رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الرابع عشر 14بقلم سيلا وليد

رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الرابع عشر بقلم سيلا وليد 

الفصل الرابع عشر القسم الاول 


لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك 


تعالي لنقتل القسوة بالحب..

والآلام بالقبلات..

..

تعالي لنلتقي..

في أحضان الحلم أو بين أمواج البحر 

او على غيوم الخيال..

أو في لوحةٍ فنيه بعيداً عنهم حيث لا يكون سوىٰ انـا وانتي.. تعالي لتسكني كل تفاصيلي واقتحم كل خلاياكي

تعالي لاموت بكِ عشقاً و جنونا.. تعالي لنتلقي..


فأنتَ وَحدَكَ منْ أرضَاهُ لي وَطَنًا 

و أنتَ وَحدَكَ دونَ النَّاسِ يكفينِي 


و أنتَ وَحدَكَ في ليلي أُسَامِرُهُ 

و أنتَ وَحدَك تجري في شَرَاييني


#الياس_السيوفي


دفعَ راجح فريدة بقوَّةٍ حتى هوت على الأرض، فصرخت ميرال باسمِ والدتها، قبلَ دقائق، كان متَّجهًا إلى غرفته، فقابلهُ مصطفى: 

-بابا رايح فين..تحرَّكَ للخارجِ دون أن يجيبهُ فهو وجدَ هاتفَ فريدة وجد هاتفها ملقي وكأن احدهم هاتفها، تذكر مناداة ميرال عليها ونظراتها ، هرولَ كالمجنونِ للخارجَ يلاحقهُ إلياس  بصراخِ ميرال باسمها..


جُنَّ حينما استمعَ إلى صرخاتها، فلم يشعر بنفسهِ وهو يهرولُ كالمجنونِ يدفعُ البابَ الخارجيَّ باقترابِ راجح الذي لم يكتشف وجههُ بالظلامِ يسحبها من يديها، دفعتهُ بقوَّةٍ مع وقوفِ فريدة مترنِّحة:

-ميراااال..صاحَ بها بصوتٍ كالرعد، ليتركها راجح ويتَّجهَ إلى السيارة قائلًا: 

-بسرعة اتحرَّك..لتنطلقَ السيارةُ بسرعةٍ جنونية، وصلَ إليهم بأنفاسٍ لاهثةٍ مع وصولِ الحرسِ الذي يحاوطُ الفيلا، كانت تحتضنُ فريدة التي ارتعشَ جسدها بقوَّة، أردفَ بصوتٍ متقطِّعٍ بسببِ لهاثه:

-ميرال أنتو كويسين..تساءلَ بها بوصولِ مصطفى الذي يرمقُ فريدة بنظراتٍ عتابية، اتَّجهَ إليها يحاوطُ جسدها ثمَّ تحرَّكَ قائلًا:

-إزاي الكهربا تقطع في الجزء دا، أنتوا بقيتوا نايمين ولَّا إيه، الصبح مش عايز أشوف حدِّ فيكم سلِّموا أسلحتكم لرئيسكم..قالها وهو ينظرُ إلى الحرسِ ثمَّ سحبَ فريدة وتحرَّك..بينما الآخرُ توقَّفَ متخصِّرًا وعينيهِ مازالت على الطريقِ الذي غادرت منهُ السيارة..اقتربت تختبئُ بأحضانهِ وجسدها ينتفضُ بالارتعاشِ 

حاوطها بذراعيهِ يربتُ على ظهرها: 

-اهدي حبيبتي، بس قوليلي إيه اللي جابكم هنا؟..رفعت رأسها إليه: 

-إلياس أنا مش قادرة أمشي، انحنى وحملها يضمُّها إلى صدرهِ وتحرَّكَ بها للداخل، صعدَ إلى جناحهم وعقلهِ يفكِّرُ فيما صار، وضعها بهدوءٍ على الفراشِ ثمَّ جلسَ بجوارها يضمُّها تحتَ حنانِ ذراعيه:

-قوليلي إيه اللي حصل وليه خرجتوا..قصَّت لهُ ماصار..

-طيِّب ومين دا، وليه كان عايزك..تذكَّرَ راجح فتوقَّفَ يهمسُ لنفسه:

-طيِّب لمَّا هو مش أبوها، جاي ياخدها ليه بالغصب، خلَّلَ أناملهِ بعصبيةٍ ثمَّ استدارَ إليها:

-نامي وارتاحي، وأنا هخرج مشوار وراجع..نهضت فزعة:

-رايح فين، لا مش هتسبني وتخرج..اقتربَ منها، وساعدها بالتمدد وجلسَ بجوارها: 

-طب إهدي أنا كنت هشوف الكاميرات وراجع، حاوطت خصرهِ تضعُ رأسها بأحضانه:

-لا، بعدين خليك معايا..

همسَ بهدوءٍ حازمٍ بالرغمِ من تفاقمِ الغضبِ داخلهِ من تجرؤِ أحدهم من التسلِّلِ لمنزله، ظلَّ يمسِّدُ على خصلاتها وذهنهِ شاردٌ بما حدث..، حاول إخراجها من الخوف الذي تجلى بعينها، بدأ يحدثها عن ماصار في الحفلة إلى أن بدأت تشاركه الحديث، وتقص له عن غرام وغادة إلى أن توقفت عن الحديث متسائلة:

-إلياس ..اتَّجهَ ببصرهِ إليها منتظرًا حديثها، اعتدلت على الفراش: 

-مين البنت اللي كانت مع رؤى في الحفلة؟.. 

قطبَ جبينهِ مستفسرًا عن سؤالها، جلست على ركبيتها أمامه: 

-كان فيه فيه بنت لابسة فستان أزرق بحجاب أبيض، الحلوة دي مشفتهاش إزاي!..

ابتسمَ بخفَّةٍ عليها يهزُّ رأسهِ حتى أفلتَ ضحكةً رجوليةً يمسحُ على وجهه:

-مشفتش ست بتقول لجوزها شوفت الستِّ الحلوة..

التوت معدتها بقسوةٍ من حديثهِ الغير متوقَّع لتلكزهُ ناهرةً إياه:

-إيه اللي بتقوله دا، أنا بسأل عليها، أوَّل مرَّة أشوفها مع رؤى مقصدشِ إن عينك تبص عليها.. 


سحبها دونَ حديثٍ يعانقها عناقًا ساحقًا متملِّكًا على تلكَ العاشقةِ للروح؛ لتدفنَ وجهها بأحضانهِ تهمسُ بأنفاسها الناعمة: 

-عارف لو لمحتك بتبصّ لواحدة هعمل إيه..رفعَ خصلاتها من فوقِ وجهها لتخرجَ رأسها من أحضانه، وتابعت حديثها: 

-هموِّتك وأشرب من دمَّك، علشان مش أحبَّك الحبِّ دا كلُّه وفي الآخر عينك تزوغ برَّة..

كم كان حديثها ذو أثرٍ قويٍّ على نبضهِ العنيفِ بصدره، تمنَّى أن يزرعها داخلَ ضلوعهِ لتحيا بالقربِ من ذاكَ النبضِ الذي بدا يؤذيهِ من كثرةِ خفقاته، علَّ قربها يجعلهُ يسكن ..


انحنى إليها بعدما استسلمَ للهفةِ وصالِ قلبهِ المترنِّمَ بعشقها، فكم كان اعتناقَ أفئدتهم عشقٌ أضناهُ الشوقُ واللوعة، ليسطرهُ بما يحتويهِ من الهمساتِ والنبضاتِ الممزوجةِ بنظراتِ حديثِ العشاق..


بعدَ فترةٍ كانت تغطُّ بنومٍ عميق، وكيف لها لا تغفو كالطِّفلِ الذي حاوطتهُ والدتهِ بحنانها؛ لينامَ هنيئًا بعد رحلةِ عذابٍ من بكاءٍ لم يفصلها سوى الحنان والأمان، 

من قالَ إنَّ الحبَّ كافٍ للحياة، بل الحبُّ يحتاجُ للاكتمالِ الروحي الذي يعانقهُ الأمان ويغلِّفهُ الحنان.. 

الحبُّ ليس كلماتٌ تنطق، أو أشعارٌ تكتب، الحبُّ أن تزيلَ مايعذبَّ فؤادي، أن تشعرني أننَّي ملكة متوَّجة وليست كلمة معبَّرة..

تسلَّلَ من جوارها بهدوء، يدثُّرها جيدًا، نظرةٌ خاطفةٌ على ملامحها الساكنة، وبركانُ أشواقهِ بها مازالت قابل للانفجار، ظلَّ لدقائقَ ونظراتهِ ترسمها، إلى أن تحرَّكَ بصعوبةٍ بعدما فقدَ سيطرته، بعدما تذكَّرَ ماحدثَ بينهما منذ فترةٍ وجيزة، فكانت كالمجلد الشامل لقصةِ عشقهِ الممزوجةِ بآلامهِ التي مازالت تنزفُ بداخله، حرَّكَ ساقيهِ بصعوبةٍ مبتعدًا عن الفراش ومازالت نظراتهِ عليها، قبضةٌ اعتصرتهُ مما جعلهُ يشعرُ بالنفورِ من ضعفهِ بعد سيطرتها الطاغية على شخصيته، ولكن صفعهُ قلبهِ يعنِّفه:

-هل تصدِّق ماتشعره، بعدما شعرتَ بالاكتمالِ بجوارها، ألم تكن تلك التي جعلتكَ تشعرُ بلذَّةِ الحياة، هيَّا اهدأ وعُد لرشدكَ إنَّها حبيبتك وملكةَ الفؤاد، فلقد وعدتها ووعدتني أنَّكَ لن تتنازلَ عنها حتى لو توقَّفت أمامكَ جيوشُ العالم..ابتسمَ على حوارِ قلبهِ ليستديرَ متَّجهًا إلى حمامه، لينعمَ بحمَّامٍ دافئٍ كي يُخرجَ هواجسَ حربهِ الشعواء.. 


بغرفةِ مصطفى: 

جلست بجسدٍ منتفضٍ وهي تراهُ يدورُ حولِ نفسهِ كالأسدِ الحبيس، محاولًا الضغطَ على أعصابهِ حتى لا ينفثَ بها غضبه، نهضت من مكانها واتَّجهت إليه: 

-خوفت يامصطفى، واللهِ خوفت يئذي إلياس، هدِّدني بيه..

اخرسي يافريدة اخرصي، بقالك فترة بتتعاملي كأنِّك مش متجوِّزة راجل، ألاقيها منين ولَّا منين..

توقَّفت بقلبٍ يئنُّ ألمًا وقهرًا، وتمتمت بصوتٍ خافت: 

-ماهو إنتَ مش مكاني، مش حاسس بقلبي اللي مولَّع نار، أنا دلوقتي بعدِّ الدقيقة اللي أشوف فيها حدِّ فيهم، بقيت عاملة زي الطفلة اللي بتستنى أبوها يرجع من الشغل، حسيت في مرَّة بيَّا وأنا ابني جنبي وبيقولِّي ياطنط، ولَّا يامدام، عارف الكلمة دي بتعمل فيَّا إيه، ولمَّا واحد منهم يعرَّف عن نفسه بكنيته، أوعى تفكَّر سهل عليَّ أقول إلياس كدا ودا مش اسمه، ولَّا لمَّا اشوف جمال في أرسلان، الواد نسخة مصغَّرة من أبوه، كأن جمال اللي واقف قدَّامي يامصطفى، إنتَ مش حاسس بمعاناتي، كلِّ اللي بتحاول تعمله إنَّك تأجِّل وبس.. 

-اسكتي يافريدة، اسكتي إنتِ مفكَّرة الموضوع هيِّن، أنا بتمنَّى أموت ولا أوقف قدَّام إلياس وأقولُّه آسف ياحبيبي أنا مش أبوك، ولقيتك وربِّيتك، وسرقت حياتك ونسبتك ليَّا، زوَّرت يافريدة بدل المرَّة اتنين، فاكرة هيتقبَّل الفكرة، واحد بعد تلاتين سنة لاقى نفسه عايش كدبة وحياة كلَّها مبنية على الكدب، تهوُّر بس كل اللي بتعمليه إنِّك بتحطيه قدَّام المدفع.


رفعت رأسها تنظرُ لعينيهِ تهتفُ بخفوتٍ ونبرةٍ ضائعة:

-أنا عايزة أضيَّعهم، دا كلُّه علشان أخدهم في حضني، إنتَ أهمِّ حاجة عندك إنِّ إلياس ميشفكش مزور.. 


