رواية وريث آل نصران الجزء الثاني الفصل الثالث والخمسون بقلم فاطمه عبد المنعم
الفصل الثالث والخمسون (الرهان على خوفها)
رواية_وريث_آل_نصران
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الرهان على كل شيء ممكن، إلا الرهان على الخوف لأنك حتما ستكون الخاسر.
انتهى من إرسال رسالة إلى من تسبب له في ليلة لا تُنسى، عانى فيها كثيرا وأيضا عانى أحبته ولكنه استراح الآن يشعر أنه استرد حقه من "صاوي"، ورد على ضربته بضربة أقوى.... أراح ظهره على مقعده في الحديقة المحيطة بالمنزل، ينظر إلى الأرضية باسترخاء وهو يستمتع بالنسمات الليلية التي تخفف من حرارة النهار الشديدة ولكن سمع نبرة إحداهن تدخل من البوابة بمرافقة الواقف على البوابة الخارجية... جملة واحده جعلته ترفع رأسه مسرعا ليراها:
ازيك يا "عيسى".
" قسمت" هنا وفي منزله وملك أيضا تدخل من البوابة ولكنها توقفت مكانها وهي ترى الفتاة الجالسة على المقعد المتحرك وأمامها من أتت لزيارته فأصبح كل شيء غاية في التعقيد... قررت الرحيل ولكنها سمعت صوت حازم:
استنى يا ملك.
توقفت وأدارت الجالسة على المقعد رأسها لترى هذه التي يحدثها فقالت مبتسم باستهزاء:
دي صاحبتك؟
شعرت "ملك" بالإهانة فقالت "قسمت" ضاحكة:
الله الله دي شكلها زعلت... شكلها متعرفش عنك حاجه خالص فاستغربت الكلمة.
_ لا أنا أعرف عنه كل حاجه يا "قسمت".
جملة واحده قالتها " ملك" قلبت الموازيين بأكملها، هل تعرفها حقا!... هل حكى لهذه عن أسراره حتى عنها تابعت "ملك" بما جعل "قسمت" تطالع "عيسى" باستنكار:
ولا تحبي أقولك يا "كيمي"؟
لا تصدق أنها تعرفها، حتى بعد كل ما تفوهت به لذلك واجهت " عيسى" بعينيها التي لم يسيطر عليهما إلا عدم التصديق فقط، عدم التصديق الذي تبعه قولها الساخر:
أنت حاكيلها كمان... وياترى قولتلها أن أنت السبب في اللي أنا فيه ولا لا؟
اقتربت "ملك" ووقفت جواره ترد على اتهماتها له:
لا هو مش السبب، أنتِ اللي اتهورتي واختارتي طريق غلط، وحتى لو ضاع منك حاجه، أنتِ قدامك فرصة تانية تكوني كويسه.... لكن متعلقيش اللي حصلك على شماعة اسمها "عيسى....
قاطعها ناطقا بحزم:
بس يا " ملك" .
ابتسمت "قسمت" قبل أن تمنعه بقولها:
ليه سيبها تكمل... أصلها مسلية أوي بصراحه، وخصوصا وهي cute كده ومش لايق عليها العصبية اللي متعصباها علشانك...
ابتسمت لها "ملك" ابتسامة مماثلة وهي تخبرها:
وأنت برضو مش لايق عليكِ، تعلقي نتايج اختياراتك على غيرك.
استدار "عيسى" يطالع "ملك" وهو يطلب منها:
"ملك" ادخلي استنيني جوا.
نبرة الرجاء في حديثه، جعلتها تهز رأسها موافقة وهي تتحرك نحو الداخل ولكن أجبرها قول "قسمت" على الوقوف مكانها:
من كام سنة كان في واحده بتعتبره أخوها وكل حياتها ومستعده تقف تدافع عنه زيك كده، وأبقى كذابه لو قولت إني عرفت أكرهه... بس نصيحة مني وخليها قدامك دايما... "عيسى" بتاع نفسه وبس مش بتاع حد تاني، وأكبر دليل قدامك أهو لما احتاجته ملقتهوش فوصلت لكده... خدي من اللي حكيته درس، قبل ما تبقي أنتِ الدرس اللي غيرك ياخده.
هل اتفقوا جميعا على أن يخبروها أنها لا ترافق سوى التخلي؟... التخلي متجسد في هيئة بشر؟، لما يخبرها الجميع بالحديث ذاته... ستتعلق روحِك به وبعدها يأخذ روحك ويرحل... وتظلِ أنتِ معذبة أبدا.
نفضت عن رأسها هذه الأفكار السامة، هو شخص جيد، ليس بكاذب... لم تعهده أبدا هكذا... انتظر "عيسى" ردها على ماقالته "قسمت"، بالتأكيد حديث كهذا نجح في زراعة التذبذب في نفسها والآن سيأتي رد غير واضح ولكنها خيبت أمله حين استدارت تخبرها:
أشك أنك احتاجتيه وملقتيهوش، علشان أنا مفيش مره احتاجته فيها وملقتهوش جنبي... تابعت بعينين
لامعتين اتحدتا بعيونه التي تستمع قبل أذنه لكل ما تتفوه به... تابعت وهي تتذكر حين فرت هاربة وكانت ستقع في فخ " باسم" وكان هو منقذها الأول، تتذكر المشهد جيدا وهو يسحب مرفقها ويخرج بها من تلك الغرفة في الملهى الليلي وتحاوطها أخيرا السكينة بوجوده:
حتى في الأوقات اللي هربت فيها منه، ورفضت وجوده، لحقني.... أقولك اللي مش هتصدقيه؟
ذكرى آخرى تتجسد أمام عينيها حين قررت أن تهرب للمياه، وأن تُنهي حياتها وفاقت لتجد أن ما يحتضنها ليس المياه إنما هو.... شعرت بدقات قلبها تتزايد وهو يطالعها هكذا بعينيه الصافيتين وقد شعرت أنهما يحفظا كل تفصيلة بها وهي تقول:
لما اختارت أبعد عن الدنيا كلها، وأمشي لموتي برجلي، كان هو أول واحد من الدنيا كلها يقف في طريقي ويلحقني.
