رواية آصرة العزايزة الفصل الخامس بقلم نهال مصطفى
ذات مـرة صادفني نصًا لنزار يقول فيـه :
-" رُبما كان من الغفلة والغرور ..يُدعى الإنسان أن الأرض لا تدور ، والحُب لا يدور "
•••••••••
في ليـلة من ليالي الشتاء ذات البرودة القارسة ، الغيوم الضبابية متراكمـة فوق بعضها البعض .. كانت السمـاء تدوي بصـوت قعقعة الرعد المُخيف والذي يتبـعه وهج البرق الأشبـه بماس كهربي أغدق خد السمـاء وكأنه جاء كستار ستر يخطف الأبصار إليه لبعض القلوب الخائفـة التي تختبأ تحته .. اختبأت الناس بحجورها حول بؤرة النيران المشتعلة التي تدفأ ليلهم .. الشوارع خالية تمامًا لا يَدب بها إلا أقدام أوراق الشجر المتساقطة والمُحملة بالأمطار والتي غسلت الأرصـفة ، كرات من الثلج تهبط من السماء وتضرب الأرض ، لأول مرة تُمطر هكذا بالمناخ الصحراوي ، حدث لا يتكرر إلا مرة واحدة فقط من عشرات السنين .. قصف الرعد مرة ثانية قصفًا شديدًا دوّى صوته بأرجاء الجبال ، تناثرت أشعة البرق الحمراء مُجددًا .. وهناك رجل ملثـم يحمل رضيعة بيده يدسها بحضنه كي يحميها من غدر الطبيعة كما ستغدر بها عائلتـه إن عثرت عليها .. لمست أقدام الرجل صاحب الثلاثون عامًا الطريق العمومي للنجع الخاص بهم _نجع العزايزة_ ظل يهذي ويلهث ، يواسي طفلتـه التي تتضور جوعًا بيده ، التي لم تكُف عن البكاء ، أطرق مواسيًا :
-سامحيني يا غفران يا بتي ، سامحيني ..
لمح أضواء السيارة الوحيدة التي مرت على الطريق حينها ، ركض بكل ما أوتي من لهفة أمامها وهو يلوح مستغيثًا .. زادت الإضاءة وهدأت سُرعة السيـارة تدريجيًا حتى صف صاحبها جنبًا .. نزع اللواء " رفعت الجوهري " قبعته العسكرية وحمل سلاحه وهبط من سيارته موبخًا بنبرته القوية :
-أنتَ مجنون !! أنت أزاي تقف في نص الطريق كده .. أنتَ مين ؟!!
أقبل الرجل لعنـده ونزع غطاء وجهه متوسلًا :
-رفعت بيه أنا في عرضك .. بتي هيقتلوها .
تعجب سيادة اللواء من استغاثة الرجل الذي يرمي تلك المضغة بين يديه ؛ فأكمل :
-أنا ماهر العزايزي .. صدر حكم من مجلس العيلة بقتلي أنا ومرتي ، بتي ملهاش ذنب يا رفعت بيه ، اعتبرها أمانتك قدام ربنا .. خلي بالك منها ابعدها عن هنا ، لو ليا عُمر هرجع وأخذها منك .. بتي اسمها غُفران ..
" غفران ماهر العزايزي . "
لم ينتظر رد الرجل الغارق بصدمته ، ترك له صغيرته الباكية ورحـل ، ركض لمصيره المنتظر وهو الموت .. وقف رفعت مشدوهًا ، مكبل اليدين مغلول العقل ، يُطالع تلك البريئة التي لا تعرف بأي ذنب ستُقتـل .. حائرًا ماذا سيفعل بهذه الفتاة التي لا حول له ولا قوة ، من سيرعاها معـه وزوجته المتوفية وابنه سامح الذي تزوج قبل عامين ويقيم بالإسكندريـة مع زوجته !! احتد صوت الرعد وزاد المطر وزاد معه صُراخ وارتجاف الصغيرة .. لم يجد حلًا سوى الاحتماء بالسيارة كي تدفأ من صقيع الجو ..
تسلل ماهر بين الأشجار كاللصوص ، كي يلحق بإمراته المُلطخة بدماء الوضع ، كانت هناك أعين تراقبه .. وتراقب خُطاه وكيفية تستره على جريمته حتى باغتته وصدرت فوهة السلاح أمامه قائلًا :
-هتهرب لحد ميتة يا ماهر !! مفيش مفر .. أخواتك قابلين الدنيا عليك والعزايزة مش هيعدوها .
دنى منه ماهر ورفع الوشاح عن وجهه ، إذن بخليفة العزايزي يعوق طريقه ، توسل له ماهر :
-سيبني ألحق مرتي بتموت في الجبل يا خليفة ..
رق قلب خليفة وسأله :
-عطيت ولدك للأغراب يربوه يا ماهر .. موته أهون !
لهث ماهر كلمات حزنه :
-بت كيف القمر يا خليفة ، تشبه أمها .. وحياة عيالك لو حصلي حاجة وصيتك بتي .. بتي مع رفعت الجوهري ، ملهاش ذنب تموت معانا .. بتي أمانتك قصاد ربنا لحد ما نتقابلوا يا خليفة.. احفظ سري ربنا يخلي لك عيالك .. سيب بتي تعيش بعيد عن العزايزة وظُلمهم .
ثم ربت على كتفه بعجل كي يلحق بتلك المريضة ببيتها بالجبل وهو يوصيـه مؤكدًا :
-مرتي بتموت لازم ألحقها .. بتي غفران أمانة في رقبتك يا خليفة ..
بعـد ثمانية وعشرين عامًا من تلك الليلة التي سُمية ليـلة باسمها .. فاق " خليفة العزايزي " من شروده على نداء زوجته الأولى ؛ السيدة أحلام :
-يا حج خليفة !! مالك سرّتت "سرحت" في أيه ؟!
تنهد وهو يشكو همه لحافظة أسراره :
-خايف يجي أجلي وأقابل ماهر ولما يسألني عن بته هقوله أيه ؟! أنا ماصُنتش الأمانة يا أحلام .
ربتت أحلام علي كتفه :
-متشيلش نفسك فوق طاقتها يا أبو هارون .. أنت قلبت مصر حتة حتة ، وماوصلتش ليهم ، كأن الأرض انشقت وبلعتهم .
