رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الرابع بقلم سيلا وليد
قادني إليك قدر ..
و سرقك مني آخر ..
و بين القدرين فقدت قلبي ..
فهم كاذبون حين أخبروني أنّ التعافي ببعد الأحبة هيّن وأنّ الزمن كفيلٌ بتضميد جراحي
كاذبون حين أخبروني أنني سأتجاوز وأتخطى..
مضَت سنين العُمر ولازلت كما أنا بل ساءَت حالتي أكثر..
أخبروهم أنّ أماكنهم لازالت شاغرة ..
أخبروهم أن كل منا يحمِل أوجاعه معه حتى نحظى بلقاء يطيب به القلب..
ف والله إن الأذى وكل الأذى ممن تركنا معلقين دون مرسى..
ممن قال أنا هنا ، كفي بكفك للمنتهى ..ثم ذهب وترك جراحا لا تندمل ولا تشفى
خطت بخطواتٍ تأكلُ بها الأرضَ وكأنَّ هناكَ من يطاردها، توقَّفت غادة أمامها :
هاتعملي إيه يامجنونة!..دفعت الباب والله لأندِّمُه، دلفت غرفتهِ دونَ استئذان، تصرخُ باسمه، خرجَ من المرحاضِ محاوطًا جسدهِ بمنشفة، وبيدهِ الأخرى يجفِّفُ خصلاتهِ، توقَّفَ حينما وجدها بتلكَ الهيئةِ الغاصبة:
عايزة إيه يا بوتجاز، داخلة أوضتي ليه؟!..لم تهتَّم بهيئته، اقتربت منه:
تدفعهُ بغضبٍ وهدرت وكأنَّها تحاربُ شياطينها:
هاموِّتَك، واللهِ هاموِّتَك لو قرَّبتِ من شغلي تاني، ورقة الجواز تبلَّها وتشرب ميِّتها،إنسان مستفز، مفكَّر الكل عليه الطاعة،هافضحَك يازوجي المستّّبِد، لو مارجعتِش في الهبل دا...قالتها واستدارت لتغادر.
استني عندِك يابت.....
دنا منها يشيرُ إليها بالاقتراب:
إيه اللي قولتيه دا ..اهتَّزت حدقتيها بعدما استفاقت على حالته، اقترب منها وهتف بصوت اجفلها
- متفكريش علشان ساكت وبعدي تسوقي فيها
تراجعُت للخلفِ تبتعدُ بنظراتها عن عينيه:
إنتَ واحد مستَّبِد، ماتفكَّرش هسكت على اللي عملته، فوق أنا مش خايفة منَّك ولا تفكَّر ورقة الجواز دي هاتخليك تتحكِّم فيَّا، أنا ميرال جمال الدين ولا إنتَ ولامليون زيك، فارد ضلوعك عليَّا ليه، أنا مش معترفة بيك أصلًا، قالتها وهمَّت بالمغادرة إلَّا أنَّهُ جذبها بقوةٍ يدفعها على فراشهِ عندما أخرجت شيطانهِ قائلًا:
وأنا دلوقتي هخليكي تعترفي بيَّا ياأستاذة نجمة الدين، ياله عايزة أعرف بنت جمال الدين هتعمل إيه.
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ من هيئتهِ الغاضبة، واقترابهِ الغير مسموح:
إلياس ..أخرجت اسمهِ من بينِ شفتيها متقطِّعًا:
إبعِد بقولَّك ماينفعشِ كدا.
شعرَ بتخدُّرِ جسدهِ وعدم قدرتهِ على الصمود أمامَ جمالها الطاغي.
اشتعلت عينيهِ بلهيبِ الرغبة لتذوُّقِ كرزيتها..حاورتهُ بعينيهِ أن يرحمَ ضعفها بحضرته، من خلالِ لمعانها بطبقةٍ كريستالية. تصارعت أنفاسه وحرب داخليه ألهبت جميع حواسه
-إلياس ابعد انت كدا بتتمادى ..أنهت كلماته المتألمة التي خرجت من بين شفتيها بتقطع
رسم قناع بارد فوق ملامحه كي لا يعكس لهيب عشقه الدفين
اعتدلَ متمسِّكًا بكفَّيهِ ليعدلها من فوقِ فراشه، واستدارَ بظهرهِ قائلًا:
اطلعي برة، وتاني مرة إياكي تدخلي أوضتي تاني من غير إذن.
أغمضت عينيها تستمعُ إلى حديثهِ القاهرِ لقلبها، ثمَّ تحرَّكت بعضَ الخطوات، توقَّفت مستديرةً إليه:
أنا بحبِّ شغلي، ومن صغري وأنا نفسي أكون مذيعة، بس حضرتَك منعتني من الحلمِ دا من غير أسباب، حطِّيت أعذار وقولت يمكن علشان طبيعة شغلك ومن حقَّك، بس إنَّك تهدم شغلي اللي اتأقلمت عليه دا يبقى إنتَ بتهدمني لتاني مرة، اقتربت خطوةً تنظرُ لمقلتيه:
معرفشِ ليه كلِّ الكره دا، عايزني أترجَّاك، تمام ياإلياس ..اقتربت خطوةً أخرى حتى أصبحت المسافة بينهما تكاد معدومة ونظرت إليه متمتمة:
لو سمحت ياإلياس إلَّا شغلي، شغلي دا حياتي بلاش تسحبها مني كفاية امتلاكك ليَّا ..
صمتٌ من الأصواتٍ بالغرفة، ولكنَّ هناكَ ارتفاعَ أنفاسٍ تودي إلى توقُّفِ القلب، تدحرجت دمعةٌ غادرةٌ عبرَ وجنتيها، حينما وجدت جمودِه، فأزالتها واستدارت مغادرةً الغرفة بالكامل، دلفت غرفتها، وأغلقت البابَ خلفها، لتحتضنَ نفسها مع ذكرياتها المتألِّمة معه، اتَّجهت إلى مكتبتها وأخرجت ألبومًا من الصورِ يجمعهما في طفولتهما، فتحته بدموعِ عينيها التي طُبعت عليه، مع شهقاتها المرتفعة، تسألُ نفسها وهي تقلِّبُ بين الصور، وترى كيف هنا كانت نظراتُ الحبِّ والحنان، ومنذُ لحظاتٍ نظراتٍ جليديةٍ لا يوجدُ بها أي مشاعر.
أما عندهُ بعد خروجها اتَّجهَ إلى غرفةِ ثيابهِ وارتدى ملابسهِ بجسدٍ فاقدٍ لجميعِ حواسِّه، كلَّ ما يشعرُ به أنَّهُ يريدُ تحطيمَ كلَّ مايقتربُ منهُ بذاكَ الوقت.
دقائقَ وهو يحاولُ السيطرة على نداءِ قلبهِ الذي يحاربهُ بدقاتهِ العنيفة أن يخترقَ كلَّ الحواجزَ بينهما، حربٌ شعواءٌ صماءٌ تحرقُ داخلهِ بين صفعِ قلبهِ والتَّحكُمَ بنبضهِ وبين عقلهِ الذي يجزعُ من نبضِ القلب.
زفرَ باختناقٍ ليتَّجهَ إلى جهازهِ يجذبهُ ويجلسَ فوق فراشه، قامَ بحفظِ بعضِ المعلوماتِ التي توصلُ إليها، ثمَّ رفعَ هاتفهِ ليردَّ أحدهما بعدَ قليل:
أيوة ياباشا، آسف الفون كان بعيد.
إخلَص قول اللي عندك.
اسمعني ياباشا، وصلت للست اللي حضرتَك بدَّور عليها ..استمعَ إليهِ باهتمام:
الست اسمها إسراء متجوزة في العين السُخنة جوزها شغَّال في المينا، عندها ولد وبنت، الولد محامي لسة تحت التدريب والبنت ثانوية عامة، ليها أخ وحيد مسافر أبوظبي.
إبعت لي عنوانها ...
حاضر لحظة وهاتلاقيه عندك.
بالأسفلِ قبلَ قليل:
دلفَ إسلام من بابِ المنزلِ استمعَ إلى هرولةِ غادة على الدرج توقَّفَ أمامها :
مالِك يادودي..أشارت إلى الأعلى:
إلياس وميرال بيتخانقوا لازم أعرَّف بابا، خلَّاهم يفصلوها من الشغل.
ربتَ على كتفها يشيرُ إلى الأعلى:
طيِّب اطلعي إنتِ حاولي تهدِّيهم، أنا ماينفعشِ أدخل ..استدارت هاتفة:
طيِّب بسرعة ..تحرَّكَ إلى غرفةِ مكتبِ والدهِ، رفعَ يدهِ ليطرقَ فوقَ الباب ولكنَّهُ توقَّفَ حينما استمعَ إلى بكاءِ فريدة:
إلياس مش ابنك، إزاي،
دقائقَ يستمعُ إلى حديثهم بذهولٍ حتى شعرَ بدورانِ الأرضِ وكأنَّها تُسحَبُ من تحتِ قدميه..تراجعَ سريعًا للخارجِ محاولًا سحبَ أنفاسًا معتدلة، حينما شعرَ بارتفاعِ أنفاسهِ التي تزدادُ كالمتسارع.
بالداخلِ توقَّفَ مصطفى
واتَّجهَ إليها يرفعها من فوق الأرضية، ولكنها دفعتهُ بعيدًا، وهرولت للخارجِ ودموعها تفرشُ الأرضَ أمامها ...قابلها إلياس على الدرج، رفعَ رأسهِ إليها بعدما استمعَ إلى شهقاتها، توقَّفَ يطالعُها بتدقيق، شعرت بوجودهِ فرفعت عينيها إليه، وتقابلت العيونُ للحظات، لا يعلمُ لماذا خفقَ قلبهِ إشفاقًا على دموعها، لم يشعر بنفسهِ وتحرك مقتربَا منها متسائلًا:
إنتِ كويسة؟!..
كانت تسبحُ بعينيها تتفحَّصهُ بلهفةِ أم، تناست كلَّ شيئ، وكأنَّ العالمَ اختفى من حولها ولم يتبقَ سوى وليدها، اقتربت خطوةً وعينيها متعلقةً بعينيه، إلى أن وصلت إليه، حاولت الحديثَ ولكنّّها لم تقو كأنَّ لسانها ثقلَ أو هربت حروفه، استغربَ حالتها ووجهها الذي أصبحَ كلوحةٍ متفننةٍ بالأسى والحزن.
إنتِ كويسة؟!..تسائل بها مرةً أخرى حينما وجد نظراتها التائهة عليه، هزَّت رأسها وابتلعت غصَّتها وسحبت نفسها من جوارهِ بصعوبة، كالذي ينسحبُ إلى غرفةِ إعدامه، صعدت إلى الأعلى، بوصولِ مصطفى إلى إلياس الذي يراقبُ صعودها:
واقف كدا ليه يابني ..استدارَ إليهِ مقتربًا:
أبدًا مفيش، خطى من جوارهِ إلى الخارج، أوقفهُ والده:
إلياس…استدارَ برأسهِ منتظرًا حديثه، تراجعَ مصطفى إلى وقوفهِ وتساءل:
كنت في السويس بتعمل إيه؟..
ارتدى نظارتهِ قائلًا بنبرةٍ باردة:
شغل ياباشا...قالها وتحرَّكَ للخارجِ دونَ إضافةِ أيِّ حديث..
بالأعلى دلفت فريدة إلى غرفتها وهوت على الأرضيَّةِ خلفَ الباب، تضعُ كفَّيها على فمها تمنعُ شهقاتها كلَّما تخيَّلت ماذا لو أصبحُ ابنها..
ذهبت بذكرياتها ....
فلاش باك:
تحرَّكت بجوارِ غادة تشيرُ إلى الغرفةِ التي ستمكثُ بها قائلةً بإبتسامةٍ عذبة:
دي أوضتِك، هاتقعدي فيها لحد مامصطفى يشوف موضوعك..
ترقرقت عيناها بالدموعِ هاتفة :
ممكن أطلب منِّك طلب ...
أومأت لها قائلة:
طبعًا أكيد، اتفضلي…
همست بضعفٍ قائلة:
مش عايزة حد يعرف مكاني، أوراقي كلها اتحرقت في بيتي، كنت طالبة خدمة مش هانسهالِك العمر كلُّه.
