رواية وريث أل نصران الفصل السادس و الثلاثون بقلم فاطمة عبد المنعم
سجان أهل الحي حررني
فقلبي مسجون وساكني أنت.
عيناك قاتلة، تاه الهوى فيها
وروحي هائمة تريد أن تحيا
فلا حياة لنا وأنت ساكنُنا
ولا حياة نلقاها لا تكن فيها.
سكن كل شيء من حولها إلا صوت نحيبه، يحتضنها ويبكي بينما في نفس التوقيت سارت "شهد" جوار "مريم" في طريقهم إلى المقابر وهي تردف بتذمر:
ملك تخرج وأمك تقلق، ونتشحطط احنا الاتنين وراها بقى.
حدثتها "مريم" بغيظ:
خلاص يا "شهد" معطلناش الهانم عن الديوان، هنجيب أختك ونرجع بدل ما ترجع لوحدها.
كانا قد وصلا إلى المدخل وقبل خطوتهم التالية تجمدا عند هذا المشهد الذي لاح من مسافة ليست بالبعيدة، هرولت "شهد" تعود للجانب قبل أن يراها أحد وفعلت "مريم" كذلك... استندا على الحائط فهمست "مريم" لشقيقتها:
تعالي يا "شهد" نمشي، هو معاها هيروحها.
حاولت "شهد" أن تطل برأسها خلسة لترى ما يحدث وهي تقول بنفس النبرة المنخفضة:
نمشي ايه استني بس.
ضربتها "مريم" على كتفها وقد حمل حديثها التهديد وهي تقول بانزعاج:
"شهد" والله العظيم هقول لماما، اتلمي بقى... وافرضي شافنا دلوقتي هيبقي شكلي وشكلك وحش.
لم تهتم بما يقال بل عادت تطل من جديد هامسة:
أنا بحب شكلي يبقى وحش، يا تسكتي بقى يا تروحي لوحدك... أنا هبات هنا.
بعد بهدوء، طالعته فوجدت عينيه دامعتين ولكنه مسح عنهما هذه الدموع مرددا:
المفروض أقول إيه؟
_ مطلبتش منك تقول حاجة أصلا.
قالتها وهي تغادر، لتترك له المجال ولكن منع هو ذلك حيث جذبها من ذراعها من جديد في حين همست "شهد":
هما بيقولوا ايه؟، واختك سايباه وماشيه ليه... " ملك" اختك دي عايزة أكسر دماغها.
أخرجت "مريم" هاتفها فاستدارت لها "شهد" تسأل بغيظ:
أنتِ مبترديش عليا ليه؟
جاوبتها بضجر:
بتصل بماما، طالما أنتِ مش عايزة تحترمي نفسك ونمشي من هنا... هو أنتِ أخطاء الماضي مبتعلمكيش؟
حاولت تهدئتها وهي تخبرها:
لا بتعلمني، بس أنا دلوقتي مش براقبهم علشان أفتن عليهم، أنا بتابع تطورات قصتهم.
ابتسمت وهي تتابع:
طب شوفتي الحضن؟
قالت "مريم" وهي تتابع البحث بهاتفها:
لا أنا شوفت رقم الست "هادية" اللي هتصل بيها دلوقتي، علشان تيجي تتابع التطورات معاكي وتبقي تسأليها عن رأيها في الحضن.
تأففت "شهد" وهي تسألها بضيق:
يعني أنتِ عايزة ايه دلوقتي؟
_ نمشي من هنا.
قالتها "مريم" بإصرار جعل شقيقتها تتحرك معها مجبرة ثم سريعا ما عادت تحاول أن تطل:
طب هبص مرة واحدة ونمشي.
جذبتها "مريم" وهي تردد:
امشي يا "شهد".
نظرت " ملك" لكفه الذي أمسك بذراعها من جديد ثم قالت:
ايدك لو سمحت عايزة أروح.
سألها وكأنه لم يسمع ما تقول:
أنتِ كنتي بتشتكيني ليه؟
ضحكت ساخرة وهي تواجهه بعينيها وقد دخلت الدموع معهما شجار عنيف من أجل الظهور وهي تسأله:
هي هتفرق بجد؟... لا متقلقش مكنتش بشتكيك.
