رواية وريث آل نصران الجزء الثاني الفصل التاسع والستون 69 بقلم فاطمه عبد المنعم



 رواية وريث آل نصران الجزء الثاني الفصل التاسع والستون 69 بقلم فاطمه عبد المنعم



الفصل التاسع والستون (إنصاف) 

رواية_وريث_آل_نصران (الجزء الثاني) 

بسم الله الرحمن الرحيم 


قتلوه من التعذيب وقالوا انتحر.. 

فكرت لحظة وقلت: آه يا غجر!..

لو جنسكم سبناه يعيش في الحياة..

اللي انتحر راح يبقى جنس البشر!


(رباعيات صلاح چاهين) 


اتصال والده جعله يشعر بأن هناك شيء ما.... وصل إلى المنزل ليرى سبب اتصال والده به... فوجد "منصور" يجلس في غرفة المكتب مع والده.... تملكته مشاعر كثيرة، الحقد والغضب والكره اجتمعوا به، شعر بأنه على وشك إحدى نوباته ولكنه حاول التماسك واستأذن ودلف ليمر جوار "تيسير" التي أتت بالشاي وقد انطلق حديث منصور الغاضب:

أنا مش جاي اتضايف. 


لم تعجبه الطريقة تماما، ولم يعجبه صمت والده ووجهه المكفهر، فتحدث بدلا عن والده:

امال جاي ليه؟... أكيد مش جاي عايز حسنة، 

على قلبك قد كده مش محتاج يعني. 


_ بس يا عيسى. 

كان هذا أمر والده والذي نفذه فورا...جذب أحد المقاعد ليجلس عليه، وهو يستمع لحديث والده:

الحاج منصور، بيقول ان النار مسكت في الأرض بتاعته امبارح. 


تطلع "نصران" و "منصور" إليه، فوجداه يجذب زجاجة من مشروبه المفضل من البراد وهو يلقي قوله:

لا ده عند المطافي، الحوار ده روح لبتوع المطافي هيجبولك خرطومين تلاتة ويجوا يحلوه، لكن هنا العنوان غلط. 


بدا الانزعاج جليا على وجه "منصور" وهو يهتف بضجر:

ما هو لو كنت لقيت اللي يربيك مكنتش اتكلمت كده، لكن لا أب ولا أم. 

أشار إلى بعده الدائم عن هنا منذ الطفولة، أشار ويا ليته لم يفعلها... إذ رأى في عين "عيسى" أبشع نظرة يمكن أن يراها... شاهدها وهو يسمعه يقول بنبرة متهمة:

أصل أنا أمي ماتت، الله يرحمها... كانت بنت حلال بس علطول مكنتش بتقع إلا مع ولاد الحرام. 


الحديث يحمل معاني كثيرة، هذا ما أدركه منصور وعيسى يتابع:

بس أقدر أقولك إنها في الكام سنة اللي عاشتهم ربتني أحسن ما أنت اتربيت... وأشار على والده متابعا:

والراجل اللي أنت قاعد تغلط في تربيته ده، طلع رجالة متعرفش تطلع ضفرهم. 


تحدث "نصران" للجالس أمامه بانزعاج:

نهايته يا "منصور"... أنت عايز ايه؟ 


_ عايز اسمع كلمة الحق...تقولوا أنتوا اللي عملتوها ولا لا... محدش له صالح فيها غيركم. 

ابتسم " نصران" وسأله بهدوء:

و هنعملها ليه؟ 


رد "منصور" على سؤال "نصران" بأخر يبين فيه علمه بمكر من أمامه:

وهو حد يعرف أنتوا بتعملوا إيه وامتى وليه؟ 


كانت عين نصران تحيد بين لحظة والثانية على ابنه، لاحظ قبضته التي تشتد على زجاجة الشاي في يده، وكأنه يفرغ طاقة غضب فيها. 


