رواية ظنها دمية بين أصابعه الفصل الثانى والستون بقلم سهام صادق
تلك النيران التي كانت متأججة داخله ازدادت وَهَجَها فور أن تلاقت عيناه بعيني قصي، الذي بدا على ملامح وجهه الاسترخاء. اختفت ابتسامة قصي عندما وجد صالح يُحدق به بنظرة أصابته بالريبة.
_ مين يا قصي على الباب؟
تساءل بها الجد بقلق، لينظر قصي نحو صالح الذي لم يُبادر بأي تحية. توتر قصي وتراجع بخطواته للوراء ثم أشار إليه بالدخول.
_ هو ملهوش صوت ليه يا جدو؟ ده كان من ثواني شغال أمر فينا!
قالتها زينب التي وضعت رأسها على كتف جدها من الجهة الأخرى حتى تستطيع إقناعه بالمبيت معه وطرد قصي وليس هنَّ.
ازدادت عقدة حاجبي صالح واشتعل الغضب في عينيه عندما التقطت أذناه حديثها، ليرفع قصي يده ويمررها على عنقه قائلًا:
_ أهلا وسهلا يا كابتن صالح.
ابتسم الجد وهتف بصوت عالٍ:
_ تعالَ يا صالح، هو أنت غريب؟ وإزاي سامح للولد ده يوقفك كده على الباب؟
اِنفرجت شفتي صالح بابتسامة خفيفة وتحرك للداخل لتعتدل سما سريعًا من جوار جدها، وضمت ذلك الشال الطويل الذي ترتديه حول كتفيها.
_ مساء الخير يا سيادة اللوا.
تمتم بها صالح وهو ينظر نحو زينب التي اعتدلت في جلوسها وتجنبت النظر إليه، ليعود التجهم لملامح وجهه، لكنه كان مرغمًا على أن يتمالك نفسه.
_ مساء الخير يا سما.
ابتسمت سما ونظرت إليه بعدما استدار بجسده ناحيتها.
_ مساء النور يا كابتن.
ثم أردفت ضاحكة:
_ أنا قلت إني شفافة قدامك، لكن الحمد لله طلعت بتشاف عادي.
_ ليه يا حبيبتي، كنتي شايفة نفسك عفريت؟
قالها قصي مازحًا وهو يتجه نحوهم وقد نفض عن رأسه أخيرًا دهشته من عدم تقبل صالح له، رغم قلة اللقاءات بينهما.
_ اقعد يا بني وسيبك منهم، أنا مش عارف إمتى هيعقلوا ويبطلوا مناكفة.
ابتسم صالح ونظر إلى زينب بنظرة ثاقبة، تفحص فيها ملامحها التي ظهر عليها زينة وجهها.
_ اعذرني يا سيادة اللوا، خليها مرة تانية واجي أشرب القهوة معاك كمان.
كاد أن يتحدث الجد، لكن سما قطعت حديثهم بعدما توقفت عن منكافتها مع قصي.
_ عايز تمشي كده يا كابتن قبل ما أساومك على ترقية ليَّ، ده أنا مصدقت الفرصة جاتلي.
اتسعت عينا الجد بصدمة، ثم صاح بحزم رغم علمه بأنها تمزح معه:
_ سما!
وضعت زينب يدها على فمها حتى تكتم صوت ضحكتها بعدما احتل العبوس ملامح سما ومطت شفتيها حانقة.
_ يرضيك كده يا كابتن؟
رد صالح وهو يبتسم:
_ لأ طبعًا ميرضنيش، ومن غير مساومة يا ستي، اعتبري ترقيتك متوافق عليها.
وبنظرة أرجفت قلب زينب تابع كلامه:
_ نعتبر غلاوتك عند زينب هو قرار الموافقة.
افتر ثغر نائل عن ابتسامة عريضة، وسرعان ما صدح صوت صفير من بين شفتي سما وهي تحرك هاتفها بيديها.
_ يا سلام على حلاوة الكلام، هنيالك يا ست زوزو.
زجرتها زينب بنظرة ممتعضة، تحولت سريعًا إلى نظرة محذرة عندما اتضح لها أمر المساومة.
_ إياكِ يا سما، إياكِ.
ارتسمت الدهشة على ملامح الثلاثة رجال حين انتفضت زينب فجأة من جوار جدها وانقضت على سما حتى تأخذ منها الهاتف.
_ أنا حفظت الفيديوهات في ملف سري ليك يا كابتن، وكده مش هتكون المساومة على ترقية بس، لأ وكمان إجازة مدفوعة ورحلة على حساب الشركة، وممكن كمان أضيف امتيازات تانية.
وبصراخ خرج صوت سما عاليًا بعدما استطاعت تخليص ذراعها من أسنان زينب.
_ بعد العضة ديه، كل اللي هطلبه هيكون مقبول، ده أنا دخلت معركة قوية عشان خاطرك.
ارتفعت قهقهات الجد وأخذ يهز رأسه بيأس منهن، ونظر نحو صالح الذي ما زال واقفًا مكانه.
_ تعالَ يا بني، اقعد جنبي، حقيقي دول مجانين...
اتجهت عينا صالح نحو الجد، وقد ازداد هذا الشجار فضوله نحو الفيديوهات.
_ أنا قلت بعد مجهود الرقص هتتهدوا، لكن ما شاء الله عليكم.
