رواية وريث آل نصران الجزء الثاني الفصل التاسع والأربعون بقلم فاطمه عبد المنعم
الفصل التاسع والأربعون (بادرت باحتضانه)
رواية_وريث_آل_نصران
بسم الله الرحمن الرحيم
تائه حائر سئمت...بأي ذنب أنا قُتِلت؟
هل بذنب أناس دمروا بعضي أم بذنب شخصي الذي لم يترك لكلي شيء إلا وسلبه منه؟
الوضع هكذا كلاهما في الغرفة ولكن هي الأريكة تعاني من خوفها على ابنتها بسبب ما أخبرها به "عيسى" ومن ألم ساقها، وهو يضرب بقبضته جبهته وعيناه لا تفارق الإطار الذي حمل صورة والدته... سمعا دقات على باب الغرفة، سيحرق كل شيء، سيقول ما عنده ويكشف جميع الحقائق لذا أخبرها وبدون تردد:
لو اللي على الباب ده أبويا، كل اللي عندي هيتحكي دلوقتي.
الإصرار في عينيه قتلها، لذا تركت مقعدها متغلبة على ما بها من ألم وهي تتناول كفه ناطقة برجاء:
لا يا "عيسى"، لا بالله عليك...
تابعت بدموع:
أنا مليش ذنب أقسم بالله ما كنت راضيه عن اللي عمله، أنا اضطريت اسكت علشان هو أخويا.
دفع كفها بعيدا وهو يجيب بحرقة:
وهي أمي.
انحاذت إلى طريق اخر تعرف أنه يتحمل من أجله فقط:
عيسى أنت لو اتكلمت أنا مش هخسر حد غير نصران... هما مهما عملت هيفضلوا ولادي مش هيخسروا امهم، أنت اللي هتخسر اخواتك يا عيسى، هتخسر اخواتك وتهد البيت ده اللي عيشت طول عمري أبني فيه....
مسحت دموعها وهي تكمل:
أنت قولتلي مره أنا لو ساكت فعلشان أخواتي، وعلشان " فريد" اللي حبك أكتر من أمه... أنا عمري ما كنت وحشه مع "فريد"، أنا حاولت بكل الطرق أعوضك وأنت مسيبتش فرصة واحده.... تردد في أذنها حين أخبرها بشماتة أول قدومه إلى القرية:
حادثة العربية اللي أخوكي مات فيها أنا اللي دبرتهاله.
فاستغلت الأمر وتحدثت:
أنا سامحتك على حق أخويا اللي انت بنفسك قولت انك قتلته، وقولت خلاص خدت حق والدتك وهتعيش لكن أنت كده يا عيسى هتدمرني وتدمر " حسن" و"طاهر" و"رفيدة" ... حتى "نصران"، أنت كده بتخسر.
كانت تنظر لعينيه منتظرة ردة فعل، أما هو فكان في عالم اخر، بدأ في السكون تدريجيا وقد انتهت نوبته، يشعر بالراحة تتخلل جسده كله، يريد الاسترخاء... جلس على الأريكة وسند رأسه متنفسا بعمق، وأخيرا ظفر بالهدوء، ظفر به وبدأ يسترجع ما فعل قبل دقائق
_ يا ست " سهام" أنتِ كويسه؟
قطع كل هذا صوت "تيسير" التي حضرت إلى المنزل للتو، وقد سمعت صوت شجار لم تتبين منه سوى صوت تأوه "سهام"... فدقت الباب ولكنها سأمت من عدم الرد فقالت ما قالته.
تركها " عيسى" تدق، ولم تستطع "سهام" الفتح خوفا من أن يتهور ويفعل أي شيء... ولكن بعد لحظات ترك مكانه على الأريكة واتجه ناحية الباب يفتحه، نطقت "تيسير" باستفسار:
هو في حاجه يا أستاذ "عيسى"؟
_ هاتي طرحه ليها.
استنكرت " سهام" ما قال وكذلك "تيسير" أيضا التي حثها بقوله:
هاتي طرحه خلصي.
وافقت وتحركت مسرعة تحضر له ما طلب، أتت بها وأعطتها ل "سهام" التي ارتدتها بناءا على رغبته وما إن فعلت ذلك حتى جذبها من مرفقها يخرج بها وهو يقول ل "تيسير":
لو الحاج صحي قوليله إن أنا و " سهام" في البيت بتاعها بتشوفه بعد ما خلص.
تحرك خطوتين فأردفت "تيسير" هامسة باستغراب من الموقف بأكمله:
"سهام" كده حاف... يالهوي عليك مبتتكسفش من حد.
خرج لموضع سيارته، ساعدها على الركوب ولم تستطع هي السؤال عن أي شيء، ثم ركب في المقعد المخصص للقيادة وأدار السيارة راحلا إلى وجهة حددها قبل خروجه من المنزل.
★***★***★***★***★***★***★***★
ترك "طاهر".." رفيدة" تنعم بالنوم في إحدى غرف شقته، وكان هو وصغيره في غرفة اخرى ... احتضن صغيره ونام بعد محاولات كثيرة، لا يستطيع النوم دون أن يعرف ما حدث، لكنه ترك لشقيقته مساحتها حتى تستطيع الحديث.... فاق على لمسات من كف ابنه وهو يقول بتذمر:
يا بابا قوم بقى.
فتح عينيه وهو يسأله بإجهاد:
في ايه يا "يزيد"؟
أبدى الصغير اعتراضه:
احنا هنا ليه؟... أنا عايز أنزل تحت، وكمان " غرام" أنا سايبها تحت.