أومأت غادة منتظرةً بقيَّةِ حديثها، وضعت ميرال على فراشها ثمَّ اقتربت من غادة:
عم بنتي لو وصلِّنا هايموتني أنا والبنت، دا قادر وظابط كمان، يعني هيسلَّط كلِّ نفوذه، زي ماسلَّط نفوذه وأخد منِّي كلِّ حاجة، عايزة أغيَّر اسمِ العيلة، بدل فريدة عبد المجيد يعمله أي اسم تاني، استدارت إلى ابنتها تشير إليها:
وكمان البنت يكتبها ميرال جمال الدين، دا أهم من أي حاجة وشكرًا لحضرتِك، وقت ماأوراقي تخلص، هامشي من هنا وأدوَّر على شغل.
تنهدت غادة برهةٌ تطالعها بشك، ثمَّ أردفت قائلة:
ماعرفش مصطفى هيوافق ولَّا لأ، بس هاقولُّه، لكن ماتتعشميش، مصطفى بيعامل ضميرُه أوي ماعتقدشِ أنُّه يقبل يزوَّر.
اقتربت منها وطالعتها بنظراتٍ متوسلةٍ مقتربةٍ منها بملامحٍ متألمة:
وحياة أغلى حاجة عندك يامدام، ربنا يجازيكي خير دا ثواب كبير هاتعمليه وتنجِّيني من حاجات كتيرة.
تجهَّمت ملامحُ غادة تشيرُ إليها بهدوء:
طيِّب نامي دلوقتي وبعد كدا نتكلِّم.
بعدَ عدَّةِ أيامٍ دلفت إليهِ المكتب بعد إستدعائهِ اليها، وتوقَّفت على الباب..فتوقَّفَ عندَ مقعدهِ بهيئتهِ التي تجعلُ قلبها كالمضخَّةِ خوفًا من اكتشافِ أمرها، أشارَ إليها بالدخول، دلفت بخطواتٍ ثقيلةٍ وكأنَّها ستساقُ إلى حسابها..
أقعدي يامدام فريدة..جلست تفركُ بكفَّي يديها منتظرةً حديثهِ بفارغِ الصبر:
أنا سألت عنِّك..رفعت رأسها سريعًا تنظرُ إليهِ بذهول، فهتفَ وعينيهِ تخترقُ جلوسها:
العنوان اللي قولتي عليه، دا عنوان عمِّك صح؟..
أومأت لهُ وقلبها ينبضُ بعنفٍ وكأنَّهُ سيتوقَّف.. تصنع النظرَ للورقةِ التي أمامهِ وتابعَ حديثه:
فريدة عبد المجيد
توسَّعت عيناها حتى شعرت بخروجها من محجريها فهبَّت قبلَ إتمامِ حديثه:
عرفت الحاجات دي إزاي؟..
زوى مابينَ حاجبيهِ متسائلًا:
بتتكلِّمي بجد ولَّا بتهزَّري؟!..إنتِ ناسية أنا ظابط، وسهل جدًا عليَّا، سحبت منهُ الأوراقَ سريعًا تنظرُ إليها بلهفة، ولكن وجدتها فارغة، طالعتهُ مقتربةً وهتفت بصوتٍ أجفله:
ليه تدوَّر ورايا أنا ماطلبتِش منَّك حاجة، إنتَ اللي طلبت آجي هنا لحدِّ ماأتحسِن، والصبح هاخُد بنتي وأمشي من هنا.
انكمشت ملامحهِ مستنكرًا حديثها، فنصبَ عودهِ متوقِّفًا، وأشارَ بيديهِ قائلًا بخشونة:
عايزة مني أدَّخل واحدة بيتي من غير ماأعرف هيَّ مين، مايمكن يكون تخطيط.
توقَّفت الكلمات على شفتيها، ولم يُسعفها الحديث، فنكست رأسها مع انسيابِ عبراتها بصمت.
زفرَ بضيقٍ واقتربَ منها يشيرُ إليها بالجلوس:
أقعدي يافريدة لازم نتكلِّم.. أومأت لهُ وجلست تفركُ بردائها.. حمحمَ معتذرًا:
مش قصدي أشك فيكي، أنا قصدي مكانتي حساسة ولازم أعرف كلِّ حاجة عنِّك، ماحبتشِ أنزِّل صورتك.
رفعت عينيها إليه سريعًا:
أنا ماطلبتِش من حضرتَك حاجة، ليه تعمل معايا كدا؟!..
تأفَّفَ يمسحُ على خصلاتهِ بضجر:
أنا ظابط وفي مكان حساس إنتِ متخيِّلة لو حد زقِّك عليَّا ممكن تعملي إيه!!ماخبيش عليكي كنت رافض وجودك معانا لولا إصرار غادة وخاصَّةً معاكي بيبي ومن غير أوراق، ولا أي حاجة تستندي عليها
استدارت سريعًا مردِّدةً:
شكرًا لحضرتك، وكتَّر خيرك أنا هاخد بنتي وأمشي.. قالتها وهمَّت بالمغادرة إلا أنَّهُ صاحَ قائلًا:
استني عندِك..توقَّفت بجسدٍ مرتجفٍ.
خطا إلى وقوفها ومع كلِّ خطوة كانت تشعرُ وكأنَّ جدرانَ الغرفةِ تطبقُ عليها خوفًا من هيبته التي دبَّت بقلبها الرعب، وصل إليها متوقِّفًا بثباتٍ واضعًا كفوفهِ بجيبِ بنطاله:
انا بعت اسأل عليكي في السويس
شهقة خرجت من فمها مع ازديادِ بكائها بنحيبٍ حتى فقدت القدرة على التَّحمُل، فهوت على الأرضية أمامهِ تبكي بصوتٍ مرتفعٍ مما أفزعَ غادة بالخارج، لتدفعَ بابَ المكتبِ وتدلفُ مذعورة:
مصطفى إيه اللي حصل؟!
أشارَ إليها تساعدها على الوقوف، حاولت غادة مساعدتها، إلا أن بكاءَها أفقدَ غادة اتِّزانها ليميلَ هو ويرفعها من ذراعيها محاولًا تهدئتها..
خطفوا ولادي، خطفوا حياتي..قالتها لتهوى بين ذراعيهِ مغشيًا عليها.. بعدَ فترةٍ جلست زوجتهِ بمقابلتهِ في المكتب:
إيه اللي بتقوله دا، دي شكل واحدة جاسوسة. نفثَ دخانَ سجائرهِ وتمتمَ ممتعضًا:
هوَّ أنا بقول هعمل التحريَّات
تعاظمَ الحزنُ بداخلها رافضةً ماتستمعُ إليه ، اللي أقدر أقولُه مستحيل تكون كذابة ولا مخادعة…
أطفأَ سيجارتهِ بالمطفأة، ثمَّ مسحَ على وجههِ بعنف
مسحَ على وجههِ بعنف، ثمَّ رفعَ رأسهِ إلى زوجته:
أنا ماسألتِش عليها ياغادة، أنا بخوِّفها بس..انكمشت ملامحها قائلة:
ليه يامصطفى، هاترجع تقولِّي علشان إنتَ ظابط..توقَّفت غادة وهدرت به:
إنتَ ظابط يامصطفى أه، بس مش مخابراتي ، علشان تبقى خايف أوي كدا، البنت شكلها طيِّب والكام يوم اللي قعدت فيهم هنا أنا اختبرتها في حاجات كتيرة، اقتربت منهُ بعدما وجدت تجهُّمِ ملامحه، عانقت ذراعيهِ وتحدَّثت بدلال:
حبيبي اللي دايما بيشك في صوابعِ إيدُه، البنت دي على ضمانتي أنا الشخصية، مستحيل تكون بتخطَّط لحاجة، وبعدين تعالَ هنا هيَّ كانت تعرفنا ولَّا حد كان يعرف إننا في السخنة ياباشا، ماتركِّز شوية ياظبوطي، دماغك بقت بتفلت منَّك ليه؟..
قهقهَ عليها يضمُّها لأحضانه:
بتعرفي تسيطري ياغادة ...حاوطت عنقهِ مبتسمة، ثمَّ تمتمت:
عيب عليك يامصطفى بعد السنين دي كلَّها وماعرفشِ شخصيتك!..
انحنى يدمغُ جبينها بقبلةٍ ثمَّ أردف:
ربنا يخليكي ليَّا حبيبتي، ياله قهوتي وابعتيلي إلياس وحشني من امبارح ماشفتوش.
باليومِ التالي ..دلفت غادة إلى غرفتها وجدتها تحملُ ميرال للمغادرة، توقَّفت أمامها:
رايحة فين يافريدة؟..مسَّدت على شعرِ ميرال تبتعدُ بنظراتها عن غادة وأجابتها:
ماشية يامدام.
توسَّعت عيناها تنظرُ إليها بصدمة، ثمَّ اقتربت تحملُ ميرال التي صدحَ صوتها:
طيِّب سيبي البنت يافريدة، عايزة تاكل، ثمَّ استدعت المربية:
خدي البنت أكِّليها، ثم سحبت كفَّ فريدة وخرجت قائلة:
تعالي يافريدة عايزاكي...جلست وأشارت إليها بالجلوس، طالعتها للحظاتٍ صامتة، ثمَّ أردفت:
تعرفي أنا ماليش أخوات، بابا وماما اتوفوا في حادثة وأنا ثانوية عامة، وعمِّي اللي اتولى رعايتي، كنت بتمنَّى يكون ليَّا أخت أو أخ أقعد أحكيلهم، علشان كدا خلِّيت مصطفى يفتح لي الدار دي، أنا معايا طب نفسي وأعرف أحكم على اللي قدَّامي كويس جدًا، أنا متأكدة إنِّك كويسة وطيبة، بس الدنيا عاندتك شوية، ماتزعليش من مصطفى، طبيعة شغله شكاك، أه نسيت أقولك مصطفى دا حب حياتي كلها، يعني ماتخافيش منُّه مابيقدرشِ يزعلني، وبدل قالي خلاص صدَّقيني مش هيزعَّلِك تاني ..أنا متشوقة أسمع حكايتك، إنتِ بقالك شهر عندنا ماحاولتِش أضغط عليكي، لكن حاسة وراكي وجع كبير، وحزن عميق.
ترقرقت عيناها بالدموع، ثمَّ همست بتقطُّع:
أنا كمان حبيتِك.. إنتِ طيبة أوي، رغم إنِّك ماتعرفينيش بس دخلتيني بيتِك وساعدتيني، ربنا يجبر بخاطرك، أنا طالبة منِّك خدمة وهاكون شاكرة لحضرتِك كتير.
انتظرت غادة حديثها، فركت فريدة كفَّيها قائلة:
عايزة شغل، ولو أوضة أقعد فيها أنا وبنتي..ابتسمت غادة بمحبة، ثمَّ نهضت من مكانها وجلست بجوارها تربتُ على ظهرها:
إيه أشوفلِك أوضة دي!..بقولِّك أنا ماعنديش أخوات تقوليلي أشوفلك أوضة..دلفَ إلياس يحملُ جهازَ تحكُّمِ سيارتهِ يبكي؛
مامي الريموت اتكسر، والعربية ..قالها بشهقات، نهضت فريدة تمسِّدُ على خصلاته:
ماتزعلشِ حبيبي المهم إلياسو بخير، وبابي لمَّا يرجع هايصلَّح عربية إلياسو، استدارت إلى غادة التي تبتسمُ بمحبةٍ قائلةً: مش كدا يامامي؟..
نهضت غادة وجلست أمامهِ مثلَ جلوس فريدة:
حبيب مامي زعلان علشان الريموت، طيِّب إيه رأيك نجيب عربية شُرطة كبيرة زي بتاعة بابي لإلياسو أحسن من عربية اللصوص دي.
صفَّقَ بيديهِ وعانقَ غادة:
أحلى مامي ..ثمَّ اتَّجهَ إلى فريدة وطبعَ قبلة على وجنتيها:
أحلى أنطي فريدة، ممكن أروح أبوس ميرو بقى؟..
وضعت كفَّيها موضعَ قبلتهِ وخطٌّ كرستالي من الدموع برزَ بعينيها، وهزَّت رأسها فتحرَّكَ من أمامهم سريعًا
يصدحُ بصوتهِ الطفولي.
