رواية وريث آل نصران الجزء الثاني الفصل الرابع والأربعون بقلم فاطمه عبد المنعم
الفصل الرابع والأربعون (طلبي هو عنقه)
رواية_وريث_آل_نصران
الجزء_الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
لمسات حانية بأمان مس قلوب الناس
لكن تراب الماضي يفوح... فيفسد كل أساس.
عيناك ناصفة لقلوب أنهكها الزمان...
لكن قلبي وقلبك ضلا ولم يجدا العنوان.
ونادت روح بعيدة قالت:
آه من زمان... اجتمع فيه اثنان ولم يعرفا أين الأمان.
ألقت "ملك" بالطبق بكل عنف، واجهت حالة اضطرابه بعنف أيضا..كان مستديرا فأصابته في رأسه من الخلف، وضع كفه على رأسه بصدمة وألم، زاد غضبه أكثر مع حالة اضطرابه التي ما زالت متمكنة منه، ظلت كفه على مؤخرة رأسه وما إن حاول الاقتراب منها، قابلت ذلك بردة فعل عنيفة حيث جذبت المزهرية هذه المرة صارخه بانفعال:
متقربش مني... كانت الدماء ما زالت تسيل من وجهها بسبب ما أصابها وهي تتابع بعدوانية:
لو فكرت تمد إيدك عليا ولا تعمل أي حاجه هكسرها على دماغك، ولو أنت مجنون فأنا أجن منك.
بدأ الغزو... بوادر انتهاء حالة اضطرابه، حيث الاسترخاء يغزو جسده ويشعر أنه يستطيع التنفس بعمق... الآن فقط يستطيع أن يدرك ما فعل ويدرك ماذا يحدث أمامه.
أتت "ميرڤت" من المرحاض مهرولة وبيدها حقيبة الاسعافات، علمت أن الأمر تطور وهي ترى المزهرية في يد "ملك" لذا أبعدتها عن يدها وهي تطلب منها برفق:
خلاص يا "ملك" سيبيها متخافيش.
طالعته لتتبين خطوته التالية وأجابت بعكس ما في داخلها:
أنا مش خايفة منه.
غادرهما ورحل أمام ناظريهما... رحل إلى المرحاض، أجلستها "ميرڤت" على الأريكة، وبدأت في تضميد جراح وجهها وهي تحاول قدر استطاعتها تهدئتها.
أما عنه فكان داخل المرحاض، يقف أمام الحوض، وعينه لا تفارق المرآه، لا يطالعها بعينين ذلك الشاب اليافع، بل يطالع نفسه بعينين طفل صغير يأس من كل شيء، بل يأس منه كل شيء...طفل حتى الحديث هرب منه لمنعه من سرد معاناته.
أغمض عينيه بقوة فلم يظهر في عقله سوى "كارم"... طفل عائد من مدرسته للتو و " كارم" ينتظره، كابوسه ينتظره، يتصيد له الأخطاء الصغيرة ليقوم ويشبعه ضربا.
علا في أذنه صوت "كارم" وهو يقول:
هات كوباية الميه اللي هناك دي.
_ أنا بذاكر، هاتها أنت.
جوابه كان هكذا، لم ير أي خطأ اقترفه ليكون ردة فعل "كارم" هو أن أحضر الكوب وقذفه به ليتناثر الماء على كتبه وملابسه، بل ويصيب كفه أيضا إثر الزجاج الذي تناثر من سقوط الكوب.
عاد إلى واقعه وفتح عينيه، كانت شديدة الاحمرار، توقف البكاء في حلقه فلم يقدر على إخراجه، لا يعلم لمن ينظر حقا، هل هذا الذي في المرآه هو، أم أنه حصاد زرعتهم جميعا.
فتح صنبور المياه بانفعال وأخذ يدفع المياه على وجهه بكفيه، وكأن هذه المياه ستزيل خناجر الماضي الظاهرة في كل إنش منه، وكأنها ستمحي كل شيء.
يلقي بالمياه عليه أكثر بجنون، ثم عاد للنظر إلى المرآه وهنا فقط فرت دموع قليلة هاربة من حربه الداخلية، دموع لم تفر إلا حينما وجد أن المياه لم تزيل أي شيء، الماضي كما هو يظهر جليا في عينيه قبل أي شيء آخر.
في الخارج أنهت "ميرڤت" ما تفعل، ثم وضعت ضمادة على جانب جبهة "ملك" مطمئنة:
بس خلاص كده مفيش حاجه.
تابعت بحزن وهي تضع على وجنة "ملك" أيضا:
أنا أسفه، أنا السبب.
