رواية شظايا قلوب محترقة الفصل العاشر بقلم سيلا وليد
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
لن نتفق !
أنتَ لا يُلفِتُكَ الحَريقُ في صدري
وأنايُثير انتِبَاهِي خَدشٌ صغِيرٌ في يدِكَ ..
عَاهَدَتني ألّا تَميْلَ مع الهوى ،
يـَ كاذباً بالعهد أنت قتلتني " 💔
أيُّ كَرَمٍ هذا حيْنَ تَرَكْتَ لِي وَجَعَاً يَكْفِينِي سَبْعِينَ عَامًاً ...
أيُّ خيبة تلكَ التي عشتها أنا ..
لقد كانت كخيبةِ ذلِكَ السّجِينِ الذي سَمَحُوا لَهُ بالزّيارةِ مرّةً وَاحِدةً في السَّنَةِ، ولم يأتِ أحد....
فـ ليتنَا مِثْلَ الخَرِيف..
نَنفِضُ أوراقَ مشاعرِنا الجافَّةِ..
وكلّ ما أتمناه
أنْ تتساقَطَ أوراقُ أوجاعِنا وذكرياتنا الحزِينة..
لكنني...صُلْبَةٌ؛ صُلْبَةٌ جِدًا وَكَأَنَّنِي أَنْتَقِمُ مِنْ أَيَّامٍ عِشْتُ بِهَا لِيِّنَةً فَسَحَقُونِي....
تسمرَّت كالجماد، وكأنَّها تنتظرُ الطلقاتَ الناريةِ بصدرٍ رحْب، تثاقلت أنفاسها وتمنَّت أن يُصيبها اللهُ بالعمى وهي تراهُ يضعُ هويتهِ وهويةَ رؤى أمامَ المأذون..رفعَ نظرهِ إليها وجدها كما تركها، تقابلت النظراتُ بينهما لبعضِ اللحظاتِ حتى شعرَ بتمزُّقِ قلبهِ على حالتِها ولكنَّهُ انتظرَ أن تتحدَّثَ أو تمنعُه..
بدأ المأذونُ بكلماتهِ المعتادة، وظلَّت هي تنظرُ بداخلِ مقلتيهِ لم تقوَ على الحركةِ أو التفوُّه، كأنَّها أُصيبت بشللٍ بكاملِ جسدِها..سحبت قدميها تجرُّها بصعوبةٍ مع كلماتِ المأذونِ التي جعلت صدرها كمِرجلٍ يغلي مع قلَّةِ مياهِه..حاولت الهدوءَ أو الهروبَ أو الصُراخَ ولكنَّها لم تقو..ذهبت ببصرِها إلى سلاحهِ الموضوعِ على الطاولة، خطت كطفلٍ يتعلَّمُ السيرَ إلى أن وصلت إلى رؤى..سحبتها من ذراعيها وبلسانٍ ثقيلٍ همست بتقطُّع:
آسفة ياعمُّو الشيخ، بس عايزة أبارِك لجوزي قبلِ ماأمشي..قالتها وعينيها جامدةً تنظرُ إلى اللاشيء..
دفعت الطاولةَ قليلًا..وتوقَّفت تستندُ بظهرِها عليها، ثمَّ حاوطت عنقهِ منحنيةً إلى خاصَّتهِ لتعقِدَ علاقةً منفردةً مع بركِ عيناها التي سمحت لها بالتَّحرُّر، لحظاتٍ أو ربَّما دقيقةٍ وهو متجمِّدٌ بمكانهِ لم يتوقَّع ما تفعلُه، ظنَّ أنَّها ستثورُ أو تطلبَ الطلاق، استندت بجبينها على جبينِه، تلمسُ وجنتيهِ بكفِّها المرتعشَ وعينيها التي عانقت عيناهُ تحاولُ إخراجَ الحروف:
حبيتَك كتير، وكِرهتَك أكتر، بس كان لازم أهاديك هديَّة فرحَك، مبروك ياوجع قلبي، هديِّتي عُمرَك ماهتنساها طول حياتَك، وكلِّ ماتيجي تحتفِل تفتكرني، قالتها وهي تجذبُ السلاحَ من جوارهِ بلحظاتٍ قليلةٍ وقامت بإطلاقِ النارَ على نفسِها، ليهبَّ فزعًا من مكانِه، يحاوطُ جسدها مذهولًا لما فعلته..افرح ياإلياس افرح أوي وإنتَ قتلتني بإيدَك، صرخةٌ شقَّت صدرهِ باسمها وهو يسقطُ معها بسقوطِ جسدِها، صرخاتٌ وصرخاتٌ إلى أن شعرَ بانقطاعِ أحبالهِ الصوتيةِ يضمُّها إلى صدره، وهو يرى موضعَ الرصاصةِ الخطير..نزل بجسده يحاوط جسدها واغروقت عيناه بالدموع مهمهمًا:
-ليه حرام عليكي..!!
مش حملِ وجعَك..رفعت كفها على موضع قلبه وهمست بتقطع
-وجعتني لحد ماموتني..قالتها لتغمضَ عينيها.. اتسعت حدقتيه بذهول مع دموعه التي انسابت رغمًا عنه، يهز رأسه رافضًا ماصار، ضم رأسها إلى صدره، وهو يشعر بإزهاق روحه
-إلياس إلحقها لسة عايشة..رددها إسلام محاولًا رجوعه إلى وعيه..ظل يهزه بينما الآخر ظل يضمها بصمت وكأن أحدهم سيخطفها من حضنه..حاول اسلام مساعدته إلى أن
هبَّ من مكانهِ يحملُها ويخرجَ بها سريعًا..ورغم سرعة تحركه، ولكن كان يترنح بمشيه، وصل إلى السيارة مع استقلال اسلام إليها بعدما فتح بابها الخلفي
جلس يضمها بقوة ينظر باكيًا
-ميرال ..ميرال، ولكن كيف تستمعُ إليهِ بعد غيابها عن الوعي بالكامل..، وضعها بهدوء، واستدار إلى القيادة، ثم جذب اسلام يخرجه من السيارة واتجه إليها
وقادَها بسرعةٍ كبيرةٍ كعاصفةٍ هبَّت فجأةً ليهربَ الجميعُ للاحتماء، دقائقَ إلى أن وصلَ إلى المشفى يحملُها كالطفلِ الرضيعِ يهرولُ بخطواتٍ كبيرةٍ إلى غرفةِ الطبيب..وضعها ينظرُ لشحوبِ وجهها،
ملَّسَ على وجهها ودمعةٌ خائنةٌ تحرَّرت من جفنيهِ يهمسُ بتقطُّع:
ميرال أوعي تقتليني كدا..دفعها المسعفُ إلى داخلِ غرفةِ العملياتِ سريعًا..ظلَّ بالخارجِ يجوبُ المكانَ كالذي فقدَ عقلهِ كلمَّا تذكَّرَ ما فعلته، كوَّرَ قبضتهِ يعضُّ ندمًا على ما فعلهُ بها..هوى بعدما شعرَ بوجعٍ يغزو أضلعهِ وكأنَّهُ طُعنَ بأبشعِ الطُّرق ..توقَّفَ عندما فقدَ السيطرةَ على نفسِه، يجذُبَ خصلاتهِ يقتلِعها..
يودُّ أن يحطِّمَ الجدارَ ويدلفَ إليها يضمُّها لأحضانِه، لا يريدُ سوى أحضانها، وصلَ مصطفى وفريدة بعد إخبارِ إسلام، تحرَّكت بعجزٍ تنظرُ إليه:
-ميرال فين؟!...تراجعَ بجسدهِ مبتعدًا عن الجميع، لا يريدُ الحديث َمع أحدٍ يريدُ الاطمئنانَ عليها فقط، لا يريدُ سوى سماعِ صوتها، أطبقَ على جفنيهِ
وداخلهِ بركانٌ ثائرَ الحممِ أوشكَ على الانفجار..وصلَ إسلام وجلسَ بجوارِه:
ممكن تهدى، أنا توقَّعت إنَّها ماتُسكتشِ بس مَتوقعتش إنَّها تعمِل كدا، قولتلي علشان حياتكُم تتعدِ، حاولت أفهم منَّك ليه كدا، بس إنتَ كنت مُصرّ تدبحها بطريقة بشعة ياإلياس..