توقَّفت غادة تبسطُ كفَّيها إليها قائلةً بمغذى:
مش يمكن دي تدابير من ربنا علشان يكون ليَّا أخت تراعي ابني بعدي،
هبَّت من مكانها تطالعها بصدمة، سحبتها غادة وجلست تنظرُ إلى فريدة، أخرجت تنهيدةً عميقةً متمتمة:
هاقولِّك سر بس أوعديني مصطفى ميعرفش، ظلَّت فريدة كما هي تنتظرُ حديثها إلى أن تابعت غادة قائلة:
عندي القلب، وخايفة أموت في أي وقت وإلياس محتاج حد يراعيه، وخصوصًا مربيته هتتجوِّز، فإنتِ لو وافقتي تكوني مربية لابني هكون شاكرة أكيد.
أمسكت فريدة كفيها وابتسمت تهزُّ رأسها:
أكيد شيئ يسعدني، لكن مصطفى بيه مش هيوافق وخصوصًا إنُّه هوَّ مصرّ يدوَّر ورايا.
توقَّفت بمقابلها تهزُّ رأسها بالنفي:
أبدًا.. مصطفى وعدني، بس لو سمحتِ ريَّحي قلبي وقولي إن فكرتي فيكي مش غلط، إحكي لي ووعد كلِّ كلمة هاتقوليها ماحدِّش هايعرفها حتى مصطفى نفسه.
جلست فريدة وطالعتها لمدَّةِ دقائقَ بصمت، تريدُ أن تبوحَ لها مايؤلمُ روحها ولكن خائفة، لم تأتمن أحدًا بعد مامرَّت بتلكَ الظروف العصيبة.
مسحت وجهها وقامت بقصِّ حكايتها منذُ ولادتها إلى أن وصلت إلى ميرال وصمتت للحظاتٍ قائلة:
وميرال بنتي منه، حبِّيت أحافظ عليها فهربِت بيها.
طالعت غادة لترى أثرَ كلماتها عليها، وجدت دموعها تنسابُ على خدَّيها بصمت، توقَّفت تطالعها بعيونها الباكية:
اتخطف منِّك ولدين، إيه كميِّة الأذية دي!..
اقتربت دونَ حديثٍ وعانقتها بقوَّةٍ:
أنا مش عارفة أقولك إيه، أه ياقلبي اللي اتحرق عليكي.
بكت فريدة بنشيجٍ وكأنَّها لم تبكِ من قبل، دقائقَ وهي بأحضانِ غادة حتى شعرت بالهدوءِ فتراجعت معتذرة:
آسفة يامدام غادة ..حاوطت غادة وجهها مردِّدَةً بصوتٍ مفعمٍ بالبكاء:
ربنا يصبَّر قلبِك، ويرجَّعلِك ولادك بخير يارب، بطَّلي عياط بقى وجعتيلي قلبي.
ظلُّوا لبعضِ الوقت إلى أن استمعوا الى صوتِ سيارة مصطفى، توقَّفت غادة وخرجت معتذرة:
مصطفى جه، إغسلي وشِّك واجهزي علشان نتغدى، وبقولِّك آخر مرَّة أسمع منِّك هاتمشي، ميرال بنتي زي ماإلياس هايكون ابنك.
خرجت من ذكرياتها على صوتِ طرقاتٍ على بابِ غرفتها ودلوفِ ميرال.
ماما قاعدة في الضلمة ليه؟..ثبَّتت نظراتها على ميرال تطالعها بصمت، وحدَّثت نفسها، هل سينصفها القدر ويجمعُ ابنها بابنةِ عدوِّها..عدوِّها كررتها فهبَّت فزعة من مجرَّدِ وجودهِ وأخذهِ ميرال، نعم إنَّها ابنتهِ ولكنَّها لاتستطع العيشَ من دونها، وضعت كفيّّها على صدرها وكأنَّ أنفاسها تُسحبُ
جلست ميرال بجوارها تنظرُ إليها بريبة، بعدما وجدت صمتها وحالتها التي لأوَّلِ مرَّةٍ تراها بها ..
ماما..قالتها وهي تربتُ على ظهرها..
سحبت نفسًا عميقًا، وبداخلها يغلي كالبركان يريد الانفجار، لقد خانها من ظنَّتهُ أصدقَ الناس لقلبها،
ماما..أطبقت على جفنيها من صوتِ ميرال وخاصَّةً حينما نادت بأمِّها…
أه ياقلبي كيف ستصمدُ أمامَ كلَّ هذا
قاطعهم طرقاتِ الباب ودلوفِ الخادمة:
إلياس باشا بيقول لحضرتِك إجهزي علشان هاتخرجوا..فتحت فمها للحديث، أشارت لها فريدة بالتوقُّفِ قائلةً وهي تستديرُ للخادمة:
قوليله هاتجهز وتنزل..اتَّجهت لوالدتها جاحظةَ العينين قائلةً برفضٍ قاطع:
مش هاخرج معاه ياماما، سمعتيني، وأنا العلاقة دي بتخنقني، لو سمحتِ، لو فعلًا بتحبِّيني إنهي العلاقة دي، يرضيكي بنتك تتجوِّز واحد مابتحبوش..نسيت فريدة مايؤلمُ قلبها أو هكذا أقنعت نفسها وتوقَّفت تجذبُ ابنتها:
تعالي علشان أساعدِك هتلبسي إيه، أوعي في يوم خطيبِك يعزمك وترفضي عزومته حبيبتي.
مسحت على وجهها تداعبُ وجنتيها، وبحرت فوقَ ملامحها، كصيادٍ ماهر، تحدِّثُ نفسها، واخدة من جمال كتير ياميرال اللي يشوفك يقول بنته، علشان كدا اتعلِّقت بيكي، قلبي وجعني ونفسي أقولِك كل اللي جوايا حبيبتي بس مش قادرة.
فاقت من شرودها على حديثِ ابنتها:
ماما روحتي فين؟..
أه..أنا هنا ياقلبي...إيه رأيك باللون دا؟..
طالعت الفستانَ للحظات، ثمَّ تذكرَّت كرههِ للَّونِ الأزرق، فبسطت يديها تجذبُ ذاكَ الفستان متمتمة:
هلبس دا خلاص يامامي، حلو وبحبِّ اللون دا أوي.
هتخرجي مع خطيبك بفستان زي دا!..إنتِ عايزاه يتخانق معاكي وخلاص ياميرال، وبعدين إنتِ ماكنتيش وعدتيني إنِّك مش هتلبسي الفساتين المكشوفة دي؟!..
دلفت للداخلِ ولم تجب والدتها، تأفَّفت فريدة بضجرٍ من أفعالِ ابنتها، ثمَّ تحرَّكت مغادرةً غرفتها، قابلها مصطفى على بابِ الغرفة، رسمَ حزنها بعينيهِ يسحبُ كفَّها بعدما وجدَ آثارَ دموعها، وصلَ إلى غرفتهما، دلفَ للداخلِ وحاوطها بذراعيه:
لسة زعلانة مني..قالها وهو يرفعُ ذقنها يتعمَّقُ بعينيها، تراجعت للخلفِ وأنزلت يديه؛
هاخلِّيهُم يجهزولك العشا، ميرال وإلياس هايتعشوا برَّة..قالتها واستدارت للمغادرة إلَّا أنَّهُ قبض على كفيها، يجذبها لأحضانهِ هامسًا بصوتهِ الرخيم:
فريدة وحشاني، قالها وهو يحتضنُ خاصتها.
بغرفةِ إلياس يقفُ أمامَ المرآةِ يصفِّفُ خصلاتهِ مع حديثهِ بالهاتف:
إزاي يعني، وليه الشقة دي متراقبة؟..
أجابهُ شريف على الجانبِ الآخر:
ماتيجي ياعم، القضية معقربة وأنا بغرق من غيرك.،
ارتدى ساعتهِ واتَّجهَ بنظرهِ لمفاتيحهِ وهو مازالَ يهاتفه:
لا أنا مش هارجع النهاردة، وبكرة كمان..اتولى إنتَ الأمر، لحد ماأرجع.
تسائلَ على الجانبِ الآخر:
رايح فين ...خرجَ من غرفتهِ متَّجهًا للأسفلِ قائلًا:
عندي مشوار شخصي، هكلِّمَك بكرة ..قالها وأغلقَ الهاتف، ثمَّ استدارَ على صوتِ كعبِ حذائها، رفعَ عينيهِ لتلكَ التي تهبطُ درجاتِ السلَّمِ كملكةٍ متوَّجة، ظلَّت نظراتهِ على خطواتها ورغمَ هدوئهِ إلا أنَّها أشعلت فتيلَ نبضه، ليشعرَ بعزفهِ لأوَّلِ مرَّةٍ وهو يراها بعينِ الحبيب، أبحرَ فوقَ جسدها بالكامل، كقبطان سفينة ليستكشفَ لأوَّلِ مرَّةٍ مفاتنها التي تُركعُ القديس أمامَ فتنتها ..فاقَ من افتتانها على صوتِ غادة:
أوعي وشك ياميرو، إيه الجمال دا؟!..
اقتربَ منها يشيرُ إلى الأعلى:
الفستان دا يتغيَّر ومش عايز حرف.
اقتربت غادة تلفُّ حولها قائلة:
ليه ياأبيه واللهِ تحفة، واو ياميرو..
غادة ماتدَّخليش في اللي مايخُصيكيش، اطلعي أوضتِك، ثمَّ اقتربَ منها حتى اختلطت أنفاسهما عندما ردَّت:
أنا مش هاخلع حاجة، دا لبسي وماحدِّش له يدَّخل، لم تُكمل حديثها حينما ارتفعت أنفاسها جاذبًا حمَّالةَ الفستان، وهدرَ بغضبٍ ارتجَّت لهُ جدرانَ المنزل:
ومش أنا اللي مراتي تمشي تعرض جسمها قدَّام الناس، حذَّرتِك قبل كدا من العريان، بس الغبية مش واخدة من دينها غير الاسم بس.
وصلت فريدة على صياحه، حاولت الحديث، رفعَ سبباته أمامها:
مراتي ..مراتي ياريت تاخدي بالك من الكلمة، مستحيل أقبل تكون على إسمي وتخرج بالطريقة دي، لو هيَّ فرحانة بجسمها أوَّلعلها فيه..
لقد صفعَ بفعلتهِ وحديثهِ كبريائها، فدنت منهُ حتى لم يفصل بينهما سوى الهواء تنظرُ لمقلتيه:
وأنا مش مراتك، ومش موافقة عليك
قست عيناهُ وارتفعت الأنفاسُ بحربِ النظراتِ هادرًا بصوتٍ مرتفعٍ بوصولِ مصطفى إليهما:
مالكم ياولاد فيه إيه؟!..
نظرَ إلى والدهِ ثمَّ أشارَ عليها مشمئزًا:
شوف المنظر دا، الأستاذة المتربيَّة خارجة بفستان عريان مبيِّن أكتر ماخافي، لا وبتتبجح ..خطا إلى أن توقَّفَ أمامَ فريدة منحنيًا بجسده:
عرفتي تربي مدام فريدة، ولولا عيني على غادة كان زمانها متربية تربية تليق بأولادِ السيوفي.
لم تعلم ماذا يقول، كانت نظراتُ الأمومة لديها تتفحَّصُ كلَّ مابه، عينيهِ التي لأوَّلِ مرَّة تراها تشبهُ عينا زوجها الراحل، لم تشعر بنفسها سوى وهي تضعُ كفَّيها على وجههِ فجأةً تهمسُ بقلبِ أمٍّ ينزف:
يوسف ..قالتها بدلوفِ مصطفى الذي طالعها بذهول، وحاولَ جذبَ إلياس:
حبيبي أنتوا خارجين؟..كانت نظراتهِ
على فريدة التي فاقت من غيبوبةِ آلامِ روحها، مستديرةً تزيلُ دموعها قائلةً بصوتٍ مفعمٍِ بالبكاء:
ميرال غيَّري فستانِك وأخرجي مع خطيبِك ..رفعت حاجبها وشيَّعتهُ بنظرةٍ ساخرةٍ ثمَّ أردفت:
أنا مش خارجة، عايز يروح يتعشَّى يروح، دي حياتي ومالوش حق يدَّخل فيها، عجبُه على كدا عجبُه مش عجبُه يبعد عنِّي، أنا أصلًا مش موافقة على الجواز.
