رواية وريث آل نصران الجزء الثاني الفصل السادس والأربعون بقلم فاطمه عبد المنعم
الفصل السادس والأربعون (شلل)
رواية_وريث_آل_نصران (الجزء الثاني)
بسم الله الرحمن الرحيم
لما الخوف... ها أنا هنا
وإن تأخرت.. فأنا قادم
حين يطلب فؤادك مغيث... أنا قادم.
دائما وأبدا تأسرني برائتك... ودائما وأبدا أنا قادم.
كانت الليلة دافئة، لقد انتهت بكوب الشاي الساخن ، ومزاح شقيقتيها، وانضمام والدتها للجلسة بعد تذمرها من أفعالهن، لكنها لم تكتمل هكذا أبدا... فلقد شعرت بأحدهم في الخارج أثناء نومها، خطوات تسحب الأنفاس، رائحة مقيتة تذكرها بأسوء لياليها، ظنت أنه كابوس، ولكن لا إنها تشعر أن أحد يفتح باب الغرفة.... فتحت عينيها بذعر، وقبل الدخول جذبت الهاتف مسرعة وقامت بالاتصال به دون تفكير.... وما إن هاتفته حتى فُتِح الباب وتجسد أسوء كوابيسها أمامها نعم إنه "شاكر".... خرجت منها صرخة قابلها هو بجذب خصلاتها ويده تكتم فمها.... ثم ضحك ومال ليهمس جوار أذنها:
في حد يقابل ابن عمه كده برضو يا " ملوكة"؟
تحولت نظرات الذعر إلى اخرى شرسة، تريد الفتك به، نظرات بها من البغض ما يكفي لأهل الأرض جميعا... نظرات تخصه هو وحده فقط بها .
يكتم صوتها، يمنع صرخاتها من الانطلاق، لكن مقاومتها شرسة وهي تحاول دفعه بعيدا عنها وهو يتابع متلذذا بما تفعل، وعيناه لا تفارقها:
اوعي تكوني فاكرة انها خلصت كده... هي خلصت صحيح بس بالنسبة لولاد "نصران" اللي مش هيقدروا يمسوا شعرة مني والبلد كلها فاكرة إنهم خدوا حق ابنهم بقتل أبويا.... احمرت عيناه وهو يتابع سائلا:
هما اللي قتلوه مش كده؟... سيبتيهم يقتلوا عمك يا جاحدة.
فاقت "شهد" على صوت أنين، أحدهم يحاول الصراخ ولا يستطيع... كان هناك إضاءة خافتة تأتي من الخارج تطمأنها، ولكن حين وقعت عيناها على "شاكر" فرت الطمأنينة بعيدا.
قبل أن تصرخ كان قد أخرج سلاحه بيده الأخرى وصوبه نحوها قائلا:
صوتك ميطلعش يا شوشو... علشان كده هنزعل من بعض كلنا.
استطاعت "ملك" أخيرا الإفلات، أول ما فعلته هو البصق في وجهه تبعته بقولها الشرس وكل إنش في جسدها ينتفض من الخوف:
أنا اللي جاحدة، أبوك مات بسببك وبسبب عمايلك.. أبوك مات علشان جاب للأرض عيل زيك ماشي طايح في خلق الله كلهم... وفاكر انهم تحت رحمته.
دفعها بيده فسقطت على الفراش، ضغط هو على عنقها بعنف، هنا استجمعت "شهد" شجاعتها وهرولت ناحيته وهي تسمعه يقول:
وبكرا هتشوفيني وأنا طايح أكتر وبموتلك التاني، بحلف باللي خلقك أخرك معايا أنا، ومش هتبقي لحد غيري... على موتي يا بنت عمي.
أبعدته "شهد" عن شقيقتها بعنف، وجلست جوارها تحتضنها وتساعدها على أخذ أنفاسها، طالعته وهي تقول بغضب:
أنت مش هتخوفني بحتة البتاع اللي في ايدك ده... شكلك نسيت أيام الأزايز اللي كانت بتتكسر على دماغك يابن كوثر.
ابتسامة مقيتة علت وجهه وهو يذكرها:
انتِ اللي نسيتي الأوض الضلمة، اللي بتنيمك لحد دلوقتي في النور من الخوف...نسيتي "شاكر" واللي يقدر يعمله، و فاكرة نفسك بقيتي هانم ونسيتي لما كنتِ عايشة في بيت عمك بتخدمي قصاد اللقمة اللي بتطفحيها.