أطبقَ على ذراعها بقوَّةٍ وهدرَ بها بعنف: 

-إنتِ مش حاسة إنِّك بتغرَّقينا معاكي، ابنك ظابط أمن دولة ياهانم، جريتي على راجح ورمتيلُه طُعم قبل ماتفكَّري في العواقب، رحتي رفعتي قضية باختفاءِ ميرال وخلِّيتي زمايله يبصِّوله باستعطاف، والمصيبة رايحة لأكبر عيلة في البلد.. اتجننتي وعايزة تروحي تهدِّدي وتقولي ابنك، غبية يافريدة غبية وبتتحرَّكي بتهوُّر، مفكَّرتيش في لحظة اللي  مقدرشِ راجح عليه زمان ممكن يقدر عليه دلوقتي، دا كان عايز يقتله من فترة قبل مايعرف بحقيقته.. 


دارَ حولَ نفسهِ بالغرفةِ يمسحُ على وجههِ بعنفٍ مرَّة ويرجعُ خصلاتهِ للخلفِ يريدُ أن يقتلعها مرَّةً أخرى، أفلتَ سيطرتهُ الكامنة وتحوَّلَ لكتلةٍ من الغضبِ وهو يهدرُ بها:

-إلياس دا أوَّل فرحتي متفكَّريش أنُّه ابنك بس،عارفة لو حصلُّه حاجة أنا ممكن يحصلِّي إيه، دول مجرمين تبع منظَّمات وقرف، ومش عارفين نمسك عليهم حاجة، وأهو خطفوا البنت في عزِّ النهار ومقدرتش أوصلَّها، يعني كان ممكن تيجيلِك ميتة، دا قبل مايعرف.. 


أقعدي واتفرجي ياهانم، دا وصل لحدِّ بيتي..هوَّ مش موضوع أنُّه جاي يهدِّد بميرال، لا جاي يأكِّدلك أنُّه قدر يوصلِّك وإنتِ في بيتك وسط الحماية اللي مفكرَّها بتقويك..


ظلَّت صامتةٌ بوقوفها، جامدةٌ بجسدٍ على شفا الانهيارِ بالدموعِ التي زُرفت رغمًا عن ضعفها، لا أحد يشعرُ بكمِّ جراحها النازفة، إنَّها تحترقُ شوقًا وعطفًا، كيف يلومها على أمومتها، كيف لا يعطيها الحقَّ في احتضانِ أحدًا من أولادها، ألا يحقُّ لها الاعترافَ بأمومتها بعد تلك السنواتِ الجافية..


تحرَّكت بخطواتٍ ثقيلةٍ تجرُّ ساقيها إلى خارجِ الغرفةِ ودموعها تفرشُ الأرضَ أمامها حتى شعرت بضبابيةِ رؤياها، خطت مترنِّحةً على الدرج وشهقةٌ خرجت من فمها وهي تتذكَّرُ حديثهِ اللاذع، هل كما وصفها حقًا جُنت، أم أنَّها أنانيةٌ ولا تراعي سوى شعورها بأمومتها.. 


كادت أن تسقطَ على الدرج، فهوت جالسةٌ بعدما خانتها ساقيها، قبضةٌ قويةٌ اعتصرت فؤادها كلَّما تذكَّرت حديثُ راجح "فلاش قبل وصول ميرال":

-متفكَّريش اللوا بتاعِك والواد اللي بتقولي عليه ابنك دا هيرحمِك منِّي، أطبقَ على ذراعها بقوَّةٍ ينظرُ لمقلتيها بعيونٍ عاصفةٍ وأردفَ بنبرةٍ هستيرية:

-هذلِّك يافريدة، الله بسماه لأذلِّك وأجيبك لعندي مكسورة، علشان أعرَّفك مين هوَّ راجح الشافعي اللي تفضَّلي عليه أشباه رجال..قرَّبها إليهِ بعنفٍ وهمسَ بهسيسٍ مرعب: 

-غبية وجيتي تحتِ ضرسي مش هرحمك، وزي مادفنت ابني هدفن ولادك الاتنين، ومش بإيدي بإيدك إنتِ وبكرة تقولي راجح قال، لو مخلتكيش إنتِ وبنتي تدفنوهم يبقى لبِّسيني طرحة..قاطعَ حديثهم صوتُ ميرال ماما ..فاقت من شرودها على صوتِ إلياس: 

-طنط فريدة!!..نهضت من مكانها فزعةً تزيلُ عبراتها، وتمتمت بحروفِ الألم التي تشقُّ صدرها:

-نعم يابني..اقتربَ منها ينظرُ لشحوبِ وجهها ثمَّ غمغمَ بصوتٍ خافت:

-مين الِّلي كان برَّة دا، رفعت رأسها وارتجفت شفتيها، تهزُّ رأسها عاجزةً عن الرَّد..

سحبها برفقٍ من ذراعها وتحرَّكَ إلى الأريكةِ التي توضعُ بالرُّدهةِ أمامَ الدرج.. 

أجلسها ثمَّ جلسَ بجوارها، جذبَ هاتفَ المنزلِ من جوارهِ وهاتفَ الخادمة: 

-اعمليلي قهوة وماما فريدة ليمونادا.


تشابكت عيناها الباكيةِ مع نظراتهِ المركَّزةِ عليها، أومأ لها بالحديث.. 

-عايزة أحضنك ينفع..قالتها بلمعةِ انكسارٍ من عينيها ..نظراتٌ فقط يحدجها بها ولم يعد لديهِ قدرةُ التفوُّهِ سواءً بالرفضِ أو الايجاب، هاجت مشاعرهِ بداخلهِ في تلك اللحظة، وكالعادةِ لعجزهِ عن تفسيرها، أهيَ مشاعرَ خوفٍ أم حنان أم إشفاقٍ على حالتها..

أجابَ بصوتٍ هادئٍ رغمَ رعشته:

-مش قبل ماأعرف مين أبو ميرال؟.. 

لم تجبهُ ولم تزحزحْ عيناها عن ملتقى نظراته، بقيت تحدجهُ بنظراتٍ لم يعلم ماهيَّتها..

سحبَ عينيهِ بعيدًا عن تجمُّدِ عيناها يزفرُ بعمق، حاولَ استنشاقَ كمِّ من الهواءِ عن طريقِ الشهيقِ والزفير، حتى لا يسرعَ بالحكمِ والغضبِ عليها..

ودَّت لو تطلقُ السراح للسانها والتفوَّهَ بما يعتري فؤادها، ولكنَّها ستموتُ بالتأكيدِ إذا حدثَ مالايُحمدُ عقباهُ من ردَّةِ فعله.. 


آاااه متحشرجة أخرجتها بنيرانِ صدرها التي كوت ضلوعها.. 

-راجح أبوها..راجح الشافعي. 

-تاني..بتكدبي تاني..قالها ونهضَ من مكانه، ولكنَّها تشبَّثت بكفِّه، وطالعتهُ بعيونٍ انسابت نجومها بهوانِ ماتشعرُ به الآن.. 

-واللهِ دي الحقيقة يابني، ميرال تبقى بنتِ راجح الشافعي، وهيَّ متعرفش، هيَّ مفكَّرة إنَّها بنتِ جمال..

توقَّفَ لدقيقةٍ يستوعبُ حديثها مع شرودهِ بحديثِ أرسلان: 

"البنت اللي خطفتها مش بنتها، هيَّ مجبتشِ أطفال منُّه"

أطبقَ على جفنيهِ وصراعاتٍ عنيفةٍ تأكلُ دواخله..خطا لبعضِ الخطوات، ولكنَّهُ توقَّفَ على شهقاتها، استدارَ إليها وعيونُ الخذلانِ تتابعها ليهمس: 

-ليه قولتي إنَّها بنتِ جوزك الأوَّلاني، ليه خبيتي إنَّها بنتِ راجح؟.. 

بملامحٍ شاحبةٍ وروحٍ فارقت الجسد، نصبت جسدها واقتربت مترنِّحةً كالمخمورة:

-راجح انسان جشع ومفتري، خطف ولادي هوَّ ومراته، حبيت أحرق قلبه، لمَّا هربت خطفت ميرال، وكنت ناوية أرميها زيِّ مارموا ولادي الاتنين..


شهقةٌ أخرجتها بصوتٍ متقطِّعٍ كالخطوطِ المعوَّجة


ظلَّ صامتًا يستمعُ إليها ودقاتُ قلبهِ تتقارعُ داخلَ صدرهِ وهي تقصُّ عليهِ كيف وصلت إلى والده.. 

نهضَ من مكانهِ شاردًا حزينًا، ثمَّ أردفَ: 

-ميرال متعرفش صح؟..

أومأت برأسها وعيناها تذرفُ من الدموعِ مايحرقها..

استدارَ متسائلًا:

-ليه اتجوزتيه، بدل خطف ولادك زي ما بتقولي..قاطعهم وصولُ مصطفى ينظرُ إليها بأسى من حالتها التي وصلت إليها،  تحرَّكَ إليها وانحنى يرفعها من أكتافها: 

-ياله علشان تاخدي الدوا وتنامي، رمقَ إلياس بنظرةٍ جانبيةٍ ثمَّ تحرَّكَ دونَ حديث..ظلَّ يتابعُ تحرُّكهم حتى اختفوا من أمامِ عيناه..

-وبعدهالِك يامدام فريدة، إيه حكايتك معايا، وليه قلبي وجعني عليكي.. 


سحبَ نفسًا وزفرهُ يقنعُ نفسه:

-متنساش هيَّ اللي ربيتك فطبيعي تكون حزين عليها، استندَ على سياجِ الدرجِ يهمسُ بخفوت:

-راجح كدا ميعرفشِ ميرال بنته، أو ممكن عارف وبيخطَّط لحاجة.. 

ملسَ على ذقنهِ بعلامةِ تفكيرٍ وجلسَ وهو ينفثُ سيجارته:

-يبقى هوَّ اللي كان برَّة، ودا مالوش غير معنى أنُّه بيهدِّد..

مطَّ شفتيهِ للأمام وحركةٍ استخفافيةٍ أطلقها من بين شفتيه: 

-بتلعب معايا ياراجح وماله نلعب إحنا ورانا إيه..هنا تذكَّرَ مافعلهُ هو وأرسلان اليوم.. 

فلاش قبلَ ثلاث ساعات: 

توقَّفَ أرسلان بجوارِ غرام بالحفلِ يوزِّعُ نظراتهِ على الجميع قاطعتهُ غرام: 

-إيه الحفلة الضخمة دي أنا عمري ماحضرت حفلات كدا..استدارَ مبتسمًا 

وأردفَ قائلًا:

-اتعوِّدي ياروحي، علشان يعتبر فاروق باشا حفلاته مبتخلصش، دا لو طايل يعمل كلِّ يومين حفلة هيعملها.

ابتسمت ثمَّ رفعت كأسها ترتشفُ منهُ بعضَ العصير، ثمَّ رفعت عينيها إليه: 

-شكلك بتحبِّ الحفلات..رفعَ ذراعيهِ يحاوطُ أكتافها وعينيهِ على إلياس المتوِّقف مع والدهِ ثمَّ أجابها:

-أبدًا ولا ليَّا فيها، أنا جيت بس علشان أعرَّفك على مدام ميرال، بما أنُّكم مالحقتوش تتعرَّفوا في إيطاليا. 

-هوَّ إلياس صديق مقرَّب للدرجة دي علشان تعرَّفني على مراته..قطعَ حديثها وصولُ فريدة: 

-عامل إيه يابني..قالتها وهي تطوفُ بعينيها على وجههِ باشتياق.. 

ابتسمَ بمحبةٍ وأجابها: 

-كويس الحمدلله، حضرتك عاملة إيه، نسيت أعرَّفك...أشارَ إلى غرام قائلًا:

-غرام مراتي..اقتربت من غرام وربتت على ظهرها: 

-اتعرَّفنا ياحبيبي، نظرَ لزوجتهِ التي أومأت برأسها بالايجاب، ثمَّ أردفت:

-طنط فريدة كانت معايا لمَّا رحت مع حضرةِ الظابط عند والده.. 

أومأ متفهِّمًا، ثمَّ رفع عينيهِ إلى فريدة:

-إن شاء الله في يوم أعرَّفك على والدتي، ماتختلفشِ عنِّك، أوعدك قريب هيكون فيه لقاء بينكم..شعرت بالقهرِ يأكلُ أوجاعها، وتغرغرت عيناها بالدموع، وطأطأت رأسها دونَ حديثٍ تحاولُ كبحَ دموعها وكأنَّ اللهَ ربطَ على قلبها ليصلَ إلياس إليهما: 

-ارسلان تعالى عايزك..استئذنَ وتحرَّكَ معهُ بعدما قال لزوجته:

-خمس دقايق وراجعلك، خليكي مع طنط فريدة..