اعتدل "طاهر" ومسك بخصلات ابنه ناطقا بغيظ:
مصحيني علشان ست غرام بتاعتك؟
_ احنا عايزين نخرج يا بابا، أنت بقالك كتير مخرجتنيش.
قال هذا بحزن فأخبره "طاهر" بما أسعده:
أنا عندي رحلة بس كمان أسبوع، هتكون أجازتي خلصت، شوف عايز نخرج فين ونخرج الأسبوع ده.
هتف الصغير بحماس شديد:
عايزين نروح الرحلة مع "زياد" و "كريم".
كان يقصد أصدقائه في نفس المرحلة الدراسية، وتلك الرحلة التي خططت لها مدرسته بمناسبة انتهاء العام، وبداية الأجازة الصيفية... فقال " طاهر" بضجر:
جينا بقى للكلام اللي مبحبهوش... أولا أنت عارف رأيي في موضوع الرحلات ده
كرر ابنه بنفس نبرته المعترضة:
مرفوض تماما.
ضربه بخفة على كتفه قائلا:
طب ما انت فالح اهو يا خويا وبتسمع الكلام، ثانيا بقى أنت في كيچي والرحلات دي للناس اللي أكبر منك في المدرسة
اعترض ابنه:
لا قالوا الصغيرين ممكن يجيبوا حد كبير معاهم، وكمان في مشرفين هناك فمش هحتاج حد أصلا، و بعدين يا بابا أنا كبير.
_ مفيش رحلات يا "يزيد".
قالها " طاهر" ناهيا النقاش قبل تطوره ولاحظ الحزن الظاهر على وجه "يزيد" فتابع مخففا:
بس ممكن نسافر انا وانت الأجازة الجاية.
هتف "يزيد" بحزن:
لا انا عايز اروح مع اصحابي، احنا علطول بنروح لوحدنا.
هتف "طاهر" بحزن مقلدا حديث ابنه:
وأنا علطول اقولك خلي الرحلات دي لما تكبر شويه، عديها المره دي بقى علشان خاطر بابا يا "يزيد".
لم يكن ابنه راضيا أبدا ولكنه خضع في النهاية لما قال قائلا شرطه:
خلاص قوم اعملي كورن فليكس.
هتف " طاهر" بغير تصديق:
انت بتتشرط كمان ياض، ده أنا معيشك عيشة ملوك، رحلات وفسح وعمال اطبطب وادادي... ده انا مشوفتش ربع الطبطبة دي في سنك.
ربت ابنه على كتفه قائلا بشقاوة:
أنا هطبطب عليك يا بابا.
ضحك "طاهر" على فعلته وجذبه وقد طوله بذراعه وهو يهتف بمزاح:
طب تعالى بقى.
أخذ الصغير يضحك عاليا، ولكن تركه فجأة حين سمع كلاهما صوت أحدهم يحاول فتح الباب الخارجي.
طلب "طاهر" من ابنه بلطف:
شغل التليفزيون اتفرج، وانا شويه وهجيلك نفطر سوا.
وافقه على ذلك وخرج "طاهر" فوجد شقيقته تحاول فتح باب المنزل... وقف خلفها ونطق:
بتعملي ايه يا "رفيدة".
انتفضت بذعر وما إن اطمئنت حتى هتفت:
خضتني يا " طاهر".
جاوبت على سؤاله بسؤال اخر:
الباب مقفول بالمفتاح ليه؟... أنا عايزه أنزل لماما.
أبدى اعتراضه وظهر هذا في كلماته:
قبل ما نتكلم؟... ولا هو اللي حصل امبارح ده كان عادي بالنسبالك، ميستاهلش اننا نتكلم فيه؟
شعرت ببوادر البكاء فوضعت كفيها على وجهها، لذا جذبها من مرفقها متحدثا برفق:
تعالى يا "رفيدة" ندخل الأوضه ونتكلم.
تحركت معه وبالفعل وصلا إلى الغرفة.... جلست على الفراش وجلس هو أمامها، انتظر منها أي حديث حتى قالت مدافعة بدموع:
أنا معملتش حاجه يا "طاهر" والله، أنا فعلا كنت أعرف "سعد" ده من قبل اللي حصل.
اهتم وانتظرها تكمل ما بدأت فسمع:
أنا حياتي كانت واقفة بعد وفاة "فريد"، أنا طول عمري بتعامل منكم على أني طفلة بتدوني اهتمام وحب ودلع بس، مفيش مره جربت اتحمل فيها مسؤلية... لما " فريد" مات انا انهارت مقدرتش اتحمل المسؤولية زيكم، كنت محتاجة انكم تكونوا جنبي، بس فجأة حسيت انكم محدش فايق انه يكون جنب حد اصلا، "عيسى" تقريبا كان أسرع واحد فيكم يفوق ويقدر يبصلي، ماما طلبت منها مره واتنين وتلاتة تكون جنبي ومعملتش ده، علطول مشغولة، بتزعق، متعصبة.