تابعت وهي تطالعه وكلماتها المبطنة بالكثير تداهمه:
وهشتكيك ليه؟... أنت معملتش حاجة، أنا عارفة من الأول إنك متجوزني علشان كده مكنش ينفع أكدب الإحساس ده لحظة، أنت اتجوزتني علشان تجيب "شاكر" وتقوله العروسة اللعبة اهي بقت معايا، وتطلعله لسانك، ومش مهم أنا... أنا الحاجة اللي هتتخانقوا عليها بس في وسط الخناق ده محدش هيفكر يسألها هي عايزة إيه؟
ابتسمت وهي تتابع وقد فازت دموعها وتسابقت على وجنتيها:
متقلقش يا "عيسى" أنت مش محتاج تقول حاجة، علشان أنا مش زعلانة منك، احنا نزعل من الناس اللي يهمهم أمرنا، وأنا مش مستنية منك ده.
قاطع حديثها بقوله:
"ملك" أنا لو اللي قولته وجعك، أو حسسك إنك مش مهمة فأنا بعتذر عليه، أنا متعودتش أعتذر لحد علشان أنا عيشت طول عمري مستني اعتذار عن اللي اتعمل فيا، مستني حد يتأسف عن غلطاته في حقي وملقتش ده...فحياتي بقت ماشية بمبدأ إن محدش يستاهل إني أعتذرله إلا ناس معينة في حياتي وأنتِ منهم.
قبل أن تتحدث تناول كفيها قائلا بابتسامة أجبرتها على تأمله:
ايدك ساقعة، أمي الله يرحمها كانت بتقول اللي إيدهم ساقعة بيبقى قلبهم دافي، وأنا عارف إن قلبك دافي
أشار بعينيه على قبر شقيقه متابعا:
علشان كده "فريد" حبك... وعلشان كده مش هتزعلي من اللي قولته.
هزت رأسها بالنفي تصحح له:
مش دايما هقدر مزعلش، حتى اللي قلبهم دافي بتيجي عليهم لحظات مفيش أي اعتذار بيعوضهم... بيثوروا وبيمشوا.
_ أنتِ حاولتي تمشي قبل كده، مرتين على فكرة وأنا اللي لحقتك.
ذكرها بفعلتيها فدافعت:
مرة واحده بس اللي أنا مشيت فيها ومطلبتش منك تيجي ورايا.
رفع حاجبه الأيسر سائلا بضحكة متهكمة:
ولما رميتي نفسك في البحر، وأنتِ مبتعرفيش تعومي، كنتي نازلة تقيسي درجة حرارة الماية مثلا!
ضحكت على جملته الأخيرة فسألها باسما:
خلاص؟
هزت رأسها موافقة وهي تخبره أن كل شيء قد انتهى ولم تعد حزينة، فأشار على قبر شقيقه ووالدته قائلا:
هسلم على أمي، و"فريد" ونمشي.
أخذت تتأمل المزروعات الصغيرة أمام القبر بمجرد أن انتهى مما يقول ولكن وجدا من يندفع للداخل... كانت "شهد" ومعها "مريم" غادرا ولكنهما سمعا في الطريق ما جعلهما يعودا بسرعة وتحدثت "شهد" بأنفاس لاهثة، وخوف أتى بسبب ما سمعته:
"عيسى" في محل بيتحرق عند مدخل القرية،
بيقولوا "طاهر" جواه.
لم ينتظر لتكمل أي حرف آخر بل سار مسرعا، المدخل ليس بعيد عن هنا، وسيارته ليست معه لذا هرول بأكبر سرعة ممكنة لديه، بينما هن حاولن اللحاق به و"شهد" تقول لشقيقتيها بأعصاب تالفة:
أنا هروح.
لم يستغرق الأمر كثيرا، فعلى عكس المعتاد منذ طلب والده من أهل القرية عدم التجول ليلا، المعظم في الخارج الآن... تحرك أحدهم ناحيته مستغيثا:
بيقولوا يا أستاذ "عيسى"، المحل اللي على أول البلد جنب ورشة " عز" النار مسكت فيه وابن الست صاحبة المحل كان فيه، والأستاذ "طاهر" طلع ومنزلش تاني.
أسرع في خطواته ناحية المكان المنشود حتى وصل، لم يستغرق الكثير... محل إصلاح السيارات التابع ل "عز" ها هو ولكن ما من حريق في المحل المجاور له... فقط تجمع عدد ليس بالقليل، استدار "عيسى" للذي أخبره فرفع كفيه ببراءة:
والله أنا سمعت من الناس وكنت جاي أشوف.
طالعت "ملك" شقيقتيها فبررت "شهد" هي الاخرى:
أنا برضو سمعتهم.
أخرج "عيسى" هاتفه وسريعا ما أجرى اتصال ب "طاهر" الذي أجاب بعد دقائق:
ايه يا "عيسى" في حاجة؟
سأله محاولا إيجاد تفسير لما يحدث:
أنت فين؟
_ في البيت يا بني، ما انت قولت هتخرج نص ساعة وترجع.
