رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الحادى عشر بقلم سيلا وليد
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
أما القلب فهو مُتعب ، وأما الخاطر فهو مكسور ، وأما الروح ما عادت تشتهي شيء .!
وليشهد الله…
أني بذلتُ حتى ذبلت💔
وإني تغاضيتُ حتى سئمت..
وتمسكتُ بالحبال حتى تجرحت يدي💔
وإني صنتُ الوّد …
حتى نفاذ السبعين عُذرا
"هذَا أنَا..
لَا تخلُوا مِنِّي مَعركَة،
سَتجدُنِي أُقاتِل ولَو بِحُطام قلبِي، ثُمَ أَجمعُ أشلَاء أحلَامي وأقُولُ: لَا بَأس،
والبَأسُ كلهُ ' فِي قَلبي..!"
دلفَ لداخلِ الغرفةِ يبحثُ عنها، وقعت عينيهِ على تلكَ الورقة، أمسكها وبدأ يقرأُ ماتحتويه:
سلامُ اللهِ على من لايزالُ ينبضُ لهُ القلبُ رغمَ جروحِه..
سلامُ اللهِ على من غزا القلبَ وسكنه..
سلامُ اللهِ على من حطَّمَ قلبي وأذاقهُ من آلامهِ ما كفى ..أمَّا بعد:
وعدتَ بكلِّ برودٍ ووفيِّت، فسابقًا كانَ قلبي خاليًا من الآلامِ والآنَ يشقُّهُ كلَّ الآلام..عشقتُكَ بكلِّ اللغاتِ لتقدِّمهُ كلَّ معاجمَ العشقِ لمعاني الهوى ويتهادى بها العاشقينَ ويترنَّمُ بها العازفين، ولكن ماذا قدَّمت، قدَّمتَ لي قلبًا محفورًا بالثُقوب، اللعنةُ عليك َوعلى عشقكَ الذي شقَّ الصدر، وملأَ العيونَ بالدموع.،
اللعنةُ على عشقٍ أسودٍ تنفجرُ منهُ براكينُ الأسى والندم ويقتلهُ الشوقُ ويمزِّقهُ البعدَ حتى جعلني أحنُّ لماضي كان قلبي خالٍ من نبضٍ يحملُ اسمك..
"إلياس أنا مبقتشِ عايزاك، إنساني وعيش حياتَك زي ماقرَّرت، لا عمري هسامحَك، ولا عمرَك هتغفرلي، نعم عشت معاك أجمل أيام حياتي، ولكنَّك مسحت أجملها وتركت أسوأها في قلبي، أنا خرجت وللأبد..كان لازم أعرف من الأوِّل مش إنتَ الشخص اللي أقدر أقدِّم لهُ قلبي، كنت بسامحَك علشان بحبِّك، بس خلاص قلبي مات ومبقاش فيه اللي يغفرلَك، متحاولشِ تدوَّر عليَّا، أصلًا هريَّحك، ماما مالهاش دعوة ياريت تبعدها عن خلافنا
"ميرال".
كوَّرَ الورقةَ بكفِّه، حتى كادت أن تتمزَّقَ بيدِه، لحظات يشعر وكأن الغرفة تطبق على صدره حتى انقطع تنفسه، اغمض عيناه محاولًا سحب نفسًا عميقًا، ثمَّ وضعها بجيبهِ وتحرَّكَ للخارج، رفعَ هاتفِه:
-إزاي مدام ميرال خرجت من المستشفى..أجابهُ الرجل:
-مفيش حد خرج يافندم..
-سلِّم سلاحَك لرئيسَك، مش عايز أشوف وشَّك..قالها ودلفَ إلى أمنِ المشفى:
-فين الكاميرات بتاعة الدُّخول والخروج يابني..قالها وهو يشيرُ ببطاقةِ عملِه..فُتحت جميعَ الكاميراتِ ينظرُ إليها بوجهٍ متجهِّم وعيونًا تُطلقُ نيرانًا،
لحظاتٍ وكأنَّهُ فوقَ صفيحٍ ساخنٍ حتى ظهرت أمامهِ وهي تخرجُ من بابِ المشفى تضعُ فوقَ أكتافِها وشاحًا أبيضًا وبيدِها حقيبةٌ صغيرة، قرَّبَ الحقيبةَ إليهِ وظلَّ ينظرُ إليها ..طرقَ على سطحِ المكتبِ بقوَّةٍ ثمَّ دفعهُ ليتساقطَ مافوقهِ من أجهزة، وتحرَّكُ للخارجِ سريعًا كالذي يطاردُ عدوَّه، وصلَ بعدَ قليلٍ إلى مكتبهِ وجمعَ من هم تحتَ إشرافِه:
-عايز العربية دي من تحتِ الأرض، قالها وأشارَ لهم بالخروج..
استمعَ إلى رنينِ هاتفِه:
-أيوة ..إلياس ميرال معاك، مش موجودة في أوضتها؟!..
-ارجعي على البيت وإن شاءَالله بالليل هترجَع..قالها وأغلقَ الهاتف..
احتضنَ رأسهِ يتذكَّرُ كلماتَها التي صفعتهُ دونَ رحمة، مرَّ أكثرُ من ساعتينِ والوضعُ كما هو ..إلى أن فقدَ أعصابهِ فتوقَّفَ يجمعُ أشيائهِ وتحرَّكَ للخارج ..وصلَ بعدَ قليلٍ إلى المنزل، قابلتهُ فريدة:
-فين ميرال ياإلياس..قالتها بوصولِ مصطفى يوزِّعُ نظراتهِ بينهما:
-مالكُم واقفين كدا ليه؟!..
-المدام مشيِت، مراتي سابتني ومشيت، إيه رأيكوا..
شهقةٌ خرجت من فمِ فريدة تهزُّ رأسها رافضةً حديثِه:
-يعني إيه مشيِت، لا، مستحيل بنتي متعملشِ كدا..
-وأهي عملِت، كنتي زعلانة، كأنَّها بتعيد الماضي ايه مش دي أفعال أمَّها..
إلياس اتجنِّنت..قالها مصطفى بغضب، ولكنهُ لم يهتمّ لوالدِه:
-إيه يامدام فريدة مش دي بنتِك، زمان حضرتِك عملتيها ودلوقتي بنتِك بتكرَّر فعلتِك، بس أنا مش هرحمها..
دفعهُ والدهِ بعيدًا عن فريدة التي ظلَّت تردِّدُ بهذيانٍ ولسانٍ ثقيل:
-إنتَ متعرفشِ حاجة، أنا غير ميرال، كان لازم أهرب منُّه..قالتها ببكاءٍ حتى شعرت بضعفِ جسدِها، فتراجعت للخلفِ بساقينِ هُلاميتينِ تُطالعهُ بألمٍ انبثقَ من عينيها..اتَّجهَ مصطفى إليها يضمُّها وهتفَ غاضبًا:
-كفاية بقى ياحضرةِ الظابطِ الذَّكي، لحدِّ إمتى هتفضَل أعمى البصر والبصيرة، حاولت أفهِّمَك مليون مرَّة ولكن الباشا أصدر الحُكم حتى مرجعشِ للقاضي، اسمعني بقى ياإلياس باشا علشان من حُكمك الغلط، الستِّ دي اتظلمِت كتير، وأنا مش هسكُت على إهانتَك ليها تاني، هربت آه هربت، هربت من ظالم وجبروت، اقتربَ مصطفى منهُ وغرزَ عينيهِ بمقلتيه:
-أظُن أبوك مش غبي علشان يعرَف يحكُم على الناس، كنت مُنتظِر منها إيه بعدِ ماخطفوا ولادها، كنت مستنِّي إيه منها إيه لمَّا واحد واطي يتجوِّزها بالتهديد و..
-مصطفى خلاص اسكت..قالتها فريدة بعدما هوت على الأرضيةٍ تبكي بنحيب:
-أنا مظلومة يابني، وميرال عملِت كدا من وجعَك فيها، رفعت عينيها إليه..
ولو مش مصدَّق يبقى نصيبَك أمَّك ومراتَك كدا ولازم تتحمِّلُهم..
رمشَ بعينيهِ قليلًا محاولًا استيعابَ ماألقتْه، استدارَ بأنفاسٍ مُتسارعةٍ بعدما حاوطها مصطفى وأوقفها متَّجهًا بها إلى غُرفتها..
ساعدها في النومِ ثمَّ دثَّرها بالغطاءِ جيدًا..ظلَّت تُهمهم:
-ميرال ..رجَّعلي ميرال يامصطفى، شوفوا قالَّها إيه خلَّاها تمشي.
-اهدي علشان ضغطِك، فريدة مش عايزِك تتعبي حبيبتي، هتكلِّم معاه، بس إنتِ اهدي..
بغرفتهِ جلسَ على مقعدهِ الهزَّاز كحالِ قلبِه، ينظرُ بشرودٍ بأرجاءِ الغرفةِ كالذي يبحثُ عن شيئٍ مفقود، أطبقَ على جفنيهِ مكوِّرًا قبضتهِ حتى نفرت عروقهِ بشكلٍ مخيف، يهمسُ لنفسِه:
-مش هرحمِك صدَّقيني، أنا مراتي تهرَب منِّي، ظلَّ لدقائق، دلفَ مصطفى إليهِ وجدهُ شاردًا حتى لم يشعر بدخولِه..جذبَ المقعدَ وجلسَ بمقابلتِه:
-عجبَك حالَك كدا؟..
-مالُه حالي، صعبان عليك ولَّا مضَّايق منِّي..جذبَ المقعدَ واقتربَ منه:
-فاكر قولتلَك إيه من عشرين سنة، نهضَ من مكانهِ مبتعدًا بنظراته؛
-مُش فاكر ومش عايز افتكِر، توقَّفَ مصطفى يُطبقُ على ذراعِه:
-يابني حرام عليك هنرجع نكرَّر الكلام ونزعل من بعض..
التفتَ لوالدِه:
-مدام فريدة إزاي ولادها اتخطَفوا؟..
صدَّقتها يابابا، أنا زمان أثبتِّلَك إدانِتها ومضطَّر برضو تحاول تطلَّعني غلط..
-علشان إنتَ غلط ياإلياس، فريدة فعلًا مظلومة، ولادْها اتخطفوا يابني مش بعتْهُم..
- بابا أنا رُحت هناك غير الراجل اللي بعتُّه، مش معقول البلد كلَّها ظلماها..
-طيِّب ياإلياس ..تفتكِر ليه فريدة هتكذب عليَّا وكدا كدا أنا اتجوِّزتها، يعني مش فارق معاها أصدَّق ولَّا لأ؟..
-بابا أنا دلوقتي بدوَّر على مراتي اللي خرجت من المستشفى تعبانة ومعرفشِ عنها حاجة، مدام فريدة متهمِّنيش..
