رواية وريث آل نصران الجزء الثاني الفصل الواحد والستون 61 بقلم فاطمه عبد المنعم

 




 رواية وريث آل نصران الجزء الثاني الفصل الواحد والستون 61 بقلم فاطمه عبد المنعم


عيناي كانت تصبو لساكن تكن مأواه

و غفلة ساكن الحي يبدو أنها لم تعد هنا يا قلبي المغذب. 


الأصعب من الخسارة، هو الشعور بضياع الفرص، بأن الوقت قد انتهى، كذلك كان يشعر وهو يقود سيارته عبر الطريق الصحراوي متجها إلى القاهرة، وقد غادر "الاسكندرية" ولم يفعل سوى مكالمة واحده أعطى فيها كلمات مختصرة لوالده توحي بأنه عرف الطريق إليها وسيأتي بها. 

محاولات متكررة للاتصال بصديقه ولكن الإجابة واحده _غير موجود بالخدمة_ ، انفعل وظهر هذا في صيحته المنفعلة:

يوه


ألقى الهاتف بغضب وتابع الطريق بكل سرعته إليها، إلى حيث طُلِب منه أن يأتي... بينما في نفس التوقيت 

كانت هي تتأمل الظلام حولها بخوف، حتى الصراخ مُنِعت عنه بسبب ما وضعوه على فمها، مكبلة جوار الأحجار على الأرضية ولا تستطيع التحرك، يختلف الخوف كثيرا في ما عاشته، دائما ما تحدث الكوارث في الهواء الطلق، يحدث ما يخيفها في الطرق المهجورة وفي الليالي المظلمة حيث لا يوجد أحد سواها، لا تخشى الغرف المظلمة صارت تخشى طرق المدينة بكل فيها، المدينة التى ترى أنها لم تعد تحبها أبدا..... كان "صاوي" جالسا في إحدى الغرف القريبة من المكان، يراقب عن طريق شاشة هاتفه كل ما يحدث، هتف بشفقة متصنعة:

لو طلع بيحبك، هيبقى خسارة اللي هيجرالك فعلا. 


أصدر أوامره برسالة نصية إلى أحد الواقفين معها، والذي طالع هاتفه ثم اقترب منها يزيل الموضوع على فمها محذرا:

احنا في حته مقطوعه، لو صوتي هتتدفني هنا ومحدش هيلحقك، خليكي عاقلة كده كده مفيش حد هيرد عليكي غير صدا صوتك. 


طالعت الكاميرا المثبتة على حامل والموضوعة أمامها وهي تمسح دموعها ثم استدارت لهذا الذي ألقى عليها أوامره وهي ترمقه والأربعة الذين معه بشراسة جعلت من يتابع في غرفته الخاصة يضحك ساخرا، اقترب منها أحدهم بزجاجة مياه قائلا:

هتشربي؟ 


لم تم تكبيل ذراعيها وساقيها فكيف تستطيع الإمساك بها، هذا أول ما بدر إلى ذهنها، وسريعا ما نقضته بذعر حين وجدت محدثها يقرب الزجاجة من فمها، وفي عينيه الإصرار على أن تشرب منها فدفعتها برأسها صارخة:

مش عايزة، هو بالعافية.


طالعها بغضب وأتته رسالة من رب عمله في اللحظة ذاتها، طالع الهاتف يقرأ بتشفي:

متاخدش نقطة مايه، طالما مرضيتش تشرب. 


ألقى بالزجاجة بعيدا، واقترب منها يكمم فمها من جديد على الرغم من اعتراضها وثورتها الواهية أمامهم، طالعتهم بقهر، وقد زادت الدموع المتكونة في عينيها، شعر "صاوي" بالإشفاق، هو في النهاية أب، رأى فيها ابنته ولكنه في اللحظة ذاتها تذكر عجز ابنته، العجز الذي كان سببا رئيسيا فيه من تهمه هذه الفتاة المكبلة، لذلك تزايدت حمم غضبه، وزاد الشعور بالنشوة وهو يتخيل حالة غريمه حين يذيقه العذاب في أحبته.


طالع الشاشة من جديد فوجد رأسها تميل على كتفها، ونحيبها يزداد، ولكنه أبعد عن ناظريه أن من أمامه فتاة بريئة لا ذنب لها، يجب أن يقتل كل ذرة شفقة لديه في هذه التجربة المصغرة لأن لحظة الضربة الموجعه سينفذ فقط.