عاد بنظراته إلى "منصور" وقال وقد شبك كفيه:

والله يا منصور هو مفيش حاجه تخليك تيجي هنا إلا إنك عارف، إنك عملت حاجه تخليني احرق أرضك، وبما انك معملتش حاجه فأنا مش شايف مبرر لمجيتك... ولا أنت عملت؟ 


هنا لم يفهم "عيسى" ما يُدار، عن ماذا يتحدث والده، سريعا ما زال جهله حين قال والده:

تصدق يا منصور طاهر من فترة قالي إن الراجل اللي بنوردله الفاكهة كل سنة، وشغله كله معانا، جه السنادي وعايز يخسف بالسعر الأرض، وعمال يعمل مشاكل ومش عايز يوصل لاتفاق، 

ضحك "نصران" وأكمل:

طاهر قاله خلاص يا حاج شوفلك سكة... بس مسكتش، عرف إنه كان متفق معاك يا منصور أصلا إنه هياخد منك. 


_ الله... هو أنت مش قولت إن المحصول بتاعك باظ... هتورد ايه بقى؟ 

ضحك "نصران" ساخرا ورد على سؤاله:

بتاع الفلاحين موجود مباظش...بدل ما يبيعوا ويخسروا يبقوا معايا ويكسبوا. 

اقترب منه "نصران" سائلا:

أنت بقى خدت محصول مين تورده بدل بتاعك اللي باظ؟ 


رد عليه "منصور" بغضب:

ده أنت شايل ومعبي بقى وجاي في الأخر تقول مش احنا اللي عملناها! 


_ أنا مبشيلش يا "منصور" لكن أنا مبغفلش عن حاجه، دبت النملة بتوصلني لحد عندي، و المحصول أنا هعرف ازاي ابيعه واكسب فيه أكتر من اللي كنت هكسبه، لكن أرضك احنا ملناش فيها... روح شوف النار مسكت فيها من ايه 

أضاف بما أثار غيظ الجالس أمامه:

ابقى ركب كاميرات يا منصور... علشان متاخدش على قفاك تاني كده... انا ركبتها برضو علشان لو حصل الغلط اعرف اللي عمله، من غير لف ودوران بقى. 


أنهى الجلسة بقوله الذي رافق ابتسامته:

نورت. 


سحب "منصور" عباءته، يطالع "نصران" بوعيد، ألقى نظرة على "عيسى" فلم يجد منه سوى نظرات الاشمئزاز فلم يقل سوى:

ماشي يا حاج "نصران"... مردود واجبك. 

كلمات مختصرة تبعها رحيله، ما إن خرج، حتى استعد " عيسى" للصعود مستأذنا:

معلش يا بابا نتكلم الصبح، أنا تعبان وعايز أنام. 


يحاول تلاشي والده، رؤية "منصور" بعد ما عرفه جعلته على وشك الإنفجار... أدرك أنها البوادر فحاول الابتعاد ولكن والده هتف بلهجة حازمة:

خليك مكانك يا "عيسى".. محتاجين نتكلم دلوقتي

ترك مقعده واقترب ليجلس في المقعد المقابل لابنه سائلا:

أنت اللي عملتها يا " عيسى" ؟... أنت اللي حرقت أرض "منصور"؟ 


_ وهحرقها ليه؟... هو عملي ايه علشان أحرقله أرضه. 

رده هذا كانت الإجابة عليه قول والده:

ومش باصص في عينيا ليه وأنت بتقولها. 


تجمدت عين " نصران" على كف والده الذي ظهرت الرعشة فيه، سمع بأذنيه صوته يقول بضجر:

يووه في ايه يا بابا. 


أدرك أن الأمور بدأت تخرج عن سيطرته فقام وهو يقول بإصرار:

معلش يا بابا الصبح، هنقول كل حاجه الصبح. 


جذبه والده من ذراعه بقوة سائلا بحدة:

مالك يا "عيسى"، ما تظبط كده وتتعدل.


يرى والده ما تحدثت عنه خالته جليا الآن، يرى حالته، وانفعاله غير المبرر وهو يسحب يده صائحا بغضب:

بس بقى، سيبني... قولتلك الصبح. 


أغمض عينيه بقوة، يحاول السيطرة قبل انفلات أعصابه كليا، اعتذر باختصار: 

بابا معلش... أنا أعصابي بايظة دلوقتي. 