إسلام مش عايز أسمع حاجة، قوم امشي من هنا..قالها غاضبًا..
عدَّةِ ساعاتٍ مرَّت عليهم كأعوامٍ إلى أن خرجَ الطبيبُ ليصلَ إليه بخطوة:
-العملية انتهت الحمدُلله، مخبِّيش عليكم الرصاصة كانت قريبة من القلب، هننتظر الساعات الجاية، إن شاءالله تعدِّي على خير...
-عايز أدخلَّها..قالها وعينيهِ على غرفةِ العناية ..نظرَ إليه لبعضِ اللحظاتِ بصمتٍ ثمَّ هتف:
خمس دقايق بس، استنى شوية لما يظبَّطوا أجهزِتها ..خطا إلى النافذةِ الزجاجيةِ وعينيهِ تتجوَّلُ بألمٍ فاقَ التحمُّل..توقَّفت بجوارهِ تنظرُ إليها بدموعِها تهمس:
-لو أعرف ناوي تدبحها كدا كنت منعتها تروحلَك، كانت سعيدة وبتتنطط زي الفراشة، لكن شوفها دلوقتي، شوف عمايل إيدَك، وصلَ بيها الحال تقتِل نفسها علشان فاض بيها..
استندَ برأسهِ على الزجاجِ ومازالت عيناهُ تحاكيها..
-إلياس ..استدارَ للتي تناديه، وجدها تقفُ خلفهُ بعيونٍ حزينة..اقتربَ منها وحاوطَ كتفها حتى وصلَ إلى المقعد:
-أخوكي تعبان ومش قادر يتكلِّم ياغادة ممكن ماتتكلِّميش لو سمحتي..
ربتت على ظهرِه:
-سلامتَك من التعب حبيبي، أنا متأكدة ميرال هتقوم بالسلامة..نهضَ من مكانهِ بوصولِ رؤى..
-ميرال عاملة إيه..استمعت فريدة إلى صوتِها فاستدارت ترمقُها بحدَّةٍ وهدرت بها:
-البتِّ دي بتعمِل إيه هنا، دي خانت العيش والملح إيه اللي جابها، اقتربت فريدة تدفعُها بقوَّة:
-إيه جاية تطمِّني ماتت ولَّا لسة..
طنط فريدة لو سمحتي..
اخرسي مسمعشِ صوتَك، لكمتهُ بصدره:
اخرس ياجبروت، على قدِّ حزني على اللي حصلَّها بس فرحانة فيك، عارف ليه، علشان ترتاح منَّك..دنت خطوةً وعينيها تخترقُ عيناهُ بنيرانٍ من قاعِ جهنَّم:
كنت عايز تموِّتها وتاخد حقَّك منِّي، أهي ماتت افرح بقى، سقَّف ياإلياس باشا، بنتِ عدوِّتَك بتصارِع الموت جوَّا، دفعتهُ بقوَّةٍ بكفَّيها الاثنين:
مراتك بتموت بسبب واحد ماشي بمبدأ آخد حقِّي من البرئء، ذنبها إيه…ذنبها إنَّها حبتَك، قولِّي ذنبها إيه؟…
وصلَ مصطفى من غرفةِ الطبيب، اقتربَ منها يجذُبها بعيدًا عن إلياس:
-فريدة اتجنِّنتي إنتِ مش شايفة حالتُه، اهدي علشان صحِّتِك..
أشارت إليهِ تبكي بشهقات:
-مين دا يامصطفى، دا ابني لو ابني كدا مش عايزاه..
-فريدة اتجنِّنتي،حاولي تتمالكي اعصابك شوية، الواد هيموت من غير كلامك ..ابتعدَ عنها يجرُّ أقدامهِ بصعوبة إلى أن وصلَ غرفةِ العنايةِ المركَّزة..دلفَ بساقينِ كادت أن تهوى بهِ لولا قوَّتهِ الجسمانية، خطواتٍ ضعيفةٍ هشَّةٍ وهو يراها لا حولَ لها ولا قوَّة ..وصلَ إلى فراشِها واقتربَ من رأسها وطبعَ قبلةً مطوَّلةً فوقَ جبينها،
ظلَّ يطالِعُها لفترة، ثمَّ سحبَ كفَّها يربتُ عليهِ ليرفعهُ ويقبِّلهُ بدموعِ عينيه..
نظرَ إلى وجهها الشاحب:
رباااه كم اشعر بتمزق احشائي، وددت لو أعناقها للحظات، كم اشتاق الى رائحتها الندية، وصوتها المرهف يهمس باسمي
لم يعد بقلبي اتساع لاستيعاب إحساس آخر ..!!
تؤذيني أم تحميني ،،فالحب لكِ ...
و الوجع منك العشق فيك
و الشوق إليك الفقد أنت و البكاء عليك
رسمها بعينان تنبع من الندم مايحطمه هامسًا
إيه الوجع دا، حاسس مش قادر أتنفِّس، معقول بحبِّك أوي كدا ..اقتربَ يهمسُ بجوارِ أذنها:
طيِّب لو قولتلِك افتحي عيونِك وكلِّ دقيقة هقولِّك بحبِّك..رفعَ كفَّها يضعهُ على وجنتيهِ واستطرد:
-ميرو أنا مكسور، مكسور، صدَّقيني كنت بعمِل كدا وقلبي محروق..طبعَ قبلةً بجوارِ شفتيها..
لمَّا تفوقي هعمِل معاكي أبشع حاجة تتخيِّليها علشان متعرفيش تشليها من عليكي، مسَّدَ على خصلاتِها وتمنَّى لو يزيلُ جميعَ الأجهزةِ من فوقِ جسدها، ويضمُّها لأحضانِه، ليعُلِمُها أنَّ حُضنها الوحيدُ جهازهِ لبقائهِ على قيدِ الحياة.
مرَّ اربع ايامٍ ولم يخطو خطوةً واحدةً بعيدًا عنها سوى لصلاتهِ فقط، اتَّخذَ مقعدهِ بجوارِ فراشها مسكنِه، لا يعلمُ ماذا يحدثُ بالخارج، ولا يريدُ أن يعلمَ شيئًا سوى أن يرى عينيها الجميلةِ مرَّةً أخرى..
ملَّسَ على خصلاتِها وعينيهِ تبحران فوقَ وجهها كقبطانِ سفينة..استمعَ إلى فتحِ الباب، لاحَ بنظرهِ إليها ولكنَّهُ عادَ ينظرُ إلى زوجتهِ مرَّةً أخرى..
دلفت فريدة وعيناها عليه، وصلت إليهِ بخطواتِها المتعثِّرة، توقَّفت بجوارهِ لم تشعر بنفسها حينما رفعت كفَّها على رأسهِ وأردفت بنبرةٍ ليِّنة:
-حبيبي هوِّن على نفسَك، أنا عارفة قسيت عليك بالكلام، بس غصبِ عنِّي يابني..
رفعَ نظرهِ إليها وبعيونٍ تُحجزُ عبراتها، ووجهٍ ينفجرُ لهُ براكينَ الأسى يشعرُ بجمرةٍ تحرقُ قلبه:
عُمري مااتخيِّلت إنَّها تكون بالشكلِ دا، عايزها تصحى وتعمل اللي هيَّ عايزاه.
بكت فريدة على حالِه، احتضنت وجهِه:
هتفوق إن شاءالله حبيبي هتفوق، بكرة تقول ماما قالت..
