رواية وريث أل نصران الفصل الثامن و الثلاثون بقلم فاطمة عبد المنعم
لما الخوف؟
ها أنا هنا، حنى وإن تأخرت فأنا قادم.
حتى لو رحلت أنا قادم..
حين يطلب فؤادك مغيث أنا قادم..
ولو طلبت عينيكِ صديق فأنا قادم..
دائما وأبدا تأسرني براءتك
ودائما وأبدا أنا قادم إليكِ.
قسم شرطه.. لم يقف الشجار العنيف الناشب بين "جابر" و "عيسى" إلا في القسم حيث طالب صاحب المطعم الذي حدث العراك به بتعويض مالي كبير وافق عليه كلاهما فتنازل الرجل عن شكواه ضدهما.... خرج "جابر" بصحبة والده، وزوجته، ووالد زوجته، وابنة عمها التي تحدثت بغضب:
ينفع اللي أنت عملته ده يا "جابر"؟... أنت فرجت علينا الناس ودخلتنا مكان زي ده.
طالعها بغضب هي وزوجته فتحدثت "ندى" بانفعال:
أنت بتبصلي كده ليه... أنت فاهم أنت بتعمل ايه أصلا.
أخرج هاتفه ورفع صورتها مع "عيسى" لوالده ووالدها:
قومت ضربته علشان دي... تستاهل اللي أنا عملته ولا متستهالش يا أبويا، بنتك المحترمة دي ولا لا يا حمايا؟
هتف والد "ندى" بغضب:
أنا مسمحش بتلميحاتك دي يا "جابر"... الصورة دي قديمة وقتها كانت "ندى" خطيبة "عيسى".
خرجوا من القسم كليا وأصبحوا في الشارع حين سمع الجميع نبرة "جابر" الحادة:
الصورة دي اتبعتتلي واحنا بنتغدى في المطعم، في نفس الدقيقة اللي هو دخل فيها المكان.
_ ولما أنت يا "جابر" عارف إن مراتك كانت خطيبة" عيسى" زمان مقولتليش ليه الكلام ده قبل كده؟
كان هذا سؤال والده الذي أجاب عليه مسرعا:
أنا معرفتش غير قريب... وأي حد مكاني كان هيضربه ويعمل أكتر من كده كمان
قاطعته" بيريهان" بقولها النابع من غيظها:
لا معلش يا "جابر" أنت مضربتهوش وهو وقف ساكت، أنتوا كان فاضل دقيقة ولو محدش أتدخل كان هيموتك.. وبعدين... مسألتش نفسك هو مجنون علشان يبعتلك صورة زي دي وانتوا الاتنين في نفس المكان وهو عارف إن ممكن تحصل مشكلة وخصوصا إن معاه بنت، اللي عمل كده مش "عيسى"، في واحد كان قاعد على الترابيزة اللي جنبه اسمه "باسم عراقي" كان صاحب بابا "ندى" زمان لكن اتسبب في مشاكل كتير وكان سبب أساسي في فسخ خطوبة "ندى" ومن وقت ما "ندى" اتجوزتك العيلة كلها قطعت معاه علشان ميحصلش مشاكل تاني... ده غير إنه مبيحبش "عيسى نصران" فمش بعيدة عليه يكون هو اللي عمل فصل النهاردة ده، وحضرتك بكل سهولة قومت تضرب وخليت شكلنا كلنا وحش.
طالع زوجته سائلا:
حواراتك دي كلها أنا معرفش عنها حاجة ليه؟
_ ومش من حقك تعرف أصلا... حياتك معايا ابتدت من يوم ما اتجوزنا، أي حاجه قبل كده محدش ليه حق يعرفها.
كان هذا جواب "ندى"، وتبعه قول والدها الحازم:
أنا هاخد بنتي تقعد عندي، ولما تبقى تعقل ابقى تعالى خدها.
هنا خرج "عيسى" ومعه "ملك" من الداخل في حين طلب "منصور" من والد "ندى":
ندى هترجع معانا على بيت جوزها... حقها عندي أنا، وأنت كمان هتيجي معانا علشان نتكلم في الشغل.
استدار ل "بيريهان" متابعا:
اعتذري لمعالي الوزير يا "بيريهان" وعمك "سليمان" و"ميار" بنته على اللي حصل قدامهم ده.