وصلَ إلى مكتبهِ وانتشلَ بعضَ الاشياء قائلا:

-ياله علشان قدَّامنا وقت بسيط..أومأ وتحرَّكَ من البابِ الخلفيِّ متَّجهينَ إلى وجهتهم بانتظارِ أحدِ الأفرادِ الذين يساعدونهم بالدلوفِ إلى شركةِ العامري..نظر لتلك السيارة، فأشار إلى سيارة ارسلان

-هنروح بعربيتك، سيادة وكيل النيابة بيراقبني، شك في حاجة 

-ضيق عيناه متسائلًا

-ليه..تحرك بالسيارة للخلف واجابه:

-طنط فريدة بلغت عن اختفاء ميرال 

-اممم..قولت لي ..طيب مالراجل خايف 

-ماقولتش حاجة وكمان نضيف جدا، يعني مش بتاع اشخاص، بتاع حقوق 

-فعلا سمعت عنه ..وصل إلى الشركة وأشار إليه 

-حلوة فكرتك ياحضرة الظابط، بس الواد المهندس دا ضامنه

-جدا متخفش، على ضمانتي اومال طلبت منك أوصله ليه ..هكذا قالها ارسلان وهو يترجل من سيارته


دقائقَ وتمَّ زرع الأجهزة التنصتيَّة ببعضِ المكاتبِ الخاصةِ بالاجتماعات، ثمَّ تحرَّكَ إلى شركةِ الشافعي وفعلَ بها مثلما فعل بشركةِ العامري، بزيِّهم  المتنكِّر بعد تعطيلِ أحدهم لجميعِ الكاميرات لمدَّةِ ساعتينِ رغمَ أنَّهم لم يستغرقوا في كلِّ شركةٍ سوى بعضَ الدقائقَ وذلك لنجاحِ أحدهم بتوجيهم إلى الأماكنِ المدروسةِ من قبل.. 


خرجَ الثلاثةُ بعد انتهاءِ مدَّةِ عملهم..تركهم يزن وقادَ دراجتهِ البخاريةِ بينما تحرَّكَ أرسلان إلى المشفى مع إلياس لبعض الفحوصاتِ الطبية..جلسَ أمام الطبيبِ الذي قامَ بالكشفِ عليه، بتوقُّفِ إلياس أمام  النافذةِ ينظرُ للخارجِ قائلًا: 

-ماله يادكتور، ليه بيشتكي من جنبه، تساءلَ بها وهو يواليهِ ظهره..

كتمَ أرسلان ضحكاته، ينظرُ للطبيبِ يشيرُ إلى بطنه:

-هو نسي إنِّ بطني كمان وجعاني..استدارَ يرمقهُ بنظراتٍ نارية، حتى ارتفعت ضحكاتهِ يهزُّ رأسهِ يرفعُ يديهِ إلى إلياس: 

-قلبي كمان وجعني..اقتربَ منه يلكزهُ بصدره: 

-هتفضحنا يامتخلِّف، أنا اللي أستاهل اعتمدت عليك..

الله أعمل إيه دخلت المستشفى جسمي كلُّه وجعني مستخسر فيَّا أكشف..

أشارَ  إلياس  للممرض:

-عايزك تديله حقنة شرجية، علشان يحرَّم يدَّلع..نهضَ من مكانهِ يضعُ يدهِ على بطنهِ من كثرةِ ضحكاته، حتى وصل إلى إلياس: 

-عمِّي هينفخني  واللهِ لو موجود لأمر ذاك الطبيب بتلكَ الرشوتة..

لكزهُ بقوَّةٍ حتى سقطَ على المقعدِ خلفهِ بعدما أخرجهُ من بروده: 

-اسكت ياحبيبي، اسكت يابابا خلِّينا نخلص..استمعَ إلى رنينِ هاتفهِ فأشارَ إليه وضحكاتهِ مازالت مرتفعة: 

-قولتلك عمِّي هينفخني، أهو اسمع: 

-بتعمل إيه في المستشفى وفين مراتك؟.. 

حاولَ أن يتماسك، ابتعدَ إلياس عنهُ يزفرُ بسخطٍ على أفعالهِ الطفوليةِ ثمَّ ردَّد: 

-مخابرات إيه دا، دا أخره عسكري نحطُّه على مدفع رمضان.. 

-أيوة إسحاقو..كان يقودُ سيارتهِ متَّجهًا إليه: 

-حبيبي بتعمل إيه في المستشفى، إنتَ تعبان؟.. 

أومأ مبتسمًا وعينيهِ على إلياس الذي يرمقهُ شزرًا وأجابه: 

-مفيش ياعمُّو، حسيت بشوية ألم في جنبي، خوفت الألم يزيد فقولت أعدي على الدكتور، وبعدين حضرتك بتراقبني ولَّا إيه؟.. 

-لا مش براقبك بس اتصلت بيك لقيت تليفونك مقفول عرفت إنَّك في مكان مش عايز حدِّ يعرف، ولمَّا التليفون اتفتح عرفت إنَّك في المستشفى..توقَّفَ أرسلان بعدما انتهى قائلًا:

-لا ياحبيبي تلاقي شبكة سقطت ولَّا حاجة، وأنا خارح أهو وهعدِّي أجيب غرام وأرجع على البيت..

-عمَّك هيصدَّق بس إسحاق المخابراتي مش مصدَّق يابنِ فاروق هستناك تحكيلي سلام.. 


زفرَ بارتياحٍ واتَّجهَ إلى إلياس: 

-إسحاق عرف كنَّا فين على فكرة..

ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا: 

-بس إحنا أخدنا احتياطاتنا كويس، إزاي عرف وليه شكِّيت..قالها إلياس..

تحرَّكَ بجوارهِ بعدما نزعَ من الطبيبِ 

المدوَّن إليه.. 


خرجَ من شرودهِ متوقِّفًا واتَّجهَ إلى جهازهِ المحمول وبدأ يتفحَّصُ مابهِ لبعضِ الدقائقَ مع عدَّةِ مكالماتٍ مرتبطةٍ بعمله.. 

عندَ أرسلان قبلَ قليل: 

وصلَ إلى منزلِ والده، فاليوم الخميس، الذي وعدَ بهِ والدتهِ أن يقضيانهِ مع بعضهما، دلفَ للداخلِ قابلتهُ ملك تصفِّقُ  بيديها واتَّجهت تهرولُ إليه: 

-حبيبي أخيرًا جيت وحشتني، ضمَّها بحنانٍ أخوي ثمَّ طبعَ قبلةً فوق جبينها: 

-وحشتيني حبيبتي، نزعت يديهِ من أيدي غرام وتحرَّكت بهِ إلى غرفةِ الموسيقى: 

-تعالَ معايا علشان أسمَّعك اتعلِّمت إيه، أختك هتسبقك، وتكون أشطر Pianist في الدنيا ..أشارَ إلى غرام: 

-هتلاقي ماما جوَّا حبيبتي، شوية وراجعلك..قالها وتحرَّكَ مع ملك التي لم تهتم بوجود غرام.. 

دلفت للداخلِ تبحثُ عن صفية، أشارت إليها الخادمة: 

-المدام في ركنها المخصَّص للعبادة..أومأت لها وتحرَّكت، طرقت البابَ ثمَّ دلفت حتى لا تفصلها عن قراءةِ القرآن ..رفعت صفية رأسها وجدتها تقفُ تفركُ أناملها، أغلقت المصحف ووضعتهُ بمكانهِ الخاصَّ به، تفتحُ ذراعيها الى غرام التي وصلت إليها وانحنت تحتضنها: 

-عاملة إيه ياماما..أخرجتها تحتضنُ وجهها وأردفت: 

-أنا كويسة ياستِّ البنات تعالي جنبي هنا ..نزعت حذاءها وخطت إلى جلوسها توزِّعُ عينيها على المكانِ الذي به الكثيرَ من كتبِ الفقهِ والمصاحف.. 

.ربتت صفية على كتفها بعدما وجدت نظراتها على الكتب: 

-فيه حاجة عايزة تقرأيها؟.. 

هزَّت رأسها بالنفي، ثمَّ احتضنت كفَّيها 

واقتربت بجسدها قائلة:

-ماما فيه موضوع عايزة أقوله لحضرتك، أرسلان ميعرفشِ بس حبيت أعرَّفك الأوَّل..طالعتها منتظرةً حديثها،  

وضعت كفَّيها على أحشائها ولمعت عينيها بالسعادةِ مردِّدة: 

"ماما أنا حامل"

شهقةٌ خرجت من فمها تضمُّها إلى صدرها وارتفعت ضحكاتها:

-ماشاء الله يابنتي ربِّنا يتممِّلك على خير يارب، اللهمَّ لك الحمد ولك الشكر يارب..قالتها وهي تسجدُ للهِ شكرًا على نعمه..احتضنت وجهها وقرَّبتها إليها تطبعُ قبلةً حنونةً على جبينها قائلة:

-ربنا يبارك فيكي وفي مولودك يابنتي يارب.. 

انسابت عبراتها من شدَّةِ حبورها بخبرِ حملِ زوجةِ ابنها، قاطعهم دلوفُ فاروق قائلًا:

-مصدقتش لمَّا قالوا أرسلان جه..ابتسمت بدموعها تشيرُ إليه: 

-تعالَ يافاروق فيه خبر هينطَّطك ويخلِّيك ترجع شباب..

نظرت للأسفلِ بخجلٍ من حديثِ والدة زوجها، وبدأت تفركُ بأناملها، فتوقَّفت صفية عن الحديث قائلة:

-لا بلاش تعرف قبل أبوه، لازم أبوه يعرف الأوَّل مش كدا ياغرام ..رفعت ذقنها وأشارت إليها: 

-ياله حبيبتي قومي علشان نتعشى، وخبَّري جوزك..أومأت ونهضت متَّجهةً للخارج.. 

عندَ أرسلان جلسَ بجوارِ أختهِ وهي تعزفُ مقطوعتها التي تدرَّبت عليها إلى أن انتهت..صفَّقَ يقبلُ وجنتيها:

-أحلى Pianist ياروحي..استدارت إليه: 

-بجد ياأبيه عجبتك..ضمَّها بحنانٍ يمسِّدُ على خصلاتها: 

-بجد ياروح أبيه، بس نهتم بمذاكرتنا شوية علشان نتخرَّج مش كدا ولَّا إيه..

-يااااه لسة بدري دا أنا لسة في أولى.. 

قرصَ وجنتيها وتوقَّف: 

-ماهو علشان عايز تقدير كلِّ سنة يالمضة، سحبها من كفَّها واتَّجهَ بها للخارج: 

-تعالي نشوف صفية عملت إيه في مراتي شكلها استفردت بيها..توقَّفَ بعدما وجدها أمامهِ تنظرُ إليهِ بحب، تركَ كفَّ ملك وخطا إليها يدقِّقُ النظرَ بملامحها، رفعَ ذقنها وأشارَ برأسهِ مردفًا:

-إيه الورد الأحمر اللي عايز يتاكل على الخدود دي..دفنت رأسها بكتفه 

-بس بقى عيب أختك ورانا، لفَّ ذراعيهِ حولَ جسدها وهمسَ بأذنها:

-أنا تعبت من المشوار ماتيجي أقولِّك كلمة سر علشان محدِّش يسمعه. 

لكزتهُ قائلة:

-أرسلان بس إيه اللي بتقوله دا..أطلقَ ضحكةً رجوليةً جذابة، مما جعلها ترفعُ رأسها إليهِ وتهمسُ بصوتٍ خافت: 

-هتكون أب يجنِّن..توقَّفَ عن الضحكِ بعدما استمعَ إلى رنينِ هاتفه، أخرجهُ ولم يسمع بما تفوَّهت به:

-أيوة يابني فيه إيه..مش قولت مش عايز ازعاج ..

-آسف ياباشا، بس بكلِّم إسحاق باشا وتليفونه مقفول، الستِّ هانم الكبيرة عند دينا هانم، لسة طالعة من شوية، حاولت أخبَّر الباشا معرفتش أوصلُّه 

-أنا جاي ...قالها وتحرَّكَ مغادرًا المكان سريعًا دونَ حديث...هرولت غرام خلفه

-أرسلان رايح فين..استقلَّ سيارتهِ وتحرَّكَ سريعًا يقطعُ المسافةَ بدقائقَ معدودة..