_ على الأقل كنت بعمل حاجة مفيدة، الدور والباقي على اللي كان بيدور على الحاجات ال **** ، ويجري وراها بالمشوار علشان يعملها.
استعادت "ملك" رابطة جأشها وسألته بعنف:
أنت جاي هنا ليه!
أخرج من جيبه ورقة بيضاء فارغة، وضعها أمامها على الفراش وتبعها بالقلم... ثم بخفة كانت فوهة سلاحه على جبين شقيقتها، تذكرت "شهد" تلك الليلة، كانت الأجواء مشابهة وزاد على ذلك نفس نبرته المتحدية وهو يقول:
امضي.
لم تفارق عين "ملك" شقيقتها وصاحت باستنكار:
امضي على ايه... انت اتجننت.
ضحك وهو يقول:
علشان أنا حقاني هخيرك... تمضي ولا نودي شوشو لحبيب القلب؟... نزود الأموات واحد.
لمحت الإصرار في عينيه، كل هذا الضغط لا تقدر عليه... ولكن هذا الإمضاء بالتأكيد وراءه جحيم، وأيضا وراء سلاحه جحيم.... تبكي بضياع وهو يتابعها منتظرا قرارها...دقائق ثقيلة مرت حتى انتهى كل هذا حين سمعت دقات عالية على باب المنزل، دقات كادت تكسره، وكذلك هاتف "شاكر" الذي اهتز بغتة.... فجعله هذا يهرول ناحية نافذة غرفتها، ويقفز بلا تردد بعد أن قام بفتحها.
أما عند "هادية" فلقد استيقظت بفزع على صوت البوابة، جذبت حجابها وهي تردد:
يا ستار استر .. في ايه.
هرولت نحو الخارج لتفتح الباب ولكن كانت "شهد" الأسرع حيث فتحته أولا.... لم يكن أحد سواه إنه "عيسى".
قالت له " شهد" مسرعة:
"شاكر" كان هنا، نط من الشباك في أوضتنا هنا.
ختمت كلماتها وهي تشير له على الغرفة، فأسرع ينزل مجددا حتى يلحق به، و هرولت هادية ناحية غرفة ابنتها لتعلم ما حدث.
ما إن دخلت إليها حتى وجدتها في حالة يرثى لها، خصلاتها مشعثة وعنقها تمسح عليه بدموع... قهر، ضعف، ذكريات مقيتة تفرض نفسها دائما... احتضنتها "هادية" وأخذت تربت على خصلاتها، وعلمت هي مدى قلق والدتها فنطقت بصوت مبحوح:
أنا كويسة.
بينما بدأت "شهد" تقص على والدتها ما حدث حتى حضر "عيسى" مجددا، لم يجده.. كان النجاح حليفه في الهرب.... خرجت له "هادية" وتركت ابنتها في الداخل، أول مره تراه في حالته هذه، علامات النوم مازالت على وجهه، خصلاته مبعثرة، ليس في كامل أناقته كما يفعل دائما.... وجهت سؤالها الأول بانفعال:
أنت كنت عارف إنه هنا؟
تجاهل السؤال بسؤال اخر وهو يشير على بوابة المنزل:
الباب ده كان مقفول بالمفتاح؟
_ رد عليا.
قالتها بغضب ونبرة عالية، فوجه حديثه لابنتها:
شهد الباب ده كان مقفول بالمفتاح؟
حالتها غير مستقرة بسبب ما حدث، حاولت الاتزان وتجميع الكلمات وأجابت:
بنقفله عادي، بس مش بالمفتاح
صفع البوابة بيده غاضبا فانتفضت "شهد" إثر المفاجأة وتابع هو:
وهو الزفت ده ملهوش مفتاح يتقفل بيه؟
وقفت "هادية" أمامه وقد ارتفعت نبرتها تردعه عما يفعل:
صوتك ميعلاش هنا، وترد حالا تقولي عرفت منين إنه كان هنا.
_ أنا اتصلت بيه.
شعرت بما يحدث من الداخل، الأمر سيتحول إلى شجار لذا قررت الخروج لفض الموقف، هي بالفعل من هاتفته.... وقعت عيناه عليها، كانت تتشبث بأطراف كم ثوبها محتمية بها، وأثر البكاء ظاهر جليا على وجهها، اقترب منها وضم كفها ليشعر ببرودته فسألها:
أنتِ كويسه؟
هزت رأسها بالإيجاب ورفعت كفها الآخر تمسح دموعها، وداخلها يكذب كونها بخير، لذا وبدون اهتمام لأي أحد طلب منها:
تعالي ننزل.