نظر في ساعته ثم أعطى أوامره من جديد؛ لذلك اتجه رجاله نحوها، يحلون وثاقها، تحفزت كليا حين لاحظت أن بيد أحدهم مادة سيحقنها بها، أجبرها أحدهم على الوقوف وتأوهت هي من ألم ساقها التي فارقت التكبيل قبل لحظات، كان مقيدها يتحدث مع الآخرين ويده تقبض جيدا على معصمها، فتنفست بعمق، ولا تعلم من أين أتت لها القوة لتسحب يدها على حين غرة وتهرول، هرولت بكل ما امتلكت من قوة، ولكن قدمها خذلتها وكذلك هم فلقد لحقوا بها مما أدى إلى تعركلها وسقوطها، ما إن أمسكوا بها حتى وجدوا أن هناك دماء على جبهتها لم تتضح إلا بعد أن أزالت يدها من على رأسها وهي تتأوه عاليا. 

لقد أوشك على الوصول، أدرك "صاوي" هذا مما جعله يقول بتعنيف في رسالته لرجاله:

امسكوا البت كويس، غفلت خمسه زيكم وطلعت تجري.... نفذوا اللي اتفقنا عليه يلا.


اقترب أحدهم منها، ينزع الخاتم الذي ترتديه بعنف وسط صراخها واعتراضها، ناوله لزميله ليضمه إلى هاتفها، مما جعلها تقول برجاء:

أنتوا خدتوا كل اللي معايا، والله ما معايا حاجه تانية... بالله عليكم سيبوني امشي.


لم يرد عليها أحد وكأنها لا تتحدث فسبتهم وبصقت على الذي يجذبها من ذراعها ويجبرها على السير لمغادرة هذا المكان تماما.


**********************************


مرات قليلة التي تستسلم فيها للبكاء أمام العامة، منهم هذه المره

حيث جلست "شهد" تبكي جوار "مريم" ووالدتها في منزل "نصران"، هي اخر من رأتها، تشعر بندم شديد لتركها والذهاب مع "طاهر"، تخشى حدوث مكروه خصوصا بعد أن شاهدت تفريغ الكاميرات الذي أتى به "نصران"، رأت بعينيها شقيقتها وهي يتم أخذها بالإجبار.

تحدثت "مريم" بخوف لنصران الذي لا يكف عن المحاولة منذ اللحظة الأولى:

عمو ممكن تتصل على عيسى تاني؟


_ الله، ما قولنا مبيردش، والمره اللي رد فيها قال اتطمنوا هنعمل ايه تاني؟

كان هذا حديث "سهام" المتذمر والذي قابلته "هادية" بشراسة وغضب:

اسمعي يا ست أنتِ، أنا الهدوم اللي عليا دي مش طايقاها، فمتفتكريش اني هطيقك انتِ، ولا هطيق كلامك اللي زي السم ده، عندك كلمه حلوه قوليها، معندكيش متسمعيناش صوتك الله يكرمك.


طالعت "سهام" زوجها بغضب شديد وهي تهتف بانفعال:

عاجبك كده يا نصران؟، ولما ارد عليها دلوقتي؟... شايف العمايل دي كلمة شكرا على عيسى اللي متمرمط يدور على بنتها اللي ضيعتها، ولا عيالي الاتنين اللي خرجوا يلفوا عليها في كل حته ويسألوا هنا وهنا.


وقف "نصران" وقد وصل انزعاجه منهم جميعا إلى الذروة وخاصة ابنه الذي لا يجيب مما دفع شقيقاه لمحاولة تحديد مكانه واللحاق به حتى يكونا معه، كل هذا دفعه للنطق بحزم:

"عيسى" خرج يدور على مراته يا "سهام"، و "حسن" و"طاهر" خرجوا يدوروا على مرات اخوهم، وحتى لو واحده ملناش صلة بيها وقاعده في البلد هنا يدوروا برضو علشان حماية اهل البلد دي واجبة عليا، حتى لو اللي خدهم خدهم وهما براها، عيالك رجالة بيعملوا الأصول، مش بيتفضلوا بحاجه علشان نشكرهم.


هتفت "شهد" وهي تطالعها باشمئزاز من أفعالها:

هنبقى نبوس رجلهم لما يرجعوها... علشان تبقي راضية عن....