ضرب الأرض بمؤخرة عكازه:
-وِلد الجوهري خد البت وفُص ملح وداب .. قدم استقالتـه من الداخلية كلها عشان محدش يعرف يوصله .
ثم أشاح بحزن وخيم :
-دمنا ولحمنـا اتربوا في حضن الغُرب يا أحلام .
شاركته أحلام الهموم ، فقالت مقترحة :
-طب ما تخبر هاشم ولا هارون هما خطوتهم أوسع منينا ، البت ليها حق لازم يوصل يا خليفة ، أرض أبوها اللي كتبهالك بيع وشرا ومخدش مليـم واحد منك .
رفض قطعًا معرفة أولاده لذلك السر :
-هارون مستحيل يعرف، لو عرف حكمه للعزايزة هيتهز ، مش هقدر أرفع عيني في عينه بعدها .. هاشم سره مع أخواته ، صفية رابطة الأربع رجالة في عُقدة واحدة .. معندهمش سر على بعض .
ثم زفر بحزن وخيم :
-والبت لو لقيناها وسرها اتكشف هيقتلوها يا أحلام !! يبقى معملناش حاجة غير إننا سلمناها للموت .
دمدمت متحيرة :
-والحل يا حج خليفة !!
تنهد مستسلمًا :
-ربك رب أقدار يا أحلام ، والحق بينادي صحابه لو بعد خمسين سنة .
•••••••••
من أهم وأول قواعد الحياة ؛ أنك ستضطر أن تتنازل عن بعض أحلامك .. حتى تعيش واقعك ، حتى تعيـش الحياة بما تحويه من مآسي ..
على غير العادة نهض في وقت متأخر من الصباح ، في التاسعة صباحًا بجسـد مثقل بالمتاعب ، يصدح منه صوت قرقعـة الألم بعظامه .. يشكو من ثِقل الحِمل وحَمل المشاكل فوق عاتقـه .. فرغ من أخذ حمامه الدافئ وخرج كي يكمـل جولة ارتداء ملابسـه .. وقف بصدره العاري أمام المرأة يجفف رأسـه المبلل بالمـاء ثم سقطت عيناه على صورة شهادته الجامعية المُعلقة بالحائط والتي تنعكس صورتهـا بالمرآة .. لفح الفوطة على كتفـه ثم سار لعندها بخطوات تلك الأقدام القِتال في سـاحة أعرافهم والتي قتلت كل آماله ، يخشى أن يحلم ، يتمنى ، يتعلق .. فيرحل عنه الشيء مرة ثانية ويعيش نفس الألم مجددًا ، كحلمه الذي لم يحلم غيره ودعه قبل أن يناله ..
رُفعت جفونه لأعلى وقرأ اسمه عليهـا " هارون خليفة العزايزي " ثم وقعت عيناه على النسبة المئوية والتي كانت ٨٦ بالمئة.. وبجوارها كلمة الترتيب " الأول " ثم خيمت معالم حزنه على وجهه الذي استقبل وجعه بسخرية :
-اربع سنين قسموا الضهر عشان أخرتك تتعلقي على الحيط !!
ثم ختم جملتـه بتلك الابتسامة الساخرة وهو يحاور حلمـه المفقود :
-صباح الخير يا أحلام !!
ما كاد أن يخطو خطوة نحو مسار حياته اليومي .. تعرقلت قدمه الحافية في ذلك الشيء الصغير الذي أوقفه ، تدلت جفونه بالأرض فوجده " خاتم " يدها الذي وقع من جلبابه وهو يخلعه قبل النوم .. ذلك الخاتم قدمه القـدر إليه ، ربما كان يُريد تنبييهُ لحدث عظيم سيلتقي به فيما بعد !! انحنى كي يمسكه بنفس السخرية التي لا تُفارقه وهو يُقلب خاتمها أمام عينه :
-وبعدهالك عاد يا ست " ليـلى " !! مش خلصنا ؟!
رمى الخاتم بخفة بالهواء ليسقط براحة يده مرة ثانية ثم فتـح خزانته الخاصة ورماه بداخلها، تصرف غريب منه لا يدرك سببه !! لِمَ أراد أن يحتفظ بخاتم رجل آخر تنتمي إليه !! لِمَ لم يسعى لرد الأمانات إلى أهلها كعادته !! ما الشيء الذي أغراه به ليُقرر أن يكون ملكه !! جميعها أسئلة يطرحها العقل البشري تفتقر الجواب والمنطق !!
••••••••
~ بسيـارة هيثـم .
لأول مرة تُصادف شخصًا ثرثرًا أكثر منها ولكنها كانت مستمتعة جـدًا بالحديث معـه على عكس أخيه الذي تتقاطر الكلمات من شِدقه بالكلمة .. انسجمت في الحوار مع هيثم بفضول يتقاذف من مُقلتيها حول هويتهم وأعرافهم .. وعندما يُذكر أمامها اسم هارون تعتدل بجلستها ويتزايد اهتمامها أكثر .. فرغت من تناول قطعة الخبز المحشية التي أحضرها لها وأجبرها أن يتناولان فطارهم سويًا .. ارتشفت كوب من الماء ثم سألتـه :
-أخوك ده الـ اسمه هارون ، مش ممكن يضايق منك لو اتفاجئ بيـا في البيت من غير ما تعرفه! .
ثم غمغمت مستفسرة :
-المفروض إنه العُمدة يعني ويكون عنده علم بكل حاجـة بتحصل في بيته !
أشاح بنظره لها مجيبًا بتوجس يبطنه الضحك :
-أنا وأنتِ هنكون في حمى صفية .. متخافيش .
صاحت موبخة وهي تلومه بضحك :
-أحيـه !! أومال ايه الدخلة بتاعت الصبح وتعالى وفي حمايتي دا أنتِ ضيفة .. وفي الأخر هنتحامى في مامتك !! روحني يا عم ، عشان أخوك لو قال لي أزيك هفتح دماغه.. ما بالك عاملني بسخافته !!
-يخربيتك يا هارون !! للدرجة دي شايلة ومعبية ؟!