سمع "طاهر" صوت "شهد" التي هرولت ناحية "عيسى" تسأل باهتمام:
هو كويس؟
لذا سأل بقلق:
هو في ايه يا "عيسى"، و" شهد" جنبك بتعمل ايه؟
ضحك "عيسى" وهو يرى هذا التجمع المتواجد حوله وأخبر شقيقه ساخرا:
لا هو أنا أهل البلد كلهم جنبي...
اقفل اقفل لما اجيلك.
أغلق الهاتف ثم استدار للواقفين سائلا:
أنا عايز أعرف مين اللي قال إن المحل ده بيتحرق، وإن "طاهر" جواه؟
اقترب "عز" الذي قال بانزعاج:
أنا معرفش والله يا أستاذ "عيسى" مين اللي طلع الكلام الفاضي ده، أنا سمعت الدوشة دي وقولت ليكون بيحصل حاجة تحت ولا حاجة فنزلت تاني بعد ما كنت قفلت الورشة وطلعت.
قال أحدهم:
أنا كمان معرفش، أنا سمعت قبل ما اقفل القهوة فجبت الرجالة اللي على القهوة كلهم وجينا، الواد "عوني" اللي قالنا.
نطق "عوني" مدافعا:
لا إله إلا الله ياعم أنت هتوديني في مصيبة ولا إيه، أنا معرفش حاجة أنا سمعت واحد بيقول لست كبيرة في الشارع فطلعت أقولهم على القهوة علشان نلحقه.
صرفهم "عيسى" بقوله:
طب خلاص يا رجالة كل واحد على بيته، واللي يعرف مين اللي قال الكلام ده في البلد يجي الصبح لحد بيت الحاج "نصران" يقول.
_ هو حد بقى عارف حاجة في البلد دي، حد طايح فيها وداير يكسر ويخرب، وكبيرنا نفسه مش لاقيه ودلوقتي اهو داير يطلع اشاعات في البلد ويلففنا وراه.
استدار "عيسى" لصاحب الحديث واستطاع بسهولة تحديد هويته، إنه ذلك الرجل صاحب الذي استوقفه حين تدمر دكانه يرفع شكواه، فقامت زوجته بالشكوى أيضا بسبب أفعاله القاسية معها.
سأل "عيسى"... " عز" الواقف جواره بنبرة سمعها كل الموجودين:
هو أنت سمعت حاجة يا "عز" ولا أنا بس اللي سمعت؟
لم يتحدث "عز"، أما " ملك" فأكبر ما خشته هو أن تصيبه الحالة الآن، أمام العامة فحاولت جاهدة منع ذلك وهي تترك شقيقتيها وتتجه ناحيته وهي تسمعه يقول:
كبيرك ده تتكلم عليه باحترام، وإلا تطرد منها وميبقاش ليك مكان فيها... ودكانك اللي اتكسر مراتك وبنتك خدوا قد حق الحاجات البايظة فيه مرتين وده حقهم هما مش حقك، ما هو اللي يروح يبعتر فلوسه يمين وشمال على مزاجه، وشاطر بس يحرم أهل بيته ميبقاش راجل.
تبع ذلك بسؤاله العالي:
في حد هنا يا رجالة باظله حاجة غير الراجل ده؟
لم يجب أحد فسأل مجددا:
حد كان عنده شكوى وليه حق وراح للحاج "نصران" ومخدهوش؟
أجاب الجميع بالنفي، وأتت "ملك" في هذه اللحظة ولكنه تحرك مبتعدا ناحية الرجل وهو يقول مهددا:
بوقك ده قبل ما يتفتح، تفكر كويس في اللي هتقوله...
علشان اللي ميحترمش كبيره يستاهل قطع لسانه،
وأنا اللي هقطعه.
سأله مبتسما:
سمعت؟
هز الرجل رأسه بقلق من نظرات هذا الواقف أمامه فأكمل "عيسى":
السماع سهل، المهم الفهم... اللي بيفهم بيريح واللي مبيفهمش... نعمل ايه فيه يا "عز"؟
_ نفهمه طبعا يا أستاذ " عيسى".
قالها "عز"، وألقى " عيسى" نظرة أخيرة على الرجل ثم استدار يبحث بعينيه عن "ملك" حتى وجدها فحثها هي وشقيقتيها على السير قائلا:
يلا.
انصرفا معه بينما نطقت إحدى السيدات للمجاورة لها:
هما مين الأبلوات اللي ماشين معاه دول.