حيث انصرف ثلاثتهم، قبل الذهاب للقسم... والد" بيريهان" والذي دعاه "منصور" خصيصا لجلسة كهذه لتوطيد العلاقات معه أكثر الوزير "ثروت خليل الأسيوطي" وشقيقه "سليمان " وابنته " ميار".
انتبه "منصور" ل "عيسى" فاستوقفه حيث ناداه:
" عيسى" استنى يا بني.
كان "عيسى" يسير وجواره "ملك" التي أرادت لو استطاعت قتلهم جميعا الآن وقتل نفسها بعد الانتهاء منهم، توقف "عيسى" وطالع "منصور" رافعا حاجبه الأيسر منتظرا ما سيقول حتى سمعه يردف:
حقك عليا أنا... ده سوء فهم بينك و...
قاطعه "عيسى" قائلا بنظرات مشتعلة:
حقي عند ابنك
قبل أن ينطق كلمة اخرى تحدث "منصور" بلهجة حازمة:
اعتذر يا "جابر" عن اللي حصل.
طالع "جابر" والده بغير تصديق لما يقال، ولكن نظرات والده الحادة أجبرته حيث ردد مجددا:
سمعت الكلمة ولا لا؟
طالعت "ندى" والد زوجها باستغراب، ما يحدث هذا غير ممكن بالمرة لقد اعتادت أن "منصور" يسير بمبدأ ابني لا يخطئ أبدا... ما الذي تغير الآن هل حقا يطلب منه أن يعتذر؟
سألت "ندى" ابنة عمها هامسة:
أنتِ فاهمة حاجة؟
هزت "بيريهان" رأسها نافية في حين طالع "منصور" ابنه بنظرات تحذيرية جعلته يقول بالإجبار:
حقك عليا... افتكرت إن الكلب اللي بعتلي الصورة دي هو أنت ومكنتش أعرف إنك خطيبها القديم.
كان في حديثه إهانة لم تخف أبدا على الواقف أمامه فرد "عيسى":
الكلب مبيعضش غير اللي خايف منه، شكلك كنت خايف منه علشان كده عضك.
طلب " منصور" من "ملك" منعا لبدء شجار جديد:
طب قوليله أنتِ يا "ملك".
لم تكن معهم بل كانت تطالع هذه التي لم تنزل نظراتها من عليها منذ اللحظة الاولى، حثها مجددا فانتبهت وقالت:
أقوله إيه بالظبط؟... مش أنا اللي اتخانقت معاه.
_ علشان خاطر أبوك الغالي ما تزعل واعتبره أخوك وغلط في حقك عن غير قصد.
جاوب " عيسى" على طلب "منصور" بحدة:
أبويا الغالي ده ابنك شتمه، وعلشان خاطره دلوقتي هعتبر الهبل اللي حصل ده محصلش، ثم طالع "جابر" متابعا:
بس خليك فاكر برضو إني علشان أبويا أدفن أي حد.
أتى "جابر" ليتحدث ولكن منعه والده بضربه خفية وهو يقول ل "عيسى":
أبوك على راسنا كلنا يا بني، احنا أسفين يا عروسة بوظنا خروختكم
هنا أسرعت " ندى" تطالع الخاتم في كفيهما فوجدته في اليسار، بهت وجهها وشعرت بالدموع تداهمها وهي تهمس بغير تصديق لابنة عمها:
اتجوز!
أجابت "ملك" على قول "منصور" باقتضاب:
محصلش حاجة... طالعت "عيسى" متابعة بطلب:
"عيسى" لو سمحت عايزة أروح.
وقعت عيناه على "ندى"، دموع تجمعت في عينيها، لم تخف عنه هذه النظرة المعاتبة التي تسأله لما فعل هذا... نظرة تطلب الرحمة وأن يكذب " عيسى" ما يحدث لكنها لم تجد سوى الهلاك حيث احتضن "عيسى" كف "ملك" ناطقا:
يلا يا "ملاك".
قول مفاجئ من جديد يربكها، تحركت معه حيث أصبحا بعيدا عنهم فنطق " منصور" باستنكار:
"ملاك"!... هي مش البت بنت " هادية" دي اسمها "ملك"؟
أخبره ابنه الذي زاده الاعتذار الذي قدمه غضبا:
أيوه اسمها زفت على دماغه ودماغها.