تمتم بها قصي وهو يضرب كفيه ببعضهما، ثم اتجه للجلوس على أحد المقاعد والتقط طبق المقرمشات الموجود على الطاولة ليتناول منه.
اشتعلت نيران الغيرة بداخله بعد كلام قصي، الذي لم يكتفِ بما قاله.
_ ده أنا لأول مرة أعرف إن عندنا في العيلة مواهب مدفونة!
شعر نائل أن الأمر زاد عن حده، وقد أدرك من وقوف صالح بهذا الجمود أنه فقد قدرته على التحكم بغضبه.
_ سما، امسحي الفيديوهات ديه، انتوا كنتوا بنات مع بعض، ومينفعش، وكنتوا واخدين حريتكم.
التقطت زينب أنفاسها بصعوبة ونظرت إلى سما بحنق.
_ قولها يا جدو، أغلب اللي كانوا في الحنة محجبات، يعني ده غلط إنها تصور.
_ أنا مصورتش غيرك يا زوزو، أنتِ أصلا كنتِ مشعللة الدنيا، والكل كان منبهر، حتى طنط حورية كانت...
توقفت سما عن الكلام عندما خرج صوت صالح بنبرة خشنة:
_ ابعتي الفيديوهات يا سما ما دام خاصة بمراتي، من فضلك.
كادت أن تبكي زينب من هذا الوضع الذي وضعتها فيه ابنة عمها، ليتنهد الجد بقوة ويقول بحزم:
_ اقعدي طيب يا بني لحد ما زينب تجهز وتصحي يزيد.
وهل يستطيع هو الجلوس الآن أو التركيز في شيء؟
...
تيبست ساقاها عن الحركة، واستمرت تحدق بتلك البقعة الحمراء الواضحة على مفرش الفراش. فالتقط بطرف عينه نظرة عيناها الواجمة، ولَوْهلة أصابه شعور بالضيق لتلك النوايا التي يكنها داخله، لكنه يراها تستحق أن تقع في شرك كِبْرها مع رجل مثله.
تنهدت بقوة وتسألت بصوت قلق:
_ مراد، هتكلم بابا إمتى وتحدد ميعاد الفرح؟
نظر إليها، ثم ألقى بعقب سيجاره واقترب منها، وعلى شفتيه ارتسمت ابتسامة خفيفة.
_ مالك يا أشرقت، خايفة من إيه... أكيد هنتجوز يا حبيبتي.
ابتلعت ريقها وهربت بعينيها بعيدًا عن موضع الفراش.
_ إمتى يا مراد؟ ولا أنت بعد اللي حصل خلاص؟
ارتجف جسدها عندما أحاطها بذراعيه وبنبرة متلاعبة عابثة قال:
_ معقول يا أشرقت شايفاني بالصورة ديه؟ لأ أنا كده هزعل منك.
شتتها تحرك كفه على عنقها وأردف بهمس خافت:
_ تعرفي إني لأول مرة أحس بالمتعة ديه مع ست؟
وعندما رأى امتقاع ملامحها ضحك.
_ ما أنتِ عارفة يا حبيبتي، أنا قبلك كنت على علاقات كتير وصرحتك بكل حاجة.
أشاحت عينيها عنه؛ فضحك بقوة، ثم انتقل بكفيه ليحركهما بخفة على ذراعيها.
_ حبيبتي، ممكن ننسى كل حاجة دلوقتي وما نفكرش غير في اللي حصل بينا.
مد يديه حتى يزيح الغطاء عن جسدها، لكنها انتفضت بذعر.
_ لأ يا مراد، مافيش حاجة هتحصل تاني قبل الجواز.
ثم وضعت يديها أمامها لتصده وتراجعت للخلف، فشق ثغره بابتسامة واسعة.
_ ما إحنا أكيد هنتجوز يا حبيبتي، لكن ليه عايزة تحرميني منك لحد ميعاد الجواز؟
أسرعت من أمامه نحو الحمام لتتغلب على حالة الضياع التي سيطرت عليها.
_ هقول لبابا إنك عايز تحدد ميعاد الفرح.
أغلقت الباب وراءها واستندت بظهرها عليه، وقد عاد شعور الخزي يُكبل روحها.
دقائق مرَّت وهي تقف في مكانها شاخصة البصر، ثم نفضت رأسها متمتمة:
_ مراد بيحبني.
....
زفرت زينب أنفاسها حانقة، ثم ألقت نظرة سريعة نحو الصغير الذي عاد لنومه الهنئ.
_ من فضلك، هدي السرعة شوية، الولد نايم، ولا أنت عايز يصحى مخضوض؟
رمقها صالح بنظرة خاطفة وواصل القيادة بنفس السرعة، فتشبثت بمقعدها.
_ أنت مش لوحدك على فكرة.
_ اسكتي يا زينب، من فضلك، اسكتي.
صاح بها وهو يقبض بكلتا يديه على عجلة القيادة، لتتساءل باستنكار بعدما عقدت ساعديها أمامها بغيظ:
_ أنا قلت إيه عشان أسكت، ممكن تفهمني؟
انتفخت أوداجه، ثم أطلق زفيرًا طويلًا، ورمقها بنظرة ساخطة وهو يعض على شفتيه بحنق:
_ حاضر، لما نوصل هفهمك كويس يا زينب هانم.
أشاحت عيناها عنه بتأفف بسبب سخريته، واستندت برأسها على زجاج نافذة السيارة وهي تتثاءب، ليشعر بالغضب وهو يراها غير مبالية بغيرته.