تبدَّلت ملامحهِ وثارَ غضبهِ ينظرُ لوالدهِ بكبريائه حينما شعرَ بالدماءِ تغلي بعروقهِ من فظاظةِ حديثها وهدرِ رجولتِه:
البنت دي ماتلزمنيش، وهاطلَّقها، قالها وتحرَّكَ للخارج.
صدمةٌ عنيفةٌ أصابت فريدة ملتفتةً إلى ميرال تهدرُ بها بعنف:
روحي صالحيه، إمشي روحي صالحي خطيبك ..طالعتها بصمتٍ للحظاتٍ ثمَّ أردفت:
أنا ماغلطِّش فيه علشان أصالحُه، وأحسن حاجة هايعملها،معرفش ليه مصرِّين أنُّكم تجوزونا وأنتم متأكدين إنِّنا ماننفعشِ لبعض.
قالتها وتحرَّكت تختبئُ بغرفتها، هوت على فراشها وهنا تركت لعينيها السماحَ بالإفراجِ عن ألمِ روحها، تمدَّدت تحتضنُ نفسها وتبكي بصمت، مع أنينِ قلبها الذي ينزفُ دونَ شعورِ أحدهم.
عندهُ.. خرجَ إلى سيارتهِ قابلهُ إسلام بهيئةٍ جعلتهُ يقفُ مذهولًا ينظرُ إليهِ بلهفة:
مالك إيه اللي عمل فيك كدا وليه مختفي من الصبح؟!..
توقَّفَ أمامهِ ينظرُ إليه بدموعٍ تحجَّرت تحتَ جفنيهِ يحدِّثُ نفسه:
إزاي يكون مش أخويا، معقول بعد السنين دي كلَّها نكون عايشين في وهمِ الأخوَّة، اقتربَ إلياس بعدما وجدهُ شاردًا يربتُ على كتفه:
إسلام سامعني...رفعَ عينيهِ التي خطَّت الكثيرُ من الدموعِ على وجنتيهِ رغمًا عنه، ولم يشعر بنفسهِ سوى وهو يلقي نفسهِ بأحضانهِ يبكي كالفتاةِ التي فقدت والديها ..ربتَ على ظهرهِ وشعور الصدمة سيطرَ على جميعِ خلاياه، ظلَّ صامتًا لم ينبت ببنتِ شفة حتى يهدأ، صمتَ لدقائقَ معدودة، سحبَ كفَّيهِ يشيرُ إلى السيارة:
تعالَ نروح نتعشى مع بعض.
هزَّ إسلام رأسهِ بالنفي وتمتمَ بتقطُّع:
لا أنا هاطلع أنام شوية وأقوم علشان عندي مشروع اشتغل عليه.
أشارَ بعينيهِ على سيارتهِ قائلًا دونَ جدال:
مش باخد رأيك، إركب العربية، قالها وهو يستديرُ إلى القيادة يرفعُ هاتفهِ يحدِّثُ أحدهما بخفوت:
إسلام أخويا كان فين؟..أجابهُ الآخر:
من وقت ماخرج من البيت قعد شوية في المسجد، وبعدين لف بعربيته لحدِّ ماوصل جبل المقطَّم، قعد عليه يجي ساعتين ورجع تاني..
تمام ..قالها وأغلقَ ثمَّ استقلّّ السيارة بجوارهِ إلى أن وصل إلى أحدِ المطاعمِ المشهورة، دلفَ للداخلِ ووصلَ إلى طاولتهِ المخصَّصة كلَّما أتى إلى ذاك المطعم، ابتعدَ إسلام بنظراتهِ يتجوَّلُ بعينيهِ بالمطعم إلى أن قاطعهُ إلياس:
تاكل إيه؟..
أي حاجة ..طلبَ طعامًا لهما وظلَّ الصمتُ سيِّدَ المكانِ إلى أن تحدَّثَ وهو يشعلُ سيجارته:
سامعك..قالها وهو يطالعهُ بتدقيق، وصلَ الطعامُ فتوقَّفَ عن الحديثِ ومازالت نظراتهِ تحاصره، ابتلعَ إسلام غصَّةً مدبَّبةً وكأنَّ روحهِ تُسحبُ لبارئها يفكرُ بتلكَ المعضلة، يعلمُ أنَّهُ لم يتْركُه، تذكَّرَ تلكَ الفتاة التي قابلها بالجامعة، فرفعَ رأسهِ قائلًا بثباتٍ اكتسبهُ من مواجهاتهِ مع أخيه:
متخانق مع البنت اللي بحبِّها.
زوى مابينَ حاجبيهِ ثمَّ أخرجَ زفرةً متهكِّمًا من حديثه:
بنت، إنتَ أهبل بت تعمل فيك كدا، ماتخلينيش أرمي الطبق دا في وشَّك، هيَّ ناقصة غباء قالها وهو ينفثُ تبغهِ بغضب، وكأنَّ حديثهِ أخرجَ نبضهِ لينتفضَ بداخلهِ عندما تذكَّرَ عنيدته.
أشارَ لهُ بالطعامِ مبتعدًا عن دقَّاتِ قلبهِ العاصية، قائلًا بثباتٍ انفعالي:
إتعشى، أهو أحسن من الهبلة اللي كنت ناوي اتعشى معاها.
ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
قصدك مين، لم يرد عليه واتَّجهَ بنظرهِ للطعامِ وهناك قبضةً قويَّةً تحرقُ صدرهِ من صدى صوتها بالإجبارِ على زواجها.
عندَ ميرال دلفَت غادة إليها وجدتها تحتضنُ نفسها كالجنين، جلست بجوارها تمسِّدُ على خصلاتها:
ميرو حبيبتي هاتفضلي كدا، ماغيرتيش ليه؟..أطبقت على جفنيها حتى شعرت وكأنَّ هناكَ وخزاتٍ تحرقُ مقلتيها، فهمست بتقطُّع:
سبيني عايزة أنام..تسطَّحت بجوارها تتلاعبُ بخصلاتها قائلة:
أقولِّك سر..ظلَّت ميرال كما هي إلى أن تابعت غادة حديثها قائلة:
ماعرفشِ ليه النهاردة حسِّيت إن إلياس مغرم بيكي ياميرو.
رفعت رأسها تُطالعها بلفهةٍ من عينيها لتؤكدَ لها ما وقعَ على مسامعها، استندت غادة على خديَّها ورفعت أناملها تخللها بداخلِ خصلاتِ ميرال
مردِّدة:
قرأت شوية معلومات كدا علشان أعرف إمتى هتحَّب يعني ..قالتها بشقاوتها. اعتدلت مرام تلملمُ خصلاتها وتدفعُ كفَّيها:
بَوظتي تسريحتي ياغبية..
رفعت حاجبها وأردفت ساخرة:
تسريحة إيه ياختي، اللي يسمعك يقول البت خارجة مع حبيبِ القلب، دنت تغمزُ بعينيها:
إنَّما يابت يامرمر عايزة تطَّلقي من العسل أخويا ولَّا إيه؟..هبلة وعبيطة، بقولِّك بيحبِّك ودا شوفته النهاردة لأوَّل مرَّة أشوف إلياس بالجنان دا، أه هوَّ شديد وأنا مانكرشِ أنُّه معظم الوقت كدا، بس عيونه عليكي كانت غير، وصلني إحساس غيرة نارية بتخرج من عيونه، لكزتها وتابعت حديثها:
مش تحكُّم زي ما حضرتك قولتي، بدليل لبستي الفستان دا في عيد ميلادي وماعملشِ كدا، ليه دلوقتي اتجنن، اعتدلت جالسةً تنظرُ لأناملها قائلة:
عدِّي معايا ياستي، عيد ميلادي ماكنشِ فيه شباب غير إسلام أخويا وصحباتي اللي فيهم بنت هتموت علشان إلياس بس يكلِّمها، عرفاها طبعًا وعارفة إنَّها بتيجي هنا علشانُه، ثانيًا خروجك بالفستان دا عيون كتيرة هاتشوفِك وإنتِ عارفة جنانُه لو حد بصِّلِك، رابعًا دا الأهم عنده، شايف إن دا حرام، وإنتِ ملاحظة كلامه ليَّا طول الوقت عن اللبس، بلاش ضيِّق ياغادة، بلاش قصير ياغادة، بلاش عريان ياغادة ..يعني مش تحكُّم زي ما حضرتِك بتقولي، يبقى ليه شوفتيها كدا، ماخبيش عليكي الفستان ظاهر صدرك كلُّه، وحضرتِك كمان رافعة شعرك، يعني منيِّلاها من كلِّ حتة، وأنا حاولت أفهمِّك بطريقتي بس الغباء راكب دماغك.
ليه قولتي أنُّه بيحبِّني..قالتها بتقطُّع.
ابتسامة جميلة زيَّنت ملامحَ غادة لتقتربَ منها وتحدجها بمقلتيها:
علشان متأكدة إنِّك كمان بتحبيه، حتى لو أنا ماعرفتِش أترجم مشاعره كويس، إلياس من النوع اللي عنده كنترول كويس، بس حاسة إن جواه مشاعر، بدل ماكل شويَّة تسمِّميه بالكلام وإنتِ عارفة أنُّه مابيحبِش اللي يقرَّب من رجولته، كل شوية أنا مش موافقة ..كانت تقفُ على بابِ الغرفة تستمعُ إلى حديثهما، اقتربت منهما وأكملت حديثَ غادة:
الراجل لو بيموت في ست وحاولت تقلِّل منُّه، صدَّقيني بيدوس عليها ويمشي، وأنا لو عندي شك في إلياس ماكنتِش وافقت، اسمعي مني حبيبتي ، اختاري الراجل اللي يحميكي من أذى الدنيا والغدر، مش بتاع كلام حنيِّن وأشعار، وضعت فريدة يدها على صدرِ ميرال تنظرُ لعينيها:
اسمعي دا، وأنا متأكدة إن دا عندُه غير العند اللي بتحاولي ترسميه قدَّامه.
اعتدلت فريدة تسحبُ كفَّ غادة قائلة:
دودي تعالي معايا نعمل كيك حلو ونحضَّرُه علشان الساعة اتناعشر عندنا ظابط كاريزما وحلو عيد ميلادُه بكرة، إيه رأيك نحتفل بيه أنا وانتِ؟..
رفعت غادة كفَّها تضربها بكفِّ فريدة
وعرفت كمان أنه خرج راح مطعمه المفضل، ياله يمكن بنت حلوة من صاحبه تقابله صدفة تتعشى، ولا البت صاحبة اسلام اللي ماشية تحب على نفسها ...قالتها وخرجوا الاثنتين وهما يضحكون.
نهضت من مكانها سريعًا وتوجَّهت إلى
خزانتها وقامت بتبديل ثيابها متجهة إلى ذاك المطعم، دلفت للداخل تبحث عنه وجدته يجلس بمقابلة اسلام ينظر للنيل بشرود فاق من شروده على صوتها
-قولت غيري الفستان، مش هستناكي في المطعم، توقف اسلام يحمل هاتفه
-أنا همشي بقى، عندي مذاكرة كتير، انحنى يهمس إليها
-معرفش ايه اللي حصل بس شكلك متقلة العيار شوية
-إنت مش قولت ماشي...قالها إلياس هو يشير إليه بالتحرك..لوح لميرال
-باي ياميرو اشوفك في البيت يامرات اخويا
دقائق من الصمت بينهما حتى حمحمت معتذرة
-آسفة..لم يكترث لحديثها وظلت نظراته للخارج
-بكلمك على فكرة، من الاحترام تدي أهمية للست اللي قاعدة قدامك
-ست ..قالها مستنكرًا، فين الست دي مش شايف غير واحدة كل حياتها شتيمة وبس
-إنت اللي بتوصلني لكدا، هو ليه دايما الراجل مابيطلعش نفسه غلطان، ودائما الست هي الكائن الضعيف اللي بيغلط، رغم أنه مايقدرش يعيش من غيرها لأنها مهمة جدًا في حياته ..التفت اليها سريعًا:
مين قالِّك إن للستِّ أهميَّة في حياةِ الراجل...احتضنت كوبها بين راحتيها، وحدجتهُ بنظرةٍ جوفاءٍ متمتمة:
الصح اللي يتقال إنِّ الراجل مالوش أهمية من غير الست..