أجابتها السيدة وهي تستعد لدخول المنزل:
دول مراته واخواتها باين، البت "تيسير" كانت بتخيط عندي هدوم من يجي أسبوع وقالتلي إنه كاتب كتابه على "ملك" بنت الست "هادية" اللي جم القرية جديد.
_ طب وهو...
قبل أن تكمل السيدة حديثها حثتها الواقفة أمامها على المغادرة بضجر:
يلا يا ختي على بيتك، أنتِ هتتسايري، مش كفاية صحتوني من أحلى نومة وملقتوش غير بيتي ومحل الخياطة بتوعي اللي تقولوا إنهم بيولعوا، خلتوني قطعت الخلف.
قالت كلماتها وهي تغلق الباب بانزعاج وتبع قولها قول "عز" الذي حث الجميع على العودة إلى منازلهم.
★***★***★***★***★***★***★***★
وصلن إلى المنزل، وقد أجرت "مريم" اتصال بوالدتها تطمئنها.... هن الآن في غرفة "ملك" و "شهد"... حيث جلست " ملك" على الفراش المجاور للشرفة وجاورتها "مريم" التي تدثرت بالغطاء وعلى المقعد أمامهما "هادية" التي سألت:
ومين اللي طلع الكلام ده؟
وضعت "شهد" الملابس في الخزانة وهي تقول لوالدتها:
منعرفش، أنا ومريم زي ما قولتلك لقينا "عيسى" مع "ملك" فقولنا نرجع احنا، وهو يبقى يجبها... سمعنا الكلام ده روحت راجعة تاني جري أقوله علشان يلحق يتصرف.
_ وكان شكلك وحش، لما طلع كلام فاضي.
قالتها "مريم" وهي تضع الكوب الساخن على الحامل أمامها فطالعتها "شهد" بتوعد في حين سألت "هادية":
هو أنتِ لقيتي " عيسى" هناك؟
هزت "ملك" رأسها نافية وهي تخبرها:
لا هو جه بعدي.
قصت "مريم" على والدتها بحماس:
حتى كان في واحد كده يا ماما قعد يقول هو حد بقى عارف حاجة في البلد دي، والبلد بتتخرب ومش عارفة ايه...بس "عيسى" خلاه في نص هدومه اداله كلمتين في عضمه بصراحة.
_ ولا أنتِ إيه رأيك يا "ملك"؟
قالتها " شهد" بضحكة ماكرة فسألتها "ملك":
رأيي في إيه بالظبط؟
هرولت " شهد" تجلس على المقعد المجاور لوالدتها وهي تسأل:
في "عيسى".
احمرت وجنتاها وهرب الحديث، ولكنها نطقت أخيرا بارتباك:
ماله " عيسى" ؟
غمزت لها "شهد" فشكت "ملك" لوالدتها بغيظ:
سكتي المجنونة دي، أنا مش فايقة ليها.
بادرت "مريم" بالسؤال باستغراب:
هو ليه مضروب في وشه، أنا لما شوفته افتكرته كان بيتخانق.
قول هذا يشكل صعوبة كبيرة عليها، هي تؤجله لأنه يسبب لها حالة من الذعر ممزوجة بكل شعور سيء ولكنها في النهاية مجبرة على القول... ابتلعت ريقها قبل أن تخبرهم:
"شاكر" في بيتهم.
شعرت "هادية" بتسارع دقاتها ونطقت "شهد" بغير تصديق:
في بيتهم ازاي يعني؟... أكيد كلام فاضي.
هزت "ملك" رأسها نافية تخبرهم بتأكيد:
في بيتهم وأنا شوفته، و "عيسى" كان هناك وضربه.
طالعتها والدتها بخوف، بالتأكيد وصل ل "شاكر" خبر زواجها، الشيء الوحيد الذي يجعله يأتي هكذا ولا يأبه شيء هو خبر كهذا... تتذكر جيدا علامات جنونه المرضي بابنتها، تتذكرها وكأنها تراها الآن
حيث ابنتها ما زالت في سن المراهقة تعود لها باكية وهي تخبرها:
أنا زهقت من "شاكر"، بيجي ورايا في كل حتة، وصحابي بقوا يتريقوا عليا...أنا بتخنق منه وبخاف لما يكون موجود.
دخل من البوابة للتو فتركتها " هادية" واتجهت له تسأله بغضب:
مالك ومالها يا "شاكر"؟
سألها بتبجح ولم يبال بغضبها:
وأنا كنت عملتلها ايه؟
_ ماشي وراها في كل حتة ليه... حد قالك إن مشيها بطال ولا حاجة وعايز تتأكد؟
سألته بضجر في حين أجاب هو ببرود:
الحرص واجب يا مرات عمي،
دي بنت عمي ومستقبلا مراتي إن شاء الله.