انكمشت ملامحهِ وأردفَ بامتعاض:
-فريدة تعبانة ياإلياس، وممكن في أيِّ وقت أخسرها، بلاش تقسى عليها يابني علشان متجيش في وقت تندم..
-تعبانة!..إزاي تعبانة مالها يعني؟..
-يهمَّك؟..نظرَ إليهِ بنظراتٍ حزينة:
-أكيد يابابا يهمِّني، متنساش إنَّها كانت درع حماية لأخواتي في وقتِ من الأوقات، ومهما ..رفعَ كفَّيهِ ليوقَّفه عن الحديث:
-مش عايزَك تكمِّل الأسطوانة الِّلي حفِظها، المهمّ خلِّي بالَك من كلامَك معاها، كفاية خسرِت غادة مش عايز أخسر فريدة ..قالها وتحرَّكَ للخارج..
ظلَّ متوقَِفًا لدقائقَ ينظرُ إلى سرابِ والدِه، دقائقَ ولم يشعر كم مرَّ عليهِ من الوقتِ لتسوقهُ قدماهُ إليها ولا يعلم لماذا هذا الشعور، يريدُ أن يطمئنَّ عليها، طرقَ البابَ عدَّةَ مرَّاتٍ مع خروجِ غادة من غُرفتها، وصلت إليهِ متسائلة:
-فيه أخبار عن ميرال، ماما فريدة تعبانة أوي، ومش على لسانها غير ميرال ..
-هيَّ صاحية ولَّا نايمة؟..
تحرَّكت قائلة: هشوفها كدا، لحظات وأشارت إليهِ بالدُّخول:
-تعالَ أُدخل صحيِت على صوت تخبيطَك، خطا للداخل، وجدها تعتدلُ على فراشها تنظرُ إليهِ باستغراب، اقتربَ منها وعينيهِ تحاورُها بالأسفِ والنَّدم ..
توقَّفَ عاجزًا عن الحديثِ وكأنَّهُ لايعلمُ كيف يبدأ، استمعت غادة إلى رنينِ هاتفها فتحرَكت للخارج، أمَّا هو فظلَّ واقفًا إلى أن تساءلت:
-محتاج حاجة، ولَّا عرفت حاجة وجاي تقولِّي..جلسَ على المقعدِ ينظرُ لمقلتيها:
-أنا آسف إنِّي اتعصَّبت عليكي، عارف مالكيش ذنب، لكن من خوفي وغضبي عليها قولت كلام جارح ..قالها وهو يطأطئُ رأسهِ أسفًا..
ابتسمت وهي تطالعهُ بعيونٍ حائرة:
-خايف عليها ولَّا على مكانتَك قدَّام الناس.رفعَ عينيهِ إليها متلهِّفًا
-كنتي تعرفي إنَّها هتمشي ..
هزَّت رأسها بالنفي:
-تفتكِر لو كنت أعرف كنت هسبها تمشي، زفرَ باختناقٍ وتوقَّفَ على رنينِ هاتفِه:
-إلياس أنا جاي لعندَك على المكتب، فيه موضوع مهمّ لازم نتكلِّم فيه..
أجابه:
-أنا في البيت، لو فاضي عدِّي عليَّا..
-تمام ..قالها أرسلان مع إغلاقهِ للهاتفِ ليستديرَ إلى فريدة:
-أتمنَّى متزعليش منِّي، ومتخافيش ميرال هرجَّعها خلال ساعات بس ماوعدْكيش هعاملها إزاي..
-بلاش تقسى يابني، خلِّي الحُبّ ينوَّر قلبَك بلاش القسوة اللي هتنهي حياتَك، ميرال معذورة، مابقولشِ كدا علشان هيَّ بنتي، بس صعب على أيِّ واحدة تشوف حبيبها مِلك لحدِّ تاني.
ظلَّ واقفًا متجمِّدًا يستمعُ إليها ثمَّ تحرَّكَ للخارجِ دونَ حديثٍ آخر .
بعدَ قليلٍ بالأسفلِ وصلَ أرسلان..
دلفَ للداخلِ وحيَّاه..
-عامل إيه..
-الحمدُ لله، جلسَ وأخرجَ مظروفًا:
-ظابط التحريات وصل للحاجات دي، فحبيتَك تعرف قبلِ أي حاجة، يمكن تعرَف مين الشخصِ دا وليه عايز يئذيك؛ أنا كنت ممكن أدوَّر وراه بس محبتشِ غير لمَّا أرجعلَك..
أمسكَ إلياس الملفَّ وبعضَ الأوراق، ثمَّ رفعَ رأسِه:
-معرفوش، الواد دا مهندس صح؟
-أيوة وشغَّال مع شريك العُمري
-اسمه إيه شريك العُمري دا
-هشوف وأقولَّك، بس دلوقتي مصطفى باشا وصل للمعلومات دي، وطبعًا عارف هيعمِل إيه..
أومأَ له بتفهم:
-تمام أنا هتصرَّف..دلفت الخادمة بالقهوةِ مع رنينِ هاتفِ إلياس، فتوقَّفَ معتذرًا:
-آسف مكالمة مُهمَّة..أومأَ متفهِّمًا ثمَّ بدأ يرتشفُ قهوتهِ بدخولِ غادة..
-إلياسو عايزة أقولَّك خبر مهمّ من أخبارِ الجمهورية، عايزة جائزة وانا اقولك فين مكان مراتَك الحلوةو طفشِت ليه ..توقَّفت عن الحديثِ بعدما وجدت أرسلان بمكتبِه، وشعرت بتوترها وارادت أن تبتلعها الأرض، -كملي ولا كأني موجود..تورًَدت وجنتيها متراجعةً للخلفِ ثمَّ تحدثَّت معتذرة:
-آسفة هوَّ إلياس فين، أشارَ للشرفة:
-معاه تليفون..حمحمت تفركُ كفيَّها وابتلعت ريقها قائلة:
-طيِّب، قالتها وتحرَّكت سريعًا إليه تسبُّ نفسها على ماتفوَّهت بهِ أمامه..
-فين العربية، دقايق والراجل دا يكون عندي ..قالها وأغلقَ الهاتفَ وهو يتنهدُ بألمٍ كاد أن يخنقُه..التفتَ خلفهِ وجدها تقفُ ساكنة، ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
-فيه إيه واقفة كدا ليه؟!..
هوَّ بس مش ..دنا وعينيهِ تتفحَّصُها ثمَّ تساءل:
-مالِك عاملة زي التلميذ المتعاقِب..
-بصراحة لبَّخت برَّة، مكُنتش أعرف فيه حدِّ معاك..
-امشي يابت من قدَّامي بدل ماأرميكي تحت، امشي ..هرولت للخارج، إلى أن وصلت لجلوسِ أرسلان فتحرَّكت بهدوءٍ للخارج، كان يراقبُها بابتسامةٍ وهو يهزُّ رأسِه؛
-طفلة أوي أختك..جلسَ يمسحُ على وجههِ بغضب، ثمَّ توقَّفَ على كلماتِه؛
-وإنتَ عرفت منين إنَّها أُختي؟!.
رفعَ فنجانهِ يطالعهُ برفعةِ حاجب:
-هوَّ أنا شغَّال على عربية فول ولَّا إيه..
تراجعَ للخلفِ يستندُ على مقعد، يحدجهُ بنظراتٍ ناريةٍ قائلًا:
-وحياة أبوك الحكاية مش ناقصة عنتظة سيادتَك..
-المدام مش موجودة وحضرتَك بدوَّر عليها..امتلأت عيناهُ بنيرانِ الغضبِ فطالعهُ بذهولٍ حتى هربت الحروفُ من مخارجِها، وشعرَ بالعجزِ عن الرَّد، ولكن هيأتهِ تجزمُ أنَّهُ سيرتكبُ أبشعَ الجرائم ..
شعرَ بهِ أرسلان، سحبَ نفسًا وزفرهُ بهدوءٍ قائلًا:
-لو سمحتلي أشوفلَك هيَّ فين، طافت عينيهِ بالمكانِ يهربُ من نظراته، فلقد وضعتهُ بموضعِ الخزي، سحبَ سيجارتهِ وأشعلها يهزُّ رأسِه:
-مين قالَّك كدا ..معلوماتَك غلط، مراتي خطِّ أحمر ومبحبِّش أتكلِّم في حياتي الخاصَّة، فياريت يبقى في حدود في التعامُل..
-آسف مقصُدش، أصلِ عندي معلومة..أشارَ لهُ بالتوقُّفِ عن الحديث:
-لو سمحت قولت مبحبِّش أتكلِّم في حياتي الشخصية...وبلاش تحسسني أن اسرار الكون في ايدك، مش شوية المعلومات اللي بتجبها كأنك عملت عظمة
رفع جانب وجه بشبه ابتسامة ساخرة
-الحال من بعضه ياحضرة الظابط
نقر إلياس على مكتبه وطالعه بنظرة اعجاب متسائلًا
-بيعجبني فيك ذكائك، هو انت عندك كام سنة
اجابه بتهكم : مية إلا سبعين..أفلت ضحكة يطالعه
-مش معقول انت..انت متأكد انك مخابراتي
ارتشف باقي قهوته:
-ولا اسمع عنها، عندي شوية أجهزة رياضية تنحف الجسم بطريقة طبية وسيبك من عمليات التخسيس دي
طالعه بذهول يريد أن يلطمه على وجهه فهو في حال لا يريد المزاح
-اضحك ..اضحك ماتكبتش في نفسك وبعد كدا تمشي على كرسي متحرك، فرك ذقنه يطالعه بغموض ثم ألقاه بسؤال:
-هو انت لو ضحكت هيدفعوك فلوس يابني ..فرك إلياس وجهه يهمس لنفسه
-ربنا يصبرني ومتحبتسش بسببك الليلة ..قهقه ارسلان عليه، فهو شعر به وحاول إخراجه من حالة حزنه
بالأعلى عندَ فريدة نهضت بتكاسلٍ وارتدت رُوبها الثقيلَ ، خرجت بخطواتٍ واهنةٍ تبحثُ عنه، وصلت للقربِ من مكتبِه، توقَّفت على صوتِ أرسلان الذي يشبهُ صوتَ زوجها كثيرًا، خفقَ قلبها بشدَّةٍ وانسابت عبراتها، فلم تشعر بنفسِها وهي تخطو وتهمسُ بصوتٍ خافت"جمال"..
فريدة.. واقفة عندِك ليه..استدارت إليهِ متسائلة:
مين الِّلي مع إلياس دا يامصطفى؟..