انهارت في جملتها الأخيرة، وتابعت نحيبها وهي تقول:
في الوقت ده "سعد" دخل حياتي، "چيهان" صاحبتي عرفتني عليه، قالت إنه قريبها... حتى "چيهان" كنت عارفة إنها موجوده بس معايا علشان مصلحتها ومع ذلك استحملت، لأني مقدرش أكون لوحدي.... من أول يوم شوفت فيه "سعد" وهو بيهتم بكل الطرق رغم كل التجاهل اللي شافه مني، بدأت أحس إنه يستاهل فرصة... لكن أول ما الحياة رجعت لطبيعتها، ورجعت انت موجود، وحسن موجود، وبابا موجود حسيت ان كل حاجه رجعت زي ما كانت... لاقية اهتمام منكم كلكم، حتى "عيسى" اللي اغلب الوقت مش في البيت بيعمل ده بكل طاقته معايا، فحسيت ان وجود "سعد" غلط وبعدت عنه خالص، بقيت اتهرب منه بكل وسيلة... لحد امبارح
بدأت تقص عليه ما حدث من نزولها مع صديقتها لشراء بعض الأغراض، حتى وجدت نفسها فاقدة للوعي ثم فاقت على وجودها معه في مكان هجره البشر.
تحدثت بضياع:
مفهمتش أي حاجه، ولا حتى ايه جابني معاه ولحد دلوقتي مش فاهمه، ولا قادرة افهم.
حرك "طاهر" رأسه بالموافقة قبل أن يتحدث بكلمات فعلت بها الكثير:
أفهمك أنا... اللي حصل ده يا "رفيدة" بسبب إنك سمحتي لواحده زي "چيهان" دي تكون في حياتك لمجرد انها متبقاش فاضية وخلاص، سمحتي بده مع إنك عارفة إنها شخص وجوده غلط... احنا عمرنا ما اتعاملنا معاكِ على انك طفلة يا "رفيدة"، احناصحيح بيحبك ويدلعك لكن ما منعنكيش من شيل المسئولية،
احنا ادينا الثقة اللي تخليكي تعملي كل اللي عايزاه علشان متطمنين ان " رفيدة" تربيتنا مش هتعمل حاجه غلط من ورانا ....
سألها بما جعلها تشعر بخطأها:
لما جيتي قولتي لبابا انك عايزة تشتغلي... منعك من ده؟، لا بالعكس جابلك شغل ينفع مع دراستك على الرغم من اعتراضه على حوار الشغل ده اصلا وأنتِ لسه بتدرسي، وأنتِ اللي مروحتيش.... أنتِ مسؤولة يا "رفيدة" كل الحكاية بس انك اول ما جت فترة وفاة "فريد" مقدرتيش ان كلنا مكسورين زيك، كلنا عايزين حد يكون جنبنا، فروحتي رامية الحمل علينا كله، أول ما اتحرمتي من الحب والاهتمام قولتي الغلط عليهم هما اللي طلعوني مستهترة مقدرش اتحمل مسؤولية، ومحاولتيش تقولي لنفسك لازم ابقى أقوى علشان دي فترة صعبة بتمر على الكل وهتسيب أثر فينا لاخر العمر، فلازم أكون أعقل وأنا بعدي بيها.
كانت نظراته معاتبة، ولم تكف هي عن البكاء، فكل ما قاله صحيح لذا نطقت من وسط دموعها:
أنا أسفه يا "طاهر".
احتضنها وهو يخبرها بلين:
مش مهم أسفك يا " رفيدة" ، المهم عندي تكوني اتعلمتي الدرس كويس أوي، مش أي حد تسمحيله يدخل حياتك، كان ممكن تيجي تحكيلي زي ما بتحكي دايما عن الموضوع ده، كان ممكن تتكلمي مع "عيسى"، يا ستي اتكلمي مع " حسن" ده انتِ وهو مبتسيبوش بعض.... اعرفي دايما انك طالما حسيتي انك مش مرتاحه تبعدي علطول، "چيهان" دي كان المفروض علاقتك بيها انقطعت من اللحظة اللي عرفتي فيها انها بتاعة مصلحتها..... شوفتي استمرارك في حاجه غلط وصلك لنقطة ايه؟
هزت رأسها وقالت وهي تمسح دموعها:
شوفت... ومش هعمل كده تاني، أوعدك.
رفع وجهها لتنظر إليه وهو يقول بحنان:
وأنا عارف انك هتعملي ده... لو عايزة تحكي لماما احكيلها، لكن بلاش بابا كده كده الموضوع اتحل وعلشان ميكبرش أكتر.
وافقته فقبل رأسها مما جعل ابتسامتها تتسع ثم سريعا ما انتبهت فسألته:
هو "عيسى" مرجعش؟
هتف بضجر حين تذكره:
معرفش كنت نايم.
_ انت لسه زعلان منه؟
جاوب على سؤالها بقوله المنزعج:
وياريت تحرموني من شوفة وشك ووشه، يلا على برا بقى، اعملي ل "يزيد" فطار، وسيبوني أنام شوية.
ضحكت على قوله ثم قالت وهي تستعد للمغادرة:
أنا هاخد "يزيد" وننزل.
_ لا.
قالها بحزم، فانكمش حاجبيها وهي تسأله:
ايه ده لا ليه؟... وانت قاعد هنا ليه اصلا، ما يلا انزل معايا.
تذكر حين أتى له "نصران" قبل اتصال "عيسى" من أجل "رفيدة"، أتى ليسأله ماذا حدث، تذكر أيضا كيف انتهت الجلسة باتفاق لن ينزل إلا به..
فاق من شروده على صوت شقيقته، فقال ناهيا الحوار وهو يدفعها لتغادر الغرفة:
يا ستي متبقيش رخمه بقى، أنا عايز أقعد هنا شوية، وحشتني شقتي وعايز أقعد فيها كام يوم ومعايا ابني.... يلا من غير مطرود بقى وفطري الواد بدل ما أقوم أطلعه عليكم انتوا الاتنين.
