رواية سجينة جبل العامري الفصل الثالث عشر بقلم ندا حسن
"أثر الصدمات الآتية من أكثر الأشخاص قربًا وحبًا لا يكون إلا كرهًا وموتًا"
نظرات مُتألمة ومخدوعة في سنوات راحلة، ملامح لا تصدق الصدمة التي رأتها من باب الصدفة وأدركت مدى خطورتها على حياتها وحياة ابنتها، قلب في لحظة تهشم وأصبح فُتات ليس له أي قيمة، جسد يرتجف بعنف يظهر على حركاته اللا إرادية الذهول التام وأدرك حينما أبصر الحقيقة أن أرضه كانت محتلة لسنوات عديدة.. ولكنها أحتلت بالحب والحنان.. أحتلت بالعطاء الوافر وفي الخلفية كانت الجرائم لا تعد ولا تحصى.. لم تدرك ذلك إلا الآن من باب الصدفة!؟
ترقرقت الدموع بعينيها الحادة ورفعت الأوراق بيدها إلى الأعلى لينظر إليهم ثم صاحت بصوت مرتجف مُتردد:
-ايه ده؟
جذب منها الأوراق بعنف وخرج صوته بحدة:
-أنتي مش هتهمدي؟.. مين قالك تمدي ايدك على الورق ده
صرخت بوجهه وهي تنهار وكل حصونها تقع مدمرة حولها من هول الصدمة فلا تستطيع تحملها:
-رد عليا بقولك.. رد عليا ايه ده
أجابها بعجرفة وهو يقف أمامها شامخًا يعلم جيدًا ماذا رأت لتكن بهذه الحالة:
-ميخصكيش
عارضته بقوة وحده وصوتها يعلو أمامه:
-لأ يخصني.. يخصني أكتر منك
تقدم منها يقف أمامها أكثر إقترابًا عندما رق قلبه ناحيتها ورأى رعشة جسدها الواضحة وملامحها التي تحولت إلى أوراق ذابلة:
-قولتلك يا زينة بدل المرة عشرة اتحكمي في فضولك وخليكي في حالك أنتي مش هتوصلي لأي حاجه إلا لو أنا اتكلمت وأنا مش هقولك حاجه لأن الحقيقة هي اللي قدامك بس أنتي مش مقتنعة
صرخت بوجهه منفعلة وهي تشير بيدها الاثنين بهمجية شديدة:
-ما تولع.. ياخي ما تولع أنا دلوقتي بتكلم في الورق ده! يونس؟ يونس كان عارف كل حاجه أنت بتعملها كان شريكك؟
تعلقت عينيها به عندما وجدته صامت لا يُجيب، أطالت النظر إلى عينه الحادة فلم تدرك ما تقول وإلى ماذا تشير! وضعت يدها على صدرها تستعطفه وحالتها مذرية:
-رد عليا يا جبل.. أبو بنتي كان بيعمل كده معاك؟ كان عارف كل حاجه عنك؟
أومأ إليها برأسه بقوة وتأكيد وبعدما كان مظهرها يؤثر على قلبه الجاف القاسي تهللت أساريره وهو يراها فرصة مناسبة لإبعاد "يونس" عن قلبها للنهاية وأن يرق قلبها ناحيته هو:
-آه كان عارف
صرخت بعنف وقسوة وصوتها الحاد يخترق أذنيه قائلة بانهيار:
-لأ.. لأ كدب... كدب
كان أناني للغاية في هذه اللحظات عندما وقف بجمود يتحدث بقسوة لن تفيد أي شخص إلا هو:
-أنتي مجنونة ولا ايه، سألتي ورديت والورق قدامك يثبت وأنتي عارفه إني مش كداب
تقف الدموع حبيسة على أعتاب جفنيها تأبا الهبوط بهذه السهولة أمامه ولكن الصدمة كبيرة للغاية على استيعاب عقلها وقلبها:
-لأ قول غير كده أرجوك.. قول غير كده إزاي يونس؟ لأ طبعا مستحيل
حرك كتفيه وهو يستلذ بهذه النظرات الخارجة منها الغير مصدقة لما رأته وما قاله عن شقيقه ولكن في نفس الوقت تتغير هذه النظرات إلى الصدمة والذهول الذي يبغضه:
-طالما أنتي شايفه إنه لأ براحتك
تقدمت منه للغاية وأمسكت بيده بقوة تجهش في البكاء في لحظة ضعف أقل ما يقال عنها أنها جعلت قلبها فتات ملقى على الأرض بإهمال من قِبل شخص تخلت عن بصرها لأجله! الدموع تنهمر من عينيها بغزارة كأنها كانت حبيسة لسنوات والآن تحررت..
