وهيني نفسك وكرامتك كمان وكمان..

أتى صباحٌ جديدٌ محمَّلٌ بالأملِ للبعضِ والألمِ للبعض، ولكنَّهُ صباحٌ من عندِ اللهِ يرزقُ عبادهِ بما لا يعلمون.. 

خرجَ من الغرفةِ يبحثُ عنها، ثمَّ اتَّجهَ إلى حمامهِ ليخرجَ بعد قليلٍ بروتينهِ اليومي متَّجهًا للأسفلِ يبحثُ عنها بعينيهِ على طاولةِ الطعام..ألقى تحيةَ الصباحِ على الجميع ثمَّ جذبَ مقعدهِ للجلوسِ إلى أن قاطعتهُ فريدة: 

-ليه ميرال خرجت بدري على الشغل، وكمان من غير فطار، رفع عينيهِ يطالعها بذهولٍ ولم يشعر بسؤاله: 

-هيَّ خرجت بعد مامنعتها، توقَّفَ مصطفى عن تناولِ الطعام: 

-منعتها عن شغلها ليه..دفعَ المقعدَ للخلفِ واتَّجهَ إلى أشيائهِ متحرِّكًا للخارج ..وصلَ إلى السيارة: 

-مين خرج ورا المدام؟.. 

-الحراسة بالكامل ياباشا زي ما حضرتك أمرت..استقلَّ سيارتهِ وحاولَ مهاتفتها ولكنَّها لم تجب عليه، ألقت الهاتفَ بالسيارةِ تتمتم: 

-شوف مين هيرد عليك..

-أيوة ياباشا ...قالها أحدُ حراستها.. 

-لفِّ وارجع..ولو المدام نزلت من العربية هفضِّي مسدسي في دماغك.. 

-أوامرك ياباشا..كانت تتصفَّحُ الأخبارَ من الهاتفِ ولم تشعر بعودةِ السيارة، ضيَّقت عينيها بعدما رأت عدمَ عودتهِ بالاتصالِ مرَّةً أخرى..تنفَّست الصعداءَ تنظرُ من الخارج، نظرت من النافذة قائلة:

-هوَّ إنتَ رجعت ولَّا إيه..لم يُجب عليها وظلَّ يقودُ السيارةَ بعدما أشارَ إليه الرجل الذي يجاوره..جذبت ستارةَ السيارةِ وصاحت معنِّفةً إياه:

-أنا مش بكلِّمك، وقَّف العربية بقولَّك.. 


دقائقَ إلى أن توقَّفت السيارة، ليترجَّلَ منها الرجلينِ ينظرانِ لذاك الذي توقَّفَ بالطريقِ يستندُ على سيارته..أشارَ إليهم بالتحرُّك..نزلت تصيحُ إليهما إلى أن توقَّفت عن غضبها بعدما وجدتهُ أمامها..

فتحَ باب سيارتهِ يشيرُ إليها بالركوب، ثمَّ أخبرَ الحراسة: 

-ارجعوا على البيت، تحرَّكت إليهِ بصمتٍ ثمَّ استقلَّ السيارةَ بجوارها دون حديث...قطعت السيارةُ بعضَ الكيلو مترات، فاتَّجهت بنظرها تنظرُ إلى الطريقِ متسائلة:

-إنت واخدني فين؟..استمعَ إلى رنينِ هاتفه مجيبًا: 

-إنتَ فين يابني، بقالي فترة مش عارف أوصلك.. 

-إلياس عربيتك متراقبة، نظرَ بالمرآة، ثمَّ أردف: 

-تمام ..رفعَ هاتفه وقام بمهاتفة الحراسة: 

-هبعتلك لوكيشن، الحقوني عليه..

نظرت خلفها بعدما وجدت سرعتهِ ينظرُ إليها:

-نزِّلي راسك ...قالها وهو يغلقُ جميعَ  نوافذِ السيارة..

وآدي آخرة  اللي يجري ورا الستات،

إلياس فيه إيه ومين دول..توقَّفت السيارةُ بعدما توقفت إحدى السيارات أمامهِ على بعدِ بعضِ الأمتار، نظرَ للخلفِ وجدَ سيارتهِ محاصرةً من جميعِ الجهات ..انحنى يجذبُ سلاحه: 

-انزلي بالكرسي ياميرال مترفعيش راسك..


إلياس مين دول، أوعى يكون عمِّي؟.،

أغلقَ السيارةَ وطافَ بعينيهِ على السيارات التي حاصرتهما...