لم تكن "ملك" في حالة تسمح لها بسماع أي شيء أبدا، لقد أُنهكت تماما ولكنها قالت:
لو على اللي "عيسى" عمله فأنا مش مستنيه أسفه منك أنتِ، ولو على جوزك فدي مشاكلكم أنا معرفش عنها حاجه علشان أتكلم فيها.
أنهت حديثها وأراحت رأسها على الأريكة تحت نظرات "ميرڤت" التي اقترحت عليها:
طب قومي نامي معايا في الأوضه.
هتفت "ملك" بعينين شبه مغلقتين:
أنا مش عايزه أنام... أنا هقعد كده.
هي تريد حقا النوم، ولكن النوم الوحيد الذي تريده الآن هو هذا الذي يعمه الدفء، وحضن والدتها، وضحكات شقيقتها، والحديث معهن حتى يأخذهم النوم بالإجبار.... أما عن منزل "ميرڤت" فهي لم تعد تشعر بأي أمان فيه.
تركتها "ميرڤت" متمنية أن تتراجع في قرارها، وذهبت ناحية المرحاض، وقفت تدق على الباب سائلة بلهفة:
"عيسى" أنت كويس؟
لم يأتها رد فهتفت بنبرة باكية:
متقلقنيش عليك بقى علشان خاطري.
ما إن انتهت من جملتها حتى وجدته يفتح الباب، كان أثر ما فعلته "ملك" مازال يؤلمه، ولكنها لم تصبه فقط ألم نتج إثر الضربة... دلك مؤخرة رأسه وهو يحاول إخراج الكلمات، أخرجها أخيرا وهو يقبل رأس "ميرڤت" قائلا:
متزعليش مني.
نزلت دموعها وهي تطلب منه برجاء:
أنا مش زعلانه منك، متزعلش أنت مني.
احتضنها فشعرت بالأمان وهي تحس بكفه يربت عليها وهو يخبرها:
هبقى كداب لو قولت مش زعلان، بس مهما كان زعلي مكانش ينفع اللي عملته، أنا فقدت أعصابي، أنا أسف يا "ميرڤت".
رفعت عينيها له تخبره بصدق:
يا حبيبي أنا مش زعلانه منك والله، أنت ابني يا
" عيسى"، ابني و أخويا والضهر اللي بتسند عليه... أنا لو طلبت روحك عارفه إنك هتديهالي... أنا حتى لو قولتلك أنا زعلانه اعرف انها من ورا قلبي علشان أنت حته من قلبي.
ابتسم وهو يمزح دموعها سائلا بمزاح:
ده كله ليا مره واحده؟
_ وأكتر كمان.
كانت هذه إجابتها فطلب منها برفق:
خلاص يلا ادخلي ارتاحي شويه لحد الصبح.
قبل أن تتفوه بما يخص "كارم" تابع:
وأرجوكي بلاش أي كلام دلوقتي يخص أي موضوع.
طالعته برجاء فقال بإصرار:
علشان خاطري بلاش دلوقتي.
هزت رأسها موافقة، ثم قالت كمن تذكر شيء:
صحيح، بلاش تخرج ل "ملك" دلوقتي أنا حاسه إنها لسه خايفة، كمان هي مرضيتش تدخل معايا تنام، وقالتلي انها مش هتنام.... سيبها تهدى شويه وبعدين اتكلم معاها.
حثها بقوله الذي طمأنها:
ادخلي نامي أنتِ وأنا هتصرف متقلقيش.
تحركت ناحية غرفتها، وقد نزعت كلماته جزء من قلقها، وقررت الانتظار قليلا ثم الخروج والعرض على "ملك" ثانيا المبيت معها في الغرفة.
خرج "عيسى" فوجد "ملك" تغط في نوم عميق، حيث سقطت رأسها على كتفها ولم تعد في كامل يقظتها كما كانت قبل قليل.
حملها فاستندت برأسها على صدره، واتجه بها ناحية غرفته في منزل خالته، لم يضغط على زر الإضاءة حتى لا يزعجها، فقط وضعها على الفراش وأزاح حجابها لتستطيع النوم براحه... عدل من نومتها ثم تركها واتجه إلى الشرفة، جلس فيها وقد أحضر مقعد لنفسه، ينعم بهواء الليل المنعش، وهو يدخن لفافة تبغه...أخذ يعبث في هاتفه بملل لفترة لم يدر مدتها حتى شق صوت صراخها أذنه.... هرول مسرعا نحو الداخل ليجدها تجلس على الفراش تحاول التقاط أنفاسها المسلوبة، وهنا فقط تردد في أذنه كلمات والدتها المحذرة:
أنا مش هقبل إن بنتي تتوجع تاني، أنا مش هتحس باللي هي عاشته، متعرفش يعني ايه أقوم كل يوم على صرختها في عز النوم وتبقى عايزة اللي يحضنها ويطمنها إنه كابوس مش حقيقة زي العيال الصغيره، الليلة دي قلبت حياتها كلها.