أبعدت والدتها كفه عنها، رافضة لكل ما يحدث وهي تسأله باستنكار:
هو انت مفيش ساعه في ايدك تبص فيها!... تاخدها وتنزل فين، ومين هيسيبهالك تنزل بيها؟... أنا كلامي مش معاك أنا كلامي مع الحاج نصران اللي قال إن رجالته واقفين ل "شاكر" على مدخل البلد وفي الاخر "شاكر" اهو كان في قلب بيتنا.
أعاد كفه مجددا يجذب ابنتها من مرفقها قائلا:
امشي يا "ملك" هننزل.
تحدثت "شهد" تساند والدتها:
اللي بتعمله ده مينفعش... المفروض نتكلم وتعرف شاكر كان عايز ايه.
جذبتها والدتها منه وهي تقول بإصرار:
ملك مش عايزة تنزل معاك، واسألها.
طالعها ورأت هي في عينيه نظرة مبهمة، ولكن لاح فيها شبه أمل ألا تخذله وتيقنت من ذلك حين قال:
وأنا مش هستناها تقول هي عايزة ولا لا.
جذبها عنوة، وخرج من المنزل بأكمله غير أبه بوالدتها التي تلاحقه مسرعة كي تأخذ ابنتها، وصوت شقيقتها العالي المعترض... كان الأسرع في الوصول إلى سيارته، فتح الباب أمامها كي تدخل فرفضت بقولها:
"عيسى" لو سمحت أنا هطلع اللي بيحصل ده مينفعش.
أدخلها السيارة وهو يقول وقد كسا الغضب نظراته:
انتِ ليكِ حق، وأنا مش هرجعك بيتك إلا لما تاخديه.
كانت كلماته حاسمة، دخل سيارته وقبل أن تلحق به والدتها كان قد سار بعيدا عن أنحاء المنزل.
★***★***★***★***★***★***★***★
غرفته مجهزة بكل شيء، كل ما تحتاجه لراحة ابنها... سقته الماء بعد أن وضعت أقراص الدواء في فمه، وجلست جواره تمسح على خصلاته ناطقة بنبرة معذبة:
كده برضو يا "حسن"، توجع قلبي عليك كده.
طالع والدته، وابتسم قائلا:
ايه الحلاوة دي؟... هو انتِ مش هتكبري؟
ضربته على كتفه فتأوه ناطقا بمزاح:
بالراحه عليا أنا مش قدك دلوقتي.
نزلت دموعها فعليا وهي تحتضنه ليتوسد صدرها ناطقة بصدق:
انا روحي كانت هتروح مني لما اتخيلت حد كمان يروح، أنا عايشة علشانكم يا " حسن".
رفع عينيه يواجه عين والدته وهو يقول:
تصدقي بالله
انتظرت ما سيقول فتابع هو:
دي أحلى حسن ممكن اللي اسمه حسن يسمعها في حياته.
دخل والده الغرفة بعد أن دق الباب وتبعه "طاهر" الذي قال ما إن دخل بمزاح:
اهو من ساعة ما خرج وهو عاملنا فيها عيان كده، ما تجمد يا بابا وتقوم تشوف اللي وراك.
أبعدته "سهام" مدافعة:
محدش ليه دعوه بيه، يرتاح لو عايز مية سنة المهم انه في حضني.
أثار "حسن" غيظه وهو يقول:
اه والله، ومفيش أحلى من حضن الأم.
احتضنها "نصران" وأبعد "حسن" قائلا:
لا ده أنت خدت على الدلع بقى.
قطع حديثهم سؤال "طاهر":
هو " عيسى" فوق؟... منزلش صلى الفجر معانا والمفروض انه فوق... أنا والحاج لسه راجعين من المسجد وما شوفتهوش هناك برضو.
توقفوا عن الحديث حين سمعوا صوت "رفيدة" التي اقتحمت الغرفة تقول:
بابا طنط هادية تحت، وعماله تزعق... ومعاها
"شهد" و "مريم".
هز " طاهر" رأسه وقد علم ما في الأمر فهمس:
بس أنا عرفت "عيسى" فين.... "عيسى" بيعمل مصيبة.