وصلوا إلى البناية التي يقطنون بها، وقبل أن تلتف برأسها للوراء حتى توقظ يزيد، ارتفع رنين هاتفها. عبوس وجهها جعله يعلم صاحبة الاتصال، فلم تزداد ملامحه إلا قتامة، مرددًا داخل رأسه بتوعد: "هعرف إزاي أخليكي تبعتي الفيديوهات يا سما".
...
نظر الجد بنظرة لائمة إلى سما بعدما ساعدته على الاستلقاء على فراشه.
_ مردتش عليكي؟
حركت سما رأسها له نافية، ثم زفرت أنفاسها.
_ هو أنا زودتها أوي يا جدو؟
أشار إليها أن تأتي لجانبه وتجلس.
_ يا حبيبتي، مش في كل الأوقات ينفع نهزر، ولا ينفع يكون هزارنا قدام أي حد.
_ هو صالح غريب يا جدو؟
تنهد نائل وأرخى جفنيه قائلًا بنبرة صوت لينة:
_ صالح مش غريب عننا دلوقتي، لكن في كلام يا بنتي الراجل ما يقدرش يستحمله على مراته، وأنتِ حتى اخترتي الوقت الغلط.
أصاب الفزع ملامح سما، ونظرت لجدها بذعر.
_ هو أنا قلت إيه يا جدو؟ أنت عارفني، ساعات بتكلم من غير كنترول.
هز نائل رأسه، ونظر إليها بنظرة يائسة، لتتساءل بحيرة:
_ جدو، هو أنا قلت إيه بالضبط غير موضوع الفيديوهات؟
دخل قصي في هذه اللحظة ليسألها إذا كانت ستبيت هنا، لكن تساؤلها أوقفه وجعله يضحك.
_ أنتِ ما قلتيش حاجة خالص، أنتِ بس خليتي الراجل يطلع نار من كل مكان.
دارت سما بعينيها بينهم، فهي لم تكن تقصد السوء، حتى إنها لم تُرسل مقاطع الفيديو لـصالح.
_ يا بنتي، لسانك ده لازم يكون له حدود.
تمتم بها قصي، لكن الجد قاطعه قائلًا:
_ اللوم عليكم انتوا الاتنين، قولي يا سيادة الرائد، تقبل حد يتكلم على تفاصيل خاصة بمراتك، حتى لو من باب الهزار؟
لم يفهم قصي بالبداية كلام جده، لكن بعدما استطرد الجد بحديثه، أطرق رأسه.
_ في كلام ما ينفعش في هزار، ولا انتوا ناسيين إن بنت عمكم زوجة؟
_ جدو، بيتهيألي صالح مش راجل رجعي في تفكيره.
تمتمت بها سما وهي تمرر يدها على خصلات شعرها.
_ هو في راجل رجعي وراجل مش رجعي يا بنت مصطفى، ولا انتوا خلاص تربيتكم على المظاهر الكذابة نستكم الحدود والأصول؟
_ عندك حق يا جدو.
قالها قصي وهو يرفع رأسه وينظر إلى جده بآسف، لتخفض سما رأسها بضيق من فعلتها المتهورة.
...
_ لو دخلتي أوضتك قبل ما نتكلم، هقتحم خصوصيتك وهبطل بعد كده الزم حدودي.
قال كلامه وهو يُفلت الحقيبة الصغيرة التي كانت تضع فيها ملابسها وملابس الصغير من يده على الأرض، ثم اتجه نحو غرفة يزيد حتى يُسطحه على فراشه. حدقته زينب بنظرة طويلة، ثم زفرت أنفاسها دفعة واحدة، وعضت على شفتيها السفلية بمقت. ارتفع رنين هاتفها مرة أخرى، لكن هذه المرة برسالة تعتذر فيها سما عن سخافتها وقد وبخها جدها على فعلتها.
مسح صالح على وجه صغيره برفق عندما فتح عينيه وابتسم له.
"أنا لعبت النهارده مع ياسين وريتال وعدي، وشوفت طنط جيلان وشروق، وكمان عمو مازن، ولعبت مع عمو قصي."
تردد اسم مازن داخل رأسه، فهل كان ينقصه هذه الليلة أن يسمع اسم هذا الرجل أيضًا؟
فرك الصغير عينيه، ثم رفع جسده قليلًا حتى يستطيع أن يقص لوالده ما فعله اليوم.
"بابي، هو أنت ساكت ليه؟"
حاول صالح نفض تلك الأفكار التي اقتحمت رأسه، وابتسم وهو يداعب خصلات شعره.
"بابي، يا حبيبي، عقله مشغول في شوية حاجات. نام، وبكره تحكي لي كل حاجة."
أومأ الصغير برأسه إليه، فنهض صالح من جواره بعدما وضع الغطاء على جسده وطبع قبلة على رأسه.
"تصبح على خير."
تحرك صالح ليغلق إضاءة الغرفة وكاد أن يتجه للخارج، لكنه توقف في مكانه عندما سمع صوت ضحكات تأتي من الهاتف.
استدار بجسده نحو صغيره الذي أزاح الغطاء عنه ورفع هاتفه نحو عينيه، واندمج في مطالعة ما يشاهده.
كان يعرف صاحب الصوت تمامًا، تلك التي جعلته اليوم يكاد أن يُجن من تخيلاته وأفكاره.