خرجت الكلمات منها مُتعثرة تتليها شهقات مُتفرقة ونظراتها نحوه تطالب بأن يكذب كل شيء فليس من السهل عليها أن تتحمل هذا أيضًا:
-جبل علشان خاطري.. قولي الحقيقة كلها.. ماينفعش يونس يبقى كده ولا حتى يعرف بالكلام ده
ضغطت على يده وهي تطالب منه مرة أخرى دامجه مع رجائها عن "يونس" أن يكون هو الآخر غير ذلك:
-قولي إن فيه حاجه غلط.. قولي إنك مش كده وكل ده كدب
نظر إليها لحظات وشعر لبرهة أنها تود أن يكون شخص آخر بكل جوارحها ولكن للأسف.. تحدث بجدية وهدوء، ينعم بثبات غير طبيعي أمامها:
-دي الحقيقة.. أنا كده جبل العامري مجرم وقاتل ويونس كان عارف كل حاجه عني وكان شريكي
دب خنجر داخل قلبها مُعتقد أنه مازال في موضعه بكل قسوة وأنانية:
-اومال أنتي مفكرة أن الفلوس اللي كان بيصرفها عليكم دي منين
تركت يده وبقيت ترتعش أمامه، أردفت سريعًا توضح له وتنفي ما يريد التلميح له:
-من شغله.. كان شغال في شركة محترمة ومكناش أغنية بالعكس كنا زي أي حد
تعالت ضحكاته وهو يُسير مبتعدًا عنها متقدمًا من خزانته ليضع الأوراق في مكانها وهو يقول ساخرًا منها:
-عيشتي خمس سنين أنتي وبنتك وأختك بفلوسه اللي سابها وزي أي حد؟ أنتي بتضحكي على نفسك
صرخت به وهي تنهار مرة أخرى وأخرى وبكائها لا يتوقف ويرتفع صوت شهقاتها في أذنيه لا تتحمل ما يقوله ولا تستطيع استقبال تلك الصدمة:
-ماينفعش والله العظيم ماينفعش.. يونس!.. لأ
طمست على وجهها وأزالت عبراتها وهي تحاول أن تتحلى بالثبات قائلة بروعة:
-يونس كان طيب وحنين.. راجل بجد ومحترم ومثقف.. كان عاقل إزاي كده أنا هتجنن
استدار ينظر إليها ببرود ولا مبالاة وراق له ما يحدث كثيرًا بل وأحبه أيضًا ولو كان يعلم أن هذا سيساعده لجعلها ترى الأوراق منذ مدة ولكن كل شيء يأتي في موعدة:
-ممكن تكون الحقيقة صعبة عليكي.. بس في النهاية هي دي الحقيقة
أشارت إلى نفسها وهي تتحرك في الغرفة تحدث نفسها باستنكار وانهيارها الداخلي أصعب بكثير مما يظهر عليها:
-كان بيبعدني عن الجبل وعنك علشان كده! كان بيحذرني منك وأنا مكنتش فاهمه حاجه طلع كان عارف
وقفت تتابعه والكلمات تخرج منها بعفوية:
-كان عارف وكان شريكك.. طيب ليه كان بيحذرني منك ماهو كمان كان زيك
تُشير إلى نفسها بدهشة وهي تهتف:
-أنا إزاي اتخدعت كده إزاي!..
نظرت إليه بأمل واقتربت منه لا تستطيع تقبل ما يحدث، لا تستطيع أن ترى زوجها الراحل بهذا الشكل والهيئة الذي عليها شقيقه.. قاتل، مجرم.. لا تستطيع فهو حقًا لم يكن هكذا:
-الورق ده أكيد مزور.. أكيد غلط أنت عملت كده علشان أشوف يونس زيك صح.. قول الحقيقة أنت اللي عامل كده
وضع يده بجيب بنطاله كعادته الباردة وهو يتابعها دون ذرة رحمة أو شفقة لحالتها الجنونية المنهارة:
-أنا لو عملت كده هستفاد ايه مثلًا
أشارت إليه بقوة وصاحت بصوت مرتفع عالٍ تقول ما أراده حقًا ولكن لم يفعله فهو لم يأتي بخلده أن يفعل ذلك من الأساس:
-إني أكره يونس علشان أنت عارف إني لسه بحبه.. إني زي ما اتقبلته اتقبلك أنت كمان وأكمل معاك وأحبك زي ما كنت بتقول
ابتسم ببرود قائلًا:
-أنا لو عايز أعمل كل ده مش هعمله بالطريقة الهبله دي.. عندي طرق تانية أحسن وأسرع كتير
وضعت يدها على ذراعه تستطعف كل عضو به وعينيها تذرف الدموع بغزارة ويدها الموضوعة عليه يشعر بارتجافها.. قالت بانكسار وهي تسير خلف أي شيء يكذب ما علمته:
-جبل فهمني.. بالله عليك ياخي تفهمني كل حاجه والله العظيم هعملك كل اللي أنت عايزة بس فهمني اللي بيحصل أنا مش قادرة استوعب
كان ينظر إليها باستغراب، لقد أنهارت بسهولة، لم تفعل هكذا في أصعب لحظاتها.. لم تنهار هكذا عندما أقترب منها ولم تنهار هكذا عندما أخذها الجبل، لم تنهار بهذا الشكل في أي لحظة مرت عليها معه.. أيعقل إلى هذه الدرجة كانت تعشق شقيقه وتراه رجل غير أي رجل:
-أنا عمري ما شوفتك كده
انسابت الدموع من عينيها بكثرة وضغطت على يده وهي تجيبه بتعلثم:
-دي صدمة عمري.. أنت قتلتني بجد
أكملت على حديثها تحت نظراته المستغربه إياها:
-أو هو اللي قتلني.. مبقتش عارفه مين فيكم الجاني والمذنب ومين الكويس البرئ
أجابها بمنتهى السهولة ينظر إلى عينيها مباشرة بعينيه الخضراء المخيفة ثم قال:
-إحنا الاتنين مذنبين وأكتر.. بس في فرق بينا، الفرق إن يونس كان خواف وجبان كان مداري ده كله عنك بالحنية والحب وشوية الكلام الحلو بتاعه إنما أنا
ابتسم بخبث وحقارة ولذة المتعة تحلق في سمائه وهو يرى نظراتها نحوه التي تتحول كل لحظة والآخرى وعينيها لا تستطيع التحكم بتلك المياة المالحة الخارجة منها كأنها نهر جاري:
-أنا بقتل القتيل وأمشي في جنازته بس باختلاف أن كل الناس بتكون عارفه إني القاتل ومحدش بيقدر يرفع عينه فيا.. عارفه ليه؟ علشان أنا جبل العامري وأنتي أكتر واحدة عارفه صاحب الاسم ده ايه
تركت يده وابتعدت للخلف، لا تستطيع التحمل حقًا لا تستطيع..
الجميع يعلم كل شيء، يونس! يعلم وكان من شركاه، والدته، شقيقته، الخدم، الحرس، الجزيرة بأكملها والجميع يغلقون أفواههم بغراء!..
أين الشرطة؟ أين القانون، وأين هي ومع من وكيف ستستمر هنا وإلى متى! وما مصيرها
فارت الدماء بعروقها وتضخمت رأسها من كثرة الأسئلة وهي تنظر إليه بحدة وغرابة تهابه بطريقة لا توصف ومنذ لحظات كانت تتحدث معه بمنتهى الأريحية والبساطة..