نزل "نصران" وتبعه الجميع ليقابل انفعالها الجلي وهي تقول:
ابنك خد البت ولا عمل اعتبار لحد.
نطقت "سهام" باستنكار:
انتِ بتتكلمي كده ليه يا ست انتِ؟
جن جنونها كليا فصاحت في وجهها:
ملكيش دعوة، أنا مبتكلمش معاكِ اصلا.
اقتربت "هادية" منه وقفت أمامه تماما وهي تقول بقهر:
أنا عايزة بنتي يا "نصران"، وعايزة ابنك يطلقها دلوقتي، وتسيبونا في حالنا بقى... هو حرام أعيش بيهم بعيد عن كل ده؟
اهتز داخليا من نبرتها المقهورة فحاول تهدئتها فنطقت بصراخ:
اياك تقولي اهدي... أنا طول عمري شايلة الهم والقرف وساكته، ابنك ده جاب اخره معايا خلاص.. مبيحترمش حد ولا عامل لنفسه كبير، ده بقى يهددني انه هياخدها مني ويجبها تعيش معاه بالغصب، ورأيي أنا وهي في الزبالة، واديه اهو خدها ومشي.
حاولت " شهد" جعلها تسكن بعض الشيء، وكذلك قالت "مريم":
يا ماما لو سمحتي مينفعش كده... جذبها " طاهر" من يدها يحثها على الجلوس وهو يقول لشقيقته:
رفيدة هاتي مية.
مال "نصران" حيث تجلس وأخبرها:
أنا هرجعلك البت يا هادية، ولو عايزة تطلق هطلقهالك... علشان انا ابني بيكبرني.
شعرت بعتابه فلم تبادله النظر أما هو فأعطى أمره:
تخرج يا "طاهر" ومترجعش غير بأخوك ومراته.
_ يا حاج احنا بعد الفجر، هو عيل هيخرج يدور عليه.
قالت ذلك "سهام" ولكن صمتت أمام قول "نصران":
اللي قولته يتعمل، ومش عايز اسمع أي كلمة تانية.
طالع " هادية" التي كانت تطالعه هي الاخرى ثم هربت بعينيها تنظر إلى حيث تجلس ابنتها، إلى حيث أي شيء بعيد عنه.
★***★***★***★***★***★***★***★
في ذلك المنزل الذي لا يدل إلا على ثراء سكانه، توجه "ثروت" مع ابنته "بيريهان" ناحية "خليل" الذي جلس على مقعده وقدم له الخادم مشروبه، بدأت "بيريهان" الحديث بقولها:
ممكن يا عمو تهدى... ندى بقت كويسه دلوقتي.
_ ايه اللي خلى جوزها عمل فيها كده يا "بيريهان"؟
وضحت " بيريهان" الأمر له:
عمو "جابر" ده شخص شكاك، طول عمره بيعك وهي ساكته عن عكه، ومجرد شك فيها خلاه كان هيموتها ويموت اللي في بطنها.
صاح "خليل" بغضب:
الشكاك ده كان اختيارها.
دافعت عن ابنة عمها بشراسة:
هنموتها يعني يا عمو علشان اختيارها!... اختيارها ومتفاهموش مع بعض، كان مره جتلك ندى عايزة تطلق ومنعتها؟... كام مره جيت عليها علشانه، ده كان بيهينها قدام أبوه ويعايرها انها مبتخلفش، ندى اللي طول عمرها عايشة عيشة هوانم تروح تستحمل القرف ده كله؟
_ يعني أنا السبب؟
قالها "خليل" باستنكار فواجهته "بيريهان " بالحقيقة:
ندى يا عمو كانت عايزة نصيحة منك قبل ما تتجوز... كانت محتاجه حد يقولها انتِ بتتصرفي غلط، عايزه تعملي أي حاجه علشان تنسي "عيسى نصران" وتدوسي عليه زي ما سابك... لكن انت يا عمو بصيت للعيلة والمنصب والمظاهر ومبصتش ان بنتك بتتصرف غلط.
صاح "ثروت" بانزعاج:
"بيريهان" عيب تتكلمي مع عمك كده... اتفضلي اطلعي فوق وسيبينا مع بعض.
هزت رأسها وتحركت من أمامهما بغير رضا عن ما يحدث.