اقترب من فراش صغيره ببطء مرة أخرى وجلس بجواره، لينتبه الصغير إليه قائلًا بصوت ناعس:
"شايف زوزو حلوة إزاي يا بابي؟ أنا صورتها عشان هي كانت حلوة أوي."
...
زفرت "زينب" أنفاسها بقوة، وقد طال وقت وقفتها لتتحرك نحو غرفتها حانقة.
_ أنا واقفة مستنياه ليه، أي كلام عايز يقوله يأجله لبكره.
دلفت الغرفة ثم أغلقت الباب ورائها واتجهت نحو الفراش لتجلس عليه بإرهاق وتهتف بتذمر.
_ مش قادرة احرك جسمي.
رفعت ساقيها لتتسطح بكامل جسدها على الفراش لكنها انتفضت من رقدتها عندما استمتعت إلى صوت سقوط شئ أرضًا.
تعلقت عيناها نحو باب غرفتها وظنّت أنه سيقتحم عليها الغرفة لأنها لم تنتظره لكن مع مرور الدقائق وقد ساد السكون بالخارج تأكدت بأنه تناسى الأمر.
نَفَخ "صالح" أوداجه بضيق وهو يُلملم زجاج تلك المزهرية التي سقطت أرضًا عندما اصطدم بها دون أن ينتبه.
وضعت "زينب" أذنها قُرب الباب ثم رفعت حاجبيها في دهشة عندما انغلق باب غرفته.
...
ضحك "عزيز" بقوة وهو يرى "نيرة" كلما ابتعدت عن حضنه عادت إليه لتضمه وتقبل خديه.
_ يا حبيبتي هو عمك مسافر، ده هيتجوز.
قالها "معتز" وهو يضحك مثله على فعلة زوجته.
_ ما إحنا هنسافر بعد الفرح وهو كمان هيسافر شهر العسل، خليني اشبع منه..
بعبوس قالتها "نيرة" وهي تضع رأسها على صدره ليقهقه "عزيز" ويضمها إليه.
_ سيبها يا "معتز" خليها تعمل كل اللي عايزاه..
_ حبيبي يا عمو.
هتفت بها وهي تعود إلى تقبيله ليمسح "عزيز" برفق على خدها.
_ تعالي نقعد بدل ما إحنا واقفين لأن عمك مش حاسس برجله.
مضى "عزيز" بعض الوقت برفقتها وفي داخله رغبه قوية لمعرفة تفاصيل ما حدث اليوم لكن "نيرة" أخذت تتحدث معه عن طفولتها هي وشقيقها و ذكرياتهم معًا.
_ كنتي طفله شقية أوي يا "نيرو".
تمتم بها "عزيز" وقد ضاقت حدقتي "معتز" الذي هتف بإستنكار.
_ دي مفهماني إنها كانت طفله هاديه و"سيف" هو اللي كان شقي.
ابتسم "عزيز" بحنين لينظر إليها بعدما قوست شفتيها بحركة طفوليه..
_ بالعكس "سيف" كان هادي أوي..
رمقها "معتز" بنظرة مشاكسة لترفع عينيها نحو عمها وهي ترفرف أهدابها ببراءة.
_ يا عمو أنت أكيد تقصدني أنا.
بإبتسامة واسعة غمز "عزيز" بطرف عينه إلى "معتز" الذى حدقها بنظرة مستمتعه.
_ لأ أقصد "سيف" يا حبيبتي.
....
اخذ "صالح" يدور حول نفسه داخل غرفته بدون هوادة بعدما شاهد المقطع الطويل الذي سجله صغيره وعلى ما يبدو أنها لم تنتبه عليه ولم يُخبرها "يزيد" به.
ازدرد لعابه ثم زفر أنفاسه وهو لا يُصدق إنه يقف هكذا داخل غرفته يُقاوم رغبته القوية بإقتحام غرفتها.
مشاعر عدة كانت تقتحمه، غيرة وغضب و رغبة وما أقسى أن يعيش كل تلك المشاعر دون أن يستطيع نيل أحقيته فيها..
....
جلس "عزيز" على فراشه بإنهاك ولولا تمسك "نيرة" به ليسهر معها قليلًا لكان الآن يحتضن وسادته لآخر مره وحيدًا ويغفو في سبات عميق.
ابتسامة عذبة داعبه شفتيه، فغدًا سيكون فراشه البارد دافئ وستندمج أرواحهم وأجسادهم معًا وستغزو عالمه الموحش..
مرر يديه على الفراش وقد خفق قلبه بتوق للحظة انتظرها منذ أن وقعت عيناه عليها وأبصر فيها ما فتنه وأضاع حكمته وتعنته في رفض الزواج..
اختفت ابتسامته فجأة عندما تذكر أمر صورها بحفل الحناء متنهدًا بقوه.
_ اعقل يا "عزيز" وخلي الليله دي كمان تعدي بسلام.
ثم ابتسم بمكر وهو يُحرك رأسه مستطردًا بتوعد.
_ هخليكي تطبقي قدامي كل طقوس الحنة يا "ليلى"، عشان تعرفي تهربي من مكالماتي كويس.
...
تقلبت "زينب" على الفراش ورغم تثاءبها إلا أن تزاحم الأفكار داخل رأسها جعلها لا تستطيع النوم..
دمعت عينيها وهي تتذكر شعور الألفة الذي عاشته مع عائلة "ليلى" وبسبب هذا انطلقت بسعادة بينهن وقد ظنّت أنها نسيت ممارسة الرقص الذي تجيده لكن مظاهر الفرح التي كانت تُحيطها جعلتها مبتهجة وفرحة وكأنها تعيش فرحتها المسلوبة.