-تفتكري هتسامحني !!..هزَّت رأسها بدموعِها وابتسامةٍ تجلَّت من عينيها، تملِّسُ على وجنتيه:
بتحبَّك واللي بيحب بيسامِح..
-بس أنا مقدرتِِش أسامحها، حاولِت بس مقدرتِش مع إنِّي بحبَّها..قالها بنبرةٍ متقطِّعةٍ وعيونٍ تائهةٍ وكأنَّهُ طفلً يبحثُ عن والديه، احتضنَ كفَّ فريدة لأوَّلِ مرَّةٍ وطالعها بنظراتٍ مترجية:
-أنا مش عايز غير إنَّها تصحى وبس، قوليلها ياماما فريدة هي بتحبِّك وهتسمع منِّك.
انحنت فريدة تضمُّهُ وتزيلُ عبراته:
عيون ماما والله صدَّقني هتصحى وتقوم وتسامحَك كمان.
التفتَ إليها ونيرانُ الذنبِ تحرقُ أحشائه:
دي ميرال اللي كلَّها حيوية، إنتِ شايفة عاملة إزاي..
اقتربَ بجسدهِ منها يهمسُ لها:
افتحي عيونِك ووعدِ منِّي هسامِح ماما فريدة، ومش هقولَّها غير ماما..
شهقةٌ أخرجتها فريدة وهي تضعُ كفَّها على فمِها تنظرُ إليهِ بدموع:
ياااه لدرجة دي بتحبَّها، طيب ليه العندِ دا يابني ..
تعثَّرت الكلماتُ على شفتيهِ يهزُّ رأسهِ ولم يعد لديهِ القُدرة على الحديث، لقد أنهكت جميعَ حواسِه، وانخفضَ نبضهِ حتى شعرَ بتوقُّفهِ فأغمضَ عينيهِ بعدما فقدَ السيطرةَ على انهيارهِ يحدِّثُ نفسِه:
ضعفت وانكسَرت خلاص ياإلياس، الحب وقَّعك، وحصونَك انهارِت، فتحَ عينيهِ على صوتِ فريدة وهي تسترجيه:
قوم ناملَك ساعتين علشان تقدَر تكمِّل، بقالك أربع أيام منمتِش..
تجاهلَ حديثها واتَّجهَ بنظرهِ لزوجتهِ يداعبُ خصلاتَها وكأنَّهُ لا يوجد سواهُ بالغُرفة ..ربتت على كتفهِ بعدما شعرت بهِ ونهضت من مكانِها للخارج.
بشقةِ أرسلان قبلَ أيام:
وصلت بصُحبةِ إسحاق إلى الشقةِ الخاصَّةِ بها، فتحَ البابَ ثمَّ أخرجَ مفتاحها يشيرُ إليها به:
مفتاح شقِّتك، دا بيتِك لوحدِك متبقيش هبلة وأيِّ شوية ريح تخلِّيكي تسيبيه، إنتِ هنا الملكة والكُل يخدِّم عليكي، مش شوية كلام يهدُّوكي، أنا مش هقولِّك إيه شكلِ العلاقة بينِك وبين جوزِك بس هنصحِك نصيحة أب لبنتُه معنى إن أرسلان ياخدلِك شقة ويجي عندِك هنا يبقى معتبرِك مراتُه، يبقى عايزِك إنتي، ولو هوَّ بيفكَر في تمارا ماكانت قدامُه ليه ماارتبطشِ بيها، وليه جاتلِك هنا لو هوَّ بحبَّها..
اقتربَ خطوةً وربتَ على رأسِها بحنانٍ أبوي:
الواد متعلَّق بيكي حافظي عليه، عمرُه مااتعلَّق بحدِّ كدا..
تساقطت دُموعها وهتفت بكلماتٍ متقطِّعة:
هوَّ كان متجوِّز قبلِ كدا بنفسِ الطريقة، يعني جوازنا ماهوَّ إلَّا وقتي؟..
سكتَ هنيهةً و زفرةً حادةً أخرجها يستغفرُ ربَّه:
- أنا مش هرُّد عليكي، علشان لو رديت هرجعك بيت ابوكي للأبد، نظر إلى حزنها الذي تجلى بعينها، تنهد ثم أردف بنبرة هادئة
- أكيد محدِّش هيعرَف إذا كان بيضحك عليكي ولَّا لا..خُدي المفتاح وادخُلي جوَّا ومتفتحيش لأيِّ مخلوق،ارسلان بيحبك ودا على ضمانتي الشخصية، وعلى فِكرة تمارا سرقت منِّي المفتاح علشان كدا دخلت مش أرسلان اللي أعطاها المفتاح
يالَّه يابنتي ادخلي ربِّنا يهديكي، وأنا هكلِّمُه واعرَّفه إنِّك رجعتي لوحدِك، ومحدِّش طلب منِّك، حتى متعرَفيش حاجة عن القضية تمام؟..
أومأت له ودلفت للداخل، خرجَ يغلقُ البابَ خلفهِ وهبطَ للأسفلِ يهاتفِه:
رجعِت ولَّا لسة؟،،
اجابه على الجانب الآخر
-أنا في الطريق، لسة نازل من الطيارة، فتحَ بابَ سيارتهِ واستقلَّها:
توصل بالسلامة، مراتَك رجعت البيت، يبقى عدِّي اطَّمِن عليها، انا وقَفت قضيتَك الهبلة، هوَّ إنتَ إزاي يامتخلِّف عملتِ القضية دي، همَّا مكنشِ لمُّو الستات يالا، وإنتَ عايز ترجَّعهُم تاني بأصواتهم الشتوية..
قهقهَ أرسلان وهو يقودُ سيارتِه:
-ماأحلاه الصوت الشتوي وهو بيتكتِك من الساقعة ياإسحاقو..
أيوة يامنجِّي المهالِك ياالله، سيبَك إنتَ من أصواتِ الضفادع وقولِّي رجعت بكام عيِّل المرة دي؟..
انكمشت ملامحهِ بعبوسٍ متصنِّع:
-لا ماأنا بطَّلت نسيت أقولَّك طلع عندي عجز ومبقتشِ بخلِّف ياإسحاق..توقَّفَ بالسيارةِ مردِّدًا بذهول:
-يعني إيه، أوعى تقولِّي اللي فهمتُه صح؟..
-للأسف صح، وسلمتُه للشُرطة العسكرية، إنتَ على تواصُل بقى، لأنُّه ميعرَفنيش شخصيًا..
تمام ..انا هتصرَّف، بس نفسي أعرف إزاي الناس دي بتبيع بلدها عادي كدا..
-عادي ياعمُّو، الفلوس بتعمي النفوس.
-أووووف أخرجها متألِّمًا، ثمَّ هتف:
طمِّني لمَّا توصل..
بعدَ فترةٍ وصلَ إلى منزلِه، دلفَ للداخلِ وكلَّ أعضائهِ شوقًا ولهفةً لرؤيتِها رغمَ تصنُّعهِ البرود..وجدها تغفو فوقَ الأريكة، اقتربَ بخطواتٍ هادئة، حتى لا يوقِظها، جلسَ على عقبيهِ أمامها، بسطَ كفِّهِ يمرِّرُها بهدوءٍ على وجنتيها..
فتحت عينيها مبتسمةً وكأنَّها تحلمُ به، همست اسمهِ بخفوتٍ أذابَ جبلَ جليدهِ القابعَ بصدرِه، لينحني محتضنًا ثغرها بقبلةٍ جامحةٍ خطفت أنفاسهما سويًا، لأوَّلِ مرَّةٍ يشعرُ كلاهما بتلكَ الأحاسيس، وكيف لا يشعرونَ بها وتلكَ المرَّةِ الأولى لذاكَ القربِ لتتعانقَ روحهِ بروحها ليمدَّ كفَّيهِ يحتضنُ جسدها يقرِّبُها إليهِ بحضنٍ مليئٍ بالاشتياق..