سأل والده من جديد:
اومال ايه " ملاك" اللي بيقولهالها دي .
نفذ صبر "خليل" والد "ندى" من كل ما يحدث بينما كانت ابنته على شفا حفرة الانهيار فتناولت "بيريهان" كفها تدعمها وهي تسمع عمها يقول بانزعاج:
بيدلعها يا حاج "منصور"، مراته وبيدلعها... ممكن نمشي بقى من الشارع وكفاية الوقفة دي؟
_ على رأيك صحيح.
قالها " منصور" وهو يحثهم على السير ليرحلوا من هنا بعد هذا اليوم الحافل بكل ما لم يتوقعه أحد.
★***★***★***★***★***★***★***★
داخل دكان والدتها انطلق صوت "شهد" وهي تدون للصغير في كراسته مرددة على مسامعه:
Lion is very strong.
كررها "يزيد" خلفها فأعطته القلم طالبة:
اكتب كده يلا .
تناول القلم منها ولكنه لم يكتب حيث أتت "هادية" وبيدها الحامل المعدني عليه كوب من الشوكولاتة الساخنة وطبق من الشطائر، وضعته على الطاولة وربتت على ظهر الصغير مردفه بلطف:
عايزاك بقى تخلص كل ده.
شكرها الصغير بقوله:
شكرا يا طنط "هادية"،
أنا عيطت كتير أوي لحد ما بابا رضي يبعتني مع "تيسير".
شعرت بالشفقة حقا وهي تقول:
يا حبيبي.
مالت عليه " شهد" تلثمه على وجنته فضحك فرحا وهي تقول له:
لما تعوز تيجي كلمني زي النهاردة كده... ماشي؟
هز رأسه موافقا وهو يخبرها:
Ok... Have Five.
ضربت "شهد" كفها بكفه الصغير حتى قطع جلستهم صوت "رفيدة" تقول بمزاح:
أيوه أيوه الناس اللي بتيجي تقعد هنا،
وتنسى "رفيدة" صاحبتها.
أول مرة تأتي فيها إلى هنا، لذا رحبت "هادية" بحفاوة:
أهلا أهلا يا حبيبتي اتفضلي اقعدي.
اعتذرت بأدب:
كان نفسي بجد، بس لازم "يزيد" يرجع دلوقتي علشان عنده حصة.
استقامت "شهد" واقفة وهي تخبرها:
أنا عملت معاه كل الحاجات، فاضل جملة واحدة بس كمليها معاه.
هزت "رفيدة" رأسها موافقة وجذبت الصغير فقالت "هادية":
طب استني عليه ياكل بس.
بررت " رفيدة" بلطف:
حقيقي مش هينفع، لازم نمشي دلوقتي... ابتسمت بمكر متابعة:
صحيح "يزيد" بيحبك أوي يا "شهد"... والكابتن كمان بيحب
جحظت عين " شهد" وهي تطالعها بغير تصديق فتابعت "رفيدة' مصححة:
والكابتن بيحب إن " يزيد" بيحبكم أوي كده.
ذهبت "هادية" ناحية الزبون الواقف وهي تشكرها:
ربنا يعزكوا يا حبيبتي.
_ مساء الخير يا "هادية".
صوت اخترق أذنها واستدارت ابنتها مسرعة تتأكد من ظنونها... هي لم تتوهم أبدا إنه عمها يقف ها هنا.
★***★***★***★***★***★***★***★
كانت في طريق العودة من درسها، لاحت أمامها ذكرى جعلتها تبتسم بحنين... حيث تلك المرة التي قابلته فيها هنا حين كان يلعب الكرة، تيبس جسدها حين وجدته أمامها في نفس المكان، نفس الطريق الذي تمر منه للعودة، ألقت عليه نظرة ورغم اشتياقها غادرت وكأنها لم تره ولكنه ناداها بنبرة جعلتها تحترق شوقا:
هتمشي وتسيبيني يا " مريم" ؟
ترددت ثم عادت خطوتين للخلف تصارحه بحزن:
أنا وعدت ماما... بس هو أنت زعلان، حاسة من صوتك إن في حاجة؟
هز رأسه وعيناه لا تفارقها:
اه... أنا دي أول مره أخرج من كام يوم،
وخارج الشوية دول سرقة كمان علشان أشوفك... وحشتيني.