اغلقت جفنيها بقوة حتى تطرد ذكرى هذا اليوم الذي مَر عليه أشهر، فــ زوجات أعمامها لم يهتموا بيوم حنتها كعروس وكانوا يرون طقوسها فارغة وتقاليد قديمة حتى تلك النظرة الجميلة التي رأتها بأعيُن "عايدة" زوجة عم "ليلى" لم تراها في أعينهن.
خرجت شهقاتها بصوت مسموع وأخذت تبكي بمرارة تتساءَل للمرة التي لا تعلم عددها لِما لا أحد يُحبها سوى جدها، ما الذي فعلته لعائلة والدها لتكون منبوذة بينهم...
...
مرر "صالح" أصابعه على خُصلات شعره حتى كاد أن يقتلعها.
_ كفاية لحد كده... لازم نحط حدود للمهزلة دي.
تمتم بها وهو يندفع نحو غرفتها بعدما فقد صبره ليفتح الباب دون طرقه.
تسمر في مكانه وقد ألجمته صدمة رؤيتها وهي تُحاول إلتقاط أنفاسها.
انتشل نفسه من صدمته وأسرع إليها يتساءَل بلهفة وخوف.
_ "زينب" فيكي إيه؟ إيه اللي حصلك؟؟.
شعر بالضياع ونسى كل ما يعرفه من معلومات عن أمور نوبات الهلع.
_ خدي نفسك براحة، ايوه كده..براحة تمام... اهدي.
اتبعت ما يُخبرها به؛ فاستمر هو بتحريك يده على ظهرها برفق حتى تمكنت أخيرًا من إلتقاط أنفاسها ومَازالت عيناها عالقة به.
_ تحبى نروح المستشفى؟
هزت رأسها رافضه ونظرت نحو الكومود تبحث عن كوب ماء، فانتفض من جانبها وأسرع بخُطواته نحو المطبخ ليجلب لها الماء.
مدّت يدها له حتى تلتقط الكوب منه لكنه رفض قائلًا:
_ خليني اساعدك يا "زينب".
تركته يُساعدها وقد عاد القلق يحتل ملامح وجهه عندما رأي أثر الدموع على خديها.
_ أنتِ كنتي بتعيطي؟؟
تحاشت النظر إليه، وبصوت متحشرج هتفت قبل أن تنزاح بجسدها نحو طرف الفراش:
_ أنا عايزة أنام.
هروبها بالنوم عادة صار يعرفها، ولن يتركها الليلة تستسلم لتلك العادة.
_ مش هتنامي يا زينب، ومش هخرج من هنا غير لما أعرف سبب انهيارك كده.
سحبت الغطاء الخفيف عليها وأغلقت عينيها.
_ لو سمحت، أنا عايزة أنام.
_ خلاص، وأنا كمان هنام جانبك، ونأجل كلامنا لبكره لأن في كلام كتير لازم نتكلم فيه.
قالها وهو يتمدد جوارها، وقد ظنت كلامه مجرد هراء.
_ أنا مش عايزة أتكلم في حاجة.
فتحت عيناها فجأة، وأصاب جسدها رجفة قوية عندما نفذ كلامه، بل ووجدته يلصقها بصدره.
_ لكن أنا عايز أتكلم، وعايز أقولك حاجات كتير.
تعالت أنفاسها بوتيرة عالية، وحاولت سحب جسدها، لكنه شتت انتباهها عندما دفن وجهه في تجويف عنقها.
_ مبستلطفش ابن عمك ولا الدكتور اللي بسببك بفكر أنقل يزيد من المدرسة عشان أقطع علاقة ابني مع ابنه.
وبصوت متهدج واصل كلامه.
_ مقطع فيديو كان مجرد ثوانٍ حرك جوايا حاجات كتير، فتخيلي أشوف مقطع فيديو تاني ليكي ربع ساعة... عايزة تعملي فيا إيه يا زينب؟
خرج صوتها بصعوبة بعدما قاومت ذلك الشعور الذي حركه لديها، وهي كانت بحاجته الليلة لضعفها.
_ فيديو إيه، سما ما بعتتش حاجة؟
فك حصار ذراعه عن خصرها ليُحركها تجاهه وينظر إليها.
_ عايزاني أعتذر منك كام مرة؟ قوليلي يا زينب وريحي قلبي.
انسابت دموعها، فهي اليوم لا قدرة لها على جداله. أزعجه عودتها للبكاء ليخرج صوته بتقطع.
_ أنا آسف.
قالها لمرات وترك شفتيه تتحرك بخفة على طول عنقها وتعرف طريقها نحو المزيد.
اجتاحها بمشاعر أعمق جديدة عليها حتى وصل معها لطريق لا عودة فيه، لينظر إليها بنظرة منتشية وأنفاس لاهثة عندما رآها تفتح عينيها.
...
انتفض عزيز بفزع من غفوته لينظر حوله متمتمًا بلهاث.
_ روحت فين يا سالم؟
مد يده جواره حتى يفتح الإضاءة الخافتة بالغرفة، ثم التقط كوب الماء وارتشف منه القليل.
_ ليه جتلي الليلة دي يا سالم، ليه يا أخويا... عايز تقولي إيه؟
مسح وجهه وأخذ يستغفر من وسوسة الشيطان، لكن صوت شقيقه في ليلة وفاته قبل أن يُغادر المنزل عاد ليتردد داخل رأسه.