طوَّقت عنقهِ ولم تدري بأنَّ بفعلتِها تلك مازادتهُ إلَّا جنونًا واشتياقًا، ليشتدَّ حصارهِ لها وهو يحملُها بين ذراعيهِ ومازال يطوِّقُها بعشقهِ الجارف..
وصلَ بها إلى غرفتهما ليضعها بحنانٍ كأنَّها أغلى مايملك، أغمضت عينيها وارتفعت أنفاسها من هولِ الاقترابِ بينهما،
مسَّدَ بيديهِ بحنانٍ على خصلاتِها، وعينيهِ تحتضنُ عيناها بعشقٍ وكأنَّ قصةَ عشقهِ بها منذُ زمن:
وحشتيني، وعلى قدِّ ماوحشتيني هعاقبِك بس بطريقتي..
تلاحقت أنفاسُها بارتفاعِ وهبوطِ صدرِها من قُربهِ المهلِك، لم تعلم أنَّها ستضعفُ أمامهِ بهذهِ الطريقة، أينَ وعودَها التي أقسمت بها أن تُذيقهُ من الجفا ما تقدِرَ عليه..
انحنى برأسهِ مقتربًا من ثغرِها لينثرَ عليهِ عشقهِ الجارفَ فلقد أُثقلَ قلبهِ بالنبضِ ولم يعد لديهِ قوَّةَ تحمُّلِ البُعد.
همست اسمهُ بخفوت، ليرفعَ رأسهِ وعينيهِ التي أظلمت بنيرانِ عشقها الضاري، ابتلعت ريقها بصعوبةٍ بعدما وجدتهُ بتلكَ الحالةِ لأوَّلِ مرَّة..
انتظرَ حديثها وعيناهُ على شفتيها التي اعتبرها ملاذَ الحياةِ بعدما تذوَّقها..ارتجفَ جسدها حينما فشلت وتوقَّفت الكلماتُ على شفتيها..
نهضَ بهدوءٍ اكتسبهُ بصعوبةٍ معتدلًا واتَّجهَ إلى سجائرهِ والتقطها متَّجهًا للخارج، جلست على الفراشِ وجسدها ينتفضُ وكأنَّها تحتَ أمطارٍ رعدية..
خرجَ إلى الشرفةِ يفتحُها على مصراعيها، ليقابلهُ نسمةَ الهواءِ الباردةِ علَّها تطفئُ لهيبَ العشقِ الذي انجرفَ بداخله..
جذبَ المقعدَ وجلسَ رافعًا ساقيهِ على الجدارِ ينظرُ للخارجِ بشرودٍ يتذكَّرُها وهي بين يديه، أغمضَ عينيه حينما تذكَّرَ قبلاتهِ لها، زفرةً حارقةً برمادِ سيجارتهِ وكأنَّهُ يحرِقُها كحالِ صدرهِ المشتعل..
بالداخلِ جلست على الفراشِ تلمسُ شفتيها، ووجنتيها كتفاحٍ حانَ قطافهِ من شدَّةِ احمرارِه، شعرت بلهيبِهم لتضعَ كفَّيها عليها تهمسُ لنفسها:
-إيه اللي بيحصلِّي دا، يالهوي عليكي ياغرام ، عملتي كدا من بوسة، وفين وعودِك ياهبلة، واللهِ أنا بتِّ هبلة ومن أوِّل بوسة سلِّمت نمر، أفلتت ضحكةً تهزُّ رأسها كالمجنونة:
-دا هتعامِل معاه إزاي، يالهوي مش هقدر أبُص في وشُّه تاني، لا وفكَّرتُه مؤدب ..نهضت تُكلِّمُ نفسها:
-جنِّنتني يابنِ الجارحي، ربِّنا يصبَّرني عليك..
جذبت روبها ترتديهِ بعدما لاحظت ملابسها، له حق شايف واحدة بقميص نوم هستنى منه ايه، يقعد جنبي يقرأ القرآن
خرجت تبحثُ عنهُ وجدتهُ يجلسُ بالشرفة..اتَّجهت إلى المطبخِ وقامت بإعدادِ وجبةِ العشاء، دقائقَ وانتهت ثمَّ ذهبت إليه:
-أرسلان…أغمضَ عينيهِ من نبرةِ صوتِها الحانية، حاولَ الابتعادَ عنها حتى لا يصلَ إليها رغمًا عنها، تمنَّى أن تريدهُ كما يريدُها..ظلَّ كما هو..اقتربت منهُ تضعُ كفَّها على كتفهِ وهتفت:
أرسلان بنادي عليك، نهضَ من فوقِ المقعدِ وخطا للداخلِ دونَ أن ينظرَ إليها..تحرَّكت خلفهِ لتقبضَ على كفٍّهِ بعدما اتَّجهَ للغرفة..استدارَ يرمقُها بصمت..أشارت إلى طاولةِ الطَّعام:
جهَّزت العشا..رفع عينيهِ للمائدةِ ثمَّ أردف:
مش جعان أكلت في الطيارة، تعلَّقت بذراعهِ تنظرُ إليهِ بعتاب:
-بس أنا جعانة، وجعانة اأوي كمان ماأكلتِش بقالي كتير..قالتها بصوتٍ خافتٍ تفركُ كفَّيها وتضرَّجت وجنتيها باحمرارٍ لذيذٍ لعينيهِ المتعمِّقةِ بتفاصيلها..
رفعَ ذقنها يمرِّرُ أناملهِ على وجنتيها:
هاكُل معاكي علشان عايزِك قوية، بينَّا حساب كبير يا غرام الجارحي..
لمعت عينيها بالسعادةِ لتنظرَ لمقلتيه:
مش كافي ياأرسلان اللقب مش مكفِّيني، عايزة حاجة أهم وأقوى بكتير ..لفَّ ذراعيهِ حولَ جسدِها يضمُّها بقوَّةٍ ثمَّ أجابها ونظراتهِ تحرقُ وقوفها بأحضانِه:
أكتر من قلبي ياغرام، مفتكرشِ عندي أغلى منُّه..
رفعت ذراعيها تعانقُ رقبتهِ وابتسامةً رقيقةً لتشعرهُ بقشعريرةٍ اختلجت كيانِه،لتتملَّكهُ عاطفةً قوية، مما جعلهُ ينحني لعُنقِها يدفنُ رأسِه:
المسكة دي خطيرة على صحِّتِك يامراتي الهربانة..
ارتجفت ولم يعُد لديها القوَّةَ لتحملِها ساقيها، لتستندَ بكاملِ جسدها عليه، رفعها من خصرِها وتحرَّكَ بها إلى المائدة:
تعالي ناكُل وبعدِ كدا نتحاسِب..
-لا ياجوزي لازم احاسبك الأول، علشان توصل لبيت مراتك ومتعبرهاش، ولا تأديب ياحضرة الظابط المتنكر
-اوووه، غرامي عايزة تعاتب جوزها، وكمان بعقاب
تلاعبت بزر قميصه تجذبه إليها
-أول عقاب هتروح عند بابا وتعتذر له على سوء الفهم..
اممم، وتاني عقاب ..مطت شفتيها بتفكير
-البت الصفرا دي ممنوع تكلمها تاني اصل قسم عظم...بترت القسم عندما تراجع يشير إليها
-طيب ياغرام انا مش من النوع اللي بياخد أوامره من حد، تخيلي بقى لو كانت ست
-ست..والست دي مش مراتك، اتجه إلى معطفه وارتداه
-لا مش مراتي، وخليكي مع شروطك عاقبي نفسك بيها..سلام يامراتي
توقفت مصدومة من فعلته، اتجهت إلى الفازة ثم حملتها وقامت بإلقائها عليه وصرخت به، مما جعله يستدير إليها مذهولا من فعلتها
بشركةِ مالك العمري:
دلفت برشاقتِها وابتسامتِها الجميلة:
هاي وصلت إمتى؟..