بدأت "ملك" تدور بعينيها في الغرفة، تبحث عن والدتها فلقد اعتادت بعد صراخها كا ليلة تجد والدتها تحتضنها، حاولت استيعاب أين هي، حتى وقعت عيناها عليه.... فأردفت بانفعال:
أنا كنت قاعده برا، ايه اللي جابني هنا.
_ أنا اللي جيبتك لما لاقيتك نمتي.
سألته بغضب:
وقاعد مستني ايه، اتفضل قوم اخرج برا.
كانت ترتعد داخليا، لم يمح النوم ما حدث قبل قليل، حالته تم حفرها في ذهنها، لذا لجأت للعنف في المعاملة، لعلها تدفع الأذى عنها.
اقترب ليجلس جوارها على الفراش، فطالعته بريبة حتى سمعته يقول:
والدتك كانت قالتلي على موضوع كوابيس الليل ده... أنتِ لو بتعملي كده كل ليلة في اخواتك هيقطعوا الخلف.
صوبت سهامها ناحيته وهي تقول مدافعة:
مقالتلكش كمان إن النايم مفيش عليه عذر، على الأقل مبيبقاش صاحي وهو عمال يأذي في غيره بكلامه وإيده.
انتظرت منه ما ينشط دفاعاتها أكثر للشجار ولكنها سمعت قوله الذي صدمها:
لا قالتلي إنك بتبقي محتاجه حضن.
ختم حديثه بضمها، فدبت القشعريرة في جسدها، يستطيع دائما كسب نقطة لصالحه أمام نقطة خسرها... شعرت بالدفء ولكنها لم تسمح بذلك أكثر بل حاولت جاهدة التحرر وهي تقول:
غريبه...الإيد اللي بتزق طلعت بتعرف تحضن اهي.
تصنع الدهشة وهو يسألها:
ليه هو أنتِ مبتعرفيش تحضني
رفعت عينيها تطالعه باستغراب فأخبرها:
أصلك بتقولي الإيد اللي بتضرب وتزق مبتعرفش تحضن، وأنتِ لسه ضاربة من شويه على فكره.
سألته متصنعه الحزن ببراعة:
وجعتك؟
وضع كفه على مؤخرة رأسه تلقائيا وقد فهم تمثيلها وهو يقول:
اه وجعتني.
_أحسن.
كانت هذه إجابتها حيث قالتها بتحدي، فلم يستطع منع ضحكاته، وكذلك سأمت هي من محاولة التملص فبقى جسدها ساكن وفمها يعبر عن الاعتراض:
لو سمحت وسع ايدك، أنا عايزه أنام.
تحدث ببراءة أثارت غيظها:
أنا مش ذنبي إني بعمل اللي والدتك طلبته، أنا حاضنك علشانها، أصل أنا بار بالوالدين أوي.
حاولت كبت ضحكتها ولكنها فلتت منها بصوت منخفض فكتمتها مسرعة قبل أن يلاحظها
ولكنه مال بعينيه يسألها ضاحكا وهو يغمز لها :
بتضحكي ها؟
هربت بعينيها منه، واتسعت ابتسامتها فنظرت للأسفل، دق الباب فحررها وهو يقول:
ادخلي يا "ميرڤت".
دلفت خالته وشعرت بالإحراج، ولكنها أرادت أن تطمأن فسألتها:
أنتِ كويسه يا حبيبتي؟
هبت " ملك" من مكانها تاركة الفراش وهي تخبرها:
اه أنا كويسه، ياريت لو سمحتي تاخديني أنام معاكي.
حرك "عيسى" الجالس على الفراش سبابته بالنفي لخالته دون أن تلاحظ "ملك" ، يطلب منها أن ترفض... شعرت "ميرڤت" بالارتباك فتصنعت السعال وهي تقول:
أنا شكلي داخل عليا دور برد جامد، أنا بقول خليكي هنا أحسن.
شعرت "ملك" بالحرج فقالت وهي تعود للجلوس على الفراش:
سلامتك.
أرسل "عيسى" لخالته قبلة ضاحكا، وطالعته هي بعتاب وهي تغادر الغرفة، فلقد شعرت أنها تسببت في إحراجها، وبمجرد خروجها هتفت "ملك":
أنا هخرج أنام في الصاله.