كانت ستقول "قسمت" ردها ولكن منع ذلك "عيسى" الذي جذب "ملك" من يدها وأدخلها إلى المنزل ثم عاد للواقفة أمامه والتي سألته ضاحكة:
دخلتها ليه بس؟... ولا أنت خوفت أقولها، إن الأصعب من اللي قالته ده كله إنك تفضل تقف معاها، تقف معاها لحد ما تتعود إنك بتقف من غير ما هي تطلب، وأول ما تتعود أنت بتتبخر.
حتى هذه اللحظة يراعي ما وصلت له "قسمت" لذلك يحاول جاهدا ألا ينفعل أبدا وظهر هذا في نبرته وهو يقول:
اه دخلتها علشان متسمعش حاجه تضايقها، امتى اتبخرت وسيبتك؟... أنا طول الوقت كنت جنبك، وقفت معاكِ وسمعتك أكتر ما سمعت أختي اللي محتاجاني، وأول ما اتشغلت شويه واتسحلت في حياة جديده لازم ابنيها وابتدي فيها، عملتي كل حاجه غلط وسببتيها في إهمالي أنا.
صححت له بدموع:
لا أنت مهمل فعلا أنا مش كذابة، الناس اللي انا اتلميت عليهم دول أنا أول مره اتعرفت عليهم كان عن طريقك.. ولما أنت استخسرت فيا وجودك هما أول ناس استغلوا الفرصة.
كرر خلفها باستنكار:
استخسرت وجودي!... ولما قعدت ألف وراكي، وأحاول أعرف مالك وأوضاعك متغيرة ليه ده مكانش وجودي؟... هما مكانوش صحابي على فكره يا "قسمت"، هما كانوا ناس في السباق زيهم زي الكل ومش معنى انهم جم كلموني انك تبقي اتعرفتي عليهم عن طريقي، حتى لما عرفت انهم وحشين مجتش حذرتك علشان مجاش في بالي انك هتروحي تصاحبي ناس جمعك بيهم سلام في سباق من ضمن عشرين سباق بيتعملوا كل يوم... وأنا أسف لو أنتِ شايفة إن ده هو اللي وصلك لكده.
أشارت على قدميها سائلة بألم:
وأسف دي هترجعلي اللي راح.
هنا تخلى عن صبره، شعور الذنب هذا يقتله، رغب في النطق بهذا غير آبه بأي شيء:
اللي راح راح بمزاجك، أنا مجبتلكيش الكوكايين وقولتلك اضربي.
ولكنه تراجع ولم ينطقها وقال:
كان بإيدك ترجعي عن الطريق ده، و أنتِ شايفاني سايب حالي وعمال ألف في كل حته علشان أعرف ايه اللي مشقلبك كده.
_ وارجع عنه، وترجع تبعد تاني، وارجع تاني... أنا طول عمري كنت وحيدة، أنت كنت الشخص الوحيد الحقيقي في حياتي، أنا مكنتش بعتبرك أخويا واللي هو كلام وكده، أنت كنت أخويا بجد... متخيل واحده حياتها فجأة تفضى؟ بعد ما حست بإحساس إن في ناس في حياتها.... تابعت وهي تمسح دموعها:
طب أنت ليه دخلت حياتي من الأول لما أنت عارف إنك هتضطر في وقت تهمل علشان تبني حياتك، عارف يا " عيسى" المحروم لما بيدوق طعم اللي اتحرم منه مبيقدرش يتقبل فكرة إنه يرجع محروم تاني فبيعمل أي حاجه من غير تفكير أو حساب حتى لو هتأذيه... اهو أنت بقى عملت معايا كده، ادتني اللي محتاجاه، وفجأة رجعتني من غيره تاني.
صاح بتعب، وقد ألمه دموعها:
يا قسمت افهمي، أنا حاولت كتير ابعدك عن السكة دي، أنا لما وجودي مبقاش زي الأول مكانش علشان احرمك، كان علشان في حياة لازم تكون في أولوياتي، أنا مش هفضل طول الوقت عيسى بتاع السباقات والكلية، لازم هيبقى في حياه تانية، وأنا مطلعتكيش منها على فكره ده كان تفكيرك أنتِ.
ابتسمت قبل أن تخبره:
عارف البنت اللي كانت واقفة هنا دي دلوقتي، أنت بصتلها بصة غريبة وهي بتتكلم عنك، بصة أنا عارفاها كويس، بنبصها لحد بنحس معاه بمشاعر استنيناها كتير أوي في حياتنا ومجتش، بنبصها لحد بيدينا اللي احنا محتاجينه... رغم زعلي منك بس متمناش أبدا إن يجي اليوم اللي تكسرك وتوقعك فيه على جدور رقبتك وتحرمك من اللي بتديهولك، علشان ساعتها هتحس بالنقص اللي كنت نسيته بسببها.
حديثها جعل جملته ل "ملك" تتكرر في أذنه حين قال بصدق:
أنتِ ادتيني حاجه، محدش في الدنيا كلها عرف يديهالي.
مسح "عيسى" على وجهه بضيق من مجرد التفكير وهو يسألها:
أنتِ جايه ليه يا "قسمت"؟... طالما أنا زفت أوي كده جايه ليه؟... أكيد مش جايه علشان تعاتبيني دلوقتي بعد السنين دي كلها، ....
قاطعته تقول بعينين صادقتين:
مش جايز وحشتني؟
هز رأسه بالإيجاب:
جايز فعلا، لا مش جايز ده أكيد، بس أنا محبش إنك تكرري التجربة الفاشلة اللي عماله تحكي عن نتايجها السوده دي مرتين.... أنتِ مش جايه علشان كده.
_ عارف ايه هي نقطة قوتك؟... إن أنت عارف إنك نقطة ضعف للناس اللي فرضت سيطرتك عليهم يوم.