انكمش حاجبيها وهي تطلب منه برجاء:
"حسن" بلاش الكلام ده لو سمحت.
لم يجبها فقط طالعها فشعرت بالارتباك وقالت:
أنا كمان كنت عايزة أشوفك.
ضحك للمرة الاولى في هذا اللقاء فوأدت الضحكة بقولها:
بس أنا وعدت ماما ولازم أروح.
طلب منها وهو يجذب دفترها الذي حملته على يدها:
طب استني.
لاحظ عدم تدوينها لاسمها فسألها:
مش كاتبة اسمك ليه؟
بررت ذلك وهي تمد رأسها لترى ما يفعله:
بنسى... هو أنت بتعمل ايه؟
أبعد الدفتر عن ناظريها، وجد الصفحة الأولى فارغة فجذب القلم منها وبدأ في فعل شيء ما فككرت:
"حسن" هات الدفتر.
رسم فتاة بال كاريكاتير وأمامها شاب يتطلع إليها وفي الأسفل دون عبارته:
وحشتيني يا "ريمو"
لم تر ما فعل فلقد وضع القلم داخل الدفتر وأغلقه ووضعه في يدها قائلا بضحكة:
لو عايزة تروحي يلا.
أتت لتفتحه ولكنه هز رأسه رافضا:
لا لما تروحي... تابع وهو يلوح لها:
يلا قلب كبير.
_ ايه قلب كبير دي؟
سألته وقد زين ثغرها ابتسامة فأجابها:
لما بشوف حد بحبه ويعمل حاجة تفرحني، أو أنا ببقى فرحان إني شوفته بقولهاله.
أدركت مغزى كلماته فضحكت وتحركت لتغادر وهي تقول من بين ضحكاتها:
طب مع السلامة يا "حسن".
ظل على وقفته وتابعت هي سيرها ولكنها استدارت تقول بابتسامة واسعة:
قلب كبير يا " حسن".
ولم تنتظر كعادتها بل هرولت عائدة إلى المنزل، بقلب تحول إلى عصفور صغير فُتِح له محبسه توا فطار فرحا وحماسا.
★***★***★***★***★***★***★***★
للمرة الرابعة يحاول التواصل مع ابنه، حتى أتته الإجابة أخيرا فسمع صوته وقد أصاب نبرته القلق:
ايه يا بابا في حاجة حصلت؟
_ أنت فين يا "عيسى"؟
كان هذا سؤال والده فأعطاه الجواب:
أنا هرجع " ملك" البيت واجيلك، في حاجة ولا ايه؟
أخبره والده بهدوء:
أنا سايب أوامر للكام راجل اللي عند مدخل القرية، أي حد من طرف "مهدي" يدخل يبلغوني، اتصلوا بيا قالوا إن "مهدي" عايز يدخل، خلتهم فتشوه ودخل... روح مع "ملك" عند الست "هادية" وشوف الدنيا هناك ايه.
بعد أن انتهى والده من حديثه أخبره هو بما طمأنه:
خلاص أنا على وصول أهو.
أنهى حديثه مع ابنه ووجد "ميرڤت" تهبط الدرج فرفع صوته مرحبا:
منورانا والله يا ست "ميرڤت" .
ابتسمت تشكره بامتنان:
بنورك يا حاج "نصران" الله يكرمك.
بحثت بعينيها عنه وهي تسأل:
هو "عيسى" مرجعش لسه؟
هز رأسه نافيا ثم طلب منها قائلا:
بمناسبة "عيسى" بقى، تعالي نطلع برا الجنينة عايز أقولك كلمتين.
شعرت بالقلق حيال ما سيتم قوله، ولكنها تبعته حتى وصلا إلى الخارج... طاولة تطل على الأشجار والهواء مرافق منعش، جلست وجلس أمامها يسألها:
"عيسى" عاش في بيتك أكتر من اللي عاشه هنا بكتير، أنا عارف صحيح إنه لما كبر شرد وراح عاش لوحده ومرضيش يقعد مع حد، لكن أنتِ أكيد عارفه عنه كتير.
صارحته بما يدور داخلها بصدق حيث قالت:
كلامك قلقني يا حاج "نصران".