ترك لها الفراش مطمئننا:
نامي أنا أصلا مش هنام... هما ساعتين وهنرجع يكون النهار طلع.
خرج إلى الشرفة، شعرت بالاطمئنان، هو معها وترك لها راحتها.... فتدثرت وقد سكنت تماما وهي تتعجب من جمعه للنقيضين، قبل قليل كانت تشعر أن خوفها كله هو السبب فيه، والآن أمانها كله معه.
أنهكها التفكير وبعد فترة نامت، دخل هو الغرفة بحذر فتأكد من نومها، فتمدد جوارها على الفراش، ورفع بخفة ذراعها لتصبح محتضنة له وأغمض عينيه وهو يبتسم بمكر.
★***★***★***★***★***★***★***★
أغلقت " بيريهان" هاتفها بعد قامت بالاتصال بأحدهم، أغلقته وألقت الشريحة حتى لا يستطيع "جابر" تتبعها... كانت تنتظر بتوتر، حاولت الاستغاثة ب "عيسى" ولكنه لم يجب فقامت بالتصرف.... بعد دقائق وجدت "شاكر" أمامها.... لم تلتق به سوى مرات محدودة بالقاهرة ، وباقي حديثهما كان عبر الهاتف ولكن يأسرها تعامله اللطيف والراقي معها... بدأت حديثها مقدمة اعتذار:
أنا أسفه جدا يا "شاكر" إني جبتك متسربع كده، بس أنا هما اتنين اللي أعرفهم في اسكندرية وأنت واحد منهم.
سألها وقد جسد الاهتمام ببراعة:
خير ايه حصل؟
سردت له ما تريد بصوت منخفض:
أنا بنت عمي جوا، جوزها أكيد بيدور عليها... في مشكلة بينهم وضربها، أرجوك أنا عايزه أخرجها من هنا قبل ما يوصل، أنا معايا العربية تحت عايزه أطلع على القاهرة.... بس محتاجه أخرجها... أنا محتاسه مش عارفه أعمل إيه.
انتبهت إلى يده المصابة فسألته باهتمام:
مال ايدك ايه حصلها؟
أهمل سؤالها بقوله:
مش مهم ايدي دلوقتي... قوليلي هي قريبتك دي صاحيه؟
_ اه هي صاحيه، كان عندها نزيف ووقفوه، وادوها حقنة مهدأه من حوالي خمس ساعات بس فاقت من شوية، لكن متبهدلة خالص... والدكتور قالي مش هينفع تخرج النهارده وكمان لسه محضر وكلام كتير... أنا كلمت بابا بس هو مش بيرد ومش عارفة أتصرف.
أشار لها على ناحية الغرفة ناطقا بنبرة منخفضة:
ادخلي لبسيها أي هدوم بالراحه وأنا هجيب كرسي ناخدها عليه وننزلها.
لم تقتنع بما يقول ولكنه حثها:
يلا خلصي بسرعه.
هرولت ناحية الغرفة تفعل ما طلب، ليس معها ملابس ابنة عمها ولم تدر ماذا تفعل... لذا خلعت معطفها الطويل، وبقت فقط ببلوزتها وسروالها الجينز وهي تقول بحذر:
ندى قومي ساعديني، جابر اتصل بيا، أنا مردتش بس أكيد بيدور علينا وهو مش بعيد عن هنا.
_ أنا مش قادره
همست بها "ندى" بألم فحثتها "بيريهان":
قومي بس انتي مش هتمشي أنا بجبلك كرسي متخافيش.
ساعدتها على الاعتدال على الفراش وقامت بإلباسها المعطف بصعوبة وحذر وسط تأوهات " ندى" وحديث "بيريهان" برجاء:
معلش استحملي بس.
أغلقت جمع زاريز المعطف، وربطت حذامه أيضا، وحاولت قدر الإمكان إخفاء رداء المشفى المتواجد أسفله، عدلت خصلاتها المبعثرة... ثم وجدت "شاكر" يقف في الخارج يحثها على السرعة.... سارت معها بصعوبة بالغة حتى أجلساها على المقعد وقال "شاكر":
أنا هاخدها وانزل من الباب اللي ورا... وانتِ أمني الدنيا برا وابقي انزلي بعدي.
أرشدها على مكان البوابة ثم أخذ " ندى" ونزل بها وهو يطلب منها بهمس:
حاولي تغطي وشك بشعرك.
قال ذلك بسبب الإعياء البادي على وجهها.... أخذ حذره جيدا حتى يستطيع التملص والخروج من هنا بسلام، وبالفعل وصل إلى سيارة "بيريهان" التي بعد دقائق لحقت به، وأدخلا "ندى" السيارة معا ثم ركب هو في المقعد المجاور ل "بيريهان" وسألها:
هو جوزها يبقى مين؟
_ "جابر منصور".... هما عيلة معروفة في اسكندرية.