ازداد نحيب ابنتها ودخلت إلى الغرفة صافعه الباب بعنف فظهرت نبرته العالية:
بنتك مش عاجبها الكلام... ناداها بغضب:
هيعجبك غصب عنك يا " ملك" .
خرجت والدته على صوته تسأل بانزعاج:
مالك يا حبة عين أمك، مين اللي معكر مزاجك ومخلي صوتك عالي.
قالت هذا عن عمد كي تثير استفزاز الواقفة أمامها ولكن "هادية" حدثهما بشراسة:
اسمعي يا "كوثر" أنتِ وابنك، أقسم بالله يا "شاكر" لو البت جت اشتكت منك تاني ولا قالتلي إنك ماشي وراها في الشارع هخليها تقلع اللي في رجلها وتديك بيه في وسط الخلق كلهم... طالما الأدب مش نافع معاك ولا أمك فلحت في تربيتك.
تحركت وتركتهم إلى ابنتها الباكية في الغرفة فعلا صوت "كوثر" بغضب:
مين ده اللي مفلحتش في تربيته، متكادة علشان معرفتيش تجيبي ضفره حتى... بنتك دي أنا هقعدهالك جنبك وهو هيتجوز ست ستها.
بصقت "هادية" وهي تخبرها بما أثار غيظها:
يا شيخة ده لو الخلفة كلها زي خلفتك دي كده الواحد يحمد ربنا ليل نهار على النعمة اللي هو فيها... اتفو على ده خلف.
أغلقت "هادية" الباب خلفها بعنف في حين بقت "كوثر" تصيح في الخارج:
أنا هوريكي يا "هادية"... اسمع يا واد أنت جواز من البت بنتها دي مش هيحصل.
عارضها ابنه وقد احتدت نبرته:
ده على جثتي، أنا مستني عليها تخلص بس علشان ميبقاش ليها حجة... لكن تقوليلي جواز منها مش هيحصل انسي إني سمعت حاجة منك.
عادت " هادية" إلى الواقع تسمع ما تقصه ابنتها.. تسمع ما حدث هناك بقلب وجل من القادم... قلب خائف وبشدة.
★***★***★***★***★***★***★***★
بمجرد عودته، وجد المائدة وقد اجتمع عليها الجميع تحرك "عيسى" بهدوء ناحية مقعده على الرغم من عدم رغبته، ولكن والده يجلس... سأله "طاهر" باهتمام:
ايه اللي حصل يا "عيسى"؟
_ بعد الأكل هنقعد أنا وأنت والحاج وهقولكم.
لم يوجه له " نصران" حديث بل طالع "رفيدة" سائلا:
أنتِ هتروحي الكلية الأسبوع ده يا "رفيدة"؟
هزت رأسها بالإيجاب سريعا وهي تطلب بدلال:
بابا حبيبي... ممكن تسامح " حسن" وتخليه هو يوديني؟
طالعه "حسن" بأمل ولكن هوى أمله أرضا حين سمع نبرة والده الحازمة:
"طاهر" أو "عيسى" واحد منهم هيوديكي.
ربت "طاهر" خلسة على كف شقيقه بينما سأل الصغير:
جدو هو أنت زعلان من "حسن"؟
_ أنا هزعل منك أنت لو مخلصتش طبقك ده.
قالها له " نصران" بابتسامة واسعة جعلته يتابع التهام الطعام بحماس، في حين قربت "سهام" طبق الحساء من "نصران" متحدثة باهتمام:
الشوربة اهي أنا اللي عملتهالك مش "تيسير".
أعطاها ابتسامة ممتنة فهمست له:
أنا مستنية تخلص أكل، وتحكيلي... ريح قلبي بقى.
كانت تقصد ذلك الموضوع الخاص ب " شاكر" ولكن قطع همها سؤال "حسن":
أنت مبتاكلش ليه يا " عيسى" ؟
سألته "سهام" وهي تشاور على الطبق أمامه:
أنا خليت "تيسير" عملت الفتة علشانك.
_ أمي الله يرحمها كانت أحسن واحدة تعملها، ومن يوم ما ماتت وأنا مبحطهاش في بوقي.
لم يتوقع أحد أن يقل ما قاله... ارتبكت "سهام"بينما دعا الجميع لها بالرحمة وأخذ هو زجاجة من مشروبه المفضل وقد وضعتها " تيسير" له على الطاولة، فتحتها وهو مدرك أنه الآن تحت أنظار والده وصدق ظنه حين سمع صوته:
في أصناف تانية على الترابيزة بتتاكل، بدل البتاع اللي بتشربه ده.