وترك الغرفة وخرج مهرولا، لمح " سهام" في الخارج وقد عادت بصحبة ابنتها، فعرف إلى أين يذهب... قرر الخروج والمبيت في منزلها الخالي الآن ولكنه سمع نبرة والده الذي خشى أن يقود ابنه السيارة في حالته هذه:

لو خرجت من هنا مترجعش تاني. 


تبادلا النظرات، نظرات "نصران" المتحدية، وابنه المنفعل... تراجع "عيسى" وصعد على الدرج مسرعا، هرول إلى غرفته، المكان الوحيد الذي سيتقبله الآن. 


أما عن نصران فعاد لغرفة مكتبه بتعب، عاد وجلس واضعا رأسه بين كفيه، يفكر في وضع ابنه، يفكر فيما وصل له والأصح أنه عجز عن طرح أي أسئلة، بقعة كبيرة من عقله الآن لا يشغلها سوى شخص واحد... لا يشغلها سوى "عيسى".


★***★***★***★***★***★***★


وقفت " رزان" في المطبخ تعد القهوة لمن لم يتركها منذ أمس، شردت في علاقتها بجابر، العلاقة التي بدأت منذ أن طلب منها "باسم" أن تكون سبب في الإيقاع بين "جابر" و "ندى" والجزاء مقابل مادي مغري... ولكنها لم تكمل ما بدأته وأخبرته أنها أوقفت كل شيء، بينما في نفس التوقيت صارحت "جابر" بحقيقة عملها، صارحته بأنها كانت تعمل في ملهى ليلي سابقا، ورأته وادعت أنه لفت انتباهها في الملهى فأخذت تبحث عن رقمه حتى وجدته.... لم تخبره أي شيء عن "باسم"، كان شرطه الوحيد أن تكون علاقتهما سرية، وطلبت هي ذلك أيضا ومن هنا صارا معا... استأجرت هذا المنزل بالأموال التي تقاضتها من " بشير" مقابل سرقة أوراق "باسم" وبهذا ابتعدت عن "باسم" تماما بعدما أصبح أكثر عدوانية معها، وأصبحت لا تطيق التواجد معه، ومصدرها الجديد هو "جابر" هنا في هذا المنزل الذي لا يعرف أحد عنه، وقد اختارت أن يكون مقرها الجديد الاسكندرية. 

انتهت من إعداد القهوة وخرجت لتضعها له سائلة:

هو أنت هتبات هنا الليلة دي كمان؟ 


_ اللي يشوف كده يقول بايت معاكي ميقولش إن كل واحد نايم في أوضة. 

قالها بضجر جعلها ترد عليه بالحل:

ما أنا قولتلك، أنا ده أخري، أكتر من كده يبقى نتجوز... وأنت بقى مش عايز. 


رفع حاجبه سائلا بسخرية:

والله ؟... ما أنا قولتلك على الورق.... 


قاطعته بحدة:

عرفي لا... رسمي اه ولا هو اللي أنت متجوزها أحسن مني؟


_ هي أنا متجوزها، أنتِ أنا ماشي معاكِ.

ضحكت بسخرية على جملته ثم علقت:

واللي أنت متجوزها اهو مبيتاك برا بيتك ليلتين متنكد، وقافل تليفوناتك علشان محدش يعرف يوصلك وفي الاخر جيت لمين؟... للي ماشي معاها. 


كلماتها جعلته يجذب قميصه من على الأريكة مرددا بضجر:

أنا ماشي يا رزان. 


جذبته من ذراعه طالبة برجاء:

لا علشان خاطري اقعد متمشيش... خلاص، براحتك يا "جابر"، بس سيب كل واحد براحته، علشان أنا مش هبقى ليك غير بالجواز 

ظهر التوسل في نبرتها وهي تسأله:

مش أنت بتقول مش مرتاح معاها؟... ما تسيبها و نتجوز، والله يا جابر هحطك في عيني من جوا... أنا كل أملي ابقى متكنة في بيت راجل متجوزاه. 