اتسعت عينه وهو يسمع منها الإسم الذي عرفه جيدا بل يحفظه عن ظهر قلب.
★***★***★***★***★***★***★***★
استيقظت ولم تجد سوى الظلام، تشعر بضوء الصباح من حولها ولكنها لا تراه، وهنا أدركت الحقيقة التي جعلتها تنتفض، هي تنام وتحتضنه، تدفن رأسها في صدره وتحيطه بذراعها، ابتعدت بحذر حتى لا يستيقظ ويراها هكذا، اعتدلت على الفراش تحاول التنفس بهدوء، وقعت عيناها عليه... على استكانته أثناء نومه وكأنه يطلب من أحدهم أن يحتضنه وللأبد... كيف يكون هذا الاختلاف بين اثنين يحملان نفس الملامح... هو و " فريد" كل منهم نقيض للآخر... هذا يبدو الألم جليا على وجهه وفي عينيه، مسحت على خلاصته بهدوء ... مسحت وهي تتذكر كيف تتحول الوداعة هذه إلى شراسة تضرب كل شيء أمامها.
فاقت من شرودها وأبعدت يدها وهي تقول:
أنت... قوم اصحى.
فاق على نبرتها الحاده، تحدث بأعين شبه مغلقة وقد أصابه الانزعاج:
في ايه على الصبح.
تحدثت بانفعال:
أنت ايه اللي جابك هنا؟... أنت مش قولت هتفضل صاحي.
تحدث وقد ظهر في صوته أثر النوم:
الله، هو أنا جايبك من الشارع ؟... عوزت أنام هقعد مذنب نفسي بقى والهانم نايمه.
_ استغفلتني يعني!
ترك لها الفراش مردفا:
هو أنتِ عاتقة، ده أنا أول ما حطيت دماغي على المخده لقيتك مكلبشة فيا بإيدك وسنانك.
طالعته بضجر، أما عنه فقبل خروجه من الغرفة هتف:
قومي يلا واجهزي علشان هنمشي، التليفون عندك على الترابيزة، كلمي والدتك طمنيها وقوليلها إننا معرفناش نرجع امبارح علشان "ميرڤت" مسكت فينا.
أخبرته بغضب وهي تذكره بفعلته أمس:
أنا مش هكذب على ماما.
تحدث ببساطه قبل أن يغلق الباب:
خلاص قوليلها علشان أنا و "عيسى" كنا بنلعب مصارعة حره والماتش مكانش خلص لسه.
قالها وخرج فأغمضت هي عينيها تكتم صرختها من كلماته التي أدت دورها بنجاح في إزعاجها.
★***★***★***★***★***★***★***★
وقفت "هادية" في المطبخ تعد المخبوزات، وقد لمحت "شهد" التي استيقظت للتو فهتفت:
صحي يا "شهد" اختك... عندها درس.
_ هي فين "ملك" يا ماما؟... لسه مجتش ده العصر قرب يأذن.
أخبرتها والدتها وهي تخرج الشطائر بعد أن قامت بتسويتها:
اتصلت وقالتلي هيرجعوا كمان شويه، علشان خالته مسكت فيه.
مدت "شهد" كفها لتأخذ شطيرة ولكنها تأوهت عاليا من السخونة فطالعتها "هادية" بانزعاج مرددة بغيظ:
أحسن علشان شايفة بعينك إني لسه مطلعاهم وراحه تاخدي... عيله طفسه.
ربتت "شهد" على صدرها بامتنان هاتفة:
الله يكرمك يا حاجه والله.
ثم تطلعت حولها وهي تسأل:
طب مفيش أي حاجه تتاكل لحد ما تخلصي الفطار.
حذرتها "هادية" بقولها:
يا تروحي تصحي اختك، يا تيجي تقفي اعملي مكاني واصحيها انا.... صحيالي بعد العصر وجايه كمان توقفي حالي.
هرولت "شهد" من أمامها وهي تقول:
لا انا خلاص في اوضتها اهو.
دخلت لها ولكنها وجدتها مستيقظة، انتظرت "مريم" شقيقتها "ملك" كثيرا كي تستفسر منها باستفاضة عن حالة "حسن" لأن "شهد" لم تسمح لأحد بالتحدث معها أمس إثر تعبها النفسي مما حدث في منزل عمها.
قررت مريم أن تسأل بلهفة:
هو "حسن" كويس وبيتكلم وكده يعني.