ضحكت عاليا وهي تحاول التملص منه وعدم الخروج ولكنه نجح في إخراجها عنوة، فوقفت تهتف من الخارج:
ده مش أسلوب يا " طاهر" ، ما انا لو اسمي "شهد"
كان زمان الباب ده مفتوح على اخره.
"شهد"... ذكرته بها، شعر بالحزن وهو يتذكر مكالماتها الكثيرة بالتأكيد كانت ستسأله إذا أخبر والديه اتفق معها أم لا، لم يعرف بماذا يجيب عليها لذا لم يرد على أي مكالمة... تأفف بحنق وهو يتمدد على الفراش وشيء واحد لا يؤرقه سواه... هو التفكير في كل شيء.
★***★***★***★***★***★***★***★
أخر مكان توقعت أن يأخذها له هو المشفى، انتهى مشوارهما ووصلا ثانية إلى المنزل وقد أخبرها الطبيب أن ساقها بخير لم يحدث لها شيء فقط كدمة تستطيع مداوتها بدهان وصفه لها الطبيب بعد عمل اللازم للتأكد من سلامتها... أوقف سيارته قائلا بسخرية:
رجلك مفيهاش حاجه، أحسن أنا عارف تهدية النفوس كويس، أصحى الصبح ألاقيكي مفهمة البلد كلها اني قطعتهالك.
طالعته باستنكار فأكمل يواجهها:
ابن اخوكي، حاول ينتقم منك في بنتك.
جملته هذه ذكرته بما حدث، حين ذهب مع " حامي " إلى حيث يوجد "سعد" وما إن دخل حتى وجده أمامه، واقعا على الأرضية يعاني مما أصابه، استدار "عيسى" يطالع مرافقه الذي هتف مجيبا عن سؤال يرغب "عيسى" فيه:
لا ده أنا كنت بعرفه بيا بس.
تحرك "عيسى" ناحية "سعد" ورفعه من على الأرضية ثم مال عليه مردفا:
أظن أنت مش ناقص، فيك اللي مكفيك وزيادة
قال له "حامي" ماذا حدث، حيث أخبره أن "سعد" يدعي أن له حق وأنه سيسدد ضربته في شقيقتهم لتكون الضربة الناهية لهم.
ووفقا لذلك، زادت نبرة "عيسى" عنفا وهو يسأله:
حق ايه بقى اللي ليك عندنا؟
رغم ألمه استطاع أن ينطق ببغض شديد:
حق أمي... أمي اللي أخو مرات أبوك راماها بيا، واستخسر يعترف بالجوازة وبينا.... أمي اللي وطت تبوس الأيادي، واتذلت ل "سهام" هانم مره واتنين وتلاتة علشان تتوسطلها عنده، و الهانم قالتلها أنا مليش دعوه بأخويا ورمتلنا قرشين زي ما نكون بنشحت منها مش صحاب حق.... هو مات الله يحرقه ومفاضلش غيرها، كانت تقدر تضعط عليه يعترف بينا ومعملتش ده، طلعت نفسها بعيد.
لم يرد "حامي" التطفل، فخرج بمجرد ما بدأ الحديث، أما "عيسى" فشعر بالتخبط، كل شيء يتم سرده جديد عليه تماما، من جديد "سهام" وشقيقها يتسببا في أذى شخص قريب منه، اشتعل كليا وصاح بمن أمامه:
حقك ده تروح تاخده من اللي عمل كده فيك، لكن اختي اللي يمس شعره منها، أدفنه مكانه... علشان حوارتكم ال*** دي أنا واخواتي ملناش فيها.
تابع وهو يرى حالته متصنعا الاشفاق:
بيقولوا الضرب في الميت حرام... بس ده هما بقى اللي بيقولوا لكن "عيسى نصران" مبيقولش كده.
أنهى جملته وأطاحه بقدمه فتأوه "سعد" حاليا في حين "عيسى" يقول متوعدا:
لو عرفت انك ظهرت في حته "رفيدة" فيها تاني، هتبقى أنت الجاني على روحك.... بالنسبة لنسبك اللي انت محموق عليه أوي ده فانت في نعمة، انك تتكتب باسم أي حد أحسن من انك تتكتب باسم الندل اللي جابك الدنيا.
ألقى "عيسى" عليه نظرة قبل المغادرة وتبعها بقوله:
لو كنت جيت اشتكيت لأي حد فينا، كنا هنرجعلك حقك وحق امك، بس أنت حبيت تحرق قلب "سهام" فخلي "سهام" بقى تبقى ترجعهولك.
خرج من الغرفة، فوجد "حامي" في سيارته... حاول الاتصال ب "بشير" حتى يأتي له، ولكن لا توجد إشارة، قرر أن يسير قليلا حتى يتمكن من الاتصال ولكن قطع ذلك صوت "حامي":
الناس اللي كرامتها ناقحة عليها علطول دي مبتعمرش معايا.
كان يقصده بالفعل، هو لم يرغب أن يطلب منه توصيله إلى معرض سياراته.... ولكن حديثه هذا جعله يقول وهو يركب السيارة:
خلاص خد وصلني هنا.
أعطاه الموقع الخاص به، وضحك " حامي" على تصرفه ثم قال وهو ينظر في الهاتف:
هلبسك ساعه إلا ربع كمان.... كده كتير بجد.