ربت على كتفها وهو ينظر إليها وإلى ملامحها ويعلم جيدًا ما الذي تفكر به:
-اقتلي فضولك.. قبل ما اقتله أنا
دفعت يده بعنف ليبتعد عنها ترفع يدها إلى وجهها تمحي دمعاتها تزيل وجود أثرها ثم صاحت بشراسة وقسوة وهي تعود من جديد قائلة:
-فضولي مش هيموت وضميري هيفضل صاحي مش هبقى زيكم.. عمري ما هبقى زيكم وأنا اللي بقولك يا جبل مش هطلع من الجزيرة دي إلا وأنا عارفه سرك وسرها.. وهكون أنا.. أنا زينة مختار اللي أنت ارغمتها على العيشة هنا هي السبب في خراب كل اللي بتعمله وأنا قولتلك الكلام ده أول ما وقفت قصادك وأنا لسه عند كلامي.. وهيتنفذ وبكرة تقول زينة قالت
ابتسم وأكمل على حديثها ساخرًا:
-وريني شطارتك يا غزال
تهكم عليها أكثر وهو يقلل من قدرتها على فعل ذلك، سخر من كلماتها وهو يبتسم بتشفي قائلًا:
-متعرفيش أنتي الواحد نفسه يتغير إزاي ويبقى بني آدم زي ما بتقولي.. يلا عايز أشوف همتك
تغيرت ملامحها وصمدت أمامه وهي تصيح قائلة:
-هوريك.. مافيش حاجه اخسرها أكتر من كده، الراجل الوحيد اللي حبيته جوزي وأماني وسندي يطلع هو كمان مجرم وتاجر سلاح وقاتل أرواح الناس و.....
جذبها ناحيته من خصلاتها ليبقى وجهها أمامه مباشرة.. تحدث أمام شفتيها ببطء وتروي وكأنه يبعثه إلى داخلها:
-الله يرحمه.. أنا بس اللي جوزك دلوقتي أنا بس يا زينة!
دفعته بقبضة يدها في صدره ولكنه لم يهتز فصاحت بقسوة وعنف بعدما أدركت أنها وقعت ببراثن عائلة العامري عن حق:
-أنت وهو أوسخ من بعض ومكنش المفروض أعرف حد فيكم
قال رافعًا أحد حاجبيه للأعلى:
-قدرك ونصيبك.. ولسه الحلو مجاش
عادت للخلف بعدما تركها قائلة بجدية وثقة:
-مظنش في حلو وأنا معاك
ابتسم وهو يبتعد خارجًا من الغرفة شامتًا بها والسعادة ترفرف داخله بكل ما حدث منذ قليل.. كُسر أنفها بمعرفة حقيقة شقيقه الآن فقط لن تستطيع أن تقف أمامه وتتحدث عنه وتثرثر طيلة الوقت تشرح صفاته الذي لا مثيل لها.. أنهم الاثنين شخص واحد الآن.. هذا قاتل وهذا مثله
جلست على الفراش وانتحبت في البكاء مرة أخرى، قلبها يدق بعنف وكثرة وجسدها بالكامل يرتعش..
الدموع تنساب من عينيها بغزارة دون إرادة منها وعقلها يلقي عليها كل لحظة مرت عليها معه، كيف له أن يكون هكذا؟ كيف استطاع أن يكون ذلك الشخص الحنون الراقي.. العاقل المثقف كيف استطيع تمثيل الحب بهذه الطريقة وهو قاتل مجرم بشع..
أنهارت قلعتها وأنهار مخدعها.. وقعت حصونها وسالت الدماء في كل مكان وليس هناك ناجي واحد من هذه الملحمة.. ما بقيٰ منها حطام امرأة تحاول جمع شتات نفسها لأجل أشخاص حياتهم متعلقة بحياتها.. والله لو كان بيدها لعرضت حياتها للخطر ألف مرة وهي تحاول الهرب..
ولكن بعد ما عملته لن ترحل.. لن تترك الجزيرة ولن تترك جبل، لن تبتعد عن قصر العامري وجزيرة العامري ستبقى هنا إلى أن تعلم كل شيء..
تخاف أن يكون حديثه صحيح وليس هناك ما يُخفى عنها وتنصدم مرة أخرى بأنه حقًا قاتل مجرم.. ولكن هناك شعور داخلها يكذب كل هذا يقول أن هناك ما يُخفى عنها وعليها أن تعلمه لأنها أصبحت داخل المعركة تحارب بكل جوارها لتستطيع الصمود والبقاء أمام كل هذه الصدمات..
لن تترك جزيرة العامري لن تفعلها.. إلا إذا سمحت لها الفرصة بذلك دون المخاطرة بحياة من معاها، ستترك كل شيء حينها وتذهب دون عودة..
❈-❈-❈
ذهب "جلال" إلى منقطة الجبل بعدما تحدث معه "عاصم" طالبًا منه اللحاق به إلى هناك، حاول أن يسأله ما الأمر الذي استدعاه لأجله ولكنه لم يتفوه معه بشيء والآخر قد استغرب كثيرًا لأن من المفترض إن كان هناك مهمة أو شيء كهذا سيعرف ومعه بعض الحراس ولكنه على أي حال ذهب مسالمًا ليعرف ما الذي يريده "عاصم" منه..
لم يرى أحد عندما وصل إلى هناك فنادى بصوته عاليًا باسمه ليظهر من العدم في لمح البصر وملامح وجهه حادة جامدة وعيناه مُثبتة عليه بقوة.... وقسوة.
أقترب منه ببطء وهناك حالة برود تامه توحي بها ملامحه مخالطة للجمود والقوة البادية عليه بينما في الداخل حربًا ضارية وأصوات كثيرة كل منهم يطالب بفعل شيء مختلف عن الآخر به ليتعلم الدرس جيدًا من أول مرة دون العودة إلى المراجعة.. ليكن تلميذ مجتهد..