رد على هذا بسؤاله مره ثانيه:
مسمعتش جايه ليه... و والدك عارف إنك هنا ولا لا؟
ضحكت وهي تحدثه:
جايه علشان أقولك وأنت طيب يا عيسى، وشكرا على تورتة الأيس كريم اللي مبتنساش تبعتها كل سنة في نفس الميعاد... لو كنت بترد على ال account كنت هتوفر عليا تعب المشوار، بس أنت كده متعب دايما للي حواليك.
نطق بما جعلها تصمت:
أنا لو متعب فعلا كان زماني بقول أنا مالي باللي حصلها، لكن أنا لحد النهاردة مشيل نفسي ذنبه، مش حزن عليكِ بس، حزن وكأن رجلي أنا اللي راحت
يا " قسمت" .
تابع منبها:
بالمناسبة معتقدش والدك هيكون سامح بوجودك هنا، والدك اللي مانع إن اسمي يتذكر في بيتكم، علشان كده الأفضل تروحي، وخصوصا إن العلاقات بيني وبينه اليومين دول هو ولع النار فيها... هي من ساعة حادثتك والعة، بس اليومين دول هو زودها شويه.
لم تفهم اخر كلماته ولكن صدمها دفعه لمقعدها وهو يقول:
يلا علشان أروحك.
أوقفته حين رفعت كفها مانعة:
أنا معايا السواق، وأكملت مستهزءة:
ده أنت لو هتوصلني بزقة الكرسي الحنينة دي للعربيه هوصل بعد سنة، خلي حنيتك ليك علشان متعودش على كده وتيجي فجأة ترجعني لقديمي تاني.
ثم نادت على حارس البوابة الذي رافقها عند الدخول ثم وقف بعد ذلك بعيدا، فأتى لها بعد سماعه النداء ودفع المقعد باحترام متجها إلى السيارة التي أوقفتها في الخارج، وبقى "عيسى" مكانه يطالعها بتخبط، فاستدارت تقول بحزن:
مبسوطة إني شوفتك رغم كل حاجه، وانبساطي ده مزعلني.
كانت هذه آخر جملة لها بعدها غادرت تماما وأخذ هو يلهث بانفعال، انفعال أبذل مجهود عنيف لكي لا يظهر في وجودها ويأمرها أن تكف عن لومه، يأمرها أن تكف عن جعله مذنب.... جلس على المقعد مجددا وقد وضع كفيه على وجهه بإرهاق بينما في الداخل جلست "ملك" في الردهة تنتظره، كان "يزيد" أول من استقبلها وحين أتت "تيسير" تسألها:
تشربي ايه؟
جاوبتها بابتسامة:
لا شكرا يا "تيسير" متتعبيش نفسك.
اعترض الصغير على قولها حين هتف بتذمر:
لا "تيسير" بتعملي فراولة... اشربي معايا.
ضحكت على قوله وعادت تنظر للواقفة قائلة بموافقة:
خلاص يبقى فراولة.
لم يمر سوى دقائق حتى وجدت "تيسير" تعود إليها هاتفة:
الحاج "نصران" عايزك في المكتب يا ست "ملك".
تركت مقعدها مسرعة وهي تقول للجالس جوارها وقد لاحظت حزنه:
متقلقش مش همشي غير لما نشرب الفراولة سوا.
هز رأسه برضا وتحركت هي مع " تيسير" حتى وصلت أمام المكتب فسألتها مرافقتها:
إلا هو عايزك في ايه يا ست "ملك"؟
رفعت " ملك" حاجبها بغيظ وهي تحثها:
امشي أنتِ يا "تيسير" خلاص، وخليكِ في حالك.
طالعتها "تيسير" بضجر ورحلت أما هي فدقت الباب وبعد أن سمح لها بالدخول قالت بابتسامة:
_ أنا جايه لحضرتك مخصوص، ماما قالتلي إن حضرتك عايزني.
جلست "ملك" أمامه فسألها مبتسما:
مبتجيش ليه يا "ملك" البيت عندنا، تعالي شوفي "رفيدة" ولا طلي عليا حتى.
لم تعلم ماذا تقول، فابتسمت بحرج وحاولت التبرير:
أصل مش علطول بكون فاضية، ماما بتبقى في المحل وبتكون محتاجه حد يساعدها.
ربت على كفها برفق بان في قوله حين نطق:
اجبلها من الصبح واحده تساعدها بس نشوفك.
اتسعت ابتسامتها، هذا الرجل يحمل كم من اللطف لم تجده عند أحد من قبل لذا نطقت بصدق:
شكرا يا عمو... من غير حاجه أنا هاجي بعد كده حاضر وهخليك تشوفني لحد ما تزهق.
ارتشف من كوب القهوة الموضوع أمامه بتلذذ ثم تحدث:
أنا مليش قهوة تاني النهارده بعد الفنجان ده، علشان كده بحب اجي عندكم، اهو أشرب واحد سرقة.
سحبت الكوب مسرعة من أمامه، وهي تقول بمزاح:
لا أنا بقول بلاها قهوة، كوباية عصير أحسن مية مره.
ضحك وأخذه منها، وضعه أمامه ثم تلاشت ضحكته وحل محلها تعابيره الجادة خاصة وهو ينطق:
في حاجه عايز أقولك عليها.
أدركت أهمية الموقف فحثته على الإكمال بقولها:
خير في ايه؟
طالع عينيها ولم يقل سوى ثلاث كلمات:
"عيسى" عايز يسيب.
ثلاث كلمات كانت قادرة على جعل قلبها يهوى أرضا، ثلاث كلمات مزقتها، وزاد تلاحق أنفاسها، وارتعاد جسدها حين أدركت أن الكلمة الأولى من الثلاث هي اسمه.