كان يقصد المسافة التي سيقضياها معا، وبالفعل بدأ في قيادة سيارته، لاحظ صمت "عيسى" التام فتيقن من أنه سمع ما لا يرضيه أبدا، بل ورعشة يديه أيضا وكذلك أنفاسه المتسارعة والجالس جواره يغمض عينيه ويضع رأسه بين كفيه ضاغطا عليها بعنف وكأنه يحاول إخماد شيء قبل أن يبدأ فسأله "حامي" مبديا استغرابه:
أنت كويس؟
استطاع "عيسى" التغلب هذه المرة، والتحكم ونطق بهدوء وكأنه انتهى من سباق عنيف للتو:
أنا كويس... زود أنت السرعة دي شويه.
_ هتتشرط هتنزل يا وحش، ودور على الطيارة اللي هتوصلك بقى.
قال "حامي" وأبطأ من السرعة أكثر متعمدا إثارة استفزازه.... عدد من الأحاديث دار حتى وصل "حامي" في النهاية، وتوقفت سيارته أمام معرض للسيارات، نزل "عيسى" من السيارة وبعد حديث دار بينهما في الطريق أخبره:
هو أنا كنت فاكرك شايف نفسك.
_ وطلعت ايه؟
سأله "حامي" ضاحكا فأخبره "عيسى":
شايف نفسك فعلا.
ازدادت ضحكات " حامي"، وتابع "عيسى":
بس مقدرش مشكركش، أنت أنقذت حياة أختي،
وكده ليك دين كبير في رقبتي معرفش ممكن أسدده ازاي، وأنا متعودتش يبقى في دين لحد عندي.
أخبره " حامي" برده على ما قال:
لا اتعود طالما قابلتني، هتشيل ديون كتير اوي.
أضحك قوله "عيسى"، الذي أشار على معرض سياراته قائلا:
المعرض ده بتاعي، وأنت عرفت المكان... لو حبيت تغير عربيتك ابقى تعالى، واهو ابقى رديت جزء من اللي عليا.
ابتسم " حامي" وهو يطالع المكان من الداخل وقد ظهر من الزجاج الخارجي، فلمح اسمه المنقوش على الجدار بألوان مميزة فأشار عليه قائلا:
حلو ده...
تابع مازحا وهو يغمز له:
عايز تسد الدين ابقى شيل اسمك واكتب اسمي بنفس الطريقة دي.
ضحك "عيسى" على مزاحه ثم ركب "حامي" سيارته فذكره "عيسى":
هستناك.
أخبره " حامي" بأخر كلماته:
يبقى هتستنى كتير... خليك شايل الدين بقى....
رجع بالسيارة للخلف وهو يقول مشيرا له:
سلام يا وحش.
ثم أستدار ورحل تماما من هنا و"عيسى" ما زال واقفا في مكانه.
فاق من شروده واستدار ل "سهام" التي تجاوره في السيارة قائلا:
حاول يخطفها، ولولا ستر ربنا كان زمانه دمرها علشان يحرق قلبك عليها... احمدي ربنا إن "طاهر" مدخلش معايا وأنا بسأل الواد عمل كده ليه.... وأنا بقى هدعي ربنا إن الواد ده يجي لحد هنا ويفضحك.
تتذكر جيدا ولا تنسى، تلك السيدة التي سعت خلفها كثيرا من أجل أن تقنع شقيقها بالاعتراف بها وبصغيرها.
ترك "عيسى" سيارته وتحرك نحو الداخل تاركا إياها تصارع الكثير والكثير من الأفكار.
★***★***★***★***★***★***★***★
الأيام تمر، وهكذا مر أكثر من يوم و مع كل يوم يتغير فينا الكثير، شيء واحد لم يتغير لدى ندى وهو أنها لم تندم أبدا على ما فعلت، لا تنسى هذا اليوم حين دخلت ابنة عمها الغرفة، ووجدتها قد أخذت تلك الحبوب التي قتلت طفلها.
تتذكر ما حدث من ذهابها للمشفى مجددا، وخسارتها للطفل، تعنيف والدها وعمها أيضا ولكن لا يهم... المهم هو أنها لن تظلم قطعة نقية كهذه في حياة يأست هي منها.
دخلت ابنة عمها بالحامل المعدني عليه الطعام والدواء، ووضعته أمامها هاتفة بحنان:
بقيتي أحسن؟
تحدثت "ندى" بتعب حقيقي:
"بيريهان" أنا مش عارفه من غيرك كنت هعمل ايه.
احتضنتها ابنة عمها تشاركها حزنها وهي تقول:
متقوليش كده يا هبله، أنتِ اختي يا "ندى" رغم زعلي من اللي عملتيه.
حاولت إضحاكها بقولها:
عمك سليمان كمان جه يتطمن عليكِ... التلات اخوات اتجمعوا
قصدت والدها و "خليل" والد "ندى" وشقيقههم الثالث "سليمان" ثم تابعت تحمد الله:
والحمد لله مجابش "ميار" بنته... وأكملت هي تقلد حديثها حيث لا تعجبها عجرفتها أبدا:
علشان متقعدش تقولنا، بابي حجزلي رحلة للمريخ،
بابا اشترالي قصر الأميرة فوزية.