ظلت تقضم بشفتيها متحيرة من أين تبدأ بعد ما استعانت بأصدقائها التي سردت لهم ما حدث برسائل نصية على أحد مواقع التواصل الإجتماعي ، فاندفعت بتلقائية بسؤال فدوة التي اقترحته عليها :
-أخوك هارون ده متجوز ؟!
ثم بررت موضحة سبب سؤالها بخُبث:
-قصدي يعني لو متجوز الله يعين مراته على عصبيته ونرفزته طول الوقت !!
قال بعبط المغرور ، وفي عينيه نظرة متحفزة:
-مش متجوز ، وادعي له ربك يفك عقدته عشان ده موقف حال ٣ رجالة كيف الورد .
زامت شفتيها بفضول حول تفاصيل ذلك الرجل الذي أفسد حياتها :
-أزاي !! أفهم بقا ؟!
-صفية ياستي ، حالفة إيمانات المُسلمين ما قعر طبل يرن لواحد فينا قبل ما تفرح بهارون .
أردفت غير مقتنعة :
-مش فاهمة !! اللي حابب يتجوز ، يتجوز .. لنفترض مثلًا أخوك مش حابب يتجوز من أصلو !!
-لا ماهي صفيـة مديله مُهلة لأخر السنة دي !! لو معملهاش هتهمل العزايزة وهتج على رأسها .
فاندفعت بفضولها الغير مُبرر :
-وهو هيختار عروسته ولا أعرافكم بتجبره على واحدة معينة !
-والله على حسب هو رايد مين !! بس في الغالب صفية هتجبره على اللي تختارها لانه مش ناوي يختار في سنته المقندلة دي ..
كانت تبحث عنه في وريقات اسئلتها الفضولية ، فأتبعت باهتمام شديد :
-هارون ده مُتعلم !! لو شخص متعلم وواعي آكيد مش هيقبل يتجوز بالطريقة دي !!
تنهد هيثم وهو يناظرها :
-هارون أخوي ده حكايته حكاية ، حِمله تقيـل قوي ..
-ازاي !! ده حتي يابن عليه جِبلة ومش بيحس !!
فانفجر اللفظ من عفويتها بدون رقابة ، فألتفت لها هيثم ضاحكًا ثم هدأ سرعة السيارة عند اقترابه من نجع العزايزة ودار برأسه لعندها متغزلًا بجمال عينيها الرمادية باستخدام العدسات اللاصقة .. كاد أن يُكمل حديثه عن أخيه ولكنه تعرقل بجمال عيونها فقال متغزلًا بلطافة :
-عيونك حلوين ، يا ترى تفكيرك حلو زيهم ؟!
تقبلت عزله بصفي نيـة ، فأجابت بنبرة تحمل السخرية والتهديد معًا وهي تحدق بعينيـه :
-لو عرفت اللي بيدور في دماغي هتتخض و تهرب مني .
تراجع هيثم متفهمًا نظرتها الحادة التي استقبلها بابتسامة خفيفـة وعاد النظر للطريق مغيرًا مجرى الحديث وهو يشير بسبابته للخارج يستجدي رضاها كي لا تسيء الظن فيه :
-ده يا ستي نجع العزايـزة ..
ثم انكمشت معالم وجهه باستياء وأكمل ممازحًا :
-النجع الملعون ..
هبت مع رياح خوفها تتساءل:
-ليه!! فيه عفاريت ؟!
-لا فيه بني آدمين .
رمقته بعتب وهي تدير وجهها نحو النافذة :
-خضتني ..
ثم مالت نحوه بنفس الفضول الذي يلتهب من مُقلتيها :
-هو هارون …
فقاطعها هيثم معترضًا بمزاحٍ:
-هو كله هارون هارون !! مفيش مرة هيثم ولا أيه ؟!
أحست بإنه كشف أمرها وأدركت أنها تمادت حول معرفتها ذلك الشخص الذي شغل تفكيرها طوال الليل ، بادلته بابتسامة مترددة :
-هاه !! انا هتفرج على الطريق ….
بوابـة ضخمـة من الرُخام على جانبيها تمايثل ذهبيـة على هيئة ذئاب رافعة رأسها تعول بالسماء .. يعلـوها بالخط العريض الاسم " نجـــع العزايزة " ، أخرجت رأسها من النافذة فداعب الهواء ملامحهـا مع نسائم رائحة التُربة والزرع والحياة الريفية .. صفوف لا تُحصى من النخيل على الجانبين ، أشجار فارعة الطول تُغازل سُحب السماء عن طريق الطيور التي تحمل رسائلها وترفرف بها لأعلى ولأعلى كي تبلغ منها السلام والحُب .. طريق طول لا نهايـة له من الأراضي الخضراء المزروعـة ، ترعـة ممتدة على يمينها ، عدد قليل من العمالة صادفهـا .. الهواء البارد يداعب قلبها مُرحبًا بعودتها لحيث ما تنتمي ، لمكان أصلها ودمها الذي عاشت بعيدة عنه لمدة ثمانية وعشرون عام ..
بدأت المنازل المصفوفة تظهر أمامها عن بُعد ملحوظ ، بيوت لا تتجاوز الثلاثة طوابق جميعها تحمل نفس اللون نفس التصميـم ، جميعها على صف واحد ويعلوه خيمـة مثلثة الشكل من اللون الأحمر القاتـم والجدران المصبوغة باللون الرملي .. خرج من شِدقها المزمزم بانبهار وكأن الجمال أيقظ فيها وطنًا تعرفه :
-وواااوو !!
ثم دارت لعنده مذهولة مما رأت :
-هيثـم !! أيه الجمال ده !! أحنا في الجنة !! أنا مش مصدقة الجمال ده !! أنا زورت أماكن كتير عُمري ما شفت مكانٍ بالعظمة دي !! كل حاجة جميل !!
ثم تحمست أكثر وقالت بجزل طفولي:
-المكان يهبـل !!
مسد شعره المُغطى بالجل وقال معجبًا بفرحتها :
-أهي دي عيشتنا وحياتنـا يا ستي .. هنـا عالم جوة العالم .. المكان ده على كــد ماهو جنـة لكن قوانينه من جهنم ..
أتبعت بإثارة :
-طيب أزاي أنتوا كده !! أنتوا مين ؟!
دار بمقود سيارته على الطريق المرصوف لينحدر بدرب أضيق وأتبع موضحًا :
-اللي فهمته من أحلام ..