اقتربَ ينظرُ إليهما ثمَّ سحبَ كفَّها:
-تعالي ارتاحي، دا اللي أنقذ إلياس
وميرال يوم مانضربوا بالنار
التفتت إليه سريعًا
-إنتَ تعرفُه منين..حاوطَ جسدها وتحرَّكَ معها:
-حبيبتي ارتاحي مش الدكتور قالِّك لازم الراحة..أشارت إلى الغرفةِ وهمست:
-عايزة اطَّمن على إلياس وأخوه
-أخوه..إسلام مش هنا..
توقَّفت على الدرجِ تشيرُ إلى الغرفةِ
ووقفت الكلماتُ على أعتابِ شفتيها للحظاتٍ مع انسيابِ دموعها:
-جمال، جمال مع إلياس..قالتها وهوت ساقطةً بين ذراعيهِ فاقدةَ الوعي، بخروجِ إلياس مع أرسلان للخارج، رفعَ عينيهِ وجدَ والدهِ يحملُها ويصعدُ بها للأعلى ..شعرَ بالحزنِ على ماأصابها اعتقادًا أنَّها حزينةً على اختفاءِ ميرال.
بعد عدة ساعات بشقَّةِ أرسلان:
جلست بحديقةِ المنزل، تنظرُ حولها بابتسامةٍ على جمالِ المنظر، رغمَ عقابهِ لها ولكن بعضَ تلكَ الزهور تُنسيها آلامها الرُّوحية...أطبقت على جفنيها وبداخلِها بركانٌ كاد أن ينفجرَ من الاشتياقِ إليه، لقد قرَّر العقابَ وفعلها..
نهضت من مكانِها فالقلبُ تهيَّجَ لضمِّهِ، ولم يعد لديها قدرة التحمل على ذاك العقاب، اتَّجهت إلى بعضِ الورودِ الجوريةِ البيضاءَ تقطفُ منها، جلست على العُشبِ وجمعتها بينَ كفَّيها ترفعُها لأنفِها تستنشقُ رائحتها، وصلَ إلى المنزل، دلفَ للداخلِ يبحثُ عنها ولكنَّها غيرُ موجودةٍ كعادتها اتَّجهَ إلى كاميراتِ المراقبةِ وجدها تجلسُ بينَ الزهورِ بالحديقةِ الخلفية، ألقى مفاتيحهِ وتحرَّكَ إليها، توقَّفَ خلفها يستمعُ إلى دندنتها بأغنيتها المفضَّلة.. خطا وأصدرَ صوتًا ليعلِمها بحضورِه، رفعت رأسها إليهِ ثمَّ نظرت للورودِ مرَّةً أخرى..جلسَ بجوارِها ينظرُ إلى يديها التي تحملُ الورود، ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى وجهها الذي اختفى خلفَ خصلاتها الحريرية..بسطَ أناملهِ يجمعها ويضعها خلفَ أذنيها:
-مفيش حمدَالله على السلامة لجوزِك..
استدارت ترمقهُ بنظرةٍ صامتة، ثمَّ تراجعت تُكملُ ماتفعلُه، أخذَ وردةً ووضعها بخصلاتها يرفعُ ذقنها يسبحُ بملامِحها البريئة..
-طيِّب مين اللي لُه حق يزعَل أنا ولَّا إنت..
أنزلت يديهِ بهدوءٍ ثمَّ أردفت:
-أنا مش قادرة أكمِّل في العيشة دي، مش حاسَّة نفسي عايشة، ياريت ننفصِل بهدوء، جوازنا كان لمصلحة، وحضرتَك خلَّصت مصلحتَك، وأنا كمان أمن الدولة رفعت إيديها منِّي، ومتأكدة أنُّهم مش هيقرَّبوا منِّي بعد مايعرفوا إنِّي طليقتَك..
حاوطَ جسدها بذراعهِ وجذبها لأحضانهِ يضعُ رأسهِ فوقَ رأسها:
-لدرجة دي مش فارِق معاكي، يعني مفيش أرسلان لغرام؟..
رفعت رأسها واختلجَ صدرها الكثيرَ من المشاعرِ المتناقضةِ من حبٍّ ونفور، اشتياقٍ وجحود...اخفض رأسه إليهِ ينظرُ لصفوِ عينيها:
-غرامي هتفضَل مراتي حتى لو إنتِ رافضة حياتنا، حرَّكَ كفِّهِ على قلبها..
دا ليَّا ودا عندي أهمِّ حاجة..
اكتفت بتنهيدةٍ مرتجفةٍ أفلتت من بينِ نبضِها العاشقِ له، ضمَّها بقوَّةٍ حتى اختفت بأحضانهِ وأردف:
-ممكن تكوني شايفة شخصيِّتي صعبة، بس حاولي تتعاملي معاها صدَّقيني هتكوني أسعد واحدة، أخرجَ رأسها من أحضانِه:
-بصي أنا مش هعمل زي الراجل اللي بينفُخ نفسُه قدَّام مراتُه، بس حقيقي أنا حبيتِك، أوَّل مرَّة أتعلَّق بواحدة كدا، معرفشِ ليه، يمكن طيبتِك، يمكن إيمانِك وخجلِك، وفوق دا كلُّه نصيبنا وقدرنا اللي ربِّنا هيأه لنكون في طريق بعض، من وقتها وأخدتها حكمة، إنِّك كنز وربِّنا بعتُه ليَّا، أو ممكن تكوني نقمة، في كلتا الحالتين ربنا مقدَّرلي خير فيكي أنا معرفوش..
رفعت كفَّيها على وجههِ وابتسمت كوردةٍ تتفتَّحُ وتتفرَّعُ براعمها لتفوحَ رائحتها العبقةِ هامسة:
-بتحبِّني ...أومأَ لها مبتسمًا، ثمَّ أردف:
-جدًا جدًا ولو مش بحبِّك كنت طلَّقتِك من زمان إحنا بقالنا ستّ شهور متجوِّزين إيه اللي يغصبني أعيش معاكي..
شملتهُ بنظرةِ إعجابٍ لا تخلو من عِشقها له، ثمَّ أردفت:
-وبعدِ الحبِّ دا إيه، ممكن تقولِّي
-يعني إيه ياغرام؟…
-أرسلان بجد أنا مش قادرة أتحمِّل الحياة بينَّا بتيجي زي الغريب، ساعتين وتمشي، وممكن تغيب أسبوع، ومعرفش عنك حاجة، قرارَك هوَّ اللي يمشي وبس، أنا ماليش لازمة حتى لو اعترضت تُرفض الاعتراض وتعاقبني ..قاطعها قبلَ أن تتمَّ كلماتها
ف نهضَ يسحبُ كفَّيها واتَّجهَ للداخل..
-البسي هنخُرج هنروح مشوار مهمّ وبعدها قرَّري هتكمِّلي معايا ولَّا لأ..
بشقَّةِ آدم:
توقَّفت بالمطبخِ لإعدادِ كوبَ قهوتها، استمعت إلى غلقِ بابِ الشقَّة، علمت بوصولِه..تنهَّدت بحزنٍ بعدما تذكَّرت حديثَ خالها....قبلَ قليل:
-حبيبتي مينفعشِ إنتِ تُقعدي في مكان وهوَّ في مكان متنسيش فيه شغَّالين تحت والكلام ممكن يخرُج، وأنا مستحيل أخلِّي مرات أبوكي تشمَت فيكي، ولو بتحبِّيني صحيح اسمعي كلام خالِك مش هتندمي..
-وحضرتَك لسة شايف إنِّي مندمتِش ياخالو، أنا الندم أكل من جسمي لحدِّ مبقاش فيَّا حيل ..قالتها وتحرَّكت دونَ حديثٍ آخر..
جلسَ يرمقُ ابنهِ بنظراتٍ مستاءةٍ ثمَّ أردفَ غاضبًا:
-إيه اللي وصَّلها للانهيار دا ياحضرةِ الدكتور العبقري؟!..
جلسَ يمسحُ على وجههِ بغضب، وكأنَّهُ ينتقمُ من نفسِه، ثمَّ رفعَ عينيهِ لوالدِه:
-مش مدِّياني فرصة أتكلِّم يابابا هتجنِّن منها، مش هنفضَل عايشين كدا، الهانم بتقولِّي جوازنا ماهو إلا وقتي…
طالعهُ لوقتٍ ثمَّ أردفَ بمغذى:
-ماهو دا الحقيقي، إنتَ ناسي قولتِ إيه..هبَّ من مكانهِ فزعًا:
-يعني إيه يابابا، ثارَ بضجيجِ نبضهِ الذي رفضَ حديثَ والدِه..
جاهدَ زين في إخفاءِ ما يحاولُ الوصولَ إليه، فتوقَّفَ بمقابلتِه:
-إنتَ قولت إنَّك متجوِّز، وقولت هتتجوِّزها لوقتِ معيَّن.. إيه نسيت ولَّا ايه يادكتور..
-يعني إيه؟!..تساءلَ بها بتيه..
-يعني إيلين مش هخلِّيها تعيش معاك على ضرَّة مهما يحصَل..
هوى على المقعدِ كمن تلقَّى ضربةً موجعةً يهمسُ بلسانٍ ثقيل:
-يعني حضرتَك ناوي تطلَّقها منِّي؟!..
اقتربَ زين منهُ مستطردًا:
-قصدَك ناوي أصلَّح الوضع بينكُم..وكدا بتصلَّحُه يابابا، إنتَ كدا بتجني على حياتنا مش بتصلَّح الوضع..قالها هادرًا..
-آدم متنساش نفسك، ولَّا علشان كبرت وبقيت دكتور بتعلِّي صوتَك على أبوك، أنا قولت إنَّك هطلَّقها والكلام منتهي، ولولا الظروف كنت مستحيل أوافق إنَّها تكون زوجة تانية، عندَك خيار واحد بس يادكتور..تطلَّق البنتِ التانية، مش الدكتورة إيلين اللي تعيش مع ضُرَّة دا لو حضرتَك عايزها..
خرجت من شرودِها على صوتِه:
-ممكن تعمليلي فنجان قهوة، عندي صُداع شديد ...
أومأت برأسِها وهي تواليهِ ظهرها دونَ حديث...بعدَ قليل دلفت غرفتهِ بعدما طرقت على بابِها، خطت إلى جلوسه، وجدتهُ يحاوطُ رأسهِ بين راحتيه:
-القهوة، وفيه برشام للصُّداع لو عايز..قالتها واستدارت للحركةِ إلَّا أنَّهُ أطبقَ على رسغها وجذبها بقوَّةٍ حتى هوت بين أحضانهِ حاولت التملُّصَ ولكنَّهُ كانَ الأقوى، همسَ لها:
-هتكلِّم معاكي بس، مش هعمِل حاجة، أرجوكي ياإيلين لازم نتكلِّم، أنا مبقتشِ عارف أعمِل حاجة، شُغلي واقف وحياتي واقفة أرجوكي اسمعيني..