عند دينا: 

حاوطت جسدها تبكي بعدما اشتدَّت آلامها، وصاحت بأحلام: 

-ابنك عارف كلِّ حاجة، أنا قولتله، وهوَّ أصلًا كان شاكك فيَّا من الأوَّل بحكمِ إنِّي كنت شغَّالة معاكي..ازدادَ الألمُ تبكي تحتضنُ بطنها بقوَّة، بعدما وجدت نظراتها الجحيمية، فانحنت تجذبها من خصلاتها تسبَّها: 

-أه ياحيوانة وقَّعتي بيني وبين ابني، وأنا اللي استأمنتك على سري، واللهِ لأدفَّعك التمن غالي..سيطرت على آلامها وزحفت للخلفِ تنظرُ إليها باحتقار:

-اسحاق مش هيسكت، وأكيد عنده خبر دلوقتي، هيجي ينقذني منِّك..قالتها ببكاءٍ مرتفع..

قهقهت أحلام ثمَّ جلست تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى: 

-هوَّ أنا معرَّفتكيش إنِّي مخطَّطة علشان أوصلك، تفتكري أنا معرفشِ ابني حويط قدِّ إيه، وكنت متأكدة أنُّه مراقبك ياواطية، ارتاحي، إسحاق زمانه في سابع نومة، بس ممكن تكلِّميه ينقذك..نزعت الهاتفَ من يديها سريعًا وحاولت الوصولَ إليه..

توقَّفت أحلام تضحكُ بصوتٍ مرتفع ، ثمَّ انحنت تغرزُ عينيها بمقلتيها: 

-الخاين لازم يموت..ودلوقتي هقتلك إنتي واللي في بطنك، ولو على الحراسة اللي برَّة، متخافيش هظبَّطهم كويس، مش حتِّة شحاتة تملك إمبراطورية الجارحي يابت...قالتها وركلتها للمرَّةِ الثانيةِ بقوَّة، ليخرجَ صوتها كالرعدِ مع فتحِ أرسلان البابَ على مصراعيه، ووصلَ إليها بخطوةٍ واحدة..توقَّفَ جاحظَ العينينِ على ذاك المشهد..جدَّتهُ تحاولُ قتلَ دينا، اتَّجهَ إليها سريعًا ولم يفعل شيئًا سوى أنَّهُ انحنى يحملُها ويغادرَ بها المكان دون أن يكترثَ لوجودِ أحلام.. 

بكت دينا بين ذراعيهِ تهتفُ بتقطُّع: 

-أرسلان ودِّيني للدكتور هموت قالتها وأغمضت عيناها فاقدةً الوعي. 


وصلَ في غضونِ دقائقَ إلى المشفى يهرولُ إليها ويحملها للداخلِ مع صرخاته بعدما وجد ملابسها لُطِّخت بالدماء..حملها المسعفونَ سريعًا واتَّجهوا بها إلى غرفةِ الكشف.. 


ظلَّ يجوبُ المكان ذهابًا وإيابًا وعقلهِ يكادُ أن ينفجرَ مما رآه..كيف لجدَّتهِ أن تفعلَ بروحٍ تلك الفعلةَ الشنعاء، خرجت الممرضةُ تشيرُ إليهِ بالدخولِ إلى الطبيب، دلفَ يبحثُ عنها بعينيه.. 


جلسَ بمقابلةِ الطبيبِ منتظرًا حديثه:

-المدام تعرَّضت للهجوم ودا واضح. 

أشارَ أرسلان إليهِ بالصمت: 

-عايز أعرف حالتها إيه، والجنين، دا اللي منتظره، مش منتظر تقولِّي عندها إيه.. 

-بس دي جناية ولازم ..توقَّفَ بعدما فقدَ صبرهِ وانحنى على مكتبه: 

-أنا مبحبِّش أعيد كلامي المدام والجنين كويسين ولَّا لأ.


طالعهُ الطبيبَ بتدقيقٍ ثمَّ أردف:

-أخدت أدوية تثبيت ولسة الحالة مش واضحة، يعني لسة فيه خطورة على وضعِ الجنين..اعتدلَ ناصبًا جسدهِ ثمَّ أشارَ إليه: 

-مش عايز الِّلي حصل يخرج برَّة الأوضة دي تمام يادوك، ولَّا نقول مع السلامة وشكرَ اللهُ سعيكم. 

هزَّ الطبيبُ رأسهِ بالموافقة، فتحرَّكَ للخارج يسألُ الممرضة:

-فين المريضة الِّلي كانت هنا؟..

أجابتهُ برقمِ الغرفة، فتحرَّكَ متَّجهًا إليها، دلفَ بهدوءٍ وجدها تغفو بسببِ الأدوية، أشارَ للمُّمرضة: 

عينِك عليها، إياكي تتحرَّكي من جنبها، ومش عايز مخلوق يدخل لعندها، أدويتها محدِّش يدِهالها غيرك، أيِّ غلط هنسفك..نصِّ ساعة وأكون هنا، تراقبيها ممنوع تتحرَّك من مكانها. 

قالها وتحرَّكَ مغادرًا المشفى بأكمله، وصلَ إلى منزلِ إسحاق دلفَ للداخلِ يبحثُ عنه: 

-الباشا فين..ارتبكت وابتلعت ريقها بصعوبة: 

-نايم يابيه..

-نايم!..تمتمَ بها مستغربًا، ثمَّ صعدَ إلى غرفته، دلفَ للداخلِ إلى أن وصلَ فراشهِ ينظرُ إلى نومهِ الساكن..كوَّرَ قبضتهِ يسبُّ جدَّته:

-وصلت ياأحلام هانم تستخدمي الخدامة علشان مؤمراتك، طيِّب دا لمَّا يعرف هيعمل إيه غير حاجتين طلقة في راس أمُّه وطلقة في راس الخدَّامة.


استدارَ واتَّجهَ للأسفلِ ينادي عليها.. توقَّفت بجسدٍ مرتعش:

-استغنينا عن خدامتك، كلِّمي يحيى تاخدي مستحقَّاتك وتسيبي البلد دا لو عايزة تعيشي.. 

-ليه يابيه هو أنا عملت حاجة..اقتربَ يحدجها بنظراتٍ كالأسدِ المفترس:

-أنا هراعي خدمتك لإسحاق السنين دي كلَّها، علشان كدا هخلِّيكي تمشي سليمة، أمَّا بقى لو زهقتي من الدنيا وعايزة تموتي، خلِّيكي لحدِّ مايصحى ويقرَّر يعمل فيكي إيه..قالها وتحرَّكَ مرَّةً أخرى  متسائلًا وهو يصعدُ الدرج: 

-المنوِّم مهمِّته قدِّ إيه، هيفوق إمتى؟.. 

انسابت عبراتها متمتمة: 

-هدُّدوني بابني واللهِ يابيه، قالوا هيموَّتوه لو معملتش كدا، وأنا قولت دا منوِّم بس يعني مش مُضر على الباشا.. 

أشارَ بيديهِ وهو يواليها ظهره:

-برَّة مش عايز أشوف وشك..استدارَ برأسهِ ومازالَ على وضعه:

-دي خيانة، بلاش أكمِّلك..


عندَ يزن عادَ إلى منزلهِ ودلفَ بهدوءٍ حتى لايُوقظَ أخوته، اتَّجهَ إلى غرفتهِ يضعُ أشيائه، استمعَ الى طرقاتٍ على بابِ غرفته، علمَ باستيقاظِ إيمان: 

-ادخلي حبيبتي..دلفت مقتربةً منه: 

-اتأخَّرت ليه كدا، قلقت عليك.. 

وضعَ الأشياءَ بداخلِ درجِ مكتبه، وأغلقهُ قائلًا:

كان عندي شُغل كتير، دقَّقت النظرَ بعينيهِ ثمَّ تسائلت:

-مها كانت عايزة منَّك إيه، وقفت معاها شوية وبعدين مشيت ومتكلِّمناش. 


رفعَ رأسهِ وطالعها للحظاتٍ بصمت، ثمَّ أردف:

-عايز أنام حبيبتي وبكرة نتكلِّم تمام.. 

أومأت واستدارت للمغادرةِ ولكنَّهُ أوقفها متسائلًا:

-فيه حاجة واقفة معاكي في أيِّ مادة، لو محتاجة حاجة.. 

هزَّت رأسها بالنفي وتحرَّكت للخارج.. 

زفرةٌ حادةٌ أخرجها متألمًا يمسحُ على وجههِ بعنف، ثمَّ تذكَّرَ كريم الذي هاتفهُ عدَّةِ مرَّاتٍ ولم يستطع الردَّ عليه..

-أيوة نمت ولَّا إيه؟!.

اعتدلَ كريم على فراشهِ ينظرُ بساعته:

-إنتَ لسة صاحي، فيه حاجة ولَّا إيه؟.. 

اتَّجهَ إلى فراشهِ وتسطَّحَ عليهِ قائلًا:

-مفيش حاجة كنت قلقان ومجليش نوم..

-نعم أنا رنيت عليك..تنهَّدَ مجيبًا: 

-كريم التليفون كان صامت ماخدِّتش بالي. 

تمام هعمل مصدَّقك، المهمّ مها كانت عايزة منَّك إيه، عرفت إنَّها جاتلك. 

أفلتَ ضحكةً ساخرةً وأجابه:

-عايزة تسيب خطيبها وبتقنعني نرجع لبعض.. 

-لا ياراجل، وإنتَ أكيد ضربتها قلمين على وشَّها..

لا وافقت قولتلها لمَّا تسبيه نتكلِّم. 

هبَّ من نومهِ معتدلًا:

-أكيد بتهزَّر يايزن، أوعى ياصاحبي اللي في دماغك، يزن إنتَ عندك أخت.. 

-كريم أنا تعبان وعايز أنام بكرة نتكلِّم..قالها وأغلقَ الهاتفَ وجذبَ الغطاءَ وشبهِ ابتسامةٍ ساخرة:

-بتعشقني الهبلة، أهو نستفيد منِّك، وأنا مخلص عملت إيه بإخلاصي، ذهبَ ببصرهِ على هاتفه، تناولهُ ينظرُ بمحادثاتِ رحيل الغاضبة لاستقالته.. 

-شكلك كيوتي بس لازم أصطادك في سكِّتي، الكلِّ لازم يدفع التمن..حدِّ قالُّكم تحبُّوني..

رفعَ الهاتفَ على أذنه..أجابتهُ خلالَ لحظاتٍ تهدرُ معنفةً إياه:

-بكرة أشوفك على مكتبك يايزن، سمعتني..انحنى يجذبُ سجائرهِ يستمعُ إلى صرخاتها بصدرٍ رحبٍ حتى هدأت..أخذَ نفسًا ثمَّ زفرهُ بهدوءٍ ينظرُ بشرودٍ قائلًا:

-لمَّا تكلِّمي يزن السوهاجي يبقى تكلِّميه بصوت واطي، مش أنا اللي أقبل بنت تعلِّي صوتها عليَّا مهما كانت هيَّ مين، ثانيًا بقى أنا حر محدِّش له يجبرني على حاجة، أنا مبشتغلشِ عند حد وبالنسبة للكام سهم اللي معاكي أكيد نسبهم هتوصلني ماهو مش هتقبلوا تاخدوا حاجة من عرق حد، إلَّا إذا كنتم بتاكلوا حقوق الناس. 


صدماتٌ ألهبت حواسها تهزُّ رأسها رافضةً حديثهِ المهين الذي اخترقَ صدرها كالرصاصات، ابتلعت غصَّةً أحكمت جوفها وأردفت: 

-آسفة لحضرتك ياباشمهندس..

ولا يهمِّك ياأستاذة رحيل..قالها وأغلقَ الهاتفَ ولم يعطها فرصةَ الرَّد. 


عندَ إيلين بشقةِ رؤى: 

كانت تجلسُ بشرفةِ غرفتها تحتسي مشروبًا، فتحت جهازُ رؤى المحمولِ وقامت بمهاتفةِ خالها: 

-خالو حبيبي..هبَّ من مكانهِ يجيبها بعتاب: 

-كدا ياإيلين، دي مكانة خالك عندك يابنتي، تسبيي بيت خالك كدا؟.. 

ارتفعت شهقاتها قائلة: 

-مش هرجع غير لمَّا آدم يطلَّقني، لو عايزني بجد أرجع لعندك خلِّيه يطلَّقني، مبقتشِ قادرة اتحمِّل وجوده جنبي. 