ارتفعت ضحكاتهِ بصخب، ثمَّ سلَّطَ عينيهِ عليها وأردفَ بنبرةٍ مصبوغةٍ بالتكبُّر:
وإيه الأهمية ياستِّ الفيلسوفة؟..
شملتهُ بنظرةٍ ساخرة، ثمَّ رفعت كوبها ترتشفُ منهُ وتابعت حديثها:
لولا الست ماكُنتش موجود دلوقتي، ونافخ ريشَك زي الطاووس المغرور..
الستِّ اللي حضرتَك مستهون بيها دي هيَّ اللي عملتلَك قيمة في المجتمع، ولو الرجَّالة كلَّها زيَّك ياريت الستات تتمنع عن الجواز..أنهت حديثها متوقِّفةً تجمعُ أشياءها:
حاسب على المشاريب ياسيادة الراجل المنفوخ أنا غلطانة اصلًا اني جيت وراك
ألجمتهُ بحديثها، حتى أحسَّ بإرتفاعِ ضغطِ دمهِ ليهبَّ متوقفًا
يقبضُ على ذراعها بقوَّة:
قوليلي اعمل فيكي ايه، بحاول امسك نفسي بالعافية علشان مضربكيش
-تضربني انت اتجننت..استمع الى صوت الموسيقى، فسحبها بقوة حتى كادت أن تسقط، وخرج من المطعم
فتح باب سيارته وألقاها فيها بغضًبًا جم مستديرًا إلى القيادة، جلس يسحب نفسًا يهز رأسه ودقات قلبه تخترق صدره
-نكمل في بيتنا أهو يلمنا، عجبك الفضايح دي، على اخر الزمن الناس تبصلي كدا لا ويفتحوا ميوزك علشان الناس متسمعش زعيق الهانم
وصل بعد قليل يشير إليها بالنزول
-انزلي..اتجهت بجسدها إليه وحاولت الحديث، أشار بسبباته
-انزلي مش عايز ولا كلمة ..
-بارد وتقيل ..قالتها وترجلت تدفع الباب تسبه ..ظل جالسا للحظات يهز رأسه مرددا
-وبعدهالك يابنت فريدة، هتعملي فيا اكتر من كدا ايه
دلفت للداخل ومازالت ملامحها تنم بالغضب الساحق،
كنتي فين ياميرال
اجاب أخته من الخلف مقتربا منهما
-كنت عازمها على عشا رومانسي مش كدا ياروحي..قالها وهو يحاوط خصرها بذراعيه، حاولت التملص من بين قبضته تطالعه بنظرات نارية، ولكنه اقترب يهمس بجوار أذنها
-هطلع اغير هدومي علشان نكمل العشا في اوضتي..قالها متراجع ينادي على الخادمة
-اعمليلي عشا مع ...توقف وعيناه تحاورها بمكره
-مراتي البايرة..قالها وتحرك وهو يطلق صفيرا..أشارت غادة عليه مصدومة
-مين دا؛ دا اخويا، عملتي فيه ايه؟!
توقفت عن الحديث، على صوت فريدة
- إلياس طالب عشا اومال كنتوا بتعملوا ايه ..ضربت أقدامها بأرض متحركة
-لازم اشرب س. ...م فيران علشان اخلص من البارد دا، صرخت بوالدتها
-أنا قولت دا مش بتاع جواز، دا آخره يوقفوه على منصة الاعد. ام...توقف على الدرج يرمقها بصمت ، أخرج هاتفه الذي صدح بالمكان ثم أجاب وتحرك للخارج قائلا
-عشر دقايق وأكون عندك
هزت فريدة رأسها باستياء من أفعالها، ثم تركتها وتحركت ..توقفت غادة أمامها
-معرفش الصراحة ليه الكلام دا ياميرال، يعني خرجتي ،وهزرت قدامه علشان ميعرفش، وبرضو مصرة تخسريه، على العموم مااظنش إن إلياس هيسكت بعد كدا ..قالتها وتحركت
دلفت إلى غرفتها تتجول بنظراتها بكل مكان ترسم لنفسها احلامًا وردية تريد أن يخرج من ركنا بها، وصلت لذاك الصندوق جلست وسحبته لتفتحُه، جلست تُخرجُ مافيه من بعضِ ذكرياتهما، نعم لم يكن لهما ذكرياتٍ مع بعضهما البعض منذُ أكثر من عشرِ سنوات ولكن هناك الكثير من الصور التي تجمعهم بأعيادِ ميلادهما، أخرجت تلكَ الساعة التي جلبها لها بإحدى أعيادِ ميلادها، ملَّست عليها وابتسمت على ذكرياتها كانت بعيدِ ميلادها السبعة عشر عامًا، أرسلها مع غادة مع تلكَ البطاقة التي يدَّونُ داخلها " كلِّ سنة وإنتِ طيبة"
رغمَ أنَّها خالية من المشاعر ولكنَّها تحوي الكثير من دقَّاتِ قلبها، أخرجت صورهما تنظرُ إليهم بعيونٍ سعيدة، تُحدِّثُ نفسها
من هذا الرجل، أيُعقَل يكنُّ لها مشاعر، تلكَ الملامح الجافَّة ذاتَ الخشونةِ الرجوليةِ تحملُ مشاعرَ حب!..
ظلت بفترة تفتش بأشيائها عن شيئا يبرد نار قلبها
استمعت إلى صوتِ سيارتهِ بالأسفل، فنهضت تنظرُ من خلفِ الستارة عليه،، حانت منهُ التفاتة إلى الأعلى ليجدَ ظلَّها خلفَ الستارة،
تحرَّكَ للداخلِ غاضبًا، وبداخلهِ نيران قلبهِ الذي يتجاهلها، صعدَ إلى غرفتها وطرقَ البابَ عليها، استمعَ إلى صوتها الباكي ليكوِّرَ قبضتهِ بعنفٍ حتى ابيضت، دلفَ للداخلِ وجدها كما هي بفستانها، اقتربَ منها وتعمَّقَ بالنظرِ لحالتها الحزينة، تنهيدةٍ عميقةٍ مع زفرةٍ مختنقةٍ قبلَ أن يتحدَّث، جلسَ على المقعدِ بمقابلتها قائلًا بصوتٍ جاف:
الصبح إجهزي هاخدِك معايا قبلِ الشغل ، نعدِّي على المأذون، حبِّيت أطمِّنك علشان تعرفي تنامي كويس، أشارَ على فستانها:
قومي غيَّري هدومِك، ولو عايزة تلبسي هدوم عريانة أكتر من كدا براحتِك، مش هادَّخل تاني، وزي ماقولتي تحت حياتك وإنتِ حرة فيها، انا شخص بارد مالوش في جواز الكيوتة اللي زيك
قالها ونهضَ من مكانهِ متَّجهًا إلى الباب ، ليتوقَّفَ على صوتها الغاضب:
في الآخر أنا اللي غلطانة، في الآخر أنا الوحشة وإنتَ الملاك، أنا اللي بغلَط ومش عايزاك وإنتَ اللي بتعشقني وبتموت فيَّا.
كان يستمعُ إلى صوتها الباكي ليشعرَ بتراخي أقدامِه
استدارَ يرمُقها بوجهٍ خالٍ من المشاعر، متسائلًا:
بتعيَّطي ليه؟..مش هم غاصبينك على جوازة البارد، أقبلَ عليها بخطواتهِ الثابتة وعينيهِ تحاورها بعتابٍ خرجَ من قلبهِ قبلَ لسانهِ مردِّدًا وهو ينحني بجسدهِ لمستوى جلوسها وغرز عيناهُ بمقلتيها:
تأكدي ياميرال لو روحي فيكي ودستي على رجولتي، أعدِّي عليكي مايهمنيش أي حاجة ..قالها واعتدلَ متراجعًا للخلفِ وتابعَ بأسى ظهرَ بحديثهِ رغمَ محاولتهِ الثبات:
من وقتِ ماطلبتِك للجواز وبتغاضى عن هزارِك البارد، استدارَ بجسدهِ وأشارَ إليها بسبباتهِ هادرًا بها بعنف:
إنتِ مش لسة طفلة هاقعد أدلَّع فيكي، اقتربَ مرَّةً أخرى وأردفَ من بينِ أسنانهِ بهسيس:
أنا لو شاكك واحد في المية بس إنِّك فعلًا رافضة الجوازة دي ماكنتش اتجوزتِك، بس ليه بتحاولي تستفزِّيني ماعرفش، ليه كلام العيال بتاعِك دا ماعرفش، أنا مش لسة بتعرَّف عليكي، ولا لسة صغير وماعرفشِ اللي قدَّامي كويس، اتنيِّلت وقولتلك عايز أتجوِّز علشان أكوِّن أسرة، فكَّرت بعقلي بسنِّي دا ليه ماتجوزشِ وأعمِل أسرة؟..، توقَّفَ عن الحديثِ عندما خرجت عن صمتها وتوقَّفت تتمتمُ بخفوتٍ متسائلة:
ليه أنا، مش أنا اللي كنت بحاول ألفت نظرك، مش أنا البنت اللي أمَّها بتخطَّط إزاي تسيطر عليك زي ماسيطرِت على أبوك..
شحبت روحهِ وتعرَّى أمامها عندما عجزَ عن الرد..دنت منهُ وتابعت حديثها وهي تحاورُ عينيهِ بكثيرٍ من الألم:
مش أنا البنت اللي كنت بتعطف عليَّا بعيد ميلادي لمَّا تبعتلي هديِّتي مع أختك، مش أنا البنت اللي مستحيل تربط نفسك بيها، مش أنا البنت اللي أخدت منَّك انتباه الكُل، ظلَّت تخرجُ قيحَ مافي صدرها حتى لا تعلمَ كيف وصلت إلى أن أصبحت أمامهِ ولم يفصل بينهما سوى أنفاسهما التي تعالت بكثيرٍ من الغصَّاتِ التي تخترقُ روحيهما، تعمَّقت بعينيهِ القريبة:
ليه ياإلياس، ليه أنا اللي فجأة قررت تتجوزها وتكوِّن أسرة مع إن أمها ست مش ولا بد.
انهارت كلَّ حصونهِ أمامها وعجزَ عن كلِّ شيئٍ من شعورهِ القاسي الذي شعرَ به من أعيرتها النارية التي توجَّهت إلى صدره، وقفَ كالجندي الذي سُلبَ سلاحهِ أمامَ عدوِّه ..دنت خطوةً أخرى ولم تكترث لذاكَ القربَ الجحيمي وهمست بجوارِ أذنهِ حتى شعرَ بأنفاسها الناعمة تضربُ وجنتيهِ وشفتيها التي لمست أذنه:
أنا مش عايزة أطَّلق ياإلياس، وهفضل على ذمِّتَك، بس عايزة إلياس بتاع طفولتي إلياس اللي قدامي دا مش عايزاه، أما لو عايز تفضل كدا انا برضو موافقة عليك ..توقَّفت وتعلَّقت عيناها بعينيهِ وأردفت بنفسِ خفوتها:
علشان تعرف تكسر قلبي اكتر واكتر
تراجعت للخلفِ بعدما أصابت هدفها وتابعت حديثها:
عايز تاخد حقَّك من بنتِ الست اللي مفكَّرها السبب في موت والدتك، تمام أنا جاهزة، بس بلاش دور مش دورك ... ودلوقتي إنزل لعمُّو مصطفى وحدِّد الفرح، لأننا لسة بينا جولات كتيرة يازوجي المستقبلي.
أطلق تنهيدة حارة من لهيب العشق المدفون، يرفع مقلتيه إليها
-دا كل اللي فهمتيه، الانتقام، يعني بقول نبني بيت وعيلة وانتِ بتقولي هتجوزك علشان الانتقام
طالعته لبرهة عاجزة عما يفكر به، وضعت كفيها على ذراعه وتمتمت
-طيب قولي ليه ..ريح قلبي وقولي أنتِ غلط
انحنى يدمغ جبينها بقبلة دافئة ثم ربت على ظهرها
-لا إنتِ غلط ياميرال ، عمري ما فكرت انتقم منك، ومش من شخصيتي انتقم من واحدة ست، رفعت عيناها وتسائلت بخفوت
-طيب ليه أنا، ريح دا ..قالتها وهي تشير على قلبها ، نظر محل قلبها ثم رفع عيناه إليها
-خليه يرتاح ياميرال مفيش غيرك ينفعني ولا فيه غيري ينفعك احنا الاتنين بنكمل بعض
-طيب والحب!!