بدأ يسرد لها ما لاحظه علها تستطيع المساعدة، أو يجد لديها إجابة:
" عيسى" أنا حضرتله موقفين، كان متعصب فيهم بحس إن كأن حاله اتبدل... مبيسمعش كلمة لحد، أنتِ عارفة طبعا "عيسى" مبيكسرش كلمتي لكن حتى انا، في المرتين حسيت كأنه مش شايفني، أو ده مش ابني وجابوا واحد مكانه بيدمر ويكسر كل حاجة وميعرفش حتى أبوه.
توتر، ارتباك، قلق وكل ما يتلف الأعصاب تجمع بها الآن، أما عنه فكان يقصد يوم العراك بينه وبين "شاكر" ، وذلك اليوم حين تعدى على شقيقه "طاهر" بالضرب.
رفعت كتفيها لأعلى دلالة على عدم معرفتها وهي تخبره:
أنا معرفش حاجة... "عيسى" طول عمره عصبيته وحشة.
قالت ل "ملك" لأنها أصبحت زوجته، حتى تتجنبه في نوبات الغضب هذه، وربما استطاعت مساعدته دون الافصاح عن شيء لكنها لن تقدر على قول هذا لوالده، هي تتذكر كلمات "عيسى" التحذيرية جيدا:
"ميرڤت" أنتِ غلاوتك عندي من غلاوة أمي... لكن الهبل اللي بيتقال ده لو اتكلمتي فيه تاني مش هتشوفي وشي خالص.
فاقت على صوت "نصران" المنبه:
يا "ميرڤت" روحتي فين؟... بقولك العصبية متبقاش بالشكل ده.
كررت ما قالته مسبقا مما جعله يشك في الأمر بأكمله:
أنا معرفش حاجة.
لم يصبه الشك وحده بل أصاب أيضا زوجته التي وقفت على مقربة من جلستهما تسترق السمع لكل ما يحدث ويقال هنا.
★***★***★***★***★***★***★***★
_ أنت جاي هنا عايز ايه؟، هو البجاحة دي مش هتبطلوها... مبتحسش إنك عايز جركنين جاز وعلبة كبريت لبيتك ده علشان ينضف؟
كان هذا صياح "شهد" الحاد الذي وجهته لعمها الذي لم ينطق بكلمة منذ أن أتى، أخبرتها والدتها بحزم:
بس يا "شهد".
صرخت بحقد راكمته السنوات:
لا مش بس، أنا أي حاجة وحشة فيا فهي منهم، امشي اطلع برا، أنت منفعتش أب هتنفع عم لينا... أنت شاطر بس تعمل راجل علينا احنا.
_ ليه يا " شهد" كل ده... عملتلك ايه يا بنتي لكل ده؟
قالها "مهدي" أمام سهام ابنة شقيقه المنطلقة صوبه فأجابته بحدة:
لا ده أنت عملت كتير أوي...ده أنا سنين عمري كلها تعدلك اللي عملته ... ده انت استخسرت فينا نعيش زي الناس، واستغليت ضعفنا واننا مش هنلاقي نكمل حياتنا وعيشتنا تحت رحمتك انت ومراتك وعيالك... يا شيخ اتفو
ثم بصقت عليه فصفعتها والدتها، طالعتها ببكاء:
أنتِ بتضربيني علشان دول؟...مش أنا الغلطانة علشان اتضرب، هما اللي....
لم تستطع إكمال حديثها فخرجت مهرولة تبكي بعنف اصطدمت بشقيقتها و "عيسى" فقالت "ملك" بقلق:
"شهد" مالك في ايه؟
لم تنتظر بل تابعت هرولتها إلى المنزل، فأدركت أنها تريد الانفراد بنفسها، كانت ستلحق بها ولكنها سمعت صوت عمها:
"ملك" أنا جايلك في كلمتين.
طالعته غير مصدقة وجوده، هرولت "هادية" للأعلى بعد أن اطمأنت بوجود "عيسى" تلحق بابنتها "شهد"... في حين نطقت " ملك":
كلمتين ايه اللي لسه هيتقالوا يا عمي؟... في ايه هيتقال تاني؟
_ عايزك لوحدنا... نفذي طلبي المره دي بس .
طلب منها وحسمت هي أمرها فسمعت صوت "عيسى" يطمأنها:
ادخلي اتكلموا في المحل وأنا واقف هنا لو احتاجتي حاجة.