في نفس التوقيت
دخلت الخادمة إلى غرفة "ندى"، وبيدها ما طلبته وقد وضعته في كيس بلاستيكي أسود وأعطته لها بحذر ناطقة بهمس:
ست " ندى" أنا ساعدتك بس علشان اللي حكتيهولي، بس أبوس ايدك محدش يعرف إن أنا اللي جبتهولك.
وافقتها "ندى" بدموع، كانت في حالة انهيار كلي، ضائعة هذا أنسب ما يقال عنها.... خرجت الخادمة، فأخذت "ندى" هاتف ابنة عمها الموضوع جانبها.... بحثت عن رقم أرادت سماع صوته بشدة، اتصلت مرتين وأجاب في الثالثة بقوله:
عايزة ايه يا "بيريهان"؟
_ أنا مش " بيريهان" يا "عيسى"... أنا " ندى"
قالتها وهي تبتلع غصة مريرة في حلقها وقد غزت الدموع عينيها، شعر بالتخبط وخصوصا أن "ملك" تجاوره أما عن "ندى" فتابعت:
فاكر زمان لما سألتني بحبك ولا لا؟... فاكر ساعتها انا قولتلك ايه؟
كانت صوتها يمزق نياط القلب، تكرر في أذنه جوابها على هذا السؤال:
أنا من غيرك أضيع.
تابعت بقهر:
هو لو انت فاكر، ليه سيبتني يا "عيسى"؟... ليه مقولتليش حتى لو انتِ غلطانة هفضل جنبك... أنا ضيعت.
قالت اخر كلماتها بانهيار، قالتها وتابعت:
أنا مفيش حاجه واحده في حياتي مبتفكرنيش بيك، مفيش حاجه واحده نجحت فيها... متعلقة لا طايلة سما ولا أرض.
_ الكلام ده ملهوش لزمه دلوقتي.
قال هذا بتأثر، حديثها حرك بداخله أشياء كثر ولكنها أكملت:
لا لازم أقوله، لازم أقول انك نجحت واشتغلت وعملت كل حاجه، حتى الحب حبيت، وأنا مفيش حاجه واحدة عملتها صح، لسه واقفة عند نفس المكان اللي سيبتني فيه... وكأنك سجنتني وخدت المفتاح.
هتفت بضياع وقد زادت دموعها:
مفيش حاجه واحده بس مبتفكرنيش بيك يا " عيسى" ، اليوم اللي شوفتك فيه حسيت ان الدنيا كلها بتلف بيا، حسيت ان الدنيا بتديني بالقلم وتقولي اني مش هقدر اعيش ولا هموت حتى، هفضل كده دايما طول ما انت مش موجود.
احمرت عيناه وبرزت عروقه، لا يجد أي شيء يقوله، حتى العتاب لم يفعله فقط يتذكر أول لقاء، تلك الضحكة المشرقة الواسعة، وكفها الذي احتضن كفه وهي تقول:
هو أنا عارفة إن أنا اللي ركنت عربيتي مكانك، بس انت كمان ركنت مكاني المره اللي فاتت، كده خالصين... أنا "ندى"، وانت؟
فاق من شروده على صوتها وهي تقول:
" جابر" لما ضربني كان فاكر ان اللي في بطني ابنك انت، كان فاكرني بخونه، على قد ما كنت متهانة وموجوعة، علشان هو مش قايم من على السجادة وليل نهار في علاقات... على قد ما كنت ندمانة على اللي عملته في نفسي، واني اتجوزت راجل وأنا مش قادرة اشوف غير راجل واحد بس... اسمه "عيسى نصران".
أخرجت الحبوب من الكيس البلاستيكي وقالت:
عمري ما هقدر انساك، بس عمري برضو ما هقدر انسى انك مع أول غلطة رمتني وكأني مسواش أي حاجه عندك... استخسرت فيا فرصة تانية، وأنت عارف أنا كنت بحبك قد ايه.... خليت نفسك كل حاجه في حياتي وفجأة اتبخرت وسيبتني اتعذب.
هتف مدافعا وقد حفزته للحديث:
فرصة تانية؟... انتِ محدش جبرك على حاجه، انتِ مستنتيش اصلا اديكِ فرصة تانية ولا عاشرة، انتِ عملتي اللي كنتي عايزاه، متعمليش فيها البريئة وانا الجلاد اللي مبيرحمش.