رفع عينيهِ من فوقِ جهازهِ مبتسمًا، ثمَّ أشارَ على جهازِه:
من شوية ومن وقتِ ماجيت بحاوِل أوصل لحل مع البتاع دا..
اتَّجهت إلى المقعدِ وجلست بمقابلتهِ تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى تضحكُ بمشاكسة:
يعني حضرة المهندس العبقري مش عارف يتعامِل مع حتِّة جهاز آخرُه بتاع عشر سنين ياباني!..
تراجعَ بجسدهِ على المقعدِ وانحصرت نظراتهِ عليها:
الكلام دا أكيد مش ليزن السوهاجي..
-واو لا متقوليش إنَّك منهم..
ضَّيقَ عينيهِ مستفسرًا:
-من مين مش فاهم؟!..
-المتكبرين…رفعَ حاجبهِ يحدجُها بنظرةٍ متهكمةٍ واستطردَ قائلًا:
وليه متُكنشِ ثقة، ليه دماغِك راحت لحتةِ الغرور؟…
مطَّت شفتيها تنقرُ بأصابِعها فوقَ المكتب:
-ممكن، بس الرَّد مايقولشِ كدا، الرَّد يقول إنُّه غرور…
نصبَ عودهِ متوقفًا، ثمَّ تحرَّكَ يجذبُ المقعدَ الذي يقابلُها وأكملَ مسترسلًا:
-حتى ولو غرور زي مابتقولي، أنا مقتنع بنفسي، فتحت فاهها لمقاطعتِه، رفعَ سبابتهِ وتابع:
مش معنى أكون واثق من نفسي يبقى مغرور، أنا عارف قُدرات نفسي كويس مش مُنتظر حد يقولِّي إنتَ مكانَك المفروض يكون فين..
تألَّقت عيناها بفخرٍ من حديثهِ ثمَّ أردفت:
-طيب المفروض أنا أكون أسعد واحدة بيك..
زوى مابينَ حاجبيهِ وطالعها بنظرةٍ مستفهمة..ارتبكت قليلًا لتتوقَّفَ قائلة:
-قصدي يعني شُغلنا مع بعض، المهم نسِّتني أنا جتلَك ليه، فيه اجتماع لمجلسِ الإدارة على الساعة اتنين الضُهر، وهيكون فيه طارق وجوز خالتو، علشان خاطري حاول تبعِد عن طارق، الاجتماع دا مابيتعملِش غير كلِّ تلات شهور تقريبًا، يعني مش هيكون فيه احتكاك…
رفعَ رأسهِ وعينيهِ مثبَّتةً عليها إلى أن تساءلت:
-مبتردش ليه؟!
توقَّفَ بمقابلتِها واقتربَ منها:
-وأنا مين علشان تُطلبي مني حاجة زي كدا، الاجتماع دا للمساهمين في الشركة يعني أنا ماليش غير كام سهم وماليش حقِّ الادارة، فارتاحي مش هنتقابِل..
كانت مشدوهةٌ مما تلفَّظَ به، فاقتربت تطالعهُ بصدمة:
-إيه اللي بتقولُه دا!!، لا طبعًا أكيد هتحضر، متنساش إنَّك طلبت تكون في الإدارة واحنا وافقنا..
تراجعَ على مقعدهِ يجذبُ سجائرهِ وأردف :
-لا دا كان الأوَّل بس حاليًا مش عايز، وقت ماأحس إنِّي أستاهل هقولِّك وأحضر..
-معقولة !!
لم يرُد ولكنهُ ظلَّ للحظاتٍ مُطيلًا بالنظرِ بها قائلًا:
-إيه الصعبِ في الِّلي قولتُه معرفش..
وليه متفاجأة كدا كأنِّي قولتِ حاجة محدِّش عملها قبلِ كدا؟،،
هزَّت رأسها قائلة؛
-لا مش قصدي، أنا بس اتفاجأت لأنَّك كنت مُصرّ..
نفثَ تبغهِ ومازالت نظراتهِ عليها، ليهتفَ بهدوء؛
-هوَّ راجح الشافعي لُه نسبة كبيرة في الشركة؟..
أومأت برأسها قائلة:
-مش أوي، هوَّ بابا مابيحبِّش الشراكة، بس خالتو اتحايلِت عليه، علشان شافت الشركة بتوسَع وأفرُعها بتزيد همَّا أقنعوا بابا واقترح عليهُم يكون فيه شراكة بعيدة عن الشركة الأُم، وكدا يكون ليهُم رصيد معانا في بعضِ الشركات بس..
-هوَّ مكنشِ ظابط إيه الِّلي خلَّاه يشتغَل في التجارة؟…
-أوووه الموضوع كبير، لمَّا تعزمني على غدا رومانسي كدا أحكيلَك.
ابتسمَ قائلًا:
غدا ورومانسي، شكلِك طمَّاعة أوي..
أفلتت ضحكةً واقتربت تستندُ على المكتب:
-أوي أوي ياحضرةِ المهندس، عاجبَك ولَّا لأ..أومأَ ضاحكًا ثمَّ أشارَ بسبباتِه:
خلِّي بالِك إنتِ بتطمعي كتير، والطمع عندي وحش..
قهقهت بصوتٍ مرتفعٍ تهزُّ رأسها حتى تحرَّكت خصلاتَها بصورةٍ ملفتةٍ فكانت بريقًا لعينيهِ التي جذبت براءتها ولكن ذهبَ ببصرهِ إلى ثيابها المكشوفةِ إلى حدٍّ ما ليكشفَ بعضًا من صدرِها، نهضَ من مكانهِ وتحمحمَ بالحديثِ معتذرًا:
-طيِّب روحي كمِّلي شُغلِك، علشان عندي شوية شُغل أخلَّصهُم وأنزِل لإيمان عندنا ميعاد مُهم..
أومأت بعدما وجدت تغيُّرَ ملامحِه:
-تمام همشي دلوقتي وبعدين نتكلِّم..استدارَ للمقعدِ ولم يكترث لبقيةِ حديثها..
جلسَ وأخرجَ زفرةً قوِّيةً بعدما شعرَ بانحباسِ الهواءِ بصدرِه، أطبقَ على جفنيهِ يهمسُ لنفسِه:
فوق دي مش سِكِّتَك، أهبل تتجوِّز واحدة زي دي ..مسحَ على وجههِ مستغفرًا ربِّه، ثمَّ اتَّجهَ إلى جهازهِ ليُنهي عملِه..
بالجامعةِ وخاصَّةً كليةِ الطُّب:
خرجت من القاعةِ تبحثُ عن صديقتها خديجة، استمعت إلى صوتِ أحدهم:
دكتورة إيلين..
استدارت لمصدرِ الصوتِ وجدتهُ أحدِ زملائها بنفسِ الفرقة، اقتربَ منها مبتسمًا:
إزيك..أومأت لهُ دونَ حديث، حمحمَ بعدما شعرَ بارتباكِه، ضيَّقت عينيها تنظرُ إليهِ بغرابةٍ ثمَّ تساءلت:
-فيه حاجة يامعتز؟..
أومأَ محاولًا الحفاظَ على ثباتهِ أمامها:
أيوة ..قصدي كنت محتاج منِّك كشكول لمحاضرة دكتور الباثولوجي..
تراجعت تُطالِعهُ بذهولٍ قائلة:
أنا بسجِّل مابكتِبش، ومُعظم الطلبة كدا، على العموم ممكن تشوف حدِّ لسة بيكتب بعدِ إذنَك..
تحرَّكت لبعضِ الخُطواتِ إلَّا أنَّهُ صاحَ باسمِها دونَ ألقاب بخروجِ آدم من مكتبِه:
إيلين استني، التفتت إليهِ ممتعضةً تهمسُ لنفسِها؛
-وبعدهالَك بقى، قالتها منتظرةً حديثِه، اقتربَ منها وحاولَ أن يتحدَّثَ معها قائلًا:
-طيِّب ممكن مُسجِّل المحاضرات..