قاطعته :
-مين أحلام !!
اتسعت ابتسامته عند سماعه اسمها :
-دي بركة بيتنـا .. هعرفك عليها لما نوصلوا .
لمع بريق الحماس بمقلتيها :
-متحمسة جدًا .. كمل بقا ، أحلام قالت لك أيه !
اخفض من سرعة السيارة حد الهدوء منتظرًا مرور كلب صغير من أمام سيارته للجهة الأخرى وقال :
-قالت لنـا أن الموضوع بدايـته من حكم الانجليز لمصـر و ..
ثم نظر إليها ضاحكًا متراجعًا عن حديثه:
-حاسس إنه كلام كبير ومش لايق عليّ .. هخلي أحلام تحكي لك براحتها ، هتجيب لك أصول العزايزة من طقطق لهارون .
ضحكت ليلة إثر سماعها لـ اسم هارون فقالت مقترحـة :
-هيثم ، ممكن نتفق على حاجة ؟!!!!
رد مُرحبًا بعرضها متحاشيًا مصطلحاته الصعيدية قليلًا كي يسهل عليها فهم الكلمات :
-أنا هنا عشان انفذ كُل اللي تؤمري بيه …
•••••••••
~مرسى علــم .
وضعت بذلتـه الميري المكوية على طرف السرير وهي تخفي عبراتها التي تتقطر من عينيهـا بتلك اليد المرتجفة تزيح عن وجنتيها آثار الدموع .. خرج هاشم من الحمام بعد ما فرغ من غُسلـه الصباحي خرج كي يستعد للعودة لوحدته العسكرية قبـل الرجوع لبلدته .. شرع في ارتداء ملابسـه فتراجع عند رنيـن صوت تليفونه ، التفت إليه و رد بنفس النبرة المتحمسـة :
-رؤوف باشـا ..
أتاه صوت الرائد رؤوف ابنه عمه والذي يكبره بعامين بعد ما فرغ من ارتداء بذلتـه بأحد المساكن العسكرية بالجيش ؛ موبخًا بنبرته الفُكاهية :
-هاشم بيـه لو مفيهاش إزعاج في تأخير ساعة و فيها جِزا ..
قهقه هاشم ضاحكًا وهو يدنو من تلك التي تتحاشى النظر إليه منغمسة في تجهيز حقيبته :
-والله يا رؤوف ياباشا شوف الجِزا اللي استحقه وأنا معاك ..
ألتف ذراعه حول خِصر الفتـاة المنحية وهي ترص ملابسه البيضاء، فتلاقت أعينها الباكية بأعينه المتأرجحة بصمت وتتساءل عن سبب شحوب وجهها ، اكتفت بوضع رأسها الصاخب على صدره وعاد ليُجيب على سؤال رؤوف الحائر :
-هموت وأعرف بتغطس فين باليومين وتقب فجأة .. وحياة صفية حاسس أن وراك مصيبة !!
ضم جميلتـه لحضنه وقال متغزلًا بمزح :
-بس مصيبة كيف القمـر !!
ألجمه رؤوف بحذر :
-والله ما مطمن لك .. ساعة بالكتير وتكون قِدامي عشان نمضي طلب الأجازة .. ونشوف مصايبك اللي هتودينا ورا الشمس .
بدون أي إطالة أنهى مكالمتـه مع رؤوف الذي سيشاركه سفـره للعودة لنجع العزايزة .. رمى الهاتف من يده فوق الأريكة وألتفت لتلك الباكية بحضـنه فسألها بلفهة وهو يمسك بذقنها ويرفع وجهها إليه :
-ما أحنا كُنا حلوين !! ليـه الدموع دي !!
انبثقت دمعة من طرف عينيها وهي تشكو مخاوفها :
-قلبي مقبوض أوي من الأجازة دي يا هاشـم .. مش حابة أنك تنزل ، حاسة في حاجة هتحصـل .
احتوى كفها المرتعش وبيده الاخرى مسـد على شعرها بحنانٍ ، فقال مواسيًا :
-أنتِ بس اللي مش عايزاني اسيبك وأمشي .
تنهد بحرقة وهي تتحسس نبض قلبها ، لتُجيبه بصوتها المهزوز :
-لا يا هاشم المرة دي قلبي مش مطمن ، في حاجة هتحصـل ، حاسة بحاجة هتاخدك من حضني .. بلاش تنزل البلد قولهم عندي شغل وخليك معايا .
عارضتها بلُطفٍ بعد ما قَبل كفها ؛ مستردًا أوصوله الصعيدية :
-ودي تيجي بردو !! محضرش فرح أختى ؟؟ أومال مين هيطلع عينين العريس .
أومأت متفهمة ولكن بدون اقتناع ، فتوسلت له :
-طيب عشان خاطري خليك معايا كمان شوية بلاش تنزل دلوقتِ .
عقد حاجبيه وقال مداعبًا ليُلطف الأجواء المشحونة :
-ورؤوف هيصدق ما يلاقي يكتب فيّ مذكرة ولا أعرف احضر فرح هيام الغلبانة ولا أشوفك تاني .. وأبقوا هاتولي عيش وحلاوة .
بابتسامة متقنة إخفاء حزنها قالت وهي تجلي حلقها :
-تمام يا حبيبي .. خلي بالك من نفسك ، وكلمني على طول ، ولما أكلمك ترد يا هاشم متقلقنيش عليك .
النظرة الواحدة منها لا تساويها إلا القُبل .. قُبلات سقطت للتو من شجرة كرز يغرف منها كما شاء له .. خديها الوردية التي زينهـا بثمرات حـبه لصاحبة الشعر الغجري والعيون البُنيـة التي جعلت قلبه يتمرد على قبيلتـه .. لم يتجاهل تلك الشفاة المرتعشة التي ضمهـا كي تهدأ ، وكان النصيب الأكبر ليديها التي خُدشت من الحياة فجاء حاملًا باقة من القُبل ليعتذر منها .. فهمست له بصوت لاذع وهي تبتعد عنه مُجبرة :
-حبيبي يلا عشان تحلق شُغلك .