-طيِّب حبيبتي تعالي ووعد منِّي هخلِّيه يطلَّقك..

أطبقت على جفنيها، وبصوتٍ مفعمٍ بالبكاءِ ورعشةٍ أصابت جسدها تمتمت:

-يطلَّقني الأوَّل ياخالو، لو سمحت، وعايزة من حضرتك تشوفلي شقَّة أقعد فيها؛ علشان أنا قاعدة مع صاحبتي ومينفعشِ أقعد معاها أكتر من كدا. 

نهضَ متحاملًا على نفسه، بعدما أصابتهُ وعكةٌ صحيةٌ من اختفائها: 

-كدا ياإيلين تسيبي بيت خالك وتروحي للغرب..


أجهشت روحها بالبكاء وهي تقصُّ لهُ معاناةَ قلبها: 

-إزاي عايزني أصبر على وجع قلبي، ابنك استضعفني ياخالو، أنا كرهت نفسي بسببه، أنا بكرهه وبكره كلِّ حاجة بتعلَّقني بيه..تعالت شهقاتها تخرجُ قيحَ آلامها..

-طلَّقني منُّه ياخالو لو عايزني أرجع بجد..قالتها وأغلقت الهاتف.

ظلَّ بمكانهِ ينظرُ إلى الهاتفِ الذي أُغلقَ للتو، ثمَّ تحرَّكَ للخارجِ يبحثُ عن ابنه.. قابلتهُ مريم: 

-خالو مفيش أخبار عن إيلين؟.. 

مسَّدَ على وجهها مجيبًا:

-هترجع بكرة، اجهزي حبيبتي علشان تسافري لجوزك، كفاية عليكي كدا. 

فتحت فاهها للاعتراضِ ولكنَّهُ أوقفها: 

-إيلين هترجع، متخافيش عليها..

باليومِ التالي دلفَ إلى شقتهِ يبحثُ عنهُ وجدهُ جالسًا بالشرفةِ ينظرُ للخارجِ بشرودٍ وكأنَّهُ لم يشعر بما يدورُ حوله، نظرَ إلى سجائره الذي استهلكها، ثمَّ اقتربَ منهُ وجذبَ المقعدَ وجلسَ بمقابلته

-جاهز؟..رفعَ عينيهِ المتألمةِ إلى والده: 

-مفيش حل غير دا؟.، 

-آدم إنتَ كنت رافض الجوازة من الأوَّل، وبدل مراتك مُصرِّة تيجي مصر، يبقى لازم تطلَّق إيلين، وتبعد مراتك عن القاهرة أنا مش عايز أتعرَّف عليها، وزي ما اتجوزت من غير علمِ أبوك، ميهمِّنيش أعرفها أو أشوفها.. 

نهضَ من مكانهِ وأشارَ إليه:

-قوم اجهز.. إيلين هتستنَّانا عند المأذون، ومش هنبِّه عليك إنِّك تعمل حاجة، وقتها هتبرَّى منَّك يابنِ زين. 

بعدَ فترةٍ كانت تقفُ بجوارِ رؤى أمامَ المكتبِ الذي سيتمُّ بهِ الخلاصَ من معذِّبَ قلبها..

وبعدهالك ياإيلين، ليه مُصرَّة على الطلاق، إدِّيله فرصة.. 

زفرت الهواءَ المكبوتَ بصدرها علَّها تتغلبُ على نوبةِ البكاءِ التي تُحتجزُ تحتَ أهدابها، ابتعدت عنها قائلة:

-لو قريبك الظابط وافق يخرَّجني برَّة مصر كنت هفضل على ذمِّته فترة كمان، بس دا رفض وكمان هدِّدني أنُّه يبلَّغ جوزي، رفعت عينيها إليها: 

-تصدَّقي محبتوش، واخد في نفسه مقلب، لا وإنتِ أقنعتيني أنُّه هيوافق وهيكون سهل يخرَّجني.. 

تصلَّبت تعابيرُ وجهها وتابعت حديثها:

-الرجالة كلُّهم كدا، عايزين الستِّ الطيبة اللي تطبطب، معرفشِ ليه أخد منِّي موقف عدائي، علشان طالبت بحقوقي.. 

اقتربت رؤى منها تربتُ على ظهرها:

-إلياس مش زي ماإنتِ مفكَّرة، هوَّ رافض فكرة هروبك من جوزك، قال مينفعشِ أساعد على الغلط وهوَّ عنده حق ياإيلين، ومتنسيش أنُّه راجل مش هيقبلها على مراته.. 

بترَ حديثهم وصولُ سيارةِ زين التي توقَّفت بجوارهم..كان بالسيارةِ طالعها بصمتٍ وهناك حربٌ من النظراتِ بينهم.. ترجَّلَ من السيارةِ ومازالت عيناهُ تحرق وقوفها، سحبت بصرها متهرِّبةً من نظراتهِ الاختراقية، تحرَّكَ من جوارها دون حديثٍ أرادَ أن يرضي غرورهِ الذكوري الذي دعست عليهِ بكلِّ جبروت: 

-دكتور آدم..توقَّفَ على صوتِ صراخها باسمه..ظلَّ كما هو واقفًا صلبًا متجمِّدًا لا يلتفتُ إليها حتى وصلت وتوقَّفت بمقابلته، ورفعت رأسها بعنفوانٍ وتمتمت بنبرةٍ جافة: 

-عايزة طلقة بائنة، ومتنازلة عن جميعِ حقوقي كأنَّك مامرتشِ في حياتي. 

كلماتٌ كأشواكٍ غُرزت في جدارِ قلبه، رفعَ عينيهِ حتى تقابلت الأعينُ بحديثِ أنينِ القلوبِ فهتفَ قائلًا:

-إنتِ طالق ياإيلين، وورقتك هتكون عندك في أقرب وقت، قالها ورفعَ عينيهِ لوالده:

-هدخل للمأذون ووثَّق الطلاق، يارب أكون أدِّيت المهمَّة على أكملِ وجه ياباشمهندس..


أحسَّت ببرودةٍ تتسرَّبُ لجسدها من نيرانِ كلماته، وتلاشى تنفُّسها وكأنَّ تلك الكلمةُ طلقةٌ أصابت قلبها حتى سُحبت روحها لبارئها، حاولت التمسُّكَ أمامهِ حتى لا تذرفَ دموعَ ضعفها على حبٍّ قُتلَ قبلَ أن يحيى.

مرَّ أسبوعًا على أبطالنا:

عندَ إسحاق دلفَ إلى المشفى لرؤيةِ زوجتهِ التي حُجزت بالمشفى لمخاطرِ الحمل..دفعَ البابَ وابتسامةٌ واسعةٌ على وجهه..

-أنا جيت، ولكنَّهُ توقَّفَ عندما وجدَ فراشها خاليًا، دلفَ إلى المرحاضِ يبحثُ عنها ولكنَّها غيرُ موجودة، خرجَ خارجَ الغرفةِ يستدعي الممرضة:

-مدام دينا فين؟!

مدام دينا تعبت بالليل يافندم والجنين نزل، وهي عملت مغادرة من المستشفى من نصِّ ساعة..

لطمةٌ قويةٌ على وجهِ الممرضة، وبدأ يصرخُ بالموجودين، هرولَ إلى كاميراتِ المشفى، ليصلَ كيف خرجت من المشفى، ولكنَّها أخذت احتياطاتها.. غادرت دونَ أن تتركَ خلفها مايساعدهُ بالوصولِ إليها. 

ساعاتٌ جحيميةٌ مرَّت عليهِ وهو يبحثُ عنها بجميعِ الأماكنِ التي تستهدفها...دلفَ أحدُ الرجالِ وجسدهِ يرتعشُ من حالةِ اسحاق، جالسًا على مقعدهِ يحتوي رأسهِ بين راحتيه: 

-مفيش أي أخبار ياباشا، وصورتها باسمها عند كلِّ المداخل والمخارج. 

-شوف أرسلان رجع من السفر ولَّا لسة.. 

أومأ وتحرَّكَ هاربًا من قبضتهِ الفولاذية.


اعتدلَ بعد خروجهِ ثمَّ رفعَ هاتفه: 

-أحلام هانم خرجت؟..

-لا ياباشا، زي ما حضرتك طلبت..أغلقَ الهاتفَ وعينيهِ تحوَّلت لكتلةٍ ناريةٍ يهمسُ بفحيح:

-كنت عارف مش هتشكي، بس متوقعتش إنِّك لسة بالخسة دي ياأحلام هانم..استمعَ إلى رنينِ هاتفه: 

-أيوة يافاروق..

-عدِّي عليَّا ياإسحاق، عايزك ضروري. 

-بعدين يافاروق، عندي شغل في الإدارة وكمان في الجهاز. 

-أنا مستنيك ياإسحاق، نُص ساعة وتكون عندي..قاطعهُ دلوفَ المسؤولَ عن مكتبه:

-فيه هانم برَّة عايزة تقابل حضرتك ياباشا.

أشارَ بيديهِ ينظرُ إلى بعضِ الأوراقِ يهربُ بها من ضعفه..

-مش فاضي مش عايز أقابل حد..

ارتجفَ الرجلَ قائلًا:

-هيَّ مصرَّة حضرتك، وبعدين دي مرات الباشا مصطفى السيوفي.. 

رفعَ عينيهِ يطالعهُ مستفهمًا: 

-ودي عايزة إيه..أشارَ لهُ بالموافقة. 

-دخلَّها وقولَّها الباشا عنده اجتماع بعد عشر دقايق، دلفت فريدة وعينيها على جلوسهِ المهيب رغمَ صغرِ سنَّه..

ألقت التحيَّةَ وحاولت أن تسيطرَ على ارتعاشةِ جسدها.. 

-أهلًا مدام فريدة ..قالها وهو ينظرُ بالبطاقةِ الخاصَّةِ بها. 

جلست بمقابلتهِ  تومئُ برأسها:

-أهلًا بحضرتك..آسفة أخدت من وقتِ حضرتك، بس الموضوع مهم. 

تراجعَ بجسدهِ يضغطُ على زرِّ مكتبه: 

-تشربي إيه ؟..

هزَّت رأسها بالنفي: 

-ولا حاجة..أنا بس عايزة من حضرتك حاجة مهمَّة..طالعها بتدقيقٍ منتظرًا حديثها..

رفعت رأسها لتتقابلَ بعينيهِ التي تختلطُ بالحزنِ والألمِ لكليهما، حمحت وحاولت النطق، ولكن لم تقوَ على مخارجِ الحروف..أطبقت على جفنيها تسحبُ نفسًا وهو يراقبُ تعابيرها،ثمَّ نهضَ من مكانهِ وجذبَ كوبًا من المياه، وبسطَ يده: 

-اتفضلي، شكل الموضوع اللي حضرتك قصداني فيه صعب أوي.

أبعدت عن ذهنها خواطرها المؤلمة وجمعت شتاتَ نفسها هاتفةً دونَ تردُّد

-الموضوع يخصِّ ابني...

-ابنك!! ردَّدها ومازالَ يتابعها بعينيهِ الصقرية، استندَ بذراعيهِ على المكتب متسائلًا:

-قصدك إلياس؟..

تأملتهُ لبعضِ اللحظات ثمَّ نطقت  كلماتها التي حوَّلتهُ إلى بركانٍ كادَ أن يحرقها حينما أردفت: 

-أرسلان..

صدمة..ذهول يطالعها وكأنَّ أحدهم صعقهُ بصاعقٍ كهربائيٍّ لينتفضَ جسدهِ من شدَّةِ ما أصابه..انعقدَ لسانهِ وتاهت المفرداتُ وكأنّهُ فقد جميع حواسه، لحظات مرَّت كسبعينَ خريفًا، ظلَّت تتابعهُ بعينيها ثمَّ استطردت: 

-أرسلان الجارحي ابني، بيكون اسمه: جمال جمال الشافعي. 

كلمات اخترقت أذنهِ كصدى صوتِ عويلِ رعدٍ ممَّا أصابهُ بالصمم ..تجمَّدَ جسدهِ وهي تتابعُ كلماتها التي سحبت أنفاسه:

-ابني اتخطف من تلاتين سنة، معرفشِ حضرتك لقيته فين، بس كلِّ اللي أقدر أقوله لحضرتك، إنَّك ربيت راجل ومتشكرة جدًا جدًا ومهما أشكرك مش هقدر أرد جميلك، بس كنت عايزة أعرف حضرتك اتبنيته زي ماغيرك اتبنى أخوه ولَّا إيه ولمَّا أنتوا اتبنتوه ليه نسبتوه لعيلتكم..رغم أنُّه عاش حياة بمستوى راقي بس هويته الحقيقة اندفنت معاه..قالتها بمرارةٍ والدمعُ يتساقطُ من عينيها..