_ سيبيني افكر في الموضوع ده. 

جملته هذه أعطتها أمل كبير فاتسعت ابتسامتها، فتح هاتفه أخيرا، رأي اتصالات والده الكثيرة فتجاهلها، ظن أنه يريد معرفة أين هو لا أكثر... انتظر ابتعاد " رزان" ثم فتح حساب يتردد عليه منذ مدة، حساب تلك التي شغلته منذ رؤيتها...حساب "شهد" ...

ابتسم ما إن رأي صورتها أمامه، تأمل الصورة قليلا ومازالت الابتسامة على وجهه، ولكن انتقلت عيناه إلى أعلى ليكتشف أنها غيرت حالتها... رفع حاجبيه بدهشة مرددا:

Single! 

فتح الصور الخاصة بها، كان لها أكثر من صورة مع طاهر ولكنه لم يجد أي واحدة منه فاتسعت ابتسامته، لتصبح ضحكة واسعة وهو يقول هامسا وقد رضاه الوضع بأكمله:

حلو الكلام. 


★***★***★***★***★***★***★***★


انفردت بنفسها في غرفتها، وضعت ما ابتاعه من أجلها على الفراش أمامها، وأخذت تتأمله بفرح، بداية من العروس التي رفعتها لتصبح أمام عينيها ويتكرر في أذنها جملة:

شبهك أوي. 


مسحت على خصلاتها وهي تضعها بحرص داخل العلبة من جديد، ثم جذبت المرآة التابعة لفيلمها المفضل، وطالعت فيها نفسها، اتسعت ضحكتها أكثر... مدت يدها لتجذب ما أحضرها لتدون بها ما تريد، فكرت قليلا ثم أختارت رقم سري تستطيع تذكره، فتحتها بعد ذلك وشعرت بدقاتها في سباق وهي ترى الصفحة الأولى خالية، جذبت قلم من الكوب الموضوع على الطاولة وقد رصت به "شهد" أقلامها... وترددت كثيرا ثم كتبت بابتسامة:

أنا حاسة بحاجة مختلفة... حاجة غريبة، هو قادر ينسيني كل حاجة وأنا معاه إلا هو... النهاردة طلب مني أحضنه، بس أنا كنت حاسة إن أنا اللي محتاجة ده علشان كده عملته. 

لمعة عينها امتزجت بابتسامتها وهي تغلق مذكرتها، وتفكر قليلا ثم تهتدي أخيرا إلى حل، استقامت واقفة وأخفتها أسفل الفراش. 


جلست تتأمل باقي الأشياء حتى دخلت عليها والدتها التي ظنت "ملك" أنها نامت، ولكن اتضح أنها مجرد غفوة استيقظت منها ما إن شعرت بعودتها... سمعت سؤالها:

أنتوا كنتوا فين يا "ملك"؟ 


انتبهت والدتها إلى الأكياس الموضوعة أمام ابنتها، والمحتويات التي وضعتها على الفراش فقالت:

ايه الحاجات دي؟ 


_ " عيسى" جابهالي. 

قالتها بضحكة واسعة، ثم بدأت في عرض كل الأشياء على والدتها التي أبدت إعجابها بقولها:

حلوين أوي... بس اشمعنا يعني... ابتسمت "هادية" بمكر وهي تسألها:

الأول فستان، بعد كده تليفون، بعد كده عروسة... هو ايه الموضوع بالظبط؟ 


شعرت بالارتباك وأخذت تبرر مسرعة:

لا هو مفيش موضوع...هو بس كان بيجيب لرفيدة حاجات علشان عيد ميلادها باين، وجابلي معاها... 

لكن هو كان رايح علشان "رفيدة" مش علشاني. 


_ يعني هو ده المشوار اللي خدك فيه؟ 

قالت "هادية" هذا ثم انتبهت لعدم وجود "شهد" في فراشها، فثبتت عيناها على الفراش وهي تسأل بقلق:

هي اختك فين؟ 


انكمش حاجبي "ملك" وهي تقول:

لا معرفش... أنا بحسبها نايمة معاكم، ممكن تكون في الحمام. 