فتحت فاهها للردِّ ولكن أوقفها صوتهِ بالخلف:
-فيه إيه واقفين كدا ليه، توترَ صديقها فتراجعَ قائلًا:
-أبدًا كنت بس..قاطعتهُ ايلين وهي تُخرجُ من حقيبتِها مسجِّلَ محاضراتها:
ولا يهمَّك يامعتز اتفضل خُد ولو محتاج حاجة تانية أنا موجودة..
لمعت عيناهُ بابتسامةٍ وهو يجذبُ منها مسجِّلِها ثمَّ تحرَّكَ مغادرًا بعدما استأذن..
أطبقَ على ذراعيها بعنفٍ يضغطُ عليها وجرَّها إلى مكتبهِ وهي تنظرُ حولها بفزعٍ خوفًا من نظراتِ الطُّلاب..
أغلقَ البابَ بقدمهِ ثمَّ دفعها بقوَّةٍ لتتراجعَ للخلفِ بدقَّاتٍ عنيفةٍ تطالعهُ بذهول..ابتلعت ريقها بصعوبةٍ وهي ترى ملامحهِ المتجهِّمة، اقتربَ منها يرمُقها بسهامٍ ناريةٍ إلى أن وصلَ إليها
وأمسكها بقوَّةٍ من ذراعها:
إنتِ عايزة توصلي لإيه، إيه..رُدِّي، فيه واحدة متجوِّزة و مُحترمة توقَف تضحك مع شاب كدا.،
دفعتهُ بقوَّةٍ وهدرت بحدَّة:
-أنا مش متجوِّزة، ولو جبتِ سيرةِ الجواز تاني هطَّلق منَّك.. أوعى تفكَّر إنَّك ذلِلني بجوازَك منِّي، أنا عندي نار مرات أبويا ولا جنِّة غدَّار وخاين زيَّك، شدَّك ليَّا بالطريقةِ الهمجيةِ دي مش هنسهالَك يادكتور، افتكِر إنَّك شدِّتني ودخَّلتني هنا وكأنِّي مغلوبة على أمري بجوازَك، لا..فوق أنا اللي باخُد قرارات نفسي، ومهما تكون مكانتَك عندي، هيفضَل بينا سد..
قالتها ودفعتهُ بقوَّةٍ ليتراجعَ بجسدهِ من شدَّةِ دفعِها وتحرَّكت للخارجِ تصفعُ البابَ خلفها..
توقَّفت بالخارجِ تحاولُ أن تُسيطرَ على أنفاسِها المرتفعةِ التي جعلت صدرها يعلو ويهبِطُ كالمضخَّة ..تحرَّكت بعدما استعادت قوَّتها واتَّجهت إلى منزلِها
وصلت بعدَ قليل ..دلفت إلى زين بعد الاستئذان:
عايزة أتكلِّم مع حضرتَك شوية..نهضَ من مكانهِ سريعًا يفتحُ ذراعيهِ إليها:
أخيرًا رضيتي على خالِك ياإيلين،
توقَّفت لبعضِ اللحظاتِ تنظرُ إلى ذراعيهِ وهناكَ صراعٌ بينَ عقلها الذي يُخبرُها أنَّهُ أحدُ من شاركَ بكسرِ قلبِها وبين قلبَها الذي يعطيهِ العذرَ لانَّهُ يعلمُ مدى حبَّها لابنه، اقتربت وألقت نفسها بأحضانهِ تبكي بشهقاتٍ مرتفعة:
أنا تعبانة ياخالو عايزة أموت وأرتاح، ضمَّها يمسِّدُ على خصلاتِها وردَّدَ بنبرةٍ حزينة:
-بعدِ الشَّرِ عليكي يابنتي، ليه بتقولي كدا...رفعت عينيها الباكيةَ إليه:
ليه الدنيا ظلماني ياخالو، هوَّ ربِّنا بيكرهني أوي كدا، أوَّل حاجة أخد أمُّي اللي مالحقتِش أشبع من حُضنها وبعد كدا إدَّاني مرات أب كلِّ همَّها تقتِل روحي وأب ضعيف ماشي وراها، وفي الآخِر خذلان من حبيب أمِّنتُه على قلبي سنين وفي الآخِر جاي يقولِّي أصلي عشت حياتي، طيِّب وأنا، أنا حياتي فين ياخالو، طيِّب أعمِل إيه علشان ربِّنا يحبِّني، طيِّب أعمِل ايه علشان أموت وأرتاح من غير ماأزعِلُه.،
احتضنَ وجهها يزيلُ دموعها وأردفَ بيقين:
-استغفري ربِّنا حبيبتي، مفيش حاجة اسمها ربنِّا بيكرهني فيه قدر ولازم نؤمن بيه، مش إنتِ مؤمنة بربنا وعارفة أكيد أنُّه عندُه الأحسن والأحسن، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكُم، مش يمكن فيه حكمة في حياتِك وعبرة، لازم تصبري وتيقَّني إنِّ ربِّنا أحنِّ عليكي من أيِّ مخلوق..
كان واقفًا بالخارجِ يستمعُ إلى حديثها الذي اشعرَه بانشطارِ قلبهِ بعيدًا عن جسدِه، دقائقَ ظلَّت تبكي بانهيارٍ بأحضانِ خالها إلى أن اقتحمَ البابَ ودلفَ للداخلِ ينظرُ إليها بعيونٍ مليئةٍ بالندمِ تطلبُ الغُفران…
إيلين عايز أتكلِّم معاكي..مسحت دموعها ثمَّ أمالت تحملُ حقيبتها وأردفت بنبرةٍ مُفعمةٍ بالبُكاء:
-وأنا مش عايزة أتكلِّم معاك، ومن اللحظة دي ياتنزِل إنتَ تحت ياأنزِل أنا، مستحيل مكان يجمعنا تاني..استدارت إلى زين واستطردت بنبرةٍ لا تحيدُ للجدال:
لو ماعملشِ الِّلي قولتُه هسيب الدنيا كلَّها وأمشي ومش هتعرفوا مكاني ...قالتها وصعدت للأعلى…
بالمشفى عندَ إلياس:
مرَّ أسبوعين والحالُ كما هو، ميرال التي دخلت بغيبوبةٍ منذُ أكثرَ من أسبوعين رافضةً الحياة، وهو الذي اتَّخذَ جوارها سكنهِ الطاغي، ووعدهِ ألَّا يترَكها سوى أن تعودَ روحهِ بروحها ..أنهى قراءةَ بعضَ الآياتِ القرآنية، ثمَّ اتَّجهَ يضعُ أشيائهِ بمكانِها، شعرَ بألمٍ بعظامِه، فاتَّجهَ إلى المقعدِ وجلسَ عليهِ بجوارِها، ليُجذبَ مقعدًا آخر يفردُ ساقيهِ عليها، استندَ برأسهِ على فراشها وأغلقَ عينيهِ ليذهبَ بنومهِ بسببِ إجهاده، دلفَ والدهِ إليهِ في محاولةٍ منهُ أن يذهبَ للمنزلِ أو لغرفةٍ يريحُ جسدهِ الذي ظهرَ عليهِ الإرهاقَ والشحوب..
توقَّفَ بجوارِه وجدهُ مستغرقًا بنومِه، انحنى يطبعُ قبلةً على جبينِ ميرال يمسِّدُ على خصلاتِها:
كدا ياميرال إلياس هان عليكي، فوقي بقى يابنتي متعمليش فينا كدا، أمِّك هتموت عليكي، افتحي عيونِك وشوفي جوزِك اللي كان بيقول جوازِك منُّه عادي زي أيِّ جواز .. رفعَ رأسهِ إلى ابنهِ الذي لم يشعُر بشيئٍ رغمَ نومهِ الخفيف، إلَّا أنَّ إنهاكَ جسدهِ جعلهُ كالجثَّة، ذهبَ ببصرهِ لجاكيتهِ، فتحرَّكَ يجذبهُ يضعهُ فوقَ أكتافهِ ثمَّ تحرَّكَ للخارج، بدخولِ غادة، أوقفها مصطفى:
لو أخوكي صحي حاولي معاه ينام شوية على السرير، أو ياكُل حاجة..