هزت "شهد" رأسها وهي تطمأنها:
اه هما كمان قالوا احتمال يخرج النهارده ويكمل علاجه في البيت.
تابعت "شهد" وهي تسحبها من ذراعها:
نروح دروسنا بقى علشان بقالنا يومين مبنروحش، ومنفتحش كتاب.
حدثتها "مريم" بغيظ وهما يتجها إلى طاولة الإفطار:
أنتِ هتعملي فيها أبله الناظرة، الكتب مقطعه بعضها أوي من مذاكرتك.
جذبت "شهد" كوب الشاي الساخن الخاص بها، وتناولت إحدى الشطائر محكمة والدتها:
عاجبك كده يا ماما؟... تحبي أرد عليها؟
_ لا يا حبيبتي مترديش.... خليكي مؤدبة ساعه في حياتك.
هزت "شهد" رأسها بموافقة وهي تقول لشقيقتها:
أنا هسكت علشان أنا مؤدبة.
سمعن دقات على البوابة، فقالت "هادية":
أنا بقيت أتشائم من الباب.
ذهبت " مريم" لتفتح البوابة فوجدت أمامها "رفيدة" ومعها الصغير فأردفت باستغراب:
"رفيدة"!
احتنضتها " رفيدة" وهي تقول بود مبالغ فيه:
يا حياتي وحشتيني أوي.
انكمش حاجبي "مريم" باستغراب وهي تسأل نفسها هل هذه عاقلة أم لا.
هرول الصغير ناحية "هادية" أولا حيث قبلها على وجنتها هاتفا:
ازيك يا طنط.
رحبت به بحب قائلة:
ازيك أنت يا روح قلب طنط.
_ أنا كويس، أنتوا وحشتوني أوي.
قالها ثم هرول ناحية "شهد" التي احتضنته بحب قائلة بمرح:
أنت كمان يا "يزيد" وحشتني أوي.
دخلت "رفيدة" ووضعت الحقائب التي أتت بها على الطاولة الخشبية... طالعت "هادية" وتابعت:
هو أنا قولت مينفعش حضرتك تيجي تزوري "حسن"، وأنا مجيش أرد الزيارة.
ضحكت " هادية" وهي تخبرها:
لا صاحبة واجب يا حبيبتي.
جلست معهن على الطاولة فاستأذنت "مريم" قائلة:
هجيب ليكم حاجة تشربوها.
أشارت "رفيدة" على الشطائر ناطقة بحب:
بابا بيحب الفطير ده أوي.
اقترحت عليها "شهد":
خلاص هي هتعملكم شاي وتاكلوا معانا بقى.
هتفت " رفيدة" بحماس:
موافقة جدا طبعا.
_رورو... رورو.
استغربت "شهد" من يزيد الذي ينطق الاسم بطريقة غنائية فسألته:
عايز حاجه يا حبيبي.
قالت "رفيدة" وهي تصرف انتباههم عنه:
سيبك منه... بس بجد يا طنط البيت هنا حلو أوي... كمان "مريم" شبهك بالظبط قمر يا حياتي.
تبادلت "هادية" مع "شهد" النظرات المستغربة ثم قالت:
ربنا يباركلك يا حبيبتي، عيونك اللي حلوين... قوليلي هو حسن خرج بالسلامة.
أتت "مريم" من الداخل مسرعة لتسمعها وهو تقول:
اه رجع البيت الصبح، وبيسلم عليكم كلكم أوي، وخصوصا "مريم" بيقول يا حرام انها كانت واقفة خايفة ساعة الضرب.
استدارت تغمز لها هامسة:
بيسلم عليكِ أوي.
ثم ألقت لها قبلة متابعة بنفس نبرتها الهامسة:
وباعتلك دي.
شعرت "مريم" بالحرج فعادت إلى المطبخ بابتسامة متسعة، وترك "يزيد" الجلسة خفية، ليجيب على اتصال والده الذي نطق بغضب:
ايه يا "يزيد"... فين الزفته " رفيدة"؟
أخبره الصغير بغضب طفولي هو الآخر من تصرفاتها:
يا بابا "رفيدة" عماله تقول كل الكلام، ومش راضية تسيبني أقول ولا كلمه... وأنا وهي متفقين إن كل واحد يتكلم شويه.
صاح "طاهر" بغيظ:
أنا كنت عارف إنها هتعك... هي مقالتش لمامت "شهد" اني مستنيها تحت قدام المحل؟
أخبره الصغير بانزعاج:
قولتلها أول ما دخلنا، قالتلي لا استنى شويه نقعد معاهم، وعملتلها الأغنية اللي اتفقنا عليها علشان تقول قالتلهم سيبكوا منه، وقاعدة تقولهم إن جدو بيحب الفطير، وهي عايزه تشرب شاي وفطير.