هرولت والدتها تبحث عنها في المنزل بأكمله ولكنها لم تجدها، هنا نهش القلق فؤادها، وكذلك كانت "ملك" ولكن سريعا ما اختفى هذا حين فتحت "شهد" باب المنزل ودخلت. 

احتدت نظرات "هادية" وهي تسألها:

أنتِ كنتِ فين دلوقتي؟ 


_ حسيت إني مخنوقة، فنزلت أشم هوا شوية تحت جنب المحل. 

وجهت "هادية" سؤالها لملك:

أنتِ شوفتيها وهي طالعة؟


الحقيقة ستجعل والدتها تفتك بشقيقتها الآن لذلك تحججت مسرعة:

اه فعلا أنا اتخايلت لحد قاعد، بس مركزتش أوي وطلعت علطول.


كان الوقت متأخر فلم ترد "هادية" الشجار، كل ما قالته كان:

أنتِ حالك مبقاش عاجبني، ادخلي نامي والصبح نتكلم. 


امتثلت لأمر والدتها، ودخلت مع شقيقتها إلى الغرفة، وما إن دخلا حتى قالت "ملك":

أنا عارفة إنك مكنتيش تحت يا " شهد"... أنا قولت كده علشان متحصلش خناقة دلوقتي.... 

جلست على الفراش وسألتها برفق:

ممكن أعرف كنتِ فين؟ 


ذهبت "شهد" إلى فراش شقيقتها، وضعت رأسها على قدم "ملك" دون أن تبدل ملابس الخروج بأخرى، ثم تمددت وقبل أن تسأل "ملك" مجددا هتفت بغيظ:

بلاش رغي بقى الله يسترك، متخافيش مكنتش في حتة مشبوهة. 


_ طب قومي من على رجلي بقى. 

قالتها "ملك" بغيظ ولكن رفضت شقيقتها، وبقت على وضعيتها وهي تتذكر ما حدث قبل أن تأتي إلى هنا... حيث ذهبت إلى نفس المكان الذي كان مفضل لديها، المكان نفسه الذي اعترف فيه "طاهر" بحبه، والمكان الذي جرحها فيه، كانت تحب المكوث هناك، تشعر بالراحة فيه، أرادت الذهاب لمعرفة كيف سيكون شعورها... وبالفعل ذهبت إلى هناك ولكن صدمها ذلك الجالس على السور، عرفته من الخلف تجمدت مكانها، يجلس نفس جلستهما معا، شعرت وكأنها مسلوبة الإرادة تتابع السير ناحيته وكأنها على يقين بأنه سراب، لمعت الدموع في عينيها، ولكنها لم تخضع، أدركت ما تفعل وتحركت لتغادر قبل أن يلاحظها ولكنه شعر بحركة في الخلف، فاستدار بلهفة وأمله كبير، ولم يخب ظنه حيث كانت هي، هرولت مسرعة ونادى هو:

يا "شهد" استني. 

ولكنها لم تسمع له، ولم يستطع هو اللحاق بها... المرة الأولى تركها ترحل بإرادته، ظن أنه لن يندم... ولكنه يندم الآن وبشدة، وهي ترحل بإرادتها هي. 


★***★***★***★***★***★***★***★


حضر وهو يعلم أن الوقت متأخر ولكن الأمر هام ومن يريده لا يجب على الهاتف... دق عز الباب وانتظر حتى فتحت له "تيسير" فسألها بحرج:

معلش يا ست "تيسير" بس هو "عيسى" هنا؟ 


قبل أن ترد عليه خرج "نصران" من حجرة مكتبه سائلا:

خير يا عز في حاجه؟ 


_ كان في حاجه مهمة كنت عايز "عيسى" فيها بس هو مبيردش يا حاج فقولت اجي يمكن الحقه قبل ما ينام، معلش والله لو قلقتك. 


أعطاه "نصران" ابتسامة قائلا:

لا يا حبيبي أنا لسه صاحي ومش هنام لسه إلا بعد صلاة الفجر... بس "عيسى" نام، فسيبك منه وتعالى اقعد معايا شوية. 