ضحكت ندى على الرغم من حزنها وسألتها وهي تضع يدها على معدتها حيث ألمتها بمجرد أن ضحكت:
واشمعنا الأميرة "فوزية"؟
حركت يدها تقول بلا اهتمام ضاحكة:
اهي اللي جت على بالي بقى، أنا بقيت أشك إنها هتيجي تقولنا إن عمي سليمان اشترالها هرم خوفو بما انها في كلية آثار بقى .
ضحكت " ندى" بصدق من قلبها، فربتت "بيريهان" على كتفها تعاتبها بحزن:
أنا مش عايزه أعاتبك دلوقتي على اللي عملتيه، كفاية عتاب بابا وعمو... أنا بس عايزه أقولك إن ابنك مكانش يستاهل منك كده.
لمع الحزن في عينيها وهزت رأسها بالإيجاب تخبرها بألم:
ماهو علشان ميستاهلش أنا عملت كده.... ميستاهلش يعيش العيشة المقرفة اللي امه عايشاها، ميستاهلش اني اجيبه في بيئة زي دي.... أبويا اللي عمال يغلطني ده، كان مره قدامك ابقى هطلق خلاص ويقولي لا مفيش طلاق وكأن "جابر" وأهله ملكونا خلاص... بقالي كام يوم من ساعة اللي عمله وأنا هنا؟....فكر يشوف الحيوانة اللي عمل فيها كده جرالها ايه؟....آه.
تأوهت بألم حيث أدى انفعالها إلى هذا، فجسدها لا يحتمل أي شيء فطلبت منها "بيريهان" برفق:
خلاص قفلي على السيرة دي.
ثم تابعت ضاحكة بحماس تخرجها مما هي فيه:
في حاجه كده، عايزة أقولهالك... انا عارفه انه الوقت مش مناسب بس عايزة اشاركك احساسي يعني.
دست "بيريهان" الملعقة في طبق الشوربة ثم أخرجتها وقربتها من فم ابنة عمها قائلة:
اخر دلع اهو... بأكلك بنفسي.
حثتها "ندى" على قول ما لديها فهتفت "بيريهان" بحماس:
انا بحب.
توقف الطعام في حلق "ندى" التي ارتفعت لها تطالعها بضجر قائلة:
بتحبي!... جتك خيبة.
_ ايه القفلة دي.
قالتها "بيريهان" بحاجبين قد انكمشا فضحك "ندى" وهي تسألها:
طب بتحبي مين؟
اعتدلت على الفراش تقول بحماس أكبر وقد اتسعت ضحكتها:
"شاكر"... فكراه اللي كان معانا في المستشفى، أنا كنت قولتلك قبل كده إني نوعا ما معجبة بيه... بس دلوقتي لما بشوفه بحس احساس حلو اوي وبقعد بقى اتصرف زي الهبلة كده.
ابتسمت " ندى" وهي تقول:
شكلك بتحبيه بجد.
_ هو احنا مش بقالنا كتير بنعرف بعض، أنا قابلته في القاهرة مره، كان معاه واحد يعرف بابي، جه سلم عليا وقالي سلميلي على معالي الوزير، فأنا اترسمت بصراحة قدام الواد علشان حسيته واخد باله من الحوار يعني.... بعدها اتقابلنا تاني في نفس المكان واتعرفنا، وصدف بقى كتير كتير.
سألتها "ندى" وهي تستمع باستمتاع:
وايه اللي عجبك فيه؟
تابعت "بيريهان" تخبرها بهيام:
حساه راجل.
كررت "ندى" خلفها باستنكار:
راجل؟... وهو بقية اللي دخلوا حياتك كانوا فرد جزم ولا ايه؟
صححت لها بغيظ:
يا بنتي لا افهميني، هو غيرهم حساه بيلمع كده...شوفت نفسي معاه وحسيت اني هقدر اتقبل اني اصحى كل يوم الصبح اشوف الوش ده... يعني شكله قمر وشخصيته عاجباني، وكمان حسيته جدع يوم المستشفى... المفروض أصلا إن هما عندهم ظروف وفاة والده وساب كل ده وجه معانا.
_ طب المهم يا "بيري" هو بيحبك؟
سألتها "ندى" فأجابت "بيريهان" بضحك:
هو قالي حاجات كتير بصراحه خلتني أحس كده... بيلمح بس أنا بصده كتير، بس بدأت أفكر جديا اديله فرصة وخصوصا بعد ما بابا شافه يوم المستشفى.
أخبرتها "ندى" مؤكدة:
أنتِ كده لازم فعلا تديله فرصة يصارحك هو، لأنك لو مودتيهوش بالشكل ده هتروحي انتِ تقوليله تعالى اتجوزني.
تبادلا الضحكات معا حتى وأدت مديرة المنزل ضحكاتهما حين دقت الباب وهتفت:
مدام "ندى" أستاذ "جابر" ووالده تحت.
هنا فقط غادرت الضحكة تماما وجه ندى ولم يحل محلها سوى العبوس فقط.
★***★***★***★***★***★***★***★
هو يعلم والده لن يصمت أبدا حتى يعلم ما حدث.
جلس "عيسى" مع والده في غرفة المكتب وبادر والده بالسؤال:
اختك لما راحت كليتها من كام يوم رجعت في نفس اليوم ليه يا "عيسى"؟.... لقيتها تاني يوم الصبح بتقولي أنا جيت بالليل يا بابا... جت ليه؟ ... وعدى كام يوم اهو وحالها مش عاجبني.