دخلت معه، وقفت أمامه تنتظر ما سيقول، كانت نظراته حزينة تتحدث قبل لسانه:
أنا عمري ما كنت عم كويس أنا عارف، ولا حتى أب "شاكر" ضاع ومبقاش ليا كلمة عليه وهيضيع الكل معاه... علشان خاطري يا بنتي توقفي اللي هيحصل لو تعرفي، أنا لو "شاكر" جراله حاجة اطب ساكت فيها.
طالعته بألم وهي تنطق باستنكار:
طب وأنا يا عمي؟... "شاكر" ابنك لو جراله حاجه تطب ساكت، لكن "ملك" بنت أخوك تتقهر عادي، يتداس عليها عادي، ابنك يموتها بحسرتها وهي لسه فيها الروح برضو عادي... تابعت بدموع انهمرت من عينيها و ابتسامة ساخرة:
"شاكر" روح لكن "ملك" مش روح.
حاول تهدئتها وهو يقول بأسف حقيقي:
أنا أسف يا بنتي.
رفعت حاجبيها تسأله من بين دموعها بعدم تصديق:
بجد أسف؟... أسف على إيه فيهم يا عمي، على فرحتي اللي اتكسرت، ولا على ابنك اللي زي اللعنة مطارداني في كل حتة؟
اقتربت منه تتابع أسئلتها:
أسف على الخوف اللي بحس بيه لما بشوف "شاكر"، ولا على دموعي اللي منشفتش من يوم اللي عمله... أسف على موت فريد؟... ولا على حياتي اللي اتشوهت ومبقتش عارفة هي حياة مين؟
طالعته تطلب منه الإجابة:
قولي أنهي أسف فيهم، وأنا هشوف ينفع أسامحك عليها ولا لا؟
تناول كفها يرجوها بدموع:
أنا كسرتي في ابني، الضنا غالي... أنتِ غالية عند أمك وهو غالي عندي... أوقفي الدم اللي هيتفتح لو تعرفي وأنا أوعدك " شاكر" مش هيتعرضلك تاني، مش هتشوفي وشه تاني.
جلست على المقعد تهتف بألم:
الضنا فعلا غالي، كلامك ده أكبر دليل إنك عمرك ما شوفتنا ضناك.
كانت كلماتها تقطر وجعا وتابعت:
أنا مسامحاك على وجعي وكسرتي، بس مش مسامحة ابنك على حياتي اللي دمرها ولسه بيدمر فيها، ومفيش في ايدي حاجة اعملهاله أنا معرفش "عيسى" ناويله على ايه... ولو في ايدي حاجة اغيث بها "شاكر" هعمل نفسي مش شايفاها.
قالت كلماتها الأخيرة دون إشفاق، فهز "مهدي" رأسه بأسى، وربت على كتفها وهو يتركها مغادرا المكان بأكمله يجر أذيال الخيبة خلفه.
★***★***★***★***★***★***★***★
يجلس على طاولة في أحد المقاهي الشبابية ويطلب من الجالسة أمامه:
اتصلي بيها كده.
وكأنها قنبلة أشعل هو فتيلها فانفجرت تقول:
أنا مش هتصل بحد يا "سعد"، حوارك ده ميخصنيش وهقول ل " رفيدة" على كل حاجة وانك لا قريبي ولا اعرفك... أنا مبقتش عارفة انت بتدبر ايه بالظبط وأنا مش على استعداد أروح في داهية معاك.
ضحك وهو يسألها:
قوليلها، هتقوليلها بقى برضو انك أنتِ اللي معرفاني كل حاجة عنها ولا لا؟
طالعته بريبة فقال وهو يقوم:
عايزة تطلعي من اللي بعمله اطلعي
تابع وقد احتدت نبرته:
لكن كلمة تخرج من بوقك هدفنك فيها... سمعتي ولا لا؟
أخافها بحق، وللمرة الأولى أما عنه فوضع المال على الطاولة وتحرك مغادرا يجرى اتصاله بأحدهم يقول:
بقولك ايه عايز الشقة تبقى جاهزة على الأسبوع الجاي.
انتظر حتى سمع حديث الطرف الاخر ثم تابع مؤكدا بظفر:
تمام أوي كده.
في نفس التوقيت
صاحب "حسن"... " طاهر" في سيره نحو مكتب والده، دقا الباب ثم دخلا ليجدا "نصران" منهمك في شيء ما، تقدم "حسن" أولا يقدم اعتذاره للمرة التي لا يذكر عددها:
بابا أنا أسف... ممكن تكلم المره دي معايا.