-إلياس..قالتها بتقطِّعٍ وهي تتشبثُ بذراعه، استدارَ برأسه: 

-متنزليش من العربية تمام، جذبَ سلاحه، فتشبَّثت به تهزُّ رأسها ببكاء:

-لا متسبنيش..أمالَ برأسهِ وهمسَ إليها بعض الكلماتِ ثمَّ ابتسمَ قائلًا:

-"بحبك"، ولازم أحاسبك على اللي عملتيه، بس نرجع بيتنا..

-لا والنبي متنزلش..

جفَّ حلقهِ من شدةِ خوفهِ عليها بعدما استمعَ إلى أحدهم:

-هتنزل ولا نفجَّر العربية بيكم..لم يستطع مقاومةِ النغزةِ التي أصابته، ليقتربَ يجذبَ رأسها ثمَّ طبعَ قبلةً على جبينها: 


.. ياله هنزل وإنتِ اتحرَّكي بالعربية لو بتحبِّيني زي مابتقولي..

-خليني أتكلِّم معاه ياإلياس أشوفه عايز منِّي إيه..

-ميرال قولت اتحرَّكي..

تساقطت الدموعُ من عينيها وأخرجت كلماتها ببكاء:

-مش هسيبك وأنا هنزلُّه..التفتَ إليها بعيونٍ تشعُّ بنارِ الانتقام: 


-ميرال ابني لو حصلُّه حاجة إنتِ هتكوني السبب، لازم تمشي وأنا هتصرَّف..ارتفعت شهقاتها تهزُّ رأسها بالنفي ..إلَّا أنُّهُ فتحَ بابَ السيارةِ يشيرُ بيديه: 

-نزلت أهو ابعدوا عن العربية، مراتي مالهاش ذنب...

ترجَّلَ راجح من سيارةٍ سوداء وحولهِ بعضُ البودي جارد:

-إنتَ ليه مفكَّرني هعمل فيك حاجة يابني ..أنا بس عايز اطَّمن على بنتي، إيه يابنِ أخويا، حرام لعمَّك يطمِّن على بنته..قالها بمكرٍ يشيرُ لرجاله:

-أنتوا اتجنِّنتوا رافعين سلاحكم على ابنِ أخويا، اقتربَ من إلياس الذي يطالعهُ بغموض، ثمَّ أشارَ على سلاحه: 

-إيه يابنِ جمال عايز تموِّت عمَّك، هيَّ فريدة مش عرِّفتك إنَّك ابنِ جمال الشافعي ولَّا إيه ياحضرةِ الظابط ثمَّ أشارَ على ميرال التي بالسيارة ومراتك تكون بنت عمَّك.. 

ذهولٌ صدمةٌ وعينانٍ تشعُّ بتجاهلِ مايلقيهِ ذلك الرجل..اقتربَ راجح حتى توقَّفَ أمامهِ وسحبَ سلاحهِ من يدهِ مقهقهًا بصوتٍ مرتفع: 

"أهلًا يا يوسف يابني تعالَ في حضنِ عمَّك أنا النهاردة الدنيا مش سيعاني، رغم لعبة أمَّك الخبيثة مع مصطفى، واتفقوا يبعدوك عن عمك، وخططت وبعتتك عنده، وبعد كدا هربت مني لما عرفت بلعبتها القذرة، وغيرت اسمك علشان ماوصلكش، بس عرفت وتأكدت إنَّك ابنِ جمال أخويا، ولو مش مصدَّقني ياحبيبي افتح الظرف دا وإنتَ تعرف ازاي الست دي ضحت باولادها علشان اغراضها الدنيئة هي ومصطفى القذر، وزي ماعرفتك، هدور على جمال اخوك واجيبه ..


هل شعر بخروج الروح من شخصًا عصى ربه ولم يفعل بما أمره الله بل تجبر وعصى في الأرض، وحانت قبض روحه، لتخرج إلى بارئها بكم الآلام على ما فعله من فساد في الأرض ..هذا ماشعر به إلياس..بل شعر وكأن أحدهم سحبه ليدفنه حيًا بقبره، ويتركه وسط الظلام ويرحل، ورغم قوة صرخاته، إلا لا أحد يشعر به"

دقيقة اثنان ثلاثة، وهو واقفًا بجسد كالجبل صامد ثابت ولا يشعر بشيئًا، سوى شريط ذكريات حياته الذي تحرك أمام عيناه 


إلى هنا تبدأ شظايا ابطالنا المحترقة، فكل سيسعى جاهدا للأخذ بالثأر من كل من سولت له نفسه 

تعليقات



×