وقف أمامه ثابتًا و "جلال" ينظر إليه باستغراب وإلى حالته فسأله يُشير بيده مستفسرًا:
-في ايه؟ جبتني هنا ليه ياعم
أجابه "عاصم بمنتهى البرود والحدة معًا وهو ينظر له بحقد وكراهية:
-علشان نتحاسب
لوى "جلال" شفتيه ساخرًا ناظرًا إليه بعمق وهو في قمة ارتياحه:
-نتحاسب؟ نتحاسب على ايه.. هو أنت عليك فلوس ليا لامؤاخذة
حرك "عاصم" شفتيه ورأسه بقوة معقبًا على حديثه معدلًا إياه:
-تؤ.. أنت اللي عليك
سأله مرة أخرى وهو لم يفهم شيء مما يتفوه به ذلك المعتوه:
-عليا ايه
-حق
نطق كلمته بمنتهى البرود الذي يملكه ثم في لحظة تحول إلى ذئب من أحد الذئاب في غابتهم وتمثل به عندما لكمة بقوة وعنف في وجهه بحركة مباغتة، ترنح "جلال" إلى الخلف وخرج صوته بخشونة شديدة وقوة وهو يُشيح بيده بعصبية مفرطة:
-أنت اتجننت ولا ايه يَلاَ
انفعل للغاية بعدما لكمة "عاصم" ونظر إليه نظرة نارية والغل يملؤها فاقترب منه مرة أخرى وهو يلكمة ثانية بقوة أكبر من السابق وبحقد دفين وكره لا يستطيع السيطرة عليه بعدما أقترب من أغلى الأشياء على قلبه وليس أي اقتراب بل استحل كل ما بها له وأقترب إلى الحد الأعمق الذي لم يصل إليه هو بعد..
دفعه "جلال" للخلف ليبتعد عنه وهو لا يستطيع الدفاع عن نفسه لأنه يداهمه في لحظة مفاجأة ويريد أن يعلم ما السبب الذي يجعله يفعل به ذلك..
ازدادت النيران المتأهبة نحوه لتشتعل في أي لحظة لتحرقه وتحرق كل ما يصدر عنه، صرخ بقوة وعنف وعروقه بارزة من كثرة الانفعال:
-أنت شكلك اتجننت فعلًا يا عاصم.. عايز ايه
صرخ الآخر مثله بقوة وصوته عاليًا يرتفع بعنف، تحركه مشاعر الغيرة المكبوتة داخله ولا يستطيع التعبير عنها:
-أنا اللي اتجننت ولا أنت يا ابن الكلب
أشار إليه "جلال" بيده مهددًا إياه بنظرات نارية يتبادلونها معًا:
-ولاَ احترم نفسك قسمًا بالله ههينك أنا لحد دلوقتي مردتش عليك وعلى غباءك
أشار بيده الاثنين على صدره وهو يقترب منه يحثه على القدوم نحوه وبدأ العراك:
-لو تقدر ترد وريني يا جلال
غمزه بعينه وهو يرد عليه قائلًا واثقًا من نفسه:
-بلاش علشان هتزعل في الآخر.. وأنا مبحبش أزعل صحابي
سخر منه "عاصم" بشدة واسترسل في الحديث المهين إليه وهو يعبر عن مدى صغر حجمه بالنسبة إليه:
-صحاب مين يلاَ.. أنت نسيت نفسك ولا ايه أنا مش صاحبك أنت مجرد حارس زيك زي أي حد واقف ماسك سلاح.. أنت ماشي تحت أمري
أشار إليه بيده بعدما أكبت الكلمات التي استمع إليها من قلبه وعقله وأشعرته بالغيرة الشديدة التي لو بدأت في التضخم أكثر من ذلك ستحرق الجزيرة بأكملها:
-لأ أنا زيي زيك يا عاصم وأنا وأنت عارفين إحنا ماشيين تحت أمر مين.. ولا أنت هتعمل فيها الكبير
-أنا كبير غصب عنك
قال جملته بثقة وكبر ثم دفعة للخلف بعنف أسقطه أرضًا فرفع بصره إليه وهو يجلس على الأرضية بارتياح قائلًا بخبث:
-أنت شكلك متهزق جامد من جبل
ابتسم إليه وهو على دراية تامة بمدى خبثه وحقارته فقال بجدية:
-متحاولش تصطاد في الميه العكره
تفوه الآخر يكمل عليه بحديث ذات مغزى:
-متحاولش أنت تقف صلب.. أنا عارف إنك بتتهز
تقدم نحوه وانحنى بجزعه عليه ليمسكه من تلابيب ملابسه يرفعه ليقف أمامه مرة أخرى ثم صرخ بوجهه بعنف وقوة:
-مالك ومالها يلاَ.. عايز منها ايه
كان يدري أنه يتحدث عن "إسراء" وليس هناك أحد غيرها ليفعل كل ذلك لأجله، تلك الغبية التي قالت له ما حدث، افتعل الغباء قائًلا:
-هي مين دي
حرك جسده بعنف بين يده بغضب عارم وعصبية مفرطة هما المتحكمان الرئيسيين به الآن:
-أنت هتستهبل.. أنت عارف كويس مين دي
أكمل "جلال" على نفس النحو قائلّا ببرود:
-لأ مش عارف
لكمة قوية أخذها بجانب شفتيه على حين غرة ككل مرة سابقة فعلها "عاصم" فاعتدل "جلال" ثم خرج عن سيطرة نفسه وأعاد اللكمة إلى صاحبها مرة أخرى ليدخل معه في حرب ضارية كل منهم يسدد للآخر اللكمات أينما تأتي..
نشب بينهم عراك قوي محتد وكل منهم يغل على الآخر بطريقة أو بأخرى وخرجت سيطرتهم عن نفسهم بكل سهولة فـ "عاصم" كان يضربه بكل جوارحه في أي مكان يقابله بيده وقدمه ونيران غيرته تشتعل داخله دون حتى أن تتهيأ إلى ذلك نشبت في لمح البصر وعيناه تتذكر ذلك المشهد القذر الذي اختلى بحبيبته به وأخذ ما لا يحل له ولو كان استنشاق بعض من أنفاسها..
والآخر كان يضربه للأسباب أخرى عديدة منها حقده عليه بعدما قلل منه منذ قليل وقال ما يعتلي صدره واقفًا للبوح به وها قد فعلها وهو يرى نفسه مالك الجزيرة أو ملك على عرشه..
أعطاه "عاصم" ضربه خلف الأخرى بقدمه اليمنى في معدته بعدما جعله ينحني للأسفل لتخرج الدماء من فمه وأنفه بغزارة بعد كم اللكمات الذي أخذها.. دفعه للخلف ليقع على الأرض ملقى على ظهره ثم مسح "عاصم" بظهر يده الدماء الذي تسيل من شفتيه وفمه عائدًا إلى الخلف يخرج سلاحه من بنطاله سابحًا الزناد موجهًا إياه عليه بنظرة مميتة..