نظر إليها بقلب مهشم وأعين ماتت بها الحياة مردفًا
-الامان أهم من الحب، الاحتواء والحنان أهم من الحب ..قالها و
تحرَّكَ مغادرًا قبلَ أن يفقدَ سيطرته، فلقد حاولَ استجماعَ ذاتهِ الضائعة التي بعثرتها بكلماتها
دلفت غادة بعد خروجه بفترة
-التورتة خلصت، قومي البسي حاجة حلوة وشيلي وش حضرة العمدة في الزوجة التانية وقربي من خطيبك، قربي منه وبعد كدا احكمي عليه، مش طول دا بارد دا معرفش ايه ..قالتها وتحركت للخارج ..جلست فترة تنظر لتلك الكعكة ثم توقفت وحملتها متجهة إلى جناحه
جالسًا بشرفة غرفتهِ على الشيزلونج، مغمضَ العينين يستمعُ إلى موسيقى أجنبية، وحديثها يتردد بأذنه، دلفت تحملُ كعكةَ عيدَ ميلادهِ.. وضعتها على الطاولة، وبحثت بعينيها عنهُ وجدته غافي بالشرفة، ظنَّت أنَّهُ مستغرقًا بنومه، اقتربت بهدوءٍ حتى لا توقظهُ، شعرَ بوجودها من رائحتها التي تسلَّلت إلى رئتيه، ورغمَ ذلكَ ظلَّ كما هو، اتَّجهت إلى مشغِّل الموسيقى وأغلقته، وجلست بجوارهِ تسبحُ بعينيها على ملامحهِ الوسيمة، ابتلعت ريقها وهي تمدُّ كفَّها على خصلاتهِ للحظات..تنهيدةٍ عميقةٍ أفلتتها من ثنايا روحها تداعب خصلاتهِ وتهمس:
ماعرفشِ إن كنت بتكرهني فعلًا ولَّا مجرَّد عند وخلاص، بس تأكَّد عمري ماكرهتك، بالعكس كنت بشوفَك حاجة كبيرة أوي، ماعرفشِ رغم اللي عملته بس ماعرفتِش أكرهك، وأتمنَّى إنتَ كمان تبادلني شعوري، أفلتت ضحكةً خافتةً واقتربت تطبعُ قبلةً على وجنتيه:
كلِّ سنة وإنتَ طيب يأسي، ماعرفش لسة فاكر ولَّا لأ، ظلَّت للحظاتٍ تراقبهُ بعينيها، ثم توقفت وغادرت الغرفة ...فتحَ عينيهِ
ينظرُ لطيفها الذي اختفى، ليعتدلَ جالسًا يمسحُ على وجهه، يشعرُ بتناقضٍ شديدٍ بحالته، ورغم تناقضهِ وفكرهِ المتردِّدَ بعقله الذي يُنكرُ حماقةَ دقَّاتهِ داخلَ قفصهِ الصدري، إلا أنه تمنى عدم خروجها من غرفته، اغمض عيناه وهناك شعور يراوده بالوصول إليها وسحقها بأحضانه ولكن كبريائه يرفض ذلك، ذهبَ ببصرهِ لتلكَ الكعكةِ التي وُضعت على الطاولة، نهضَ من مكانهِ ينظرُ إليها بتدقيق.. علمَ بأنَّ فريدة من أعدَّتها.
أمسكَ هاتفهِ قائلًا:
مستنيكي في الاوضة، اوعي ممتجيش جلسَ على الطاولة ومازالت نظراتهِ على تلكَ الكعكة، مرَّت عدَّةُ دقائقَ إلى أن استمعَ إلى طرقاتٍ على بابِ غرفتهِ لتدلفَ قائلة:
دلفت بخطواتٍ بطيئةٍ إلى أن توقَّفَ أمامها يشيرُ إلى الكعكةِ قائلًا:
حد يجيب حاجة ويرميها كدا ويمشي؟..
طالعتهُ مستفهمة، سحبَ كفَّها إلى أن أصبحت بجواره:
جبتي دي ومشيتي ليه؟..
رفعت رأسها قائلة:
لقيتَك نايم ماحبِّتش أقلقَك..ثبَّتَ عينيهِ
وسحبَ كفَّيها وأجلسها بجوارهِ وظلَّ يطالعها لعدَّةِ لحظات..وذكرياتهِ معها كشريطٍ سينمائي ..هاجَ القلبُ بالنبضِ حينما ابتسمت تغمزُ بعينيها:
حلوة وزي القمر صح..،
حاوطَ كتفها يضُمُّها لأحضانهِ وأطلقَ ضحكةً رجوليةً صاخبةً جعلت قلبها يتقاذفُ بينَ ضلوعها، لترفعَ وجهها تنظرُ إلى ملامحهِ عن قرب، حتى فقدت السيطرة على نبضِ شقِّها الأيسر، لترفعَ أناملها على وجههِ بلحظةِ هروبِ العقل وتحكُّمِ القلبَ هامسةً بصوتٍ ممزوجٍ بالبكاء:
تعرف ماشفتِش ضحكتك من إمتى، تجهَّمت ملامحهِ فجأةً وانقلبَ حالهِ وكأنَّ الذي أمامها غيرَ الذي كان يضحكُ منذُ لحظات، توقَّفَ وجذبَ سجائرهِ مبتعدًا بنظرهِ عنها:
حبيت أشكُرك على التورتة، بس أنا ماليش في الحلويات، والمفروض تبقي عارفة ..
خطت إلى وقوفهِ وتوقَّفت أمامه:
إيه رأيك نبدأ صفحة جديدة، ننسى المشاكل اللي بينا ونقرَّب من بعض مش يمكن علاقتنا تكون غير؟..
احتضنَ وجهها وانحنى ينظرُ لعينيها:
ميرال إنتِ ليه مفكَّرة إنِّك عدوتي، مانكرشِ أفعالك مزعجة، بس دا مايديش إنِّي بكرهك،
طيب بتحبِّني؟.،
تجمَّدَ بوقوفهِ للحظات، وسحبَ كفَّيهِ مبتعدًا عنها وسلَّطَ عينيهِ على الكعكة:
خدي التورتة وانزلي عايز أنام ماليش في شغل البنات وأعياد الميلاد دي.
هزَّت رأسها، وانسحبت تحملُ تلكَ الكعكةَ مع الغصص التي انتابت حلقها، أطبقت على جفنيها، فيكفي إذلالًا له على سرقةِ بعض لحظاتٍ تجمعهم.
بمنزلِ يزن:
أفاقَ من نومهِ على صوتِ هاتفه:
أيوة..
الباشمهندس يزن؟.،اعتدلَ على الفراشِ يعدلُ من تمرُّدِ خصلاتهِ وأجابها بصوت ٍ مفعمٍ بالنوم:
أيوة يافندم مين معايا؟..
أنا رحيل العمري ..ظلَّ صامتًا إلى أن استمعَ إلى حديثها:
الباشمهندس مالك العمري منتظرَك بكرة في مكتبُه الساعة تسعة.،
تمام ...قالها وأغلقَ الهاتف دونَ حديثٍ آخر ..استمعَ إلى صوتِ أخيهِ وأختهِ بالخارج، نهضَ من فوقِ الفراشِ وتحرَّكَ للخارج، ينظرُ بساعةِ الحائط:
مالكم صوتكم عاالي ليه؟..
أشارَ معاذ على إيمان ..أبلة إيمان مش مخلياني أنام، و أنا نعسان.
رفعَ حاجبهِ لإيمان قائلًا بمزاح:
إخص عليكي ياإيمان، ليه تحرميه من النوم أبلة إيمان؟…
ضحكت إيمان قائلة:
بيهرب من المذاكرة، هوَّ هاينام دلوقتي!.. دا لسة الساعة تسعة
حاوطَ كتفهِ وتحرَّكَ لغرفةِ المعيشة:
تعالَ يامعاذ، هاشوفك عامل إيه في الهندسة وبعدين نام، قاطعهم صوتُ رنينُ جرسَ الباب، تحرَّكَت إيمان إلى الباب وفتحته..توقَّفَ كريم:
مساء الخير ياإيمي..
نظرت للأسفلِ بخجلٍ قائلة:
أهلًا يادكتور كريم، استمعَ إلى صوتِ يزن
تعالَ يادوك...
عامل إيه ياهندسة...أشارَ لهُ بالجلوسِ قائلًا لأخته:
إعمليلنا قهوة ياإيمي ...حمحمت وهتفت بخفوت:
أنا جهزت العشا، إنتَ ماتغديتش..
اتَّجهَ ببصرهِ إلى كريم متسائلًا:
تاكل يالا، ماليش نفس لو هاتاكُل معايا وتفتح نفسي هاكل ...قالها كريم بشقاوة ...أشارَ إلى أخته:
جهزيه حبيبتي، اقتربَ منهُ يلكزه:
مافيش أخبار عن الراجل اللي أنقذته؟..
تراجعَ بظهرهِ يمسحُ على وجههِ وأجابه:
بنته لسة مكلماني.،
زوى مابينَ حاجبيهِ متسائلا:
عايزة إيه؟..هزَّ كتفهِ للأعلى والأسفل قائلًا :
ماعرفش ومش رايح..
ليه ماترُحشِ، روح شوفه عايز إيه.
أطبقَ على جفنيهِ قائلًا:
أكيد عايز يعوَّضني، أصل الناس اللي زي دي كل كلامهم مقابل.
جذبَ كريم تفاحةً من أيدي معاذ وهتف:
عارف الراجل دا قريب المحروس عريس خطيبتَك الصفرة.
ضيّّقَ عينيهِ محاولًا استيعابَ حديثه، بدأ يلوكُ التفاحة مستلِّذًا طعمها وتحدَّث إلى معاذ
أنتوا بقيتوا أغنيا إمتى يابني وجايبين تفاح أمريكاني!..ضربهُ يزن على رأسهِ بخفَّة:
اتلَّم ياحلوف، عايز أعرف إزاي بقيت دكتور..توجَّهَ بنظرهِ يفتحُ كفَّيهِ مازحًا:
كنت نايم فأمي صحتني وقالتلي مبروك ياكيمو بقيت دكتور جراحة قد الدنيا.
قهقهَ يزن عليهِ يضربُ كفوفهِ ببعضهما:
ربنا يعينِّي عليك...دلفت إيمان قائلة:
العشا جاهز ياأبيه، نهضَ يسحبهُ من كفِّهِ إلى مائدةِ الطعام متسائلًا:
ماقولتليش إزاي مالك العمري بيكون يقرَب الواد؟..
جذبَ المقعدُ وعينيهِ على تلكَ العصفورة التي تضعُ الطعامَ أمامَ معاذ ليلكزهُ يزن:
مش بترد ليه
أه..أرُّد على إيه؟..صمتَ ولم يعلِّق على حديثه، فحمحمَ معتذرًا:
من قرابة الأم، عرفت بالصدفة، رحيل دي المالك الوحيد لمجموعةِ العمري عندها خال وخالتين، واحدة بتكون أم المحروس والتانية قاعدة في ألمانيا، أه وفيه واحدة تانية بس ميتة.
استمعَ إليه بإنصاتٍ متسائلًا:
إنتَ بتعرف الأخبار دي منين؟..