حدجته بنظرة من فوق كتفها وهدرت معنفة إياه:
-آدم سبني لو سمحت مينفعشِ كدا، أبعدَ ذراعيهِ يشيرُ إليها بالجلوسِ بجواره، ذهبت لمقعدٍ بالغرفةِ وجلست منتظرةً حديثِه..
-قدَّامَك عشر دقايق يارب تتكلِّم بسرعة مش فاضية..نهضَ من مكانهِ يحملُ فنجانَ قهوتهِ ثمَّ ارتشفَ بعضها، واتَّجهَ يجلسُ بجوارِها ..ارتجفَ جسدها من قربهِ ابتعدت عنه ...شعرَ بألمٍ تسرَّبَ لقلبهِ وهو يراها تنفرُ منه..
-إيلين وبعدين، إحنا رايحين على فين؟..
-رايحين!! قالتها بصوتٍ مختنقٍ مفعمٍ بالبكاء، توقَّفت تدورَ حولَ نفسها تشيرُ لغرفتِهما التي من المفترضِ أن تجمعهما سويًا:
-إحنا مين يادكتور، إيه نسيت ولَّا إيه؛
إنتَ بنيت حياتَك وأنا كمان هبني حياة جديدة أوعى تجمعنا مع بعضِ تاني، قعدتنا مع بعض اتفرضِت علينا..
هبَّ من مكانهِ واقتربَ منها يُطبقُ على ذراعيها وهدرَ معنِّفًا إياها:
-لو سمعتِك بتقولي كدا تاني هقطعلِك لسانِك سمعتي ولَّا لأ..وآخر كلام هقولُه ياإيلين إحنا قدرنا مربوط مع بعض من واحنا صُغيرين، يعني مفيش ليكي حياة بعيد عن آدم..
انسابت عبراتها وهي تلمحُ بنظراتهِ نظرةً قديمةً كان قد أضاعها البعدُ وجفا بها القلب، هزَّت رأسها ورغمًا عنها أخرجت شهقةَ ضعفِها بحوزته، لا تعلمُ أهو ضعفٌ بسببِ نظرةِ الحبِّ التي لمحتها بعينيهِ أم أنَّ الألمَ فاض بها ولم تعد تستطيعُ المقاومةَ أكثرَ من ذلك..
أطبقت على جفنيها وازدادَ بكاءها، ليقرِّبها إليهِ يضمُّها بقوَّةٍ لأحضانهِ وآه عاشقة أخرجها من كمِّ اشتياقهِ إليها؛
همست بضعفٍ اسمهِ حتى فاقَ قدرتهِ على الصمودِ ليخُرِجها من أحضانهِ ويحتضنَ ثغرها لأوَّلِ مرَّة، ليتهاوى جسدها بين يديهِ ويكونَ الأكثرَ مرحِّبًا؛ يرفعُها بكلِّ قوَّتهِ متراجعًا إلى الفراش، فيكفي هذا البُعد، أقسمَ أن يرويها من العشقِ مايضمِّدُ جراحها، دقائقَ وهي مسلوبةُ الإرادةِ، كانت بين يديهِ مثلَ عروسِ الماريونيت وهو يلتهمُ خاصَّتها كالغريقِ الذي وجدَ ضالَّتهِ بعدما ظنَّ أنَّهُ فقدَ الحياة..همهمت بخفوتٍ تتراجعُ بعدما عادَ عقلها تدريجيًا، لتهبَّ فزعةً بعدما وصلَ إلى نقطةِ اللارجوع..نهضت تلملمُ ذاتها الذي بعثرها بعنفوانِ عشقهِ الداخلِّي لسنواتٍ إلى أن أتتهُ الفرصة لجنيه، حاوطَ جسدها ومنعها من الخروجِ يهزُّ رأسهِ رافضًا مغادرتها، أردفَ بصوتهِ المبحوح:
-إيلين بلاش تعملي فينا كدا، حبيبتي لو سمحتي إدِّيني فرصة أداوي جروح قلبِك.
كانت هادئةً على غيرِ عادتها، حاولت الحديثَ ولكنَّها لم تقوَ فكأنَّ طاقتها نفذت، وبدأ قلبها يحرُّكها كيفما شاء..
حرَّكَ أناملهِ على جسدِها بحركةٍ أذابتها، حتى رفرفت أهدابها الكثيفةِ في محاولةِ استيعابِ ما يفعلُه، لقد تجرَّأَ وهي كالمسلوبة، لا تقوَ على الحركة، أصابها الذهول لتهبَّ فزعةً وهي تراهُ يقومُ بنزعِ ثيابها، لتدفعهُ بقوَّةٍ وأردفت بصوتٍ ممزوجٍ بالبكاء:
-ابعد عنِّي، ابعددددد..قالتها وغادرت الغرفةَ سريعًا وارتفعت شهقاتها ..وصلت إلى غرفتِها وأغلقتها على نفسها تنزلُ بجسدِها إلى الأرضيةِ تبكي بنشيجٍ وخزيٍ من نفسها كيف ضعفت إلى أن وصلَ لجسدِها وشفتيها، كيف نسيت غدرهِ وخيانتِه..وضعت كفَّها على فمها تزيلُ آثارَ قبلاتهِ بعنفٍ حتى كادت أن تمزِّقَ شفتيها من قوَّةِ فركها بيديها، نهضت وبدأت تحطِّمُ الغرفةَ وتبكي بشهقاتٍ على جُبنها وضعفَ قلبها الذي هوى بأحضانه..
استمعَ إلى صُراخها، أغمضَ جفنيهِ محاولًا السيطرةَ على نفسهِ حتى لا يذهبَ إليها ويحطِّمَ ذاكَ الجدارَ الذي يفصلُهما.. دقائقَ وهي تدورُ بالغرفةِ كالمجنونةِ وتحطِّمَ كلَّ ما يقابلُها حتى هوت على الأرضية، لم يعد لديه قوَّة على تحمُّلِ صراخها ونفورِها منه، نهضَ من مكانهِ ودفعَ البابَ بقدمهِ لينفتحَ على مصرعيه
دلفَ بهيئةٍ جنونية، طافَ بعينيهِ بالغرفةِ التي أصبحت شظايا متناثرة ، اقتربَ منها بعدما فقدَ سيطرتهِ واشتعلت حدقتيهِ كجمراتٍ ملتهبةٍ ينظرُ إليها:
-ليه دا كلُّه، إيه، أطبقَ على ذراعيها وأوقفها يهزُّها بعنف:
-إيه إنتِ مش مراتي، يعني من حقِّي ياهانم، ليه عايز أعرَف ليه دا كلُّه، مش أنا حبيبِك ولَّا كان كلام، أه غلطت منكرشِ بس أنا بحبِّك ومش معنى اتجوزت يبقى حبُّك مات؛ أنا اتجوزت لظروف كان لازم تعرفي لولا الظروف دي عمري ماكنت أتجوز، لأنِّك هنا،قالها وهو يضربُ على صدره ..عايزة تسمعي إيه!!
-أيوة بحبِّك وكتير كمان، واللي اتجوِّزتها مصلحة مش أكتر، ودلوقتي اسمعيني علشان تعبتِ منِّك بقالي شهرين بحاول مضغطشِ عليكي وقولت حقِّك، إنما لمَّا أقرَّب منِّك تعملي كدا ، دا مسكتشِ عنُّه، إنتِ مراتي فاهمة ومش معنى إنِّي سايبِك تزعلي شوية يبقى مش عايزِك، وناوي على الفراق، دا إنتِ بتحلمي، جذبها يضغطُ على خصرِها بقوَّةٍ ألمها وأردفَ بهسيس:
-عيالي هيكونوا منِّك، ودلوقتي أنا عايز حقِّي يامراتي، ولو اعترضتي ياإيلين هتشوفي وش مش هيعجبِك منِّي أبدًا.، عايز عيال ومنك وبس
كلماتٍ فقط ماهي سوى كلماتٍ أصابت قلبها كالطلقاتِ النارية، ظلَّت تطالعهُ بجمودٍ وكأنَّهُ سحبَ كلَّ حواسها، لتقتربَ منهُ تطوُّقُ عنقهِ وترفعُ نفسها تطبعُ قبلةً بجوارِ شفتيه:
-طبعًا يادكتور، لازم أسمع كلامك مش إنتَ وليِّ نعمتي اللي أنقذتني من مرات أبويا ...ابتلعَ غصَّةً وخزت جوفهِ بأشواكٍ حادةٍ وهو يرى تغيَّرَ حالتِها ...تراجعت للخلفِ تطالعهُ بضحكاتٍ مرتفعةٍ تضربُ يديها ببعضِهما، ثمَّ توقَّفت عن الضحكِ وأمسكت منامتها وقامت بفتحِها بقوَّةٍ لتتطايرَ أزرارها بكلِّ مكانٍ وينكشفَ جسدها العاري أمامهِ تشيرُ على نفسها:
-اتفضَل يادكتور شرَّح الجُثة، على ماأظنّ إنَّك شاطر في مجالَك ومش هتوجعني ومش هحسّ بتشريحَك، ومتنساس تدفِن روحي اللي حرقتها..
نظرَ إليها بوجهٍ شاحبٍ وكأنَّ روحهِ سُحبت إلى بارئها، وهو يراها بتلكَ الحالة ..ليقتربَ منها بخطواتٍ ثقيلة..
بشقَّةِ يزن بمكتبهِ الخاص ..دلفت إيمان بعدما سمحَ لها بالدخول:
-دكتور كريم برَّة ياأبيه، نهضَ يجمعُ أوراقهِ وأشارَ إليها:
-دخَّليه ياحبيبتي..أومأت وتحرَّكت للخارج:
-دكتور كريم، يزن جوَّا في المكتب اتفضَل..داعبَ خصلاتِ معاذ ثمَّ تحرَّكَ إلى أن وصلَ إليها:
-عاملة إيه..لو فيه حاجة وقفِت معاكي في المذاكرة عرَّفيني..
نظرت للأسفلِ بخجلٍ تفركُ كفَّيها مع تورُّدِ وجنتيها تهتفُ بخفوت:
-شكرا، يزن بيراجِع معايا، مش عايزة أتعِب حضرتَك.
-حضرتي، إيه ياإيمان هتفضلي تعامليني على إنِّي غريب لحدِّ إمتى؟!..
رفعت عينيها ترمشُ عدَّةَ مرَّات:
-مش قصدي بس حضرتَك مهما كان أكبر منِّي وكمان ماينفعشِ أرفع الألقاب..