ثم أخرج هاتفه هو الأخر وفتحه ليظهر أمامه الفيديو الذي أُرسل إليه من "فرح" ليرفعه أمام وجهه فنظر إليه بقوة وتوتر فلم يكن يدري أبدًا أنها قامت بتصويره وأيضًا أرسلته إلى "عاصم"!.. من غيرها سيفعل ذلك؟ وهو الذي توقع أن "إسراء" من قصت عليه ما حدث ولكنها حقًا ضعيفة هلوعه لن تستطيع فعلها بعدما هددها بصراحة
خرج صوت عاصم بحدة:
-عرفت مين ولا لسه معرفتش
تصنع عدم فهمه لحديثه وحاول ضبط نفسه وهو يقول ببرود:
-ما تقول إنك بتتكلم عنها أنا معرفش إنك تقصدها
صرخ به "عاصم" وهو يدلي إليه بمدى كذبه يوضح أيضًا أنه يفهمه جيدًا:
-كداب يلاَ.. كداب وأنا هقصد مين غيرها
ابتسم "جلال" بسخرية شديدة:
-شوف أنت
وقف "عاصم" صامدًا محاولًا التماسك على ذلك الحيوان الحقير وقال بخشونة:
-جلال أنا مش ملاوع.. ورب العزة هدفنك مكانك.. قربت للبت ليه
أكمل الآخر ما بدأ به وهو يقول بكذب:
-هيكون ليه يعني.. حلوة وكتكوته وهي موافقة أنت اللي هترفض
ضربه بقدمه في معدته بقوة وهو ملقي على الأرض أمامه وجن جنونه وهو يستمع إلى حديثه عنها:
-هي مين دي اللي موافقة يا كلب
نطق اسمها ببرود وهو يشعل النيران داخله على الرغم من تألمه الذي يسير في أنحاء جسده بعد تبادل الضربات معه:
-إسراء
قال عاصم وعروق جسده بالكامل بارزة من كثرة الانفعال:
-متجبش سيرتها على لسانك
لعب على وتره الحساس وهو يشعره بأنه إلى الآن لم يتأذى وسأله بخبث ومكر:
-أنت محموق كده ليه
لم يخفي الأخر عليه سرًا وهو من الأساس لم يكن سر فهو يعلم جيدًا أن هناك علاقة تنشب بينهم:
-أنت عارف كويس أنا محموق ليه
أكمل وهو يُشير إليه ناظرًا إليه بجدية شديدة وخرج صوته بخشونة وقوة صارمة لا نقاش بعدها:
-أنا مش هحلف يا جلال بس دي قرصة ودن.. لو قربت منها ولو بنظرة أنا هقتلك وأنت عارف إني قدها
تعالت ضحكات الآخر وهو يسخر منه:
-خوفت
-لازم تخاف
ابتعد للخلف عنه ورفع سلاحه إليه موجهًا إياه ناحيته ثم بمنتهى البرود واللامبالاة خرجت منه طلقة نارية أصابته في يده اليسرى فصرخ عاليًا بقوة وعنف بعدما اخترقت الطلقة لحمه..
تجعدت ملامح وجهه وهو يتلوى على الأرض خلف الجبل من كثرة الألم ولم يكن متوقع أن يصل الحال بـ "عاصم" إلى أن يطلق عليه رصاصة نارية..
نظر إليه الآخر ببرود وهتف ساخرًا:
-قولتلك لازم تخاف
أكمل بعنف وقسوة لا نهائية وهو يعي ما الذي يتفوه به ويستطيع التنفيذ في أي لحظة كما فعلها الآن دون أن يرف له جفن:
-قسمّا بالله المرة الجاية ما هسمي عليك يا جلال
ثم تركه وابتعد عائدًا مرة أخرى إلى القصر تاركًا إياه على الأرضية الرملية يتلوى متألمًا مُمسكا بيده لاعنًا الساعة التي فعل بها هكذا لتغدر به تلك الحقيرة وتقوم بتصويره وإرسال ما حدث إلى "عاصم" لن يكون هناك أحد غيرها فعل ذلك..
بينما الآخر شفي غليله ولو قليلًا بعدما فعله به فلا يحق لأي أحد غيره أن ينظر إليها مجرد نظره أو يعبر من جوارها مستنشقًا رائحتها.. اقترابه منها كان بمثابة اقترابه من الموت ولكنه كان رحيم معه هذه المرة.. ولكن المرة القادمة إن وقع أسفل يده سواء عن طريقها أو غير طريقها لن يرحمه.. يقسم أنه لن يرحمه..
بينما هي، لم يأتي دورها بعد!..
❈-❈-❈
دلف إلى القصر والنيران تشتعل داخله، تحرق كل ما به، تمزق روحه وما داخلها من مشاعر تجاهها وحب لا يخمد بسهولة.. فهو حصل عليه بعد معاناة وانتظار طويل، بعد أيام وليال لم يفكر فيها بأحد ولم يترك لمشاعره العنان لتحلق في سماء الحب والغرام إلا عندما رآها هي وابتغى قربها وحبها..
تعبث به غيرته العمياء ويقتله المشهد المتكرر داخله وهو يقترب منها بكل سهولة وحميمية وهي تقف أمامه دون أن تتحرك أو تبدي أي اعتراض وكأن ما كان يحدث يروق لها ويسعدها..
ولكن كيف! إنها بريئة، طفلة صغيرة لا تفهم فيما كان يحدث معها منه، ليست خبيرة في أي شيء أنه عندما يهتف بابسط الكلمات المغازلة لها تدوب وهي تستمع إليه..
تتغير تعابير وجهها وتتجه للاحتراق من كثرة خجلها، كيف لها أن تكون سعيدة ومرحبة باقترابه منها، أنه لا ينخدع بأحد، رجل أو امرأة لا ينخدع بأحد يستطيع أن يرى إن كان كاذب أو صادق يخدعه أو لأ وهي بريئة إلى درجة أنه لا يمكنه الشك بها أو بعفويتها ورقتها..