لوَّحَ بكفيه قائلًا:
أووووه دا أنا مخبر قديم أوي يابني…
ألقاهُ بشريحةِ خيار:
اتكلِّم عدل وجاوب وبس، الأخبار دي بتيجي لك إزاي؟…
لو مكنتش تحلف..شيَّعهُ بنظرةٍ حذرةٍ فأجابه:
شهاب ..إنتَ نسيت إن الراجل انضرب بالنار وقعد ليلة في بيتك، وشهاب استلم القضية كان لازم يعمل فحص عائلي فحكالي عرفت كدا ارتحت.،
وضعَ الطعام بفمهِ يلوكهُ بهدوءٍ ثمَّ هزَّ رأسهِ وأجابه:
لا مارتحتِش...ذهب بذاكرتهِ إلى تلكَ الليلة قاسيةَ البرودةِ منذُ أسبوعٍ عندما دلفَ إلى منزلهِ ووجدهُ غارقًا بدمائه، يتشبثُ بقميصهِ قائلًا:
إنقذني عايزين يقتلوني...صمتَ للحظاتٍ وبعدَ رجاءٍ دامَ لدقائقَ ساعدهُ بالوقوفِ واتَّجهَ بهِ إلى منزلهِ، فتحَ البابَ ودلفَ بعودةِ التيارِ الكهربائي:
يزن مين دا؟..أشارَ إليها بالدخول:
إيمي أدخُلي إعملي أي عصير، لمَّا أكلِّم كريم..وصلَ كريم بعدَ فترةٍ وقامَ بالكشفِ عليه..فاتَّجهَ بنظرهِ إليه:
لازم ننقله مستشفى..
هيَّ الإصابة خطيرة...تسائل بها يزن؟.. هزَّ رأسهِ بالنفي واستأنفَ مستطردًا:
دا رجل أعمال مشهور، عارف يعني إيه ينضرب في بيتَك؟.. دي مصيبة، لازم ناخدُه المستشفى وهمَّا يتعاملوا معاه، هانقول لقيناه قدَّام البيت.
تخصَّرَ قائلًا:
مادا اللي حصل فعلًا:
سحبهُ من ذراعهِ يشيرُ إلى الرجل:
يابني دا لو حصلُّه حاجة الدنيا هاتتقلب عليك بلاش اسمع مني، إصابتُه محتاجة عملية ماينفعشِ أخرَّج الرصاصة هنا
قطعَ حديثهما صوتُ الرجل:
عايز تليفون، اتِّصل ببنتي قالها بينَ الوعي واللاوعي ...اقتربَ منهُ كريم بعدما وجدَ شحوبَ وجهه، ثمَّ أشارَ إلى حقيبته:
هات الشنطة أحاول أعمل حاجة لحد ما نشوف هانعمِل إيه..قامَ بعملِ إسعافاتٍ أوليَّة بوقفِ النزيف، ثمَّ هتفَ متسائلًا:
لو سمحت لازم ننقلَك مستشفى، أنا دكتور أه بس مافيش إمكانيات هنا، حاولت أوقف النزيف، لازم نخرَّج الرصاصة..
همسَ بنتي، اتصل برحيل بنتي ...أشارَ إلى جاكيتهِ ليسحبَ هاتفهِ يعطيهِ له:
تليفونك أهو..حاولَ رفعَ يدهِ لفتحِ الهاتف ولكن لم يستطع السيطرة على تلكَ الغمامة.
نفخَ بضجرٍ يمسحُ على شعرهِ بعنفٍ وصاحَ بغضب:
أنا هاتَّصل بالإسعاف الراجل هايموت، وهاتبقى مصيبة ليك يايزن..قاطعهم رنينُ هاتفَ مالك، ليرفعهُ كريم سريعًا بعدما وجدَ اسمِ وصورةِ ابنتهِ.. أجابها سريعًا:
اسمعيني كويس ياآنسة، والدِك فيه ناس حاولوا يقتلوه وإحنا أنقذناه ودلوقتي لازم يتنقل للمستشفى بأقربِ وقت، عايز من غير شوشرة عربية إسعاف بسرعة على العنوان دا.
فاقَ يزن من شرودهِ على صوتِ كريم:
شهاب بيقول شاكين إن فيه حد من أعدائهِ بس بنته بقى بتتِّهم مين تخيَّل؟..
طالعهُ باهتمامٍ متسائلًا:
راجح الشافعي، وأبو عريس الغفلة.
عندَ آدم وصلَ إلى الجامعة بأوَّلِ يومٍ دراسيٍّ له، كانت تقفُ مع صديقاتها رأتهُ يترجَّلُ من سيارته، ظلَّت تراقبهُ بنظراتها إلى أن لكزتها صديقتها:
سرحتي في إيه يا دكتورة؟.،
التفتت إليهِ مردّّدَةً
أه..لا مفيش، ياله علشان مانتأخَّرشِ على المحاضرة
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ خرجت من الجامعة تلتفتُ حولها تبحثُ عن سيارته، تأفَّفت بضجرٍ بعدما علمت بمغادرته، استقلَّت سيارةَ أجرة إلى منزلها وصلت على تجمِّعٍ من الناسِ أمامَ المنزل، ترجلَّت تنظرُ بضياعٍ إلى الحشود، وقلبها يؤلمها من الصراخ، هرولت للداخلِ وجدت والدها متسطِّحًا على الأريكة وزوجتهِ تتمتمُ بكلماتٍ غيرَ مفهومة .. توقَّفت متسائلة :
بابا مالُه..هنا فاقت سهام زوجةُ والدها:
أهي جت وش المصايب اللي أبوها أخد قرض علشانها وفي الآخر يطلعوا عليه قطَّاع الطرق يضربوه وياخدوا الفلوس آه يامراري وآدي كلية الطب ومصايبها، مفكَّرة نفسها هاتطلع أحمد زويل، أومال لو مش طول الليل وضحكات مع الشباب وقال إيه بتسمع محاضرات أهي ياختي أهي ...انسابت عبراتها على وجنتيها تنظرُ للحشدِ الذي يطالعها مشمئزًا ...هرولت للداخلِ وعبراتها تفرشُ طريقها ، أخرجت هاتفها بيدٍ مرتعشة وهاتفت متيِّمَ قلبها:
آدم…توقَّفَ بالسيارة على طرفِ الطريقِ وهزَّةٍ أصابت قلبهِ وهو يستمعُ إلى شهقاتها قائلة:
أنا موافقة على الجواز، جاهزة في أي وقت.
ثقلُت أنفاسهِ ورجفة قويَّة ضربت سائرَ جسدهِ مما شعرَ بانسحابِ أنفاسهِ متسائلًا بلسانٍ ثقيل:
إيه اللي حصل ماأنا عارف إنِّك وافقتي، بابا قالي.
بكت بصوتٍ مرتفعٍ حتى وصلَ لوالدها بالخارج:
أنا مستنية تيجي تاخدني من الجحيم دا...صفَّقت زوجةُ والدها:
شوفوا البت البجحة، لا..كمان مش مكسوفة وبدل ماتيجي تترمي تحتِ رجلِ
أبوها وتعتذِر.. رايحة تكلِّم حبيب القلب ...لكزت زوجها بقوَّة:
قوم ربِّي بنتك يامحمود اللي ناقصة تربية
عندَ أرسلان.. وصلَ إلى منزلهِ ودلفَ لداخلِ مكتبهِ يغلقهُ خلفهِ وفتحَ جهازهِ الخاص بعملِ المخابرات، دقائقَ معدودة وظهرت تلكَ العمارة أمامه، تحدَّثَ بهاتفِ المنزل:
إعملي قهوة وهاتيها المكتب، بعدَ فترة ومازالَ يراقبُ تحرُّكاتِ تلكَ العمارة، ويرتشفُ من قهوتهِ حتى ظهرت أمامهِ تلكَ الفتاة التي أغشي عليها بمحطَّةِ القطار، تدلفُ لتلكَ العمارة، كبَّر شاشةَ جهازهِ يراقبُ دلوفها وكأنَّها تعلمُ المكان جيدًا، ظلَّت نظراتهِ عليها إلى أن صعدت الطابقَ الذي بهِ تلكَ الشقة..
الله الله كان ناقصني إنتِ وبعدين بقى، دا شكل الدنيا كدا دخلت في بعضها، إيه علاقة البت دي بالأجنبي دا..شكل أيامِك مرار ياستِّ سندريلا..
بمكانٍ آخرٍ، لأوّّلِ مرَّةٍ نذهبُ إليهِ بعدَ سنوات ...فيلَّا عصرية على أحدثِ التجهيزات كانت تجلسُ تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى تنفثُ سجائرها:
وبعدين ياعطوة، يعني العملية فشلت، لازم تفكَّر كويس هانتخلَّص منه إزاي، كفاية طارق الحيوان اللي غرَّفنا وراح يلعب ببنت بيئة، وسايب الكنز..
ارتشفَ عطوة من قهوتهِ وأجابها:
بصِّي ياستِّ الناس، دلوقتي الحكومة عينيها على الراجل وماينفعشِ نقرَّب منُّه حاليًا، بس وعد في أقرب وقت هاقتلُه.
نفثت سجائرها قائلة:
دا متأكدة منُّه، أهو لحدِّ ماأليِّن دماغ الحيوان طارق.
سؤال هنا ياستِّ الناس، هيَّ البنت وحشة علشان ماتعجبشِ طارق بيه؟..
تهكَّمت تهمسُ لنفسها:
لأنُّه واد غبي طالع لأمُّه، سايب النعمة وبيبُص في القاذورات.
بتقولي إيه ياستِّ الناس؟..
لوَّحت بكفَّيها متمتمة:
سيبَك من دا كلُّه..قولي لسة راجح بيروح للبتِّ ولَّا إيه؟..
الصراحة ومن غير زعل أه، راحلها من يومين، وعرفت كمان أنُّه طلب من طارق يزورها.
هبَّت فزعة واستنكرت مافعله، ليتلوَّن الحقدُ بداخلها وهي تضيفُ بنبرةٍ سامةٍ:
ماعرفشِ إزاي البنت دي كل ما أحاول أقتلها تفلت منِّي، دي فريدة ماأخدتشِ غلوة في إيدي.
توقَّفَ عطوة وتشدَّقَ بما جعلَ قلبها سيصابُ بسكتةٍ قلبيةٍ حينما استمعت إليه:
عرفت مكان فريدة ياستِّ الناس، بس قبل ماأتكلِّم دي في عش دبابير، جوزها لوا كبير في الشرطة، وابنِ جوزها ظابط في الأمنِ القومي.
توسَّعت عيناها تضربُ على صدرها:
إنتَ بتقول إيه؟!..
بفيلَّا السيوفي قبلَ حفلِ الزفافَ بيومين، طرقَ على بابِ غرفتها ثمَّ دلفَ للداخلِ وجدها تخرجُ بثيابِ الحمام، شهقت بفزعٍ من وجودِه، رفعت كفَّيها بعفويةٍ تغلقُ فتحةَ روبِ الحمام، وتحدَّثت بتقطِّع:
إزاي تدخل كدا من غير استئذان؟!..
اقتربَ منها وعينيهِ تخترقُ جسدها متمتمًا بمزاح:
ليه مش دي أوضة مراتي البايرة؟..بلعت ريقها بصعوبة، تتراجعُ للخلفِ ورجفةً بسائرِ جسدها جعلها متخبِّطة ..إلى أن استندت على الحائط:
إلياس اطلع برة عيب كدا ..سحبتهُ أقدامهِ إليها أكثر وأكثر حتى التصقَ بها وقامَ بنزعِ منشفتها التي فوقَ خصلاتها لينسابَ شعرها المندَّى تتساقطُ بعضَ القطراتِ على عنقها، هنا فقدَ عقلهِ وتعقُّلهِ بالكامل لينزلَ ببصرهِ على تفاصيلَ جسدها من شعرها المنسدلَ إلى بشرتها الناعمة ..هزَّة لكليهما حينما مرَّر أناملهِ الخشنة فوقَ عنقها ..بلَّلت ريقها بصعوبة:
إلياس إلعِد..ابتسمَ بجاذبيةٍ مستندًا بذراعيهِ على الجدار:
ليه مش أنا بارد والمفروض يحطُّوني على منصَّة الإعدام مش دا كلامك؟..
هزَّت رأسها بالنفي مع ابتسامتها الخلَّابة وهي تعضُّ شفتيها تنظرُ للأسفلِ بخجلٍ متمتمة:
إنتَ بضايقني أعمل إيه.. بطلَّع غلِّي من برودَك.