قرقرة بطنه معلنـة جوعه لجميلتـه ، لم يسمع ببُعدها عنـه بل واصل سيـل حبه الذي بدأه معها ، فذكرته قائلة :
-هاشم ،و رؤوف هيكتب فيـك مذكرة !
-يكتبها على أقل من مهلة .
إن جاء سُلطان الهوى ، فكُل أوامره نافذة ، فاضت منها الأوهام فأستقبلته برحب ربما يكون عنده دواء قلبها المتشائم هذه المرة .. عانقته وهي مُغرمة بـ رحابة الروح التي بين قلبين جمعهما القدر ، أقبل عليها بشوقه و أتت إليه محملة بأشياء غير مفهومة ليُترجمها ، أتت لتنفض أتربة القلق من فوق روحها ، أتت بطمع كي تحمل ما يمكنها حمله من لحظات قُربهم الشحيح ، أتت منبهرة بأسلوبه وكيف يحاول جاهدًا أن يعوضها عن أيام الغياب .. مد لها يدًا ، وقلبًا ، وأذنًا تصغي لها دائمًا ، حتى أحبته وأحبت الحُب بهِ ..
••••••••
~قصـر العزايزة .
وصلت عجلات سيارة هيثم لبوابة منزلهـم ، ما فتح له أحد الخفر ، فأخرج رأسه من النافذه متسائلًا بحسه الأمني :
-مين جوه ..؟!
أجابه الخفير على الرحب:
-الحج خليفة ، وهارون بيه لساته طالع .. والشيخ هلال ما ملمحتوش من ساعة ما جيت .
سحب نفسه وعاد لقيادة سيارته في دهليز البيت المرصوف بالبلاط حتى وصـل لمدخل البيت ، صف سيارته وهو يمتد بصره للخارج من نافذتها مُشيرًا لها :
-اللي قاعد هناك ده أبوي الحج خليفة .. واللي لابسه أبيض دي أحلام .. تنزلي متقوليش ولا حاجة سيبيني أنا اتكلم .
هبط هيثم من سيارته بخفة ثم تابعته ليلة بخطواتها المُثقلة بالغرابة والفضول وهي تتفقد تفاصيل بيتهم الأشبه بالريف الأوروبي .. بخطوات واسعة وصل هيثم لأبيه الذي انحنى وقبل يده وألقى التحية عليه ، ولم ينسى أحلام الجالسة بجواره ، قبل رأسها ثم أشار لليلة أن تقترب منهم .. همس بأذان أحلام وهو يجلس على حافة مقعدها البلاستيكي ويلفح كفتها بذراعه متوسلًا :
-أحلام ، غطى عليّ قُصاد الحج خليفة وخليكي جدعة المرة دي !
تفحصت أحلام تلك الفتاة الأشبه بفراشة متنقلة تقترب إليهم ، مرتدية جاكت باللون الأبيض بأكمام طويلة وتحته سترة بيضاء قُطنيـة وبنطال من الجينز الأزرق ولم تنسى ذلك الوشاح المنقوش الذي يحاوط رقبتها .. فطالعت هيثم بمزاح وهي تشد أذنه :
-أنت متعرفش تيجيلنا ويدك فاضية أبدًا !! مين دي ؟!
توسل لها ضاحكًا :
-غطي عليّ أنا في عرضك .. هيثم حبيبك .
ثم وثب من جوارها وقدم ليلة لهم :
-يا جح خليفة ، دي المذيعة ليلة جاية قنا تصور برنامج ، وأنت عارف أحنا مش عنقصروا مع ضيوفنا واصل !
رفع خليفة جفونه المنكمشة ببطء وهو يفصح تلك الغزالة التائهة التي تقف أمامه فأومئ مُرحبًا :
-يا مرحب يا بتي !
برق لها هيثم أن تنحني وتُقبل يده لكنها هزت كتفيها بجهلٍ تام واكتفت برد التحية ببسمة تائهة:
-أهلا بحضرتك يا عمو الحج .
كادت أن تُبرر سبب زيارتها المفاجئ ولكن رمقها هيثم مندفعًا بالحوار كي لا تُفسد مخططه :
-ودي أحلام اللي حكيت لك عنها .
نظرت لها بفرحةٍ :
-أزيك يا طنت ؟!
رحبت بها أحلام :
-نورتينا يا بتي .. تعالي أقعدي ،واقفة ليه !
تدخل هيثم موضحًا بدون اتفاق معها :
-هتقعد وهترغي كتير يا احلام ..
ثم رمق أبيه مستئذنًا :
-بعد إذنك يا حج خليفة ، هنضايفوا الأستاذة عندِنا كام يوم لحد ما تخلص .. بدل قعدة الفنادق .. أيه قول لك !!
تدخلت ليلة معترضة باندفاع :
-لا لا !!!!
ألجمها هيثم بنظرة فجعلها تبتلع بقية الكلمات بحلقها ، نظر خليفة لأحلام بإعتراض على طلب ابنه، فعارضته أحلام قائلة بترحاب :
-فوق راسنا يابتي ، تنورينا ، بيت خليفة العزايزي مفتوح للكل .. ولا أيه يا حج خليفة !
ثم رفعت جفونها نحو هيثم الواقف خلف أبيه والذي يُرسل لها قُبلة بالهواء متحمسًا :
-ينصر دينك يا أحلام يا عسل أنتِ ..
~بغُرفة هارون .
خرجت صفيـة من الغرفة بعد ما قلبتها رأسًا عن عقب وأخرجت الشيء الخارج عن الدين الذي وضعته زينة تحت وسادته ، ظلت تبحث وتُفتش بجميع أركان الغرفة ربما تعثر على شيء آخر حتى تركت الغُرفة لفردوس آمرة :
-الأوضة دي تتغسل بمية وملح يا فردوس ، وهارون لو سألك قوليلو عنضفوا .. وبعد ما تنضفي تبخري وتشغلي فيها قرآن .. خلي عُقدة الواد تتفك .
ثم غمغمت متوعدة :
-أما وريتك يا زينـة !!
ما هبطت على درجات السُلم فوجدت زينـه أمامها ، كزت على فكيها وقالت مغلولة :
-جيتي لقضاكي يا زينة !!
استقبلت عمتها بثغر مبتسم وهي تنزع وشاح رأسها كعادتها :
-يسعد صباحك يا عمتي .. جمعـة مباركة عليكي ..