رفض بحرج قائلا:

ملهاش لزمة بقى همشي أنا. 


_ ادخل يا "عز" بقولك. 

لم يستطع رفض طلب "نصران" فدخل بالفعل، لمح "رفيدة" تجلس على الأريكة فألقى التحية:

مساء الخير يا أستاذة رفيدة. 


هتفت بتذمر:

يادي أستاذة 

أغمضت عينيها وقد طفح كيلها منه وردت عليه بابتسامة صفراء:

مساء الخير يا اسطى "عز".


ابتسم " نصران" وقد علم سبب تذمر ابنته، وحث "عز" على الدخول... لم يكن في أفضل حالاته كانت حالته سيئة بسبب ما عرفه وبسبب ما يجهله عن ابنه، لذا قال "عز":

هو أنت بخير يا حاج؟ 


_ اه يا حبيبي بخير، بس أنا زعلان منك يا " عز" ... كده ابعت "حسن" للحاجه بالفلوس ترجعه.... كبرت خلاص عليا، وبعدين أنا مببعتش ليك أنت حاجه، أمك دي كانت أمانة أبوك الله يرحمه ليا، أبوك ليه دين كبير أوي في رقبتي، أكبر من الفلوس اللي أنت بقيت تخلي أمك ترجعها دي. 


برر ذلك مسرعا:

يا حاج "نصران" مش القصد والله، أنا عمري ما هكبر عليك... بس أنا الحمد لله شغال وبكسب وربنا فاتحها عليا على الأخر، فملهاش لزمة الفلوس دي خليها لحد محتاج، وأنت عارف أمي لو احتاجت حاجه ولا أنا قصرت هتجيلك... أنت صونت الأمانة يا حاج أنا متربي في خيرك، وكل اللي وصلتله الفضل يرجعلك فيه بعد ربنا. 


تنهد "نصران" بهدوء وقال بابتسامة:

هقول إيه بعد كلامك يا "عز"... أنت حر يا بني، 

قولي بقى صحيح مش ناوي تتجوز؟ 


ضحك الجالس أمامه مستهزئا وردد:

اتجوز!... لا أنا ماسح الموضوع ده خالص، 

كفايه عليا أمي أوي. 


_ أنت بتحب واحده صح؟ 

هذا السؤال جمده وأسرع يقول بارتباك:

بحب ايه بس، هو أنا فاضي للحب؟... 

مليش في الكلام ده أصلا. 


تابع " نصران" وكأنه لم يسمع ماقاله:

واحده كل ما تشوفها تقولها يا أستاذة، وأنت عارف إنها مبتحبش كلمة أستاذة. 


هنا غزت الحمرة وجهه وقد علم مسرعا كيف عرف فقال بغيظ:

أمي دي تقولها الحاجه، ميعديش ساعه بيكون سكان الوطن العربي كلهم عرفوها. 


ضحك "نصران" على كلماته، وقال "عز" معتذرا:

أنا أسف يا حاج على أي كلام وصلك... بس حاجه زي دي هتفضل بيني وبين نفسي... "رفيدة" دي ست البنات، وأنا مرضاش اخدها من هنا، وابهدلها معايا بشغل الورشة، والبيت اللي ميجيش ربع بيتها... 

هي تستاهل واحد أحسن مني. 


طلب منه "نصران" الصمت وبدأ في حديثه قائلا:

اسمعني يا "عز"، الإنسان مش باللي عنده، اللي عندك ده هيروح ويجي، يعني أنا النهارده عندي مين عارف أنا بكرا عندي ولا لا... اللي بيعمل الإنسان اللي اتزرع فيه من صغره، وبما إنك تربيتي فأنا عارف إن معدنك أصيل يا " عز" ... عايزك تعرف كويس لو "رفيدة" وافقت أنا عمري ما هقول لا، ولا هبص للي عندك، علشان أنا عارف إنك بتاع شغل وهتعمل اللي عليك وزيادة علشان تريحها.... بس لو هي مش عايزة أنا مش هقدر أعمل حاجه.