أخرج هاتفه من جيب بنطاله ووقف ينظر إلى شرفة غرفتها بأعين نارية غاضبة للغاية، قام بالاتصال بها أكثر من مرة وهي لا تجيب عليه، تدفقت الدماء بعروقه وانحبست أنفاسه من شدة الغضب.. ينظر إلى الهاتف مرة والشرفة ألف مرة.. ضوئها مشتعل، لم تنم بعد.. تحاول الهرب منه؟ تخاف أن يكون علم بشيء! لن يتركها.. لن يتركها إلا عندما تجيب عليه ويعلم منها كل ما حدث، سيحاسبها ولن يسمح لها أن تمنعه.. أنها تعلم ما يشعر به تجاهها حتى لو لم يعترف بعد.. أقل حق له أن يغير ويحترق من كثرة غيرته على من أحبها..
توقف رنين الهاتف بأذنه ليستمع إلى صوتها الهادئ الخافت فخرج صوته بانفعال:
-مبترديش ليه
أجابته بنبرة خافتة تنهي حديثها بسؤال مثله لتنهي المكالمة سريعًا:
-رديت أهو في حاجه؟
تفوه بجدية تامة ونبرة صوته حازمة مقررة أن عليها الهبوط إلى أسفل ليراها:
-انزلي أنا عايز اتكلم معاكي
امتنعت عن رؤيته قائلة بهدوء:
-معلش مش هعرف أنزل
صاح بقوة وارتفعت نبرة صوته صارخًا بها يأمرها بأن تفعل ما طلب وهو يكبح نفسه عن ترك مشاعره تنطلق عليها وتحرق ما يحيطها:
-بقولك انزلي عايزك
استغربت نبرة صوته الذي يتحدث بها معها فضيقت ما بين حاجبيها وسألته مُستفسرة:
-أنت بتتكلم معايا كده ليه؟
زفر بضيق وامتعاض وحاول تهدئة نفسه يطمس على وجهه بيده ثم قال برفق:
-اسمعي الكلام وانزلي أنا عايز أتكلم معاكي في حاجه مهمة
مرة أخرى تعارضه بعدما ارتفع صوتها قليلًا:
-وأنا بقولك مش هعرف أنزل
تنفس بقوة ثم زفر الهواء من رئتيه بغضب جامح ولم يستطع السيطرة على نفسه أكثر من ذلك فقال بخشونة يفجر قنبلته في أذنها:
-كنتي بتعملي ايه مع جلال ورا القصر
أحاط الصمت خلوتهم، لا يستمع إلا لأصوات أنفاسه اللاهثة بفعل ارتفاع وانخفاض صدره بشدة وعنف، بينما هي قابلته بالسكوت أكثر من اللازم لم تتقابل معه حتى بصدى أنفاسها..
صرخ بقوة والدماء تفور بعروقه من شدة غيرته وما أحرقه وجعله يأن أكثر هو صمتها:
-ردي عليا كنتي بتعملي ايه
قابلته بصوت خافت برئ، مهتز مبعثر كأوراق شجر مبعثرة على الأرضية تود لو أحد يجمع شتاتها:
-أنا معملتش حاجه
وقف في مكانه ولم يتحرك يضغط على الهاتف بيده بقوة يستشعر نبرة صوتها المتوترة ويقتله صوت شهقاتها التي تحاول مداراتها عنه:
-أنتي بتعيطي؟
ارتفع صوت بكائها عندما علمت أنه أدرك ذلك، تركت لنفسها العنان لتخرج ما في قلبها مع أحد ولن يكن أحد أفضل منه:
-هو اللي قرب مني غصب عني... وهددني لو قولت لحد مش هيسكت
لوح بيده في الهواء بعنف وشدة يكبت جموحه، يقيد جسده وأعضائه يتحدث من بين أسنانه ضاغطًا عليهم بقوة:
-وأنتي ليه وقفتي كنتي اصرخي ولا اعملي أي حاجه
أجابته بضعف وقلة حيلة ونبرتها مرتجفة:
-هو كان معاه مطوة حطها في جنبي وهددني بيها.. أنا والله معملتش حاجه.. بالله عليك متقولش لحد يا عاصم علشان خاطري بلاش زينة وجبل يعرفوا
سألها بشك بعد الاستماع إلى آخر حديثها:
-أنتي خايفة ليه؟
أجابته بتوجس ورهبة ظاهرة:
-أنا.. أنا مش خايفة بس مش عايزة مشاكل
استنكر كلماتها بشدة وصاح قائلًا بغلظة يشير بيده في الهواء بهمجية دليل على مدى تعصبه الذي يحاول أن يكبته:
-يقرب منك كده بالطريقة دي وتقولي مشاكل.. أنتي مجنونه
ارتجفت نبرتها أكثر وازداد صوت بكائها وقلبها ينتفض أسفل يدها الموضوعة عليه خوفًا من أن تعلم شقيقتها أو زوجها:
-علشان خاطري بلاش.. كفاية اللي حصل أنا مش هنزل تحت تاني خالص..
قال سريعًا يقاطع حديثها:
-انزلي أنا محتاج نتكلم
رفضت قائلة بجدية:
-أنا مش هنزل.. بكلمك أهو
كان يريد أن يراها يطمئن عليها، يستشعر مدى صدقها وكذبه، يرى براءتها ورقتها، يهدأ من روعه بالنظر إلى الملحمة القابعة داخل عينيها المختلطة بالسماء الزرقاء المتوسطة السحاب الأبيض..
علل بجدية شديدة ونبرته ملحة عليها أن تنزل إليه ليستطيع رؤيتها:
-مش واخد راحتي ومش فاهم حاجه.. عايز أفهم واشوفك
رفضت مرة أخرى وهذه المرة كانت قاطعة عندما ارتفع صوتها متخليًا عن نبرته الخافتة..