هرولت صفية لتمسك بذراعها بقوة وتسحبها تحت السُلم بملامحها الغاضبة ، غمغمت زينة بذهول:
-مالك يا عمة !! أنا عملت ايه ؟!
رفعت تلك الورقة المطبقة أمام عينيها :
-أيه ده !!! أنتِ هتعقلي ميتة ؟! أعمل فيكي أيه ؟!
تراجعت زينة مبررة وتدافع عن نفسها :
-والله يا عمتي ما فيه أذية لهارون متخافيش .. أنا كنت عايزاه يتجوزني بس .
قرصتها بذراعها بغلٍ :
-فين عقلك عايزة أفهم !! حرام تروحي للناس دي يا بتي .. أعقلي وحطي عقلك في راسك .
ثم صاحت بوجهها متحيرة :
-طيب اعمل فيكي أيه !! أموتك وأخلص منك ومن همك..
قبلت عمتها بلهفة وهي تقسم لها بإنها لن تُكررها مرة ثانية ، ثم طوت دفتر وعودها وفتحت دفتر توسلاتها :
-بس جوزيني هارون ، رايداه وحباه يا عمتي .. أنا مش عايزة اتجوز غيره .. عارفة لو متجوزتوش هموت لكم نفسي .. ويبقى ذنبي في رقبتك .
ضربتها صفية على رأسها كي تصمت :
-طب اظبطي ولمي نفسك ، وبكرة العشية جايين نطلبوا يدك لهارون ..
كادت أن تصيح غير مصدقة فوضعت صفية كفها فوق فم زينة كي تصمت محذرة :
-وكتاب الله لو حد شم خبر ما هجوزك الواد يا زينـة .
لمعت الفرح ازدهرت بمقلتيها وهي تكتم نفسها بكلا كفيها وهي تهز رأسها نافية محاولة استيعاب الخبر ، ثم عادت متسائلة بعدم تصديق وهي تجلي حلقها :
-يعني هو هو قال لك بلسانه إنه رايدني .. رايد زينة ياما .. أحب على يدك يا عمة قوليلي قالها كيف وفرحي قلبي .
جاءهم صوت هلال متحمحمًا :
-أحم يا ساتر .. راسك يا زينة!
قال جملته وهو يدور للخلف كي يتحاشى النظر إليها ، فـ ردت مستنكرة تحت سطو فرحتها :
-مالها راسي يا هلال !!
لم يرفع جفونه المتدلية بالأرض وقال ممتعضًا :
-غطيها .
مالت على مسامع عمتها متهامسة :
-هو لساته معرفش إني هبقى مرة أخوه !!
-تعالى أهي غطتها ..
فقرصتها عمتها بغل جعلتها تتأوه صارخة ، فتدخلت صفية متسائلة حول ثوبه الأبيض:
-مش لسه بدري على صلاة الضهر ؟!
دار هلال لعند أمـه ولم يرفع رأسـه صوب زينـة التي تهذي من شدة الفرح ؛ فقال بسماحة وجه :
-إن الله يُحب أن يأتيه عبده قبل أن يُناديه ..
ثم قبل يدها وأتبع :
-ناقصك شيء يا أم هارون !!
-ناقصني لمتكم حوليـا يا حبيبي .. روح ربنا يرضى عنك دنيا وآخرة ياابن بطني .
كاد أن يجيب أمه فتدخلت زينة قائلة بفرحة الأبله :
-قوليلو يا عمه إني هابقى مراة أخوه ..
عقد هِلال حاجبيه مطالعًا أمه التي تضرب كوعها بجنب زينة كي تصمت :
-متحطش في بالك يا حبيبي ، زينة اتهطلت !!
هنا جاء هيثم يتراقص من بعيد وهو يُغني بحماس " فكهاني وبحب الفاكـهة ، وبموت في الموز والمانجا " ، قفل هِلال جفونـه متنهدًا بنفاذ صبر على عبث أخيه :
-يااااا لله !!
ثم دار إليه واعظًا وعلى الجهة الآخرى تتوعد صفية لزينة بأنها ستعيد تربيتها من جديد وستنفذ تهديدها ؛ أردف هِلال بنبرته الهادئة وهو يُرشد أخيه :
-يا حبيبي رطب فمك بذكر الله والصلاة على الحبيب ، هذه الكلمات تُصدي القلب وتطفئ الروح .
عبر هيثم عن فرحته قائلًا بمزاح :
-بذكر نعم ربنا يا جدع !! فيها حاجة دي ؟!
ثم لف ذراعه فوق كتفه وقال بحذر :
-وبعدين لو عرفت مين بره هتعذرني .. ورب الكعبة أخوك معذور ..
تدخلت صفية في حوارهم :
-ما تُصلب طولك يا واد أنتَ !! شكلك من الصبح مش مريحني ، وعامل عملة !! قول لأخوك نلحقوا نلموها !!
ترك أخيه واقترب من أمه وهو يوشوش لها بفرحة عارمة :
-عارفة مين بره !!
ردت بجهلٍ :
-هو في حد بره غير أحلام وأبوك !!
هام مُعبرًا عن فرحته بمجيئها :
-والقمر يا صفية !
كاد هلال أن يرحل ولكنه تمسك بيده كي يتراجع:
-على فين ،أحضرنا يا مولانا …
ثم نظر لأمه وأكمل :
-ولدك البكري إمبارح كنا جايبينه من القسم ،بس كان قاطر حتة بت ، فلجة قمر يا صفية .. حتى اسألي الشيخ هلال!!
جحظت عيناي هلال غير مصدقًا إثر تمادي أخيه في الوصف ، ندبت صفية على صدرها ما الذي يفعله ولدها بالقسم :
-يا نصيبتي !! صح يا هلال أخوك كان يعمل أيه فى القسم !
فتابعتها زينة بنفس الصدمة ولكن كان خوفها يدور حول فكرة اقتراب فتاة منه :
-يا نصيبتي !! صح يا هلال،مين البت دي !!
رمقهم هلال بذهول حتى باغته هيثم قائلًا :
-قول شهادة حق يا مولانا ! أوصف ابداع ربك في خلق الجمال ! واحكي لصفية عن الآنسة ليلة .
تحمحم هِلال معترفًا :
-لم أسمع إلا صوتها .