شحبَ وجههِ بالكاملِ كالجُثة التي زهقت روحها..لم يعلم بما يجيب، كم هو مؤلمٌ هذا الشعورُ الذي تعجزُ عن وصفِ مابداخلكَ أثناءَ سرق كلَّ ماتمتلك..نعم اعترافٌ بداخلهِ أنَّ أرسلان امتلاكهِ الخاص حتى ولو نُسبَ إلى أخيه، ولكنَّهُ ابنهِ هو فقط، سنينَ حبٍّ وحنانٍ واحتواءٍ كيف بتلك السهولة أن يتخلَّى عنه، هل جُنَّت هذه المعتوهةُ لتأتي إلى هنا لتسرقَ فرحةَ قلبه.. 

رسمَ ابتسامةً باردةً وطالعها بأعينٍ خاليةٍ من أيِّ شعورٍ قائلًا:

-هو حضرتك مريضة ولَّا إيه، أرسلان مين اللي ابنِ حضرتك، مع احترامي لسيادةِ اللواء إلَّا مش من حقِّك تيجي وتوقفي قدَّامي وتتبلِّي على ابني، لو سمحتي يامدام أنا هعذرك علشان شكلك مضيَّعة ابنك بس حقيقي كان نفسي أساعدك.. 

هبَّت من مكانها كالملسوعة، وضربت بقوَّةٍ على مكتبهِ حتى تناثرت أشيائه: 

-حضرتك متفكَّرش إنِّي هصدَّق كلامك دا، أنا عايزة ابني..وجيت لحضرتك قبل ماأتكلِّم مع أرسلان، فياريت حضرتك تحترم عقلي وتعرف أنا مش هجي وأقف قدَّامك إلَّا إذا كنت واثقة من كلامي.. 


أحسَّ بقبضةٍ قويةٍ تعتصرُ فؤاده، وتسلَّلت الريبةُ من حديثها الواثق، ابتلعَ ريقهِ الجافَّ بصعوبة، ونهضَ من مكانهِ ثابتًا وكأنَّ حديثها لا يهمُّه، ثمَّ دسَّ كفوفهِ بجيبِ بنطالهِ وتحرَّكَ إلى أن وصلَ إليها: 

-أنا لسة بتكلِّم معاكي بهدوء احترامًا لسيادةِ اللواء وغير إنِّ أرسلان صديق للعائلة.. 

غرزت عينيها بمقلتيهِ بعدما علمت بأسلوبهِ الماكرِ واقتربت منهُ خطوةً حتى لم يتبقَّ بينهما سوى خطوةً واحدةً وأردفت: 

-أنا عملت تحليل DNA ياسيادةِ العقيد وأرسلان ابني، متخلنيش أخده بالغصب،

أشارَ إليها على بابِ الغرفة:

-روحي خديه، مش إنتِ واثقة أنُّه ابنك وجاية تسبِّي في شرف عيلةِ الجارحي، عايزك تروحي لأكبر قسمِ شرطة وبلَّغي علينا وقولي إحنا خطفنا ابنك يامدام، واثبتي براحتك..اقتربَ الخطوةَ التي تفصلهما وانحنى يهمسُ بصوتٍ خافت: 

-احمدي ربِّنا إنِّك مرات سيادةِ اللوا، غير كدا مكنتش خلِّيتك واقفة على رجلك، ودلوقتي الزيارة انتهت يامدام..قالها وهو يضغطُ على زرِّ مكتبهِ ليدلفَ الرجل ، فأشارَ إليه:

-وصَّل المدام شكلها تاهت في الطريق.


اشتعلت حدقتيها كجمراتٍ ملتهبةٍ فأشارت بسبباتها:

-جيتلَك ياسيادةِِ العقيد بس حضرتك طلعت ظالم مش زي ماأرسلان قال، ياخسارة مش هقول غير حسبيَ الله ونعمَ الوكيل..بس أنا مش هتنازل عن ابني..قالتها وتحرَّكت تأكلُ الأرضَ بخطاويها تهمسُ لنفسها:

-اجمدي يافريدة، لازم ترجَّعي ولادك محدش هيساعدك كلُّه هيقول يارب نفسي، حتى مصطفى اللي فكَّرتي إنِّك بتتسندي عليه طلع وهم.. 

اصطدمت بأرسلان الذي دلفَ من بابِ المكتب، ليتوقَّفَ مذهولًا: 

-طنط فريدة !!

وصلَ إسحاق إليهما بخطوةٍ واحدةٍ بعدما استمعَ إلى صوتهِ بخارجِ الغرفة: 

-أرسلان، عايز دينا من تحتِ الأرض ياله بسرعة مفيش وقت..رفعَ نظرهِ الى فريدة: 

-طنط فريدة عندنا ليه خير، وأنا بقول المكتب منوَّر ليه.

ربتَ على كتفهِ ينظرُ إلى فريدة التي تطالعهُ باشتياق، بعيونٍ مترقرقةٍ بالدموع..قاطعَ وصلةَ نظراتها حينما أردف:

-ياله حبيبي عايزك تجيب دينا من تحتِ الأرض..قالها وعينيهِ مازالت على فريدة التي اتَّجهت ترمقهُ شزرًا..

-حاضر ياعمُّو بس أعرف طنط فريدة مالها..حضرتك كنتي بتعملي إيه هنا، لو عايزة أي مساعدة ..فتحت فاهها للحديثِ ولكنَّ إسحاق صاحَ بغضب:

-أرسلان أنا مع فريدة هانم، كانت جاية لمشكلة ولقيناها تافهة مش محتاجة مساعدة، لأنَّها ممكن تخسر كتير.. 

سحبت أقدامها وتحرَّكت بأنينٍ دونَ حديثٍ لأنَّها علمت أنَّها أمامَ رجلٍ لا يستهانُ به..


-عمُّو في إيه..

-بيت السيوفي وابنِ السيوفي تنساهم ودا آخر علاقتي بيك، ياهمَّا ياأنا..قالها وتحرَّكَ للخارج..توقَّفَ يراقبُ تحرُّكهِ الجنونيّ بصدمةٍ يكرُّرُ كلماته: 

-يعني عايز يقطع علاقتي باإلياس..معقولة، وليه، ياترى طنط فريدة عملت إيه يخلِّيه ياخد موقف عدائي كدا..لا لا لازم أعرف. 

اتَّجهَ إلى سيارتهِ سريعًا، واستقلَّها وقامَ بمهاتفةِ إلياس: 

-إنتَ فين؟..كان واقفًاا أمامَ المرآةِ يتجهَّزُ لسهرتهِ الخاصَّةِ مع زوجتهِ فأجابه: 

-ليه فيه حاجة ولّّا إيه؟!

عايز أشوفك دلوقتي..أمسكَ زجاجةَ عطرهِ ونثرَ بعضها ينظرُ بالمرآةِ قائلًا:

-لا الليلة مش فاضي، ممكن بكرة تعدِّي عليَّا..

بس عايزك في موضوع مهمّ وضروري. 

قطبَ مابين جبينهِ متسائلًا:

-خير حاجة بخصوص إيه..نظرَ أرسلان إلى اسمِ زوجتهِ الذي أنارَ شاشةَ هاتفهِ فأجابَ إلياس: 

-تمام بكرة هعدي عليك. 

عند غرام كانت تحتضنُ أحشاءها تبكي بشهقاتٍ حينما فقدت القدرةَ على النهوضِ رفعت هاتفها للاتصالِ به: 

-حبيبتي أنا هنا في مصر، شوية وأكون في الفيلا وحشتيني. 

-بسرعة ياأرسلان، انا تعبانة، وبنزف ..

كنت حامل الحقني.. 

توقَّفَ بالسيارةِ فجأةً حتى اصطدمَ بالمقودِ يتساءلُ بصدمةٍ شلَّت أعضائه: 

-حامل ونزيف..تمام تمام ..ارتجفَ جسدهِ بالكاملِ وفقدَ السيطرةَ على خوفه، أمسكَ الهاتفَ بيدٍ مرتعشةٍ وهاتفَ والدته: 

-ماما.. غرام اطلعي عندها بتنزف وبتقولِّي كانت حامل، إزاي مراتي تتعب ومحدِّش يحسِّ بيها ياماما..

نهضت صفية متعجلِّةٌ بخطواتها: 

-حاضر ياحبيبي،أنا طالعة أهو، بعتلها ملك قالت عايزة تنام.. 

صرخَ بالهاتفِ وهو يقودُ السيارةَ بسرعةٍ جنونية:

-الحقيها ياماما، الحقي ابني لحدِّ ماأوصل، وهبعت للدكتور..


عند إلياس انتهى ممَّا يفعله، جذبَ ساعةَ يدهِ وارتداها متحرِّكًا إلى زوجته، دلفَ للداخلِ يبحثُ عنها: 

-ميرال خلَّصتي..خرجت من غرفتها بأناقتها بردائها الأحمر الفضفاض وحجابٍ باللونِ الأبيض، ولمساتٍ تجميليةٍ خفيفةٍ على وجهها الناعم، خطا إلى أن وصلَ إليها..رفعَ ذقنها بأنامله: 

-كنت عارف إنِّ الحجاب زينة الست، بس مكنتش أعرف أنُّه هيخليها ملكة متوجة كدا..ابتسمت وتورَّدت وجنتيها.. 

-ميرسي ياإلياس..حرَّكَ أناملهِ على شفتيها المطليةِ باللونِ الأحمرِ القاني، الذي جعلها أيقونةً للتذوق، لينحني بعدما فقدَ قدرتهِ على التَّخلي عن تذوِّقها، لحظاتٌ مرَّت ناعمة وهو يتذوقُ شهدها ثمَّ تراجعَ برأسهِ يزيلُ الباقي بابهامه.. 

-كدا أحسن، ليه الروج ونكون ملفتين لغيرنا، دا يتحط ليَّا بس غير كدا لا.. 

ضربت قدمها بالأرضِ تشيرُ على شفتيها:

-كدا بوظت الدنيا، إزاي أخرج من غيره بس..وصلَ إلى المرآةِ وتناولَ إحدى المحرمات الورقية المبللة وقامَ بإزالتهِ بالكامل 

-كلمة كمان وهضربك بالقلم على وشك، دا يتنيل يتحطّ في البيت، وياله ولَّا أرجع في كلامي 

طالعتهُ بنظراتٍ متلألئةٍ بالدموعِ ثمَّ تحرَّكت من أمامهِ دونَ حديث..

ركلَ المقعدَ يسبَّها بداخله، قابلتهما فريدة التي دلفت بعيونٍ حزبنة، توقَّفت أمامَ ميرال حينما وجدت عيناها تلمعُ بالدموع

مالك حبيبتي..عانقَ كفَّها ورسمَ ابتسامةٍ أمام فريدة: 

-هبات في بيتنا الليلة، متعملوش حسابنا..قالها وسحبها متحرِّكًا للخارجِ

توقَّفت تراقبُ تحرُّكهم متمتمة:

-ربنا يهديك يابنِ جمال، شكلك عنيف وتاعب البنت معاك، معرفشِ جايب القسوة دي منين..

-كنتي فين ؟!.

تساءلَ بها مصطفى الذي خرجَ من مكتبه..طالعتهُ بصمتٍ لدقيقةٍ ثمَّ اقتربت منه: 

-طلَّقني يامصطفى، الولاد كبروا ومبقوش محتاجيني، عايزة أرجَّع ولادي لحضني، إلياس لازم يعرف أنا أمُّه وإنتَ خايف على نفسك، أنا بقى مفيش حاجة أخسرها، عايز تعرف كنت فين ولَّا الأخبار عندك.. 

أطبقَ على ذراعها بقوَّةٍ يهزَّها بعنف:

-مفيش حد هيموِّت ولادك غيرك يامدام فريدة، إلياس من وقتِ مارحتي لراجح وبغباءك سلِّمتيه ابنك على طبق من دهب، باعت ناس ماشيين وراه في كلِّ مكان،افرحي بقى لحدِّ ما يرجعلِك مقتول، حاولت أفهِّمك دول تبع تنظيم ارهابي عالمي محدِّش قادر عليهم وفي أقرب وقت حدِّ فينا هيصفوه علشان مدام فريدة ترتاح. 