كرر "طاهر" باستنكار:
شاي وفطير!
تابع بانفعال:
ادخل يا "يزيد" قولها بابا بيقولك قولي لطنط هادية تنزله، بدل ما يطلع هو وينزلك من غير كرامة.
أغلق الهاتف وهو يتمتم بضجر:
أنا اللي غلطان، ده العيل الصغير ده عنده عقل وهي معندهاش.
في نفس التوقيت
جلست "حورية" أمام "فريدة" في منزل "فريدة" تخبرها بهدوء:
أنا كلمتها، دخلت عليها بحوار ان احنا شركة سياحية وصاحب الشركة حضر ندوة عندهم وحابب يساعد الطلبة المتميزة، وان احنا بعتنا لكذا حد علشان يعملوا project لصالح الشركة واللي هيطلع أفضل حاجه هيشتغل معانا.
سألتها "فريدة" باهتمام:
ومردتش؟
خرجت ابنتها التي طلبت برجاء:
مامي ممكن نخرج شوية.
ردعتها بانفعال:
على جوا دلوقتي.
لم يعجب "حورية" هذا فقالت:
البنت صغيرة يا "فريدة" بالراحه شويه.
_ المهم كملي.
أخرجت "حورية" الهاتف وهي تقول بظفر:
أنا سيبتها تتصل كتير النهارده، ومردتش عليها، لأنها برضو مردتش على علطول الرسايل بقالها كام يوم... فلقتها بعتتلي على الواتس.
ضغطت "حورية" على زر التشغيل وسمعا معا صوت "شهد" وهي تقول:
مساء الخير أستاذة "حورية"، حاولت أكلم حضرتك كتير النهارده بس مش بتردي... ممكن أعرف تفاصيل أكتر عن ال project ... أنا طبعا متحمسه جدا للموضوع.
رفعت " فريدة" كفها تقول بإعجاب:
حلو أوي كده.... قوليلها انكم تتقابلوا، في المكتب عندك.
سألتها "حورية" باستغراب:
طب وبعد كده؟
ابتسمت "فريدة" بمكر وهي تقول:
بعد كده بقى ده تسيبيه عندي أنا.
★***★***★***★***★***★***★***★
في معرض سيارته وفي مكتبه العلوي، دخلا معا وأغلق الباب خلفه قائلا:
اقعدي خمس دقايق هخلص حاجه ونمشي.
جلست على الأريكة، وقد رفعت كفها تتحسس اللاصقات الطبية على وجهها، أما عنه فذهب إلى البراد يخرج زجاجة من مشروبه وهو يسألها:
اعملك قهوة؟
_ لا مش....
قاطع حديثها وهو يجلب زجاجة اخرى من مشروبه قائلا:
على فكره البابل تي مش كله نفس النوع، "فريد" كان بيحب اللي عليه لبن، ممكن انتِ تكوني محبتيهوش...
قدم لها زجاجة قائلا:
ده بالخوخ ومفيش فيه لبن.
تناولتها منه وهي تسأل:
هو في نكهات ايه غير الخوخ؟
_قلقاس.
قالها وهو ينظر في أحد الملفات الموضوعة على المكتب فكررت باستغراب:
قلقاس ازاي يعني.
ضحك على استغرابها وأخبرها وهو يدون شيء ما:
في ناس مزاجها كده بتحبه بالقلقاس.
_ هو أنا المفروض أقول لماما ايه على اللي في وشي ده؟
لم يتوقع منها سؤال كهذا، شعر بالتهديد في نبرتها، فابتسم بسخرية لم تنتبه لها قبل أن يقول:
هو أنا حاسس إن في نبرة تهديد، بس يارب أكون غلطان.... وعموما عايزة تروحي تقوليلها إن أنا اللي عملت فيكي كده روحي قوليلها.
تركت مقعدها وقد ارتفع صوتها:
بمنتهى البجاحه كده؟... هو أنت راضي عن اللي عملته امبارح؟
رفع كتفيه يبرر لنفسه:
الغلط عندك، حذرتك كتير أوي تبعدي عني وقت الانفعال، أكيد أنا مكانش قصدي أزقك، ومكنتش اعرف انك هتتخبطي في الترا....
صاحت بغضب:
بس زقتني، بص كده أنت عملت إيه في وشي... دي مش الترابيزة لا ده أنت.
_ معلش.