-مش هقدر
أدرك أنها خائفة من أن تتواجد هنا بالأسفل لأجل ذلك الحيوان الحقير فقال مهدأ إياها يطمئن قلبها:
-متخافيش أنا اخدتلك حقك منه.. مش هيقدر يرفع عينه فيكي تاني
خرج صوتها بلهفة وخوف:
-عملت فيه ايه
ضيق ما بين جاجبية وضاقت عيناه أيضًا وهو يسألها بعد الاستماع إلى نبرتها المتلهفة:
-أنتي خايفة عليه
صمتت لبرهة ثم أجابته بالنفي قائلة بثقة وتأكيد:
-لأ طبعًا أنا بس.. أنا بس مش عايزة مشاكل قولتلك
ام تستمع إلى إجابة منه فقالت مرة أخرى تسأله باستفسار:
-عملت فيه ايه
أجابها بخشونة وغلظة وهو يتذكر الشجار الذي نشب معه منتهيًا لأنه تلقى منه رصاصة نارية:
-ربيته وبعد كده لو شافك في مكان هيختفي منه
سألته وهي تتنفس بعمق:
-للدرجة دي..
ابتسم بزاوية فمه يود لو يبوح لها بكل ما يكنه صدره عنها، لو يقول كم يحبها ويعشق البراءة الخالصة النابعة منها وكأنها هي من علمت البشر إياها، يقول إنه يلقي بنفسه في التهلكة لأجلها ولكنه اكتفى بقليل من الحديث قائلًا:
-وأكتر كمان.. قوليلي ايه اللي حصل وايه خلاه يعمل كده
روت إليه ما حدث منذ البداية بهدوء بعدما هدأت قليلًا:
-أنا كنت بتمشى تحت وبكلمك، بس أنت مردتش وصلت ورا القصر فجأة لقيته بيشدني وحاوطني قدام السور.. اتكلم معايا كلام غريب
ضيق عينيه وسألها بصوت رجولي حاد:
-كلام ايه
لوت شفتيها بعدم معرفة هي الأخرى فلم تفهم ما الذي كان يقصده أو ما الذي يُشير إليه فقط استمعت إلى حديثه والقته عليه:
-كنت بقوله يبعد عني علشان معملتش فيه حاجه بس هو فضل يقول إني عملت وقربت وحبيت.. حتى لسه بقوله أبعد عني يا جلال قاطعني وقالي عاصم
استردت تكمل بصوت مُتحير:
-أنا مفهمتش حاجه من اللي قالها.. ولا حتى فهمت ليه قرب مني كده وبعد، بس هو خوفني أوي وحسيت أنه بيخوفني من حاجه معينة بس أنا مفهمتش
صمت قليلًا وانشغل عقله بحديثها يكرره مرة وأخرى ودقت فكرة غريبة على رأسه لا يدري أهي صحيحة أو مجرد هاجس!..
قال بهدوء وهو يبتسم بزاوية فمه:
-ده طبيعي
سألته باستغراب فلم تفهم ما الذي يقصده هو الآخر بعد كل حديثها هذا:
-هو ايه
قال بابتسامة عريضة ظهرت على شفتيه فجأة لتظهر أسنانه من خلفها:
-إنك مش فاهمه أنتي كده كده غبية
صاحت بقوة وصوتها يصرخ في أذنه بعدما تمادى بوقاحته معها:
-احترم نفسك أنا مش غبية
عبث معها أكثر رافعًا أحد حاجبيه يشاكسها لتخرج مما هي به ولتعود لطبيعتها الخجلة الرقيقة فتلك الحزينة لا تليق بها أبدًا:
-خوافة طيب؟
صرخت باسمه بانفعال:
-عاصم
صدحت ضحكاته وهو يستمع إلى صراخها ثم خفض صوته وقال بنبرة نادمة حزينة:
-أنا آسف
سألته باستغراب:
-على ايه
وضح لها بصوت رجولي جاد، يتغلغل داخلها ويهدد كيانها بالانهيار والسقوط راكعًا إليه مطالبًا بالحب إن لم يكن يحب:
-لو كنت جنبك مكنش حصل كل ده أو حتى لو رديت عليكي أنا آسف سامحيني
تفوهت بنبرة رقيقة للغاية، هادئة إلى أبعد حد وكأنها تلقي عليه تعويذة غرام تسحره لها تجذبه ناحيتها ليطالب بالبقاء معها إلى المنتهى وما بعده:
-أنت مالكش ذنب في حاجه
رفض حديثها وهو يشعر أنها ملكه، له وحده امرأته وحبيبته هو الحامي والحارس لها.. هو الدرع الواقعي والوجه المتصدي لأي خطر يتجه ناحيتها:
-أنتي مسؤولة مني
صمتت قليلا وصوته يدلف إلى أعماق قلبها وبالأخص إن كان يتحدث بهذه الطريقة المغرية للغاية والمطالبة بالحب بل بكل الحب والغرام..
قالت اسمه بنبرة خافتة:
-عاصم
مشاعر غريبة اجتاحته وهو يستمع إلى اسمه من بين شفتيها يخرج بهده الرقة والنعومة، تدفعه إلى الاعتراف بكل شيء يكنه لها فقال برقة هو الآخر يبادلها:
-قلبه
لبرهة ابتسمت واتسعت ابتسامتها وهما يلقيان التلميحات لبعضهما البعض وكل منهما يعلم ما في مكنون الآخر له.. قالت بجدية:
-مش عايزة حد يعرف حاجه عن اللي حصل.. لو سمحت
أومأ برأسه قائلًا بجدية:
-حاضر
بدأ في محادثتها بعيدًا عن ما حدث بعدما خفف عنها بحديثه الساخر الممازح لها ولكنه كان من داخله يشعر بالالتهاب الحارق والمميت بسبب غضبه وغيرته، تتدفق الدماء بعروقه أكثر وأكثر وهو يتذكر ما فعله ذلك الحيوان وتكرر عليه أذنه صوت شهقاتها وبكائها الخافت..
لن يفكر كثيرًا فيما حدث، بل سيفكر في القادم، سيفكر بما سيخطط له ليكتشف تلك الفكرة التي طرأت على عقله.. صحيحة أم ليس لها وجود من الأساس..
ليترك حبيبته، ليترك حبه وغرامه جانبًا الآن وليتجه إلى الأعمق والأكثر خطورة..
❈-❈-❈
"بعد منتصف الليل في اليوم التالي"
واقفة في شرفة غرفتهم في الأعلى تنظر إلى أسفل تتابعه بعينيها وهو يتنقل بين الحرس يتحدث معهم بجدية وصرامة ظاهرة، وحركة الجميع متوترة وكأنهم ينتظرون حدث مهم ينبه عليهم بالالتزام بتعليماته وتنفيذ أوامره..