هيثم مسهبًا في الحوار :
-طب احكي لصفية على صوتها !!
جحظت عيناه مذهولًا من وقاحة أخيه المعتادة :
-لا يجوز ، صوت المرأة عورة .
-ليـه هو صوتها خالـع براسه !!
لن يليق بسفههُ إلا الشتائم ، عض هلال على شفته وهو يلعنه قبل أن يفقد السيطرة على نفسه :
-ويحك أيها السفيه !!
ثم نظر لأمه :
-بالإذن يا أم هارون ..
تمسكت زينة التي جن جنونها بمرفق هيثم :
-مين البت دي يا هيثم !
سحب ذراعه مُعارضًا :
-بس بس متقوليش عليها بت الأول !!
اغرورقت الغيرة من عينيها :
-وعايزة أيه اللي ماتتسمى دي من هارون !! انطق يا هيثم ؟!
فتدخلت صفية مستفسرة :
-أي حكايتك أنتَ وأخوك يا هيثم ، اتكلم يا واد !!
دمدم بصوت مسموع بينهم بتفاخر :
-الاسكندرانية اللي كلمتك عليها امبارح ، مستنياكي بره ومستنية تاكل حمام .
اندفعت زينة بإعتراض :
-جاتها حِمى في بطنها !!!
انكمش وجه هيثم معارضًا :
-شالله أنتِ وهي لا !! دي خسارة في العيا .
تدخلت صفية لتتأكد :
-أنتَ يا زفت !! صوح جايب البت دي بره .
-وهتقعد معانا أسبوع بحاله .
صاحت زينة بقلة حيلة :
-عمتي عرفي هيثم أن هارون هيخطبنى ..
لقد فاضت رأس صفية من تحمل رصاص عبثهم ، فانفجرت بوجه كل واحد منه على حدى :
-يخربيت أمَك _ثم نظرت لزينة مشيرة بكفها بغل _على بيت أمِك أنتِ كمان .
وتركتهم ورحلت وهي تثرثر بصوت مسموع :
-يارب أنتَ اللي عالم بحالي ، ربنا بيدي المجنون عشان العاقل يتجنن .. كان مستخبي لي فين كل ده بس يا ربي !!
••••••••••
-طيب أهدى يا شريف وفهمني !!
أردفت نادية التي فاقت من النوم على صوت رنين جرس المنزل المتكرر بعد ما فقد شريف أمله أن ترد عليه بهاتفها .. فكرر شريف جملته بغضب متزايد :
-بعتت العسكري يوصل ليلة على المطار ، لقى الهانم ركبت جوة عربية هيثم العزايزي ومعرفش راحت على فين !
ثم رمى السيجارة بفمه كي يفرغ بها طاقة غضبه :
-عمتي أنا لحد هنا وجبت الناهية مع ليلة !! هو سامح الجوهري يدلع ويبوظ وأنا أشيل !!
زفرت نادية بضيق وهي تسب ابنتها سرًا ثم عادت متسائلة :
-كلمتها على تليفونها !
-طبعا كلمتها مش بترد !!
ثم صاح ليشعل الأمر أكثر :
-عمتي العزايزة دول جماعة شمال ونوش وكل شُغلهم شمال !! وبنتك كمان رايحة لهم برجليها !!
تسرب القلق لقلب نادية ثم قالت :
-طيب والحل يا شريف !! أنت هنا في اسكندرية ازاي ممكن أوصلها ؟! شريف ، خد البوكس وروح هاتها من بيتهم عشان البنت دي قربت تجنني وحسابها معايا لما تيجي !!
رد بحزم :
-ساعتين بنتك لو مردتش على تليفونها هروح أجيبها من قلب بيتهم ومحدش هيهمني .
••••••••
~قصـر العزايزة .
-هيثم ، أنتَ طلعت بحوار البيات ده منين !! أنا هرجع الفندق ، مامي مش هتوافق .
تابع خُطاها :
-ياستي أديني حق الفندق وأنا راضي .. بس مش هينفع تروحي ، مندرة الضيوف مفتوحة للكُل ، وكمان تحضري معانا فرح هيام!!
ضرب كف على الأخر :
-هيثم ، أنا أول مرة أقابل حد أجن مني ..
مال نحوها بإعجاب :
-عشان تعرفي بس إننا فولة وانقسمت نصين !
تحمحم بحذر وهي تسبقه الخُطى ؛ وتنبهه :
-أنتَ على طول كده ناسي أعرافكم ! فوق .. دا أنت أخوك العمدة .
جهر ضاحكًا :
-طب بتفكريني ليه !! سبيني أحلم!!
وصلت ليلة لأسطبل الخيول مع هيثم الذي تولى مهمـة إرشادها بالمكان ولكي ينقذها من شرور زينـة التي فقدت عقلها عند رؤيتها ، دخلوا من باب الياخور وهي تُراقب الكثير من الأحصنة .. كل منهم بمنزله الخاص ، لم تلتفت للأحصنة التي يتكون لونها من الأسود والبني ، بل جُذبت من ياقتها لذلك الفرس الأبيض كالغيـم و المنفي عن
كل الخيول كأنه رئيسهم ، ركضت لعنده وهي تُشيد بجماله وهي تُداعب شعره :
-تحفه!! الخيل ده يجنن .
اقترب منها وقال :
-دي " غيم " فرس هارون .. وابعدي عنه عشانه مجنون كيف صاحبـه .
اسمه حرك نهر فضولها وقالت بفلسفة :
-مفيش خيل مجنون وخيل هادي ، بابي كان بيقول الخيل بيحس بقلوبنا وبيعاملنا على أساسها .
ثم فتحت الباب الحديدي ودخلت منه متجاهلة تحذيرات هيثم لها :
-لا يا ليلة متتجننيش .. محدش بيعرف يسيطر عليه ، اطلعي عقول لك .