قال وهو يطالع والده يخبره بصدق:
أنا مش جعان، قعدت بس علشانك.
طالعته "سهام" بألم غزاها، هل هذا "فريد"، ذلك المتودد الذي كان يقبل كفها كل صباح متغزلا فيها، لا يترك ثانية إلا ويشعرها أنها والدته الحقيقية... لا يتناول طعامه إلا في وجودها ولا يقص أسراره إلا عليها... كلما طالعت الجالس أمامها شعرت بالقهرة تمزقها.. كان هنا ذات يوم على نفس الطاولة شخص آخر يشبهه تماما ولكن الفرق الوحيد أنه كان يحبها.... يحبها بصدق أما ذلك الجالس أمامها فيمقتها بشدة.
★***★***★***★***★***★***★***★
جلست " ندى" مع ابنة عمها في غرفتها وقد نزل زوجها للأسفل فقالت "بيريهان" بغيظ:
حظك، مش هنزل القاهرة دلوقتي هستنى أسبوع كمان، "شاكر" كان متفق معايا هينزل اسكندرية النهاردة ونتقابل بس طلب مني النهاردة نأجلها أسبوع علشان تعبان.
لم تكن معها بل كانت تقلب في الهاتف ثم تركته وسألت "بيريهان":
بقولك ايه يا " بيري"، هو "عيسى" ليه مبقاش active على الأكونت بتاعه، بقاله فترة طويلة منزلش حاجة.
طالعتها ابنة عمها بغير تصديق وهي تسأل باستنكار:
أنتِ بجد، اللي بتعمليه ده بجد يعني... احنا اخر مرة جوزك اتكلم معانا فيها أنا كنت هموت من الرعب واضطريت أكذب علشانك... ايه يا "ندى" الهبل اللي أنتِ بتعمليه ده.
_ أنتِ كبرتي الموضوع ليه أنا بسأل عادي.
قالت ذلك فحاولت "بيريهان" إخفاض نبرتها المنفعلة وهي تقول:
علشان أنتِ مش بتبطلي تفكير فيه... فين كرامتك اللي خلتك جريتي تتجوزي أول ما سابك؟... أنتِ كده بتحطينا كلنا في موقف زفت.
أغمضت "ندى" عينيها بأسى وهي تقول بحزن شديد:
غلطة عمري إني اتجوزت.
نزلت دموعها وهي تتذكر ما حدث وكأنه الآن... يوم شجارهم العنيف بسبب "باسم" حيث وجدها جالسة معه في أحد المقاهي الشبابية، نشب شجار عنيف بينه وبين "باسم"، وذهبت هي إلى " عيسى" ولكنه رفض اللقاء بعد ذلك وافق ليتم اللقاء هذه المرة أمام والدها و "عيسى" يخبره:
واحد كان بيحبها وباين عليه في كل تصرفاته، حتى لو صديق للعيلة أنا نبهتها أكتر من مرة تقلل تعاملها معاه... لكن ما القيهاش خارجة معاه وقاعدين كمان بيتكلموا وبسألها أنتِ فين في التليفون تقولي إنها مع "بيريهان".
دافعت أمام والدها بغضب:
أنا عربيتي عطلت وهو كان هنا وعرض يوصلني، مرضتش أقولك علشان مضايقكش... طلب مني نشرب حاجة في الكافيه وكنت فعلا بعدها هقابل " بيريهان".
_ أنا مش شايف حاجة تستدعي كل ده يا "عيسى"... باسم محترم وبيعتبرها أخته دي أفكار غلط عندك، وهي اتحرجت تقوله لا مش أكتر.
أيدت حديث والدها بقولها الغاضب:
ده غير إنه ضربه واتخانقوا، وخلى شكلي زي الزفت ودي تاني مرة تعملها يا " عيسى" مش أول مرة، وجتلك لحد عندك أشرحلك الوضع طردتني وعاملتني بأسلوب وحش... الشخص اللي أنا شوفته يوم ما جيتلك ده لازم يقرف يبص لنفسه في المراية، واحد بيفسر كل حاجة على مزاجه، ومش مهم مبررات أي حد... أنا حياتي كده ومش هغيرها يا "عيسى".
لم ينتظر كلمة آخرى بل خلع الخاتم من كفه الأيمن، وألقاه على الأرضية ناهيا ما يحدث:
خلصت كده.
أدركت حجم ما قالته وهي تسمع صوت ارتطام الخاتم بالأرضية فهرولت ناحيته تسأله بعينيها ولكنه أجابها بما قتلها:
وأنا " عيسى نصران" مبتغيرش علشان حد.