على الرغم من المشاعر السيئة التي تملكتها إلا أنها نطقت بحذر:
يسيب ايه يا عمو؟
همست بخوف لنفسها قبل أن تحدثه:
يسيبني؟
سألها "نصران" عن سبب ماحل بها وكان سؤاله ماكرا:
في حاجه يا بنتي؟... أنا قولت حاجه ضايقتك؟
هزت رأسها نافية وهي تطلب منه التوضيح حتى تهدأ الضجة الحادثة بداخلها الآن:
لا أنا بس عايزة أفهم... هيسيب ايه؟
تعبيرات وجهها أعطته الإجابة التي قال هذا من أجلها لذلك طمأنها:
يسيب هنا، ويقعد في القاهرة.
شعرت بالأنفاس تعود لها مجددا، وهو يكمل جملته المبتورة، وكأن الحياة رُدت بوجهها من جديد، فالتقطت كوب الماء تقول بعتاب ضاحكة:
مش تقول كده من الأول.
لم تدرك الذي قالته إلا بعد أن ارتوت فقالت بتلقائية:
أنا شكلي عكيت.
انتبهت لنصران الذي حدثها برفق:
أنا مش هسألك بتحبيه ولا لا، علشان جايز معندكيش إجابة، أو مش قادرة تقوليها لنفسك زي ما وشك قالها دلوقتي، أنا بس هقولك إنه عنده حنية لو اتوزعت على أهل الأرض كلها هيفيض منها، جايز "طاهر" شبهي أكتر في حياته وتصرفاته، و"حسن" واخد كتير و"فريد" كان زي "طاهر" لكن "عيسى" متعرفيش ليه شبه.
استغربت قوله فتابع هو:
يحير كل اللي حواليه، وبرضو تلاقي نفسك بتحبيه وليه حته لوحده في قلبك.... اللي عايزك تتأكدي منه إنه جدع ووقت ما تحتاجيه هيكون جنبك.
هرب الحديث منها، وبقى فقط الارتباك وكذلك ابتسامة صدرتها للجالس أمامها حتى أخبرها:
أنا عارف اللي حصل في بيت "عمك"، المحامي هيقدر اللي ليكِ في مال عمك يبقى كام، وحقك هيجيلك قصاد التنازل اللي هتعمليه لعيسى... وأنا فهمت الست " هادية" ده وهي وافقت.
قبل أن تنطق بأي شيء قاطعها بقوله المحذر:
متفرطيش في حقك، الفلوس دي بتاعتك وبتاعة اخواتك ووالدتك، اعتبري نفسك بيعتي اللي طلعتي بيه من أملاك عمك لعيسى، هو في حد بيبيع ببلاش؟
_ هو حضرتك اتكلمت مع ماما؟
سألته بتردد فجاوبها:
اه اتكلمت معاها، وهي وافقت، كده احسن لكم... ابعدوا أنتوا خالص عن "شاكر" ومشاكله، حقكم يبقى معاكم وسيبي اللي هتتنازلي عنه لابني يتصرف فيه هو على كيفه، لما نشوف هيعمل ايه بقى.
قال جملته الأخيرة وهو يتذكر حديثه مع ابنه حين قص عليه كل شيء فبادر يسأله:
ما تقولي على اللي في دماغك، وبعد التنازل ده هتعمل ايه؟... ايه اللي بتخططله علشان كده جاي تطلب التنازل ده؟
لم يحصل منه على إجابة واضحة أبدا، فقط إلحاح على أن يقنع والدة "ملك" أن توافق على التنازل مقابل أن يدفعوا حق هذا لملك.
فاعترض والده:
طب ما تبيعلك يا بني، ليه اللفة دي كلها وتتنازل وندفعلهم، ما تبيع وهاخد حقها علطول بدل ما نلف اللفة دي.
_ يوم ما هتكتب التنازل، فلوسهم يابابا هتكون عندهم، أنا مش عايز يتقال انها باعت، أنا عايز "شاكر" يعرف إنها اتنازلت عن مال أبوه ليا وبرضاها.
رد والده على هذا بسؤال:
طب وبعد كده؟
كعادته لا يوضح الخطط المقبلة إلا حين يوشك على تنفيذها.
فاق "نصران" من شروده على صوتها وهي تقول:
خلاص يا عمو طالما حضرتك بلغت ماما، واتفاهمت معاها أنا خلاص معنديش مشكله.
طالعها برضا ثم أردف:
قومي بقى علشان تتعشي معانا.
اعترضت مسرعة:
أنا مش قايلة لماما، وبصراحة مبحبش اسيبهم يعني... خليها مره تانية أبقى مستعده لده.
ضحك "نصران" وهو يسألها بمزاح:
مستعده لإيه، احنا هنأكلك مش هنقتلك.
أصرت على موقفها وقالت بإحراج بعد ابتسامتها:
طب معلش بلاش المره دي.
دق الصغير الباب وبعدها اقتحم الغرفة وتتبعه "تيسير" بالعصير وهو يقول بحماس:
يلا علشان تشربي معايا.
أشارت لنصران ضاحكه:
أنا هشرب فراولة مع "يزيد".
استغربت شكل الكوب البلاستيكي، وما إن وقعت عينيها على الكلمات المدونة عليه حتى قالت باستنكار:
بابل تي!
طالعت الصغير تقول:
هو احنا مش اتفقنا على عصير فراولة.
أخبرها " يزيد" بحماس:
ماهو ده بالفراولة.
احتست الشراب بالإجبار ولكن أعجبها نكهته فضحكت قائلة لنصران:
لا ده طعمه حلو فعلا.
أنهت مشروبها، وأقدمت على الرحيل فحثها "نصران" على الانتظار:
استني "عيسى" يروحك.
رفضت بلطف مبررة:
لا أنا هروح، ملهاش لزمه ولسه بدري مش متأخر.
رافقها "نصران" حتى وصلا إلى الحديقة الخارجية، فاستقام ابنه الذي ظن أنها أتت من أجله:
معاش أنا كنت لسه داخلك، أنتِ كنت عايزه ايه؟
أخبره "نصران" مازحا:
لا هي سابتها منك المره دي، أنا بعتلها تجيلي.