_ يعني هي لو وافقت أنت هتوافق؟ 

سأله بأمل قد نبت في فؤاده بعد كلمات "نصران" فرد عليه:

أنت لو مكاني هتعمل ايه؟ 


ابتسم وأجاب:

هخاف عليها، هبقى عارف إني برميها من الدار النار، ومش هديهالي إلا لو جاهز إني اخدها. 


هنا قال "نصران" بهدوء:

يبقى تكبر يا "عز"، عيسى كان قالي انه هيفتح حاجه كده تبع العربيات، روح اشتغل معاه، متقفلش ورشتك خليها زي ماهي... بس اخرج براها، عيسى دماغه حلوه ومعاه هتعمل شغل كويس، وتكسب أكتر ومش هيبقى شغلك كله في حدود ورشتك بس... وأنا مش عايز عيشة زي دي، يوم ما تيجي تقولي يا " عز" أنا هقدر أعيشها مرتاحة، وهي تقولي أنا موافقة... هجوزهالك. 


_ أنا لو أبويا عايش مش هيعمل معايا كده. 

قالها بتأثر فحضنه "نصران" مردفا:

أنا أبوك يا حمار. 


نزلت الدموع من عيون "نصران"... نزلت وهو يتذكر والد " عز" وصديقه، صديقه الذي فداه بروحه، صديقه الذي قُتِل بدلا منه. 


★***★***★***★***★***★***★


في الصباح جلسوا جميعا لتناول وجبة الإفطار لأول مرة منذ أيام... منذ قدوم "سعد" والعلاقة بين "نصران" و زوجته متوترة، لا تنسى عتابه القاسي والذي جعلها تغادر المنزل وتذهب لمنزلها القديم، ولكنها من جديد عادت... هتف "يزيد" المجاور لحسن بحزن:

هي ليه شهد مبقتش ترد عليا؟ 


نظر "نصران" ل طاهر ساخرا، ثم قال مطمئنا:

معلش يا "يزيد"، خلص فطارك وهاخدك ونروحلها. 


لم يعترض " طاهر" بل تصنع أنه لا يسمع شيء، لاحظ "حسن" أن "عيسى" صامت حتى طعامه لا يتناوله فسأله مازحا:

هو أنت واكل سد الحنك ولا ايه؟... ما تتكلم ولا تاكل ولا تقول أي حاجة. 

طالعه بغيظ ورد عليه:

خليك في حالك على الصبح بقى. 


ضحك "حسن" وقد أثار غيظه وتابع:

طب هات طبق الليمون اللي قدامك ده طالما مبتاكلش... ايه العنصرية دي الطبق ده محطوط قدامك أنت بس ليه؟ 


_ ليه مستعجلة بس يا ست "ميرڤت" ؟ 

سألها "نصران" فجاوبت وهي تعلم أنها إحدى أسباب التغيير الذي أصاب "عيسى":

كفاية قعدة هنا بقى... وكمان بيتي وحشني. 


طالعها " نصران" بنظرة ذات مغزى بأن حديثهما لم ينته بعد، كان هاتف "عيسى" أمامه على الطاولة، صدر صوته فرأى اسم "ملك" على الشاشة المضيئة، فسحب الهاتف وقام مسرعا بابتسامة، فسأل "حسن" شقيقته بمشاغبة:

هو مين اللي بيرن عليه؟


_ ملك. 

همست له بها فقال باعتراض لوالده:

عاجبك كده يا حاج... يعني ابنك ميفكش وشه إلا لما ملك تتصل، اعمله فيها ملك يعني علشان يفرد وشه ولا أعمل ايه؟ 


حذره "نصران" بنظرات متوعدة: 

تخليك في حالك علشان ما اقوملكش. 

لم يستطع "طاهر" منع نفسه من الضحك... تبع قول "نصران" قيامه من على مقعده، ثم أردف وهو يتجه لغسل يديه:

نورتي بيتك يا "سهام".


تبادلوا جميعا النظرات أما هي فتوقفت عن تناول الطعام.