حاول والدها منعه ولكنه خرج ولم يعطهما فرصة لقول أي شيء آخر، خرج وقرر عدم العودة إلى الأبد.
★***★***★***★***★***★***★***★
حل الصباح، ولكن النوم جافهن ليلة أمس، أخذت "هادية" ابنتها الصغرى وذهبا إلى غرفتهما بينما بقت "شهد" مع "ملك"... احتضنا بعضهما فرفعت " شهد" رأسها لشقيقتها تسألها وتريد الاطمئنان:
كل حاجة هتبقى كويسة يا "ملك" صح؟
ما زالت كما هي، طفلة تحتاج لمن يطمئنها حتى لو كان كاذب، مسحت "ملك" على خصلاتها مؤكدة على ذلك حتى داهمهما النوم معا، لم تستيقظ "شهد" إلا العاشرة صباحا... شعرت باهتزاز هاتفها فجذبته لتجد رسالة صوتية على تطبيق المحادثات الشهير _واتساب_ ، سمعت صوت الصغير:
"شهد" أنا "يزيد".
تبع رسالته الصوتية بآخري أسرعت في فتحها:
أنا زعلان أوي، بابا زعلان مني علشان مش بعمل كل الواجب... هو صعب أوي وتيتا بتقعد شوية وتقوم بعد كده وبنساه.
ابتسمت على مشاكل هذا الصغير، تمنت لو عاد الزمان بها ليصبح أكبر ما يواجهها عقاب من والدتها بسبب تقصير في واجب مدرسي.
شعرت بحاجة الصغير في العون فأرسلت له رسالة صوتية أيضا وقد ظهر أثر النوم على صوتها:
تعالى المحل، وأنا هعمله معاك... وكل يوم نعمله سوا.
بمجرد أن انتهت استيقظت شقيقتها على صوتها تهتف بانزعاج:
هتكلمي حد قومي اخرجي برا، أنا مبعرفش أنام في الصوت.
تركت " شهد" الفراش مرددة بتذمر:
أنا راحة الكلية، نامي يا ختي واتغطي.
ألقت "شهد" الغطاء عليها بغيظ وهي تتجه إلى الخارج.... بينما في نفس التوقيت وفي منزل "نصران" ما إن نام "عيسى" حتى أتاه اتصال خالته التي أخبرته باختصار:
أنا جيالك.
شعر بالريبة لذا قام مسرعا وارتدى ملابسه ونزل ليكون في انتظارها... كان الجميع نيام لم يستيقظ أحد سواه... أقل من نصف ساعة ووجدها أمامه، أصابه الذهول وهو يرى عينيها الباكيتين فأخذ حقيبتها عنها، وقادها إلى غرفته وهنا استطاع أن يقترب منها يسألها باهتمام:
مالك يا "ميرڤت"؟
ربت على كفها فتأوهت فانكمش حاجبيه وقد بدأ يدرك ما يحدث:
في ايه؟
_ اتخانقت مع " كارم" وجيت اقعد معاك كام يوم.
قالتها بدموع فسألها وقد ثارت ثورته:
هو ضاربك؟
هزت رأسها نافية فأعاد بإصرار:
ميرڤت متكدبيش... مد ايده عليكِ؟
قالت محاولة تهدئته:
خناقة عادية يا "عيسى".
مسك كفها وطالعها طالبا الإجابة الصادقة:
ضربك؟
لم تستطع الكذب فهزت رأسها بدموع، ما جعله يصيح غاضبا:
وحياة أمه لهوريه يمد ايده عليكِ ازاي، قومي احنا هننزل القاهرة انا هجبلك حقك وأطلقك منه.
تركت ذراعه متراجعة وقد ضربه قولها في مقتل:
لا يا " عيسى" أنا مش عايزة طلاق، أنا بحب "كارم"
هربت بعينيها منه وهي تتابع:
هو يوم ولا اتنين وهيعرف غلطته.
حطمته بقولها مما جعله يسألها بعينين برزا فيهما ألمه منها وهو يرفع رأسها لتطالعه:
هو أنتِ ليه علطول كده؟
تابع بطفولة تصرخ مستغيثة داخله:
ليه علطول تخيبي أملي، وتكسريني... ليه مش عايزة تصدقي مرة واحده بس إنه وحش
قاطعته تمسح على وجهه بكفيها تحاول الدفاع:
"عيسى" يا حبيبي أنت فاهم "كارم" غلط.
أنزل كفيها وهو يطالعها بحسرة دعمتها قوله:
الحاجة الوحيدة اللي فاهمها إنك عمرك ما نصفتيني ونصفتي نفسك... علطول مخلياني خسران قدامه يا خالتي.