-أنا عايزة أطلَّق يامصطفى، كلامك مبقاش مأثَّر معايا..طلَّقني وبس..شهقةٌ خرجت من أحدهم وسقطَ مابين يديهِ حتى تناثرَ محدثًا صوت، لتستديرَ للخلفِ لتجدَ غادة تتراجعُ بجسدها الذي ارتجفَ بشدَّةٍ وعينيها التي أصبحت كالشلال، مما جعلها تفقدُ الحركة لتهوى على الأرضية تحتضنُ ركبتيها وتهزُّ رأسها بعنف.. 


عند إلياس 


ترجَّلَ من السيارةِ واتَّجهَ إليها يساعدها بالنزول،لمحَ أحدهم من خلالِ المرآة، ابتسامةٌ ساخرةٌ وهو يسحبُ كفَّيها ودلفَ للداخلِ يعرِّفُ عن نفسه ورقمَ حجزه..كانت تتحرَّكُ بجوارهِ لا تعلمُ اتسعدُ على اهتمامهِ أم تحزنُ على قسوته.. 


حاوطَ خصرها وتحرَّكَ إلى طاولتهم المحجوزةِ بمكانٍ هادئٍ على النيل، جذبَ المقعدَ وأشارَ إليها بالجلوس، لاحت نظرةٌ سريعةٌ بالخارج ..رفعَ هاتفه: 

-ممنوع حد يقرَّب من العربية، اللي يقرَّب منها أقتله..قالها وأغلقَ الهاتف.. 

ضيَّقت عينيها واقتربت تستندُ على الطاولة: 

-دا إيه الدم الشربات دا، علشان حد يقرَّب من عربيتك تقتله، أومال لو خطفها هتبعته جهنم..

جزَّ على أسنانهِ قائلًا: 

-ميرو حبيبتي، خلِّيكي في أخبارك الفاشلة، هيَّ عربيتي ولَّا عربيتك..

وصلَ النادلَ لطلبِ الطعام ..غمزَ إليها: 

-إيه عايزة محشي..كبحت ضحكاتها مبتعدةً بنظراتها عنه..طلبَ الطعامَ ثمَّ أشارَ إليها: 

-هتاكلي إيه..ابتسمت قائلة: 

-من اللي إنتَ هتاكله..أشارَ للنادلِ بالتحرُّك..ثمَّ تابعها بعينيهِ وهي تنظرُ إلى النيل..بسطَ كفَّيهِ يلمسُ كفيها التي تضعهُ على الطاولة..طالعها بابتسامةٍ قائلًا: 

-الليلة هكون ملكية خاصة لحضرة جنابِ الصحفية، أيِّ حاجة نفسك فيها تحتِ أمرك. 

انفرجَ ثغرها الرقيقُ بابتسامةٍ كوردةٍ ندية:

-أيِّ حاجة أيِّ حاجة..أومأ بعينيه: 

-ملكك واللي تؤمري بيه. 

نبرةٌ شجيَّةٌ ذبذبت كيانها لتجيبهُ بصوتها الرقيق: 

-بس إنتَ ملكي من زمان..استمعَ إلى الموسيقى وتوقَّفَ يغلقُ حلَّتهُ ويبسطُ كفَّيهِ إليها يسحبها للرقص..حاوطَ خصرها ورفعَ يديها لتعانقَ رقبته، وباليدِ الأخرى تضعها على موضعِ نبضه  

ويتحرَّكا على الموسيقى الهادئة.. 


-عايزة أرقص معاك كدا للصبح.. 

-أمم للصبح بس دا في بيتنا، علشان أعرف أخدك في حضني واستمتع بيكي كويس.. 

خدَّرَ جسدها بكلماتهِ التي أسكرتها كالخمرِ الذي يغيِّبُ العقل، فاقتربت تضعُ رأسها على صدرهِ موضعَ نبضهِ وأغمضت عينيها تستمتعُ بنبضِ قلبهِ تحت رأسها..حاوطَ خصرها والسعادةُ ترفرفُ حولهِ كالفراشة..دقائقَ من الصمتِ وهما يتراقصان على النغماتِ الرومانسية.. 

همسةٌ ضعيفةٌ أخرجتها من حالتها..لتعتدلَ يشيرُ إليها بالتوَّقف:

-الرقصة خلصت والأكل جه..تحرَّكت إلى الطاولةِ وقلبها يتراقصُ بحبورٍ من السعادة.. 

بعد فترة من تناولهم الطعام 

بحب الموسيقى دي ينفع نرقص عليها ولا هتقولي كفاية رقصنا مرة 

صمت ينظر حوله، بدأ المطعم بالهدوء، فلا يدخله سوى الطبقة الراقية،تنهيدة عميق ليتوقف بعدها وأشار إليها بالوقوف، تحركت مع إلى ساحة الرقص وهي تتدندن كلمات الأغنية وتتراقص بهدوء ..ابتسم عليها 

-متجوز عيلة ..رفعت حاجبها ساخرة ثم اردفت 

-تعرف في الشغل مش مصدقين انك جوزي

يابنتي المفروض تبقي فخورة من مجرَّد إنِّك مراتي..ابتسمت تراقبه بعيناها

-أيوة أيوة ماأنا فخورة أهو ومن كترِ افتخاري طولت اتنين متر.. 

-تريقة دي، شامم ريحة تريقة. 

استدارت وهو يلفُّ بها، ثمَّ جذبها إليهِ مرَّةً أخرى: 

-لا ياحبيبي مش تريقة هو في حد يعرف يتريق معاك، انتَ أخرك ابتسامة صفرة، توقَّفَ عن الرقص، وتقدَّمَ بخطواتٍ ثابتة، يسحبُ كفيها

-طيِّب ياله مفيش سهرة، وهعرَّفك الضحكة الصفرة، خطا بخطواتهِ الواسعةِ يسحبها خلفهِ وهي تنهرهُ محاولةَ الفكاكَ من قبضته، ولكنَّ قبضتهِ كانت كالأصفاد الحديدية، توقَّفَ على صوتِ أحدهم: 

-ميرال..التفتت إلى مصدرِ الصوت الذكوري، تركَ كفَّها مع اقترابِ أحد الأشخاصِ الذي ابتسمَ يبسطُ كفِّه:

-مصدقشِ عيوني، مين ميرال لبست حجاب، لا الصراحة، صاعقة كبيرة ..قالها وهو يعانقُ كفَّها وتابعَ حديثه:

-فينك يابنتي وحشتيني زعلت لمَّا عرفت إنِّك سيبتي الجريدة..

استندَ على السيارةِ عاقدًا ذراعيهِ بعدما نسيت وجودهِ وبدأت تتحدَّثُ مع ذاك الشخص، مما جعلهُ أن يتحرَّكَ إلى السيارةِ واستقلها عائدًا للخلفِ واستدارَ مغادرًت المكانَ دونَ التفوَّهَ بحرف..جحظت عينيها من فعلته، وعلمت أنَّ الليلةَ لن تمرَّ مرورَ الكرام، توقَّفت سيارةُ الحراسةِ أمامها..

-استقلَّتها بصمتٍ تام ، وهي تحاولُ مهاتفتهِ عدَّةِ مراتٍ ولكنَّهُ لم يجب عليها، هتفت إلى السائق: 

-وديني للباشا..

بسيارةِ إلياس ..نظرَ للطريقِ بغضبٍ جحيمي، وعينيهِ تخرجُ نيرانٍ يريدُ أن يحرقَ مايقابله، كلَّما تذكَّرَ اقترابَ أحدهم ولمسها، لمحَ السيارةُ التي تراقبهُ منذ فترة، طرقَ على المقودِ وعقلهِ يتحرَّكُ بكافةِ الاتجاهات، حتى غيَّرَ مساره واتَّجهَ إلى مكتبه.. 

-الباشا مش راجع البيت ياهانم، تروحي ولَّا..قاطعتهُ قائلة:

-وديني عنده..بعدَ دقائق َوصلت إلى مكتبهِ تبحثُ عنه .كان متوقِّفًا أمامَ النافذةِ ينظرُ للخارجِ وهو ينفثُ سيجارتهِ بهدوءٍ رغم ضحيجهِ الكامنِ بصدره...استمعَ إلى خطواتها بالخلف، ظلَّ كما هو، اقتربت منهُ تعقدُ ذراعها أمامَ صدرها: 

-حلو الموقف اللي حطتني فيه..التفتَ إليها وثبَّتَ مقلتيهِ على عينيها للحظاتٍ حتى شعرت برعشةِ خوفٍ من تلك النظرات..اقترب وسحبها دون حديثٍ حتى وصلَ لإحدى الغرف ووضعها بها:

-خلِّيكي هنا للصبح يمكن تترَّبي وتعرفي قيمة الراجل اللي إنتِ متجوزاه، وتحترميه قدام الناس، خلِّي شوية كلام الحب ينفعوكي..قالها وأغلقَ البابَ خلفهِ متحرِّكًا للخارجِ يجذبُ سترتهِ متِّجهًا إلى الأسفلِ في وسطِ ذهولِ كل الموجودين..استقلَّ سيارتهِ وعادَ إلى المنزل.. 

كانت بالحديقةِ تنظرُ أمامها بحزنٍ على ماصارَ اليوم، فاليومَ خسرت أحدَ أبنائها ولولا تدخلِ إسلام لكانت فقدت مصطفى للأبد، قفلت جفونها وبكت بصمتٍ كيف ستواجهُ الجميعَ حتى تعودَ إليها كلمة الأمومة التي سلبوها دون رحمة، استمعت إلى هاتفها نظرت إليه وتركتهُ يصدحُ بعدما تيقَّنت أنهُ راجح...ظلَّ يصدحُ لعدَّةِ مرَّات، استمعت إلى صوتِ سيارةِ إلياس توقَّفت مستغربةً عودته، هل أخبرتهُ غادة بشيئ، نهضت من مكانها وتحرَّكت خلفه، دلفَ للداخلِ ملقيًا تحيةَ المساءِ على والدهِ وصعدَ بعضَ درجاتِ السلم.. 

أوقفتهُ فريدة متسائلة:

-ميرال فين..صعدَ بطريقهِ وأجابها: 

-محبوسة، توقَّفَ مستديرًا لوالده: 

-مراتي عايزة تتربَّى، أتمنَّى من حضرتك ماتدخلش بينا...لم يعيرهُ مصطفى الذي لم يستمع إليهِ فكان شاردًا بما صارَ اليوم ..

-اتجننت حابس مراتك وفخور أوي ..رمقها بنظرة غاضبة:

-وبعدهالك بقى، متخلنيش أقلب عليكي.. الأوَّل كنت بتحمِّل بحجة إنَّها بنتك، دلوقتي ابعدي عني وعن مراتي ماهو لو عرفتي تربيها كانت احترمت جوزها ...توقَّفت مصدومةً لما استمعت إليه، اتَّجهت ببصرها لمصطفى الذي أفاقَ على صريخِ إلياس ..ابتسمَ ساخرًا ثمَّ توقَّفَ وتحرَّكَ إلى وقوفه:

-ربيها علشان متفكرشِ إنَّك ضعيف وبعد كدا تستهبلك..ألقى كلماتهِ كالقنبلةِ الموقوتةِ لتنفجرَ أمامهما، مما جعلَ إلياس متيبسًا بوقوفه، ذهبَ ببصرهِ سريعًا إلى فريدة يرمقها بنظراتٍ كالسهامِ الناريةِ حينما لمحَ الانكسارَ والضعفَ بنبرةِ والده: 

-إيه اللي حصل؟..

ربتَ على كتفهِ وتحرَّكَ من جوارهِ دون حديث..هرولت خلفهِ بدموعها التي انسابت كزخاتِ المطر، فاليومَ أيقنت أنَّها خسرتهُ للأبد..


-أسبوعٌ مرَّ على الجميعِ كالعاصفةِ التي اقتلعت كلَّ ماقابلها..

بغرفتهِ نهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى الغرفةِ المجاورة، وقفَ على أعتابها:

-قدامك عشر دقايق تجهزي فيهم علشان الطيارة ..نهضت بسكونٍ غير معتاد عليه، واتَّجهت إلى خزانتها وارتدت ثيابها المكونةِ من بنطالٍ واسعٍ باللونِ الأسودِ وكنزةٍ باللونِ الأبيضِ وحجابٍ يجمعُ اللونين، خرجت متجهةً إلى غرفةِ غادة الحاضرة الغائبة منذ أسبوع ولا تعلمَ بماذا أصابها، لقد ماتت حيويتها وأصبحت جسدًا بلا روح ..انحنت تقبِّلها قائلةً بنبرةٍ هادئة:

-مسافرة مع أخوكي، فين معرفش، قرَّر وحكم، هتوحشيني أتمنَّى لمَّا أرجع تحكيلي أنا حزينة ومعرفشِ إيه اللي حصلِك..