حاول نفض رأسه من ذكرى تلك الليلة، لكنها تجسدت أمامه وكأنها كانت بالأمس.
فلاش باك!!
لقد اعتاد وهو ووالده على شجار أخيه وزوجته مؤخرًا، لينهض والده من جواره.
_ أنا رايح أوضتي أنام يا بني.
ابتسم عزيز لوالده وقال:
_ تصبح على خير يا حاج رياض.
تحرك والده متجهًا نحو غرفته بالطابق الأرضي، وهو يتمتم بالدعاء لزوجة ولده بالهداية والصلاح.
توقف شجار أخيه وزوجته، ليتنهد عزيز ويكمل متابعة التلفاز.
نصف ساعة مرت وانتهى عرض الفيلم الذي يتابعه عزيز، وفيه أغلق عزيز التلفاز ثم نهض ليتجه نحو غرفته بالأعلى.
خرج سالم من غرفته وهو يلعن باليوم الذي تزوج به ويتمم بكلام آخر.
شعر عزيز بالفزع من هيئة شقيقه وهو يهبط الدرج بخطوات سريعة ويغلق أزرار قميصه.
_ مالك يا سالم، فيك إيه؟
_ مافيش يا عزيز.
قالها سالم وهو يتحاشى النظر إليه... ليقف عزيز مكانه مندهشًا من مغادرته بتلك السرعة.
وضع عزيز برأسه أسفل صنبور المياه بعدما فاق من تلك الذكرى البعيدة وقد ارتسم الجمود والحقد على ملامحه... فلم يُغادر شقيقه تلك الليلة بهذه السرعة إلا ليذهب إلى صيدلية صديق له حتى يعطيه تلك الحبوب المنشطة.
ومثلما رددها اليوم، رددها الآن.
_ ليلى مش سمية يا عزيز، ولا عمرها هتكون شبهها.
.....
تملَّكت الصدمة من صالح عندما وجدها تدفعه عنها بكل قوتها. التقطت ملابسها لتستر جسدها عن نظراته الخاوية، ففعلتها أصابته بالذهول... فكيف لها أن تجعله يصل معها إلى تلك المتعة، ثم بعدها تلقيه من أعلى الهاوية.
_ "مش قادرة أنسى، ولا عارفة أنسى... أني كنت مجرد لعبة اشتريتوها، تاخدوا البنت اليتيمة المنبوذة لأنها عمرها ما هتتكلم وهتستنا إنكم تتفضلوا عليها بعيشتها معاكم."
توقفت عن الكلام عندما وجدته ينسحب من الغرفة بصمت.
لم تمر سوى دقيقة واحدة لتسمع صوت تهشم زجاج مرآة غرفته.
---
لا تعرف كم مر من الوقت وهي تحدق في سقف الغرفة، لتنظر إليه ثم مدت يدها حتى توقظه.
_ "سيف، استيقظ."
فتح عينيه بصعوبة وهو يقاوم نعاسه ليتساءل.
_ "عايزة إيه، كارولين؟"
اقتربت منه ووضعت يدها على صدره تُخبره بحاجتها، التي فهمها من اقترابها منه ونبرة صوتها.
_ "أنا بحاجة إليك، سيف."
احتقنت ملامح سيف وأزاح يدها عن صدره ثم استدار بجسده عنها متأففًا.
_ "أنتِ ما بتفكريش في علاقتنا غير بكده، ده أنتِ ولا حتى سألتي عن رحلة شغلي..."
_ "أنت لم تعد تحبني، سيف."
تجمدت ملامح وجهه عندما انبثق الكلام المتقطع من شفتيها.
_ "أنا فعلت مثل الفتيات من أجلك، لكنك لم تنتبه إلى ما فعلته."
ثم وكزته في ظهره بخفة قائلة:
_ "انظر ماذا فعلت من أجلك، انظر إلى سيف."
اعتدل سيف في نومه والتف إليها ليجدها تعطيه ظهرها حتى يظهر له ما رسمته من أجله كالبقية.
تنهد بقوة ثم اقترب منها بأسف، يلثم عنقها بقبلات متفرقة جعلتها تغمض عينيها منتظرة منه المزيد.
_ "آسف يا حبيبتي، بس أنا حقيقي مُرهق النهاردة... اليوم كان طويل ومتعب."
ابتعد عنها ثم رفع لها طرفي ثوبها لتفتح عينيها؛ فوجدته يمسح على خصلات شعرها.
_ "خلينا ننام يا حبيبتي."
اجتذبها لتنام على صدره، لترفع رأسها إليه وهي تبتلع ريقها.
_ "أنت ستنام، سيف؟"
ابتسم لها ثم أغلق جفنيه متمتمًا وهو يحيطها بذراعه.
_ "قدامنا ليالي كتير، يا كارولين."
حدقت فيه بنظرة باهتة عندما وجدته يتركها ويغفو ثانيةً. بعد وقت كان يرخي ذراعه عنها، فنظرت إليه ونهضت من جواره.
التقطت مئزرها حتى ترتديه على قميصها القصير، ثم اتجهت نحو الشرفة لتقف داخلها وتستمتع بساعات الصباح الأولى.