صاحت بدموع:
ياريتك لسه معايا يا " عيسى" ، عمري ما هقدر ابطل افكر فيك، مش هقدر اعمل ده طول ما انا عايشة حياتي على الايام اللي كنا فيها مع بعض... بعادنا كان أكبر حاجه غلط في حياتي... الله يجازيها الدنيا يا "عيسى" على التوهة اللي انا فيها دي.
أغلق المكالمة، أغلقها وقد غلبه الحنين فدمعت عيناه، ولأنه يعلم أن الوضع خطأ أغلقها، أما عن الجالسة جواره فكانت تسمع كل حرف مما يقال، كانت تسمع انهيار المتحدثة، وحين لمحت الدموع التي تجمع في عين "عيسى" وحاول إنكارها، مالت برأسها على الزجاج تنظر للناحية الأخرى وتبكي بصمت.
على الناحية الاخرى
بعد أن أخرجت الحبوب أخذت منها ما يكفي للغرض، ثم ارتشفت من كوب المياه... نطقت بضياع وهي تحتضن معدتها:
أنا أسفه يا حبيبي، بس أنا لو جيبتك هكرهك... احنا منستاهلش، أب وأم وسخين... هو حاول يقتلك مره، وأنا بقتلك دلوقتي علشان مش عايزة حاجه من ريحته.... يارب أموت معاك.
قالت هذا وهي ترمق حبوب الإجهاض بانهيار كلي، يكفي لأهل الأرض جميعا.... حتى فتحت "بيريهان" الباب وما إن رأت ما بيدها حتى شهقت بعنف وهرولت لترى ما الكارثة التي قدمت عليها ابنة عمها.
★***★***★***★***★***★***★***★
دقات متواصلة على باب منزله، قام "باسم" وقد ألقى سترته على الأريكة بإهمال، فتح الباب فلم يجد أمامه سوى "رزان" التي قالت وهي تدخل:
انت فين؟... طول اليوم بلف عليك.
_جايه ليه؟
سألها بملل فجاوبته:
جايه علشان عايزه فلوس، ولا هو انت قعدتني من شغلي، وكل ما تروح تعمل مصيبة تفتكرني، واعيش اشحت انا بقى؟... يبقى ارجع الشغل احسن.
أشار لها على المطبخ بضجر:
بس أنتِ هترغي، ادخلي اعملي حاجه ناكلها.
أراح جسده على الأريكة، ودخلت هي إلى حيث طلب منها، أخذت تنظر حولها بتوتر، تغلبت عليه في الأخير وأخرجت الزجاجة من جيبها بإصرار، أحضرت ما ستحتاجه، وجذبت أحد الأكواب وضعت فيه المشروب له وبضع نقاط من الزجاجة وخرجت تقول:
خد اشرب لحد ما اخلص، هعملنا حاجه ناكلها.
تناول منها الكأس وتجرعه كاملا فتنهدت بارتياح وقد شعرت بنجاح خطوتها الأولى وتحركت بخوف أقل ناحية المطبخ من جديد.
★***★***★***★***★***★***★***★
وصل بها "عيسى" أخيرا أمام منزل "محسن"... ذلك المنزل الصغير المجاور للأراضي التي ورثها عن والده... " شاكر" لم يدخل إلى قريتهم إلا عن طريق "محسن"، إن " محسن" من أبناء قرية "نصران" وله حق الدخول فهو بالتأكيد من أدخل "جابر" خلسة ولم يلحظه الواقفان على مدخل القرية.
فتح باب السيارة ونزل تجاه تلك البوابة الخشبية سهلة الفتح، هرولت خلفه ترى ما يفعل فوجدته يدفع الباب مره، الثانية، ثم انفتح في الثالثة... صدق ظنه "محسن" هنا، لا يسهر كعادته في القرية المجاورة... لذا جذبه من ملابسه سائلا بشراسة:
أنت اللي دخلته؟
حاول "محسن" التملص منه، فدفعه "عيسى" مما أدى إلى ارتطامه بالبوابة، صاحت الواقفة في الخارج في حين سدد هو اللكمات له صائحا:
لو باقي على روحك قولي راح فين.
نطق "محسن" بصعوبة وهو يحاول القيام من على الأرضية:
"شاكر" مشي والله، مشي من الطريق اللي ورا البيت من ناحية الأراضي... أنا معرفش هو عمل ايه، هو دخل معايا وانا راجع من عندهم بالليل.