أخبره وهو يحاول إنهاء الأمر بأكمله:
يا حاج " نصران" عيب تشك إن احنا مخبيين عليك حاجه.....يعني أنت سألتها وسألت "طاهر" وفاكر إن هتلاقي عندي أنا إجابة مختلفة؟.... اليوم اللي قولتلي اتصل اتطمن عليها، قالتلي انها تعبانة روحت انا وطاهر جبناها.... وهرجعها القاهرة بكرا علشان امتحانها اللي بعد بكرا.
دخلت لهم "سهام" بعد أن دقت على الباب تحمل أكواب القهوة، وضعتها على الطاولة وتعمدت أن تأتي بدلا من "تيسير".... فسألها " نصران":
رجلك بقت أحسن يا "سهام"؟
_ خفت خلاص... بقالها كذا يوم بقى.
قالت هذا فطلب منها زوجها:
خدي بالك بعد كده يا "سهام".
ابتسمت له بحنان، ثم سألت السؤال الذي جاءت من أجله:
اتكلمت مع " طاهر" يا "نصران"؟
تذكرت مع السؤال حين عرف ابنها من " تيسير" أن والدته سقطت، وأصيب قدمها، فهرول إلى أسفل يتأكد من كونها بخير، وما إن تأكد أن الأمر ليس بكبير للدرجة التي وصفت بها "تيسير"، إنه لا يتعدى الكدمة،حتى أنه ظن أنها مسرحية من والدته لتعيده، فأخذ ابنه وصعد مجددا..... ظنت أنه سيبقى ولكنه يأتى مره صباحا واخرى في المساء يطمئن ويعود إلى أعلى.
أخبرها "عيسى" حين فاقت من شرودها وقد علم الأمر بأكمله من والده.... الذي قص له "طاهر" كل ما حدث حين ذهب له يستفسر منه عن سبب تركه للمنزل:
اه اتكلم معاه، و هنروح للست "هادية" كلنا بالليل نتكلم معاها علشان "شهد".
طالعها بابتسامة صفراء فرغبت لو أشعلت النار به على ما سببه لها من إثارة غيظها.... هنا فقط تحدث
" نصران" ولم يكن قد ضغط عليها في الحديث قبل ذلك بسبب أمر قدمها وما حدث:
أنا متكلمتش يومها غير قليل، فهتكلم دلوقتي، مهما حصل يا "سهام" مهما حصل ايدك متتمدش عليه.... رفع صوته ولا غلط أنا أجبلك حقك، لكن أنتِ كنتِ مستنية منه ايه وأنتِ بتضربيه وهو معملش حاجه غلط، هو الجواز بقوا يضربوا عليه اليومين دول؟... ولا بقى عيب؟
_ نصران أنا فهمتك وجهة نظري وان البنت مش مناسبة ليه.
اعترض على حديثها بقوله:
وعايزها... هنعمل ايه كلمناه مره واتنين وقال لا انا عايزها... خلاص سيبيه "طاهر" مش عيل.... ولا إيه يا "عيسى"؟
ابتسم وهو يشرب قهوته، وقد راق له حديث والده كثيرا فقال:
بعد رأيك مفيش كلام يتقال يا بابا.
ربت " نصران" على كتف "سهام" المعترضة:
أنا قولت لطاهر إننا هنروحلهم النهارده.... متكسريش فرحة ابنك يا "سهام"، وهو هينزل بعد ما نيجي من عندهم مش هيقعد فوق.
هزت رأسها موافقة ثم غادرت الغرفة وداخلها غير راضي عن ما يحدث، أما " نصران" فقال لابنه:
بقولك ايه يا "عيسى"... احنا عايزين نروح لمنصور تاني بعد الليلة دي ما تخلص، حكاية ضرب " حسن" دي مش لازم تعدي بالساهل، بس لازم نتأكد إنه هو اللي عملها ولا "شاكر".
وافقه " عيسى" ثم قال:
ماشي، أنا هقوم أشوف كان حاجه كده، وهرجعلك تاني.
سمح له والده بالخروج، في حين كان "طاهر" يتصل بها للمرة الألف والإجابة واحده وهي مغلق.... لقد حاولت الاتصال به الأيام السابقة كثيرا ولم يجب، ظنت أنه تخلى وأغلقت كل شيء عن عمد... كانت تقف مع والدتها في المطبخ والتي أخبرتها:
"نصران" بعت يقول انهم جايين النهارده.
_ جايين ليه؟
أخبرتها والدتها بغيظ:
هيكون ليه يعني؟... مش "طاهر" قالك هيجبهم ويجي.
كانت تقصد ذلك اليوم حين أتى لهم في المحل.... اتسعت ضحكة "شهد" وهي تسألها بغير تصديق:
احلفي بالله.
نطقت "هادية" بضجر:
وأنا هضحك عليكِ ليه يا بت أنتِ... لما نشوف بقى هيجيب أمه معاهم ولا لا.
تسللت من المطبخ وتركت والدتها تحدث نفسها، وما إن تأكدت "هادية" من ذلك حتى عنفتها بنبرة عالية متوعدة:
انتِ بتسيبيني وتمشي، ماشي يا بنت "حسن" ابقى تعالي هنا تاني.
فتحت هاتفها لتجد منه مكالمات كثيرة، ما إن فتحت حتى وجدت هذا ورسائل صوتية أيضا كثيرة للغاية من ابنه، فتحت الأولى فسمعت الصغير يقول ببراءة:
ردي على بابا يا "شهد".
فتحت الثانية فسمعته يقول:
متزعليش من بابا وهو هيفسحنا ويودينا الرحلة مع زياد وكريم.