حاول أن يبدو في حالته الطبيعية وهو يطلب من والده:
خلاص يا بابا ادخل أنا هروحها.
طالعهما "نصران"، ولوحت له " ملك" مودعة، سارت جوار "عيسى" الذي لم ينطق بأي شيء في الطريق، فبادرت بالسؤال:
هو أنت متضايق؟
_ أنا مش عايز أتكلم.
أربع كلمات جعلتها تندم على سؤال سألته، تجاهلته ودارت بعينيها تتأمل الأراضي الزراعية فقال:
ايه الرد اللي ردتيه على "قسمت" ده؟... كنتِ بتدافعي بذمة أوي.
طالعته باستنكار مرددة:
يعني أنا غلطانة إني دافعت عنك؟
ابتسم وهز رأسه نافيا وهو يخبرها دون تردد:
لا أنتِ بتحبيني.
طالعته بغير تصديق، هل ما تفوه به حقا؟...ولم تجد غير سؤال واحد هو الذي يتردد على ذهنها الآن وتريد له إجابة:
هو أنت ايه اللي بتقوله ده؟... مبتتكسفش طيب قبل ما تقول اللي بتقوله ده؟
كانا قد وصلا أمام منزلها لتسمع الإجابة التي وضعتها على حافة الجنون:
لا مبتكسفش....
تركته وأسرعت في خطواتها ناحية محل والدتها فجذب ذراعها يمنعها وهو يكرر على مسامعها:
مردتيش... بتحبيني أنا متأكد.
هزت رأسها نافية وقد حملت عيناها الاعتراض والانزعاج:
لا أنت غلطان.
ضحك باستهزاء قائلا:
كدابه.
_ عيسى سيب ايدي من فضلك.
جوابه على طلبها هو:
أنتِ قولتِ عايزاه يا عمو برضاكي، ودي كفايه أوي علشان تعرفي إن اللي بقوله صح مش غلط.... تصبحي على خير.
ترك ذراعها مع جملته الأخيرة، وحينها نزلت دموعها وكأن ما قاله إثم... إثم كبير تشعر أنها اقترفته... هي لم تخن من ضحى بروحه من أجلها أبدا، كل مشاهد "فريد"... الكلمات، الدعم، الروح التي لم يبخل بها تتكرر أمامها الآن لذا وبدون تردد قالت:
أنا محبتش في حياتي غير واحد بس اسمه " عي...
بترت العبارة فورا بصدمة، كانت ستخطأ وتنطق اسمه هو مع أن قرارها المحسوم اسم شقيقه لذا اقترب منها يزيح دموعها بإبهامه مصححا:
اسمه "فريد" مش "عيسى" اللي كنتِ هتقولي اسمه دلوقتي.
نظرت للأسفل تقول بدموع تزداد غزارتها:
أيوه اسمه "فريد" وفضل يحبني لآخر نفس فيه.
رفع وجهها بكفه يطالع عينيها الباكيتين وكأنه يحتضنهما حتى قال ما أسرها:
وأنا عرفت هو ليه كان بيحبك.
قول تبعه ابتسامة ثم غادر وتركها واقفة مكانها وبقت هي فقط تتابع خطواته الراحلة بتخبط ودموع لا تتوقف، وقلب ضل الطريق ولم يعد يعلم ماذا يريد.
★***★***★***★***★***★***★
مقهى شباشي في إحدى بقع عروس البحر المتوسط، وخاصة البقعة القريبة من القرية التي يقطن بها "شاكر"... جلس أمام محدثته والتي ظهرت في أبهى صورها وهي تقول برقة:
Merci بجد يا "شاكر" على العزومه الحلوه دي.
ابتسم قبل أن يخبرها:
أنا كان نفسي تقبلي العزومة عندنا في البيت... وخصوصا بعد أخر موقف حصل من ال...
بترت عبارته وهي تتذكر ذلك اليوم، حين ذهبت لتقديم واجب العزاء، فأجلستها الخادمة في غرفة لا تليق مجاورة للمنزل ثم أخبرتها أنه غير متواجد بل وشبه طردتها من المكان بأكمله، ولكنها سمعت صوته وهي تغادر أثناء مرورها ببوابة المنزل الخاصة به.
قالت مدافعة برجاء:
خلاص يا "شاكر" أرجوك بلاش غلط فيها تاني... أنت وضحتلي إن كان في مشكلة جوا بينك وبين صاحبك وهي معرفتش تتصرف فعملت كده.
بالفعل إنه ذلك اليوم يوم أتى "عيسى" ومعه "ملك" واشتعل الشجار، هو من أمر الخادمة بفعل ذلك مع "بيريهان" حينما أخبرته أن إحداهن أتت لتأدية واجب العزاء تدعى "بيريهان“ وأجلستها في غرفة الضيافة الخارجية ولكنه الآن قال الآن ملقيا باللوم على من أمرها:
حتى لو يا" بيري" متتصرفش من دماغها طبعا... المفروض أول ما جيتي تدخلي حتى لو في ايه بيحصل جوا.
أعطته ابتسامة واسعه قبل أن تقول بلين:
خلاص بقى متبقاش غلس، هي مكانتش تعرف.
تابعت مغيره سير الحوار:
تعرف أنا جيت اسكندريه علشان بكون مبسوطه لما بشوفك، هو مش علشانك لوحدك أوي يعني، كمان علشان بنت عمي رجعت لجوزها وأنا مش عارفه ايه سبب قرارها ده، بس لازم أكون معاها.
_ معقول بعد كل اللي عمله؟
أجابت على سؤاله بضيق حقيقي:
تخيل؟... والمره دي قرارها، محدش غصبها.... بلاش كلام في الموضوع ده أفضل، قولتلي عايزني في حاجه مهمه.
ابتسم وهو يعبث بخصلاته مترددا فحثته ضاحكه:
ايه يا بني كل التردد ده ما تقول.