ركله "عيسى" خارج المنزل... وتراجعت هي للخلف بخوف.... ساعده على الوقوف ثم أدخله في سيارته، طالعته بخوف فحثها على الركوب وفعل هو الاخر ذلك ثم تحرك بها مغادرا المكان.
في التوقيت نفسه
نامت "شهد" على كتف والدتها من جهة، وحاولت "رفيدة" تخفيف حدة الأجواء فقالت:
مريوم ما تيجي معايا، نطلع نقعد في اوضتي .
طالعت والدتها، فجذبتها "رفيدة" قائلة بمزاح:
قومي تعالي مش هخطفك.
أخذتها معها، فلم يبق سوى "هادية" و "شهد" التي نامت على كتفها و "نصران" الذي جلس على المقعد المقابل.... قطع الصمت بقوله:
ايه يا "هادية" معندكيش كمان كام كلمة تقوليهم؟
طالعته وقبل أن تتحدث نطق هو:
لما انتِ شايلة ومعبية أوي كده من "عيسى" مجتيش تشتكي منه ليه؟... أنا لحد دلوقتي مسمعتش منك ايه اللي خلى "عيسى" ياخدها ويمشي.
أجابت على قوله بإصرار شديد:
أنا قولتهالك مره يا "نصران" وهقولهالك تاني... بناتي خط أحمر، وأنا الليلة دي كلها مكنتش موافقة عليها بس انت ضغطت من ناحية وابنك من ناحية لحد ما عملتوا اللي في دماغكم، ده مبقاش حق ابنك اللي مات ده بقى "شاكر" وابنك اللي عايش بيتخانقوا على البت.
قصت له "شهد" على ما حدث من دخول شاكر لمنزلهم فقال مستنكرا:
وهو انتِ مفكره إن شاكر دخل بيتك علشان يتخانق مع "عيسى" على "ملك" وياخدها ويمشي؟
حرك رأسه وهو يقول ضاحكا بسخرية:
عبيطة يا هادية.
طالعته بعدم تصديق على ما تفوه به، حين كانت صغيرة كان ينعتها بهذا دائما، وكان جوابها الثابت هو:
لا انا مش عبيطة، انت اللي بتفصل الحكاوي على كيفك.
وجدت نفسها تقول جملتها ورد هو:
أنا مبفصلش حكاوي على كيفي، عم البت كتبلها ربع الورث، و "شاكر" لو دخل بيتك يبقى دخل علشان كده.
الصدمة ألجمتها، وجعلتها تصمت وتحاول فهم ما قاله لذا كرر هو ضاحكا:
صدقتيني بقى انك عبيطة، ولسه متغيرتيش؟... عاملة شبه العيال بتتقمصي وتقفي ترمي الكلام ومتكلفيش خاطرك تفكري فيه مع نفسك.
أخبرته وهي تتجنب نبرته الساخرة:
لا أنا مفكره في كلامي كويس أوي يا "نصران" وابنك مينفعش لملك.
_تحبي أقولك أنا أنتِ مفكره في ايه؟
سألها، فشعرت بالقلق خاصة حين تابع يكشف أوراقها:
ملك مش أنتِ يا "هادية"، انتِ شايفة في ملك نفسك حبت ابني واتقهرت ببعاده وراحت اتجوزت حد تاني عمرها ما حبته.
ابتسم وقال قبل أن يغادر:
بنتك بتعرف تقول لا، وده الفرق بينها وبينك.
ظلت تفكر فيما قال بعد رحيله، وعيناها لم تفارق أثر خطواته.
★***★***★***★***★***★***★***★
وصل " عيسى" إلى مدخل القرية، نزل من سيارته وسحب "محسن" وألقاه على المدخل ملقيا أوامره:
"محسن" ميدخلش البلد، ولا ليه أرض فيها من النهاردة.
صاح "محسن" باعتراض وهو يحاول الدخول ولكن يتم منعه بواسطة الرجلين:
أنا مليش دعوه، أنا عايز الأرض بتاعتي انت متقدرش تاخدها مني.
دفعه "عيسى" نحو الخارج ناطقا بغلظة:
عايز أرضك، روح هات ال*** اللي دخلته هنا، هاته وتعالى، قوله عيسى بيقولك ادخل زي الرجالة، أبوك مات خلاص ومفيش حد هيشيل وراك تاني...