جانبًا سعيدًا من شقاوتها التي تشبهُ شقاوةُ الأطفال، أعادت إليهِ الكثيرَ من الطفولة،وجانبٍ حزينٍ أنَّها أصابت قلبهِ بسهامِ اتهاماتها ..هتفَ دونَ وعي:
موافقة على جوازنا ياميرا؟..أنا جايلك لحدِّ عندِك من غير أي ضغوط من حد
موافقة...طبقة كرستالية زيَّنت عيناها وهي تطالعهُ بترجِّي أن يرحمَ شقَّها الأيسر، كيفَ لا تشعرَ بقلبي الذي لا ينبضُ سوى بجواركَ.. إلى متى سأعاني التجاهلَ حبيبي.. حبيبي ردَّدَها قلبها قبلَ لسانها لتغلقَ عيناها تهربَ من نظراتهِ التي أضعفتها وجعلتها رخوةً ولم ترد سوى التنعَّمَ بأحضانه.
كانت نظراتهِ تتجوَّلُ على ملامحها دونَ انقطاع، ولكن حربهِ الداخلية أقوى من ذاكَ النبضِ الذي ينبضُ بعنف، هل هذا العشقَ عذابًا لقلبه…
ميرال..فتحت عينيها على صوتهِ الرخيم لتجيبهُ ومازالت بحالةِ غياهبِ العشق.
-يعني مش هاتقولي مش عايزة الجوازة دي تاني؟..
هزَّت رأسها سريعًا بالنفي بعدما استمعت لصوتهِ الحنون، ونظراتهِ المعاتبة..
ابتسامة شقَّت ثغره، ليرفعَ كفِّهِ على خصلاتها يزيحها بعيدًا عن عيناها:
طيب علشان نبقى متفقين مش عايز لبس عريان، ودا مش علشان دماغِك التافهة، دا علشان الصح، الأوَّل ماكنشِ من حقِّي ..تناست مابينهم واقتربت منهُ وعينيها تحتضنُ عينيه:
طيب دلوقتي إيه اللي اختلف؟.،قالتها بدقَّاتٍ عنيفةٍ تريدُ أن تصلَ لمرادِ قلبها.
ابتسمَ على كلماتها المغلَّفة بالتبرير لاعترافه، جذبَ رأسها لأوَّلِ مرَّةٍ لصدرهِ
ولفَّ ذراعيهِ حولَ أكتافها:
دلوقتي بقيتي مراتي ومن حقِّي أمنعك عن اللي مايعجبنيش، قالها وهو يغمضُ عينيهِ مسلِّذًا بذاكَ القرب، أمَّا هي دفنت رأسها بصدرهِ تستنشقُ أكبرَ كمٍّ من رائحته، وقلبًا ينبضُ بالسعادةِ.. رفعَ ذقنها وأخرجها من أحضانهِ ينظرُ إليها بنظراتٍ ينبثقُ منها معاني الحب التي تذيبُ الآلامَ وتمحو الاحزان. .
حاوطت خصرهِ لأوَّلِ مرَّةٍ تضعُ رأسها على ذاكَ النبضِ العنيف، ليبتعدَ سريعًا ويهربَ من ضعفهِ بحضرتها
هرولَ بخطواتٍ متَّسعةٍ وكأنَّ أحدهم يطاردُه، اصطدمَ بفريدة التي دلفت للداخلِ بذهنٍ شارد..توقَّفَ معتذرًا..
طالعتهُ بأعينٍ كلونِ الدماء، ذُهلَ من حالتها فدنا منها:
مالك...ابتسمت من بينِ آلامِ أحزانها لأوَّلِ مرَّةٍ يسألها مابها، ماذا ستقولُ له..
أيعقَلُ أن تقصَّ لهُ ماصار، أيعقلُ أن تخبرهُ بأنَّها أجبرت والدهِ على الفحص النووي له، ماذا عليها أن تفعلَ وهي كالذي يرقدُ على موقدٍ مشتعلٍ بالنيران...كيفَ لها أن تتعايشَ مع ذاكَ الألمِ بعدما دقَّقت بملامحهِ التي تشيرُ أنَّهُ الأقربَ إلى زوجها المتوفي، كيفَ تغاضت عن ذاك..،
لأوَّلِ مرَّةٍ يسحبُ كفَّيها ويحاوطُ أكتافها ليصلَ بها إلى أقربِ مقعدٍ عندما وجدَ ارتجافَ جسدها وشحوبه:
جلسَ أمامها قائلًا:
أنا مانكرشِ بتحفُّظي عليكي، بس برضو أنا حزين على حالتِك، بقالِك أسبوع على طول قافلة على نفسِك وسرحانة، غير نظراتِك ليَّا على الأكل، لو شايفة إنِّي ماانفعشِ بنتك وقَّفي الجواز، أنا كدا كدا مش فارق معايا أتجوِّز مين، قد مافارق معايا يكون عندي عيلة ...صدَّقيني ميرال من غيرها مش فارق.،
بقلبٍ ممزَّقٍ واستفهامٍ مؤلمٍ خرجَ من ثنايا روحها هاتفةَ من خلفه:
وأنا كمان ياسيادة الظابط مش فارق معايا إنتَ ولَّا غيرك، أهو راجل والسلام علشان أريَّح أمي اللي بقيت عبئ عليها..
وقعت الكلمة على مسامعهِ هو وفريدة كصاعقةٍ شقَّت صدورهم لنصفين، ليتوقَّفَ بجسدٍ مشدودٍ وكأنَّ حديثها فتَّتَ عظامهِ من شدَّةِ قسوته..
دنا منها بأنفاسٍ ثقيلةٍ مستنكرًا كلِّ كلمةٍ تفوهَّت بها ثمَّ أشارَ إليها بإعادةِ الحديث: أي راجل، راجل والسلام، كادَ الوجعُ أن يلقيها صريعةً أمامهِ لتقتربَ منهُ بكبرياءِ أنثى دعسَ على كرامتها وغرزت عينيها بمقلتيه:
إيه مش دا كلامَك ياإلياس باشا، ولَّا حلال لحضرتَك وحرام ليَّا…
نهضت فريدة بعدما تأزَّمَ الوضعُ تقتربُ منهما ولكن حاوطتها غمامةً سوداءَ لتسقطَ على الأرضية بصرخاتِ ميرال باسمها..
صباح اليوم التالي بعد ليلة مرت على الجميع بقلوب تئن بألمًا يزهق الأرواح
حاول مهاتفتها عدة مرات ولكن هاتفها مغلق .. صباح اليوم التالي
خرج متجهًا إلى غرفتها دلف بعدما طرق عدة مرات، قابلته على الباب
-صباح الخير...اومأت له دون حديث
رفع ذقنها يتعمق بعيناها متسائلًا:
-منمتيش..غاصت في لذة قربه تنظر إلى ملامحه الحادة واردفت قائلة
-هفطر وأنام، مش ورايا حاجة
تنهد بصوت مرتفع بعدما علم بما تعني، اتخذ نفسًا طويلًا وزفره،
-شيل ايدك عايزة اعدي
انحنى وطبع قبلة على وجنتيها يهمس بجوار أذنها:
-فيه واحدة نسيت تقول لجوزها حبيبها كل سنة وانت طيب
رفرفت اهدابها عدة مرات تطالعه بصدمة، لف ذراعيه حول خصرها يقربها إليه أكثر
-عندي شغل 4 ساعات نامي كويس علشان هرجع علشان هننزل تختاري فستان الفرح يامراتي البايرة ..قالها وغادر
ابتسامة شقت ثغرها تهمس لنفسها
-الراجل دا هيدخلني العباسية لا محالة
عند ارسلان
دلفت إلى العمارة وصعدت للطابق المنشود كعادتها، طرقت على الباب وإذ فجأة يسحبها أحدهم للداخل، بعد لحظات دلف إلياس مع طاقمه العسكري دون إحداث شغب
-مش عايز خساير بشرية، أشار إلى فريقه بالتحرك بكافة الاتجاهات ...لحظات واقتحمت الشقة وتم القبض على من بها
كان يغفو على مقعده استمع الى رنين هاتفه ..زفر بضيق واجابه
-والله انا لو بشتغل دكتور نسا ماهصحى كدا، ارحم ابويا يااسحاقوا، بقيت انام زي الخفاش بالنهار
-اسمعني وبطل رغي، أمن الدولة اقتحم الشقة، اكيد عرفوا، لحظة وتخفي كل حاجة، سمعتني
تنهد وظل صامتا
-صقر سمعتني ...هو انا بعمل حاجة غير اني اسمعك، سمعت خلاص، لحد ما دماغي فرقعت منك، ياريتك بتقلني المطافي ..وتابع بمزاح
-رسلان روح رسلان تعالى، انا خايف يكون متجوزني في السر..قالها واغلق الهاتف..قبض الآخر على خصلاته بعنف كاد أن يقتلعها..دلفت دينا بوجه شاحب تنظر إليه للحظات، جلس يطالعها بصمت، هب واقفًا كالملدوغ حينما اردفت
-اسحاق انا حامل
مساءَ اليوم دلفَ مصطفى وجدها تجلسُ بالشرفةِ تنظرُ بشرودٍ وكأنَّها شيدت لنفسها عالمًا لها لوحدها منذ معرفتها بأنَّه ليس ابنه ..
فريدة..ردَّدها مصطفى لتستديرَ إليهِ برأسها.،
رفعَ يديهِ بالمظروفِ قائلًا:
جبت التحليل ..هبَّت من مكانها وهرولت إليه ..وقلبها كالمضخةِ التي تكادُ تصيبها بأزمةٍ قلبية؛
تناولتهُ بجسدٍ منتفض، ثمَّ رفعت عينيها إليه:
أنا بعمل الصح ماتزعلشِ مني، ماكُنتش عايزة حد يعرف قبلي علشان كدا منعتك من فتحه..
احتضنَ وجهها يهاتفها بصوتهِ الحنون:
فريدة إهدي حبيبتي وكلِّ حاجة في الدنيا نصيب لولا إصرارِك على كدا مستحيل أوجَع قلبك، بس كان لازم أعمِل كدا…علشان إلياس بدأ يشك من نظراتِك له، وسألني إنتي بتشتكي من حاجة؟..
ابتعدت عن حنانِ يديهِ ورغمًا عنها هزَّت رأسها ولم تستطع الألم الذي يعصفُ بداخلها:
حسيتُه ابني يامصطفى، أنا كنت مستبعدة الإحساس دا علشان قولت مستحيل، أهو إحساس أمومي يامصطفى ماعرفشِ صح ولَّا لأ، أرجوك ماتزعلشِ مني، خلِّي نار قلبي تبرد، لو ابني وقتها بس أعرف قد إيه إن كرم ربنا فوق الوصف، أمَّا لو مش ابني قلبي هايرتاح علشان مافضلشِ موسوسة، وفي نفس الوقت بقول ربنا رحيم بيَّا وأكيد كلَّها تدابير زي ماقالتها غادة زمان..
طبعَ قبلةً على جبينها وتحدَّث:
طيب حبيبتي إهدي واسحبي نفس وقبل أي حاجة إعرفي أنا معاكي، وحاولي تتماسكي يافريدة، سواء ابنك ولا لا ..هزت رأسها سريعًا وهي تفتحُ المظروفَ بيدٍ مرتعشة، وقلبًا ينتفضُ برعب، تتمتم:
أنا قوية حبيبي وهاتحمِّل كلِّ حاجة..فتحت المظروفَ تطالعهُ،
حاوطها بذراعيه، قائلًا بصوتهِ الحنون:
إهدي، خدي نفس، جسمِك بيرتعش ليه، انسابت عبراتها على وجنتيها كزخاتِ المطر وهي تفتحُ ذاكَ المظروفَ الذي يُعتبَرُ جنَّتها وجحيمها ، قرأت بعينيها مرَّة واثنان وعشرة ودموعها التي أصبحت تجري كمجرى شلال…
هوت على ركبتيها وصرخة شقَّت صدرهِ وهي تطالعه:
ابني..إلياس ابني يامصطفى، قالتها وازدادَ بكاؤها مع دلوفهِ من البابِ الرئيسي يطوفُ بنظراتهِ عليهما وعلى جلوسها بتلكَ الحالة:
مالكم فيه إيه؟..ومدام فريدة بتصرُخ ليه...
توقفت تستند على ذراع مصطفى تنظر إليه بلهفة أم تردد دون وعي
"يوسف"..مع رنين هاتفه
-إلياس باشا جبتلك الست اللي اسمها اسراء