أرخت رأسها للوراء لتتمكن من رؤية السماء وقد بدأت خيوط الضوء تظهر، ثم سحبت نفسًا عميقًا واقتربت من سياج الشرفة تستند عليه. دقائق مرت وهي على وقفتها تلك إلى أن اتجهت بعينيها نحو الحديقة، فقامت بتقطيب حاجبيها بحيرة عندما أبصرت عزيز جالسًا بالأسفل. التصقت بسور الشرفة حتى تستطيع رؤيته بوضوح أكثر، وسرعان ما كانت تضيق حدقتاها وهي تراه يستند برأسه على ظهر المقعد الجالس عليه ويغلق عينيه.
تسارعت أنفاسها عندما تحركت عيناها على ملامحه التي تضج بالرجولة كجسده، لتتراجع بخطواتها إلى الوراء، ثم رفعت يدها تحركها على عنقها وقد عادت تنسج خيالها معه.
...
نهضت زينب بصعوبة من على أرضية الغرفة التي غفت عليها، ليخرج أنين قوي من شفتيها من ألم ظهرها ورقبتها.
_ هو أنا نمت إزاي على الأرض من غير ما أحس؟
تحركت نحو الفراش الغير المرتب الذي شهد على لقائهما الحميمي العاصف ولم يكتمل، لتزفر أنفاسها وهي تنفض رأسها رافضة تذكر ما حدث.
وضعت وجهها بين كفوف يديها وهي لا تُصدق أنها ضعفت أمامه، بل وأظهرت له حاجتها وتجاوبت معه. ولولا تدفق ذكريات ليلة زفافها والحقائق التي اكتشفتها وراء هذا الزواج الذي تم سريعًا، لكانت انجرفت معه لمشاعر كانت تتمناها معه، لكنه قتلها داخلها حين نبذها كعروس.
شعرت بتشنج عضلات جسدها، فمررت كف يدها على عنقها المتشنج.
_ آه، جسمي كله وجعني.
تحركت بخطوات بطيئة نحو الحمام، لعل دفء المياه يريح جسدها وتستطيع بدء هذا الصباح بنفس روح الأيام الماضية التي رممت فيها نفسها.
_ غبية يا زينب، غبية.
هذا ما أخبرت به نفسها وهي أسفل مِرشّ مياه كابينة الاستحمام.
خرجت من الحمام بفزع بعدما استمعت لصوت بكاء يزيد.
_ دم يا زوزو، دم في أوضة بابي.
لا تعرف كيف ربطت حزام مئزرها بيديها المرتعشتين ولا كيف وصلت لحجرته، لتجد قطرات الدماء على الأرضية وزجاج المرآة المحطمة متناثرًا بقطع صغيرة.
_ بابي يا زوزو، بابي فين؟
استمر الصغير في البكاء، وأمسك بطرف مئزرها، وجسده يرتجف خوفًا.
أفزعها مظهر الصغير، فجلست على ركبتها أرضًا وهي تحاول استيعاب ما تراه.
_ بابي كويس يا يزيد، تعالَ نكلمه في التليفون... هو بس اتعور تعويرة صغيرة من الإزاز.
هزّ الصغير رأسه رافضًا ما تخبره به.
_ أنا عايز بابي.
قضت ساعتين في محاولات يائسة مع يزيد ليكف عن البكاء، وقد حاولت عدة مرات مهاتفته، لكن الهاتف مُغلق، إلى أن قررت أن تُهاتف حورية، لعلها تستطيع الوصول إليه.
ردت عليها حورية بصوت فرح، وقد ظنت أن بعد مقطع الفيديو أمس ورؤيتها لزينب بهذا الانطلاق سيعود بنتيجة على ابنها ويقضي ليلته في أحضان زوجته.
_ صباح الخير على عيون مرات ابني الجميلة... كنتِ زي القمر يا حبيبتي امبارح.
تنهدت زينب ونظرت إلى يزيد الذي وقف قربها بترقب ، لتختفي سعادة حورية.
_ طنط حورية، تليفون صالح مقفول ويزيد بيعيط وأنا مش عارفة أوصله.
بعد ساعة من بكاء يزيد وانتظار مكالمة من حماتها لتطمئنها، صدح رنين هاتفها برقمه، عادت الدماء إلى وجهها وفتحت المكالمة سريعًا، تهتف بلهفة:
_ صالح، أنت فين؟ والدم اللي في الأوضة كان من إيه؟ أنت كويس؟
أغمض عينيه بقوة وهو يتحرك داخل غرفة مكتبه بمبنى شركة الطيران؛ فهي صارت داءه ودواءه.
سمعت صوت أنفاسه الهادرة، لكنه لم يتحدث بكلمة، فطرقت رأسها بمرارة.
_ أنت مش عايز تكلمني؟
_ خليني أكلم الولد عشان يطمن ويبطل بكا.
خانتها دمعة غادرت مقلتيها، فمسحتها سريعًا وأعطت الهاتف للصغير الذي التقطه منها بلهفة.
أنهى صالح مكالمته مع صغيره بعدما وعده أنه فور أن ينهي عمله سيأتي إليه ليطمئنه أنه بخير.
اقترب من طاولة مكتبه وقد عاد إليه شعور الاختناق الذي مزقه ليلة أمس. وقعت عيناه على كف يده ، ليزفر أنفاسه بحُرقة؛ لقد ذاق نفس الشعور الذي أذاقه لها... ذاق مرارة الرفض بعدما كان يُحلق معها عاليًا.