صارحها بما لم تتوقع أن يتفوه به أبدا:
"بيريهان" أنا بحبك.
جحظت عيناها، وهي تحاول استيعاب ما قاله... تطالعه باندهاش غير مصدقة وخاصة حين تابع:
ومستعد اخد أي خطوة رسمي حاليا رغم كل الظروف اللي بمر فيها.
استطاع أن يرى تأثير كلماته عليها جليا فمد كفه يحتضن كفها الموضوع على الطاولة هاتفا بحنان:
وأكتر حاجه ممكن تعمليها وتتسببي بيها في سعادتي هي إنك توافقي.
جذبت كفها مسرعة، وتركت المكان بأكمله مهرولة، دقات قلبها العنيفة تتصارع، لا يستطيع عقلها تصديق أنه قال ما قال، ركبت سيارتها مسرعة بينما من الخلف كان هناك عيون خبيثة تتابع ما يحدث برضا جلي، وهو على يقين أن كل شئ سيتم كما خُطِط له.
* * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * * *
جلست مع والدتها وشقيقتيها تبكي بلا توقف، مما جعل "مريم" الجالسة على إحدى الوسائد جوار مستندة على باب الشرفة تهتف بتذمر:
يا ملك حرام عليكِ بقى، بقالنا ساعه عايزين نعرف مالك وأنتِ كده.
جذبت "شهد" طبق المسليات ووضعته بين يدي "ملك" ناطقة بمواساة:
كلي لب صدقيني اللب بيريح، وعاملالك معاه شاي كمان أهو... كده كفايه أوي بقى وتقوليلنا مالك....تيجي نقعد في البلكونة؟
_بلكونة لا.
هتفت بها مريم مسرعه مما أثار استغرابهم فأسرعت توضح بارتباك:
أصل يعني فيه ناموس وكده
لم يكن هذا السبب الحقيقي بل شردت متذكرة ما حدث قبل أقل من ساعة، حين كانت تستذكر دروسها فيها ووجدت ذلك المار يهمس باسمها من أسفل، شهقت بصدمة وأسرعت تنظر هنا وهناك لتتيقن من أنه لا يراه أحد وهي تقول بغضب:
أنت بتعمل ايه يا "حسن"؟
_جبتلك الصور اللي صورتهالك.
قالها بضحكة واسعة فنطقت بخوف وهي تنظر حولها:
الساعه ١، جايب الصور وجاي الساعه ١.... امشي يا حسن من هنا دلوقتي قبل ما ماما تشوفك.
هتف وهو يطالعها طالبا منها الرفق:
حرام عليكِ والله... أنا مجيتش إلا علشان وحشتيني بصراحه.
كررت كلمتها بإلحاح:
امشي بقولك من هنا.
لم يستمع لقولها واستند على الحائط بأريحية، فطلبت منه برجاء:
يا حسن علشان خاطري امشي.
_ لا لو علشان خاطرك يبقى همشي.
ما إن قال هذا حتى اتسعت ضحكتها، ولكن وأدها صوت والدتها تنادي من الداخل فأسرعت تدخل وهي تحثه على الرحيل وتغلق الشرفة بإحكام.
فاقت من شرودها على صوت والدتها التي قالت بانزعاج:
مالك أنتِ كمان يا "مريم" متنحه ليه؟
هزت رأسها نافية تخبرها أنه لا شئ وهي تقول:
لا يا ماما أنا حلوه أهو.
قامت "هادية" وأخرجتها هي و"شهد" بقولها:
طب يلا على برا أنتوا الاتنين، خليني أشوف اختك مالها.
حاولن الاعتراض وعدم الخروج لمعرفة ما يحدث ولكن أمام حزم والدتهما كانت الإجابة واضحة... جلست "هادية" أمام "ملك" وهي تحثها:
احكيلي بقى اللي حصل... أنا خرجتهم اهو، رجعتي من عند "نصران" حالك مقلوب ليه، وعماله تعيطي؟
نظرت للأسفل فسألت والدتها بارتياب:
عيسى صح؟
هزت رأسها بعيون شديدة الاحمرار إثر البكاء مما جعل والدتها تسأل بانفعال:
عملك ايه؟
دافعت " ملك" عنه مسرعة وهي تمسح عبراتها:
لا هو معمليش حاجه، بس حصل حاجه كده يا ماما.
سألتها والدتها مجددا محاولة جلب الصبر:
ايه اللي حصل طيب يا حبيبتي؟
_ ماما أنا حاسه ناحيته بحاجه مختلفة، الإحساس ده لما بيجيلي، بحس إني وحشه أوي، خاينة وغداره ونسيت "فريد".
رفعت " هادية" حاجبيها باستنكار مكرره:
بتحسي ناحيته بحاجه!... هو أنتِ بتعيطي علشان بتحسي ناحيته بحاجه؟... أنا عايزه أعرف أنتِ متجوزاه ليه بقى طالما مش عايزه تحسي؟... مش عيسى ده اللي قعدت انحر في قلبي وأقولك بلاش ده بالذات علشان منوصلش للموقف اللي احنا فيه ده دلوقتي؟
زادت دموعها فاحتضنتها "هادية" محاولة تهدئتها:
طب بس متعيطيش... اهدي.
هتفت بقهر امتزج بدموعها:
يا ماما أنا مش عارفه ايه بيحصل، هو علطول بيعمل حاجات تخليني بتعلق غصب عني، دايما بيقف جنبي وبيطمني لما بكون خايفة، ويقولي إني قوية ومش لازم اكون غير كده.... عارفة لما روحنا القسم ساعة مرات عمي وشاكر... أول ما لقى "شاكر" داخل قام وقف جنبي ومسك ايدي علشان عارف إني بخاف منه، هو بيعمل كل حاجه تخليني متعلقة بيه....
طالعتها "هادية" تخبرها بدهشة:
طب ماهو كويس أهو يا بنتي، عايزه ايه تاني يا "ملك" منه؟... أنا أول مره أبقى واقفه في صفه.