قال كلمته الأخيرة بسخرية ثم غادر الغرفة دون السماع لندائها المتكرر.
★***★***★***★***★***★***★***★
انتهت "شهد" من ارتداء ملابسها وقالت منبهة لشقيقتها:
"ملك" أنا نازلة الكلية، ماما نزلت السوق تشتري حاجات و"مريم" في الدرس... خدي بالك بقى ومتعمليش نفسك نايمة علشان انتي مقفوشة.
رفعت "ملك" الوسادة عن وجهها تسألها بضجر:
وهو فيه حد بيعرف ينام طالما أنتِ صحيتي؟
اقتربت "شهد" تطلب منها:
بقولك ايه معاكي فلوس؟... أنا مش عايزة أقول لماما أنتِ شايفة المصاريف، فلو معاكي هاتي ولما اخد المصروف هديكي فلوسك.
جذبت "ملك" حقيبتها تخرج منها النقود، وضعتهم في كف شقيقتها قائلة:
دول اللي معايا، وأنتِ بقالك شهرين تقلبيني.
_ عايريني بقى عايري، وأنا لسه مصرفتش جنيه منهم حتى .
ضحكت "ملك" على قولها وهي تخبرها أثناء جذبها لهاتفها بعد أن سمعت صوته:
لا مش هعايرك بس ابقى اشتريلي تفاح بالعسل وأنتِ راجعة.
أجابت على الهاتف وتركت شقيقتها تربط حذائها، أثار استغرابها هوية المتصل، الوقت ما زال مبكر لماذا تهاتفها خالة "عيسى" الآن؟
أجابت ولكنها لم تسمع سوى صوتها المنهار وهي تطلب برجاء:
"ملك" أرجوكي اتصلي ب "عيسى"، شوفيه فين وخليكي معاه... لو تعرفي تروحيله، روحيله علشان خاطري
علمت أن الأمر سيء، انهيارها لا يدل على شيء سوى ذلك فأغلقت معها وهاتفته مرة، الثانية ولا إجابة... في نهاية الثالثة أعطاها الإجابة حيث سمعت صوته يسأل:
أيوه يا " ملك"؟
_ هو أنت فين يا "عيسى"... محتاجة أشوفك ضروري.
قالت ذلك وهي تعلم أنه لن يمر عليه فأجابها:
طب مش دلوقتي.
ألحت في طلبها:
معلش لازم أشوفك... أنت فين؟
أجابها في النهاية بضيق:
على البحر عند بيت الصياد.
قامت مسرعة ارتدت ملابس شتوية ثقيلة بسبب الطقس البارد هذه الأيام وأسرعت نحو الخارج وقد وضعت المفتاح لوالدتها بالبوابة وقررت أن تتصل بها في الطريق، وصلت عنده بعد مسافة ليست بالقصيرة، كانت تلتقط أنفاسها بصعوبة ولكنها وجدته يجلس أمام المياه متأملا، لم يترك مكانه فقط سألها:
عايزة ايه؟
_ أنا لازم أروح الكلية النهاردة، في حاجات مهمة محتاجة حد يساعدني فيها علشان ابدأ تحضير، وفي دكتورة كانت عارفاني اتصلت بيها وقالتلي ممكن أروحلها دلوقتي وهي هتقولي الدنيا....
قاطع ثرثرتها بقوله:
خلاص يا " ملك" هوديكي.
ترك مكانه أمام المياه واستقام واقفا فتحركت ناحيته، بادرت للمرة الأولى بالقبض على كفيه، مبادرة جعلته يطالعها باستغراب وهي تسأله برفق:
أنت كويس؟
تركت كفيه بحرج إثر نظراته وتابعت سؤالها:
أنا حاسة إنك مش كويس، في حاجة مزعلاك؟...
مش عارفة أقول إيه بس لو في حاجة مزعلاك فعلا ارميها في الماية.
حدثته ببراءة، لم تكن تدري حقا ماذا تقول فحاولت استجماع الكلمات مردفة وهي تربت على كفه:
كويس دلوقتي صح؟
انتظرت جواب ولكن طال انتظارها حتى شعرت به يلثم وجنتها، البرودة تغزو كل جسدها، وقلبها يوشك على التوقف يحاول ردعه قائلا:
فلا حياة لنا وأنت ساكنُنا
ابتعد وعيناه لا تفارقها وهو يقول بابتسامته:
شكرا على محاولتك ...أنا بقيت كويس دلوقتي يا "ملك"
هنا تحدثت عيناها قبل قلبها مستغيثة:
ولا حياة نلقاها لا تكن فيها.