أومأت لهُ وخطت للداخِل، تنظرُ إليهما بألمٍ شطرَ قلبها، لاحظت حركةَ أناملَ ميرال..ظلَّت تنظرُ بتعمُّقٍ لعدَّةِ لحظاتٍ حتى تتأكد..حرَّكت أناملَها مرَّةً أخرى فشهِقت تصرُخ، حتى هبَّ فزعًا من نومهِ ينظرُ إليها ..صفَّقت بيديها تشيرُ إلى ميرال:
-ميرال فاقت، فاقت ياإلياس.
اتَّجهَ ببصرهِ إليها سريعًا وجدها كما هي، ثمَّ رمقَ أختهِ بنظراتٍ متألِّمة:
-ليه تعملي معايا كدا ..أطبقت على ذراعيهِ تشيرُ إليها بدموع:
-واللهِ حرَّكِت إيدها، قالتها وهي تضغطُ على زرِّ التنبيهِ لتصلَ الممرضةُ بلحظات.. أشارت على ميرال:
فاقت ..دكتور يطمِّنا، أمَّا هو توقَّفَ بأنفاسٍ مرتفعةٍ ينظُرُ إلى جسدها بلهفةٍ ليطمئِنَّ قلبهِ من حديثِ أختِه، دقيقةً إلى أن حرَّكت شفتيها تهمسُ بخفوتٍ
وصوتٍ واهنٍ اسمِه..
هنا فاقَ الألمُ حدودَ الوصفِ حتى فقدَ مقدرتهِ على الوقوف ...
استندَ بذراعيهِ على فراشها يحاوطُها بهما وعينيهِ تخترقُ جسدها بالكامل:
حبيبتي افتحي عيونِك، وصلَ الطبيبُ قائلًا:
-ممكن أفحصها، تراجعَ بخطواتهِ وعينيهِ مازالت على عينيها المنغلقة، انتهى الطبيبُ من فحصِها، فرفعَ برأسهِ إليه:
-فاقت الحمدُ للهِ خلالَ دقايق ووعيها هيرجَع لها بالكامل..
هيَّ كويسة..قالها بثقلِ أنفاسه ..
أومأَ ومازالَ ينظرُ إلى الملفِّ الخاصِّ بها، ثمَّ اتَّجهَ إليه:
-كويسة إن شاءالله، سلامتها
قالها الطبيبُ وتحرَّكَ للخارجِ دونَ حديثٍ آخر ..أمَّا هو فاستندَ على الجدارِ وعينيهِ تراقبُ جسدها بالكامل، وصلت فريدة ومصطفى، مع حركةِ أناملَها وهمسِها باسمه، لم يشعر بدمعتهِ التي انزلقت رغمًا عنهُ وهو يستمعُ إلى همسِها باسمِه، بأنفاسًا غير منتظمة تراجع خطوة للوراء، بعدما شعر بقشعريرة تسري بكامل جسده وعدم سيطرته على ذاته استدارَ متحرِّكًا للخارجِ بعدما استمعَ إلى فريدة:
أخيرًا ياقلبي فتَّحتي عيونِك الجميلة، ربِّنا مايحرمني منهُم يارب...قالتها وانحنت تقبِّلُ جبينها ..التفتت غادة بفرحةٍ ظنًّا أنَّهُ مازالَ مكانهِ ولكنَّها تساءلت:
إلياس مشي ولَّا ايه؟!..
التفتت فريدة تبحثُ عنهُ ثمَّ استدارت على ميرال التي ترفرفُ بعينيها وتُغلِقُها بسببِ الضوءِ الذي يُعيقُ فتحَ عينيها بالكامل ...مرَّت دقائقُ معدودةً حتى استعادت وعيها بالكامل..خرجَ الجميعُ بعدما اطمئنَّت قلوبهم، بحثت عنهُ بعينيها ولم تجدُه، أغلقت عينيها قهرًا ظنَّا أنَّهُ مع عروسِه...بعدَ قليلٍ تمَّ نقلِها إلى غرفةٍ عادية، وبدأ الجميعُ يحاوِطونها بالاشتياق، والدعاءِ بالشفاء..
لم تتفوَّه بشيئٍ، نظراتٍ فقط للجميع، خرجَ الجميعُ سوى فريدة التي جلست بجوارِها تحتضنُ كفَّيها:
-كدا ياميرو تموِّتي مامتِك عليكي، فيه حد يعمِل اللي إنتِ عملتيه، عايزة تغضبي ربِّنا وتموتي كافرة يابنتي، دا ايمانِك بربنا..
أطبقت على جفنيها متذكِّرةً ماصار، ودموعها انسابت على وجنتيها حتى ارتفعَ بكاؤها كلما تذكرت أنه مع أخرى غيرها، ارتجف جسدها من بكاؤها مما جعلها تشعرُ بآلامِ جراحِها، ربتت فريدة على كفِّها، وحاولت تهدَئتها:
-خلاص اهدي حبيبة مامي كلُّه عدَّى، والحمدُللهِ إنِّك بخير، المهم تكوني كويسة، بطَّلي عياط، عايزة أقولِّك إلياس هيموت من الحزنِ عليكي..
تركت كفَّ فريدة وأغمضت عينيها ظنًّا أنَّ فريدة تكذبُ عليها..شعرت بقبضة حادة تسحق قلبها الذي مازال ينبض له رغم خيانته
مسَّدت على خصلاتها تطالِعُها بحزن:
حبيبتي زعلانة ليه، ليه مابتتكلِّميش؟..
ظلَّت كما هي ولم تتحدَّث..
تنهَّدت بحزنٍ عليها، هي تعلمُ أنَّ إلياس خطأهُ شنيع، وتعلمُ أنَّ ميرال لا تغفرُ له ..ظلَّت لدقائقَ حتى ذهبت بنومِها مع وصولِ إلياس، نهضت تنظرُ إليهِ بعتاب:
-ينفَع تسيبها وتمشي فجأة، اقتربَ وانحنى يطبعُ قبلةً فوقَ جبينها قائلًا:
-كنت في مشوار مهمّ، كان لازم أحمِد ربِّنا أنُّه رجعهالي...قالها وأناملهِ تتحرَّكُ بحريةٍ على وجهها:
ربتت فريدة على ظهرِه:
-خلِّيك جنبها من وقتِ مافاقِت مانطقتشِ بحرف..
أومأَ لها فتحرَّكت للخارج، ليرفعَ كفَّيها يلثمُهما:
-حمدَالله على السلامة..اقتربَ بالمقعدِ منها يخلِّلُ أناملهِ بخصلاتِها، ذهبَ ببصرهِ إلى ثغرِها الذي بهت لونه، تنهد بمرارة فمازالت جروحها تحرقُ روحه، وهو يتذكَّرُ أنَّهُ السببَ فيما صارَ لها..
دنا يهمسُ بجوارِ أذنِها:
-وحشتيني افتحي عيونِك بقى..رفرفت بأهدابِها وكأنَّه يروادُ أحلامها، لتنسابَ عبرةً على وجنتيها..
كوَّرَ قبضتهِ وشعر كأنه عصفور مبتل توقف على اوتار كهربائية، لتشحب روحه وتتعرى بآلام الندم، أطلق زفرة قوية من آلامه المعتصرة، تمنى أن يزهق الله روحه من شدة شعوره القاسي بما فعله بها، نهضَ ونزعَ جاكيتَ بذلتِه، ثمَّ تمدَّدَ بجوارِها على الفراشِ يسحبُها بهدوءٍ حتى لا يصيبُها بأذى..وضعَ رأسهِا بصدرِه، ولفَّ ذراعهِ على جسدِها يودُّ لو يحطِّمُ ضلوعهِ بها ..فتحت عينيها بعدما شعرت بألمٍ من ضغطةِ ذراعيه..