هتفت "ملك" وهي تبعد خصلاتها عن وجهها وتمسح عبراتها التي تزداد غزارة:
ماهو برضو بيعمل كل حاجه بتوصلي إنه متتعلقيش، ومتوهميش نفسك.... ضربه كده بالكلام تقولي فوقي أنتِ ماشيه في سكه غلط، لما تحسي انك ماشية في سكه بتتعلقي بحد غصب عنك، والحد ده موعدكيش بأي حاجه... حتى لو حبتيه هو موعدكيش إنه هيحبك، وحتى لو فضلتي هو موعدكيش إنه دايما هيكون معاكِ.
ماقالته من البداية يحدث الآن بالضبط، حديث ابنتها هذا يذكرها بحديثها مع في المحل حين احتد النقاش بينهما وقالت له:
أنا مش هسمح انها تتكسر وتتوجع تاني... انها تتعلق بيك وأنت مش معاها، أنا عايزة اضمنلها الراحة وأنا مش هعرف أضمنها وأنا مش مرتاحة ليك أنت شخصيا.
رفع طاقية جاكيته لتغطي رأسه وتحرك نحو الخارج وما إن مر جوار " هادية" حتى أردف:
لو خايفة انها تحبني، فليكِ حق تخافي
طالعته تنتظر مبرر فقال بضحك:
علشان أنا أتحب فعلا.
تابع وهو يرى عدم رضاها:
ليكِ عندي اللي وعدتك بيه هيحصل...وده اللي ليكِ عندي.
نفضت كل ذلك عن عقلها وهي تنوي الانفراد به مجددا، كل ما فعلته الآن هو أنها احتضنت ابنتها وطلبت برجاء:
بس علشان خاطري... كل حاجه هتتحل متخافيش.
كلمات والدتها هذه كالبلسم تداوي جروح كُثر...حتى أنها استطاعت أن تسكن الآن فقط بين أحضان والدتها.
★***★***★***★***★***★***★
أوشكت على الواحدة والنصف صباحا... عاد "عيسى" أخيرا للمنزل بعد سير كثير لا يعلم سوى أنه انتهى أمام باب منزله مجددا، دخل إلى المطبخ فصدمه وجود "تيسير" مما جعله يسأل باستغراب:
أنتِ لسه مروحتيش يا "تيسير"؟
قالت السيدة بابتسامة وهي تضع الصحون في مكانها بعد أن غسلتها:
أصل أنا هبات هنا النهارده يا أستاذ " عيسى"، علشان الست "سهام" عازمة مرات أخوها الله يرحمه وعيالها بكرا.... ولازم نبدأ في عمايل الأكل من بدري.
ابتسم "عيسى" بسخرية، شقيق زوجة والده ماذا إن عرفت عائلته الكريمة غدا أنه لديه ابن لم يعترف به من زيجة تمت سرا ولم تنل صاحبتها منه شيء.
نفض كل هذا عن رأسه، بالتأكيد دعتهم غدا لأنها تعلم أنه سيذهب إلى القاهرة مع "رفيدة"، وهذا مريح له ألا يكون متواجد في حضور أي شخص منهم.
تخطى " تيسير" ووصل إلى البراد هاتفا:
أنا جعان يا "تيسير"... في أكل ايه؟
تحدثت بفخر:
الحاج " نصران" بيقول إنك بتشكر في الأكل بتاعي.
استدار يقول لها ضاحكا:
نفسك أحسن من مدام "سهام".
ضحكت " تيسير" وهي تقول:
ربنا يجبر بخاطرك يارب... أنا عامله فتة هتعجبك أوي.
انكمشت تقاسيمه بضيق وهو يقول:
مباكلهاش يا "تيسير ".
_ أنا سمعتك وأنا بحط الأكل مره، وأنت بتقول إنك مكنتش بتاكلها غير من ايد الست أمك الله يرحمها.
تابعت وهي تخبره بصدق:
بس أنا والله بعملها حلو أوي... دوقها بس هتعجبك.
هتف وهو يحاول ألا ينزعج:
قولت مباكلهاش، عندك غيرها ولا اطلع أنام؟... وبعدين فتة ايه دي اللي الساعة واحده ونص، أنا عايز حاجه تتاكل بسرعه... علشان أنام.
تحدثت بغيظ:
خلاص افتحلك علبة تونه بقى يا أستاذ " عيسى".
أخرج بالفعل العلبة المعدنية من الثلاجة وهو يحدث نفسه:
أنا كنت عارف إنها هترسى على كده في الاخر.
ووضعت له الخبز وطبق من السلطة قائلة:
والسلطة اللي بتحبها اهي أنا عاملهالك.
ابتسم بامتنان وقبل أن تخرج بادر بالسؤال:
بنتك عامله ايه يا "تيسير"؟
عادت تخبره عن أحوالها:
كويسه الحمد لله، ربنا يباركله الحاج " نصران" مبيقصرش معاها أبدا.
مد يده له بالمال طالبا:
طب خدي دول بقى من ابن الحاج.
اعترضت مسرعه:
لا يا أستاذ عيسى ميحصلش.
_ يا تيسير خلصي عايزة أكل، وبعدين دول ليها هي، لما اجي اديكي أنتِ متاخديش.
طالعته بامتنان وهي تأخذهم منه داعية:
ربنا ينورلك طريقك، وينورك أكتر ما أنت منور.
ارتفعت ضحكاته على جملتها الأخيرة ولكن قطع كلماتهما دقات لا تتوقف على البوابة، دقات عنيفة جعلت "عيسى" يخرج مسرعا ويفتح الباب ليجد أمامه زوجة "طاهر" السابقة، بدا عليها أنها على حافة الجنون وهي تصيح متخطياه:
فين "طاهر".
منعها من الإكمال بوقوفه أمامها ناطقا بغضب:
صوتك عالي يا مدام "فريدة"، ده غير انك داخلة بيوت الناس في انصاص الليالي من غير لا احم ولا دستور، وماشية تخبطي وترزعي وكأنه بيت اللي خلفوكي.