_ بس يا "شهد".

لم يكن سوى صوت "نصران"، هذه اللهجة الحادة والعنف في الحديث يتعرضوا له للمرة الأولى في بيته منه وليسوا هم وحدهم بل زوجته أيضا التي استدار لها يقول:

كلمه كمان يا "سهام" وهعتبرك بتكسري كلمتي، وأنتِ عارفه إن دي عندي كبيرة أوي، وليها حساب وحش.


تبع حديثه بالنداء على "تيسير" التي حضرت مسرعه وهي تقول:

نعم يا حاج.


_ خدي الست "هاديه" و "سهام" والبنات وقعديهم في الأوضة اللي جنب أوضة الست "ميرڨت" ومحدش يطلع صوت علشان متصحاش وتعرف حاجه وتقلق، وهي أصلا تعبانه، توجه بحديثه إليهن مضيفا:

 أنا مش عايز أشوف ولا أسمع صوت حد، لغاية ما " ملك" ترجع.

طالعته "سهام" باستنكار لما يقوله، وكذلك نطقت "هادية":

أنا همشي من هنا، بنتي هستناها برا.


اصطحبت ابنتيها وقبل وصولها للبوابة وصلها قول "نصران" الجامد:

لو طلعتي من البيت ده، انسي ان بنتك ترجع بيتك تاني،

لو خرجتي بنتك مش هتخرج من هنا لحظة بعد رجوعها 


هتفت وهي تستدير له بنبرة متهكمة:

وده ليه إن شاء الله؟


قال ببساطة شديدة:

بيت جوزها.


اقتربت لتقف أمامه وأمام زوجته سائلة:

ده تهديد بقى؟... ولا تكونوا أنتوا اللي خاطفين البت علشان تعملوا الفيلم ده كله؟


رد على سؤالها بما جعلها تتوقف عن متابعة اتهامها له:

وهنخطفها ليه؟

لم يكن يعلم بمقصدها، تقصد شجارها مع ابنه وقرارها بانفصاله النهائي عن ابنتها، وقبل أن تتفوه بكلمة أخرى هتف:

كلمة الحاج "نصران" مبتتقالش مرتين، هتستني بنتك هنا، ولا برا يا هادية، وفكري في الكلمه قبل ما تقوليها. 


لم ترد، بقت ترمقه بانفعال صامته مما جعله يقول:

يبقى هتستنيها هنا. 

أشار لتيسير متابعا:

يلا يا "تيسير" اعملي اللي قولتلك عليه. 


بالفعل اخذتهم "تيسير"، وانصرف الجميع ولم يتبق سواه، أخرج هاتفه ليجري اتصاله بطاهر متمتما بضجر وأعصاب قد تلفت على المفقودة:

أنا ناقص شغل الستات ده كمان. 


**************************************


فى منزل "منصور" وتحديدا في الغرفة المخصصة للضيوف والتي تقبع بها "بيريهان" فترة مكوثها هنا، دخلت "ندى" بالحامل وقد رصت عليه الطعام بعناية ثم طالعت ابنة عمها وهي تقول برجاء:

اتعشي بقى علشان خاطري، هيبقى لا فطار ولا غدا ولا عشا؟ 


مسحت "بيريهان" دموعها فاقتربت ندى ووضعت الحامل على الفراش ثم جلست أمامها تسألها بحزن:

مالك يا" بيري" بس؟... من يوم العزومة عند" شاكر" وأنتِ كده، قوليلي بس حد عملك حاجه هناك؟ 


هتفت بضجر بعد ما وجدت أن الرد لا شيء من ابنة عمها:

لا بقى يا بيري، لازم تتكلمي، مش معقول هتفضلي ساكته كده، ده انا قولت الزيارة اللي عملها بابا وعمو سليمان وباباكي لهنا هتفرفشني شويه.... تقومي تكتأبي كده، وكمان أنا لابسه في "ميار" بنت عمك سليمان ليل نهار، وأنتِ عارفه "ميار" لا تطاق ازاي. 


لم تبتسم إلا هنا فبادلتها "ندى" الابتسام وهي تحثها:

احكيلي بقى مالك.