دنا خطوةً منها يريدُ أن يصفعها على وجهها، تبًا لكِ أيتها الطفلةُ كيف تتحدَّثينَ معي بتلكَ الطريقة، وصلَ حتى لم يفصلَ بينهما سوى خطوةً واحدة:
-الفرق مش كبير اوي، وحتى لو كبير انا هقربه، وقريب هحاسبِك على كلامِك، كلَّها شهرين تخلَّصي امتحانات ووقتها صدَّقيني مش هرحمِك ..بترَ حديثهِ على صوتِ يزن الذي توقَّفَ على بابِ الغرفةِ يوزِّعُ نظراتهِ بينهما:
-كريم واقف كدا ليه، ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى أختِه:
-ادخلي ذاكري وأنا هشوف كريم وجايلِك..أومأت وتحرَّكت بجسدٍ يرتجفُ من الخجل، ووجهًا تنتفضُ دمويتِه، حتى أصبحَ كلونِ التفاح الذي حانَ جنيه، كان يتابعها بعينينٍ يريدُ التهامها في الحال..
-إنتَ ياحيوان..قالها يزن، لينتفضَ إليهِ فزعًا:
-يخربيت فصلانَك يابغل، ماأنا جاي..
أطبقَ على كتفهِ بقوَّةٍ أوجعتهُ ليدفعَ يدهِ بعيدًا:
-يابني إنتَ كنت بترضَع لبن زيِّنا ولَّا بأكِّلوك لحم جمال، وجعتني..دفعهُ حتى أسقطهُ على المقعدِ وحاوطهُ بذراعهِ وغمزَ بطرفِ عينيهِ بحركةٍ تنمُّ عن ضيقِه:
-بتبُص لأختي كدا ليه، متنساش دي إيمان أختِ يزن، يعني أيِّ خيانة منَّك لصاحبَك مش هتهاون بيها فخلِّيك صريح معايا كدا وقولِّي إيه الحكاية؟..
-بحبَّها وعايز أتجوِّزها بس مُنتظر تخلص ثانوية وبعد كدا كنت هكلِّمك، اعتدلَ يزن مصدومًا، فتراجعَ للخلفِ وكأنَّهُ سحبَ طاقتهِ بالكامل، ليهوى على المقعدِ ونظراتهِ تحرقُ كريم قائلًا:
-كنت بتدخُل بيتي وبتبُص لأختي ياكريم، دي ثقتي فيك..نهضَ من مكانهِ سريعًا واقتربَ منه:
-أبدًا والله، أنا عمري ماقرَّبتِ منها ولا حاولت أخون ثقتَك ياصاحبي، واسألها أقسم بالله عمري ماكلَّمتها في حاجة ولمَّا شوفتني دلوقتي بكلِّمها علشان بتقولِّي حضرتَك ويادكتور، بقولَّها بتعامليني زي الغريب ليه، واللهِ عُمري ماكلَّمتها برَّة البيت دا، وغصبِ عنِّي ياصاحبي، القلب مالوش سلطان، وبيضعفنا علشان كدا كنت ببصُّلها بس عمري ما شُفتها بنظرات وحشة..
-قوم روح..جحظت عيناهُ مذهولًا، فأردفَ مستطردًا
-يزن اسمعني..
نهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى نافذةِ غرفتهِ بعدما أشعلَ سيجارتِه:
-روح ياكريم بدل مانخسر بعض للأبد.
-يزن !!
قولت امشي من وشي..تحرَّكَ كريم مغادرًا وهو ينتفضُ حزنًا وألمًا على ماصارَ بينهما..
زفرةً حادةً أخرجها من جوفه، مكوِّرًا قبضتِه:
-ليه ياكريم كدا، يعني تطعنِّي في ضهري، استمعَ إلى صوتِ معاذ بالخلف:
-أبيه يزن فيه سؤال في العلوم مش عارفُه ممكن تساعدني فيه، إيمان مشغولة بالمذاكرة..
أومأَ لهُ ثمَّ تحرَّكَ إلى المكتبِ يشيرُ إليهِ بالدخول..جلسَ بجوارهِ وكلَّ ذهنهِ معلَّق بأختِه، هل تنظرُ إلى كريم كما هو ينظرُ لها، دقائقَ وهو شاردٌ إلى أن لكزهُ معاذ:
-أبيه بقالي كتير بكلِّمَك..نهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى غرفتها..
بفيلَّا الشافعي كان يثورُ كالأسدِ الجريح:
-يعني الولد اتمسَك إزاي ومين اللي وصلُه، هوى على المقعدِ يُتمتم:
-انتهيت، مصطفى السيوفي مش هيرحمني، دقائقَ واستمعَ إلى هاتفِه:
-راجح باشا خسرنا المناقصة، وكمان فيه خبر سيئ، أسهُمنا نزلت كتير..
قاطعهُ دلوفَ طارق يصرخُ به:
-الواد اتمسك يابابا عارف دا لو اتكلِّم أنا ممكن اتعدِم، دي قضيِّة قتل..
أغمضَ عينيهِ يحتضنُ رأسِه، بينما ظلَّت تدورُ حولَ نفسها:
-داإيه المصايب دي كلَّها النهاردة، الواد دا لازم يموت أو يهرب، اقتربَ طارق قائلًا:
-فيه كمان حاجة ..رفعَ راجح رأسهِ منتظرًا حديثِه:
-العربية اللي كنَّا ناويين نتِّهم فيها يزن السوهاجي بموت مالك عملت حادثة فعلًا بالواد.
هبَّ من مكانهِ يصرُخ:
-يعني إيه دا كلُّه، لا دا كدا حد بيخطَّط يوقَّعني..اقتربَ منهُ طارق:
-بس لسة ممكن نودِّي يزن في داهية، العربية كنَّا ناويين مالك يركبها، بس محصلشِ نصيب والمهندس مات ومين اللي صلَّح العربية وفيه تسجيل لدا كلُّه..
-برافو عليك يا طارق..قالتها رانيا، اتَّجهَ يرمقُها بنظراتٍ خرساءٍ ثمَّ اقتربَ منها:
-إنتِ عارفة المهندس اللي مات دا مين؟..دا أبوه لواء في الجيش، وكان عضو منتدب، ورفض الأمن إن أي حد يركب العربية باعتبارها مملوكة لمالك دا هيخلِّي الشكوك تحوم علينا..
اقتربت منهُ طيب لو المهندس دا طلع بيشرب مثلًا أو أيِّ فيديو بسيط يخلِّي الشك يبعِد..
ضيَّقَ عينيهِ مستفهمًا:
-يعني إيه..دارت حولهِ تهمسُ له:
-يعني مثلًا طبيب تشريح بشوية فلوس يغيَّر تقرير الحادثة بسبب مخدِّر، والعربية مفهاش حاجة دا لو عايزين نبعد الشُبهة عن طارق، أمَّا بقى لو عايزين نخلص من المهندس بتاع رحيل نجيب سيرة العربية من وقتِ التصليح وهيَّ في جراج الشركة..
قاطعها طارق قائلًا:
-وممكن نضرَب عصفورين بحجر كان شارب ومعرفشِ يوقف العربية ودا أكيد ملعوب فيها، ومين دا يزن علشان يخلَص من مالك ويستفرد برحيل..
-برافووو أيوة كدا، شوفت تربيتي ياراجح..حبيب أمُّه ..ألقاها قبلةً بالهواءِ لترتفعَ ضحكاتِ أصحابِ القلوبِ الخبيثة.
عند إلياس:
اتَّجهَ إلى سيارتهِ وقادها بسرعةٍ جنونيةٍ بعدما توصَّلَ إلى سائقِ سيارةِ الأجرة. تذكَّرَ حديثه:
-أنا نزَّلتها في العاصمة ياباشا، واللهِ ماأعرف هيَّ راحت فين..
-نزَّلتها في أنهي منطقة بالظبط، قصَّ الرجلُ له العنوانَ بالتفصيل، ظلَّ يقودُ السيارةَ إلى أن وصلَ إليها بفترةٍ وجيزة، دلفَ إلى ذاكَ الكمبوند، وتوقَّفَ بالسيارةِ أمامَ أحدِ الحرسِ الخاصّ بالمكان، أخرجَ صورتها وسأله:
-المدام دي دخلت هنا من حوالي خمس ساعات تقريبًا..توقَّفَ الرجلُ يطالعهُ بريبةٍ ثمَّ هزَّ رأسهِ يشيرُ بيديه:
-اتفضل ياأستاذ من هنا مش ناقصين مشاكل، وشكلَك ابنِ ناس محترم..
اقتربَ منهُ يطبقُ على عنقهِ فهو في حالةٍ جنونيةٍ الآن، همسَ إليهِ بهمسٍ أرعبَ الرجل:
-لمَّا أسألك عن حاجة ترُد وإنتَ ساكت، المدام دي في أنهي مبنى..أشارَ إليهِ بالجهةِ الخلفية، واردف برقم المنزل، تركهُ يدفعهُ بعيدًا ثمَّ أخرجَ كارت بطاقتهِ التعريفية:
-علشان تطَّمن، واللي جوَّا مراتي ..قالها ودلفَ للداخلِ دونَ حديثٍ آخر..
هوى الرجلُ على مقعدهِ يملِّسُ على عنقهِ يحمدُ ربَّهُ أنهُ مازال يتنفَّس..بالداخلِ عند ميرال كانت تهاتفُ غادة:
-وماما كويسة..تنهَّدت غادة وهي تنظرُ إلى فريدة؛
-معرفشِ أقولِّك إيه بس هيَّ تعبانة أوي ياميرال، لو تشوفيها تصعب عليكي؛ ارجعي ميرو حبيبتي واللهِ إلياس هيتجنِّن عليكي، وخايفة أقع قدامُه بالكلام، دا أنا هبلة..
أفلتت ابتسامةً حزينةً وتمتمت:
-لا إنتِ جميلة يادودي، المهم ماما خلِّي بالِك منها..صمتت غادة فأردفت:
-أنا قولت لماما على مكانِك مقدرتش أشوفها كدا الصراحة وأسكت، وهيَّ كانت رايحة تقول لإلياس بس معرفشِ إيه اللي حصل وخلاها يُغمى عليها.