شرعت بالتعامل مع الخيل كيفما علمها والدها حتى كسبت ثقته ، كان غيم هادئًا على عكس عادته ، مُرحبًا بلمساتها الحنونـه وكأنه كان ينتظرها عندما أحس بقلب صاحبه الذي ألتقى بها من غيره ، شرعت أن تروي عليه قصـة خيلها القديم وتحدث الخيل وهي تُطعمه براحة كفها :
-تعرف إني خوافة جدًا ومستحيل أقرب من أي حيوان ، لحد ما بابي كسر جوايا الخوف من ناحية الخيول ده وعرفني على الخيل بتاعه كان اسمه "حلم " حبيته جدًا ، واتعلقت بيه أوي .. بس للأسف من زعله الشديد على بابي هو كمان اتوفى بعده بأسبوع .. أنتوا الاتنين تشبهوا بعض جدًا ، كان أبيض زيك ..
ثم نظرت لهيثم الذي يستمع لها باهتمام شديد وهي تضع السياج فوقه :
-أنا ممكن أركب !!
أبي هيثم بإصرار :
-لا ، استنى لما هارون يعاود ، غيم محدش بيعرف يتعامل معاه غير هارون ده مدبوب .
اسمه بث وميض العناد بصدرها وقالت بسخرية وهي تتأهب لركوب الخيل بعد ما فكت رباطه:
-هارون أخوك ده مبيعرفش يتعامل مع بني آدمين !! هيتعامل مع أحصنه ..
ثم أتبعت بثقة وهي تستريح فوق ظهر الحصان :
-أنا هعرف اتعامل كويس ..
ثم شدت اللجام وتحركت فندب هيثم على وجهه وهرول ليخرج حصانه جاهرًا وهو يقفز فوق ظهره :
-يا وقعة سودة !! هارون هيطين عيشتي !!
صعد فوق حصانه ثم لحق بها حتى أصبح موازيًا لها قائلًا :
-لفي لفتين ونرجعه عشان هارون بيتعصب لما حد يقرب من غيم .
مالت على رقبة الحصان وهي تداعبه براحة كفها :
-أنا وغيم بقينا صُحاب خلاص !! مش كده يا غيم .
ثم اعتدلت مرة ثانية وسألته :
-هارون ده أخوك ، فين دلوقتِ !!
شد لجام حصانه ليقترب من حصانها أكثر :
-في المحجـر .
-ده قُريب من هنا !!
أشار نحو الطريق الخلفي للمنزل الذي يطل على الجبل فقل :
-لو دخلنا من هنا ، عشر دقايق ونكون هناك ..
دارت بحصانها جهة ما أشار دون أن تلفت نظره عن رغبتها في الذهاب إليـه ، فقالت لتلهيه بالحديث :
-أنا جات لي فكرة برنامج ، هعمل برنامج واسميه "حكاوي ليـلة" .. بس لسه مش عارفة هحكي أيه وممكن المكان هنا يساعدني أزاي !!
راقت له الفكرة ثم أكمل مقترحًا :
-عارفة مين ممكن يساعدك بجد ، هارون أخويا .. ده قاري كل كُتب التاريخ والقانون .. الجدع دماغه ذرية وهتعجبك .
تأرجحت عينيها بمكر :
-لا مش عايزة حاجـة منه .. وبعدين هارون ده أنا مش عايزة اتعامل معاه خالص .. خلينا بعيد .
التوى ثغر هيثم بمزاح :
-ومفيش أبعد من إكده !! دا أنت راكبة حصانه ..
تجاهلت تلميحاته ثم قالت متحدية :
-نتسابق !!
راقت له الفكرة على الفور :
-ما بلاش ، هتخسري .
شدت لجام الفرش وانطلقت كالصاروخ الجوي ، فلحق بها هيثم ، تارة تغلبه ، تارة يغلبها .. أجواء من المرح تناسب فيها أمها ورفقاتها وشريف واسكندرية تمًا ، حتى أنها تناسب أمر أقراصها المهدئة ..
على الجهة الأخرى يقف هارون بين العمالة يشجعهم بصوته القوي وهو يصفق آمرًا :
-شدوا حيلكم يا رجالة ، عايزين نحملوا العربيتين دول قبل الصلاة .
ثم ألتفت للوراء بعد ما أخذ نفسًا من سيجارته ، أجرى مكالمة تليفونية وعينيه تجوب بالمكان بحرية كمن يبحث عن شيء لا يعلمه .. رد عليه هاشـم الجالس مع رؤوف بالوحدة :
-يا هِرن ، كيفك ؟!
تحرك ببطء نحو سيارته المصفوفة :
-هو علمك الزفت ده !! فينك !
ارتشف رشفة من كوب القهوة المتروك على المكتب وقال :
-قاعد مع رؤوف ولد عمك اهو ، وبالليل هنتحركوا على قنا .
جهر رؤوف الذي يشكو من هاشم :
-أخوك غلبني يا عم هارون .. لولاك بس أنا كنت هحبسه وملهوش أجازات عندي.
فتح هاشم مكبر الصوت ؛ فأردف هارون قائلًا :
-مزعلك ليه هاشم باشا!
-جاي الوحدة متأخر ساعتين يا عمدة ! لولا عارف وضامن هاشم كُنت قولت الواد ده متجوز من ورانا .
رد بصرامة :
-اللي اتعود يرفع راس العزايزة عمره ما ينزلها واصل ..هاشم ده خليفي في الملاعب .
تحمحم هاشم ليغير مجرى الحديث قائلًا بتفاخر :
-تربيتك يا هِرن .
-أول ما تطلع على الطريق طمني يا هاشم وخلي بالك من روحك .
رُفعت جفونه لبعيد فلمح طيف " غيم " شرد دون الالتفات لسؤال هاشم الذي لم يجيب عليه وقال بإمتعاض:
-هاشم !! أقفل دِلوق .
-في حاجة يا هارون !!
رد بإختصار وهو يُحاول يركز بالرؤية :
-في حد خرج غيم من بيته .. هشوف وارجع لك .
ثم عاود الاتصال بسرعة بالمنزل فردت عليه صفية التي سألها على الفور:
-هو حد طلع غيم يا ما !!
ردت صفية بتوجس وعدم تأكد :
-وه !! تلاقيها البت المصراوية وهيثم المجنون !! بس غيم واعر كيف طلعوه ده يا ولدي !!!!
-بت مين دي!!
رمى السيجارة من يده عندما لمحها من بعيد وهي تتدلل فوق حِصانه دهس عود التبغ بقدمه وقال متوعدًا:
-هيثم البغل !!
ليلة الـ جابوك مش فايتة !!