بدأت تقص عليها كل ما تم سرده، حاله من الصدمة انتابت "ندى" التي ما إن انتهت "بيريهان" حتى هتفت باستنكار:

يعني البت اللي "عيسى" هيتجوزها دي، ضاحكة هي وامها عليه وعلى ابوه علشان فلوسهم. 


تابعت تؤكد لنفسها ظنونها:

أيوه كده أنا صح، "عيسى" هيتجوزها علشان الفيلم اللي رسمته عليهم، على أساس أمانة أخوه اللي لازم يشيلها في عينه.... صاحت بغير تصديق:

ازاي تعمل كده أصلا... ازاي بعد كل اللي ابن عمها عمله معاها تورطه التوريطه دي وتتبلى عليه كمان... وياريتها وقفت على كده دي اتسببت في قتل أبوه. 

أضافت "ندى" بتذكر:

وشهد اختها دي، أنا شوفتها النهارده خدي بالك في مطعم كانت مع طاهر، دول عاملين عصابة كل واحده تلف على واحد... الأشكال دي يطلع منها كده فعلا. 


نطقت "بيريهان" بضياع:

أنا مش عارفه أعمل إيه يا "ندى"....أنا بحب "شاكر" بس 


قاطعتها "ندى" سريعا موبخة:

من غير بس يا بيري، من غير بس... أوعي تكرري غلطتي، لو بتحبيه أوعي تسيبيه أبدا. 


_يعنى اتصل بيه، واقوله اني موافقة بيه وبظروفه؟ 

كان هذا سؤال "بيريهان" المتوجس والذي أتى الرد عليه في اللحظة ذاتها:

اوعي تترددي لحظة تعملي ده. 


كانت تحتاج لدفعة، والآن أتت لها من ابنة عمها وصديقتها المقربة، مسحت "بيريهان" دموعها وهي تقول:

سيبك مني، ردي انتِ على سؤالي بقى اللى بقاله قرن أنتِ ايه رجعك لجابر تاني؟


هي الوحيدة التي تستطيع مصارحتها لذلك قالت بألم:

جابر وأبوه مداينين بابا بفلوس كتير أوي، فلوس أنا متأكده إن بابا ميقدرش يسددها في الوقت الحالي، جابر ساومني يا بابا يتحبس يا ارجع معاه، علشان كده رجعت. 


شهقت "بيريهان" بصدمة، في حين شردت "ندى" فيما فعلته قبل قليل، حين استغلت كوب قهوته ودست له فيه حبوب ستؤدي غرضها جيدا، بعد دقائق سيرى الجميع.... والده وأعمامها ووالدها الذين استضافهم، سيروا حالته السيئة، وكم أنها تتحمل مع شخص أتلف حياته بما يتعاطاه، ستكفي بالغرض، 

_حبوب الهلوسة _ هذه َكافية جدا، هذه المره الأولى ستكررها ثانية وثالثة في وجود أهلها حتى يتيقن الجميع أن حياتها معه ليست إلا معاناة.


★***★***★***★***★***★***★***★


وصل أخيرا إلى المكان، الضوء في كل هذه العتمة لا يكون شيء سواها لذا نطق باسمها مناديا بأعلى صوته:

يا "ملك".

دار حول نفسه، وعيناه لا تكف عن الدوران هنا وهناك في هذا الظلام الكالح، والمكان الخالي من جميع الأصوات عدا صوته وصداه. 


لمح حجابها ملقى في إحدى الزوايا، نعم إنه نفسه الذي شاهده في المقطع المصور... هرول نحوه ورفعه بين يديه فانكمش حاجبيه بغير تصديق وهو يرى قطرات من الدماء متناثرة عليه. 

ثارت ثورته، وظهر هذا جليا على وجهه الذي أصبح كتلة لهب مشتعلة وهو يصرخ مكررا النداء، ولا يريد تصديق أن أي مكروه حدث لها:

يا " ملك".


بوادر حالته الآن، لا يريد هذا أبدا، حتى يستطيع البحث عنها بهدوء، وضع يده على جبهته، وتجمعت الدموع في عينيه وهو يصور الآن أكثر السيناريوهات بشاعة في رأسه، فلقد اعتاد دائما أن الأسوء قادم لا محال، ولكن في بعض الحالات لا يجب أن يأتي أبدا. 