ظهر "جلال" ليقف أمامهم رافعًا ذراعه أمام صدره برباط طبي أثر ما فعله به "عاصم" في الأمس..
نظر إليه "جبل" مستنكرًا مظهره وسأله بجدية مضيقا عينيه على ملامحه:
-ايه اللي عمل فيك كده
أبعد "جلال" بصره إلى "عاصم" يخترقه بنظرته الحاقدة الكارهه له، لم يكن يستطيع أن يقول ما حدث بينهم لأنه سيكون المتضرر إن لم يقتله جبل لأنه تعدى على أهل بيته ولكن هذا لا يعني أنه سيبتلع ما فعله به..
-رصاصه طايشه خرجت من سلاحي وأنا بنضفه
تفوه بجدية متابعًا إياه:
-مش تخلي بالك
أومأ الآخر رأسه قائلًا بامتعاض:
-أهو اللي حصل
رن هاتف "عاصم" فابتعد قليلًا عنهم يجيب عليه يتحدث بجدية، لحظات وعاد إليهم يشير إلى جبل قائلا بجدية:
-وصلوا يلا بينا
قال موجهُا حديثه لجلال:
-خليك هنا
أجابه معترضًا وهو يتحرك معهم:
-لأ هاجي معاكم متقلقش أنا تمام
أومأ إليه جبل وهو يبتعد يسير إلى الخارج ومع "عاصم" و "جلال" الذين يتبادلون النظرات الحارقة لبعضهم البعض..
وخلفهم البعض من رجال حراسته المتواجدين في القصر..
نظرت إليهم باستغراب واعتدلت في وقفتها، إنه لا يترك القصر دون حراسته أبدًا.. لقد ترك عدد قليل للغاية هنا ربما أربعة أو خمسة متفرقين في أنحاء القصر يتخفون في الأشجار وهم ينتقلون داخله بسبب قلة عددهم..
مؤكد هناك شيء سيحدث ليفعل هذا.. شيء مهم للغاية!..
حركت عينيها يمينًا ويسارًا بتفكير.. عليها أن تكن من الحاضرين في قلب الحدث..
ولجت إلى الداخل وأخذت هاتفها من على الفراش ثم هبطت درجات السلم سريعًا لتذهب خلفه وترى إلى أين هو متجه ولكن يبدو أنها تعلم.. إلى أين سيذهب إلا إلى "جبل العامري"!..
خرجت من البوابة الداخلية للقصر وهي تنظر حولها، أبصرت حارس يقف على البوابة الخارجية مؤكد سيمنع خروجها وإن خرجت بموافقته فسيقوم بمحادثته ليبلغه أنها خرجت..
تنفست بعمق وسارت بهدوء ثم وقفت أمامه قائلة بصوت جاد تنظر إليه نظرات حادة:
-أنا سمعت صوت ورا القصر شوف في ايه
أومأ إليها دون حديث ثم ذهب ليتأكد مما قالت له دون أن يُخون حديثها، انتهزت الفرصة بعد ابتعاده للداخل ولا أحد من الباقيين يراها.. فتحت البوابة ببطء فتحة صغيرة للغاية لتخرج جسدها منها ثم جذبتها خلفها سريعًا بهدوء كي لا يرتفع صوتها ويعلم أنها خرجت..
لم ترى طيفهم حتى في الطريق المظلم أمامها، استغربت اختفائهم بهذه السرعة فسارت راكضة متوجهة إلى "جبل العامري" لترى أن كان هو هناك أو لا ولا تترك هذه الفرصة الذهبية تضيع من يدها لتبدأ بالبحث عنه..
وصلت إلى هناك بعد دقائق قليلة للغاية وهي تركض وكان حدثها صحيح.. لم تستطع أن تتقدم من الجبل فقد كانوا يقفون أمامه.. أمام بوابته الحجرية الضخمة..
بقيت بعيدة عنهم لم تقترب، سارت تعاكس طريقهم لتقف خلف شجرة بعيدة ولكن تستطيع أن ترصدهم جيدًا من ورائها..
يخرجون كمية كبيرة من الصناديق من داخل الجبل، يقفون والسـ ـلاح بيدهم، ويقف رجلًا مقابلا لـ "جبل" زوجها لا تستطيع أن تبصره جيدًا بسبب جسد زوجها الذي يحجبه عنها..
أخرجت الهاتف من جيب بنطالها سريعًا وقامت بتشغيل الكاميرا تسجل كل ما يحدث، تستطيع أن تتحكم بالكاميرا أكثر لتقترب من أجسادهم ووجوههم وكأنها تقف بينهم، وضعت الكاميرا لدقائق على مخرج الجبل ترصد الرجال وهم يخرجون منه بالصناديق، تتحرك بالهاتف بيدها لتأتي بظهر جبل الغير واضح وذلك الرجل الذي يقابله ومعه "عاصم" وكثير من الرجال..
أقترب الرجل الذي كان يتحدث معه يفتح أحد الصناديق ليظهر جسده وجهه بالكامل في الكاميرا يخرج من الصندوق سلاح يرفعه للأعلى ينظر إليه مبتسمًا..
كالهفوة مرت بعينيها إلى جانبها للأمام وعادت مرة أخرى تتابع ما تفعله، ولكن عينيها اتسعت للغاية وصدمت لا تستطيع تفسير ما رأته!..
رجل آخر يقف على بعد كثير منها، يقترب من "جبل" ومن معه أكثر يتخفى خلف حجارة كبيرة للغاية تبتلع جسده ورائها، يقوم هو الآخر بتسجيل كل ما يحدث بينهم!..
من ذلك!؟
طُرح السؤال على عقلها أكثر من مرة في ثانية واحدة، سريعًا عدلت تفكيرها لتصب تركيزها على ما يحدث ثم أبعدت الكاميرا عليه هو الآخر لتحتفظ به معهم!..
ولكن يبقى السؤال من ذلك الشخص!؟
لمحت بطرف عينيها زوجها "جبل" الذي استدار للخلف ينظر بعينيه الخضراء المخيفة اللامعة في وسط ظلام الليل.. استدارت خلف الشجرة سريعًا تلهث بعنف وصدرها يعلو ويهبط خوفًا من أن يكون أبصرها!..