اقترب "طاهر" يطلب هو الاخر:
علشان خاطرى يا حاج خلاص بقى، رغب "نصران" لو قبل اعتذار "حسن" فحالته يرثى لها حقا، لكنه رفض!
★***★***★***★***★***★***★***★
لا تعلم كم من الوقت مر سوى أنهما الآن في محل والدتها يحدثها المرة الاولى منذ ذلك الموقف الذي حدث في المطعم وهي في حالة انهيار سببها الحديث مع عمها.
_ "مهدي" كان عايز ايه؟
كانت تنظر للأرضية، وما إن نطق حتى رفعت رأسه تطالعه وهي تقول:
كان عايز يقول إنه أسف قصاد خدمة هعملهاله...
كلكم أسفين أنا عارفة.
تركت المقعد بينما استدار هو يغلق بوابة المحل أمام ناظريها فاعترضت:
أنت بتقفل الباب ده ليه... افتح الباب.
استدار لها متحدثا بهدوء:
كده نعرف نتكلم.
هتفت بإصرار امتزج مع وجعها:
مفيش أي كلام بيننا.
وضح لها الأمر بقوله المقتضب:
دي كانت خطيبتي.
فصاحت سائلة:
أنت مين بالظبط، أنا عايزة أعرف أنت أخرك فين... أنا كل يوم بكتشف فيك حاجة جديدة، في شغلك، في حياتك، في أفعالك، حتى كلامك بيخليني عاجزة عن الرد.
من جديد يفاجئها فهو لم يعط إجابة بل ذهب ناحية كوب المياه ولكن انفعالها جعلها تأخذه من يده عنوة طالبة:
رد عليا... وبطل أسلوبك ده.
اقترب منها سائلا:
أنتِ عايزة ايه ؟
كانت ستبتعد ولكنه جذبها وأصبح محاوط لخصرها بذراعه وهي تحاول التملص بكل الطرق فثبتها متابعا:
قولتلك كانت خطيبتي، واللي حصل معرفش حاجة عنه المفروض أقول إيه تاني؟
حاولت بكل الطرق إبعاده وهي تقول بعنفها الذي عهده منها لحظات رفضها كالقطط تماما:
المفروض تبعد عني.
لم يتزحزح إنش واحد بل اقترب أكثر حتى أصبح وجهها على مقربة من وجهه، عيناه لا تتركها وهو يقول:
اللي بتعمليه ده ملهوش غير اسم واحد... وأظن أنتِ عارفاه كويس... ايه اللي يخليكي تغيري على واحد أنتِ يا عيني شايفة نفسك معاه في عذاب.
كان الرد جاهزا سريعا:
أنا مبغيرش، أنا عندي كرامة واللي حصل ده خل....
صمتت عن الحديث حين لاحظت اقترابه أكثر، شعرت بتجمد في أطرافها محاولة جديدة للابتعاد عنه ولكنها فشلت... مال عليها وقد احتضن عينيها بعينيه ولكن نظراتها الأسيرة تم إجبارها على النظر في مكان آخر،
تلك الندبة الواقعة أسفل عنقه بمسافة قصيرة وقد ظهر منها جزء صغير للغاية من أسفل ملابسه، أدركت من بشاعتها أنها أكبر فمدت كفها تضع أطراف أصابعها عليها بخوف، أدرك هو ما رأته، وتابعت تفحصها تبعد طوق ملبسه قليلا لتراها كاملة، فتحت عينيها على وسعيهما بصدمة، إنه حرق، وضعت كفها عليه تسأله دامعة العينين وكانت لغة العيون أبلغ في السؤال.... فصارحها بقوله وقد ثبت كفه رأسها من الخلف:
محدش شافه ولا هيشوفه غيرك يا "ملك".
لم تستطع تفسير نبرته هل هو تحذير من أن تخبر أحد، أم تفرد لها بما عرفته... ولم تعد قادرة على منع اقترابه، شردت في عينيه وقبل أن يفعل أي شيء اخر، فتحت " هادية" البوابة وتجمدت مكانها وهي تراهما هكذا.
دائما وأبدا تأسرني براءتك
ودائما وأبدا أنا قادم إليكِ