ابتسم "صاوي" بتشفي وهو يشاهده هكذا، لم يعد هناك من يصور له عن قرب الآن، القائم بالمهمة يصور له من بعيد حتى لا يُكتشف أمره... ضحك ساخرا وهو يقول:

لا واضح إنك واخدها عن حب، وإن الاختيار هيقع عليها. 


أخرج "عيسى" هاتفه مسرعا، يرسل إلى الحساب المزيف الذي راسله على تطبيق المحادثات (Messenger ) ويده تهرول ناحية التسجيل الصوتي:

أنا قولتلك عايزني هجيلك، وهي برا اللعبة. 


_ بتحبها؟ 

أتته الإجابة في سؤال، سؤال كتبه "صاوي" الذي يحدثه مما جعل "عيسى" يصيح في رسالته الصوتيه:

ما تخلص يلا، هو برنامج أسامة منير يا روح أمك.... "ملك" تظهر دلوقتي، وأنا قدامك اهو.... أنا عارف انها كويسه وانك بتلاعبني. 


كتب "صاوي" بتشفي وهو يرى حالة هياجه هذه:

علشان قلة أدبك دي، اعتبر الدم اللي لاقيته على طرحتها اخر حاجه فاضلة منها، ده دمها، لو بتحبها هتحس. 


_ يا ابن ال***

هتف بها "عيسى" وهو يضرب على رأسه وقد أوشك الانفعال المرضي على التمكن منه، وهو يحاول جاهدا السيطرة عليه، وصلت له رسالة جديدة محتواها:

قولي بتحبها ولا لا ساعتها نعرف نتكلم... مش لازم اتطمن على البنت معاك برضو؟ 


خضع للاجابة خضع وهو يرسل أنه يحبها ويتابع:

قولي هي فين؟ 


_ قولي أنت هتتوجع عليها بنسبة كام في الميه كده؟ 

لولا أهمية الهاتف بالنسبة له في هذه اللحظات، لدهسه الآن، أرسل الرد والذي كان:

بنفس النسبة اللي أنا وجعتك بيها، ما هو أصل أنت أكيد شايل مني أوي علشان تعمل فيا كده. 


رد ذكي توقع أن يصدر من شخص مثله وكانت الإجابة التي وصلت لعيسى عكس الرد تماما:

بالعكس خالص، أنا بس حابب اتسلى، لقيتها عماله عيسى، عيسى... فقولت نضيع وقت معاكوا شويه. 


تيقن من أن رجاله فعلوا المطلوب، فابتسم هو يغلق الهاتف، لم يجد "عيسى" أي رد بعدها، مما جعله يهرول حتى قطع مسافه ليست بالقليلة، قرر أن يعود ليبحث في الجانب الاخر ولكنه سمع صوت أنين خافت... تحرك ناحيته مسرعا، حتى وجدها ملقاه على الأرضية وجهها مغطى بالأتربة، وخصلاتها لا يغطيها شيء، اقترب مسرعا يقول اسمها بلهفة، الحركة بالنسبة لها شبه ضعيفة، تشعر بالخدر بعد ما تم حقنها به ولكنها همست بوهن وهو يعدلها لتصبح بين ذراعيه:

كنت عارفه انك أول واحد هتيجي. 


مسح الأتربة عن وجهها، ليراه فلمح ما في جبهتها، من وهنها أدرك أن هناك شيء خطأ فسألها مسرعا:

ملك هما ادوكي حاجه؟ 


هزت رأسها بالإيجاب، ثم همست بصعوبة:

أنا عطشانة أوي، عايزه اشرب. 


حملها سريعا من على الأرضية، سيضطر للسير ليعود هذه المسافة التي قطعها بحثا عنها، يعود حيث ترك سيارته، كان يتيقن بين اللحظة والثانية أنها بخير، يميل بوجهه ينظر لها ويطمئنها بكلماته:

أنا هنا... متخافيش. 


حالة الخدر تمكنت منها كليا، فلم تعد تقدر على الحديث، صارت الإرادة معدومه بفعل ما حقنوها به، وصل إلى سيارته في وقت قياسي، وضعها داخلها بحرص، وجلس هو على مقعد القيادة ليصل إلى أقرب مشفى من هنا. 