-تلاقي أخوكي سمَّعها كلام زفت على راسُه ..ضحكت غادة قائلة:
-هبعتلُه الفويس بتاعِك وأخليه يشويكي على الجانبين، استمعت إلى صوتِ جرسِ الباب فهتفت:
-طيب حبيبتي هقفل علشان كنت طلبت شوية حاجات وشكلُهم وصلوا هتِّصل بيكي بعد شوية ..اتجهت تفتحُ الباب ..توقَّفت تطالعه بصدمة، و شعرت بثقل تنفسها،بأنفاسٍ حينما وجدته أمامها بنظارتهِ السوداء، خلعَ النظارةَ وابتسمَ ساخرًا:
-مش هتعزمي على جوزِك بالدخول ولَّا إيه يامدام ...شعرت وكأنَّ الأرضَ تُسحبُ من تحتِ قدميها، دفعت البابَ لإغلاقهِ إلَّا أنَّهُ كانَ الأسرعَ منها وهو يضعُ قدمهِ يدفعُ الباب، ثمَّ دلفَ للداخل:
-مش عيب تقفلي الباب في وشي..هزَّت رأسها وتراجعت للخلفِ
مع انسيابِ عبراتها تتمتمُ بنبرةٍ حزينة:
-إنتَ عايز منِّي إيه، أنا سبتلَك البيت بدَّور عليَّا ليه، مبقتشِ عايزاك، سمعتني
أنا مش عايزة أشوفَك تاني،
-ماشاء الله صوتك كروان اهو، اومال ليه شهر كامل بتتعاملي معانا على انك خرسة
اقتربت منهُ وغرزت عينيها بمقلتيه:
-مش يمكن علشان مش عايزة اتكلم معاك، حاولت أموت علشان أبعِد عنَّك، بس طلعِت لعنة في حياتي، أنا عايزة أخلص منَّك ومن كلِّ ذكرياتَك ياإلياس ياسيوفي..
كادت كلماتها أن تصيبهُ بسكتةٍ دماغية، ظلَّ كما هو واقفًا كالجبل، لا يهزه شيئاًا، تركها تُخرجُ مايؤلمُ روحها رغمَ خطأها الفادح، اقتربت منهُ خطوة أخرى بعدما أصابها الجنونَ من صمته، وبدأت تلكمهُ رغمَ آلامِ صدرها:
-عايز منِّي إيه، جاي علشان تكمِّل عليَّا وتموتني، أنا بكرهَك سمعتني بكرهك، ومش عايزاك إيه هتضربني ولَّا تحبسني ولَّا يمكن تغتصبني ماإنتَ عملت التلاتة ماشاء الله..دنت منهُ خطوة اخرى حتى اختلطت أنفاسهما تُمسكهُ من ياقةِ جاكيتِه:
-اقتلني أحسن يمكن أرتاح منَّك، وروح عيش حياتك، اتجوِّز بدل المرَّة أربعة، مش هيفرِق معايا اللي يخون مرَّة يخون مية وألف..رفعت رأسها تنظرُ لمقلتيهِ وعينيها التي أصبحت كالشلال..
حبيتَك بجنون، سنة عن سنة بيكبَر وأنا بضغط على نفسي وبحاول أتحمِّل غرورَك وتكبُرك وبهدلتك فيَّا، ورغم كدا اتجوزتك، بس إنتَ عملت إيه ولا حاجة..بدل ماتداوي جروحي فتحتها ودوست عليها بكلِّ جبروت ويوم ماغرورك ينزِل وتعترف بحبَّك تكون مجهزلي كفني، يالَّه ياميرال إنتِ مين علشان أحبِّك، أحبِّك..هوَّ إنتِ تستاهلي حبِّ إلياس باشا السيوفي اللي شايف الناس كلَّها غلط وهوَّ صح..
سدَّدت ضربات أصابت قلبهِ برمحٍ مشتعل، ليشتعلَ داخلهِ ويغلي كالمرجلِ
الذي نقصَ ماؤه، ولكن ماذا عليهِ أن يفعل، هل يفعل ماتريدُه، أم لعنةُ عشقها تغفرُ ذلَّاتها..خطا إليها كالذي يخطو فوق النيرانِ وحملَ من غصَّاتها ما يحرقُ روحهِ، ولكنَّهُ عليه التَّحلي بالصبر..ابتعدت عنه بعدما وجدتهُ يقتربُ منها وبدأت تحطِّمُ كلَّ ماتطالهُ يديها تصرخُ بقهرِ قلبها المتألِّم:
-روح اتجوِّز وعيش حياتك، وسبني أعيش مقهورة على قلبي طول حياتي، جاي لعندي ليه، ولَّا صعبان عليك الفرح اللي باظ بسبب واحدة مجنونة فاشلة زي مادايمًا بتقول عليَّا، وصلت إليه تدفعهُ وتلكمهُ بصدرِه..
-عايز تتجوِّز وبتخيَّرني، الله ياخدَك ياإلياس ويحرَق قلبك زي ماحرقت قلبي، بتخيرني ياتتجوز ياطلقني، ليه ماسك علية ذلة، ضربت على قلبها كالمجنونةِ تصرخُ ونست جرحها الذي مازالَ لم يلتئمَ كاملًا:
-عايزة أموت علشان أبعد عنَّك وعن لعنة عشقَك ..أنا بكرهَك ..هوت على الأرضِ بركبتيها بعدما فقدت طاقتها وشعرت بآلامِ صدرها، حتى أيقنت أن جروحها قد أصابها شيئًا، خطا إليها وهو يشعرُ بقبضةٍ تعتصرُ فؤادهِ ثمَّ انحنى يحملُها بين ذراعيه، واتَّجهَ بها إلى الأريكةِ وهي تهمهمُ بأحضانه:
-ياريتَك سبتني أموت، أنا بموت ياإلياس، لا قادرة أبعد عنَّك ولا قادرة أقرَّب ..موِّتني وريَّحني من عذاب قلبي، ضمَّها إلى أحضانهِ وكأنَّ لفظَ الموتُ الذي انبثقَ من شفتيها سيأخذُها منه..
شعرَ بخفَّةِ وزنها، آاااه حارقة خرجت من جوفهِ ورغم وزنها الخفيف إلا أنَّ عشقها أثقل من أضخمِ جبالِ العالم، ماذا فعلت به ليصلَ به الحالَ أن يتحرَّكَ خلفَ قلبهِ اللعينَ بعشقها، أينَ قسوتهِ التي أقسمَ أن يُذيقها إياها..وضعها بهدوءٍ على الأريكةِ ورفعَ يديها التي نزفت بسببِ جروحِها وتحطيمها للأشياء، نهضَ من مكانهِ يبحثُ عن الإسعافاتِ الأوليةِ ليداوي جروحها، هل أخبرُكمواحدًا أنَّ أعمقَ الجروحُ جروحُ قلبٍ ينزفُ دونَ دماءٍ من عاشقٍ أعطيتهُ الثقةَ الكاملةَ ولكنَّهُ خذلك ..خطا عدَّةِ خطواتٍ إلَّا أنَّهُ توقَّفَ حينما أردفت:
-إلياس..أخرجت اسمهِ من بينِ شفتيها محترقًا بآلامِها ..التفتَ إليها بعدما استمعَ إلى نبرةِ صوتِها المتقطَّعة ظنًّا إصابتها بشيئ..نهضت من مكانِها واقتربت منه:
-طلَّقني، مش إنتَ قولت مش هتبعد لمَّا أطلب البعد، طلَّقني وروح اتجوِّز اللي تسعدَك وأنا هبع...بترَ حديثها حينما رمقها بنظرةٍ مميتةٍ يريدُ بها أن يلقى حتفها ، نظراتٍ خلفَ نظراتٍ قاتمةٍ كلونِ سُحبِ السماءِ بفصلِ الشتاءِ ولكن هنا أمطارٌ سوداء يرمقُها ليحرقها بلهيب شوقه القابع بصدره، اللعنة على قلبي الضعيف، تحوَّلَ وجههِ للوحةٍ من الغضبِ والألمِ الذي شقَّ صدرهِ ليشعرَ بتمزقهِ وكأنَّهُ يتمزّّقُ بآلةٍ حادة سامة، ساد صمتٌ مميتٌ بينهما ورغم ذلك إلا أنه متخمًا بالعشقِ الذي في القلوب، تراجعت خوفًا من هيئتهِ التي تحوَّلت، ارتفعت أنفاسهِ وأحسَّ بوجعٍ يغزو أضلعهِ وكأنَّها خنقتهُ بأصفادٍ حديديةٍ وقلبهِ الذي تحوَّلَ لشظايا محترقة، اقتربَ منها بخطوةٍ واحدةٍ
-عايزة ايه ؟!
أطلق!!..قالتها بقوة رغم ارتجاف جسدها، انحنى يحملُها بين ذراعيهِ فيكفي الضغطَ على قلبه المسكين، كانَ يظنُّ أنَّها تموتُ اشتياقًا لهُ مثلما يشعر..
نظرت إليه بمقلتينِ دامعتينِ تهمسُ بتقطُّع:
-إلياس واخدني فين، دفعَ بابَ الغرفةِ وأجابها بنبرةٍ هادئةٍ رغمَ الجحيمَ المستعرَ بصدرِه:
-رايح أطلَّقك ..مش عايزة تطلَّقي، حاضر هطلَّقك..ارتجفَ جسدها وهو يضعها على الفراشِ بهدوء..نظرت حولها بخوفٍ ثمَّ تراجعت على الفراش:
-إنتَ ناوي على إيه، خلعَ جاكيتَ بذلتهِ
وافترت شفتيهِ بابتسامةٍ تقطرُ وجعًا، ثمَّ انحنى يحاوطُها بذراعيه:
-مش عايزة تطلَّقي..ارتجفت شفتيها تهزُّ رأسها بجهلِ كلماته:
-بس الطلاق بيكون عند مأذون أو ترمي عليَّا يمين الط...بترَ حديثها وهو يحتضنُ ثغرها علَّهُ يُخرسُها للأبد، أحسَّ كأنَّهُ طائرًا مقصوصَ الجناحين، محبوسًا بقبرٍ لا يقوَ على التنفسِ سوى باقترابها، حاولت دفعهِ ببدايةِ الأمرِ إلا أنَّ خبرتهُ بها وحفظهِ لشخصيَّتها، النهار قلعتها المستميتة بحضورها الطاغي، وعشقه المنفرد، فالعاشق يجهل التلاعب بالمشاعر وعشقه بين يديه، ظلَّ يهمسُ لها بكلماتهِ العاشقةِ الصادقة،حتى هدأت وسكنت بين أحضانِه، ليتجوَّلَ بأناملهِ على وجهِ امرأتهِ العاشقةِ التي احتلَّت قلبهِ كاحتلالِ جنديٍ مهووسٍ بالدفاعِ عن أرضهِ حتى آخرَ نقطةٍ بدمِه، نعم احتلَّت كيانهِ وكينونتهِ ولم يعد لديها قرار آخر سوى العيشَ تحتَ جناحِ أحضانه، حتى لو كلَّفهُ الأمرَ إرغامها على ذلك.. دقائقَ شعرَ بها وكأنَّهُ بساطُ ريحٍ تجوَّلَ بالعالمِ أجمع ، فلما لا وهي السعادةُ والشقاء.. الألمُ والدواء.. والحزنُ والفرح، هي جميعهم تحتَ مسمَّى عشقهِ الأوحد حتى الممات، فأقسمَ بداخلهِ أن لا يسلمَ قلبهِ لأحد غيرهاولا يلمسَ سواها، هي أوَّلُ نبضٍ ليشعرَه بطعمِ الحياة، ولقلبهِ البرئ كانت الفرحة ومعالم السعادة، فأقسم لربه أن آخرَ نبضاته ستكون لها ..دفنَ وجههِ في حنايا عنُقها يستنشقُ رائحتها بولهِ عاشقٍ حدَّ النُّخاع؛ هامسًا اسمها كطائرٍ يشدو فوقَ الأغصان:
-ميرو حبيبي مبروووووووك الطلاق ياحبيبة الياس، قالها وهو يحتضنُ ثغرها بقبلةٍ عاشقةٍ تعزفُ بموسيقى أنينِ اشتياقهما، اعتدلَ ينظرُ لملامِحها الهادئةِ ثمَّ مرَّرَ أناملهِ على وجنتيها:
-مفيش طلاق في قاموس إلياس ياميرال هو بيتجوِّز بس، إنَّما طلاق مالوش تعريف عندي، طافت عيناه عليها وهي بين احضانه، واردف غامزًا:
-ومحستشِ إنِّك رفضاني ليه بقى المسرحية اللي عملتيها، جذبها من عُنقها يضعُ جبينه فوقَ جبينها..