وجدت نفسها بأحضانهِ من رائحتهِ التي تسلَّلت لرئتيها ..،دفنت رأسها لدقائق تسكب ألمها بين احضانه، حتى يشعر بها، حاولت الابتعادَ ولكن شعرت بصعوبة، حاولت أن تعتدلَ على جنبِها ولكنَّها لم تقو، تعالت أنفاسها لعجزها عن الابتعاد عنه، شعر بأنفاسِها رفعَ رأسَها لتُصبحَ بمقابلتِه..
تقابلت العيونُ بكثيرٍ من الحديث، رمقها بحديث عيونه المعذبة بما جنته يداه
-حبيبتي فلتغفري لي، فأني والله تالله فأني أشعر وكأنني أغرق في لجة باردة والظلام يحاوطني بلاكي، فأنتِ النور والنبض والدفى، فلتغفري لحبيبك الذي ضعف لشيطان الهوى،كالغَيثِ أنتَ قليلٌ منْكَ يكفينِي هواكَ يَسكنُ في جَنبَيَّ فيحييني
طالعته بحزن وتحدثت عيناها
-وعدت بكل برود وكل غباء بإحراق روحي ولقد فعلتها، وأعلنت الحرب على نبض قلبي الذي لم ينبض الا لمعذبه، حتى توقف النبض ولم يشعر بأنك سوى كنت فرضًا وضع على كتفي ورغم ثقله إلا أنني تحملته، فتحملت الكثير والكثير، فلا تطلب مني العفو والمغفر، فلست بصدّيقًا صديق الرسولِ
ولست برسولًا أن يغفر لمن قتله حيًا والان يقف بين يده يطلب العفو عند المقدرة
كأنه علم بما تحدثت به عيناها، ليمرر أنامله على وجهها:
-هتسامحي ياميرال متأكد حبنا هيتغلب على وجعنا
أغمضت عينيها لتبتعدَ عن مرمى بصره، فيكفي ماتشعر به من آلام تنخر عظامها، ولكنَّهُ لم يتحمَّل ما فعلتُه، ليدنو منها يحتضنُ ثغرها ينثرُ عليهِ عشقهِ وكأنَّهُ يضعُ بهِ كلَّ ماشعرَ به من فقدانها تلكَ الفترةِ العصيبةِ التي مرَّت عليهما، تركتهُ يفعلُ ما يحلو لهُ بعدما فقدت السيطرة، ظلَّ لدقائقَ يقبِّلُها بجنونِ عاشقٍ حدَّ الثمالةِ إلى أن شعرَ ببرودها وصمتها الذي أحرقُه..
-ميرال…لم تُبدي لصوتهِ أيَّ شعور، بل ظلَّت باردةً وكأنَّها لم تكن معهُ بالغُرفة..رفعَ ذقنها مبتلعًا غصَّةَ أوجاعه:
ليه عملتي كدا، ينفَع تبقي مُسلمة وتنتحري ..مسَّدَ على وجنتيها وعينيهِ مازالت تحاورُها بالكثيرِ من الأسفِ ورغمَ حزنهِ على حالتها إلّّا أنَّهُ يشعرُ بسعادةٍ بداخلِه، ولما لا ومعشوقةُ روحهِ بين يديه، لم ينقصْهُ سوى أن يرويها من ترانيمِ عشقه..
استندَ بجبينهِ على جبينها وآااه حارَّة عاشقة وهو يملِّسُ على وجنتيها:
طلعتي أغلى من روحي ياميرو، كنت هموت لو حصلِّك حاجة..رفعَ ذقنها ينظرُ لسوادِ عينيها مقتربًا من خاصَّتِها:
بحبِّك وبموت فيكي ..أطبقت على جفنيها فيكفي ما تشعرُ بهِ من تقطُّعِ قلبها على ماتوصَّلت إليه، رُغمَ اعترافهِ القويّ بالعشقِ إلَّا أنَّها مازالت تحملُ من الغصَّاتِ مايحرِقُهما..قبلةً خاطفةً لتفتحَ عينيها بعدما أغمضتهُما أمامهِ للمرَّةِ الثانية، وحاوطَهُما بكفٍّ والآخرُ بخصلاتِها تداعبها، وحاول أن تثور أو تصرخ به، ظلت عيناه متعمقة بعيناها فأردف قائلًا:
-ماهو مش هفضل اكلم نفسي كدا، ردي عليا، مش هسامحِك على فكرة، ازاي قدرتي تعملي كدا، نهضَ وانحنى بجسدهِ يحاوطُها بذراعيه:
-اللي أنقذِك منِّي إصابتِك، بس خفِّي وشوفي هعمل معاكي إيه..
اقترب من وجهها وتعمَّقَ بعينيها قائلًا:
-إنتِ هتفضلي ساكتة كدا وحرماني من صوتِك ..
ظلَّت نظراتٌ دونَ حديث، وكأنَّها تُعاقبَهُ بأشد انواع العقاب،
مسَّدَ على شعرها ورسمَ ابتسامةً رغمَ حزنِه:
-طيب ياستي مش مُهمّ، المُهمّ تكوني كويسة، خُدي راحتِك..أغمضت عينيها لتذهبَ بنومِها، مُرحِّبةً به لتبتعدَ عن نظراتهِ المشفقةِ لقلبها.
مرَّت عدَّةِ أيامٍ أخرى والوضعُ كما هو، حاولَ الطبيبُ الحديثَ معها ولكنَّها منعت الحديث، تمزَّقَ قلبهِ من قلَّةِ حيلتهِ وثباتهِ أمامها بألَّا يُحزِنُها، فحُبَّها أصابَ القلبُ والعقل، يجري بعروقهِ مجرى الدَّم، ونظراتَها العتابيةِ تغتالُ نبضهِ الهادرَ بين ضلوعِه..
مرَّت عدَّةَ أيامٍ خلف أيامٍ إلى أن وصلت لشهر كاملًا، بعد افاقتها، ظلت كما هي، لم تتفوه مع احدٍ بحرف، جلب إليها العديد من الأطباء الذين أكدوا ماهو سوى حالة نفسية، ساءَ وضعهِ وبدأَ يُخرجُ عصبيتهِ على الجميع، حتى فقدَ تماسُكهِ بالجلوسِ بجوارِها تلكَ الفترة، وحاول الابتعاد عنها لبعض الوقت كي لا يحزنها أكثر من ذلك
خرجَ من المشفى وحالهِ كحالِ المُغتربِ الذي فقدَ وطنهِ ولم يَعُد لديهِ قوَّةً للعودةِ إليه، ظلَّ يتنقَّلُ بسيارتهِ بشوارعِ القاهرةِ دونَ هدى، واغتيالًا عنيفًا يخفقُ لقلبهِ بالوصولِ إليها، أصبحت روحهِ تأنُّ بألمٍ لم يتحمَّلُه، فاتَّجهَ مرة أخرى إليها
بعدَ فترةٍ وصلَ إلى المشفى وفتحَ بابَ الغُرفةِ وهو يحملُ باقةً من الزهورِ الحمراءِ التي تعشقها، ولكنَّهُ توقَّفَ متسمِّرًا حينما وجدَ فراشها فارغًا، ويُوضعُ عليهِ تلكَ الرسالة…
"أتعلمون أكثر مايؤلم الروح: هو أن يجرحك من كان أغلى من نفسك، فمؤلم جدًا أن تجد نفسك بين قلبٍ متحطم بيدي شخص عشقته حد الجنون، وبين ذاك الشخص الذي مازال ينزف من روحك المستميتة"