كان " عيسى" في الخارج يرد على من اتصلت به توا وقد شعر أن هناك شيء ما:

أكيد مش متصلة تقوليلي صباح الخير... في ايه بقى؟ 


ضحكت لأنه لم يقل شيء ليس صحيح، ثم قالت:

طب صباح الخير يا "عيسى".


_ اللي بعد صباح الخير بقى علشان بيبقى فيها الخلاصة. 

بررت مسرعة بابتسامة:

هو أنا والله متصلة علشان أقولك صباح الخير وعلشان أقولك حاجة تانية... أنا شوفت " كارم" جوز طنط "ميرڤت" وأنا قاعدة مع ماما في المحل معدي... فهو تقريبا جاي ياخدها. 


سألها وقد اختفت ابتسامته، حل محلها تعابير الغضب وهو يسأل:

أنتِ متأكدة إنه هو؟ 


أكدت المعلومة بقولها:

اه والله هو. 


استطاعت سماع أنفاسه المتسارعة من فرط ضجره فسألته بحذر:

عيسى؟... أنت كويس؟ 


_ أنا تمام... اقفلي أنتِ يا ملك. 

أسرعت تقول وقد شعرت بأن كل شيء ليس على ما يرام:

عيسى


لم يستطع الرد بقى صامتا، وهو يرى كل شيء يضغط على أعصابه ولكن نبرتها اللينة وهي تطلب منه:

خليك كويس... ها؟ 


_ ملك أنا رايح القاهرة تعالي معايا. 

قالها دون تردد، هو بالفعل يحتاج وجودها وشعرت هي بهذا في نبرته لذلك قالت:

ماشي هاجي معاك.


لم تكد تريحه جملتها حتى سمع "تيسير" تخبره وقد أتت من الخارج:

"كارم" جوز الست "ميرڤت" داخل يا أستاذ "عيسى".


وفي نفس اللحظة وصلته رسالة على الهاتف كان محتواها:

أنا " ثروت" والد "بيريهان"... عايز أتكلم معاك. 


ما إن لمح ذلك البغيض بالنسبة له أمامه حتى احتدت نظراته، أصبحت قاسية... كلما وقعت عيناه عليه، يرى طفولة ومراهقة وشباب كان كابوسها هو.... طالعه 

" عيسى" باستخفاف سائلا:

الجوع قرص عليك، فجاي تاخدها علشان تلاقي فلوسها اللي بتطفح منها؟ 


هنا خرج والده، ظن "عيسى" أنه سيستمع لوصلة ترحيب، ترحيب لمن لا يستحق... لكن صدمه أن والده اقترب منه هامسا:

أنت اختارت تبعد زمان، واختارت تخبي لما كبرت...وأنا مش عايز أعرف اللي أنت مخبيه، 

أنا عايزك تعرف إن أبوك في ضهرك وحقك حقه... 

هذه الكلمات أعطته الحياة بأكملها، طالع والده بحب.. 

لا يعلم سبب كلماته هذه... نصفه والده، وزاد إنصافه وهو يقول:

أنا عارف يا "كارم" إنك جاي تاخد الست "ميرڤت" بس أنا مش هقولك زي كل مرة الصلح خير... علشان أنا عارف كويس إنها بتيجي غضبانة، المرة دي كلمة "عيسى" هي اللي هتمشي، والست "ميرڤت" مش هتخرج غير بكلمته. 


ظن "كارم" أنه سيحل الأمر بمجيئه، وسيرسلها معه نصران على الفور، ولكن هذه الكلمات حولت وجه "كارم" لأخر مكفهر وجعلت ابنه يبتسم بانتصار واستدار يخبر والده:

أنا لو عيشت طول عمري بفتخر بحاجة، هبقى بفتخر اني ابنك. 

أكمل بتأثر وهو يمسك بعباءة والده:

بفتخر إني "عيسى نصران".


احتضنه والده، وكأنه تعويض عن سنين طوال... تركه فيها لنفسه وكانت النتيجة هذه.... احتضنه " نصران" وسهامه الحادة لا تُصوب إلا على شخص واحد... إلا على "كارم".

الفصل السبعون من هنا


 

تعليقات



×