و لما "ملك" تديكوا انتوا الاتنين بالجزمة على دماغكم ساعتها ابقى ارجعلك أرضك .. غير كده تغور في داهية.
قال اخر كلماته وعاد إلى سيارته وسط اعتراض هذا الذي يحاول الدخول ولا يستطيع، سألته بتعب وأرادت إجابة تريحها:
هو انت فعلا مش هترجعهاله؟
طالعها فقالت مدافعة:
حرام الأرض بتاعته.. وتعب في...
قاطع ما تقول بقوله:
يعمل اللي قولتله عليه وهرجعهاله.
قال هو هذه المرة:
الورقة اللي قولتيلي إن "شاكر" كان عايز يمضيكي عليها.
اهتمت وأنصتت فتابع حديثه:
عايزك تمضي على تنازل، عمك ساب ليكِ الربع من كل حاجه عنده.
سقطت الصدمة على رأسها فكررت كلماته بغير تصديق:
ليا أنا؟
ضحك ساخرا وهو ينطق بوجع:
شكلك صعبتي عليه وحس بالذنب من اللي عمله ابنه فيكِ، افتكر ان الفلوس هتعوضك... تفتكري في ايه ممكن يعوض فريد؟
_ فريد مبيتعوضش يا "عيسى" ولا الوجع اللي في قلبي هيتعوض بالفلوس.
ابتسم وقال:
كلام حلو... على كده بقى هتتنازلي عن الفلوس؟
سألته بغير تصديق:
أنت شايفني كده؟
لم يجب فتحولت نبرتها إلى اخرى عنيفة:
ولا انت بقى اللي كلمتك في التليفون داست على جرحك اوي، فقولت تطلع اللي فيك فيا أنا.
تابعت وقد أنهكها كل شيء:
متجوزتهاش ليه لما هي مأثرة فيك أوي كده، سيبتها ليه؟
_ والله هي شكلها هتطلق، فلو معندكيش مانع اتجوز التانية أنا موافق.
حاولت أن تستوعب رده، ولم تجد إجابة مناسبة له سوى:
روحني لو سمحت.
صدمها بقوله:
مبحبهاش، ولو كنت بحبها فده كان زمان مش دلوقتي.
أخبرته وهي تخلع السوار من يدها:
بس هي بتحبك يا "عيسى".
انتبه لما في يدها وقبل أن ينطق وضعته في كفه قائلة:
الحظاظة بتاعتك، أنا لاقيتها وخدتها، افتكرتك هتلاحظ بس مخدتش بالك رغم انك قولت انها غالية عليك... مكنتش ناوية ارجعها بس مش من حقي، اتفضل... وشكرا لما كلمتك انك جيت علطول.
_ أنا علطول موجود يا " ملك" .
قال كلماته وهو يرتديها فطلبت منه:
ولو احتاجت تحكي أي حاجه أنا موجودة،
متترددش في ده.
هذه الكلمات جديدة عليه، سمعها كثيرا في الصغر من والده وخالته ولكن كان هناك ما يمنع من الحكي لهما، ولكن قولها كان له شعور مختلف، هي تطلب أن يسمح لها بتقديم المساعدة، أوقف سيارته أمام منزلها... سمع صوت اهتزاز هاتفه ففتحه، ليجد تنبيه من تطبيق (الفيسبوك) يذكره بعيد ميلاد إحداهن وتدعى "قسمت"
انكمش حاجبيه، وكسا تقاسيمه تعبير غامض جعلها تسأله:
هو في حاجه يا "عيسى"؟
هتف وعيناه لم تبتعد عن الهاتف:
أنا النهاردة عيد ميلاد أكتر واحدة أبوها بيكرهني في حياته.
سألته مجددا باستغراب:
بيكرهك... ليه بيكرهك؟
_ أصلها اتشلت...
اتسعت عيناها بصدمة وكادت تفقد الوعي كليا حين نطق بالكلمة الأخيرة:
بسببي.
لا تصدق ما يقول، ولم تصدق فعلته أيضا حين ألقى بنفسه داخل أحضانها وقبض عليها بذراعيه غير أبه بأي شيء حولهما... فقط يحتضنها بعد تصريحه الناري الأخير.
مفاجأة جديدة من ملك المفاجأة، الذي صرح قبل قليل أنه دائما وأبدا هنا.... دائما وأبدا تأسره برائتها ودائما وأبدا هو قادم.