-وعقابِك لسة جاي، أوَّل حاجة علشان تقتلي نفسِك حلو، والتاني علشان تهربي من جوزِك..
رفعَ عينيهِ ينظرُ إلى مقلتيها:
-قدرِك معايا لحدِّ ماواحد فينا يموت، مالكيش اختيار تاني، وبلاش شُغلِ المراهقين بتاعِك طلَّقني وبكرهَك، علشان مقلبشِ عليكي، أخدتي حقِّك منِّي في قهرتي عليكي، وأنا أخدت حقِّي منِّك، كدا مناصفة بينا، هتغلطي مش هرحمِك ياميرال ومتنسيش إنِّك مرات إلياس السيوفي ..اعتدلَ بعدما وجد صمتها ،جلبَ إليها الإسعافات لتضميدِ جروحها، دقائقَ معدودةً وأنهى إسعافها بصمتٍ مريبٍ وهي تتابعهُ بعينيها، جمعَ الأشياءَ وتوقَّفَ يطالعُها بصمت، رفعت عينيها بعدما شعرت بنظراته..
-متفكرش علشان قربت مني يبقى كدا رضيت بالأمر الواقع ..تجاهل كلماتها، واستدار يحاوط المكان بنظراته قائلًا:
-قومي بقى حبيبي علشان نرجع بيتنا
هنا مش واخد راحتي.،
هبَّت من مكانِها تدفعهُ بقوَّةٍ متناسيةٍ جسدها الذي كُشفَ أمامِه:
-مش هرجع معاك في حتة سمعتني؟..
اطلع برَّة..غمزَ بعينيهِ ينظرُ إلى جسدها الذي انكشفَ معظمِه، فدنا منها:
-بتغريني صح ..وأنا مستعد، إيه رأيِك نكمِّل الليلة ..قالها مقتربًا منها..
-آاااه صرخت فرمقُها بنظرةِ مميتة:
-صوتِك، متفكريش إنِّك في الفيلا، أغمضت عينيها تسبُّهُ بداخلِها.. وصلَ إليها بخطوةٍ واقتربَ حتى هوت فوقَ الفراشِ تجذبُ الغطاءَ فوقها وتصرخُ به:
-ابعد عنِّي بدل ماأصوَّت بحق وحقيقي..
كتمَ صرخةً بداخلهِ حينما وقعت عيناهُ على جرحِ صدرها الذي مازالت تظهرُ آثارِه، وبدأ وكأنها إصابته بحركاتها العنيفة ...بسطَ كفَّيهِ إليها:
-قومي خُدي شاور مش عايز كلام كتير، إنتِ مراتي مش واحدة جايبها من الشارع..
بعدَ قليلٍ وصلَ إلى منزلِ والده.. توقَّفت السيارةُ وظلَّا بداخلها:
-يعني إيه ممكن توضَّحي كلامِك؟..
استدارت إليه:
-عايزة أفضل وقت أرتِّب حياتي ياإلياس، عايزة أرجع أثق فيك وأحبَّك زي الأوَّل..
تنهيدةٌ طويلةٌ ومتعبةٌ ثمَّ تحدَّث بنبرة ساخرة:
-تحبيني، رفعَ عينيهِ إليها:
-إنتِ بتكرهيني!.. دنا برأسهِ يخترقُها بنظراته:
-مش قولت بلاش كلام المراهقين دا، أنا أكتر واحد أقدر أحكم إنِّك بتحبيني ولَّا لأ..
ابتعدت برأسِها عن أنفاسهِ التي ضربت وجنتيها، وهمهمت بتقطُّع:
-بلاش الغرور دا ياإلياس، ابتلعَ جمراتَ كلماتها، محاولًا ألَّا يصفعها:
-عايزة إيه ياميرال، شيفاني عيِّل صغير مش عارف أحكم عليكي.. دنت تنظرُ داخلَ مقلتيه:
-أنا دلوقتي مضَّايقة منَّك وحاسة إنَّك بتخنُقني، إيه..عايز علاقتنا دايمًا بطريقتَك بتاعةِ النهاردة، تفضَل ورايا لحتى أخضعلَك علشان أتخلَّص منَّك..
طحنَ ضروسهِ ضاغطًا على فكِّه، وزفرةً حارةً أخرجها يريدُ إحراقها بها، طالعها بنظرةِ خذلانٍ باردة:
-يعني اللي حسيتُه دا علشان تتخلَّصي منِّي؟..ابتعدت ببصرِها عنه، وتابعت بقسوةٍ ألهبت جميعَ حواسِه:
-ومضايقة إنِّي استسلمت، مش راضية بالعلاقة دي، وطول ماأنا مش راضية يبقى جوازنا باطل..
-اخرسي يابت، مش عايز أسمع نفسِك، تمام ياحضرة الصحفية المثقَّفة اللي مش واخدة من دينها غير كلمة الإسلام بس، طلاق مش هطلَّق، هتتعاملي معايا كأي زوجة محترمة هشيلِك فوق راسي، هتسوقي العوج هتعامِل معاكي بأصول أيِّ مصري أصيل بيعامِل مراتُه اللي عايزة تتربى..
البيت دا هيفضَل بيتِك إلى إن شاء الله أدفنِك، ومعنى بيتِك يعني مراتي، عايزة تموِّتي نفسِك، موتي ووعد المرَّة دي مش هنقذِك.. احترام اسمي فوقِك شخصيًا، الاحترام ثمَّ الاحترام
يامدام ميرال.. ثم حدجها بنظرة ممتعضة
-ووعد مني مش هقربلك حتى لو روحي فيكي، بس ماترجعيش تندمي وتعيطي، وهكرهك نفسك اكتر ماانت كرهها، ومن اللحظة دي انسي اي كلمة قولتها لك ، منكرش حبيتك وضعفت، بس مش إلياس اللي يطاطي لست مهما كانت هي مين، ورفضي للطلاق مش تمسك بيكي ابدا يامدام، دا علشان شكلي الاجتماعي مش اكتر، ومن اللحظة دي لو خرجتي برة البيت دا من غير حجاب ولبس محترم، وعد اولع لك في شعرك اللي فرحانه بيه، نظر إلى فتحة صدرها، ثم جذب كنزتها بقوة يشير إلى جسدها الظاهر
-أنا متعاقبش علشان واحدة بترخص جسمها، والله العظيم اشوه لك من غير مايرف لي جفن، احترمي دينك يامسلمة، ..أنهى كلماتهِ بحزمٍ وقوَّةٍ ونبرةٍ يشوبها التهديدُ القاطع ثمَّ ترجَّلَ من السيارة، واتَّجهَ لداخلِ المنزل، بخطوات تأكل الأرض، ظلَّت تتابعُ تحرُّكهِ بحزنٍ من عينيها قائلة:
-أنا عملت ايه علشان احب بني ادم زي دا، وقلبي هيفضل يضعفني لحدِّ إمتى
واللهِ لأندِّمَك ياإلياس وأعرَّفك إنَّ اللهَ حق، وإزاي تفكَّر تكسَر قلبي وتكلمني بالطريقة دي
دلف للداخل وخطا بعضَ الخطواتِ إلَّا أنَّها أوقفته:
-إلياس استنى فين ميرال؟..
صعدَ للأعلى دونَ حديثٍ ، تحرَّكت خلفهِ إلَّا أنَّها توقَّفت بعدما استمعت إلى صوتِ غادة:
-حبيبتي حمدلله على سلامتِك، كدا ياميرو، هرولت فريدة إليها، جذبتها بقوَّةٍ لأحضانها، بكت بصوتٍ مرتفعٍ وهي تحتضنُ وجهها تقبلُها على وجنتيها، ثمَّ تفحَّصت جسدها بالكامل كالأمِّ التي تتفحصُ جنينها..
-هونت عليكِ ياميرو، كدا تعملي في ماما كدا..كانت عيناها على تحرُّكهِ للأعلى، فهمست بأنين:
-ماما أنا تعبانة ممكن نتكلِّم بعدين، حاوطت جسدها تهزُّ رأسها وتحرَّكت بجوارِها قائلة؛
-غادة خلِّيهم يجهزولها الحمَّام، تاخد شاور سُخن ..أومأت غادة وتحرَّكت مبتسمة:
-هوَّ لازم ميرو تعمل هيجان في البيت والكل يخدمها، تراجعت إليها وضمَّتها ثمَّ طبعت قبلةً على وجنتيها:
-يارب ماتكوني لبختي، شكلُه بيطلَّع نار من ودانُه، عملتي إيه ياآخرة صبري؟..
ابتسمت متحرِّكةً دون حديث
وصلت بها فريدة إلى الأعلى:
-هتروحي أوضتِك ولَّا عندِ جوزك، قبل ماتقولي حاجة، الشهر دا إلياس تعب جدًا، بلاش توجعيه أكتر ماهو موجوع، سامحيه حبيبتي وهوَّ كمان سامحِك، ابدأوا حياة جديدة…
ربتت على كتفِها وتركتها تتخذُ قرارها بنفسها..
بالداخلِ جلسَ فوقَ الفراشَ ينتظرُ دخولها، استمعَ إلى حديثِ فريدة معها بالخارج، لحظاتٍ وفُتحَ البابَ نظرَ إلى دخولها وخطواتِها الهادئة، وكأنَّها تخطو فوقَ نبضهِ الضاري بعشقها، اقتربت وجلست على الأريكة، تنظرُ في اللاشي، دقائقَ والصمتُ يعمُّ المكان..