 بقت عيناها مثبتة عليه وهو يقود حتى وصل إلى المشفى ، هرول بها إليه وما إن تم أخذها منه حتى داهمه الخوف مجددا، خوف لم يزول إلا بخروج الطبيب وقوله:

هي الحمد لله كويسه مفيهاش حاجه، كان في بس جرح في دماغها وده إن شاء الله مفيش ضرر منه...هنحتاج بس انه يتتابع باستمرار، بالنسبة للحالة اللي كانت فيها لما جت المستشفى ده بسبب مادة مخدرة لقيناها في دمها، هي اللي بتسبب الحالة دي... حضرتك تقدر تاخدها وتمشي بس ياريت ترتاح اليومين دول وكمان تغير جو علشان واضح انها نفسيا مش كويسه. 


هز "عيسى" رأسه موافقا على تعليماته، وأخيرا اتصل بوالده يطمأنه بكلمات مختصرة للمره الثانية:

ملك معايا يا بابا، أنا راجع بيها. 


من جديد في السيارة ولكنها الآن نائمة، قبل أن تغفو وقبل أن يسأل عن أي شيء تحدثت بتعب:

أرجوك متسألنيش عن أي حاجه دلوقتي. 


احتضن كفها يطمئنها بقوله:

مش هسألك، المهن انك كويسه.... عايزه تنامي نامي الطريق لسه طويل لحد اسكندرية، أنا قولتلك نخلينا هنا انتِ اللي مش راضية. 


_ لا انا عايزه ماما، يلا نروح. 

ابتسم محركا رأسه بمعنى ألا فائدة، منذ المقابلة الأولى وهي تقول هذه الجملة، أريد أمي كطفل صغير يخشى فقدها، هو مثلها تماما لو أتيحت له الفرصة لأغرق الكون بها ولكن الفرق أن والدته ليست هنا. 

بعد فترة من القيادة وصل إلى محل ملابس نسائية، تركها نائمة في السيارة وتوجه إليه، وما إن عاد حتى وجدها مستيقظة والذعر يبدو جليا على وجهها وهي تسأله:

أنت كنت فين؟ 


_ اهدي... كنت بجبلك دول. 

استطاعت التقاط أنفاسها، ووقعت عيناها على الحجاب في الكيس البلاستيكي فأسرعت تأخذه وتضعه على رأسها بدلا من المفقود، عدلت من خصلاتها اولا ثم أحكمته، لم تنظر لباقي الأغراض تركتها كما هي، وعادت تسند ظهرها على المقعد... طالعت يدها بحسرة ثم هتفت وقد تكونت الدموع في عينيها:

خدوا تليفوني. 

لقد كان هدية ثمينة من والدتها، اشترته لها في توقيت كانت حالتهم المادية فيه ضائقة للغاية لذلك أحبته بشده، نزلت دموعها أكثر وهي تتابع:

والخاتم بتاعي. 

الخاتم الذي رفضته كثيرا، وكان يحثها كل مره على ارتدائه، الخاتم الذي ربطها به وألبسها إياه يوم أن مضت على زواجها منه، تشعر بالحزن الشديد عليه، والمرارة وهي تتذكر لحظات انتشاله من اصبعها. 


استدار لها يمسح دموعها مردفا بلطف:

خلاص متعيطيش، مش مهم في داهية، المهم انك كويسه. 


_ لا مش في داهية، انا كنت بحبهم. 

قالتها بدموع أكثر، وانخرطت في نوبة بكاء جديدة 


أخرج منديلا ورقيا وأعطاه لها طالبا برفق:

طب بلاش عياط، خدي امسحي دموعك ونامي يلا. 


لم يستطع منع نفسه من السؤال، تردد ولكن حسم أمره فسألها وهي تمسح دموعها:

كنتِ بتحبيهم ليه ؟ 


أجابت بتلقائية وصدق نبع من حزنها على ما فقدته:

علشان من ماما ومنك. 


ابتسم بهدوء، وهو يتأملها... شعرت بالحرج فلجأت لما طلبه منها وهربت إلى النوم. 

أما عنه فأخذ يفكر في السبب، إذا كان هناك بينه وبين خاطفها عداء شخصي، لما حدثت السرقة، الأمر به شيء لا يعلمه أبدا ويجب أن يفهمه... فقط حين يحل الهدوء عليها سيسأل عن كل شيء. 