كررت خلفه باستنكار:
اللي خلفوني!.... أنت بتتكلم كده ازاي؟
سألها متصنعا الدهشة:
عاوج لساني ولا ايه أصلي مش شايف؟
ضربت على الطاولة بعنف:
أنا عايزه " طاهر" .
_ وأنا قولت صوتك يوطى وإلا هرميكي برا.
كانت نبرة "عيسى" حازمة جعلتها تتراجع قليلا عن انفعالها وبالفعل تحقق مرادها حين وجدت أفراد المنزل ينزلون جميعا من غرفهم فقالت:
كويس انكم نزلتوا أوي.... يرضيك اللي عمله "طاهر" ده يا حاج "نصران"؟
سألها " نصران" متصنعا عدم المعرفة:
عمل ايه يا بنتي؟
هتفت بنبرة عالية، تدين أفعال زوجها السابق:
رايح يخطب بت لا هي من مقامه، ولا تنفعله.... حتة بت هتجريه وراها يمين وشمال، وبكرا تديه مقلب يطلع من دماغه.
وقف "عيسى" أمامها يخبرها بابتسامة صفراء:
ماشي يا ستي شكرا على اللي أضافتيه، لما ياخد المقلب ان شاء الله هنبقى نتصل بيكِ تيجي تشمتي... اطلعي برا بقى.
_ أنت واحد قليل الأدب وبجح، أنا فريد عمره ما تخطى حدوده معايا في الكلام كده.
أشعلت فتيل غضبه لذلك هتف والده بضجر:
حاسبي على كلامك يا "فريدة"، جاية بيوت الناس تغلطي فيهم.
أخبرها " عيسى" بتهديد وقد هز ثباتها عيناه الغاضبتين:
أنا احتراما لأبويا بس، مش هعرفك مقامك وأرد على اللي قولتيه.
وصل مبتغاها... نزل لها "طاهر" أخيرا وقف أمامها يسألها بعينيه قبل فمه:
عايزه ايه يا "فريدة"؟
_ أنت خطبت فعلا؟
قالتها باستهزاء فأخبرها بالنبرة نفسها:
لا قريت فاتحة بس، ومش هعمل خطوبة هو كتب الكتاب بعد امتحانات " شهد" علطول أصلنا واخدين بعض عن حب.
سألته بغضب:
أكيد كنت تعرفها من قبل طلاقنا، أنا متأكدة علشان كده أول ما قولتلك نسيب بعض ما صدقت.
قطع الحديث اتصال جاء لعيسى الذي أجاب لأن هذا حارس البوابة الخارجية للقرية وما إن ضغط على زر الإجابة حتى سمع:
معلش يا أستاذ "عيسى" بس اتصلنا بالحاج وأستاذ طاهر مردوش.... شاكر ابن الحاج مهدي الله يرحمه واقف على الباب وعايز يدخل.
لم ينتظر، دقائق كان بعدها يقف أمام المدخل... يراه بهيئته المقيتة بالنسبة له، وهو يقول:
أنا جاي علشان حاجتين، جاي علشان أرض محسن ترجعله، وجاي بخصوص ورث "ملك"... و الأحسن نتكلم في بيت مرات عمي.
ضحك " عيسى" ساخرا ثم أشار له على موضع قدمه سائلا:
شايف الأرض اللي أنت واقف عليها دي؟
طالعه "شاكر" فقال "عيسى":
ده اخرك... أكتر من كده مش هتدخل.
ابتسم " شاكر" وهو يعرض عليه:
لا ماهو أنا مش هتكلم غير في حضورها، صدقني الجاي كله ليا... وهتزعل أوي قدام، و خصوصا لما اخدها منك.... وهي ياروحي بتترعب مني، تراهني لو اتصلت بيها دلوقتي وقولتلها تعالي يا "ملك" انها هتيجي علشان هتخاف؟
غمز له "عيسى" مؤكدا:
ده كلام بتصبر بيه نفسك، عمرها ما خافت منك..
لو كانت خافت منك كانت اتجوزتك... هي بس خافت من حقارتك وده أنا هعرف أداويه كويس.
تحداه "شاكر" قائلا:
التجربة خير دليل... اتصل بيها ولو منزلتش يبقى أنت كسبت وهي مبتخافش.... ولا تتصل ليه
أخرج "شاكر" هاتفه يبحث عن حسابها الشخصي على (فيس بوك) قائلا:
أنا هجرب كده، جايز تطلع أونلاين وتشوف المسدج.
بدأ في تسجيل صوتي قائلا:
أيوا يا "ملك"، أنا و" عيسى" على بعد كام خطوة من بيتكم عند المدخل بالظبط... ما تنزلي ولو مش عايزة براحتك... الاختيار اختيارك.
الكلمة الأخيرة هذه ستمارس تأثير سحري وأيضا صوت "عيسى" وهو يردعها:
متنزليش يا "ملك".
ضغط " شاكر" على زر الإرسال وانتظر فترة يتابع فيها الهاتف، حتى سأم فقال ضاحكا:
المسدج هتبقى في ال other علشان أنا مش عندها... لو شافتها ده حظنا بقى.... بس مش هتشوفها.
كل منهما يحمل الغدر للآخر لذلك ما إن وضع "عيسى" يده في جيبه يخرج سلاحه أخرج شاكر هو الآخر مسرعا وكل منهما قد صوب على جبهة الآخر.... اقترب الحارسان ولكن أبعدهما "عيسى" بكلمة، وهو يسمع "شاكر" يقول بإصرار:
لو جت هنا... يبقى ليلة موت أخوك هتتكرر تاني، ويا انا يا أنت.
لم يكد ينهي جملته حتى وجدها في الخلف تهتف بلوعة:
"عيسى".
أول ما قابلته هو نظرات " شاكر" المريضة... ولكنها لم تشهد نظرات من أتت لأجله، من راهن عليها وخسر الرهان.