توقَّفَ متَّجهًا إلى خزانةِ الملابس وجذبَ ثيابها:
-ادخلي غيَّري، وارتاحي، أنا هنزِل جناحي القديم، خُدي راحتك، وزي مااتفقنا..
تلاشى تنفسها وضاقت عليها جدرانَ الغرفة، همست بتقطُّع:
- مش عايزة أقعد هنا..كوَّرَ قبضتِه، ثمَّ استدارَ إليها:
-انا لحد دلوقتي بحاول أكلِّمك بقلبي، بس واللهِ لو كلمتِك بعقلي لأندِّمك، قولت اتنيلي غيري، ونامي، والكلام اللي قولته تحت يتسمع من غير ولا كلمة قولت ..ولا لا
بعدَ عدَّةِ أيامٍ والوضعُ هادئًا بين الأبطال
بغرفة ميرال ..دفعت غادة الباب غاضبة:
إنتِ يابتِّ عبيطة، واللهِ عايزة أضربِك..
كانت تنظرُ للخارجِ ولا تكترثَ لحديثها، فمنذ ثلاث ايام لا تراه، يعود بوقت متأخر...لكزتها غادة ثم صرخت بها
-ميرال!!
التفتَت تنظرُ إليها بصمت:
-سلمتي جوزِك لواحدة زي دي ياعبيطة؟..هزت كتفها واردفت:
-زلط ياكُل بعضُه، خلِّيها تشبع بيه..
-يخربيت برودِك ياشيخة..ظلَّت تدور بالغرفةِ كالمجنونةِ إلَّا أنَّها هتفت:
ـ طيِّب ياستِّ الجميلة التقيلة،
الأمورة معزومة على العشا، إيه مش هتنزلي تاكلي مع مرات طليقِك مستقبلًا..
ألقتها بكوبِ المياه:
-برَّة، ربنا ياخدِك انتِ وأخوكي وأرتاح منُّكم..
-تصدَّقي صح يابتِّ ياميرو، إلهي ياخدو منِّك ويودِّيه للبتِّ أم عيون زرقة دي على الأقل يجيب عيال حلوين شبه أمهُم، مش زيِّك، دا البت ماصدقت ولزقت فيه، لو تشوفي بتتصل بيه كام مرة، ولا قزاريز البرفيوم اللي جيباها، إنما الصبح إلياس كان حاطط برفيوم ريحته تدوخ، عرفت من مصادري أن العروسة الجديدة جبتها له هدية
نهضت سريعًا وهبطت للأسفلِ غيرَ مكترثةٍ لثيابِها التي تصلُ لفوقِ الرُّكبة، بفتحةِ صدرٍ واسعة..
هرولت خلفها تتمتم:
-ياربِّ استر واللهِ البتِّ دي هت موت مقت ولة..
بالأسفلِ قبلَ قليل:
أخرجَ صورةً ووضعها أمامَه، أمسكَ الصورةَ يقلِّبها بيده:
-مين دا؟..
-راجح الشافعي،اللي اتكلمت عنه من فترة ظابط مستقيل سابقًا، رجل أعمال حاليًا، عليه علامة استفهام كبيرة
-أمم نحلَّها..رفعَ فنجانَ قهوتهِ وارتشفَ بعضًا منها، ثمَّ نظرَ إلى الصورةِ واستطردَ مفسِّرًا:
-عايز كلِّ حاجة عنُّه، من فترة عملت سيرش، لكن للأسف صدَّقت اللي كنت عايز أصدَّقه، لحدِّ مادخل حياتي صُدفة مرَّة تانية..
-قريبَك؟..تساءلَ بها أرسلان
هزَّ رأسهِ بالنفي، ثمَّ أكمل:
-مش موضوع قريبي، الراجِل اللي ضرب بابا، واللي حاول يموِّتنا دا شغَّال مع شريكه، مع إن شريكُه ماليش علاقة بيه..
-علاقتَك بيه إيه؟..
-تار قديم وجِه وقتِ الحساب..
-أمم ..شكلُه أذاك كتيير؟..
استندَ على المكتبِ ونظرَ إليه:
-الراجل دا أخوه مات في حادث بحر، واتجوِّز مرات أخوه، خلِّفت بنت وهربت بيها عايز النفس اللي اتنفَّسُه في الوقتِ دا..
انكمشت ملامحهِ باستفسار:
-يعني إيه، ممكن يكون هوَّ اللي قتل أخوه؟!..
توقَّفَ إلياس بعدما أشعل سيجارته، ثمَّ جلسَ بمقابلتِه:
-مش عارف، لمَّا سألت الناس كلَّها شكرت فيه وزمُّوا مرات أخوه..
-وبعدين، مايمكن فعلًا تكون كدا..
شعرَ بغصَّةٍ تمنعُ تنفسِه، فهزَّ رأسهِ بالرفضِ سريعًا:
-كنت مفكَّر زيك كدا، لحدِّ ماظهر قدَّامي صُدفة، وبدأ تبان حقيقتُه..
-يعني إيه؟..
-دي اللي هتجاوبني عليها في أقرب وقت، عايز مصادر موثوقة، الموضوع دا مهمّ جدًا وياريت يكون سرِّي بيني وبينَك، يعني لو بابا سألَك متقولشِ حاجة.
أومأَ متفهِّمًا ثمَّ نهضَ بدخولِ فريدة تخترقُ بنظراتِها أرسلان:
-حبيبي العشا جهز، يالَّه اعزم على صاحبَك يتعشَّى معانا..
توقَّفَ إلياس يشيرُ إليه:
-إيه رأيَك تتعشى معانا ويبقى عيش وملوخية..قالها مبتسمًا..
-ابتسمَ وهو ينظرُ إلى فريدة:
-كنت أتمنَّى واللهِ ياستِّ الكل، لكن النهاردة عشا عائلي وممكن ماما تتبرَّا منِّي، خليها مرَّة تانية، قالها وهو يغلقُ جاكيتهِ لتتساقطَ صورةُ راجح أمامَ فريدة، تنظرُ إليهِ بذهولٍ مع اندفاعِ ميرال ببابِ الغرفةِ تصرخُ بوجههِ قائلة:
-البت دي إيه اللي جابها بيتي تاني، مش دا بيتي اللي حضرتَك قولت ماليش غيرُه هو والقبر..جذبتها فريدة للخارجِ سريعًا ورسمت ابتسامة:
-معلشِ يابني مكنتشِ تعرف إنَّك موجود..توسَّعت حدقتيها وهرولت تختفي خلفَ فريدة بعدما وجدت أرسلان بجوارِ إلياس لتهمسَ بتقطُّع:
-آسفة ..أنا..سحبتها فريدة وخرجت دونَ حديث، نظرَ للأسفلِ وهو يكوُّرُ قبضته، انحنى أرسلان يحملُ صورةُ راجح قائلًا:
-إن شاء الله خلال ساعات هعرفلَك مين الراجل دا بالظبط..
أومأَ لهُ دونَ حديثٍ وهو يريدُ أن تنشقَّ الأرضَ وتبتلعهُ على ما فعلتُه.
تحرَّكَ للأعلى بعد مغادرةِ أرسلان من الفيلَّا كليًا..دفعَ البابَ يبحثُ عنها..
مساءَ اليوم:
بفيلَّا الجارحي، دلفت صفية إلى غرفتها تضعُ أمامها فستانًا من اللونِ الأبيض:
-غرام البسي دا وانزلي حبيبتي أخوات فاروق تحت..
نهضت مبتسمةً واقتربت منها تشيرُ على فساتينها:
-عندي كتير مكنشِ لُه لزوم.. ربتت على كتفها:
-عارفة، بس دا هديِّتي.. طبعت قبلةً على وجنةِ صفية:
-شكرًا ماما صفية، ضمَّتها صفية بحنان:
-ربنا يسعدُكم يارب، أرسو عرف يختار..تركتها صفيه وهبطت للأسفلِ
دلف يطلق صفيرا، ببذلته السوداء
حاوط المقعد الذي تجلس عليه أمام المرآة ونظر إلى انعكاس صورتها بالمرآة
-اميرة ديزني شكلها هتخطف الأنظار الليلة، ودا مش مقبول..ارتدت خاتم زواجها، ثم رفعت رأسها تنظر إليه مبتسمة
-العيلة دي فيها بنات حلوة غير طمطم ولا لا..انحنى يطبع قبلة على جيدها هامسًا:
-حتى ولو انت خلاص سكنتي القلب وشغلتي العقل..لمعت عيناها بسعادة العشق، استدار يجذب حجابها الوردي ثم أوقفها يشير إليها
-خلصي، علشان انا كمان دقيقة وهقفل الباب دا بالمفتاح، والله لو حصل انفجار تحت ماهفتح لحد..ابتسمت بخجل تتناول منه حجابها واستدارت تنظر بالمرآة
بعد قليلٍ وصلت جميعُ العائلةِ للتتعرُّفِ على زوجةِ وريثِ عرشِ الجارحي الوحيد.. دلفت أحلام والجميعُ يشدو بجمالِ غرام، إلى أن هبَّ فاروق بدخولِ والدته:
-مرات مين دي اللي بترحَّبوا بيها، الواد دا... قالتها وهي تشيرُ على أرسلان الذي يحاوطُ جسدَ غرام..هنا شعر اسحاق بتوقف تنفسه وهو يرى والدته تقترب من ارسلان تدفعه هادرة
-إنت مين !!
بشركة مالك العمري
خرجَ من الشركةِ متَّجهًا إلى سيارته، ولكنَّهُ توقَّفَ حينما توقَّفت أمامهِ سيارةَ شرطة:
-يزن السوهاجي..أزالَ نظَّارتهِ الشمسية يهزُّ رأسه:
-أيوة فيه إيه؟..
-مطلوب القبض عليك . هرولت رحيل بعدما وجدت الشرطة تجذبهُ كالمجرم..
بشقَّةِ آدم:
عادَ من عملهِ بيومٍ مليئٍ بالأشغال..بحثَ عنها، استمعَ إلى الموسيقى بالداخل، فتحَ البابَ بهدوءٍ حتى لا يُفزِعها ولكنَّهُ توقَّفَ متسمِّرًا وهو يجدُها ترتدي بدلةَ رقصٍ سوداء، تظهر منحانيتها الأنثوية بسخاء،و ترقصُ على نغمات:
-حبيبتي ترقصُ حافيةَ القدمين.. دفعَ البابَ ودلفَ للداخلِ بعدما أغلقهُ بالمفتاحِ وهي لم تنتبه لدخولِه.. كانت تتمايلُ مع الموسيقى ولكنَّها توقَّفت بعدما شعرت بكفِّهِ يحاوطُ جسدها يهمسُ بجوارِ أذنها كلماتِ الأغنية، لترتجفَ محاولةً الفكاكَ من قبضتهِ ولكنَّهُ كانَ كالأسدِ الجائع..