وصلا إلى مدخل القرية بعد طريق شاق، بوادر الصباح بعد الفجر بقليل.... لمح "شاكر" على مدخل القرية يحاول الدخول، مفتعلا الشجار مع الواقفين ولكنهما تصدا له، تركها "عيسى" نائمة ونزل من السيارة يسأله:

عايز ايه ؟ 


لمحها "شاكر" في السيارة نائمة، فاطمئن قلبه أنها بخير وهتف بتبجح:

جاي أشوف بنت عمي، اللي راحت لواحد مسطول ميعرفش هي بتروح فين ولا بتيجي منين. 


كان في كل مره يشعر بشيء مختلف مع نظرات "شاكر" لها، نظرات العجز في عينيه وهو يراها مع غيره... أحيانا كان يشعر "عيسى" بالتشفي، وأحيانا كان يشعر بأنه حقق أكبر نصر، ولكن المرات السابقة بدأ تدريجيا يتغير الشعور حتى وصل إلى هذه اللحظة التي يشعر فيها أن نظراته لها تزعجه، يريد أن يخفيها تماما عن ناظريه، يرى الحسرة في عينيه ولكن دون أن ينظر إليها. 











نطق عيسى وقد وقف من ناحية مقعدها ليمنع عنه أي رؤية:

وأنا لسه عند كلمتي، لو طلع ليك يد في اللي حصلها النهارده، تبقى استعجلت على اللي هيجرالك بنفسك. 


_ هي كويسه؟ 

سؤال جعل "عيسى" يجذبه من تلابيبه هاتفا:

ايه ياض الحنية دي، تصدق اتأثرت .... عارف لو مش هيجرالك حاجه خالص، كفاية عليا اوي نظرة العجز اللي شايفها في عينك دي، أنا حتى البصة ليها هحرمك منها، افتكر كل يوم مع نفسك انها في حضني انا... وانها لما بتشوفك بتبقى قرفانه.

تركه "عيسى" فتحرك "شاكر" ليرحل من هنا بعد أن نجح "عيسى" في اشعال غضبه، لا يريد أن يرى نظرة انتصار في عينيه فقط قال له:

لو أنت بتحضرلي حاجه أنا كمان بحضرلك، والشاطر اللي هيكسب، وغلاوتها لاكسب حتى لو فيها أذاك وأذاها. 


_ قولتهالك مره في بيتكم وهقولهالك تاني. 

انتبه له "شاكر" واستدار ليسمعه يقول:

اللي أنت بتقوله ده عند أمك. 


ابتسم "شاكر" وهو يقول له:

أمي دي أنا هجيبك تحت رجليها قريب أوي. 


اتجه "عيسى" إلى سيارته ورد عليه ضاحكا بسخرية:

عندها برضو، وطظ فيك، ومش هقول فيها علشان أنا أصلي محترم بزيادة. 


اتجه إلى المدخل أمام عينيه ثم ألقى على مسامع الواقفين أمره:

ابقوا قولوا لبتوع الزبالة يجوا يبصوا على الحته دي، الزباله كترت اوي خليهم يلموها. 


لو كانت النظرات تقتل، لسقط صريعا الآن، صريعا من نظرات حاقدة، غاضبة ومتوعده له وقد أقسمت ألا تتركه. 


★***★***★***★***★***★***★


وصل بها أخيرا، ما إن دخل حتى وجد أن الجميع قد اجتمع في منزله، والده ووالدتها وشقيقتيها، وزوجة والده وأشقائه.... جذبتها والدتها التي أخذت تحتضنها وهي وشقيقتيها، و سؤالها الملهوف يتردد على مسامع ابنتها:

أنتِ كويسه يا حبيبتي... مفيكيش حاجه صح؟ 


هزت رأسها بتأكيد، في نفس اللحظة التي رأي فيها "عيسى" في عين والده أسئلة كثيرة. 

حتى هو لا يعرف الإجابة، قال بهدوء شديد:

الست هادية يا حاج، كانت قالت انها عايزاني اطلق. 


طالعته "هادية" بغير تصديق، لديه قدرة رهيبة على استغلال كل أمر لصالحه، استمعت لباقي الحديث وهو يردف:

وقالتلي جمله كده مش فاكرها.... 

تصنع التذكر ثم هتف:

اه، ملك بنتي دي ضفرها مش هتطوله. 

طالع "نصران" هادية باندهاش وابنه يكمل:

فاحنا عايزين قعده بقى نشوف الكلام ده رايح على فين. 


همس "حسن" لطاهر الواقف جواره:

أخوك ده لعيب. 