ضرب طاولة مكتبه بكف يده الجريحة، متمتمًا بصوت مخنوق:
_ قولي لي أعمل إيه عشان تسامحيني، لو قادر أحررك من جوازنا كنت عملت كده.
...
وقفت ليلى أمام المرآة منبهرة بهيئتها بعدما انتهت المتخصصة من وضع زينة وجهها.
_ طالعة جميلة أوي يا ليلى.
قالتها شهد، واقتربت منها عايدة لتحتضنها.
_ قمر يا حبيبتي ما شاء الله عليكي.
_ لا تبكوا جاي لا أبكي معكن.
تمتمت بها نارفين، لكنها بكت مثل عايدة، فهتفت شهد بتذمر عليهن:
_ ليلى على فكرة هتتجوز، مش مهاجرة هي.
ضحكت ليلى على مشاغبة ابنة عمها.
_ قولي لهم يا شوشو عشان أنا خلاص هعيط.
أسرعت عايدة بمسح دموعها قائلة:
_ لأ، عياط إيه؟ ربنا يهنيكي يا حبيبتي ويسعدك.
عادوا إلى بهجة الفرح مرة أخرى، لكن من وقت لآخر كان هناك شعور يخترق قلب ليلى؛ إنها تخشى القادم وتخاف من دخول قصر عزيز كعروس بعدما دخلت إليه لأول مرة وهي تبحث عن عمها السائق.
...
جهزت زينب نفسها والصغير، وانتظروا قدومه للذهاب لحفل العرس.
أخذت تنظر للوقت في شاشة هاتفها، وكلما دفعها شيء لمهاتفته تراجعت.
_ خلينا نكلم بابي يا زوزو.
قالها الصغير ثم أسرع لغرفته ليبحث عن هاتفه أمام نظراتها الحزينة.
ارتفع رنين هاتفها برقم الجد، فابتلعت ريقها وردت، وعيناها عالقة نحو باب الشقة.
_ إيه يا زوزو اتأخرتي كده ليه؟ عايزة ليلى تزعل مننا... فين صالح؟ خليني استعجله.
خفضت رأسها وشعرت برغبة قوية في البكاء.
_ زوزو، أنتِ سمعاني؟
قاومت شعور الخزي الذي تملكها منذ مكالمتها معه بالظهيرة، وقد أتى الصغير إليها راكضًا بهاتفه.
انفتح باب الشقة، ليلتف يزيد بجسده ثم ركض نحو والده. أغلقت زينب عينيها وقد خرجت نبرة صوتها براحة.
_ صالح، هيلبس بسرعة ونيجي يا جدو.
ورغم ما مر به طيلة اليوم ووجع الأمس، إلا أن رؤيتها تقف بذلك الثوب الذي يشبه لون النبيذ وتلك الابتسامة الجميلة التي انفرج بها ثغرها مع لون طلاء الشفاه الهادئ، جعل قلبه يعود للخفقان.
_ إيدك متعورة يا بابي؟ بتوجعك؟
صوت الصغير اجتذب انتباهه؛ فابتسم وهو يضعه أرضًا، وقد تعلقت عيناها بقلق نحو يده.
_ لأ يا حبيبي، مش بتوجع، لأن طلع في حاجات بتوجع أكتر.
زم الصغير شفتيه، فهو لم يفهم كلامه، لكنها فهمت ما يرمي إليه.
_ أنا مش فاهمك يا بابي.
داعب صالح خصلات شعره، لتهرب بعينيها بعيدًا عنه.
_ ربع ساعة وأكون جاهز.
قالها، ثم تحرك من أمامها خطوتين، لكنه توقف مكانه لتنظر إليه؛ فاستدار بجسده وسرعان ما كان يبتسم عندما هربت بعينيها بعيدًا عنه.
_ طالعة جميلة.
وليته أشبعها من هذا الحنان من قبل، لكان الآن غارقًا في نعيمها.
...
وقفت سمية أمام المرآة تُلقي نظرة أخيرة على مظهرها. ابتسمت وهي تُحرك يدها على أحمر الشفاه الصارخ الذي تضعه وقد لمع الحقد بعينيها.
_ هزرع الشك جوه قلبك يا عزيز.
وصل حقدها لأعلى درجاته لأنها علمت اليوم من ابنتها أنه لا يُريد حضورها عُرسه ولا يريد رؤيتها في منزله.
...
خفق قلب عزيز بتوق وهو يراها تهبط الدرج في قاعة الفندق الذي يُقام به العرس وقد تأبطت ذراع عمها.
لم تكن تشعر بساقيها من شدة الخجل، فبعد لحظات ستدخل معه قاعة العُرس وتنتقل نحوها جميع الأعين.
_ بسلمك قطعة من قلبي، خلي بالك منها.
قالها عزيز -العم- وقد ترقرقت الدموع في عينيه. التقط عزيز يدها، ثم رفعها نحو شفتيه ليُقبلها بقبلة أرجفت جسدها.
_ اطمن يا عزيز.
...
التقط صالح نظرتها الحزينة وهي تُحدق برقصة العروسين وملامح وجهيهما التي تشع حبًا ولهفة، ليطرق رأسه بندم. كان الجد يجلس جانبهم وهو سعيد، ثم التقط يد زينب قائلاً بشوق وانتظار لتلك اللحظة:
_ عايز أشوف حفيد منكم يا زوزو.
ورغم أصوات الموسيقى، إلا أن صوت الجد اخترق أذني صالح لتتلاقى عيناه بعينيها.