اتسعت ضحكتها وخاصة حين ضغطت لتسمع الرسالة الثالثة فوجدته " طاهر" وهو يقول مازحا:
والله بابا ده ما عنده دم، انك تتصلي بيه كل ده وميردش.... بابا ده مبيفهمش.
أرادت عدم الرد لكن الرسالة الأخيرة جعلتها تتراجع عن أي شيء حيث سمعته يقول:
والله كل الأيام اللي مردتش فيها دي كان غصب عني... متزعليش وهشربك برتقال.
يذكرها بواقعتها السابقة حين تم وضع المخدر لها في البرتقال فضحكت عاليا، وهي تتأمل كل رسائله بحب شديد.
★***★***★***★***★***★***★***★
كانت تجلس في المحل بدلا من والدتها، التي بقت في الأعلى مع "شهد" يجهزا كل شيء من أجل قدوم ضيوفهم...أعدت "ملك" لنفسها كوبا اخر من الشاي، ثم ذهبت تقضي طلبات السيدة الواقفة.... ما إن أنتهت حتى وجدت "عيسى" يقف أمامها.... لا تعرف عنه شيء منذ يوم مكالمتها الهاتفية معه، جذبت له "مقعد" واستضافته بقولها:
اتفضل.
ذهبت لتعد له كوب أيضا وهي تسأله:
كنت غايب فين اليومين اللي فاتوا؟
_ كنت معاكِ...مشوفتينيش ولا إيه؟
إجابة مراوغة كعادته، تشبه إجابته حين سأله والده في المحل يوم أن اختارته ورد عليه:
كنت مع "ملك".
ضحكت خلسة وهي توصل السخان بالكهرباء على كلماته.... ولكنها كالعادة سمعت كلمته الشهيرة:
بتضحكي ها؟
استدارت له وقد كانت تضحك بالفعل وسألته باستنكار :
أيوه بضحك هو حرام؟
رفع كفيه ببراءة قائلا:
هو أنا قولت حرام... ربنا يكتر من ضحكك.
أكمل ينبهها:
المهم قبل ما انسى... احنا محتاجين نروح مكتب المحامي
سألته باستغراب:
ايه ده ليه؟
_ علشان عمك كاتبلك الربع من الورث، الموضوع مش وصية بس، المحامي قالي إنه متسجل رسمي باسمك.
قالت وقد أصابها الضيق والحزن:
أنا مش عايزه الورث ده..
أخبرها بنبرة جادة حازمة وهي تصب كوب الشاي:
لا ماهو أنا عايزه... وهتستلميه وهتكتبي تنازل بعد كده عنه ليا.
مفاجآت، مفاجآت، مفاجآت جعلتها تفقد انتباهها وتصب المياه الساخنة خارج إطار الكوب فتسقط على جانب صغير من يدها مما جعلها تصيح، وهي تسقط السخان من كفها... هرول إليها وجذبها من كفها إلى ناحية الصنبور محاولا تهدئتها وهو يفتح المياه ويجعلها متوسطة لتسقط على الجانب المصاب...على الرغم من أن الأمر ليس بكبير معها ولكن أمر الحروق هذا يربكه، يذكره بكل سوء... يذكره بطفل صغير وقف في المطبخ جوار " كارم" ينطق بعنف مدافعا عن خالته:
متزعلش خالتو تاني.
استدار له "كارم" هاتفا باستهزاء وهو يأخذ المياه الساخنة من على الموقد:
امشي يلا من هنا.
هدده الصغير بما يملكه:
لو زعلتها تاني، أنا هقول لبابا وأخليه يجيب بيت ليا وليها لوحدنا.
صاح فيه "كارم":
بقولك غور من هنا.
شيء لا يستطيع فهمه يحدث له، جسده كله يرتعد ويشعر بالخفقان ووجد نفسه يدفع " كارم" بغضب وهو يقول:
متزعقليش.
وهنا فقط سقط الماء الساخن عليه، سقط من يد هذا المقيت.... سقط ويتذكر صرخته الجلية وقتها، وكأن الاشتعال ذاته قائم بصدره الآن وخاصة وهو يسمع صوت "كارم" حين قال محاولا الهرب مما فعل:
يا نهار أبيض شوفت عملت ايه.... يا "ميرڤت" تعالي الحقي.
نزلت دموعه وهو يقف جوار "ملك" وتلقائيا وضع كفه على أسفل عنقة موضع الحرق... استدارت تطلب منه أن تزيل كفها التي ثبتها تحت المياه، فوجدت عينيه بهما بقايا أو ربما بوادر للدموع.... أدركت ما يحدث حين وجدت كفه الذي وضعه مكان الحرق، الذي رأته من قبل عنده.... وللمرة الأولى تبادر هي وتفعلها، شعرت بألمه حقا... لذا وبدون تردد احتضنته.... لم يصدق فعلتها هذه.... الطمأنينة التي حدثته عنها سابقا يعرف فقط معناها حين يكون معها، سمحت له وأعطته الفرصة فتشبث بها بكل قوته..... لم تحاول الابتعاد إلا حين سمعت صوت والده القادم من الخارج:
سلام عليكم يا ست هادية
حاولت وحاولت قبل أن يراهما ولكنه بالفعل أتى، ووقعت عيناه عليهما، وابنه لا يفعل شيء سوى أنه لا يتركها تفر أبدا.... طريق الفرار مع ملك المفاجأة ليس إلا أمرا مستحيلا... ليس إلا معجزة.