ابتسم "طاهر" فتابع "حسن": 

بتضحك على ايه ما انت زيه. 

نظر له بغيظ ثم انتبه حين سمع قول " هاديه":

وماله نقعد، ويعرف ابنه عمل ايه خلاني أقول الكلام ده... بالنسبة لانك رجعتلي بنتي فألف شكر، لكن كلامي زي ما هو. 


هل تنفك الزيجة؟... شعرت "سهام" بالسعادة التي اجتهدت في اخفائها حين سمعت نصران يقول بهدوء:

خدي يا شهد اخواتك واطلعوا ناموا في أوضة "رفيدة"، وسيبوا لينا امك شويه. 


لم تكن " ملك" في حاله تسمح لها بأي شيء سوى النوم، كان يهم "هادية" شهادة ابنتها لذلك اعترضت:

لا أنا عايزه "ملك" تكون معانا. 


هل تبكي من جديد ليعلموا كم هي متعبه، لا تعلم والدتها شيء عما حدث بها ولكنها شعرت بيده تجذبها وهو يرفض بتحدي:

ملك هتطلع ترتاح، أي حاجه ممكن تتأجل علشانها لحد ما تكون كويسه لأنها تعبانه. 


عبست "سهام" بعد قوله، على عكس "نصران" الذي اتسعت ابتسامته وهو يسمع حديث ابنه، ويرى التطور أمام عينيه.... رمقته "ملك" بامتنان، كل ما حدث... اللحظات الصعبة التي عاشتها، ظنت أنها الدقائق الأخيرة في حياتها ليأتي هو من جديد ويعلن أنه المنقذ، أما عنه فكانت عيناه تطلب منها اختياره للمره الثانية وفمه لا يقولها أبدا .... همست ردا على قوله الذي وضع راحتها فوق كل شيء:

شكرا يا "عيسى".


_ لا أنا مش عايز شكر. 

طالعته باستغراب لتسمع باقي همسه:

أنا عايز حاجه كان نفسي اعملها من ساعة ما خرجنا من المستشفى واتأكدت انك كويسه. 

هربت بعينيها إلى الحشد الذي انشغل في الحديث بعيدا عنهما لتسمع كلمته الأخيرة التي جمدتها:

حضن. 


دبت القشعريرة في جسدها وهو يتابع غير آبه بهم:

أنتِ لما احتاجتي ده مره علشان خايفه أنا عملته من غير ما تطلبي، ودلوقتي أنا محتاج ده. 


هتفت " هادية" بهدوء:

يلا يا "ملك" علشان ترتاحي. 

جذبتها برفق، لم ترد أبدا أن تخيب أمله ولكن... 

ضربت بكل الاعتراضات عرض الحائط حين استدارت تنظر له وقد غرقت في عينيه الصافيتين.... فتركت يد والدتها وعادت له لتقف في النفس النقطة مجددا، أمامه من جديد وهي تبرر بنبرة منخفضة:

أنا مش هعرف اعمل ده قدا...... 

قطع جملتها باحتضانه لها، حل الصمت تماما، الجميع يتابعهما، غزت الحمرة وجهها ولكنه مخبى به الآن، لقد فعلها في الأخير لذلك لم تتردد في تنفيذ طلبه، أحكمت ذراعيها عليه الآخرى، للمرة الأولى، تفعل هذا أمام الجميع ، ومن أجله فقط، حاولت الابتعاد بعدها ولكنه رفضه مع همسه لها:

خليكِ.


_ مينفعش كده يا نصران، امها عندها حق، افرض اتطلقوا. 

كان هذا قول "سهام" لزوجها الذي أكد بفرحه داخلية:

عيسى بيحبها. 


_ عيسى أنا مكسوفه أوي... سيبني علشان خاطري، وماما. 

رده كان واضح:

كلام ماما ده تخليه ليكِ وليها، الكلام ده مش هيحصل. 


اشتعلت نظرات "هادية" وقد همست "شهد" بضحكة واسعه لشقيقتها:

طب والله يا مريم حلوين اوي. 


حدثتها "مريم" بنبرة منخفضة تنبهها لوالدتهما:

وامك هتاكلهم اوي. 


أفلتها أخيرا قبل أن يقول جوار أذنها:

أتمنى تكرريها ت 

             الفصل الثاني والستون من هنا 

تعليقات



×