دلفَ إلياس إليها يشيرُ بعينيهِ إلى ميرال بالمغادرة ..انحنى يضمُّ وجهها يلمسُ وجنتيها بحنانٍ أخوي:

-زعلانة علشان ميرال مش كدا، طيب لو قولتلك عملت دا علشان أحميها هترجعي تضحكي تاني، إيه رأيك تيجي معانا، مع إنِّي مش عايز عزول، مراتي عايز أستفرد بيها وأدلَّعها شوية.. 

كانت تنظرُ إليه بدموعِ عيناها التي تنسابُ بصمت...جلسَ بمقابلتها واحتضنَ كفَّيها يقبلهما: 

-حبيبتي متوجعيش قلبي عليكي، احكيلي ووعد لو عاملة أيِّ حاجة وحشة هسامحك، المهم ضحكة غادة 

ترجع تنوَّر الدنيا كلَّها..ارتجفت شفتيها وكثرت دموعها حتى أصدرت شهقات، ضمَّها إلى أحضانه: 

-غادة دموعك بتقتلني، نفسي أعرف إيه اللي حصل لدا كلُّه، مين مزعلِّك أوي كدا ..ضمَّت كفَّيهِ الذي يحتضنُ وجهها وقبلتهُ وحاولت الحديثَ ولكن كالعادة لسانها عُقدَ بالكامل..دلفت فريدة تحملُ طعامها وجذبت المقعدَ تجلسُ بمقابلتها ..ابتعدت عن الياس ونظرت للخارج مبتعدةً عن نظراتِ فريدة.. 

دقَّقَ إلياس النظرَ بأخته، ومن فريدة التي تهربُ من نظراته، استندَ على الطاولةِ بكفَّيه:

-حاسس إنَّك ورا تعبها، من أسبوع وبابا مش بحالته وأختي اللي فقدت النطق، وإسلام اللي هربان من البيت، وعد منِّي لو كنتي ورا اللي حصل ردِّي مش هتتوقعيه ..شهقةٌ خرجت من غادة تضعُ كفَّيها على وجهها تبكي بنشيجٍ أدمى القلوبَ مما جعلَ فريدة تقتربُ منها وتحتويها بين أحضانها ..احتضنتها بقوَّةٍ مع بكائها الذي أصمَّ أذنه، فغادرَ مهرولًا المكانَ بأكمله..


.بعد عدَّةِ ساعاتٍ بأحد الجزرِ الإيطالية، أفاقَ من نومه يبحثُ عنها، ذهب ببصرهِ لجلوسها على الشاطئ تتلاعبُ برمالهِ وتذهب بشرودها للبحر..اعتدل يجذبُ ملابسه ثمَّ رفع هاتفه: 

-إيه الاخبار؟.، 

-مفيش جديد ياباشا، بيراقب البيت كالعادة.. والساعي أخباره ايه؟.. 

-من الليلة إياها وهو مختفي.

-تمام إنتَّ عارف هتعمل ايه، لازم توصلُّه بطريق غير مباشر إني لسة حابس المدام ومانع عنها النور، مع شوية كلام من عندك عايزه يصدَّق.. 

-أوامرك ياباشا..تحركَ إلى جلوسها الساكن ثم جلسَ خلفها يحتويها بين أحضانه يدفنُ رأس بخصلاتها :

-مش صحتيني ليه، كدا قاعدة لوحدك الوقت دا كلُّه.. 

ارتفعت دقاتُ قلبها بعنف وهي تنفرُ من نفسها من عشقه الذي يزداد، ليته ينقص بما يفعله بها قرَّبها إليها بحنان وحاوط جسدها حتى اختفى بالكامل داخل أحضانهِ وقبلةٌ على عنقها: 

-وحشتيني..ظلت ساكنة سوى من نبضها العنيف، مما جعلهُ يحركُ أنامله على جسدها لتردف: 

-مبسوط باللي بتعمله معايا ياالياس، يعني دا حب ولا عذاب.. 

أدارها إليها :

-لو عليا فأنا سعيد جدا بوجودك في حياتي المهم تكوني في حضني.. 

-بالعذاب..أكون في حضنك بعذابي ودموعي، مفيش غلطة بتعديها..

-وأعدي غلطك ليه، مش اللي بيغلط المفروض يتحاسب؟..

-طيب لو قولتلك العلاقة دي بتأذيني 

هتصمِّم برضو..

ابتسم يداعبُ وجنتيها: 

-طيب لو قولتلك عملت كل دا علشان أجيبك هنا وتفضلي في حضني..

-مش عايزاه الحضن دا.

-بجد ياميرال ..حاولت الخروج من أحضانه ولكنهُ أطبقَ عليها بقوة: 

-عمك عايز يخطفك من والدتك، وكان مراقبنا الليلة دي، كان لازم اعمل فجوة، أنا مكنتش مخطَّط لحاجة، لما جه موضوع اللزج اللي كان واقف معاكي لقيتها فرصة أعرَّفه إني بدوس على الكل ومستعد أعمل ايه، علشان كدا عملت معاكي كدا وهو لحدِّ دلوقتي مفكرني حابسك..


-ايه اللي بتقوله دا ..نهض ينفضُ ثيابه وانحنى يحملها: 

-لا دا مش موضوعنا، انا مش جايبك هنا علشان أحكي عن مرمطة عمك ورايا، وحياتي عندك لأخليه يقول حقي برقبتي، عايز يخطفك من حضني، يرضيكي يبعدك عن حضنِ المسكَّر.

-بس عمي ليه عايزني، مش الحق مع ماما..ابتعد بنظره عنها وحاول أن يبعد ذهنها بالتفكير

-هو عايز يحرمني من الجنة، وبس، نظر إليها وهو يتحرك بها 

-أنت جنتي حقيقي 

ابتسمت رغمًا عنها ورفعت كفيها تكفكفُ دموعها..داعبَ أنفها المحمرَّة بأنفه:

"مش مسموح لأي مخلوق ياخدك من حضني إلا إنتِ اللي مسموح لك تبعدي وقت ماتحسي إنك بتكرهيني أو أنا بكرهك"

أنزلها ببطئٍ محاوطًا جسدها، رفعت عيناها تعانق عيناه اللامعةِ بعشقها: 

-إنت عملت دا علشان عمي مايوصلنيش فعلا..حاوطَ جسدها بذراعه:

-ومستعد أقتله كمان، لو مش مصدَّقة خليه يقرب منك وشوفي هعمل ايه.. 

أفلتت ضحكةً ناعمةً حتى تحولَ وجهها للوحةٍ مرسومةٍ من البهجة..لمس وجنتيها ونزل بجانب أذنها:

-وحشتيني أوي حبيبي مش ناوي تروي قلبي اللي أصبح صحرا وجفا من البعاد

همست بشفتينِ مرتجفتين: 

-وحشتني أوي ..خطف روحها ليغيب عن الدنيا بدقاتهما العنيفة ويرتوي بنهرِ العشق، وهو يحركُ شفتيهِ مغردًا كالطائر بحبها ليتوقفَ كل مايحاوطونه، حتى توقفت عقارب الساعة بزمنها من حولهما من عذوبةِ اللقاء الذي أحرقهُ الشوق،

وآهة طويلة كانت أبلغُ من أي شعور عما يشعر به، أسبوعًا جافيًا منها حتى شعر وكأنَّها ألقتهُ بسعير جهنم ..إلى أن جمعهما عزف قلوبهما مرة أخرى ، لتعانقَ روحه روحها وتهتزُّ أوتار قلوبهما ..لتلهب حواس العشق جميعها ولا تنطفئُ سوى بالقرب ِالذي لا ينطفئُ نيرانهِ دون وصال..


دقائق ربما ساعات مرت ناعمةً بينهما كاالترانيم التي تشدو بأعذبِ الألحان

ورغم الشعور بالهدوء الذي غلَّفَ المكان واستكانت الأرواح باللقاء إلا أنَّها مازالت رغبةُ العشقِ متأججة بداخلهما، قرَّبها بحنانٍ يزيل خصلاتها من فوق وجهها واعتصرها بأحضانه، لتذوبَ به كأنهُ أول مرة يقتربُ منها، داعبت وجههِ بأناملها وهي تردُّدُ كلمات الأغنية التي تصدحُ بصوتها الهادئ بالمكان..

تنهدَ بصوتٍ عالٍ حتى ارتفع صدره وتنفس بهدوء..اعتدلت مستندةً على كفَّيها 

-التنهيدة دي علشان بغنِّي ومضايق من صوتي ولَّا..

ومضت عيناه وهو يحاورها بعينه للحظات، حتى انحنت تطبع قبلة على خاصته هامسة

-لا مش هتفضل ساكت كدا وأنا أكلم نفسي زي المجنونة.. 

ابتسم بعذوبةٍ يقبُّلُ كفيها:

-مش يمكن التنهيدة دي بعد رجوع روحي لجسمي تاني.. 

توردت وجنتيها بعدما علمت بمغذى حديثه، وذابت كل آلامها لتقتربَ منه: 

-كنت متأكدة إنك بتحبني، وقولت مستحيل تبعد عني. 

شعر وكأنهُ طائرٌ يرفرفُ ويشدو كالبلبل، ليجذبها من عنقها:

-زي ماأنا متأكد إني مدفون هنا..ماهو مش ادفنك هنا وأنتِ تدفيني برة، قالها وهو يضع كفيها على قلبهِ ثم انحنى يعزف لها بخبرتهِ أعذب الألحان يقطف شهدها ويخبرها أنها وحدها من تربعت على عرشه، مرَّةً أخرى، لم يستطع إبعادها أو تلاشيها كأنهُ عريسٌ ليلة زفافه، دقائق كاللحظات شعرت بها متنهدةً بجمالِ النبض، ليفوق الجمال وهو يدندنُ بكلماتِ الأغنية مداعبًا خصلاتها، وهي تراقب كل إنشٍ ينطقهُ وعيناه التي تحكي الكثير والكثير حتى لم تقو على الصمت؛ لتنطقَ كلمات جعلتهُ يشعر وكأنَّ الكون توقف من حوله ليكتفي بها وحدها ولا يريد أن يرى سوى جمالها الطاغي، ويسمعَ نبضها الذي يعزف اسمه..


ظل صامتًا يرددُ ما ألقته: 

-بتقولي ايه ..سحبت كفهِ وضعتهُ على أحشائها

-حبيبي هنا بذرة حبنا، حامل في شهرين ..

ساد صمتٌ عميقٌ بنظرات العشق وارتسمت فوق محيَّاه ابتسامةٍ عذبةٍ وهو ينظر إلى كفيه التي تضعه على بطنها وكلمة الحمل تخترق سمعه..

رفع عيناه على كلماتها: 

-بابا ماما عايزة تنزل البحر علشان تسبح معايا شوية ينفع يابابا، عارفة إنك مابتحبوش بس مامي بتحبه..


كلمات ماهي سوى كلماتٍ ولكن بأحرفٍ من الذهب حتى ارتجف جسده بالكامل يردد "بابا"..انقضَّ على شفتيها ينهل من عسلها ما يطفئُ نيرانه المتأججة التي أشعلتها بداخله من ذاك الخبر..

بعد عدة دقائق وكفيه يتجول على احشائها 

-هيكون عندي ولد

اتسعت ابتسامته وبدأ يقهقهُ بصوت مرتفع ينظر لوجهها الذي أشعَّ ضياءً وبهجةً وعينيه تعترفُ لعينيها بالكثير من المشاعر قبل لسانه ورددَ بولهٍ من جمال تلك اللحظات: 

"بحبك وبعشقك وبموت فيكي، حطي دول كلهم على بعض وهاتيلي ميرال الصغيرة..

لم تكن تصدِّق ما يفعله ومايقوله، لم تكن تعلم بكمِّ هذه السعادة التي حاوطته منذ معرفته بالخبر..


نهض من مكانهِ حينما فلت الصبر من قاموسه، ليميل وينحني يحملها متحركًا بها إلى مكانها المفضل، الذي جعلتهُ يعشقه بعدما كان ينفر من اقترابه:

-مش أنا كنت بكره البحر، لازم أحبه علشان حبيبتي بتحبُّه

هكذا كانت حالتهِ العاشقة بعدما علمَ بخبرِ حملها فهل ستدومُ السعادة..

الفصل الخامس عشر من هنا

تعليقات



×