قالها فأثارت أعصابها أكثر ورددت خلفه باستنكار:
ومعلش؟.... مش كل الحاجات بينفع فيها معلش بتاعتك دي... أنت كنت هتمد ايدك على خالتك اللي هي بتعتبرها امك، أحس أنا بالأمان ازاي واللي هو مفيش أي حاجة بيننا أصلا.
ألقى بزجاجة العصير بعنف في سلة المهملات ووقف في مواجهتها سائلا بغضب:
أنتِ عايزه ايه؟
طالعته بتحدي وهي تجاوبه:
عايزه أقولك إن عصبيتك دي مش هتنفع معايا، مش هقدر أتعايش معاها، ومش هتحملها فشوفلك حل.
ضحك بانفعال وهو يسألها:
وأنا المفروض بقى بعد الكلمتين دول أقولك لا أرجوكي اوعي تسيبيني.... وتعالي نشوف حل....
الكلام ده لو أنا كنت خدعتك ولا فهمتك إنك متجوزه ملاك... صاحبك على عيبه، وأنا وأنتِ لبسنا في بعض خلاص.
نزلت دموعها التي مسحتها بعنف وهي تسأله:
هو أنت ليه بتتكلم على أساس إنها بيعة وشروه؟... افهم يا بني ادم... تابعت بقهر:
أنا كنت بحب واحد شبهك كده بالظبط، بس هو مكانش بيديني غير حنان وبس، لكن أنت ، أنا مش عارفاك ومش فاهماك... أنت متخيل اني لازم كل يوم أقابل واحد نسخة طبق الأصل من واحد تاني بس بشخصية تانية، أكملت بدموع أمام صمته وعيونه المراقبة:
أوقات بحسك أكتر واحد وحش في الدنيا، أكتر واحد ملاوع ومتعرفش في ايه في دماغه.... وأوقات تانية بحس إن أنت الوحيد اللي معاك أمان الدنيا دي كلها، أمان حتى مع "فريد" محستهوش، بحس إن أنت خايف عليا وعايز تطمني بتديني كل حاجه أي حد يتمناها وفجأة بتسحب السجادة من تحت رجلي وتوقعني على جدور رقبتي وكأنك بتقولي فوقي أنا اتنين مش واحد... أنت مين فيهم يا "عيسى" ؟
أعطاها ظهره لم يواجه هذه المرة بعينيه... بدأ في الحديث الذي جعل دموعها تزداد وهو يقف أمام اللوح الزجاجي العلوي يتأمل العمل في الأسفل:
المساواة في الظلم عدل... بتقولي إني بقدملك الأمان، تعرفي؟... الأمان ده أنا عمري ما عرفت أديه لنفسي يعني حتى الظلم أنا مش متساوي معاكي فيه... أنتِ تكسبي.
أدارته لها وهي تسأله بعينين دامعتين:
هو أنت لما بتيجي تديني الأمان، بتديهوني علشان مجبر ولا علشان حاجه تانيه؟
كانت تنتظر إجابته على أحر من الجمر، تحدث داخليا بما لم تسمعه:
بديهولك علشان احتاجت في يوم حد يديهولي.
بهتت تقاسيمها وهي تسمعه يجب على سؤالها بما هو بعيد تماما عن الموضوع:
في كافيه تحت جنب المعرض... انزلي استنيني فيه لحد ما اخلص شغلي وانزل اروحك.
حركت رأسها بمعنى لا فائدة وهي تمسح دموعها وتخرج من غرفة مكتبه صافعه الباب بعنف خلفها... عنف بثت فيه جزء من حزنها وثورتها.
★***★***★***★***★***★***★***★
حتى الآن لم يعد "جابر"، أتى " منصور" اتصال ظن أنه منه، ولكن خاب ظنه... أجاب مسرعا ما إن علم هوية المتصل وقال بترحيب:
معالي الباشا... أهلا وسهلا.
_ ازيك يا حاج "منصور" عامل ايه؟
جاوبه مطمئنا:
بخير الحمد لله، في حاجه يا باشا؟
سأله المتصل بما أثار انتباهه:
أنت في قرية جنبك اسمها قرية "نصران" مش كده؟.... كبيرها كمان اسمه "نصران "
أكد له "منصور" معلوماته فتابع المتصل:
"نصران" ده عنده عيل اسمه "عيسى".... أنا عايزه.
_ عايزه ازاي يعني يا باشا، اديه عنوانك يجيلك؟
أجابه المتصل بما جعل الدم يتوقف عن السير في عروقه:
أنا عايز رقبته.... رقبته يا حاج منصور.
عبارة من عدة كلمات، ولكنها ليست كأي عبارة... إن النيران تحفها من كل جانب، إنها عبارة لا ننساها أبدا.